أقلام ثقافية

عبد الهادي عبد المطلب: حين يصبح للحيطان ألسن

في حي هامشي، منسي يقطنه أناسٌ رُحِّلوا إليه من دور الصفيح التي تكاثرت كالفطر على جنبات السكة الحديدية. هناك في هذا الحي، أثار انتباهي باللون الأسود الغليظ، على جدارٍ متّسخ خربشات ورسوم وكلمات بعضها يحمل من التعابير ما نعفو عن قوله جهاراً، وبعضها الآخر أمنيات لم تتحقّق أو تستعصي على ذلك، فظلّ خطوطا على صفحة الحائط، وأخرى حلمٌ يسبح بصاحبه خلف الحدود: «الغربة حلم».

هذا الفضاء البئيس الذي يختزن الألم والغضب، الحب والكره، المغامرة والتقاعس، يتسكّع فيه شباب نصفهم مخمور ونصفهم الآخر يدور حول نفسه من دون هدف، ناقم على وضعه، يملأُ المقاهي صخبا وحشيشا وصراعا حول كل شيء ولا شيء، تدور بينهم، وبلغة خاصة بهم، يفهمونها هم فقط، كلمات أخذت من وقتهم وسنوات عمرهم، وطاقاتهم وعقولهم الكثير، يمررونها بينهم في حالات خاصة، بينما كلمات أخرى كالهجرة والغربة والبحر والمال وقوارب الموت، وسؤال حياة الترف والغنى تدور بينهم سرا.

للحيطان ألسنً تجيد الكلام، تحمل هموم النّاس المهمومين والمهمّشين، وصراخ من لا يستطيع الصّراخ، وكِتابٌ يحمل شكواهم واحتجاجاتهم المكتومة، كما يحمل خربشاتهم وعبثهم، هي لسانهم يفضح ما هم فيه من ظلم وقهر وإقصاء، رغم هجمة الحيطان الإلكترونية وشساعتها وسرعة وسهولة انتشار محمولها.

للحيطان السنٌ تخاطب العين مباشرة بحكايات كُتبت بالحزن السّاكن عميق القلوب، ونُسجت بخيوطٍ من ألم صامت ينخر ما تبقى من إنسانية الإنسان المقهور، برودة الحيطان تصرخ من الوجع، تُشعل جمر الواقع والغد، الحال والمآل، تحكي من دون أن تُسْأل، ينهار كل شيء من حولها، ويبقى الأمل كلاماً بصيصا من نور، يرفض أن ينطفئ.

قد تكون «الحيطان دفاتر المجانين»، لكنها في نفس الآن، سجلاّت الباحثين عن أقدار غير التي يعيشونها ويحيونها، قد يضيعون في زحمة الحياة بلا أمل، لكن الأثر يبقى، ضدّاً على واقعٍ مُظلم، ظالم مستبد، قاهر متنكّر، أو أمنيات كفقاعات تستعصي على القبض والتّحقّق. يذهب الحالمون والمهمشون، ويبقى الكلام علامة على جدار بارد في زقاق منسي، شاهدا على زمان لم يَرْقَ إلى أحلامهم وأمنياتهم، منهم من حقَّق حلمه ومنهم من ينتظر، ومنهم كثير ضربوا رؤوسهم على نفس الحائط الذي يحمل أحلامهم العصية، ومنهم من ركب الموج أو سقطَ منْ شاهق، أو سكن زنزانة باردة في سجن ، أو غرفة منسية في مشفى للأمراض العقلية يموت ببطء، ومنهم من لا يزال يكتب على الحائط كلاما يحمل كل السّخط الذي يأكله.

«الغربة حلم»، كتبها بأيدٍ واثقةٍ حالمون، وتسمَّر حولها يائسون يحلمون بالسفر والرحيل، على استعداد تام للتضحيّة بحياتهم لتحقيق حلم قد يتحقق وقد يذوب ويخيب في بداية المغامرة، حالمون لم يعد في وطنهم ما يشدّهم إليه، وما يبنون عليه آمالهم وأحلامهم وأمنياتهم، أصبح همّهم الأول والأخير، الهجرة والرحيل والغربة، بحثا عن حياة أفضل يشعرون فيها بكرامتهم وحقوقهم، متناسين أنهم في حلمهم هذا، يبحثون، عن وعي أو من دونه، عن ذلّ مؤبّد مغلّف بانْبِهارِهِمْ بما يجود به العالم الآخر من ديموقراطية ومساواة وعدل وحقوق، عالم يشكّلُ بديلا عن وطنهم الأم.

«الغربة حلم»، وقفتُ أمام هذه العبارة متسائلا، إلى أي حد تُصبح الغربة حلما؟ وهل فعلا، الغُربة حلم؟ وحين تُصبح الغربة بآلامها وصدماتها، وأزماتها وذُلّها حلما، وهي كذلك، فمعنى هذا، أن الإنسان في خضم عالم يعجز عن أن يُقدّم له أبسط الحقوق، عوض أن يطالب بها في وطنه، يضرب رأسه، في حلمه هذا، بالحائط الصلد، لا يهمه الموت الحتمي الذي يتربّص به في كل خطوة، بحرا على قواربه المهترئة التي تُصبح قشّة في عباب موجٍ لا يرحم، ورياح عاتية لا تُبقي ولا تذر، وقد دكّ في رزمة بلاستيكية سوداء ما استطاع من أغراض تبقيه على قيد الحياة والحلم، تحسّباً لفواجع هذا السفر الذي لا أملَ فيه واضح، ومن دون استعداد أو وداع، ليُصبح الحلم في بدايته كابوسا لمن تركهم خلفه يحلمون بالأورو والدولار يبنون قصوراً من وهمٍ حيارى ومهمومين.

«الهجرة يرافقها الحنين، الحنين الدّائم إلى يوتوبيا وطن، والهجرة تأتي بعنوان الهروب من غربة متحقّقة في الوطن بالنسبة للمهاجر، لكنها في الوقت نفسه هجرة من نوع آخر خارج الوطن»[1]، فحين يحلم اليائسُ بالهجرة والاغتراب، وحين يُخطّط لذلك بقلبه وجميع حوّاسه، بعيداً عن العقل والتّعقّل، تُصبح لديه واقعا يُعوّضه عمّا يعيشه في وطنه، متناسٍ أنّه قاصدٌ عالماً سيكون فيه مؤقّتا وطارئا ودخيلا، يُنظر إليه باحتقار وازدراء، وهو الذي «هاجر يحمل معه ما تبقّى منه من أمل»[2] في حياة كريمة، «وقد تجرّأ على تغيير الانتماء، ومن يُغيّر الانتماء يُغيّر أفق الهوية أو يخلعها»[3].

الغُربة، كلمة تحمل حلما يحملُ عري وهشاشة الوجود الإنساني بما أنها كلمة بطعم الذّل والموت الغائر في الحلم الممزوج بالوجع والألم واليأس، والحلم احتجاج وتمرّد على وضع وحياة لا تعتبر الحالم ولا تحفل بوجوده ولا بإنسانيته، ليُصبح براديغم جديد للتّحرّر، وصراع على شكل الحياة التي فُرضت عليه ولا تُشبع أحلامه العديدة والمتجدّدة. كما أنها «تمثل نزعة إنسانية إلى الحرية وتغيير الحال والبحث عن الذات في مكان آخر غير مكان الميلاد»[4] تتوفّر فيه ما لم يتوفّر في مكان الميلاد، اقتصاديا واجتماعيا وثقافياً وسياسياً، وهنا نطرح السؤال الذي يحجبه الحلم عن الحالم، هل فعلا الغربة حرية وتغيير الحال إلى حال أفضل وتحقيقٌ للأحلام؟

لن يستفيق الحالم من حلمه إلا حين تطأ أقدامه أرض ميعاده، إن نجا من قوارب الموت وملاحقة الأمن، فتختفي العاطفة والقلب الذي كان يخطّط بداية الحلم، فيحضر العقل الذي تنتابه لحظة الحقيقة الصّادمة، ويتحول الحلم إلى هزّة مؤلمة واختناق أليم، فتنهمر الأسئلة الحارقة، ويهجم الوهم والسراب، فتمّحي الهوية حين يبحث عن أخرى فلا يجدها، فتُصبح الغربة تفكيرا أو حلما، آخر، إلى هجرة رجوع يصعب تحقيقه، ليحاصره السؤال، هل يمكن أن تُصبح المنافي والمهاجر أوطاناً بديلة؟ وهل فعلا، كما يحلم المغترب، تتبدّى المنافي أرحم من بلاده التي لفظته، والتي «لم يعنيه من الوطن إلا أنه مكان مولده»[5]، والآخر مكان تحقيق حلمه؟ وهل تتبدّى البحار الملاذ الأخير والنّهائي للحالم الذي تحنّ إليه روحه المنهكة واليائسة وأحلامه التي تحطّمت على جدار الانتظار؟

واقع الحلم صدمة، بدءاً بالفكرة، «الغربة حلم»، ثم تتوالى الفواجع، اختناق في الشاحنات المتوجّهة إلى موانئ العبور، أو في حاويات السلع المغلقة، التيه والموت في المضايق الجبلية والصحاري والغابات، قوارب الموت المتهالكة، شواطئ تلفظ جثتا مشوّهة المعالم، كل هذا وغيره يطفو على السطح حين يغيب الحلم وينفجر الواقع المرّ، لتُصبح الفكرة حائطا تنكسر عنده الأحلام الوردية، ويبزغ السؤال، هل سيرى الحالم وطنه مرة أخرى حين فقد هويته، ومزّق جواز سفره وأحرق أوراقه الرسمية؟

هنا الصدمة القاصمة للظهر، حين يقف بين الغربتين، لا حلماً تحقّق ولا معين يعيده إلى وطنه بعد أن بنى، هو وأهله، للحلم سلّما يوصلهم إلى السعادة والغنى، ليتساقط وابل الأسئلة، قطران بلادي ولا عسل بلدان الناس؟ لماذا يخرج الإنسان من إنسانيته ويبحث عنها في بلاد الغير؟ لماذا هذا الحلم من أصله؟

لقد غاصت الفأس في الرأس، وقُضيَ الأمر، أين الحلم الذي أسال اللعاب، واتّسعت بذكره الأحلام؟ أين ما قيل وراج في الصحف والمجلات وتداوله الأصدقاء غبر الوات ساب والفيس بوك؟ أين الحقيقة في كلام الذين حققوا حلمهم وعادو بسياراتهم الفارهة وجيوبهم الممتلئة؟

بعض الحالمين أصبحت غربتهم قبورا، حين أفلتوا من أنياب البحر الهادر، ملفوظين غير مرغوب فيهم، مقزّمين حدّ الغياب واللامبالاة، سلعة تقاد بالأوامر والإملاءات والضّغوطات، ينتظرون معجزة تعيدهم إلى قطران أوطانهم التي تستر عريهم، أحلامهم تشي بمرارة العيش، يأكلهم التّفكير الذي يحفر اخاديد في نفوسهم البئيسة في خوض تجربة معروفة النهاية، رغم مرارتها، أخف ألماً مما يعانونه في بلدانهم، حسب ظنّهم، فأصبحوا ضحايا استفاقوا من الضربة القاضية دائخين، مستعدّين، كما يتوهّمون، للويلات تقاذفهم، فيبدون مقموعين عاجزين قلقين ومتوجّسين، يعيشون كل مظاهر العنف والإقصاء والنفي، مُهدّدين بمحو الهوية والخصوصية والجوهر والوجود نفسه.

«الغربة حلم»، حلم يُعاشُ في الوطن ألماً متواصلا، ويُصبح ألماً مُضاعفاً يصدم الحالم عند أول الخطو نحو المجهول في وطن الغربة.

***

عبد الهادي عبد المطلب – المغرب

الدار البيضاء في: 01 يونيو 2025

..........................

[1]ـ عبود المحمداوي ونهاوند علي محمد. الأبعاد الفلسفية للهجرة "دراسة في جدل الغربة والحنين والإبداع. مجلّة بحوث الشرق الأوسط عدد 67 شتنبر 2021.

[2] فتحي المسكيني. الهجرة إلى الإنسانية. مؤسسة هنداوي. 2024. (ص 207)

[3]ـ نفس المصدر. نفس الصفحة

[4]ـ محمد الشحري. الهجرة والغربة.. استعادة الأوطان بالحنين. جريدة عمان. 24 ماي 2023

[5]ـ محمد الشحري. الهجرة والغربة.. استعادة الأوطان بالحنين. جريدة عمان. 24 ماي 2023

 

في المثقف اليوم