أقلام ثقافية

محمد سعد: يوم العيد والحنين للماضي في قريتنا

كان العيد له مذاق خاص في الريف، وكان للعيد بهجة وفرحة في المجتمعات الريفية في سبعينيات القرن المنقضي، كانت القرية لها طقوس خاصة، في الاحتفال بالعيد، في المأكل والمشرب، والملبس، كانت الأسرة تقوم بتجهيز كحك وبسكويت العيد قبل ايام العيد، وكان يعتبر "عيب" ان تشتري الكحك جاهز من المحلات .كان يخبز ويجهز داخل كل منزل، وإذا كان لهم جار متوفي في الشارع لا يعملون كحك هذا العيد تضامناً بإعتبار ان اول عيد يطلع علي المتوفي، كان المجتمع يحافظ علي الشعور، وكانت اسرة المتوفي تضع الكنب الخشب "الآركة" امام المنزل ويجلس الناس، بمناسبة اول عيد للمتوفي، "وكانت الملابس من الكستور، والكتان وقليل من الصوف للرجال والاطفال كانت البيجامة وملابس للتلاميذ حتي الشباب الكبار في المدارس الثانوية للمتعلمين فقط، وكانت مخططة، والشباب والرجال جلباب كستور، كنا نلبس حذاء من شركة {باتا} كوتش وكنا نتزين به والرجال احذية كلاسيكية تصنع في محلات في القرية، والنساء احذية مصنوعه من البلاستيك وكان اشهرهم، [الاسطي بديع الجزمجي والآسطي حمزة الجزمجي واخيراً الأسطي محمد شتا] اهل القرية يتزاحمون عند محلات (الخياطة الترزي البلدي) ليلة العيد لاستلام ملابسهم وملابس اطفالهم، السيدات كانوا ليلة العيد يجهزون فطور العيد من خبز "رقاق" مصنوع في الفرن البلدي، والمحشي علي اقراص (الجلة الناشفة) المصنوعه من بقايا روث الماشية، وعيش لسان العجل من دقيق الذرة، وصنية الكنافة البلدي من القشطة والذبدة البلدي كل شيء كان يوجد داخل كل اسرة، اما اللحوم فكانت تربي في المنزل من الآوز والبط البلدي السوداني، فيتم اختيار (دكر بط ودكر اوز) ويمنع عنة الطعام مع الطيور، ويتم حبسة منفرداً ليتم عملية تسمينة بالفول والذرة وكانوا يطلقوا علي ذلك (تزقيط دكر البط للعيد)، وبعد إنتهاء صلاة العيد يخرج الناس ويقفوا طابور للسلام والتحية ثم تنتهي مراسم التهاني والسلام، يذهبوا جميعاً

علي المدافن لقراءة الفاتحة علي القبور ولم يتذكروا تجديد مباني المدافن الا يوم العيد،، ثم يرجعوا الي بيوتهم لتناول الفطور، وبعد إنتهاء وجبة الفطور يذهبوا افوجاً، لزيارة اهاليهم واقاربهم، واعطاء هدية العيد (العدية) من نقود،، وفي اليوم التالي يذهب البعض الي المدينة، لمشاهدة افلام العيد في السينما وكان يوجد في مدينتا ثلاث ادوار للعرض {سينما .ركس وسينما نصر وسينما عدن} وبعد حرب اكتوبر عام 1973 حدث إنقلاب إجتماعي مع بداية الهجرة الي خارج الوطن واصبح المجتمع الريفي مستهلك، واصبح متمرد علي الآرث والعادات والطقوس القديمة، وليس لدينا فقط، وهذا حدث في منتصف القرن الماضي: " قالها وكتب عنها احد الفلاسفة،، أوروبا تحتضر، عندما إنتهى زمن الحنين"ومع ثورة الاتصالات وحل الإبتكار مكان العاطفة، صار إنتظار إختراع هاتف جديد خبراً ساراً أكثر من إنتظار غائب، فرحة تقليب صفحات التواصل الاجتماعي علي الهاتف، أكثر متعة من تقليب صفحات الذاكرة، غابت مساحات التأمل وحلت مكانها مساحات الإملاء، حتى الحرية تخضع " لمعايير" النشر، تحول نصف البشرية إلى أسرى عادات في مساحة ضيقة. الفرح أمام محل الملابس والأحذية، قبل العيد أكبر من الفرح أمام ذكرى منزل آيل للسقوط دفنت فيه يوماً جزءاً من قلبك.

الحنين نوع من الوجع في المجتمعات الريفية، عندما يجعلك ترى الفوضي في مناسبات دينية..؟ في الحنين يهرب جزء منك إلى مكان أو شخص، تركض خلفه ولا تلحق، هو الشوق الفار أو طفل الأحشاء الهارب، تتحول من حطب الى جواد بري.في الحنين أنت لا تكون واحداً في أعماق عزلتك، بل أنت المتعدد والمكتمل ولو بصحبة طيف، من الغباء الدخول في معركة مع عاشق وحدته لانها ستحرق وهو لن يخسر شيئاً. الاستغناء.ماذا يفعل ضوء شمعة غاب طرفها الآخر..؟ عندما تتأمل جدار غرفة نومك وأنت تحت حنين جارف، ترى شخصين يرقصان على الجدار على لهب ناحل احدهما غائب، وتري ضوء شمعة يرتعش كقلبك لآن ضوء المصباح بلا شاعرية وهو اكتشاف حديث، وافضل وفت للحلم والكتابة على ضوء شمعة او صوت المطر وكلاهما من عالم عريق: ضوء شمعة، عزلة، ماذا تفعل أمام قنينة عطر فارغة كانت يوماً مليئة بالفرح..؟

أو أمام صورة منزل مهجور كان جسدك الثاني يوماً..؟ من الذي سرق الحنين اليوم..؟ إنها جريمة إختطاف كبرى منسية." الحنين بتعبير الشاعر الفلسطيني، {محمود درويش} أعراض جانبية: إدمان الخيال في النظر إلى الوراء".الحنين هو إنكار التلاشي، قد تنطفيء شمعة قبل سنوات في غرفة هادئة، لكن اللهب مشتعل في الذاكرة.الحنين عند الفلاسفة وعند اليونانية القديمة، بمعنى العودة والمعاناة، أي السعي للوصول الى طرف مبتور وغائب، كما يحدث في ظاهرة الجزء المبتور لدى الزواحف في السعي للعودة الى الأصل.

ترتعش كجناح فراشة مبتور في الرمل ولا تصل، لكنك ترتعش بصمت، بلا حنين كائن بشري مفرغ من الآدمية:

الحضارات الكبرى هي التي سيطر فيها الحنين، كل الأداب والفنون الكبرى قامت على الحنين. اختفت الدول والامبراطوريات التي قامت على القسوة والشر كالفاشية والنازية والشمولية، لأن الشر سطحي لا يصدر من أعماق بشرية صافية بل من تشوه وضحالة عكس الحياة والطبيعة، في حين الحضارات التي تأسست على الخير والضمير والحنين قائمة حتى اليوم: الفرعونية والسومرية والبابلية والأغريقية.. في لحظة ما، وفي غياب ما، لا يكون الواقع حقيقياً. حالة إنكار .

من يدري لماذا صار اللون الرمادي لون الحنين..؟ هل لانه مزيج الابيض والاسود ولا يكتمل في غياب أحدهما؟الحنين هو حداد في حالات، محاولة لكي تستعيد ما صدرته الى مكان أو أشخاص من عواطف ومشاعر غائبة الآن، تحاول استرداد ما أعطيته، نوع من وجع الفطام، شيء ما، خيط، انقطع أو انكسر فجأة وتوقف السياق.تلتقط الهواء بأصابعك لكي يكون الواقع كاذباً. عندما تشعر بالحنين، فأنت تأمل ولذلك الحنين عكس اليأس، اليأس إستسلام وثبات الماضي: الحنين أمل وتوق لكنه قد يكون حنيناً وتوقاً للمستقبل، لما لم يحدث اليوم. في عصر الرأسمالية المتوحشة ..!!

***

من يوميات كاتب في الارياف

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

في المثقف اليوم