أقلام ثقافية

جمال العتّابي: موفق محمد.. كان يكفيك بعض الوقت لتسخر من العالم المزيف!

لم يجرّب موفق محمد العمل في الصحافة بعد، ولم يكن إسماً معروفاً من بين الشعراء، الصدفة وحدها قادته للعمل في إحدى المجلات المهنية، هناك التقينا لأول مرة نهاية ستينات القرن الماضي، كانت البديات الأولى لنا في خوض غمار العمل الصحفي، كان (موفق) ما يزال طالباً في المرحلة الأخيرة من دراسته الجامعية في كلية الشريعة، عهد إليه زميله في الدراسة وصديقه رئيس تحرير المجلة (سامي الموصلي) الإشراف على الصفحات الثقافية في المجلة.

كنا في اندفاع الشباب الحالمين نخطو الخطوات الأولى في تعلّم فنون الصحافة. أول الحالمين (رضا الأعرجي)، الشاب القادم من النجف، يحمل بين جوانحه مشروعه الثقافي مجلة (جيلي)، كانت أولى الأحلام التي تلاشت، بعد عدد يتيم واحد صدر عنها، لم تسعفه جهوده الشخصية، في المواصلة ولا حماسه، ولا سهر الليالي، في إعداد وجمع موضوعاتها ومتابعة طبعها، اكتفى الأعرجي (راضياً) بإرث المجلة الوحيد: انه (رضا جيلي)، كما عنّت لموفق محمد خيالاته في اختيار الأسماء.

الضلع الأخير للمربع صديقنا رسام الكاريكاتير (الجيولوجي) قيس الحديثي. الساخط على العالم، سحنته (محروگة) بالسمرة، وزنه لم يتعد الخمسين كيلو غراماً في أحسن حالاته، ثمة أشياء كانت تجمعنا ملائمة تماماً لروح تلك الحقبة وجيلها الذي أدرك الهوّة الكبيرة التي تفصل بعقليتها عن عقلية الأجيال السابقة، وما كان لهذه المجموعة ومنها موفق محمد أن تجد نفسها بعيداً عن تلك الأفكار، فبدأ (فايق) - هكذا كنا نناديه - مغامرته الأولى في قصيدة (الكوميديا العراقية).

في تلك السنوات الضاجّة بالعنفوان، اعتدنا أن نجوب الشوارع والمقاهي، نجتاز دروب الليل يحدو بنا صانع المشاعر والخيالات رضا الأعرجي، ومبتكر الفرح موفق محمد في أشد حالات الضيق واليأس، والحديثي في قنوطه الدائم. ننشد الأغاني التي أشكّ أن تمحوها السنوات، مازالت محفورة في جذوع أشجار اليوكالبتوس العالية التي تظلل شوارع الوزيرية، مرسومة في أغصانها وأوراقها، أو معلقة على جدران دروب الحيدرخانة، وأزقتها الرطبة، ومقاهيها العبقة، تروي قصة شاعر من طراز خاص هو موفق أبو خمرة. الهجّاء، الساخر، العاصف المدوّي، عاش حياته مندمجاً بالأصدقاء، صانعاً ماهراً للعلاقات والجلسات، والحكايات، كان يكفيه بعض الوقت ليسخر أكثر من العالم المزيف، وأزلامه الفاسدين المزيفين.

نام الحرف يا موفق،

وغابت ضحكتك التي تخفي خلفها جروح الوطن، صمتك الآن أعلى من قصائدك، وأوجع من ضحكاتك المرّة، أكثر من نصف قرن من الرفقة، زمن تقاسمنا فيه وجعه، وعبثه.

نم يا صديقي، فقد تعبت من حمل البلاد، ونسج الأمل من خيوط الرماد.

سلام عليك في الغياب، أيها الراحل الذي لا يشبه الغياب،

كما كنت سلامًا على القصيدة

أيها المقيم في خرائط الألم العراقي،

كنتَ تُقارع اليأس بسخرية، من طرازٍ لا يُجيده سواك،

يا شريكي في الحلم والخذلان،

يا رفيق المقاهي، والمنفى، والورق الأصفر…

أخبرني، من سيسخر الآن من الطغيان، كما كنت تسخر؟ أيها الشجاع الجريء.

من سيحوّل الخراب إلى نكتة، والنكتة إلى لطمٍ شعري؟

من سيجرؤ بعدك على أن يكون شاهدًا ومتهكمًا ونازفًا في آنٍ معًا.

***

جمال العتّابي

في المثقف اليوم