أقلام ثقافية

محسن الأكرمين: الذكريات لا تصل فجأة (1)

... لم تكن حكايتي مع صانعة الذكريات عابرة باللحظة، وانتهى الكشف بصياغة أسماء المسكنات المُبنجة، بل كانت تتمسك برفق السلوك، ومعاندة في مجالستي، وتتبع مستويات وضعيتي الذاتية بغاية اكتساب ولو أجزاء متقطعة من ذكريات ذاكرتي. في يوم ما، وأنا أسبح تفكيرا بعمق فجوات حياتي، كانت صانعة الذكريات تُراقبني عن كثب. تلمح تغيرات قسمات وجهي الجارية، وحركاتي الذاتية المتموجة بالأناة. نَظرتْ في عيني وقالت: يا صديقي، هذا هو اليوم الذي سيتغير عالمك إلى الأبد!!! كانت حقيقة مفزعة، وخلتها تُمارس تذويب جليد السؤال واقتناصي عند الجواب الماكر، ولكنها كانت صارمة في تتبع مصفوفة حياتي الغائبة والحاضرة.

كنت خائفا من فضح كل أسراري ما خفي منها وما ظهر. كنت أعرف أن الذكريات لا تقيم فينا بل تُغلفنا بالتفتح، وتنال منَّا حَمولات من الإكراه، وأسفار أوزار الماضي. في جلستها الدانية من هامة رأسي المائل للخلف فوق سرير غير مريح بالتمام، كانت صانعة الذكريات تشد على جبهة رأسي بمسح العرق المتدفق في عز فصل البرد القارس. كانت تنظر إلي باستحياء ممَّا قد يفضح تخمينات ترسبات الماضي، لكني بحق كنت واثقا من أمري، فلعمري مارست الظلم ولا التعدي ولا نهب الأرزاق.

لم أشعر البتة أن صانعة الذكريات تتلاعب بمشاعري الداخلية بالتنويم. لم أفطن أنها تلعب على إخراج تفكيري الباطني من علبة الصندوق آمنا مطمئنا. لم أكن أقدر على مجاراة سياسة الرفض والتراجع وراء. فقد امتلكتني بسحرها كليا، وفتحت أقفال بوابات من أسراري. حينها شعرت أنها استدعت ذكرياتي الغائبة، كانت تنشد لازمة متقطعة بلحن من فيروز اللبنانية " أعطني الناي وغَنِّ، فالغنا سرُّ الوجود، وأنينُ النَّاي يبقى بعدَ أن يفنى الوجود..."

قالت: لا تخف يا صاحبي الجميع منَّا ارتكب أخطاء متعددة!!! كنت أعرف أنها تستسهل علي استرجاع ذكرياتي الموحلة في الألم والوجع والمتناقضات. أمدتني بفنجان شفاف من عطر بن، باتت رائحته قهوته تسكن الغرفة بنسمات مطيعة لارتشافها، وبزيادة سكر لدمغتها المرَّة. آه يا صديقي ...يا من أبكي معه عن تلك الذكريات المحزنة التي تختزنها بالتَّكفُّفِ، وتحجر دمع المقلة... يا من أتعاطف معه طواعية، وبلا مقدمات، ولن أقدر على نشر غسيل ذكرياتك كليا، فإن فعلت ستستلم للموت السريع يا صديقي العزيز.

بصدق يا صديقي، الناس تهرول نحو ما يريدون تصديقه بلا تكلف المعرفة السبقية، لكنهم يرفضون تلك الذكريات التي قد تصل إليهم فجأة ومشتتة الأطراف، وقد تطوح بهم يا صديقي  أرضا بلا حركة، مثل فاقد الوعي الفجائي من كفاف نسبة السكر في الدم. كل ذكرياتك يا صديقي محفوفة بالمخاطر والانتكاسات. كل ذكريات حلمك يا صديقي تسربت منك يوما وأنت في غفلة عن أمرك نائما، وفي الصبح كان الفجع المطيح بك في مستنقع الزمن الماضي. اليوم يا صاحبي، لدينا خيارات بسيطة وخفيفة لنفض الغبار عنها، وإعادة ترميمها ببقايا ملامح سعادة كانت حاضرة، فكل رايات الثوريين المشاكسين قد ترفع أمانيك عند الاسترجاع، ولن تماثل تلك الأضرحة الوهمية التي لا تسمن ولا تغني عن غفران ولا تداوي من مَسِّ جن الأرض السفلية.

كنت عارفا بالتأكيد أن فحصها الدقيق يسير وفق أنماط المقاييس الحيوية الحديثة، من خلال مساءلتي السلوكية والمادية، من خلال الكشف عن بيانات ومخزون بصمة ذكرياتي الحصينة والمتمركزة بالتخزين. كانت كل إيماءات صانعة الذكريات التمويهية، تحدد سلوكا لفك حصار جنود ذاكرتي (الشداد الغلاظ)، وفتح قفل تراكمات حياتي الماضية المتنوعة بين الفرح والوجع والمتنافرات.

كان مخاوفي تزداد حيطة، ولكني في قرار نفسي كنت أريد التخلص بشكل عام عن أجزاء منها، كانت تدمي يومياتي، وتُفحم ممرات حياتي الباقية في علم الغيب. كانت صانعة الذكريات تبحث في أغراض ذكرياتي على تحديد نوعية هويتي، ولما لا المصادقة بنمط المقاييس الحيوية عليها كأمر جديد يريح مشاعري من كل متاعب هَمِّ الحياة.

كنت مطمئن العقل والمشاعر، وبأن بيانات ذاكرتي لن تسرق، مادامت صانعة الذكريات تقوم على تحصين وتنقيح شفرات ذاكرتي بالحيطة والاستباقية. ابتسمتْ لأول مرة من تلك الرقابة الاستبدادية التي أخزن بها ذكرياتي، وقالت: أحسنت الظن فلن أخذلك يا صديقي بالمرة ...

(يتبع)

***

محسن الأكرمين

 

في المثقف اليوم