أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: ضحايا النمذجة الادبية
من المخاطر التي يقع فيها بعض الكتاب، خاصة من واضعي خطواتها الاولى على طريق الابداع الادبي، او يوقعون فيها انفسهم، تبرز الدوغماتية او النمذجة سيدة محبوبة وملعونة في الان ذاته، وتعني النمذجة ان يتخذ الكاتب او الشاعر نموذجًا ادبيًا وان يضع عينه عليه لا يحيد، كأنما هو قبلة يطمح في الوصول اليها يومًا ما، فاذا ما كتب فكّر في هذا النموذج واذا ما قرأ لآخرين بحث فيما يقرأه عن هذا النموذج. وقد وقع في هذا المطب الادبي الخطر عدد من الاخوة الكتاب والشعراء الذين قادهم حظهم السيء ليتلقوا دراستهم على يد استاذ ذي معرفة ومقدرة فحببهم بهذا النص او ذاك وجعل افكارهم تدور في فلكه مهما ابتعدت، ومن هؤلاء في بلادنا، رصدت في سنوات سابقة ايام عملي محررًا ادبيًا في صحيفة كبيرة، اولئك الذين اقاموا في منطقتي الجليل الاوسط/ الرامة واخواتها، والجليل الغربي/ قرية الجديدة وجاراتها، فقد لاحظت ان معظم ما كان يصلني من شعراء هاتين المنطقتين خاصة المبتدئين يتخذ من انتاج واحد من الشاعرين، سميح القاسم/ الجليل الاعلى ومحمود درويش الجليل الغربي نموذجًا له، فيقوم بتقليده تقليدًا اعمى او شبه اعمى، وكأنما هذان الشاعران هما الشعر.
يجهل هؤلاء الاخوة او يتجاهلون أن عالم الادب، قصةً وشعرًا أكبر من اي كاتب او شاعر، وان الابداع الادبي بشتى انواعه عرف في الماضي ويعرف في الحاضر وسوف يعرف في المستقبل مبدعين حقيقيين مُفلّقين، وربما يغيب عنهم أن لكل مبدع حقيقي بصمته الخاصة به وأنها هي ما تميزه عن سواه من المبدعين، واذكر انني يوم قرأت شيئًا من شعر ابن سهل الاسرائيلي، أحد شعراء الاندلس، بادرت إلى كتابة مقالة وضعت لها عنوانًا اعتقد انه يعبّر عمّا وددت حينها واود الآن ان اقوله وهو ان " العالم أكبر من شاعر"، او الشاعر.
خلال متابعتي لحياتنا الادبية اصطدمت بالعديد من هؤلاء الاخوة النموذجين، او الدوغمائيين، فمنهم مثلًا من قرا قصة " زائر الصباح" لكاتب مصري من فترة السبعينيات يدعى فاروق مُنيب، واذكر بالمناسبة انه أصدر في حينها مجموعة قصصية حملت عنوان قصته هذه ذاته، فجن جنونه بها، وبات كلّما اقبل على كتابة قصة حلم بكتابتها وتمكّن من تسجيلها، فكّر في تلك القصة ودار في فلكها، هكذا غار في تجربة كاتب آخر ولم يتمكن من مغادرتها. وكاتب آخر كان يرسل إلي القصة تلو القصة لنشرها في الصحيفة الملمح اليها، وقع ضحية قصة " نظرة" للكاتب العربي المصري يوسف ادريس، اعتقد انه درسها على يد استاذ مبدع، فبات كلّما فكّر او كتب قصة اسيرًا لهذه القصة، الامر الذي حدّده في زاوية ادبية، لم يتمكن من مبارحتها حتى اختفى عن الساحة الادبية ولم يعد أحد يسمع له صوتًا. والامثلة وفيرة. كان احدثها شاعر أعتقد أيضًا أنه درس شيئًا من الابداع القصصي للكاتب يوسف ادريس ذاته، ويبدو ان هذه القصة بقيت تراوده مدة ليست قصيرة من الزمن، فحملته في الفترة الأخيرة على مغادرة ملكوت الشعر وكتابة قصة شبيهة بها.
اعرف أن الانسان المبدع، كما ذكر الكاتب المصري توفيق الحكيم، في أكثر من مناسبة ومقالة، عادة ما يتأثر في بداياته الاولى بسواه من المبدعين السابقين، بل انه يتخذ من أحدهم نموذجًا له يقوم بتقليده والسير على خطاه، غير ان من يدور الحديث عنه، عادة ما يتخلّص من شبح استاذه ويتخلص منه، بل انني اذكر ان معظم كتابنا في الستينيات والسبعينيات، خاصة في مجال كتابة القصة القصيرة، تأثروا بالكاتب يوسف ادريس تحديدًا، غير انهم ما لبثوا ان عثروا على شخصياتهم الخاصة بهم، وقد حصل هذا حينًا عاجلًا وآخر آجلًا.
اود ان انبه في كلامي هذا إلى خطورة مثل هكذا حالة، وان انبه من لم يتنبه حتى الآن الى مساوئها القتالة، فالعالم الابداعي في مجالاته المختلفة أكبر من النموذج بكثير، علما ان هذا العالم يبدو في البدايات الاولى لكل مبدع ضيقًا، غير انه في الحقيقة واسع ولا حدود له.. فلنبتعد ايها الاخوة عن هذه الدوغماتية/ النمذجة ولنقترب من أنفسنا.. لنرى انها احتوت العالم الاكبر.
***
خاطرة: ناجي ظاهر