أقلام ثقافية

محمد سعد: في ليلة شتاء على بحر الشمال

حين تلتقي ثقافتان في حديث بلا رتوش

الليل كان طويلًا، والريح تصرخ في الشوارع الخالية، تدفع المطر بعنف كأنه سوط يجلد الأرض. السماء مكفهرة، والبحر يزمجر غاضبًا، كأنه يريد التهام اليابسة. في هذا المشهد الشتوي القارس، جلستُ مع إليزابيث في مقهى صغير يطل على بحر الشمال، حيث الدفء الوحيد كان في فنجان القهوة، وفي الحوار الذي لم يكن مجرد كلمات، بل رحلة بين الشرق والغرب، بين ثقافتين تفصلهما العادات، لكن تجمعهما الإنسانية.

كانت إليزابيث تكبرني بخمسة عشر عامًا، امرأة أوروبية في منتصف الستينيات، ما زالت تبحث عن الحب بطريقتها، وفق ثقافة ترى أن المشاعر لا يجب أن تُقيّد، وأن التجربة أهم من الالتزام. أما أنا، القادم من الشرق، فقد نشأت على فكرة أن الحب ليس تجربة قابلة للتبديل، بل التزام روحي، رحلة طويلة لا يبددها الزمن. اختلافاتنا كانت جذرية، لكنها جعلت الحوار أكثر صدقًا، لا جدالًا عقيمًا، بل نقاشًا منفتحًا، تحكمه الرغبة في الفهم لا في الانتصار.

الحب بين التجربة والالتزام

إليزابيث (تكتب على هاتفها، ثم تترك الترجمة الفورية تتحدث بالعربية): الحب في ثقافتي تجربة متجددة، يمكن أن نقع في الحب مرات عديدة، أن نعيد اكتشاف أنفسنا في كل مرة. أما أنتم، فتجعلونه قيدًا أبديًا، كأن من يحب مرة لا يستطيع أن يحب مجددًا. ألا ترى أن هذا قاسٍ؟

أنا (أكتب ردي في الهاتف، فتخرج الترجمة بالألمانية بصوت آلي): الحب عندنا ليس قيدًا، بل التزام. أن تختار شخصًا واحدًا رغم كل التغيرات، رغم الزمن، رغم المغريات، هذا هو جوهر الحرية الحقيقية. الحب ليس تجربة تتكرر، بل نهر واحد، إما أن تغرق فيه، أو أن تعبره إلى الضفة الأخرى.

إليزابيث (تنظر إليّ طويلًا، ثم تكتب ردها): لكن ماذا لو جف النهر؟ ماذا لو لم يعد الحب كافيًا؟

أنا (أبتسم وأكتب): الحب الحقيقي لا يجف، لأنه ليس مجرد شعور، بل التزام روحي. الشهوة تجف، الرغبة تذبل، لكن الحب الصادق يبقى حتى لو خمدت النيران الأولى. كما قال النبي يحيى المعمدان: "أنا صارخ في البرية، جئت لأرجعكم إلى شريعة موسى." فالدين، مثل الحب، ليس مجرد قوانين، بل ناموس يحفظنا من الضياع وسط الغرائز العابرة.

إليزابيث (تتنهد، تنظر من النافذة إلى البحر الهائج، ثم تكتب): ربما أنتم في الشرق تحبون بطريقة أصعب، لكنها تبدو أكثر صدقًا.

حين يكون الحوار جسرًا بين العقول والقلوب

كان هذا أجمل تسجيل طبيعي لحوار بين ثقافتين، بلا أي تكلف أو تصنع. لم يكن هناك منتصر أو مهزوم، فقط رجل وامرأة من عالمين مختلفين، التقيا في ليلة شتاء عاصفة، وتحدثا بقلبيهما، بلا حواجز، بلا أقنعة.

في بلادي، أحنُّ إلى الماضي القريب، إلى زمن الحوار والثقافة والفهم والمعرفة. إلى أيامٍ كان فيها اختلاف الآراء لا يعني العداء، وكان الحديث الصادق جسرًا بين القلوب لا سيفًا يفصل بينها. الدنيا قصيرة، والعمر أقصر، وما زلنا نحلم أن يصبح الحوار ثقافة نعيشها في كل مجالاتنا، أن نقبل النقاش حتى في أزماتنا الحياتية، أن نفهم قبل أن نحكم، أن نصغي قبل أن نرفض.

هذه الليلة، على بحر الشمال، كانت لحظة نادرة من الصدق، لحظة أدركتُ فيها أن الفهم أهم من الاتفاق، وأن الحوار الحقيقي ليس محاولة لإقناع الآخر، بل محاولة لرؤيته كما هو، دون رتوش.

***

محمد سعد عبد اللطيف – من يوميات كاتب في بلاد الجن والملائكة

 

في المثقف اليوم