أقلام ثقافية
عبد الهادي عبد المطلب: في انتظار أن نحيا من جديد.. أو نُعلن موتنا..

في زمن ما، في تاريخ ما، كنّا أحياء. وُلدنا أحياء لنحيا ونُعلم الآخرين سر الحياة، وُلدنا لنُحيي في الموات الحياة.
فرشنا للعلم بُسطا لتحيا الحياة، وتنمو على حوافها الأزاهير، وتُشرق الأرض بنور أسرار رجالها العارفين والحاذقين والرّبّانيين وأهل الحرف واللسان، طرّزنا الظلام نورا وألوانا، وأشعلنا بالعلوم مصابيح على هُداها سار الغاطّون في نوم جهلهم في عصور ظلامهم. تجرّأنا على علوم الغابرين في الطب والفلك والفلسفة والحساب وعلم الكلام، واقتحمنا حصون اليونان وأسرار الأولين، وأنزلنا ما سكن الفضاء، وأخرجنا ما اختبأ تحت الأقدام، بنينا الحصون وأبدعنا ما وراء البحر فراديس تفغر أفواه الحالمين.
وكأن الزمن توقف، وانقلبت الموازين، وصار العلم جهلا والحلم كابوسا، حين فقدنا الفردوس، ولَفَظنا التاريخ من سجلاته، وتجشَّأ نثن هواننا الضارب في عمق ذواتنا البئيسة حين تنكَّرنا لنا، ولأوَّلنا.
وفي زمن ما، وتاريخ ما، بعدما كنا نقود العالم إلى براري الأمان، أعلنا جهاراً موتنا بالسكتة القلبية والدماغية، وغنّينا باللحن والرقص أنّنا فُرجة بالمجّان، فُرجة أصبحنا. سرنا سير ضعفائنا المتخاذلين حتى أصبحنا ضعفاء يأكلنا الضعف والخوار، تآكلنا وأكل بعضنا بعضا، خاطبنا ضعفائنا على قدر عقولهم الخائرة، ولم نرتق بهم لنصل معا إلى القمة، حتى أصبحت عقولنا عقول العصافير، وأجسادنا أجساد بغال تحسن الاستهلاك وملء البطون، وهز والأرداف، وكثرة الكلام والقيل والقال.
استحليْنا النوم واستعذبنا مواقع الصفوف الأخيرة، حين تسلَّح الآخرون، علناً وفي غفلة منا، بما كان لنا بالأمس نورا نهدي به الضالين والسائرين عُميا وصُما وبُكما. تركنا الفردوس الزاهي والقلوب تنز دما ويأسا وعويل نساء، ومن قبله رَفَسْنا رفس بعير هائج شواهد من كانوا للعالم قادة.
تنكّرنا لأسياد ساقوا بعزة طوابير التائهين، ودفنا عند أعتابهم سر الكلام، وعزّة النّفس، والنخوة والكرامة، فانْقَدْنا كقطيع يحسن الاجترار وترديد الكلام. دفنا الماضي، وأهلنا على لحْده التراب، وأغمضنا أعيننا على الماضي وأغلقنا دونه منافذ الصحو، وأقبرنا جذوة النّور فينا، فادْلَهَمّ الحاضر وتاهت بنا الطرق نحو المستقبل فوقفنا، وطمسنا معالم من ساروا بعزة نفْس وإباء نحو المدى يضيئون سوادا جنَّ وران على قلب العالم، وأغمدنا حلمنا في غِمْدٍ صديءٍ مُهتريء متآكل لا ينفد إليه النّور، ونقشنا بجهلٍ على أبواب عقولنا المُتخنة باللامبالاة والتراخي "لا للنور"، "لا لعلمٍ يوقظ فينا سر الوجود".
فُزنا خيبةً حين ما فاز إلاّ الصّاحون بالدرجات الأُوَل، وحطَّمْنا في النّوم الرقم القياسي لأهل الكهف حتى صار كهفنا المظلم جهلنا وبلاهتنا، وضحكاتنا التي يضحك من قبحها من علّمناهم بالأمس سر الحياة وسر الوجود.
عرفنا قدرنا بأنَّا لسنا للزمان رجالا، فاستحلينا وقتنا الثالث ووقت فراغنا، واستعذبنا والشطح والهز والقيل والقال، وقلّة الأسئلة المحرقة الدّافعة إلى البحث والتفكير، ننتظر أن يتحرك من كان بالأمس يستجدي عند بابنا فكرة، فنتحرك تحرُّك قرد يُجيد التقليد الأعمى بالمحاكاة والصراخ، والضحك.
أصبح البحث والفكر وإعمال العقل عدونا، فألغيناه من حياتنا ومدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، وكأن الجهل ما خُلق إلا لنا فالتصقنا به حتى أصبح لنا عقيدة، سِمة ووشما به نفتخر بين الأمم، بل أصبح لنا سُبة وبه نُعرف. إلْتصقنا بشاشاتٍ على مقاس كفِّ أيدينا الخائرة والناعمة اِلْتِصاق بقَّة على جسد منهار خاملٍ تعِبٍ تمص دمه حين استمرأ واستحلى الحك والهرش، حتى تكوّرت كروشنا وانتفخت، وتقوست ظهورنا وانكسرت.
إلى متى وحلم النهوض فينا يداهن، يراوغ، يراوح مكانه، كابوسا انقلب، حتى أصبح الحلم والكابوس سيان، طال سُباتنا، وعلا غطيطنا وأيقظ العالم من حولنا، ولم يوقظنا، لأنّ لنا في الموت رقدة طويلة سننام فيها ملء جفوننا، لكن اليوم علينا أن نحيا، أن نكون، أن نؤثر أكثر ممّا نتأثر، فليس الزمان زمان نوم، لنستيقظ، ولنجعل من حياتنا شمعة البداية، تحرقنا لتضيء مواطئ أقدامنا لنسير أولا، ونعرف إلى أين نسير، ونُحيي ما مات فينا، لتصير الشمعة قنديلا، فمصباحا يعم نوره العالم، ونستعدّ لزمن يلفظ النّائمين، وأن نتحرك ونحيي أثر الأولين، ونركب الصّعْب بحثاً وجِدّاً وعملاً الكر والفر، ويكفي ما نمنا بالأمس، وظنّ عدوُّنا أنّ شمس غدنا غاربة باردة مظلمة، لا يستبين لها شروق، بل على العكس، نملك من القوة ما يحتاج لصعقة تبعث فينا الأمل من جديد، فقد أتْعَبنا الانتظار والنّظر إلى الخلف، فلْنحيا من جديد أو نُعلن موتنا.
***
ذ. عبد الهادي عبد المطلب
المغرب