أقلام ثقافية

علي الطائي: رسائل أدبية (4): العزلة الالكترونية

إلى من يعنيه الأمر من قُرّاء الزمان وأصحاب الأذهان
كيف آل حال الناس إلى هذا الهوان؟
كنا شعوبًا تتفاخر بجسور القلوب، وتتسامر بألحان الوداد، حتى أضحينا كأشباح تذرّها رياح العزلة على أطراف عالم افتراضي كاذب.
قد اجتمعنا حول الموائد يومًا بأرواحنا قبل أجسادنا، وها نحن اليوم نتقابل عبر شاشات لا ترى أعيننا حقًا، ولا تسمع قلوبنا نبضها.
أيّها الإنسان، كيف رضيت أن تختصر صوت الحياة في رموز باردة، وأن تُجَرّد كلماتك من حرارة الإحساس لتصبح سطورًا مبهمة؟ هل تعتقد أن "الإعجاب" يكفي ليُعيد دفء المودة؟ أو أن "تعليقًا" يرقى لمقام الحضور؟
لقد كانت الحكايات يومًا زاد الأرواح، وكانت الأحاديث الدافئة تُعيد ترتيب الفوضى داخلنا، لكننا اليوم نفرّ من البوح، ونختبئ خلف أقنعة زائفة، نسميها "حسابات".
أفي هذا الركض المحموم نحو السراب، لا نخشى أن نفقد أنفسنا؟
إننا نعيش في زمن انقلبت فيه الموازين؛ حيث تكاثرت طرق الاتصال، لكنّ التواصل قد انقطع، وحيث تسارعت الأخبار، لكنّ الحقائق أضحت ضبابًا كثيفًا.
أيها الرفيق الذي تُناديه روحي في غياهب هذا التيه، عُد بنا إلى بساطة اللقاء، إلى دفء الأحاديث التي تُشفي القلوب، إلى صدق العيون التي تُخبر بما تُخفيه الكلمات. دعنا نستلهم الماضي لنعيد ترميم حاضرنا، ونعيد بناء جسور تقودنا إلى أنفسنا.
يا صديقي، ليست الحياة سوى مرآة لما نبثّه فيها. فإن زرعنا فيها أشباح الوحدة، حصدنا فراغًا أبديًا. وإن غرسنا فيها بذور الحبّ والتواصل الحقيقي، تنفسنا حياةً بألوانها الحقيقية.
إلى من يعنيه الأمر من قرّاء الزمان وأصحاب القلوب التي لا تزال تنبض بالحياة، كيف انقلب حال الإنسان، وهو الذي خُلق ليعمر الأرض بالحب والتواصل، فإذا به اليوم يزرع الشوك في حدائق اللقاء، ويغلق أبواب القلوب بأقفال العزلة؟ كأننا نسير عكس الفطرة، نسابق الرياح نحو جزرٍ بعيدة نُسميها "الحداثة"، لكنّها في الحقيقة ليست سوى أوهام تُبعدنا عن حقيقتنا.
أيّها القارئ المُفكر، تأمل هذا الزمن الذي نعيش فيه: زمن كثرت فيه الوسائل وقلّت الغايات، زمنٌ تزاحمت فيه رنات الهواتف، لكنّها أخرست أصوات المشاعر. أتراه تقدمًا أن نُقابل أحبابنا برسائل مقتضبة؟ أن نُعبّر عن الحزن بوجه كئيب أصفر؟ أو عن الفرح بقلبٍ أحمر جامد؟
كنا في السابق نشكو المسافات، ونتحسر على الغائب، لكنّنا رغم ذلك كنا نعيش قربًا لا تقيسه الجغرافيا. كانت القلوب قريبة، وكان للكلمات أثرٌ لا يُنسى، وكأنّ كل حرف يخرج من الروح ليصل إلى الروح. أما اليوم، فقد أضحت الكلمات سلعًا نشتريها من قواميس مكررة، وأصبحت الأحاسيس قوالب جامدة نُرسلها بضغطة زر.
ما الذي حدث لزمن كان اللقاء فيه عبادة، والمجالس محاريب ودٍ يتقرب فيها الناس إلى بعضهم؟ أفي زحمة هذا العصر، نسينا أن الإنسان إنسان لأنه كائن اجتماعي؟ كيف نرضى أن نستبدل دفء اللقاء الحقيقي ببرد الرسائل النصية؟
أيّها الإنسان، إنّ ما يجري اليوم ليس مجرد تدهورٍ في التواصل، بل هو فقدانٌ لمعنى الحياة. حياتنا لم تُخلق لنعيشها منفردين في عزلة إلكترونية، بل خُلقنا لنعبر عن أنفسنا، لنسمع ونُسمع، لنشعر ونُشعر. قد نظن أنّنا نربح الوقت بتسارع الرسائل، لكننا في الحقيقة نخسر الزمن، نخسر لحظات كان يمكن لها أن تكون خالدة في ذاكرتنا.
لنا في الماضي دروس لا تنتهي. تأمل كيف كان الأجداد يجتمعون تحت ظلال الأشجار، يتحدثون عن أحلامهم، يروون قصصهم، ينسجون من كلماتهم روابط تتجاوز الزمن. لم تكن لديهم هواتف ذكية، لكنّهم كانوا أذكى في فهم جوهر العلاقات. لم تكن لديهم شبكات اجتماعية، لكنّهم كانوا شبكة حقيقية من الأرواح المتصلة بالحب.
أيّها القارئ العزيز، هل نسيت دفء المصافحة؟ هل نسيت كيف لرؤية الابتسامة أن تُبدد أحزانك؟ هل غابت عنك تلك اللحظة التي تتلاقى فيها الأعين، فتقول ما تعجز عنه الكلمات؟ إننا بحاجة إلى أن نعيد اكتشاف هذه المعاني لنعود إلى بساطة الأشياء، إلى دفء اللقاءات، إلى حكايات تُحكى لا تُكتب، إلى أحضان حقيقية لا تُختصر برمزٍ أصفر يضحك أو يبكي. لنفتح قلوبنا مجددًا، ونسمح للإنسان الذي بداخلنا أن يتنفس بحرية.
في الختام، إن الحياة قصيرة، لكنّها لا تُقاس بطولها، بل بما نتركه فيها من أثر. لنكن كالشمس التي تُنير من حولها، لا كالشاشات التي تُضيء ظاهريًا لكنها تخفي ظلامًا داخليًا. فالسعادة ليست في عدد المتابعين، بل في عدد اللحظات التي نعيشها بصدق مع من نحب.
***
بقلم: د. علي الطائي
15-2-2025

في المثقف اليوم