أقلام ثقافية
عبد السلام فاروق: الصغيرة الكبرى.. "ميريت" محمد هاشم ومحنة الثقافة!
في الدولتين الأموية والعباسية، على ما يروى، كانت تصك عملات معدنية يسمى أحد وجهيها «الطيب»، والآخر «النقيض». دار ميريت للنشر، في مسارها الثقافي الفريد، كانت عملة من هذا الطراز وجهها الطيب هو الحاضن الصغير الحميم للمواهب الجديدة، ووجهها النقيض هو ناشر متمرد لا يخشى التحيز لقناعات يصنفها كثيرون في خانة ضيقة؛ فيما هي، في حقيقتها، مجرد وضوح يزعج الأنساق الثقافية الراسخة. رحيل مؤسسها، محمد هاشم، ليس رحيل شخص فحسب، إنما هو اختفاء أحد النقائض التي ألزمت المشهد الثقافي المصري، قسرًا أو اختيارًا، بمراجعة ذاته.
هنا، في هذا المقام، لا يليق بنا أن نرثي الرجل برثاء عاطفي. فهاشم، وهو المنحدر من خلفية يسارية تقليدية وعرف السجن في شبابه، كان يرفض أن يختزل في عاطفية التمجيد. الأجدر أن نستدعيه كما كان: مثقفًا ناشرًا، استثمر في الفكرة كما يستثمر الآخرون في السوق، ووظف دار ميريت ليكون نقدها الثقافي رديفًا لإبداع من تنشر لهم، وليس مجرد وسيلة للترويج والتسويق. لقد فهم، بعمق، أن النقد الحقيقي – ذلك الذي يعد عملًا معرفيًّا وليس إبداعًا في ذاته – يقوم بوظيفة أساسية هي غربلة الواقع اليومي بحثًا عن البارقة الكثيفة، عن ذلك الجوهر الشعري المخبوء في قلب النثر المعيش.
ومن هذه الغربلة ولدت سمة داره الأشهر، تلك التي تحولت إلى نكتة ساخرة تختزل مأساة النشر المستقل: أن تكون ميريت حاضنة تربي المواهب حتى تشتد عودها، فتخطفها منها دور النشر الكبرى ذات الموارد التسويقية الأضخم. لقد شكلت هذه الظاهرة نسقًا ثقافيًّا مضمرًا بامتياز فهي تكشف عن اقتصاد ثقافي يقدم الولاء للنجاح التجاري السريع على الاستمرارية الفكرية، ويحول المؤلف من منتج لخطاب ثقافي إلى علامة تجارية قابلة للانتقال. كان هاشم، بوعيه السياسي القديم، يدرِك هذه اللعبة، وربما قبلها كمحصلة حتمية، لكنه لم يتوقف عن تقديم حاضنته تلك، كمن يقدم القرابين لنار يعرف أنها ستلتمهم قرابينه وتتقدم.
لكن ميريت لم تكن مجرد حاضنة ساذجة. لقد كانت، وبإرادة هاشم الواضحة، حاضنة أيديولوجية أيضًا. هنا يبرز الوجه النقيض للعملة، حيث يتحول الوضوح الفكري إلى تحيز ضيق في قاموس الخصوم. لقد حول هاشم الدار إلى منصة لمشاريع ثقافية تغاير السائد، فنشر للأديب سليمان فياض كتابه الجريء «النميمة»، وارتهن بمخاطر ترجمة كتب لكاتب إشكالي مثل حامد عبد الصمد. كان هذا الانحياز، بحد ذاته، شكلاً من أشكال النقد الثقافي الذي يرفض أن يكون النص مجرد علامة جمالية، يعامله كنسق ثقافي مضمر يحتاج إلى تفكيك وإضاءة. لم يكن هاشم يبحث بالضرورة عن الجميل في النصوص التي ينتقيها، لقد كان يبحث عن المخبوء وراء الجميل والقبيح على السواء، عن ذلك الحوار الصامت مع الأنساق المهيمنة.
في هذا، كان محمد هاشم أقرب إلى مفهوم التعددية الخصبة والتي يغترف منها المثقف وهو يغربل انتماءاته الأولى دون أن يلغيها. فقد كان مسيسًا يعيش على قضايا وطنه من بعيد، مما ولد فيه ربما ذلك الإحساس المزدوج بالالتزام والمسافة الذي يسمح برؤية أوضح، وإن كانت أكثر قسوة. لقد حول داره إلى جسر بين التعددية الثقافية التي نشأ عليها في بيئته الأولى، وبين حاجة المشهد المصري إلى أصوات مختلفة تخرجه من أحاديثه المكررة.
لعل المفارقة الأكثر إيلاماً، في مشهد النقد الثقافي الذي نعيشه، هي تلك الفجوة التي تفصل بين اللقاء الشخصي والاقتراب المشروع. لقد التقيته عشرات المرات، هذا الرجل، محمد هاشم. كان حاضرا في مقاهي وسط البلد والجريون، حاضراً في أمسيات الكتب، حاضراً في تلك الشبكة الخفية من الأحاديث التي تشكل العمود الفقري للحياة الثقافية المصرية. معظم أصدقائي، من جيلي وما قبله، نشرت داره أولى تجاربهم، أو أكثرها جرأة. وكانت نسخاً مجانية من إصدارات ميريت تصل إلي، حاملة ذلك الحضور المادي للفكرة، مع إهداء بخط يده أحياناً. ومع ذلك، ظلت كتبي، على تعددها، خارج فهرس دار ميريت. لم يكن هذا إخفاقاً في تقديم المخطوطة، أظنه كان استعصاء متبادلاً ناعماً، تشكل في منطقة ظل ذلك اللقاء المستمر.
هنا لا يعود الأمر يتعلق بـ "النكتة" الساخرة عن الحاضنة التي تستزرع فيها المواهب، لكن يصبح الأمر أكثر تعقيداً: إنه فشل معلن. ففي الوقت الذي كانت فيه "ميريت" تنفتح كحاضنة أيديولوجية على نصوص بعيدة، أو لكتاب جدد، كانت تشكل، بالنسبة لمسار كتابي الشخصي، نوعاً من الحاجز الوجودي. كان حضورها يعلن: هنا مكان للأصوات التي تحتاج إلى من يمنحها الشرعية الأولى، أو للمواقف التي تحتاج إلى منبر معلن. أما أنا، فكنت قد دخلت ساحة النشر من بوابات أخرى، وحملت معي، ربما دون قصد، شرعية جاهزة أو "صندوقاً أدبياً" معرفاً مسبقاً، كان هاشم، بحسه النقدي الحاد، يرفض استقباله داخل جدران حانوته الصغير.
لقد كان هذا الرفض غير المعلن هو أصدق أشكال الاعتراف بجدية مشروعه. فالناشر الأيديولوجي لا يخون قناعاته في سبيل كسب اسم جديد إلى قائمته. كان بإمكانه أن يضمني إلى رصيده كـ "غنيمة" ثقافية، كاسم له وزنه في سوق النشر، لكنه آثر أن يحافظ على نقاء بيته الداخلي. إن داراً كهذه لا تبحث عن النجومية التجارية للمؤلف بقدر ما تبحث عن التطابق الهش والصعب بين روح النص والروح الجماعية التي تشكل هوية الدار. وروح نصوصي، رغم كل الجرأة التي قد تحملها، كانت تنتمي، في بنيتها العميقة، إلى "أنساق مهيمنة" أخرى - ربما أنساق الشكل، أو اللغة، أو حتى الجمهور المتوقع – تتعارض مع منطق "الحاضنة" الذي يقتات على تفكيك المهيمن.
هذا الفشل في التوحد مع ميريت، رغم كل قربي الشخصي منها، هو ما يكشف الطبيعة التراجيدية للمثقف العربي. فنحن نلتقي في الفضاءات نفسها، نشرب القهوة نفسها، نتبادل التحايا والنسخ المجانية، وربما نتشارك في تشكيل "مشهد ثقافي" موحد الظاهر. ولكننا، في اللحظة الحاسمة - لحظة اختيار النص، لحظة منح الشرعية- ننتمي إلى كواكب متباعدة. كان هاشم يبني جسراً إلى السوريالية الأولى عبر الثقافة، بينما كنت أنتمي، ربما، إلى "مصرية ثانية" أو حتى ثالثة، تتشكل في فضاءات النشر الكبرى وأسواق الكتب الدولية. كان حوارنا الصامت هو: أنا لست من "مواليد" ميريت، ولم أكن لأصبح كذلك، حتى لو أردت. كانت داره تدافع عن حدودها الرمزية بحسم صامت، كأنما تقول: نحن هنا لصناعة المعنى من نقطة الصفر، وليس لاستقبال المعنى الجاهز.
وهكذا، فإن رحيله لا يثير في حزن من فقد صديقاً أو صاحب فحسب، بل حزن من فقد إمكانية اختبار ذلك الحاجز ذاته. لقد ظل سؤال لماذا لم أنشر في ميريت؟ سؤالاً حياً، وربما محرجاً، في كل لقاء. وكان جوابه الضمني هو ما منح العلاقة توترها الثقافي الخلاق. اليوم، بانتفاء ذلك الحاجز بغيابه، أشعر أن جزءاً من إمكانية تعريف ذاتي الثقافية قد ذهب معه. فلم أعد ذلك الكاتب الذي يمكن لميريت أن ترفضه، لأن ميريت، بالمعنى الذي صنعه هاشم، رحلت. وأصبحت أمام مرآة ذات واحدة، بلا ذلك الوجه النقيض الذي كان يعيدني، باستمرار، إلى سؤال الموقع والهوية والانحياز.
اليوم، ونحن نودع محمد هاشم، فإن السؤال الذي يفرض نفسه ليس عن مستقبل دار ميريت وحدها، لكن السؤال الجوهري هو عن مستقبل «فكرة» دار النشر المستقلة ذات الخط الواضح في عصر العولمة الثقافية الجارفة. لقد نجح هاشم، مثلما ينجح النقد الثقافي الحقيقي، في كشف عيوب نسقية عدة: نسق الاستهلاك السريع، ونسق الحياد الزائف، ونسق التبعية للتيار العام.
رحل الرجل الذي رفض أن يدخل في معركة فاشلة مع نص رديء، مفضلاً أن يخوض معارك أصعب مع نصوص جيدة في زمن رديء. وفي رحيله، يخسر المشهد الثقافي العربي أحد أولئك الذين ألزموا الكلمة بمسئوليتها، وألزموا الصمت بأن يفسر نفسه.
***
د. عبد السلام فاروق







