أقلام ثقافية
محمد سهيل احمد: مصاطب الرمل
خمس سنوات في ليبيا
"سوف أمضي بعيدا.. بعيدا جدا مثل غجري!"
آرثر رامبو
***
نـحـو المجـهول
لم يخطر ببالي يوما أن أكون في ليبيا،وإنْ لبضع ساعات فهي بالنسبة لي لم تكن سوى مساحة جغرافية نائية، أشبه ما تكون على كوكب آخر. كل ما اعرفه عنها هي عاصمتها طرابلس وفيلم أجنبي شاهدته ذات مرة تدور أحداثه في مدينة (طبرق) شرقي البلاد إبان المعارك التي خاضها ثعلب الصحراء رومل ضد الحلفاء والتي اختتمت بهزيمة الألمان في معركة العلمين في مصر. وسينمائيا عرفت ليبيا من خلال فيلم (اسد الصحراء) الذي تناول كفاح شيخها المجاهد عمر المختار ضد الاستعمار الايطالي والذي قام الراحل مصطفى العقاد بإخراجه عام 8019 وهو الفيلم الذي تألق فيه الممثل العالمي انطوني كوين جنبا الى جنب الممثلة اليونانية ايرين باباس.
وفي أواخر السبعينات اقتحم اسم ليبيا ذاكرتي مرتين : مرة حين عملت محررا بالقطعة للصفحة الثقافية لمجلة خليجية أسبوعية مغمورة علمت فيما بعد انها كانت تعتمد في تمويلها على ليبيا، رغم أنني طيلة الفترة التي عملت فيها هناك لم التق شخصية ليبية واحدة على الإطلاق. والمرة الثانية تمثلت بهجرة شقيقتي مع زوجها والأطفال الى ليبيا في العام نفسه.
في بداية التسعينات من القرن المنصرم، واثر عودتي الطوعية من الكويت وجدتني بدون عمل بعد ان أنفقت جل مكافأة نهاية الخدمة على استكمال بناء الدار التي استنزفت مني ثلثي مدخراتي في فترة اخذ الحصار يمسك بتلابيبنا ــ نحن العراقيين ــ ، إضافة الى عزوفي عن العودة للعمل في سلك التعليم لهزال الراتب الشهري المخصص للمعلم وغير المعلم إبان فترة الحصار البغيض، وبالفعل قمت بأكثر من سفرة مكوكية للأردن، غير ان تلك المحاولات باءت بالفشل رغم ممارستي للتدريس في احدى مدارس الأردن لعام كامل لكن من دون توفير اقامة لي ولأسرتي !
ومع نهاية العام الدراسي 1994 ــ 1995 وغبّ سفري للأردن، من دون اسرتي التي بقيت في البصرة، من اجل مواصلة العمل لعام دراسي ثان في عمان، فوجئت بقرار مدير المدرسة الأهلية في صويلح بعمان بإنهاء خدمتي من دون سبب مقنع مما سبب لي صدمة كبيرة لم أتمكن من كبحها إلا من خلال ورقة كانت في حوزتي تمثلت في عقد مبرم بيني وبين الجانب الليبي والذي أبرمته في السفارة الليبية ببغداد. والواقع أنني كنت مترددا حول فكرة السفر للعمل في بلد ناء ليست لدي عنه فكرة الا ما ندر. كان الرحيل يعني ان ادفع ضريبة باهظة مع أفراد أسرتي وكلهم من الصغار المحتاجين لظلّ أب يرعى حوائجهم لا سيما وأنهم قد مروا بتجربة العودة الى العراق بدونيٍ نظرا لعدم حصولنا على الإقامة في الأردن كما أسلف ذكره قبل قليل.
وضعت ما خف حمله وبخس ثمنه من ملابس في حقيبتي الصغيرة ثم ودعت أفراد أسرتي على عجل خشية ان اعدل ــ في لحظة تردد ــ وأغير قراري بالسفير الى ليبيا.. جنة الرب المجهولة الموعودة ! كما انني كنت حينها أسيرا لفوبيا خانقة من ان يصدر قرار شامل بمنع السفر. وهكذا عدت الى عمان بعد ان دفعت رسم المائة ألف دينار لجوازات البصرة. وكان في معيتي مبلغ يناهز الألف دولار قمت بادخاره من واقع عملي في الأردن مع ألف دولار أخرى تركتها لدى زوجتي من اجل الإنفاق على الأسرة.
فور وصولي للعاصمة الأردنية توجهت صوب احد مكاتب الخطوط الجوية من اجل حجز تذكرة لطرابلس وكلي لهفة في ان التقي شقيقتي المقيمة هناك بعد فراق ستة عشر عاما انقطعت خلالها إخبارهم او كادت وأن أجد مصدرا للرزق بعد انقطاع مصدر رزق بحكم عودتي الطوعية من الكويت.وقتذاك لم يكن طريق مصر البري قد افتتح، لذا كان لزاما علي ان أسافر جوا الى طرابلس غير ان موظفة المكتب اعتذرت عن عدم وجود حجز الى هناك، وكان البديل دخول ليبيا عن طريق تونس. وقد فاتني ان اذكر أنني قبل قدومي للأردن كنت قد حصلت على فيزا ترانزيت عبر تونس العاصمة من جهة السفارة التونسية بمنطقة الوشاش ببغداد.
لقد حجب تلهفي للوصول الى ليبيا أمور كان ينبغي التروي فيها من بينها ان العقد المغترب ينص على ان نفقات السفر تدفع من قبل الطرف الأول أي الجانب الليبي. كنت احمل مع اندفاعي قلبا يثق بالآخرين لأدرك في وقت متأخر ــ فيما بعد طبعا ـــ أنني سأصل الى ليبيا على نفقتي الخاصة ! وكان ثمن التذكرة يتجاوز الخمسمائة دولارا أي نصف ما لدي من ذخيرة مالية دفعتها بكل سرور وغفلة لتنزل بالتالي في جيوب جهات التعاقد.أمّا من تحلوا بالصبر فكانوا من الفائزين طبعا لأن الجانب الليبي اضطر أمام لوبي الضغط الذي شكله الجانب الثاني ومعظم أفراده من المدرسين العراقيين المتقاعدين وتاركي العمل الى التكفل بدفع نفقات السفر لصالحهم.وذلكم كان المطب الأول الذي مررت به كمحصلة لغفلتي وتعجلي وعدم تدقيقي في بنود العقد !
بعد رحلة دامت ما يقارب الساعتين هبطت الطائرة التابعة للخطوط الجوية التونسية في مطار تونس لأفاجأ بمسلك غريب عني وهو ان الركاب، وحالما حطت الطائرة على ارض المطار، راحوا يصفقون ابتهاجا بسلامة الوصول، ولعله تقليد تونسي محلي، لا ادري !
لحظة لفظني مايكروباص المطار في قلب العاصمة التونسية، شعرت بالجوع فدلفت الى احد مطاعم الوجبات السريعة وطلبت شطيرة هامبرغر وحين سألني عامل المطعم ان كنت ارغب بإضافة قليل من الهريسة أجبته انْ نعم وكلي شوق لطبق الهريسة المعد من جريش القمح والذي اعتدنا تناوله في المناسبات الدينية. وكانت الصدمة هي ان الهريسة في بلاد المغرب لم تكن سوى صلصلة الفلفل الشديد الحرارة !
قذفتني الحافلة في ساحة برشلونة بقلب العاصمة التونسية حيث سأقيم في فندق شعبي يدعى (سيدي بلحسن) في غرفة واسعة تضم ستة أجساد لنزلاء نائمين او منشغلين بالتدخين. ثم استغرقت في نوم عميق.
في مساء اليوم التالي كنت في ساحة (باب عليوة) التي كانت تضم صفا من حافلات الأسفار البعيدة. حجزت تذكرتي وارتقيت الحافلة التي انطلقت شرقا باتجاه مبتغاي : ارض ليبيا.
في صباح اليوم التالي وبعد سفرة مضنية وصلت الحافلة الى منتهى رحلتها.. ساحة الجزائر بقلب العاصمة الليبية طرابلس الغرب حيث سأستكمل إجراءات عملي الجديد والتقي شقيقتي وأسرتها.
لم يكن لدى صهري أدنى فكرة عن موعد قدومي الى طرابلس فإثناء مكالمة مرحة بيننا بعمان وحين سألته اين يسكن في طرابلس أجابني :
ــ حي الشرقية.. زنقة الشجرة اليابسة !
وقتها دونت العنوان في مذكرتي الصغيرة ظانّا انه كان يمزح.غير انه بعد مكالمة ثانية وتأكده من جدية قدومي زودني بعنوان الشركة التي يعمل فيها بطرابلس. ولهذا تعين علي ان أبيت في احد فنادق المدينة كيما أريح جسدي من وعثاء سفر بري تجاوز السبعمائة كيلومتر قبل الوصول الى طرابلس العاصمة.
وفي صباح اليوم التالي وبعد جولة قصيرة تمكنت من الوصول الى الشركة التي يعمل فيها صهري، غير انه لم يكن موجودا هناك انما كان قد اوصى سائق الشركة المصري بإيصالي للبيت.
وهذا وبعد ستة عشر عاما تمكنت من الالتقاء بأختي وأسرتها لأنعم بليلة هانئة بعد حفلة اللقاء الممزوجة بالآهات والدموع والضحكات.
يـــتـــبـــع
***
محمد سهيل احمد