أقلام ثقافية

عدنان المبارك: قصة "خروج الفطحل من المطهّر البصراوي"

1935- 2016
بمناسبة ذكرى رحيله الثامنة 

 إلى زهير شليبه

***
- قد نلقى الموت في الصحراء لكن العار لا يلحقنا إلا بين البشر. الفيلسوف البولندي ليشيك كوُاكوفسكي (1927 – 2009)
***

بعد إنزاله الى أوطأ درك من الحيوانية بقي الفطحل، وهنا مصدر الإستغراب بل الغيظ، على إيمانه السابق بجبروت، موهوم بالطبع، لكلمته، الشعرية خاصة، بعظمة الإنتماء الى الوطن، بقدسية العائلة رغم نواحه على غدر هذا وذاك. بيد أنه أخذ يتبرعم إيمان آخر في النفس الممزقة والجسم المغتصب الذي هو على وشك الإنهيارالتام، إيمان بأنه لابد من مخرج، من إنقاذ، من نهاية لهذا الكابوس الذي أطبق عليه وأين؟ في ربوع الوطن ! إذن (شغّلْ دماغك وإلقيلك فد جارة). مع مثل هذا النسق من التفكيرالواقعي لا يعرف كيف إمتلكته رغبة جارفة في أن يتمتم مع نفسه بأغنية قديمة: (يا حلو يابو السدارة، متيّمك سويله جاره). وكان قد فات صديقنا خالق شخصية الفطحل أن يذكر، ولو بصورة عابرة، أن بطله كان من هواة الغناء الشعبي بل من المتيمين والمولهين بكل أصناف غناء ما بين النهرين. كما لم يسلط صديقنا، لغاية الآن، أيّ ضوء على تحويرات الفطحل للكثير من البستات والهوسات، في أشعاره. أعترف بأن الكلام عن هذا البعد من أبعاد شخصية الفطحل ليس من مهام صديقنا بل من الصحيح أن نتركه للمؤرخين وغيرهم من الباحثين الذين لاينبغي أن تفوتهم لا صغيرة ولا كبيرة. وما على الجميع إلا إنتظار ثمرة البحث والنبش والتأويل وغير ذلك. عموما لنترك هذه الإشكالية وماشابهها، فأمامنا محن أكبر وبالطبع على رأسها سقوط الفطحل في مستنقع بصراوي لا أعرف كيف تمكنوا من خلقه في مدينة وادعة كهذه، وبمثل هذه العفونة. عليّ الإعتراف بل إبداء قدر ملحوظ من الإعجاب بقدرات الفطحل في التركيز الذهني والتكرس لقضية واحدة لا غير: كيف الخروج من المستنقع ومن سيكون القادرعلى إنتشالي ومتى (ترا حال الضيم حالي) ؟ وكان هذا السؤال يطارد فطحلنا ليل نهار تماما كما طارده الشوق الى ربوع الوطن وعصف به في تلك القرية البولونية الهادئة. والآن إنتباه ! بحكم كوني من أنيطت به مهمة إنتشال الفطحل من مستنقعه وإخراجه من ربوع الوطن بأي ثمن وإلا قد يحل فصل أكثر سوادا وبربرية من فصول هذه العودة المشؤومة الى الربوع، وجدتُ، لكن بعد إعتكاف ليس بالقصير في غرفتي أمام لوحة المفاتيح، أن هناك أكثر من مخرج واحد - لغاية كتابة هذه السطور أفلحتُ في العثورعلى خمسة وكلها لا تنحرف ولو بأصغر جزء من البوصة عن شتى أصول الواقعية في الأدب. قبل كل شيء الكرة هي منذ البداية في ملعب الفطحل وعليه أن يشحذ الذهن للعثور على أقرب جرف يخرج إليه من المستنقع.
إضافة الى رعي الدواب صارت مهمته الأخرى غسل أواني الطبخ والأكل. عملية جبارة .إعترف الفطحل في الأخير أن مثل هذه الأعمال المنهكة والتي تأخذ ساعات طويلة من الليل هي أفضل ب(ألف قاط) من الإعتداء على ما بقي من شرفه. وبسرعة وجد أن البلسم الشافي لكل هذه الطعنات التي تلقاها هو أن الوقت أبدى له كرما في أن يقوم بعمليتين في آن واحد: التفكير بحاله وبالمخارج، والغسل بالطبع. القاريء وليس بالضرورة أن يكون لبيبا كي يفقه بأن مخارجي الخمسة تلك هي مجهولة لدى الفطحل ولسبب بسيط: أنا هنا وهو هناك، وكل التقنيات التي وفرها عصرنا عاجزة تماما عن عقد الإتصال بيني والفطحل الذي ينحصرعالمه الان بين سَوق الدواب والأعمال المطبخية (أعترفُ مرة أخرى بأن إختفاء الكاتب وراء نصه وكأن هذا قد كتبه مخلوق هبط من الكون ثم عاد من حيث أتى، هو مجرد تقليد أدبي كثرت شقوقه ويصعب إخفاء ألوان وسمك خيوطها. إذن أرجو عدم الإستغراب إذا تدخلتُ كمؤلف، في شتى المواقف). بعبارة أخرى يكون هذا الإتصال من رابع المستحيلات. لاشك هي مصادفة يعجز العقلانيون عن تفسيرها إلا أنها مجرد مصادفة وليست ظاهرة لاتزال لغاية الآن مجهولة تماما وإن كان عدد ليس بالقليل من الأقوياء في الإيمان لكن كسالى العقول يرجع كل المصادفات الى جهة فوقانية واحدة. وكانت المصادفة أن تفتق ذهن الفطحل رغم إنهاكه سوية مع الجسم، على مخرج معين من مخارجي الخمسة. بالفعل، كان خروجا من الجحيم البصراوي لا يصدق إلا أن المصادفة، وجاءت هي مرة أخرى !، لعبت الدور الحاسم في تحقيق تلك الفكرة - المخرج. ولأترك هنا التفاصيل التي لاتفيد كثيرا عدا كتبة الصنفين العتيقين من الفنون السردية: الواقعية الريبورتاجية والأخرى الطبيعية التي صارت تلتصق بشدة متزايدة لدى كتّاب أقطار الجامعة العربية، برومانسية لكن من الصنف الباكي النائح. بإختصار: ُقدّر للفطحل أن يجد نفسه في بلد مجاور. وهذا موجز لحادث هروب الفطحل من ربوع الوطن:
جاءت فرصة أثمن من ذهبية في ساعة متأخرة من الليل حين كان يغسل الصحاف والأقداح بعد حفلة صاخبة أقامها أحد رؤوساء الفطحل من الضباط الذين كانوا قد بلغوا درجة عالية من السكر بل أن بعضهم بقي متمددا في القاعة ولم يعد الى الفراش. وهكذا لم يبق هناك من صاح غيرالفطحل وإثنين من الجنود البليدين كانا يقومان مع فطحلنا بخدمة المحتفل (كان قد نال ترفيعا مفاجئا ولم يكن يستحقه بالطبع) وضيوفه. وكان الفطحل قد فكر مرات ومرات بالهرب الذي إبتكر له أكثر من طريقة إلا أنها كلها على وجه التقريب من الصنف صعب التنفيذ عدا تلك التي سنحت بعد الحفلة، وفي الحقيقة كنت قد فكرت بها إلا أن التفاصيل عندي تختلف الى حد ملموس عن تفاصيل هروب الفطحل ولا مكان هنا لعقد المقارنة بين هذه وتلك، فالمهم في حكايتي شبهها بفكرة الفطحل الذي نفذها بهذه الصورة:
إرتدى إحدى بذلات رئيسه وركب سيارة عسكرية أخذت تنهب الأرض صوب أقرب بلد مجاور. ظلام الليل سهل كثيرا عليه الهرب (كان الفطحل قد عرف المسافة بين جحيمه وأقرب حدود، وقبل أن يركب السيارة أعطب أجهزة الإتصال في وحدته كما تزوّد بالطعام والشراب والسكائر، ولم ينس أخذ أشرطة الفيديو عن عاره وعارغيره أيضا وحشرها في محفظة كانت ملكا لرئيسه). أطفأ ضوء السيارة قبل الوصول الى الحدود ببضعة كيلو أمتار، وإنتظر كي تحين الفرصة للتسلل الى البلد المجاور. وقبل أن ينبلج الفجر وجد نفسه في أحد الشوارع المضاءة. بقي ينظر الى ما حواليه لكن ليس طويلا: نكس رأسه وغفا. جاءته بضعة أحلام، بينها حلم وردي بأنه عاد الى قريته البولونية وتصالح مع زوجته وعاهد نفسه على أن ينسى ربوع الوطن الى آخر يوم في حياته. من أحلامه الأخرى أنه عاد الى عقائده القديمة التي ألزمته بأن يكون واحدا من منقذي الوطن. إذن غادر قريته البولونية خفية وإلتحق بعصبة من الضباط الذين دفعهم الوضع الراهن الي أن يكونوا عاطلين ومتآمرين. وبقدرة قادر، لكن بمعونة بلد مجاور حققوا إنقلابا من النوع الصامت بل بدا وكأنه من تلك المؤامرات البلاطية التقليدية. حلم الفطحل بأن المهمة التي إنيطت به كانت تشكيل محاكم يقف في أقفاصها أبطال المستنقع السابقين من وزراء و ضباط ومعممين وميليشيات إلى آخره. بهذه الصورة إنتقم الفطحل ممن ثلم شرفه وأهدر كرامته ودفع زوجته الى التنكر له. وقبل أن ينتقل الى حلم آخر هزته يدٌ بعنف. فتح عينيه مذعورا (مرد الذعر أنه تصور الهرب ووصوله الى هذا البلد المجاور هو مجرد حلم وأن من هزه بمثل هذا العنف أحد جلاوزة تلك الوحدة العسكرية) إلا أنه إسترد الطمأنينة بسرعة حين وجد نفسه محاطا بعدد ليس بالقليل من أفراد شرطة البلد المجاور وجيشها ثم أجهش بالبكاء، بكاء الفرح...
بقي إختفاء الفطحل لغزا لم يستطع أي أحد في الجيش وخارجه من حله. أنا لا أستبعد هنا إحتمالا قويا: عرفوا بأن الفطحل هرب الى البلد المجاور لكنهم تركوا الأمرلأجهزة المخابرات التي كانت قد إستعادت عافيتها وعنفوانها في أمد بالغ القصر.
وفاتني أن اذكر أنه عندما كانت السيارة تنطلق كالمجنونة صوب الحدود عجز الفطحل عن كبح بركانه الشعري. إنفجرت منه أشعار أخذ يتلوها وفق عاهته اللسانية التي لا تعترف، وكما ذكرنا في تدوين سابق للسيرة الفطحلية، بأحرف كالسين والصاد والزاء وغيرها ومن حصرها في حرف الشين:
لا، لا، لن اقول ألف طش [طز] على هكذا ربوع
أنا التحرير يا وحوش هذا الشمن [الزمن] ولشت [لستُ] جربوع
خرجتُ من شلب[صلب] أنبل الجموع
أنا طفل الشموع
عقائدنا دروع
عقائدنا تفجر الينبوع
أنا، أنا رغم أتون العذاب وبحر الدموع
لا أعرف الهجوع
إذا حلت المحنة بالربوع
إذا جاءها الوباء والجوع
آه يا قلبي الملشوع [الملسوع]
أنا لن أنشى [أنسى] الجذوع
ولا الفروع
أنا رغم الظلام والعار
أبقي يا ربوعا عليك ألوع [ألتاع]
إنتظريني إنتظريني يا جموع
فنحن جسد واحد، روح واحدة في المجموع
ننادي كلنا يا شمس الرافدين متى الطلوع
***
حينها أوقف الفطحل السيارة وراح يدون قصيدته على ورقة، ثم عادت العربة تنهب الأرض صوب أخرى مجهولة رغم وجودها على الخارطة * ...
***
عدنان المبارك
باندهولم – تشرين الثاني 2009
.....................

* سيسرد علينا زهير شليبة في الفصل التالي من مغامرات الفطحل، بعض الأحداث التي مرت ببطلنا في طريقه الى قريته البولونية، وبينها اللقاء الذي حصل بين الإثنين في تلك المدينة الدنماركية التي أعجبت الفطحل للغاية، ودعونا لا نفقد الأمل في أن تجود قريحته بقصيدة مديح للإثنين: مبتكر شخصية الفطحل، ومدينته الجميلة...

في المثقف اليوم