أقلام ثقافية
نسرين إبراهيم: الطين السومري يحفظ اسرار رجاله

صاحب الظل الطويل والعيون السومرية.....
بظله المستقيم، وخطواته المحسوبة، وعينيه الجاحظتين اللتين تقدحان براكين من النار، وحاجبيه الغليظين اللذين يختزلان كل معنى للهيبة، كان ذلك الرجل يخيف من يراه، لا بطغيانه، بل بوقاره.
لطالما رأيته منضبطًا، صادقًا ووفيًّا لطبيعته، كأن الأرض نفسها تستقيم حين يمرّ. هيبته العسكرية كانت تسكنني، لا تفارقني، لكنها بدأت شيئًا فشيئًا تذوب...
لم يعد الظل مستقيمًا كما كان، بدأ بالانحناء ببطء، كما تنحني الشمس نحو المغيب.
تلك العيون الجادحة خفت بريقها، وصار النفس متقطّعًا، والخفقات غير متوازنة، والسعال لا يهدأ ليلًا، يُثقِل الليل بأنفاسه، ويُرهق الفجر بطول انتظاره.
تغيّر كل شيء...
الأشجار الخضراء اصفرّت حزنًا.....
والعصافير هجرت نوافذنا......
حتى الفاكهة، كأنها لم تعد تعرف مواسمها...... كل شيء بلغ غايته من الغثيان...
كل شيء ذوى، كأن المكان كله ينوح لفقد العيون السومرية… ولحزنها العميق..
... فجأة، وكعادته في كل شيء ، كأنه كان يُمهّد بصمته لرحيله.
انتهى كل شيء بهدوءٍ لا يُحتمل......
ثم دخل ذلك الصندوق…
الصندوق الذي بدا ضيّقًا على قلبه، واسعًا بما حمله من الذكريات والحنين.
حمل معه قلوبًا ظلت تنبض باسمه، وحمل عمرًا كاملًا لا يُمحى.......
عمرًا لا يمكن للصندوق أن يُغلق عليه مهما أُحكم الغطاء، ولا يمكن للرحيل أن يسرقه من الذاكرة......
رحل......
لكن ظلَّه ما زال يمرّ بين الغرف.......
رحل ......
وعيونه السومرية ما زالت تفتح أبواب المساء كلّما اشتدّ الحنين لتلك البيضاء الفراتية ......
رحل صاحب الظل الطويل...
لكنّ الفرات لم ينسَ ملامحه، ولا نسيت النخيلُ تلك الخطوات التي كانت توقظ الصباح، وكأن ظله تحول إلى حارسٍ خفيّ، يُطلّ مع كل فجر من بين ضباب الماء،
يُراقب النهر وهو يتهجّى أسماءه القديمة.
أما الفراتية البيضاء فكانت تقول إنّها تسمع خطواته كلّ مساء، حين تهبّ نسمة من الجنوب وتفتح الباب، كأنها تنتظر أن يدخل… كما كان يفعل، بخطواته المحسوبة، ونظراته التي تختصر العالم.......
لم يمت صاحب العيون السومرية، بل عاد إلى طين سومر الأوّل، إلى الهدوء الذي يسبق الخلق......
إلى الأرض التي تعرف كيف تحفظ أسرار رجالها.
***
د. نسرين ابراهيم الشمري