أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

إن الذي يسعى إليه المُشتَغل في المجالِ الإعلامي يتمثل في إمكانيةِ تحقيق الشهرة على أوسع نطاق، ومن المعروف أن معيار ما يحقق الشهرة، أي ما ينبغي أن يعمله المرء في سبيل تحقيق الشهرة، يكمن في تقديم قاموس عملي يؤثر في الواقع المعاش، فضلاً عن الممارسة الإبداعية والعبقرية، والتي من خلالها يتمكن من السيطرة على ذائقة المتلقي للمُنتَج الفني، وبالتالي فبتقديم المحتوى المميز والأسلوب المرهف، يتمكن صاحب الإنتاج الفني من السيطرة على الذائقة المستهلكة لذلك الإنتاج، ولكن نحن نتحدث عن ميديا القرن العشرين وما قبلها، أما ونحن ننظر إلى الإنتاج الفني، من غناء ومسرح وبرامج تلفزيونية والكترونية بشكلٍ أدق، في القرن الواحد والعشرين، فإننا في زمنٍ تكون الغاية فيه تتمثل بخلق الشهيرة لا الشهرة، فبمقدار ما تقدم من عرض ساذج، ويحوي على ممارسات تافهة وساخرة، يكون معياراً لنجاحه ونفاذه لذائقة المتلقي، لان الغاية كما أسلفنا لا تتمثل بأن تكون شخصاً مشهوراً، بقدر ما تكون شخصاً مُشتَهِراً.
والعلة في زمننا لا تكمن في صانع المحتوى الفني فحسب، وإنما في الذائقة الجوفاء التي تتلقى العمل الفني فتهضمه وتتابعه وتُثني عليه، وإذا ما أردنا أن نغيّر من واقع الحال المزري، فما ينبغي عمله في بادئ الأمر، التحقق من مسؤولية الذائقة، لأنها وراء شهرة المشتهر، ومن ثم الولوج إلى ميدان صناعة المحتوى الرسالي والقيمي.
وما نعاني منه في عصر الميديا المعاصرة، سيطرة شخصيات سافلة وهزيلة، ذات إنتاج فني عقيم وتافه، تتغنى وترقص على جراح ما تبقى من ثقافة ومبادئ وقيم، الأمر الذي يدعونا إلى إصلاح ما تبقى من فن، عن طريق مجموعة من الممارسات النقدية على الذائقة الشعبية، في سبيل تعديلها وإعادة توجيه بوصلتها نحو الإنتاج الفني المثمر، لأن ما نححتاجه أولاً في تقويم السلوك الفني، الثورة على تغيير الذائقة الفنية، ومن ثم البدأ في تغيير عملية الإنتاج الفني، وخلق أجواء لصناعة المحتوى الإعلامي، لان البدأ بالأخير من دون الأول يجعله عملاً خاوياً لا يحقق أثراً في واقعية الفن، فضلاً عن تفعيل دور النقابات الرقابية، والتي تتولى مهمة هدم السائد، وبناء سستم فني من نوع آخر، لا يغازل العاطفة فيكسبها، وإنما يعيد توجيه العقل فيُشغّله…
ولكن كيف نريد البحث عن الحقيقة ونحن في زمن الحقائق الافتراضية، كيف ونحن نقع تحت سطوة التحكيم الالكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي، كيف نجد الحلول والأكثر مسبةً عن طريق التفاعل والتعليق على المحتوى المُقدّم هو الناجح والحاصد للجوائز، كيف نساهم في تغيير الواقع الفني ونجد العرض الهابط يحصل على ملايين المشاهدات، على الرغم من أن المشاهدات ليست معياراً للنجاح، ولكن اليوم هي الأصل الرئيس والخيار الفاصل، وهذا ما قصدناه بالشهيرة.
إنه زمن الصعاليك الهابط كما يقول (ألان دونو) في كتابه (نظام التفاهة)…
***
د. حيدر عبد السادة جودة

الشعر البوابية المشرعة للأدب فيها يجتمع جميع معاني الكلمات من كلمات محبة إلى كلمات ثورية وناء سلام وحرب. التقيت اليوم شاعرتين من بوسنيا تسكنان اليوم في هذه المدينة المسالمة والتي تكنى ب أورشليم السويد لكثرة الكنائس فيها ولسواد التسامح والمحبة بين أهلها الكرام. البيت الثقافي اتحاد طوعي لأدباء المدينة يلتقي فيها محبي الأدب في مقرهم الواقع وسط المدينة وفيها مكتبة عامرة يقوم على أدارتها مجموعة طيبة من الأدباء ومحبي الأدب وينظمون مهرجان الشعر الدولي كل عام في شهر أيلول يجتمع فيه شعراء من جميع أنحاء العالم.
الشاعرة البوسنية سانيا أخذتنا بصورة مباشرة إلى أجواء الحرب والمآسي التي أتت بها على شعبها في بوسنيا. الحرب ونتائجها لا يمكن نسيانها بسهولة وتبقى عالقة في الذاكرة الجمعية للشعوب. توثيق تلك الأيام العصيبة كتجربة إنسانية للأجيال القادمة مهمة إنسانية وتقع المهمة على عاتق الأدباء.
قدمت الأمسية الأديبة (انيتا هوگلوند) وشاركت في الأمسية كذلك شعراء من استمعنا من أصول مهاجرة واستمعنا إلى أشعار بالعربية والنرويجية والبوسنية وكذلك باللغة السويدية. وكانت للموسيقى مكانتها والغناء في فرقة موسيقية قدمت قطع موسيقية وغناء باللغة الإسبانية شارك فيه جوفاني، سيمون وعازف القيثارة الرائع ليو.1279 Bosnia


الشاعرة؛ سانيا سينانوفيتش
‎أشباح
‎كانت والدتي تذهب إلى إمام مسجد القرية مرة في الشهر
‎ليست فقط هي ‎بل أيضا نساء أخريات
‎بسبب الأطفال أو الأزواج أو حتى الأبقار
‎كانت تعود دوما إلى المنزل ومعها لفافات من الورق
‎كانت تضعها بين حوافي الباب
‎تلقيها تحت السرير، تخيطها في الفساتين ‎حتى ولو ليلة واحدة
‎لكن حين جاءتني امرأة مجهولة في المنام ‎وقالت يجب أن أحرق كل اللفائف أمام شجرة الكرز الخاصة بنا
‎وبينما كانوا يحرقونها ‎خرجت الأشباح من النيران
‎الأبقار الحوامل، والنساء التعيسات، الرجال، الأطفال السكارى ‎وأخيراً خرجت أمي
‎الفتيات لا يلتزمن بالوقت
‎‎تحت مظلة الغابة الحديدية ‎وضعت يدي على جبين شابة
‎لقد كان الواقع يقودني إلى الجنون
‎لقد نضج الخوف كثيرًا حتى اخترق الضلوع
‎هبت الرياح وحملت معها الأغصان المكسورة في الغابة
‎خلال الليل المظلم ‎أنا ذاهب، أشعر بالأشجار ‎لقد قادوني من وقت إلى آخر ‎
أرتجف بين عالمين ‎في إحدى المرات، تم وضع النساء القلقات في غرف الغاز
***1280 Bosnia

الشاعرة مدينه بيسيتش

تأخذنا الشاعرة مدينه بكلماتها إلى عالم الأحلام ونجد فيها نوعا من التصوف مليئة بأحاسيس المحبة والكثير من الإيجابية. حتى حين تلقي الشعر هناك بسمة غريبة على محياها كانّها تقول لا تموت الأمل ما دمناً أحياء. ‎


وحيدة مع القهوة
‎عظيم ‎أوه، أنت ‎الجمال الأبدي
‎نادوا أولاً
‎حظ مجرب
‎اختيار جيد
*
‎مُغْمَرٌ بِالْحَنَانِ
‎الشوق لا يجف أبدا
‎قف بثبات!
‎الألم مدفوع بعيدا
‎المعرفة المقدمة، ‎طعمه حلو
‎لا يمكن الإطاحة بالسلطة
‎كلمة قوية
‎قلم لا ينضب
‎حديقة غنية
‎الماء الساخن
‎النعمة متناثرة
‎اللطف اليومي
‎شهود على وجودك
***

د. توفيق رفيق التونچي - السويد
٢٠٢٥
....................
https://jonkopingslitteraturhus.se/

منذ ظهورها في أواخر القرن التاسع عشر تمكنت السينما من أن تكون رافدا ثقافيا موازياً للآداب والفنون وعاملا مؤثرا في حياتنا وثقافتنا وذائقتنا، فقد تصدت السينما ومنذ وقت مبكر للمشكلات الاجتماعية التي تنخر بنية المجتمعات على مختلف مستوياتها الثقافية والاجتماعية كما سعت للدفاع عن حقوق الانسان ودعم قضاياه من خلال تنوير الرأي العام والتوعية بالمظالم الاجتماعية التي يعاني منها خصوصا التي ظلت بعضها مهملة في دائرة الظل، فقد اسهمت السينما في تسليط الضوء على معاناة الانسان ودعت الى ضرورة التعامل معها بجدية ومسؤولية والتحذير من اهمالها ومنها المتعلقة بنوازع النفس البشرية وحاجاتها الملحة خصوصا التي تعاني منها المرأة، ومن بين الأعمال السينمائية التي كشفت عن خفايا وكواليس المجتمعات هو فيلم (النوم مع العدو Sleeping with the enemY) من انتاج امريكي عام 1991 والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتبة الانكليزية "نانسي برايس" كانت قد صدرت عام 1987 ومن اخراج الامريكي "جوزيف روبن "، فهذا الفيلم يسلط الضوء على قضية معاصرة لم تنل الاهتمام الكافي من لدن التشريعات والاهتمام المجتمعي على حد سواء ألا وهي فشل بعض العلاقات الزوجية بسبب التفاوت بين طرفي هذه العلاقة سواء ما يتعلق بمستوى الوعي او الفارق في السن او في المستوى الاجتماعي والطبقي، ذلك ان العلاقة غير المتجانسة سرعان ما تبرز عيوبها وتأخذ بالانهيار بعد وقت قصير من قيامها، فالفيلم يتناول قصة حب جمعت بين الشابة الجميلة (لورا) التي ادت دورها الممثلة الأمريكية "جوليا روبرتس " و(مارتن) الذي مثل دوره الايرلندي "باتريك بيرجن " وتتكلل بالزواج الذي لم يدم طويلا بسبب ان الزوج لم يكن يمتلك من المؤهلات اللازمة لأداره العلاقة الزوجية سوى الثروة حيث يظهر الغرور والفظاظة والمعاملة السيئة على شخصية الزوج المتسلط ويعامل زوجته بعنف ووحشية ويعتدي عليها اضافة الى الشك المفرط بها، لتصل الزوجة لنقطة تستعد فيها لفعل أي شيء مقابل التخلص من حياتها البائسة وتؤدي هذه المعاملة الى تدهور العلاقة بينهما بعد وقت قصير من ارتباطهما الأمر الذي يدفع الزوجة الى التمرد والهروب الى مدينة اخرى تتعرف فيها على شاب لديه اهتمامات ادبية وفنية وتشترك معه في العديد من الطباع ويبادلها الحب بكل صدق وانسانية لكن شبح علاقتها القديمة يبقى يؤرقها ويطاردها .
الفيلم فيه من الاسرار والتفاصيل الممتعة على صعيد الاثارة والتشويق التي تكشف عنها المفاجئات وكذلك في الجانب الفني المتمثل بموسيقاه التصويرية التي فازت بجائزة مهمة كما رشح الفيلم لجائزة من اكاديمية الخيال العلمي، يشير الفيلم الى حقيقة هي ان العدو ليس بالضرورة هو الذي يحاربك ويقتلك بالسلاح الفتاك، انما هناك طرق وادوات اشد فتكا ومنها الزوج الذي يصبح مجرما حينما يقتل رغبات زوجته بالإهمال والعجز في تلبية حاجاتها الانسانية، كما هو اناني حين لا يفكر الاّ بنفسه وذلك عندما يقترن بشابة بينه وبينها بون شاسع في العمر والنشاط دون التفكير بما ستملي عليه السنوات اللاحقة من حاجات يكون غير قادر على تلبيتها، لهذا يصبح النوم معه اشبه بالنوم مع عدو . فيلم يتحدث عن المسكوت عنه في واقع المجتمعات الذي يخبئ الكثير من الاسرار التي لا يمكن البوح بها خاصة في المجتمعات التي يسودها نظام اجتماعي صارم .
***
ثامر الحاج امين

 

من المكتبات التي لها فضل عليّ مكتبة ـ عم علي الساسي المطوي ـ رحمه الله وهي كائنة بالقرب من جامع الزّيتونة وقد كنت أمرّ أمامها كل يوم في طريقي إلى المدرسة الصادقية منذ سنة 1964 فاِسترعى اِنتباهي عندما رأيت أوّل مرّة الكتب المرتّبة بإتقان عند مدخلها وكنت أقتني منها كتب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي ثمّ دوواوين نزار قبّاني لمّا وصلت إلى تونس في منتصف الستينيات من القرن العشرين وأذكر أني اِقتنيت منها كتاب السّد لمحمود المسعدي في طبعته الأولى بمقدّمة الأديبين الشاذلي القليبي و محجوب بن ميلاد والذي سيكون أحد الأساتذة الكبار الذين كان لي شرف الجلوس أمامهم في كلية الآداب بتونس وقد تجشّمت قراءة سدّ المسعدي عندما جرى الحديث عنه بكثرة في تلك الأيّام فعزمت عليه وأنا لم أتجاوز الخامسة عشرة من العمر
*
كتبت حينها على صفحته الأولى هذه الفقرة التي لا أصدّق الآن أنّي كتبتها لولا أنها بخطّي حيث قلت (أرجو أن أفهم هاته الرواية...لقد سمعت عنها الكثير...إنها غامضة ...غير واضحة...مجرد هذيان قام به محمود المسعدي ولكن سأحاول فهمها ولو قرأتها آلاف المرات...لأني منذ الآن لم أتناول كتابا ولم أفهمه ...سأفهمه وسيكون واضحا بحول الله...وسيكون الاِنطلاقة الكبرى في حياتي الأدبية الخالدة في 12 ـ 1 ـ 1967)
*
رحم الله عم ـ علي الساسي المطوي ـ فقد كان يتركني بأريحية أن أتصفّح الكتب الجديدة وأقرأ منها ما تيسّر لي ودائما كان يخفّض لي من سعرها
وبجانب مكتبته مكتبة أخرى كانت تبدو على غاية من الفخامة بكتبها المجلّدة الكبيرة على جانبيها ويقابلني صاحبها بزيّه الإفرنجي الأنيق وطربوشه مدخّنا سيجارته وهو جالس في صالونه بجانب مكتبه الكبير غير عابئ بالمارين وكنت أرى معه أحيانا جمعا من الرّجال الكبار المحترمي الهيأة يخوضون في حديثهم وقد علمت بعدئذ أنه مجلس ضمّ بعض الأدباء والمثقفين الكبار في ذلك العهد من بينهم محمد المرزوقي والجيلاني بالحاج يحي ومحمد اليعلاوي ... ويدلف إليهم أحيانا رجل يحمل رزمة من الكتب يبدو أنه يبيعها بالمزاد جيئة وذهابا بين تلك المكتبات التي كانت قريبة من جامع الزيتونة أما اليوم ومنذ سنوات عديدة فقد اِندثرت أغلب تلك المكتبات مثل بقية أخواتها في شوارع باب البحر وتحوّلت إلى محلات لُمجات خفيفة وغيرها من دكاكين الملابس والاِستهلاك السّريع
ذاك زمن جميل بأحلامنا وطموحاتنا رغم ما عشنا فيه من خيبات ونكسات
***
سُوف عبيد - تونس

 

من ذكرياتي الماضية، ما أعيش ضمن أغشيته في بؤرة متنوعة من الألم والوجع، والذي بات يحتل جزء مزدوجا من يومياتي المتحركة. لكنها بالإيمان الفطري، هي الحياة بفتنتها ومآسيها والتي علمتني الجثو على ركبتي والبكاء بلا انقطاع، وطلب الصلح بعدها من علو السماء. كثيرا ما يحضرني التأسي حين أمسي إلى نومي المزعج، ويبقى الماضي يعيش بالمداومة معي في فرحي وحزني.
لم أقدر يوما تفريغ آهاتي المتراكمة من شدة رجة الحياة التي كابدتها وعانيتها لحظة من موت الأمل والحقيقة، لكنه هو الإيمان بالقدر خيره وشره، والذي لن أقدر بالمرة على تغيير منازل قراراته وغيباته. حقيقة مفزعة كانت بشدة الرجة القوية، ومن اللطف الرباني العلي القدير، هي الموت التي ربيتها بين يدي حتى شبابها، وعقدت العزم عن أنها ستكون لي سندا في الحياة، وما تبقى من باقيات العمر، لكن الموت كانت تلعب معي لعبة من الخطف وقتل الفرح، حين أفزعتني في روح مني، وتركتني جسدا بلا نعمة أمل، ولا حلم باقيات.
من ذكرياتي الماضية القاسية بالفزع المريع، والتي زرعت الفتنة بين شعيرات هامة رأسي السوداء والشيبة الذي بدا يغزو حياتي غير رأسي، أني كنت في غفلة من فتنة الحياة الفانية، حتى انتهى أمري في دوامة من الفوضى النفسية المعاكسة بالانتكاسة، ورجة من مشاهد الموت. حينها بات التأسي من ثنايا التذكر الذي لا يرحمني بتاتا، ويفزعني على الدوام، ولا يُشفق حتى بالكاد حنانا ورفقا من وضعي المنهكة والمتعبة من شدة تكسير مرآة حياتي.
تمرُّ الأيام لزاما، وبحق الله لم أقدر على النسيان أو التناسي، بل كان التذكر حاضرا وليس من الماضي. وغير ما مرة كنت أنظر إلى الأحمق، وأُفْتنُ من بلاهته، ومن ضحكته البريئة، والتي لا تحمل ثقلا من تذكر الماضي، ولا مِمَّ أصابه من حمق مرير. لم أكن أخطط بالسلب لمكونات متاهات حياتي بالتدقيق المفرط في المنطق الرياضي. لم أكن أنظر بالانتظار إلى أن القدر قد يكون أشد قسوة وفزعا على ذاتي، ولكنها هي سنة الحياة (فمن له بداية له نهاية). حتى أتى الموت مغلقا في صندوق من المآسي، أتي بلا موعد ولا جرس منبه رنَّ بلا انقطاع، بل عبر هاتف متدفق بالخبر المفزع، وبلا رؤية لفراق الوداع.
قد تكون كلماتي لا ترحمني من البكاء، ومن سيل الدمع في شهر عنفوان زمن الربيع. لأن الموت قضى أمرا لازما، ولا اعتراض عليه، ولا على قضاء الأمر الإلهي (فعال لما يريد). كان بحق جزء من دمي، والذي لم ولن يتكرر البتة، حتى ولو بالاستنساخ الجيني... كثيرة هي المصاعب والمطبات التي تصيبني، ولكني كنت دائما متسلحا بالإيمان أولا، وثانيا بالعزيمة التي لا تيأس من ممرات الحياة المتموجة، لكن قضية الفقد هي من كسرت ظهري انحناء وجثوا على الأرض بكاء، ولا زال الفراق المستديم لا يرحم مشاعري ونفسيتي.
لله الأمر، ومنه البدء والنهاية، ولا اعتراض عن قرارات السماء العليا. من أرحم العلاجات، حين وجدت أن الكتابة بلسم طيب ومرٌّ بذات الوقت، لتطبيب الجروح، وشدِّ الألم بالمسكنات الموضعية. حين وجدت أن كل حرف وكلمة وتعبير من تفريغات الحزن و تذويب جليد الألم من الفقد لأعز الناس. اليوم أحسست أن كل كلماتي تواسيني برفق وحنان. وأن كل حروفي تمسح عن عيني دمعي. أحسست الرأفة والرحمة لا الشفقة من تعابير كتاباتي، والتي باتت تتلحف ثوب البياض اليوم والتذكر. شعرت أن كل حروفي تدفعني لطلب الغفران والرحمة، ودعوات جنة خلد على فقيدي الذي هو قطعة من دمي ومن روحي مهما حييت..
***
محسن الأكرمين

يعرف عن سياحة الغولف بأنها سياحة الصفوة لارتباطها بطبقة الأغنياء الذين تزيد انفاقاتهم على اللعبة على غيرهم الذين يمارسون بقية أنواع الرياضات بعدة مرات، وتقدر إيراداتها ب (17) مليار دولار أمريكي سنويا على نطاق العالم بحسب (الاتحاد الدولي لوكلاء سياحة الغولف) (آي أي جي تي أو). وهي رياضة ظهرت منذ نحو 500 سنة، ويمارسها الملايين، منهم (610) ألف لاعب مسجل في المانيا وحدها. و(3) ملايين في أوروبا في عام 2010. وكان من المتوقع أن يرتفع الرقم إلى (8) ملايين بنهاية عام 2020 على نطاق القارة المذكورة. و(120) مليون على نطاق العالم. فأحسنت الشركات السياحية استثمارها وتوظيفها، لتطرح على شكل (منتوج سياحي)، تقبل عليه فئة النخبة والأثرياء. ففي جزيرة (جيجو) بكوريا الجنوبية على سبيل المثال يوجد (25) ملعبا، تستقطب سنويا (1) مليون سائح غولف دولي ومحلي مقابل (800000) سائح غولف في عام 2008. وتشكل الأيرادات من هذه السياحة (40) في المائة من اجمالي الأيرادات السياحية السنوية في الجزيرة المذكورة التي استقطبت في عام 2009 نحو (6) ملايين سائح، منهم (5.417) ملايين سائح دولي و(0.583) مليون سائح محلي، جاء معظمهم لممارسة رياضة الغولف في ملاعب هذه الجزيرة. أما مدينة (نيودلهي) الهندية فتجذب سنويا أكثر من (4000) لاعب غولف دولي. واستقطبت ملاعب الغولف المغربية ال (20) في عام 2010 أكثر من (68000) سائح دولي، أنفقوا (1) مليار درهم مغربي وفقا ل (جمعية الحسن الثاني للغولف). وكانت هناك خطة لزيادة عدد ملاعب الغولف إلى (40) ملعبا من أجل استقطاب (250000) سائح سينفقون (3.4) مليار درهم مغربي مستقبلا. أما سياحة الغولف في تركيا فتدر نحو (125) مليون يورو سنويا، وتنتشر بالدرجة الأساس في منطقة (بيليك) في (أنطاليا) التي فازت بلقب أفضل وجهة سياحية لممارسة الغولف في عام 2008 على مستوى أوروبا، واستضافت خلال الفترة 14 – 17 تشرين الثاني 2011 معرض (السوق الدولي لسياحة الغولف) المعروف اختصارا ب (آي جي تي ام) الذي نظمته (الرابطة الدولية لمنظمي جولات سياحة الغولف) (آي أي جي أي تي أو)، وبمشاركة (350) منظما للجولات السياحية و(1400) مفوض وغيرهم كثر. كما تعتبر أبو ظبي من الوجهات السياحية المتطورة في هذا المضمار. وقد منحت في العام 2012 جائزة أفضل وجهة سياحية للغولف على مستوى أفريقيا والخليج بعد منافستها مع جهات معروفة في جنوب أفريقيا والمغرب وموريسيوش وكينيا وغيرها. وأيضا إسبانيا التي سجلت ملاعب الغولف ال (270) فيها في عام 2003 إيرادات بقيمة (3) مليارات دولار. والولايات المتحدة الأمريكية أيضا التي مارس نحو (40) مليون فرد فيها رياضة الغولف في عام 2003 ومن خلال (17000) ملعب. أما بلغاريا ففيها (10) ملاعب غولف مرخصة دوليا ومن المتوقع تسجل إيرادات بقيمة (30) مليون يورو بنهاية 2014. ويؤخذ على هذه الرياضة: أولا: ارتباطها بفئة الأثرياء بالدرجة الأساس من رجال المال والأعمال وغيرهم. ثانيا: استحواذ الملاعب الخضراء التي تمارس فيها على مساحات شاسعة من الأراضي المتميزة. فقد أنشىء ملعب (قطامية هايتس للغولف) في جمهورية مصر العربية على مساحة (6780) ياردة، وملعب الغولف الصحراوي في الأمارات العربية المتحدة على مساحة (6791) ياردة، وملعب الغولف بمدينة الملك عبدالله في المملكة العربية السعودية الذي بوشر بتنفيذه على مساحة (780000) م2، وملعب الغولف في جبال كيرينا بشمال قبرص على مساحة (6.232) م2 (18 حفرة)، وملعب غولف منتغمري في دبي على مساحة (265) دونم. ثالثا: استنزاف هذه الملاعب لكميات كبيرة من المياه الضرورية للارواء. فقد بلغ استهلاك ملعب الغولف الواحد الذي به (18) حفرة في منطقة (هواباي) الصينية نحو (2000) م3 من المياه يوميا، و(3500) م3 يوميا في ملعب مماثل في المغرب. وتشير نتائج إحدى الدراسات الحديثة المجراة من قبل (الصندوق العالمي للحياة البرية) (دبليو دبليو اف) إلى أن ملعب الغولف الواحد ب (18) حفرة بالمنطقة يستهلك سنويا (700000) م3 من المياه، وهي الكمية الضرورية لتغطية احتياجات (15000) شخص من مياه الشرب خلال عام كامل.
***
بنيامين يوخنا دانيال
...................
* عن (مقالات في السياحة الرياضية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012.

 

في زحام الحياة العصرية، حيث تذوب الفواصل بين القرى والمدن، وتغمرنا موجات الموسيقى الحديثة، تبقى هناك أنغام خالدة تأبى أن تُنسى. إنها أغاني الزمن الجميل، التي لا تزال تتردد في الطرقات، يتناقلها المارة كأنها همسات الماضي، تتسلل من مذياع سيارة أجرة قديمة، أو تنبعث من نافذة مشرّعة في بيت عتيق، كأنها رسائل حب من زمن مضى.
كم مرة عبرنا بجوار حقل مفتوح في الريف، فسمعنا فلاحًا يهمس بلحن: "فلاح كان ماشي بيغني من جنب الصور...
شافني وأنا بجمع كم وردة في طبق بنور..."أو مررنا بمساء هادئ، فتناهى إلينا صوت أنثوي حالم يردد:"ياما القمر عالباب... مكسوفة مكسوفة منك..."وربما كنا في أحد الأسواق الشعبية، حيث ينبعث صوت فهد بلان من مذياع قديم يردد:"روح يا نسيم أرضها... خبرني عن أحوالها..."ليست هذه مجرد أغنيات، بل هي ذاكرة حيّة، تسكن وجدان الناس وتحمل في طياتها قصص الحب والانتظار، الفرح والحزن، التي عاشتها أجيال سابقة. إنها الألحان التي لا تهرم، بل تظل حاضرة كأنها جزء من روح المكان والزمان.
ذاكرة حية رغم تغير الزمن في الماضي، كانت الأغاني تصل إلى الناس عبر الإذاعة، أو في جلسات السمر، حيث يجتمع الأهل والجيران حول الراديو لسماع صوت أم كلثوم وهي تشدو:"على بلد المحبوب ودّيني...
يا ليل... يا عين..."أو يتمايلون مع ألحان عبد الوهاب وهو يغني:"كل ده كان ليه..؟
لما شُفت عينيه..."
كانت الأغاني تعبيرًا صادقًا عن نبض الحياة اليومية، سواء في الحب أو الفراق، في العمل أو السهر، في لحظات السعادة أو الألم. واليوم، رغم تغير وسائل الاستماع وانتشار الأغاني السريعة، إلا أن هذه الأعمال الخالدة ما زالت تجد طريقها إلى القلوب، ليس فقط لأنها تفوق في جودتها الكثير من الإنتاج الحديث، ولكن لأنها تحمل في طياتها حكايات الناس ومشاعرهم التي لم تتغير رغم تبدل الأحوال.
في الأسواق الشعبية، لا يزال البعض يدندن أغاني عبد المطلب وهو يغني:
"ساكن في حي السيدة...
وحبيبي ساكن في الحسين..."
وفي سيارات الأجرة، ربما تجد السائق يردد مع محمد رشدي:"عدوية... يا بنت السلطان..."
أما في القرى، فما زالت الأغاني التي تمجد الأرض والعمل تُغنّى أثناء موسم الحصاد، أو في ساعات الصباح الباكر، حيث يردد الفلاحون كلمات محمد قنديل:
"يا حلو صبح... يا حلو طل..."
لماذا تبقى هذه الأغاني...؟ ما يميز أغاني الزمن الجميل أنها لم تكن مجرد كلمات وألحان، بل كانت قصصًا قصيرة مغنّاة، تحكي عن الحب والحنين، عن الغربة والانتظار، عن الفرح والحزن. كانت تكتب بعناية، وتُلحن بعذوبة، وتؤدى بإحساس صادق من مطربين عاشوا الأغنية بكل تفاصيلها. اليوم، رغم موجة الأغاني السريعة التي قد لا تتجاوز بضع دقائق وتُنسى بعد أيام، فإن أغاني الماضي تبقى، لأنها خرجت من عمق التجربة الإنسانية، ومن بساطة الحياة وجمالها. ربما يمر الزمن، وتختلف الأذواق، لكن طالما بقيت هناك نافذة مفتوحة في ليل صيفي هادئ، أو قلب مُحب ينتظر، أو فلاح يمشي على الطريق الترابي بين الحقول، فستظل هذه الأغاني تتردد في الأفق، مثل أنفاس الزمن الجميل التي تأبى أن تموت!!
***
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

تخمد إرادةُ الإنسان لأسبابٍ عدّة: تراكم الإحباطات، ضغوط الحياة، الفشل في العلاقات، وأحياناً بسبب إدراكه أن الشيء الذي كان شغوفًا بهِ، لم يعُد يعني له شيئًا؛ أي أن التحوّل نابع من وعيه أولاً بعدم جدوى الحلم الذي رسمه لنفسه أو نمط الحياة الذي توهّمهُ يومًا أنه الأمثل لعيشٍ كريم.
وعلى رأس هذه الأسباب: الحُبُّ! هو أكثر شعور يُشعل ويُضيء الإنسان من جهة، ويكسره وُيطفئ إرادته من جهةٍ أخرى حين يفشل.
الحُبُّ شكّل الثيمة الأكثر ديمومية في التراث الأدبي بجانب معاناة الحياة وتحدياتها، ويبرز كتوقٍ للنجاة وكمصدر للمعنى في عالمٍ متبعثر، يبعث على الإرهاق والاغتراب الوجودي.
حين تأملتُ تجربتي، تبيّن لي أن للحُبّ وجهين: الأول، «الحُبٌّ القَيديّ»، سمته علائقيّ، يقوم على الحاجة للآخر، ويمثّل افتقاراً وعجزًا في الروح. الثاني، «الحُبّ الإفساحيّ»، وهو الأنضج، يشبه حبّ مولانا جلال الدين الروحي لله وللوجود.. حبّ بطبيعته لا يطلب التملّك أو التعلّق، ويكتفي بالمؤانسة الروحية للمحبوب.
رغم قسوة الألم الناتج عن فشل الحب والانطفاء والشعور بغياب المعنى، تبقى هذه التجربة التربة الأخصب لتعلّم حبّ أعمق: حب غير مشروط، وإدراك أن الفراق مجرّد وهم نفترضه عندما لا نعرف من الحب إلا مثاله الأول: «الحب القَيديّ». أما الآخر، الأرقى، فيوقظ وعينا بأننا نتشارك ذات السماء مع محبوبنا، ونفس الوجود، أحياءً كنّا أم أمواتًا!
الفيلسوف الحقيقي هو من يعتق نفسه من آلام الحياة، بفسح المجال لطبيعة العالم أن تكون، دون قيد أو شرط؛ وعند هذا الإدراك، تتحدّد ملامحُ الحبّ في أنقى صوره.
***
خالد اليماني - باحث

صدر عن دار روافد في بيروت، كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» في طبعته الثانية، في (485) صفحة، وهي طبعة مزيدة ومنقحة.
جاء في كلمة الناشر: ((بعد صدور طبعته الأولى؛ حظي كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» للمفكر الإسلامي الدكتور علي المؤمن، باهتمام كبير جداً من قبل الأوساط الدينية والأكاديمية، ونُشر حوله عدد من الكتب والدراسات، وعقدت لمناقشته ندوات وحلقات بحثية، وتُرجم إلى اللغتين الفارسية والإنجليزية. وهذه الطبعة (الثانية) تتميز بإضافات نوعية مهمة.
إن المقاربات المنهجية التي يطرحها المؤلف في هذا الكتاب، هي الأولى في مجال التأسيس لعلم الاجتماع الديني الشيعي، وهي لا تتناول التشيع في أصوله العقدية وقواعده الفقهية؛ وإنما المجتمع الإنساني الذي يفرزه التشيع ومساراته التاريخية، وهوية هذا المجتمع وأنساقه ومكوناته، وهو ما يعبر عنه المؤلف بــ (النظام الاجتماعي الديني الشيعي)، وكذلك القواعد النظرية، العقدية والفقهية، والتراكمات التاريخية التي يستند اليها هذا النظام.

تقف الدراما المصرية اليوم عند مفترق طرق، إما أن تنزلق نحو الهاوية بفعل التكرار والاصطناع أو تعانق السماء بجناحي الموهبة والجدية، حديث الرئيس السيسي عن ضرورة إيجابية الدور الدرامي لم يأت من فراغ ، بل هو صرخة في واد تعصف به رياح التجارة والانتهازية، فالمشهد الحالي يشبه لوحة مرسومة بألوان باهتة، رغم أن التاريخ الفني لمصر يحتفظ في جعبته بلوحات خلدها الزمن، لكن العودة الحرفية للماضي ليست سوى هروب من مواجهة الحاضر، فالماضي جميل لأنه ماض، لكنك إن أعدت إنتاج ذات المشاعر بنفس الأدوات فستحصد دراما أشبه بمسلسلات الأبيض والأسود تعيش في عصر الألوان.
القضية ليست في "ماذا نروي" بل في "كيف نرويه"، العبرة ليست في بطولة النجم الذي يملأ الإعلانات ضجيجاً، بل في سيادة الفكرة التي تتنفس من خلال الممثل لا أن يختنق العمل تحت أضواء نجمه، النظام القديم الذي ينتج مسلسلات كالفقاعات، صعيدي هنا واجتماعي هناك وأكشن في الوسط، كلها تصب في بحر من النسيان لأنها تخلو من روح المبدع الحقيقي، المسلسل ليس سلعة تغلف بأسماء النجوم وتطرح في السوق، بل حكاية تحتاج إلى من يصوغها بيد أمينة، يد الكاتب الذي يعرف أن الحبكة ليست مجرد حواديت تخيط عشوائياً، والمخرج الذي يرى في كل مشهد لوحة يجب أن تنبض بالحياة.
أما الحديث عن "ورش الكتابة" التي تنتج نصوصا كالوجبات السريعة، فذلك أشبه بجريمة فنية ترتكب في وضح النهار، مسلسلات تكتب بين غمضة عين وانتباهتها، حوارات مبتذلة وشخصيات مسطحة، كل هذا تحت شعار "الشعب بيسيبها ويروح يشوف دراما المخدرات أو بير السلم"؛ لكن هل فكر أحد أن الجمهور لم يعد يخدع بسهولة؟ أن عينيه تتعطشان لعمق ما، لذكاء ما، لشيء يلمس وجدانه لا فقط بصره؟
الانتهازيون الذين يلوكون شعارات القيم والأخلاق كذبا، هم وباء ينهش جسد الدراما، يعيدون إنتاج الإسفاف تحت مسميات براقة، أعمال تتدثر بعباءة "الأسرة" أو "البطولات" بينما جوهرها فارغ كقشر البصل، مهمتهم ليست إثراء المشهد الثقافي، بل اصطياد الفرص لتحقيق مكاسب سريعة، لكن النجاح الحقيقي ليس في كم الأعمال، بل في كيفيتها، في ذلك الموسم برهان واضح، "قلبي ومفتاحه" و"ظلم المصطبة" وغيرها أثبتت أن النجاح له عنوان واحد، النص القوي، والإخراج المتقن، والموهبة التي تحترم ذكاء المشاهد.
الحل ببساطة: اقطعوا الطريق على النصابين، سلموا الراية للموهوبين أولئك الذين يعرفون أن الدراما ليست تسلية عابرة، بل مرآة تعكس هموم الناس أحلامهم تناقضاتهم دراما تلامس الواقع دون أن تسقط في فخ الواقعية البائسة تقدم الحلول دون وعظ مباشر تصنع الفرح دون تفاهة الحل أيضاً في إيقاف خط التجميع؛ فلماذا نُنتج عشرات الأعمال الهزيلة إن كنا نستطيع تقديم خمسة أعمال تخلد في الذاكرة؟
الدراما المصرية قادرة على العودة كـ"فينيق"؛ لكن ذلك يحتاج شجاعة في هدم الأصنام القديمة. الأصوات التي تقدس النجم على حساب الفكرة. ترفع شعارات التجديد وهو تكرر الماضي الدراما ليست مهرجاناً للوجوه المعروفة بل ساحة للإبداع الحقيقي. وهنا مربط الفرس فما قيمة أن نصنع دراما "إيجابية" إذا كانت إيجابيتها سطحية كالزبد؟ الأهم أن تكون إنسانية صادقة قادرة على هز المشاعر دون تكلف.
في النهاية المشاهد ليس مغفلاً. والعصر لم يعد يحتمل اللف والدوران؛ إما أن نصنع دراما تليق بتاريخ مصر الفني أو نقبل بأن نصبح مجرد ذكرى في ذاكرة الدراما العربية، الخيار بين أيدينا، والموهوبون موجودون، فهل نسمح لهم بالانطلاق؟.
***
عبد السلام فاروق

الشاعر يمكنه أن يصنع أمة، كما فعل الرئيس "ماو" (1893 - 1976) فهو – برغم ماله وما عليه – صنع أمة الصين، وكان يتفاعل مع مئات الملايين من المواطنين، وإستطاع بشعره وما ينحته من أفكار وتطلعات في قصائده أن يلم شملهم، وينطلق بهم إلى آفاق المجد الحضاري المعاصر، بإلهاماته المتواصلة للذبن من حوله وأعقبوه.
الصين اليوم تمثل خمس نفوس الأرض، وتتسيد على عرش الإقتصاد العالمي، وتمتلك طاقات صناعية لا تُضاهى.
الرئيس ماو وظف الشعر للتثوير الجماهيري والإستنهاض الشعبي والتعبير الوطني بالجد والإجتهاد، والعمل المتوثب نحو المستقبل الزاهر الرفيع.
أدهشتني قصائده وكتاباته التي تستدعي البحث والتقييم لكل قرار تتخذه القيادة، وبهذه الروح البحثية النقدية التفاعلية إستطاع أن يضع الشعب الصيني على سكة الإنطلاق المطلق في رحاب الزمان.
وكان شعره كلاسيكيا ويوظف الطبيعة كرمز ويعبر عن الإرادة والتحدي.
من قصيدة الثلج 1936
"الجبال مغطاة بثلج لا نهاية له
وأنهار الشمال تجمدت تماما
وفي داخل البلاد إنتصبت مئات الآلاف من التلال
لكن، من منهم كان بطلا حقيقيا"
ومن قصيدة إستراحة على جبل لوشان 1934
"الرياح تعصف والسحب تتجمع
الفتال يشتد في المضائق
يجب أن نشق طريقنا عبر الصخور
لأن النصر مرسوم أمامنا"
وهذه من قصائده المشهورة وكذلك قصائد: تشانغشا 1925، المسيرة الطويلة 1936، التاسعة المزدوجة 1929 وغيرها من القضائد الإلهامية الثورية المؤثرة في ترتيب آليات العقول، فقصائده وخطبه كانت أشبه بآليات تفكيك وإعادة تصنيع التفكير في المجتمع الصيني.
فهل لدينا قدرة ماوية شعرية على إعادة تصنيع حياتنا؟
و"الشعر مصباح أقوامٍ إذا التمسوا...نور الحياة وزند الأمة الواري"!!
***
د. صادق السامرائي

في مدينة الحلة، حيث تتعانق الحضارة مع الإبداع، وحيث كل حجر يروي قصة من مجد التاريخ، وُلد رجلٌ لم يكن مجرد خطاط، بل كان سيد الحرف وروح الفن المتجسدة. إنه الأستاذ الجليل، شيخ الخطاطين، السيد حسام الشلاه، الرجل الذي لم يكن قلمه مجرد أداة، بل امتدادًا لروحه، وسفينة تبحر في بحر الجمال والإتقان.
عرفته المجالس الثقافية رجلًا وقورًا، هادئًا في حضوره، عميقًا في فكره، يفيض بالحكمة التي لم تكن يومًا مجرد كلمات تُلقى، بل معانٍ تُجسد في لوحاتٍ تتراقص فيها الحروف، فتتمايل كأنها تنشد قصيدة خالدة. لا يكاد يغادر مكانًا إلا وقد ترك أثرًا، توقيعًا من روحه على جدران الذاكرة. كان يحمله الحرف حيثما حلّ، فلا يفارقه القلم أبدًا، وكأنه بعضٌ من يده، بل بعضٌ من كيانه.
كان مجلسه الثقافي قبلةً لذوي الفكر، ملتقى لعشاق الفن والأدب، حيث تجتمع العقول الراقية لتنهل من نبع المعرفة، وتنهض بالثقافة إلى آفاق أرحب. في هذا المجلس، حيث تمتزج الأصالة بالحداثة، تتجلى شخصيته الفريدة، رجلٌ يحمل في قلبه حبًّا لا ينضب للحرف العربي، يدافع عنه كمن يدافع عن هوية، وينقشه كما يُنقش الوشم على جلد الزمن.
من عادته أن يُخرج قلمه في أي مجلس، لا يقاوم إغراء الورق، فالحروف تناديه، وكأنها تستغيث أن تخرج من العدم إلى الوجود. رأيته ذات يوم وقد جلس بين جمعٍ من الأدباء والمثقفين، تأمل قليلاً، ثم أخرج ورقةً بيضاء، ومدّ يده إلى جيبه، حيث يقيم القلم مقام القلب. بحركةٍ رشيقة، وكأنه يستل سيفًا من غمده، شرع يرسم الحروف على الورقة، كمن ينسج ثوبًا من حرير. لم يكن يكتب وحسب، بل كان ينحت الجمال في فضاء الورق، حتى إذا اكتمل، رفع الورقة وأراها لي، فكان اسمي قد وُلد من جديد، لكن في أبهى صورة، كأنما انبعث من ألقٍ سماوي.
إنه حسام الشلاه، الرجل الذي لم يكن الخط بالنسبة له مجرد فن، بل رسالة، هوية، ونبض حياة. لم يكن الحرف تحت يده خطوطًا جامدة، بل كان حياةً تنبض، وروحًا تتنفس، وعشقًا يتجدد مع كل قطرة حبر تسري على الورق.
في زمنٍ بدأت فيه الحروف تفقد ألقها وسط موجة الحداثة الجامحة، ظلَّ حسام الشلاه صامدًا، كحارسٍ أمينٍ على بوابة الجمال، لا يساوم على مبادئه، ولا يُفرِّط في إرثه العريق. إنه من تلك الشخصيات التي لا يطويها الزمن، بل يُدوّنها في سجل الخالدين، حيث يبقى أثره شاهدًا على أن الحرف العربي لم يكن يومًا مجرد خط، بل هوية تنبض بالحياة، وروحٌ لا تموت.
سلامٌ عليك، أيها الخطاط العظيم، وسلامٌ على يديك التي كتبت الجمال، وعلى روحك التي صنعت مجد الحروف.
***
بقلم: د. علي الطائي
14-3-2025

"ارئ انه لو قتل مائة رجل من رجال القرن السابع عشر في طفولتهم لما وجد العالم الحديث. وغاليلو عميد هؤلاء المائة".. برتراند رسل

غاليلو (1642 - 1564) عالم إيطالي من مؤسسي العلوم الطبيعية الرياضية التجريبية والمادية الميكانيكية، مؤلفه الأساسي (حوار حول منظومتي العالم الرئيسيتين - البطليموسية، والكوبر نيكوسية)
كان الاعتقاد السائد عند الناس حتى عصر الاغريق ان الأرض مسطحة وانها مركز الكون وقد جاءت نظرية العالم الفلكي الاغريقي (بطليموس) مؤيدة لهذه الأفكار فكانت نظريته تقول: ان الأرض ثابته وهي تركز الكون وان الافلال تدور حولها الى ان جاء العالم البولندي (كوبرنيكوس) (1473 - 1542م) فاسقط هذه النظرية وجاء بنظرية تقول: ان الشمس هي المركز الكون وان الكواكب والافلال تدور حولها بما فيها الأرض وقد أصبحت هذه النظرية هي السائدة في العلم الحديث.
إنجازات غاليلو الفلكية ولعلمية
عاش غاليلو في فترة تاريخية مهمه تعتبر نهاية للعصور الوسطى وبأية لعصر النهضة وعصر العلم الحديث، كان غاليلو احد الذين اعتنقوا نظرية (كوبر نبكوس) وكان اول من اخترع التلسكوب ووجهة لمشاهدة الاجرام السماوية وكانت هذ1ه التجربة فريدة في التاريخ فقد مرت على الانسان الاف السنين وهوا لا يرئ السماء الا بعينيه المجردة حيث وجد غاليلو من خلال التلسكوب ما يثير الدهشة والعجب.
بدا غاليلو بدراسة سطح القمر واكد ان سطح القمر مليئ بالارتفاعات والانخفاضات مثل سطح الأرض وقد قدر ارتفاع الجبال على سطحه ثم اخذ يدرس النجوم وقال ان هناك فرقاً بين النجوم الثابتة والمتحركة اما اكتشافه الأهم فهو مشاهدته لأربعة كواكب جديدة اكثر لمعاناً من بقية الكواكب الأخرى حيث اثبت مشاهداته عن طريق التلسكوب ان هذه النجوم هوة كواكب المشتري وثلاثة اجرام سماوية تدور حولة ثم أصبحت أربعة وهي توابع لكوكب المشتري، وبين غاليلو ان الأرض تضيئ مثل بقية الكواكب.
كما كشف عن التشابه بين الأرض والقمر والكواكب وقال انها تتبع نفس القوانين واثبت ان الشمس هي اكثر الاجرام السماوية كمالاً ان هذه الاكتشافات تعتبر ثورة في علم الفلك والفيزياء . ان اهم نتائج اعمال غاليلو هي انه يد بكل جوارحه واكتشافاته نظرية (كوبر نيكوس) وهذا السبب اصطدم بالتفتيش الروحانية والكنيسة واكد ان الكتاب المقدس لم يؤكد نظام مركزية الأرض.
محاكمة غاليلو 1633
اقتيد غاليلو من فلورنا الى روما مكبلاً بالقيود وزج به في السجن وهدد بالتغريب اذا لم يتراجع عن رايه وكانت التهم الموجهة له قولة بكروية الأرض ودورانها وانه بهذا لا يعترف بوجود الله ويخالف الكتاب المقدس وتسمى هذه التهمة بالهرطقة وعقوبتها الإعدام وقف امام المحكمة وقال (اقسم انا غاليلو وانا اركع امامكم واضع امامي الكتاب المقدس، اقسم انني امنت بكل كلمة جاءت في الكتاب المقدس وبكل تعاليم كنيسة روما وقد طلب مني المجمع المقدس ان اتخلى عن الفكرة الخاطئة بان الشمس تقع في المركز ولا تتحرك وبناء على ذلك وبقلب مخلص العن واحتقر هذه الزندقة، واقسم علاوة على ذلك انني اذا خرقت عهودي فأنني اعرض نفسي لكل العقوبات التي تفرضها الكنيسة ضد الملحدين ..) هذه ما قالة غاليلو امام المحكمة وقد ذكرته باختصار نقلاً عن كتاب (رجال عاشوا للعلم) لمجموعة من المؤلفين الأجانب .
لقد أجبرت المحكمة غاليلو على التراجع عن اراءه السابقة وكان تحت ظروف المرض وتقدم السن فافرجوا عنه ورغم تراجعه عن اراءه الا انه تمتم داخل المحكمة بصوت هامس: (ولكن الأرض تدور على أي حال).
***
غريب دوحي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

تنتشر رياضة التزلج على الثلوج في المناطق الجبلية التي تشهد تساقط كميات وافرة من الثلوج ولفترات زمنية مناسبة إلى جانب نشاطات ورياضات أخرى، مثل رياضة الزحافات الثلجية ورياضة تسلق الجبال الثلجية وركوب التلفريك والتخييم في المناطق الثلجية المرتفعة وركوب الزلاجات التي تجرها أيائل الرنة والهبوط بالمظلات وسط الثلوج وركوب الدراجات الثلجية وغيرها كثيرة .
و تمارس عادة في المنتجعات السياحية الشتوية التي تتوفر فيها عادة محطات ومسارات التزلج والخدمات والتسهيلات، بالإضافة إلى محال بيع الأدوات والمعدات الخاصة بهذه الهوايات والرياضات الشتوية (أحذية تزلج، العصي، الأبسة الواقية، الخوذ، القفازات، الأقنعة، النظارات الثلجية ... الخ) .
ومن هذه المنتجعات منتجع (ذي بالاس) الشتوي في غشتاد (سويسرا) ومنتجع (بامبورفو) في جبل (رودبي) في بلغاريا ومنتجع جبل الأولداغ في مدينة بورصا التركية ومنتجع (ميرانو) في إيطاليا ومنتجع (فاريا) في لبنان .
و قد لاقت هذه السياحة في السنوات الأخيرة عدة مشاكل وتحديات جراء تراجع التساقطات الثلجية في الكثير من المناطق التي تمارس فيها هذه السياحة وعلى نحو غير مسبوق، وذلك بسبب الأحتباس الحراري (الأحترار العالمي) الذي بات يشكل مشكلة كبيرة تهدد البيئة من جانب والأنسان من الجانب الآخر، وفي كثير من مناحي الحياة، وخصوصا الاقتصادية منها . فانحسرت على نحو ملحوظ، بسبب ارتفاع درجة الحرارة وقلة الثلوج المتساقطة .
فلو أخذنا فرنسا على سبيل المثال لوجدنا تراجعا في كثبانها الجليدية من (365) كلم 2 في الستينيات من القرن الماضي إلى (340) كلم 2 في الثمانينيات منه . وهي مستمرة بالتراجع لحد يومنا هذا بحسب احدى الدراسات البيئية الوطنية .
أما في النمسا فقد سجلت (97 %) من الكثبان الثلجية انحسارا يتراوح بين (17) و(30) م بالمقارنة بما كانت عليه عام 2010 وفقا لدراسة نشرت في نيسان 2012 . وكان تأثير قلة تساقط الثلوج واضحا على قطاع السياحة النمساوي في الأشهر الأربعة الأولى من شتاء 2011 الذي خسر فيه نحو (9.37) ملايين ليلة سياحية أي (2.2 %) بالمقارنة مع نفس الفترة من العام الذي سبقه . ثم استعاد عافيته بتساقط الثلوج، واستقباله السياح من هواة التزلج على الثلج والرياضات الشتوية الأخرى في شباط 2012 ليسجل زيادة بنسبة (11.76 %) في عدد الليالي السياحية بالمقارنة مع الشهر المماثل من العام السابق .
أما سويسرا الزاخرة بمناطق التزلج على الثلوج مثل (بيتنبرغ، يونغفرو، بيزل، ديابليريتس، زيرمان، ساس في، غاشتاد، كران مونتانا، ليوكيرباد، انترلاكن، هابكريت، وبونغزو) فقد شهدت الغاء بطولة التزلج فيها 2012 لعدم بلوغ الثلوج السمك المطلوب، وقلة الغطاء الثلجي وعدم توفر المستلزمات والموارد الطبيعية اللازمة لاقامة مثل هذه الفعالية الرياضية . وتشير نتائج احدى الدراسات العلمية إلى احتمال زوال الكتل الجليدية المتجمدة فيها بنهاية عام 2100 . الأمر الذي سينعكس سلبا على هذه الرياضة التي تشتهر بها البلاد منذ القدم .
و كان قطاع السياحة السويسري قد عانى خلال الفترة 2001 – 2003 من قلة العائدات السياحية وانخفاض الأرباح بنسبة (8) في المائة بسبب تراجع السياحة الشتوية بصورة عامة، وانحسار الأنشطة الرياضية المرتبطة بها على نحو بين، ولعوامل اقتصادية أثرت سلبا على السياحة الداخلية .
أما في لبنان فقد كان عام 2012 متميزا بالنسبة لهواة التزلج على الثلج حيث سقطت الثلوج بغزارة في فاريا والرز واللقلوق وميروبان من السفح الغربي لسلسلة جبال لبنان الغربية من كانون الأول 2012 وحتى أيار 2012 بعكس سنوات عديدة سابقة، انحسرت فيها هذه الهواية بسبب قلة الثلوج (خصوصا 2010)، بل وانتشرت لتشمل السفح الشرقي المطل على سهل البقاع أيضا، وإن على نحو محدود لافتقارها إلى الخدمات والتسهيلات الضرورية لممارسة مثل هذه الهواية، هواية التزلج على الثلوج التي تمارس على نطاق واسع .
***
...................
عن (مقالات في السياحة الرياضية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012

في قلب هذا الصرح الذي نطلق عليه "المدرسة"، حيث تتشابك أحلامنا مع جدرانها، وتنسج الأيدي التي تبنيها عقولنا، تشرق شمس العِلم بألوانها المتعددة، كل معلم فيها يحمل سِرًّا لا نعرفه، يُلقيه في قلوبنا في صمت، دون أن نلحظ. هذه المدرسة، كأنها كائن حي، يتنفس من خلال الكلمات التي تُكتب على السبورة، وينبض من خلال العيون التي تراقبنا.
أستاذ الرياضيات، أنت الذي تسير بنا في متاهات الأرقام والمجهول، تجعل من المعادلات لغاتٍ سحرية نحتاج إلى فك رموزها. ليس ما نراه في معادلاتك سوى الظاهر، أما عمقها فلا يصل إليه إلا من يملك عيونًا ترى ما وراء الأرقام. تحب أن تتركنا نبحث، ونكتشف، في قلب معادلتك شيء لا نتوقعه. علمك، هو ليس مجرد حل مسائل، بل هو فهم لجوهر الكون، حيث يظهر كل شيء في تناغمٍ لم نكن نراه من قبل.
أستاذ اللغة العربية، فيك تتجسد الكلمات كما لو أنها روح حية، تهمس لنا بأسرارها. لك القدرة على جعلنا نتنفس بحرية بين حروف اللغة، وتكشف لنا أن وراء كل حرفٍ معركة من المعاني، ويخفي وراءه عالمًا بأسره. من خلالك، أدركنا أن اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، بل هي جسرٌ ممتد بين الأزمان والأماكن. أنت من يعيد للزمن رونقه، ويعلّمنا أن الكلام لا يتوقف عند النطق، بل يتغلغل في أعماقنا.
أستاذ اللغة الإنجليزية، فيك كل شيء يبدو كما لو أنه لغز مغلف بالجمال. كلماتك تأخذنا إلى عوالم بعيدة، لا تقتصر على التعلم، بل تجعلنا نغرق في بحرٍ من التفكر والتأمل. تعلمنا منك أن العالم ليس مكانًا واحدًا، بل هو عالم مليء بالتنوع، يكمن فيه كل جمال. أنت من فتح لنا الأفق، وأنت من جعلنا نؤمن أن اللغة ليست مجرد كلمات، بل هي مفاتيح لقلوبٍ وأفكارٍ بعيدة.
أستاذ التربية الإسلامية، علمك هو النور الذي يهتدي به قلبنا. في كل درس منك، هناك رسالة غير مرئية تُكتب في قلوبنا. أنت تعلمنا كيف نعيش مع الإسلام كروحٍ تلامس تفاصيل حياتنا اليومية، لا كواجبات فقط. تسير بنا بين آيات القرآن الكريم، وتُريكنا في كل خطوة جمالًا غير منظور، حيث تكون الحكمة والأخلاق هي زادنا. أنت من يعلمنا أن الدين ليس عبئًا، بل هو سكينة وراحة، وهي تُختصر في روحك التي تفيض بالحب.
أستاذ علم الأرض، أنت الحافظ لأسرار الأرض، الناطق باسم الصخور والجبال والبحار. فيك تكمن القصة التي لم نعرفها بعد عن كوكبنا. تُعلمنا أن الأرض ليست مجرد سطح نعيش عليه، بل هي كائن حي، تتنفس وتعيش وتاريخها مليء بالقصص التي نحتاج إلى الاستماع إليها. وأنت، يا أستاذ علم الأرض، كنت وما زلت المؤرخ الذي لا يُنسى.
أستاذ اللغة الكردية، فيك نجد جمالًا لا يتكرر. لغتك هي الجسر بين الماضي والحاضر، حيث تتحرك الكلمات كما لو أنها تعبير عن هوية لا تُمحيها الرياح. تعلمنا منك أن الكلمات ليست مجرد أصوات، بل هي ألحان تنبع من عمق التاريخ، وتغني الأرواح التي تعشق الأرض.
أستاذ الأحياء، عالمك هو مملكة حية، مليئة بالأسرار التي لا نراها بعيننا المجردة. فيك نجد سر الحياة، وكيف أن كل كائن، مهما كان صغيرًا، يحمل في ذاته أعجوبة. في كل درس، تكشف لنا عن تفاصيل لا تُرى إلا بالنظرة الدقيقة. علمك لم يكن مجرد معرفة، بل هو رحلة في أغوار الكائنات الحية، وعلاقة الإنسان مع الطبيعة.
أستاذ الفيزياء، فيك تتناغم الطاقة والمادة في رقصةٍ لا تنتهي. تعلمنا منك أن الكون ليس مجرد مجموعة من الجسيمات، بل هو منسوج بأحكامٍ لا نراها. كل قانون تشرحه لنا هو دعوة لفهم تلك الأنظمة العميقة التي تحكم وجودنا. وبك، أدركنا أن العلم ليس محصورًا في الكتب، بل هو جزءٌ من تفاعلنا مع العالم.
أستاذ الكيمياء، أنت الذي تعلمنا أن كل شيء في هذا الكون له تفاعل. في كل تفاعلٍ كيميائي، هناك سرٌ غير مرئي. جعلتنا نفهم أن كل ما حولنا هو مزيج من العناصر التي لا تجتمع إلا بطريقة معينة، وكل درس منك هو حكاية تفاعل يتحول فيه كل شيء إلى شيء آخر، ليتغير ويصبح له معنى أعمق.
أستاذ الحاسوب، فيك نجد البوابة التي تفتح لنا الأفق الجديد. علمك هو سر العصر، حيث نعيش اليوم في عالمٍ رقمي، وأنت، من يعلمنا كيف نمتلك مفاتيح هذا العالم. معك، أصبحنا قادرين على أن نغرق في بحر من البيانات، ونستخرج منها جوهرها. مع كل سطر من الشيفرة، نكتشف أن العالم أبسط مما نعتقد، وأن كل شيء قابل للتحليل.
المعاون، هو الجندي المجهول الذي يعمل بصمت، لكنه يحمل على عاتقه الكثير. وجودك في المدرسة يعني النظام والتنسيق، وعملك يتناغم مع قلب المدرسة. لا تحتاج للظهور لتثبت وجودك، بل حضورك في كل مكان يعكس الجهد المبذول في بناء هذا المكان.
مدير المدرسة، أنت قائد السفينة في بحرٍ من التحديات. فيك تكمن رؤية المستقبل، وأنت من يوجهنا نحو الاتجاه الصحيح. عملك لا يظهر للجميع، لكنه يتجلى في كل قرارٍ تتخذه، في كل لحظة تتأكد فيها أن الطريق الذي نسير فيه هو الأفضل لنا جميعًا.
أصدقائي، أنتم الأنوار التي تضيء دروبي في هذا المكان. في كل لحظة، هناك شيء مشترك بيننا، شيء عميق يربطنا رغم كل التحديات. بين يديكم، أرى أفضل نسخة مني، وأشعر أن حياتي ليست سوى سلسلة من اللحظات التي سنعيشها معًا، محملةً بالذكريات والأحلام.
***
سجاد مصطفى حمود

تتميز التجربة الفنية عند الفنان التشكيلي محمود عمامو بتنوع عناوين مراحلها من حيث الاعداد للاعمال الفنية والمعارض وقد كانت هناك مشاركات فنية متعددة حرص من خلالها الفنان عمامو على ابراز هواجسه الفنية التشكيلية التي تحيل الى ما يعتمل لديه خلال ممارسته التشكيلية والابداعية الفنية.
و الى جانب حضوره ومشاركاته الجماعية كانت للفنان محمود عمامو محطة مهمة حيث قدم معرضه الفني الذي ضم عددا من أعماله الفنية وذلك بفضاء الهادي التركي للثقافة والفنون وقد تابع كل من زار الفضاء من فنانين تشكيليين ونقاد وأحباء الابداع التشكيلي معرضا متنوع اللوحات الفنية في فسحة هي بمثابة " السفر العاطفي " حيث عوالم الفنان المعبرة عن أحواله وهواجسه واعتمالات دواخله الأمارة بالرسم والتلوين..
و قبل ذلك كان للفنان موعد مع جمهور الفن في معرضه الفني التشكيلي الشخصي بعنوان أحاسيس بالألوان" وذلك بفضاءات المعارض ب""- émotions en couleurs "
"الرواق" بجوهرة بسوسة بحضور جمع من الفنانين التشكيليين وأحباء الرسم وباشراف مندوبة الشؤون الثقافية بسوسة الأستاذة جليلة العجبوني.. ويواصل الفنان التشكيلي محمود عمامو اشتغاله الفني لتكون له مواعيد فنية ابداعية ضمن سنة 2025 بعد أن عرض بجهات عديدة منها سوسة والعاصمة..
في لوحات الفنان عمامو حساسية فنية وشاعرية مبثوثة في العمل الفني وفق ايقاع داخلي يطغى مع تجريدية بينة فكأن الرسام يبث أحاسيسه يمنحها فضاء القماشة لتقول ذاتها ذاته بكثير من البراءة والحلم..
تخير الفنان التشكيلي محمود عمامو عالمه المشكل للوحاته وفق رؤيته لجمالية بها عفوية واعية تبرز مفردتها الفنية وكأنها في تصميم متقصد يحيل الى ذلك العالم الساحر من رغبات للارتجال تلاؤما مع ما يفضي اليه العمل الفني في سياق من الانسيابية تلوينا وموضوعا وهذا ضرب من الخروج عن مألوف الايقاع الباطني لسياقات معيشة من قبل الفنان فكأنه يرجو اللامنتظر واللامتوقع فقط ما هو منسجم مع احساسه العميق وبطريقته هو فقط.. انه الانسياب للذات تفعل فعلها العميق بعيدا عن بهرج اليومي والآخرين.. انه الانصات لايقاع مخصوص هو ايقاع الدواخل بأحاسيسها المتحركة والمتراكمة والعميقة وقد حفرت في ذات الفنان حكاياتها وسردياتها المختلفة وها هو الفنان محمود عمامو ينصت اليها ويحاورها ويحاولها قولا بلذتها وجمالها.. لذة الفن وجماله..
لوحات مختلفة دالة على عوالم الفنان محمود عمامو فيها موسيقى بينة وهدوء ضاج وسردية ملونة هي عين بوحه وشجنه وبهجته وقوله الدفين وكل ما نسميه الاحاسيس التي عثر عليها في ذاته وبثها بدلال الفن واللون على مساحات القماشة..
نشاط فني تشكيلي ومعارض وتجربة وذهاب آخر من قبل الفنان محمود عمامو للتجريب تفاعلا مع دواخله وبنزعة فيها من الشاعرية الكثير.. تتمعن في اللوحات فترى شيئا منك يبادرك بالرغبة في النظر والتأمل لتلمس بعض المشترك البين في الذات.. للألوان أحاسيس جمة تبتكرها من متخيرها الفنان.. صاحبها.. صاحب الأحاسيس.. واللوحات.. والأفكار..
***
شمس الدين العوني

- لقد كفانا أحد الشعراء ردّا عليهم يا صديقي: "خذوا عيني شوفوا بها "، لأن الآخرين عُميٌ عمّا يرى الحبيب في حبيبته، فلا تكتمل متعة الجسد إلا إذا اكتملت قَبلها متعة البصر، ولكل من الفيزياء والكيمياء ارتباطات دقيقة بالموضوع، علاقات تجمع بين البصر والأذن وحاسّة الشم من جهة، "والأذن تعشق قبل العين أحيانا. " وبين الإفرازات المؤثرة على الجهاز العصبي من جهة ثانية، فأكثر المحبّين جنّوا وكثيرٌ منهم انتحروا، لذلك يجب أن يتقدّم العقل على العواطف وحوار الجسد، من العيب أن يكون الكلب أفقه منّا في تناول أنواع الروائح!
تأوّهْتُ بصوت جارف:
- آه لو تعِيرني يا ابن الهيثم بصرَك ساعة واحدة لأفقه الحياة من حولي، آه لو تفعل ذلك فتمنحني فرصة لأصبح شخصا مهمّا!
ضحك دافينشي وأخبرني بأنه يمكنني سماع صوت كل شيء جميل حتى وإن كان صامتا، نبّهني إلى ذلك ثم تناول قلما وراح يرسم شيئا ما على ورقة مهملة، يرسم ويتحدث في آن واحد:
- الكثيرون مقتنعون بأن الموناليزا أجمل جميلات العالم بالقدر الذي منحتها إيّاه، وسرعان ما يناقضون أنفسهم بادعائهم أني رسمت نفسي على أساس رغبتي في أن أكون امرأة، مع أن الرجل لا يمكن أن يكون جميلا جمال المرأة مهما تنكر بجسدها وأزيائها، الفحول من الرجال يعرفون هذه النظرية جيّدا، ولو كانت هذه الرغبة فعلا متوفرة لبترتُ من جسدي ما أعتبرها أجهزة زائدة وانضممت طواعية إلى مجموعة أوبرا الكاستراتو. المضحك أن بعضهم يقول بأني خائن لصديقي زوجها، لكن الذي لا يعرفه الجميع هو أني رسمت الموناليزا متمنّيا لو كانت زوجتي أو أمّي أو على الأقل أختي، ولذلك انغمسَت فيها وتوغّلت دون أن أدري فرسمتها خلطة من كل هذه الهالات، يعني "كوكتال" من النساء ذوات القربى العائلية المتنوعة، ولهذا السبب اندفع نحوها الرجال والنساء بمختلف الأعمار وأحبّوها؟
وهكذا أيضا كنت واحدا من تلاميذ السيّد المسيح كلما جالستهم في لوحة العشاء الأخير، فعلت ذلك دحضا لحكمهم علي بأني طفل غير شرعي، وفنيّا صرت أرى شرعيتي في حرّيتي وتفكيري ونبوغي، فعرفت من أسرار الحياة ما لا يعرفون وقد وقف الرّب إلى جانبي، لأن أبي مسح خطيئته على ثوب أمّي ومضى إلى الكنيسة حيث صكوك الغفران على "قفا مَن يشيل "، دعنا منه ومن أمثاله فقد ضيّعوا على أنفسهم الحياة الأروع.
- ويحك يا دافينشي لقد صرّحت بأن الموناليزا ليست جميلة جدّا، ألا تخشى بعد ذلك أن تتدنّى قيمتها في العالم؟
- ههههه السّحر في المرأة ألّا تكون جميلة جدّا يا صديقي، بل أن يكون فيها شيء جميل، والأروع أن يكون غامضا، تتحسّسه وكلّما حاولت التساؤل حوله تعاظم أكثر، إنه يشبه الماء المعدني الساخن حين يبدو لك ساخنا من الوهلة الأولى، فإذا غطست فيه وهدأت برُد حولك، وإذا تحرّكت داخله لسعتك حرارته، هو ذا السحر الذي جعل الموناليزا أغلى لوحة في العالم، غير أنهم يخفون عجزهم عن إدراك هذا السحر بقولهم جميلة جدّا وكفى، كخوفهم من دخول ذلك الماء السّاخن بالضبط، كذلك هي الموناليزا تدعوك إلى الغوص فيها، وتهمس إليك بتأجيل البحث عن سحرها، فإذا أمعنت النظر فيها شعرت بأنها تحذّرك من أن تتحرك، وهكذا تستفزّك لتنظر إليها كل مرة في لعبة بصرية أبدية، بهذا السحر تعلّمك كيف تُقبِل على الحياة وكيف تتناولها وتجعلها تتناولك!
وابن الهيثم يضحك عليْ رحت أتوسل إلى دافينشي:
- علمني كيف أعثر على هذا السحر في المرأة يا دافينشي أرجوك.
- ههههه حتّى أنا لم أتمكن من معرفته، وقبل أن أموت جزمت بأنني أتعبت نفسي دون جدوى، ثم تأكدت ألّا أحد يمكنه أن يدرك هذا السّر، وسيظل غامضا حتى يرث الله اللّوحة والأرض وكل مَن عليها.
- حتى أنت يا دافينشي؟
- نعم حتى أنا!
- إذن فأنت غبي مثلنا يا صديقي ههههه.
كان ابن الهيثم يضحك طوال حوارنا:
- ههههه بل الغبي من يعتقد أنه قد وجد هذا السّر، لأنه بذلك يقضي في لحظة واحدة على ارتباطه بمن يحب، وبالتالي يكون قد جنى على نفسه حين وضع حدّا لعلاقته بأي موضوع جميل، الأكيد أن الله أخفى كثيرا من أسراره حتى يجعلنا نتمسك بالحياة، ونتعلم كيف نبحث بها عن الجنة ذلك السر الأعظم، إن السر الذي يشدّنا في المرأة ما هو إلّا تمرين بسيط، لكننا في النهاية ننكب على ما يبدو ظاهرا ونؤجل البحث، وهكذا تتواصل تسلية الله.
- ما أعنيه يا دافينشي أنك تمكنت من حشو لوحة الموناليزا بكل ما يصبو إليه الرجل من افتراضات جمالية في المرأة ولم تَحرِم أحدا مما يتوق إليه فيها. جعلتها وصفة جمالية تتطابق مع كل علل العشاق وأمراضهم، كنت قبل ذلك أعتبر المسألة مادية بمثل ما حدث بين قابيل وهابيل.
- المرأة يا صديقي تشبه الأرض فكلاهما مصدر للفاكهة، فالله يعاقب المتحايل ويحبس قلبه في غشاوة مدمّرة، ثم لا يفقد ذلك السر وحسب، بل يفقد حتى الجماليات الظاهرة في النساء وفي الطبيعة وفي كل شيء جميل، ويظل على هذه الحال حتى يجد نفسه كالأنعام وأحيانا أضل، وقد يموت بسبب جوع آخر غير ذلك الجوع المُتعارف عليه، إنه جوع الشعور بالحياة من حوله، وقد يعجّل إبليس بفنائه فيدفع به إلى الانتحار لأنه لم يحسن حواره مع المواضيع الجميلة.
هل تريد أن تقنعني يا ابن الهيثم بأن الموناليزا مانعة للانتحار؟
- لا أقصد بهذا المعنى الموناليزا تحديدا، بل أقصد كل امرأة طيبة وعفوية تتقن الحب والتضحية، تتفنّن في البذل والعطاء كما تفعل الأرض بالضبط، فهي بذلك تتوفّر على هذا السّر المنقذ من الجوع والعطش والموت والجنون والشذوذ، حتى وإن كانت هذه المرأة قبيحة فلا يمنعها ذلك من أن تكون جميلة الجمال الذي أقصده، لأنه لا بد وأن هناك من يتحسّس فيها ذلك السّر ويجذبه إليها، وهكذا يستصلحها وينجب معها فاكهة وزرعا وخيرات كثيرة، وكلما عاشرها أكثر زاد حرصه بحثا عن ذلك السّر، يظل يبحث حتى يدرك أحدهما الأجل أو كلاهما.
أُعجب دافينشي كثيرا بقول ابن الهيثم:
- صحيح ما قلته يا صديقي، فمن سيطرت عليه تجربة عاطفية وجعل كلما تذكّرها شعر بالبؤس فله أن يجلس لمدة ساعة أمام الموناليزا، ليكتشف أن المرأة التي توهّم أنه فشل في الارتباط بها إنما كان سرّها لرجل غيره، فإذا فعل ذلك باهتمام نام كالطفل على وقع ملامح الموناليزا ثم استيقظ ناسيا كل شيء، فالمرأة لا يجب أن نسهر الليل نخطط للوصول إليها كما يفعل اللّصوص لأنها لا تشبه مغارة علي بابا.
إنه الموضوع الوحيد الذي لا نستطيع الحصول عليه إلاّ بالصدق والعفوية والبساطة، وقد تكون الموناليزا بمثابة سوبر ماركت زاخرة رفوفها بجميع مقتنيات عشاق المرأة، فهي تعوّضهم ما حُرموا منه في الدكاكين الصغيرة، أو فقدوه في غمار تجارب سابقة، فالموناليز إذن وصفة إنسانية طبيعية لا تحتوي على مؤثرات جانبية سيئة، كالتي تحتويها وصفة لوكريشيا دوناتي أو مارلين مونرو أو تلك المطربة صاحبة الغمزة الشهيرة.
- أتريد أن تقول يا دافينشي أن الموناليزا مهدئ عاطفي!
- هو ذا ما قصدته بالضبط، فهذه اللّوحة رمزية لعلاقة زوجية أبدية مقدسة هادئة، العلاقة التي يُفترض أن كل إنسان سوي يتمنى أن يسكن إليها مدى الحياة، وليست تلك التي يتعاطاها خفية كالممنوعات، أو عَلَنا كارتباط اجتماعي حتمي لا يرتكز أساسُه إلّا على الوثائق المدنية، ولا نتحدث عن المقتنعين بعمومية استهلاك الجسد، فهؤلاء عندما تجاوزوا الحياء من الرّب صار لم يعد لديهم شيء يخفونه من أعضائهم، ذلك لأنهم اقتنعوا بأن السّر المقصود محصور في الجسد، وفي ما يمكن أن يبذله من أوضاع جنسية ولاشيء غير ذلك.
لا تدري يا صديقي كم كنتُ سعيدا عندما أنهيت رسم الموناليزا، فقد شعرت بأني نجحت في إظهار ما كان أبي يواريه عن الكنيسة، فعندما رفض أن يُدمِج أمّي في العائلة قرّرت أن أجعلها موجودة في قلب كل فرد في العالم، أبي كان نموذجا صارخا لتلك العبثية الجسدية السّائدة، فالرجل إذا بحث عن نقطة الجذب في المرأة على خريطة الجسد، صارت قبيحة بسبب ما تركته الخطيئة من أثر في روحه، فالموناليزا تقنعك أن منبع الجذب هو الروح، أمّا الجسد فهو تحصيل حاصل، ومكمل لحالة التآلف العاطفي، فكل الذين ارتبطوا بزوجاتهم حتى الشيخوخة إنما ظلوا يبحثون عن موطن الجذب في أرواحهن طوال حياتهم، ثم لم يأبهوا بأنفسهم حتى شاخوا ثم ماتوا.
هذا هو الزّواج المثالي عند الأسوياء وأصفياء الأرواح، فالعلاقة الزّوجية المقدّسة الأبدية ليس لها علاقة بلغة الجمال ولا بخريطة الجسد، مريم العذراء لم تكن جميلة ذلك الجمال المتفق عليه بين مدمني الفاحشة، فلقطات المرأة الفاتنة وإن كانت ساحرة ومثيرة فلا عمر لها، الموناليزا بعيدة أيضا عن هذا الجمال الهندسي الذي مكّن أكثر النساء من السيطرة على مسابقات أجمل وجه امرأة في العالم، الجمال الحقيقي يا صديقي هو الذي يمنحك وجدانا إنسانيا عميقا صادقا ومستمرا، وليس ذلك المرتبط بالمال والشهرة كعارضات الأزياء وبطلات أفلام الجنس.
***
- عبد الباقي قربوعه / الجزائر.
.........................
فقرات مختلفة مرفوعة إلى المرأة في عيدها العالمي.. من رواية معمودية الثلج..

تزخر كوريا الجنوبية بالكثير من الموارد والمقومات الطبيعية (الشواطئ، أنهر، ينابيع مياه معدنية، غابات.. الخ) التي تشكل حجر الأساس لكثير من النشاطات والفعاليات الرياضية، بالإضافة إلى الكثير من العناصر الأصطناعية (أرصفة زوارق، ملاعب بيسبول وغولف وكرة قدم وتنس، أحواض سباحة، حلبة سباق سيارات وخيول... الخ) التي تجعلها قبلة متميزة تجذب السياح لغرض الرياضة (مشاهدة ومشاركة)، وللأغراض الأخرى المتعلقة بشتى أشكال وأنماط السياحة، ترفيهية كانت أو ثقافية أو ترويحية أو صحية أو أيكولوجية، بدليل استقبالها ل (1.02) مليون سائح أجنبي من مختلف بلدان العالم في شهر تموز 2012 وحده، وفقا لاحصائيات (وزارة الثقافة والرياضة والسياح الكورية، و(5.33) مليون سائح خلال الفترة من كانون الثاني إلى نهاية حزيران 2012 بحسب (وكالة أنباء كوريا الجنوبية) المعروف اختصارا ب (يونهاب)، بزيادة نسبتها (23) في المائة بالمقارنة مع الفترة المماثلة من عام 2011، وقد ساهمت بفعالية في التخفيف من العجز المالي في القطاع السياحي الكوري إلى (140) مليون دولار أمريكي فقط للفترة (كانون الثاني – أيار)، وبفارق (1،9) مليار دولار عن نفس الفترة من عام 2011، نتيجة الفرق الحاصل بين النفقات السياحية لهؤلاء والنفقات السياحية الموجهة للخارج (الفرق بين حجم السياحة المستوردة وحجم السياحة المصدرة). والرقم قابل للزيادة ليبلغ (11) مليون سائح بنهاية عام 2012، مع إمكانية تحقيق فائض سياحي مناسب.
و كان لاستضافة كوريا الجنوبية دورة الألعاب الآسيوية 1986 (سيول)، ودورة الألعاب الأولمبية الصيفية 1988، ودورة العاب الجامعات الشتوية 1997 في (تشونجو)، ودورة الألعاب الآسيوية الشتوية الرابعة في كانون الثاني 1999 في (كانغ وان دو)، مع إقامة مؤتمر السياحة الدولي للفترة من 11 أيلول إلى 30 تشرين الأول 1999 بمشاركة (3) ملايين زائر. ومن ثم استضافتها لمباريات كأس العالم بكرة القدم (النسخة 17) في ملاعبها (سيول، دايجو، أولسان، سون، جوانجو، بوسان، أنشيون، دايجون، سيوجويبو، وجيونجو) خلال الفترة من 31 أيار إلى 30 حزيران 2002 بالمشاركة مع اليابان كبير الأثر في تنمية وتطوير الحركة الرياضية في البلاد من جهة، وازدهار السياحة الرياضية فيها من جهة ثانية، وقد لحقتها جملة إنجازات وتطورات في مجال البنية التحتية والفوقية، كان آخرها انشاء حلبة دولية كبيرة لسباق السيارات بطول (5.621) كيلومترات في (يونغام) من أجل سباق الجائزة الكبرى الكوري لسباق السيارات (فورميولا 1).
و ترتبط السياحة الرياضية في كوريا الجنوبية بنشاطات وفعاليات رياضية وترفيهية عدة، منها رياضة الغوص، وتنتشر في (سيوجيبو) على الجانب الجنوبي من جزيرة (جيجو) ومناطق أخرى. وأيضا رياضة التزلج على الثلوج التي تنتشر في منطقة الساحل الشرقي من (هو جيد بو) إلى (بوسان) التي تستقبل في (كانون الأول – آذار) من كل عام ما يربو على (1) مليون سائح محلي وأجنبي، والزاخر بالمنتجعات الشتوية التي تتوافر فيها شتى أنواع الخدمات والتسهيلات المتعلقة بهذه الرياضة، ومنها مكائن انتاج الثلج الصناعي من أجل استمرار موسم التزلج على الجليد في المنطقة أطول فترة ممكنة. وأيضا في وادي (ميونج كيوتشون دونج) الشهير بمنتجع (ميجو) الشتوي. ومن أشهر منتجعات التزلج فيها (دراغون فالي سكي ريزورت) و(ألبس) و(يونجين فارم لاند) و(جونماسان) و(بيرس تاون) و(يونجبيونج). أما الرياضات المائية فتنتشر في منطقة (يونغ ان) المعروفة بمجمعها الرياضي والترويحي.
و أيضا الرحلات المائية في نهر (الهان) بجسوره ال (20) وبطول (48) كلم الذي يعج بالسفن والزوارق التي تستقبل الزوار والسياح من أرصفتها العديدة (غابة سيول، جام سيل، يونيدو، توك سوم، جام دو بونغ، يانغ هويه، وسانغ ام)، وتسير بهم برحلات تستغرق عادة (60 – 90) دقيقة. تشاهد من خلالها أجمل مناظر العاصمة (سيول). وقد أجازت (وزارة الأراضي والنقل والشؤون البحرية الكورية) أخيرا لشركة (هارموني) لتسيير رحلات بحرية على ميناء (يوسو) على هامش معرض (حياة المحيط والساحل) (أكسبو) (12 أيار – 12 أب 2012) الذي كلف الخزينة الكورية (1.4) مليار دولار امريكي، وبمشاركة (100) دولة، ليستقبل (8) ملايين زائر.
كما تشتهر المنطقة الواقعة بين (تونهي) تشانغ جون) بالقرب من جبل (كيمجانجسان) بالرحلات البحرية الترفيهية، وأيضا المنطقة الواقعة بين (تشونجو) و(تانيانج). وهناك رحلات متاحة في نهر (ايم جين جانج) بواسطة القوارب الشراعية . وتنتشر رياضة السباحة في شواطئ الساحل الغربي (ماليبو، تايجون، بيونسان) من بداية تموز وحتى نهاية أيلول، وشواطئ الساحل الجنوبي مثل (نانيلدا وهايوندا) التي يشهد سنويا مسابقة اليخزت. وأيضا شواطئ الساحل الشرقي (باهانج، كيونغ دا).
و قد حظيت مدينة (بيونج تشانج جان) الكورية بشرف استضافة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2018 بعد تفوقها على (انيسب) الفرنسية و(ميونخ) الألمانية، وحصولها على (63) صوتا مقابل (7) أصوات لانسيب و(25) صوتا لميونخ. علما كانت المدينة قد أخفقت في استضافة دورتي 2010 و2014 لصالح (فانكوفر) الكندية ومنتجع (سوتشي) الروسي.
و هذه مؤشرات قوية على تطور وازدهار الرياضة في جمهورية كوريا الجنوبية، وخصوصا بعد تحقيقها لنتائج قياسية وفوزها ب (28) ميدالية في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية (30) 2012 في لندن. منها (13) ميدالية ذهبية في مبارزة السيف والجودو والرماية والقوس والنشاب والجمباز والمصارعة والتايكوندو، بالإضافة إلى (8) ميداليات فضية في السباحة والمبارزة بالسيف والرماية وكرة الطاولة والتايكوندو والكلاكمة، و(7) ميداليات بونزية أخرى في القوس والنشاب والجودو والمبارزة بالسيف وبدمينتون (تنس الريشة) وكرة القدم، إثر مشاركتها ب (245) رياضيا ورياضية، تنافسوا في (22) نوع رياضي.
***
بنيامين يوخنا دانيال
.........................
- عن كتاب (مقالات في السياحة الرياضية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012.

 

في زمن ما، في تاريخ ما، كنّا أحياء. وُلدنا أحياء لنحيا ونُعلم الآخرين سر الحياة، وُلدنا لنُحيي في الموات الحياة.
فرشنا للعلم بُسطا لتحيا الحياة، وتنمو على حوافها الأزاهير، وتُشرق الأرض بنور أسرار رجالها العارفين والحاذقين والرّبّانيين وأهل الحرف واللسان، طرّزنا الظلام نورا وألوانا، وأشعلنا بالعلوم مصابيح على هُداها سار الغاطّون في نوم جهلهم في عصور ظلامهم. تجرّأنا على علوم الغابرين في الطب والفلك والفلسفة والحساب وعلم الكلام، واقتحمنا حصون اليونان وأسرار الأولين، وأنزلنا ما سكن الفضاء، وأخرجنا ما اختبأ تحت الأقدام، بنينا الحصون وأبدعنا ما وراء البحر فراديس تفغر أفواه الحالمين.
وكأن الزمن توقف، وانقلبت الموازين، وصار العلم جهلا والحلم كابوسا، حين فقدنا الفردوس، ولَفَظنا التاريخ من سجلاته، وتجشَّأ نثن هواننا الضارب في عمق ذواتنا البئيسة حين تنكَّرنا لنا، ولأوَّلنا.
وفي زمن ما، وتاريخ ما، بعدما كنا نقود العالم إلى براري الأمان، أعلنا جهاراً موتنا بالسكتة القلبية والدماغية، وغنّينا باللحن والرقص أنّنا فُرجة بالمجّان، فُرجة أصبحنا. سرنا سير ضعفائنا المتخاذلين حتى أصبحنا ضعفاء يأكلنا الضعف والخوار، تآكلنا وأكل بعضنا بعضا، خاطبنا ضعفائنا على قدر عقولهم الخائرة، ولم نرتق بهم لنصل معا إلى القمة، حتى أصبحت عقولنا عقول العصافير، وأجسادنا أجساد بغال تحسن الاستهلاك وملء البطون، وهز والأرداف، وكثرة الكلام والقيل والقال.
استحليْنا النوم واستعذبنا مواقع الصفوف الأخيرة، حين تسلَّح الآخرون، علناً وفي غفلة منا، بما كان لنا بالأمس نورا نهدي به الضالين والسائرين عُميا وصُما وبُكما. تركنا الفردوس الزاهي والقلوب تنز دما ويأسا وعويل نساء، ومن قبله رَفَسْنا رفس بعير هائج شواهد من كانوا للعالم قادة.
تنكّرنا لأسياد ساقوا بعزة طوابير التائهين، ودفنا عند أعتابهم سر الكلام، وعزّة النّفس، والنخوة والكرامة، فانْقَدْنا كقطيع يحسن الاجترار وترديد الكلام. دفنا الماضي، وأهلنا على لحْده التراب، وأغمضنا أعيننا على الماضي وأغلقنا دونه منافذ الصحو، وأقبرنا جذوة النّور فينا، فادْلَهَمّ الحاضر وتاهت بنا الطرق نحو المستقبل فوقفنا، وطمسنا معالم من ساروا بعزة نفْس وإباء نحو المدى يضيئون سوادا جنَّ وران على قلب العالم، وأغمدنا حلمنا في غِمْدٍ صديءٍ مُهتريء متآكل لا ينفد إليه النّور، ونقشنا بجهلٍ على أبواب عقولنا المُتخنة باللامبالاة والتراخي "لا للنور"، "لا لعلمٍ يوقظ فينا سر الوجود".
فُزنا خيبةً حين ما فاز إلاّ الصّاحون بالدرجات الأُوَل، وحطَّمْنا في النّوم الرقم القياسي لأهل الكهف حتى صار كهفنا المظلم جهلنا وبلاهتنا، وضحكاتنا التي يضحك من قبحها من علّمناهم بالأمس سر الحياة وسر الوجود.
عرفنا قدرنا بأنَّا لسنا للزمان رجالا، فاستحلينا وقتنا الثالث ووقت فراغنا، واستعذبنا والشطح والهز والقيل والقال، وقلّة الأسئلة المحرقة الدّافعة إلى البحث والتفكير، ننتظر أن يتحرك من كان بالأمس يستجدي عند بابنا فكرة، فنتحرك تحرُّك قرد يُجيد التقليد الأعمى بالمحاكاة والصراخ، والضحك.
أصبح البحث والفكر وإعمال العقل عدونا، فألغيناه من حياتنا ومدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، وكأن الجهل ما خُلق إلا لنا فالتصقنا به حتى أصبح لنا عقيدة، سِمة ووشما به نفتخر بين الأمم، بل أصبح لنا سُبة وبه نُعرف. إلْتصقنا بشاشاتٍ على مقاس كفِّ أيدينا الخائرة والناعمة اِلْتِصاق بقَّة على جسد منهار خاملٍ تعِبٍ تمص دمه حين استمرأ واستحلى الحك والهرش، حتى تكوّرت كروشنا وانتفخت، وتقوست ظهورنا وانكسرت.
إلى متى وحلم النهوض فينا يداهن، يراوغ، يراوح مكانه، كابوسا انقلب، حتى أصبح الحلم والكابوس سيان، طال سُباتنا، وعلا غطيطنا وأيقظ العالم من حولنا، ولم يوقظنا، لأنّ لنا في الموت رقدة طويلة سننام فيها ملء جفوننا، لكن اليوم علينا أن نحيا، أن نكون، أن نؤثر أكثر ممّا نتأثر، فليس الزمان زمان نوم، لنستيقظ، ولنجعل من حياتنا شمعة البداية، تحرقنا لتضيء مواطئ أقدامنا لنسير أولا، ونعرف إلى أين نسير، ونُحيي ما مات فينا، لتصير الشمعة قنديلا، فمصباحا يعم نوره العالم، ونستعدّ لزمن يلفظ النّائمين، وأن نتحرك ونحيي أثر الأولين، ونركب الصّعْب بحثاً وجِدّاً وعملاً الكر والفر، ويكفي ما نمنا بالأمس، وظنّ عدوُّنا أنّ شمس غدنا غاربة باردة مظلمة، لا يستبين لها شروق، بل على العكس، نملك من القوة ما يحتاج لصعقة تبعث فينا الأمل من جديد، فقد أتْعَبنا الانتظار والنّظر إلى الخلف، فلْنحيا من جديد أو نُعلن موتنا.
***
ذ. عبد الهادي عبد المطلب
المغرب

تحية وسلاما،
وبعد،
سيدي الرئيس
إنه من دواعي سروري أن أخطّ لكم بعض شجوني، أعبَر عن قلقي، حيرتي، أسفي فأنا ما وجدت حلا غير هذا، فأرجو أن تصلكم رسالتي وانتم في مزاج حسن، لقراءتها بشغف …
أنا مواطنة صالحة تحب الخير للبلد، تحترم نفسها وتحترمكم، فهات لي يدكم، وانصت لخفق قلبي، كم هو يختلج، لست مجرمة، أبحث عن عفو، أو براءة، فقط انا معذبة في أرضكم..
سيدي الرئيس، لم أضع لك سما في رسالتي، فلا تجزع، ولا تدْعُ خدما أو حرسا لفتحها غيرك، ولا تدْعُ عُدُولَ إشهاد أو كتّابا لتلاوتها عليكم، ولا تجمع من حولك حاشية ولا شهودا ليشهدوا على ما دُوِّن فيها،
سيدي الرئيس
خبرت أنك لا تثق في إنس ولا حتى إبليس،
وأنك مولع بالعربية إلى حدّ الثّمالة، ففاكهتك عربية، أطباقك عربية، السّوائل التي ترتشفها عربية، فأنت عربي، من الرأس حتى القدم بالرغم أنْ ملامحك تقول أنّك قادم من كوكبة غير كوكبة العرب، أنا مثلك... لا أشبه العرب في شيء، أشبه الغجر، غير أني أحمل مثلك الهوية العربية، أنتمي لبلد عربي، أحمل فكرا ودما عربيا، ومن هذا المنطلق سيكون حديثنا بلا منازع من ألفه إلى يائه عربيا،
سأناديك سيدي، مولاي، حضرة الرئيس، في أدب وهمس وهسيس، وأنتظر منكم الإذن في الكلام، والاذن في السلام، والاذن في الجلوس، فلن أكون ثرثارة كما النّواب، لا ماكرة كما الذّئاب، ...
سيدي الرئيس
انا مثلك أحب الانزواء، لا أثق بمن يحوم حولي، وحتى الهواجس اتجنّبها، والنّقاشات الحادّة أتجاهلها، أنا مثلك، تماما، وديعة كالحمل، نقيّة كالحليب، بل أكثر، لأن الحليب بات مغشوشا، فما عدت أشربه منذ تعرضت أبقار جارنا الفلاح لعمليْة تسمّم، وماتت جميعها، ولأنه فقد كل ما عنده وما يملك، فقد كرامته، وعزّته، واضطرّ للتّسوَل فتخلّى عنه الأهل والجيران والرفاق وكذلك الحرفاء، وحتى الزوجة والابناء،
سيدي الرّئيس
كل ما في الأمر، أني من سلالة الانبياء والشرفاء، أتكشّف على الحقائق في المنام، وكأني أمام شاشة تلفاز، أرى الوجوه دون أقنعة، أرى أنيابهم كالسيوف لامعة، أرى اياديهم ملطْخة بالدماء، أرى بطونهم كالبالونات، أراهم في السرايا وفي فاخر الفيلات، والنساء تقبل عليهم، من كل الجهات، يحملن البيانات، يحفظن الشعارات، يرتدين ملابس العاهرات، يجلسن في الخمارات، يغادرن وهنّ يمسكن بالازهار باقات باقات، وعلى صدورهن، رسمت أبهى اللوحات، وقصائد غزل خطّت على نهودهنْ بدم الخفافيش، فلا يشوبها زغب ولا ريش،
سيدي الرئيس
كل ما في الامر أني لا أفكر، لا أدبّر، لا أتكتك، لا أخطط، أنا فقط أشعر، اتكشّف، أعبر، أكتب، فما ذنبي إن تعرّت حقائق، وما ذنبي إذا افتضح أمرهم وبانت نواياهم، انا ما اشتركت في كتابة دستور، وما حرّضت على انقلاب، وما وقفت يوما في اعتصام، ولا مع المحتجين، أنا جدّ بيوتيّة، وتقليدية، قديمة قدم قرطاج، فأنا ما قلت ان اصولي بربرية، ولا والدتي أمازيغية، ما تناولت موضوع السبية والاغتصاب ولا الخطف والاستبداد، ولا وصفت بشاعة الاستعمار وما ارتكبه في حق السكان والانسان، أنا أكره التبكي، وأكره التشكي، فكيف أبوح للقراء بسري، أذكر فقط أني كنت شهوة شجرة تفاح، واني ابنة فلاح، وان شهريار خطف أمي قبل ليلة الزفاف، وكانت له منها إلف شهرزاد، وشهرزاد، ليس سواهن يدخلن خدره حتى الصباح، وليس سواهن تحدّثن عن العشق المباح، فما لاح فجر وما لاح فَلاح، وحدهنّ يُؤذّنّ ويدّعين الدّيك صاح،
سيدي ألرئيس
أردت أن أحدثك عن قضيتي، لكني لم أجد بطاقة هويّتي، فكيف أقنعك إني عربية، وكيف أثبت إن دمائي فلسطينية، وكيف أبيّن إني من أمة اسلامية، أعلم أن القوانين سنّت لتزجّ بالمغفلين في السجون، ولتحمي المخادعين، إن المغفل بائس ومسكين، يحلم بعيش كريم، وبيت وعمل وخبز ولحم وتين، لا يهمه من كتب القوانين، ولا يسأل عن تفسير الدين، تكفيه بسم الله الرحمان الرحيم، وتكفيه الحمد لله رب العالمين، وعلى الضّالين آمين، ونحن الشعراء، لا تهمنا عيشة الأمراء، نريد فقط التغزل بالنساء، نريد الهوى بدل الهواء، نريد عصير العنب بدل الماء، وكل شاعرة من النساء، تكفيها أن تشبّهها بهيام، وتكفيها قبلة المساء، وتكفيها ضمة الاحضان وسرير من ريش النعام، ورشفة حبّ وأمان...
هل رأيت يا سيدي حلم البسطاء، خبز وماء وعيش في سلم وأمان، ومحفظة ومحبرة واقلام، ومعقم للقروح ودواء أحمر للجروح واسبيرين ومسكّن للآلام،
سيدي الرئيس
نسيت ماذا سأكتب لكم، لأني عطشت ولم اعثر على قطرة ماء، فأنا لم ادفع ثمن الفواتير فانقطعت فجاة الكهرباء، وحتى الورق اختفى، وما وجدت شايا لا قهوة لأعدل من مزاجي ولم أجد سكرا للمرطبات، حسنا سأخرج ريثما تعود لي الذاكرة، حينها سأكتب لكم عن قصة مواطنة تحلم لتصير أدبية وشاعرة فهل من دستور يحميها من الأذى ويجنّبها المضايقة…
رسالة لم تكتمل
من مواطنة
***
سونيا عبد االطيف
قليبية في 07/ 09/ 2022

 

في زمن العواصف التي لا تعرف الاتجاه.. تخرج الحقيقة من جعبتها كالطفل الذي يمسك بخيط مقطوع.. تمسك بأيدينا وتسحبنا نحو مراتب من الحياة لم نكن نعرفها.. هنا.. حيث تتقاطع أنفاس المدن المجهدة مع صرير أَجنحة التاريخ.. يبدأُ السؤال: أين تذهب بنا هذه الريح؟
سياسة.. تكتبها الأزقة
في أوروبا التي تشيب مِن سرعة الحروب.. تعلن صوت الناخبين صوتًا مختلفًا.. يميل إلى اليمين
كرغبة في احتضان ماض مفقود.. لكن الماضي لا يعود.. إنه يتلون كالحلم.. يظهر في إيطاليا حيث تشق حكومة جديدة طريقًا صعبًا بين الحماية الاقتصادية وشياطين العنصرية.. وفي السويد.. تمسك النساء بِأعقاب السياسة بيد باردة.. كرد على عنف ذكوري طويل.. الولايات المتحدة الأمريكية.. التي تئن تحت ثقل انقساماتها.. تمسك بيد مشدودة إلى البيض.. ترى في انتخابات المدنِ الصغيرة بشرى.. أو نذيرًا.. فكل صوت يحمل قصة جرح.. أو أُمنية لولادة جديدة..
مجتمع.. يبحث عن نبضه
في عالم تتفشى فيه الوحدة كالوباء.. تخرج اليابان بفكرة غريبة.. تدفع للمقبلين على الزواج.. كل هدوء يحمل فوضى.. وكل يقين يخفي وهدة.. هل يمكن للمال أن يصنع حبا؟.. أو أن الحب يحتاج إلى مال ليبقى؟.. وفي أَفريقيا.. حيث تطحن الشمس الأرض.. تصنع النساء من قشور الفاكهة أَملًا.. يباع في أَسواق الغرب كَـ "ترف بيئي".. بينما تبقى أَيديهن تَطحن الفقر..
السينما تخجل من نفسها.. فتفر إلى الماضي.. تعيد إحياء أَشباح الثّمانينيات.. كأننا نحتاج إلى تَذكيرٍ بأن الأَمل كان ممكنًا.. وفي المقابل.. تخرج من زوايا الإنترنتِ أَصوات شابة.. تخلعُ ثياب التابوهات.. تكتب بلغة الجسد.. لغة الغضب.. لغة الألم..
مستقبل.. يرسمه الجياع!
التوقعات تشبه سحابة ممطرة تحت سقف غرفة.. ترى فيها ما تريد.. العلماء يحذرون.. الموج الحار سيجلد الأرض.. الذكاء الاصطناعي سيسرق أَرواح الوظائف.. والحروب السيبرانية ستكون أَشرس من سابقاتها.. لكن الشعوبَ التي تعرِف طعم الموت.. تضحك.. تزرع بذورًا في فمِ العاصفة.. تمسك بخيوط الضوء البعيدة.. لأنها تعرف.. أن الفجر يأتي دائما.. بِلا استئذانٍ.. هكذا تسيرُ الحياة.. قِطعة مِدن سكر تذوب في فم الزمن.. نشربها.. نشتم مرارتها.. نكررها.. حتى نتعلم.. أن التاريخ ليس سوى كِتاب.. نكتبه نحن.. بِلعاب أَحلامنا.. ودم أَخطائنا..
العالم يتدي جلد ثورٍ هائج.. ينزعه البعض ليصنع مزمارًا.. والبعض يخيطه سترًا لشتاء قادم.. ففي أوكرانيا.. تشرب الأرض دما وصقيعًا.. تتقلب كجسدٍ بلا جلدةٍ.. وفي ساحات أمريكا.. تصرخ الأجنة في بطون أمهاتها.. تسأل: "هل سيولد الحب قبلنا؟".. أوروبا العجوز تلعق جراحها.. ترى في مياهِ نهر الدانوب انعكاس أحذيةٍ عسكريةٍ.. تَخشى أنْ تكون لجيرانها.. لكنها تمسكُ بِمظلة اليورو.. تختبئ من مطر الماضي.. الشارع الفرنسي يشبه الآن رِئة مثقوبة.. يصعد الدخان من أفواه الثائرين.. شباب يرفضون أن يكبروا في عالمٍ يشبه غرفة انتظار.. يبحثون عن بصمة أمل في قطعة قماش محترقة.. وفي جنوب الكرة الأرضية.. تمسك نساءُ الأرجنتين بِمشط الحرية.. يسرحن شعر التاريخ المتشابك.. يقلن: "كفى.. لن نكون حبرًا في هامشِ الكُتبِ"..
صرخة في وجه الزمنِ..
مهرجانات السينما تخجل من أضواء المسدسات.. تغلق عينيها.. تفر إلى أفلامِ السبعينيات.. كأنها تقول: "هذا المكان كان يضحك قبل أن نولد".. لكن الأغاني تخرج من شرفات تيك توك.. ألحان تطحن سكرَ الحزن.. فتيات يرسمن غضبهن بِألوان أظافر.. شباب يكتبون وحي الموت بلغة الميمز..
مستقبل.. يرقص على الحبال!
التكنولوجيا تنزع جلدةَ البشر.. تصنع منا كائنات هجينة.. نحمل أدمغتنا في سحابة.. نبيع ضحكاتنا لخوارزميات..المناخ يصرخ.. يطلب دفن أظافرِه في جسد الأرض.. العلماء يخترعون بذورًا تنمو في المريخ.. والأُمهات تعلمن أطفالهن كيف يتنفسون خلال الكوارث..
العالم مثل رِواية مفتوحة.. كل فصلٍ يجلس على كرسي إعدامٍ.. لكن الحياة تكتب نفسها دائمًا.. بخط يختلط فيهِ العرق بالحبر.. في الأحياءِ الفقيرة.. تسمع صوت طفل يبيعُ العلك.. يقول: "خذ لعبة.. اِدفع بسمة".. هُنا.. حيث تختفي الأرقام.. تبدأ الحقيقة..
وتبقى الكلمة الأخيرة للريح.. تحملها.. تلقيها في فم الغد.. كبذرة.. أو كدمعة.
***
د. عبد السلام فاروق

سألتني حفيدتي، بعيونٍ تتساءل: لماذا تكتب على الورق؟، لماذا هذا الجهد الفائض؟، ألم يكفِك الحاسوب؟، ألم يحقق لك السرعة؟
افتحه، واكتب ما يتبدى لك، فالكلمات لن تنتظر، سابق الزمن قبل أن تفر منك.
لكن مهما بلغت من السرعة لن تلحق بالذكاء الاصطناعي، الذي يتقن الدور.. يؤدي دور العاشق الشاعر، قبل أن يرتد إليك طرفك.
وما نفع الكلمات إذا كانت تُكتب بلا جهد؟.. أين حروف الليل،
التي تطلب منها الصبر.. وأين تلك اللحظات التي تُنسج فيها القصيدة من خيوط الفكر والتأمل؟
قلت لها: ورقةٌ بيضاء أعظم من ألف شاشة، حيث يتجسد الألم
وتبكي الكلمات قبل أن تجف.
ورغم أن الحاسوب قد يسبقني، لكن هناك لحظة لا يمكنه الوصول إليها.. لحظةٌ، عندما تتساقط الحروف على الورق كأنها المطر الذي يعيد الحياة.
***
د. جاسم الخالدي

الوطن لا يعني فقط التربة، النهر، السماء أو مجموعة من الناس، بل هو شعور عميق بالانتماء والإخلاص والتضامن والتضحية واحترام الذات.
إن تشعر بأن رائحة أرض الوطن لا مثيل لها؛ وإن الشمس المشرقة عليها تنشر دفء الحرية والأمان؛ وإن السماء فوقها لا تباح شرفها لمن هب ودب؛ وإن حب الإنسان للإنسان لا يضاهيه كنوز الدنيا.
الوطن هو السور الذي يحيط بتاريخك العريق ونضالك الطويل؛ إنه يحفظ كرامتك ويصون ضميرك، حيث تتعانق الذكريات مع الآمال، وتتجدد العزائم في ظل الوفاء.
هو القوة التي تبث الرجفة في الأبدان عندما تعزف الموسيقى أنغامها العذبة، فتُدمع العيون وتسرع نبضات القلب.
إنه الجدار المنيع الذي لا تخترقه رصاصات الأعداء، والربيع الذي تزدهر فيه الزهور، حيث تتنافس الأشجار في كثافة ثمارها، وتتضوع عبق الأرض بأناشيد المحبة والوحدة والإرادة المشتركة.
الوطن كالبوصلة التي تمكن السفينة من العثور على هدفها نحو المرفأ، والمنارة التي تضيء الطريق في الظلام، ولغة الحقيقة والشرف الإنساني والحضن الدافئ.
الوطن هو الملاذ الآمن الذي نجد فيه السكينة والطمأنينة، حيث تنبض قلوبنا بالأمل والتفاؤل على الرغم من التحديات. هو المكان الذي يحمل ذكريات الطفولة والشباب، يروي قصص العائلة والأصدقاء، ويشكل هويتنا وجذورنا.
الوطن هو حكاية لا تنتهي قط، قصة كاملة عن أرض خصبة تنمو فيها أحلامنا وتزدهر، وعن هواء نقي نتنفسه بشغف. إنه الرفيق الذي يرافقنا في كل خطوة نخطوها، ويظل حاضرًا في وجداننا مهما ابتعدنا.
الوطن هو المكان الذي نعود إليه بشوق ولهفة، حيث نجد الأحضان الدافئة والابتسامات الصادقة. هو المكان الذي يعطينا القوة والإلهام لنكون أفضل، ويدفعنا لتحقيق طموحاتنا وأحلامنا.
الوطن هو الجمال الذي ينتشر في كل زاوية، نجده في الطبيعة الخلابة وفي الوجوه الطيبة. هو النور الذي يضيء دروبنا، والظل الذي يحمينا من حرارة الحياة. هو الحب الذي لا ينضب، والبيت الذي لا يغلق أبوابه.
الوطن هو النبض الذي يحرك الحياة في عروقنا، هو الحلم الذي نتطلع إلى تحقيقه يومًا بعد يوم. هو المكان الذي نجد فيه ذاتنا ونستمد منه قوتنا. في الوطن، تتحول الأحلام إلى واقع، والآمال إلى إنجازات.
***
كفاح الزهاوي

بين الماضي والحاضر

في أول يوم (أحد) من شهر (أذار/ مارس) من كل عام يقام في السويد سباق التزلج الرياضي الريفي والذي يطلق عليه سباق فاسالوبّيت (Vasaloppet)K والذي بدأ اعتماده كسباق رياضي سنوي وتقليد شعبي منذ عام (1922) لغاية اليوم؛ يشارك في السباق ألاف المتسابقين من النساء والرجال ومن مختلف البلدان والاعمار.
وقد اتخذ هذا الاعتماد للسباق تكريماً لمؤسس المملكة السويدية الحديثة (الملك غوستاف فاسا Gustav Vasa) والمولود في السويد عام (1496م) والذي يعتبر أحد أهم ملوك السويد وله الدور المهم والبارز والكبير في استقلال السويد من سلطة مملكة الدنمارك؛ نصب ملكاً للسويد في (6 يونيو/ حزيران
ولهذا السباق الرياضي السنوي (فاسالوبّيت) قصة وحكايا رافقتها أحداث مهمة بتاريخ مملكة السويد!
فتشير مصادر التاريخ، في القرن السادس عشر الميلادي، كانت السويد جزءً من (أتحاد كالمر) وهذا الاتحاد كان يضم ثلاثة دول (إسكندنافية) وهي (السويد والدنمارك والنرويج) وجميعا تتبع حكم ملك الدنمارك (كريستيان الثاني) لم يكن السويديين راضين على حكم الملك الدنماركي، فحدثت اضطرابات كثيرة في السويد، لخلافات كبيرة بين الفصائل النبيلة السويدية والدنماركية حول من يحكم السويد.
وفي تلك الاثناء قاد أحد الحكام السويديين (ستين ستورة الأصغر) المقاومة ضد الدنماركيين، لكن هزمت قواته وخسر المعركة، لصالح ملك الدنمارك (كريستيان الثاني).
بعدها بفترة في نوفمبر من عام (1520) دعا ملك الدنمارك (كريستيان الثاني) عدد كبير من النبلاء السويديين وكذلك معهم رجال دين وقادة من الفرسان من السويديين لحفل احتفال أقامه في (ستوكهولم) بعد تتويجه ملكاً على السويد.
وعند حضورهم كان الملك (كريستيان الثاني) قد أعد خطة (مكيدة) لاعتقالهم جميعاً، وتم له ذلك، فأمر بإعدامهم جميعاً وكان من ضمن الحضور الذين تم اعتقالهم واعدامهم والد (غوستاف فاسا) النبيل والمستشار الملكي (إريك يوهانسون فاسا) ويقدر عدد من تم اعدامهم (بقطع رؤوسهم) بهذه المجزرة في (ساحة ستوكهولم الرئيسية) بأكثر من (80) شخصاً، تصف هذه الحادثة كثير من الكتابات السويدية بـ (حمام الدم) فقد تدفقت وسالت دمائهم في الساحة والشوارع!
فعل ملك الدنمارك (كريستيان الثاني) تلك المجزرة من اجل القضاء على (المقاومة السويدية) الثائرة ضد حكم الدنمارك لهم.
فيما يصف كتاب صغير (بين يديّ) مكتوب باللغة السويدية (القراءة السهلة) بعنوان (أنا، غوستاف فاسا) الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية عن حياة الملك (غوستاف فاسا) بقلم الكاتب السويدي (هانز بيترسون 1922- ت 2022) تتخلل صفحات الكتاب مجموعة من اللوحات الملونة التي تصور الاحداث التي مر بها، وفترة توليه منصب ملك السويد، الرسومات بريشة الفنان السويدي (جولي ليوناردسون) ففي الصفحة (11) من الكتاب يتحدث (غوستاف فاسا) عن المجزرة ويصف مشاعره اثناء ذلك اليوم (ترجمتها من اللغة السويدية إلى للغة العربية) يقول:
(حمام الدم في ستوكهولم
لقد كنت على حق في قلقي، وانتهت الحفلات الكبيرة في حمام دم.
تم قطع رأس والدي، في ساحة ستوكهولم الكبيرة، مع ثمانين رجلاً بارزاً أخرين،
تدفقت الدماء في الشوارع باتجاه سكيبسبرون.
تم نقل أختي مع والدتي وجدتي إلى سجن في الدنمارك.
من الصعب أن أصف غضبي ويأسي؛ مرة أخرى حنث كريستيان بوعوده.)
بعد المجزة صادر الملك (كريستيان الثاني) جميع ممتلكات النبلاء المعدومين، فيما كانت هنالك رود فعل غاضبة ومستنكرة زادت من حنق وغضب وكراهية الشعب السويدي ضد سلطة الدنمارك؛ فيما أستخدم (غوستاف فاسا) هذا السخط الجماهيري للتحشيد للثورة ضد الدنمارك.
بعد هذه المجزرة هرب (غوستاف فاسا) الى منطقة (دالارنا) وهي من المناطق الجبلية في السويد، وبدأ بتجميع قوات كجيش من الفلاحين والمقاتلين السويديين لقتال الدنماركيين.
خلال رحلة هروبه متخفياً من (القوات الدنماركية) التي تتعقبه، خلال هذه الفترة تحدث له أشياء وصعوبات عديدة، فالسلطات ملك الدنمارك وضعت مكافئة كبيرة لمن يرشدهم عليه.
في (دالارنا) وجد صعوبة ورفض في تقبل السكان للإنظام للمقاومة التي دعا اليها لتحرير السويد من قبضة الدنمارك، وعندما أيقن ان السكان ترفض مساعدته، دفعه ذلك للهروب والفرار نحو (النرويج) فغادرهم قاطعاً طريقاً خطراً جداً عبر الغابات والثلوج والبرد مستخدماً زلاجات الثلج.
وحدث بعد ذلك أن غيروا سكان (دالارنا) رأيهم واتفقوا بمساعدته ومساندته بعد أدراكهم على أهميته كقائد لهم، فقرروا دعمه والتخطيط لإبلاغه فأرسلوا أثنين من أفضل الرجال المتزلجين للحاق به وإعادته.
وعندما لحقوا به كان (غوستاف فاسا) كان قد قطع مسافة (90) كم ووصل لمدينة (سالين) فأعادوه معهم الى مدينة (مورا) وهي من الرحلات الخطرة عبر الجبال والغابات الكثيفة المغطاة بالثلوج.
فسارع (غوستاف فاسا) يعمل بجد وهمة وعزيمة بتنظيم مقاومة السويديين ضد الدنماركيين، والتي انتهت بانتصاره وتتويجه ملكًا عام (1523)
نعود لموضوع سباق التزلج الريفي على الثلج والذي أصبح تقليد رياضي سنوي وكذلك يخلد ذكر مؤسس مملكة السويد (الملك غوستاف فاسا) وكذلك يعد هذا السباق الآن (السباق الأكبر) في العالم.
صبيحة يوم الأحد (2 أذار/مارس 2025) عند الساعة الثامنة صباحاً انطلق حوالي (15800) مشاركاً في السباق، والذي يتنافس فيه المحترفون والهواة، بدأ السباق من قرية (بيرغا) التابعة لمدينة (سالين) حتى خط النهاية في مدينة (مورا) قاطعين مسافة (90) كم عبر الغابات والجبال والمنحدرات والثلوج والمسالك الصعبة، وفي طريق المتسابقين هنالك نقاط تفتيش سبع وتسمى (نقاط تفتيش فاسالوبيت الكلاسيكية ) موزعة على طول خط السباق؛ الأف من الناس جاءت لهذا المكان لتشجيع المتسابقين وللتفرج والنزهة والاستمتاع بهذا الحدث الكبير والذي يعد بحق (مهرجان شعبي) كما تطلق عليه الصحافة السويدية، وكذلك يتابع هذا السباق (المهرجان الشعبي) ملايين المشاهدين عبر محطات التلفاز الفضائية في مختلف انحاء العالم، وتشير الاحصائيات الى أن عدد المشاركين في هذا السباق منذ انطلاقه في عام (1922) لغاية نهاية هذا العام بـ (600) ألف متزلج، وهذا السباق هو رقم (101).
كنت اتابع من بيتي في (مالمو) عبر شاشة التلفاز بثاً مباشراً من قرية (بيرغا) التي أحشد بها ألاف المتسابقين والمتفرجين، وقائع هذا السباق، اغتنمت الفرصة وأخرجت من مكتبتي كتاب:
Jag, Gustav Vasa
لأعيد قراءته مستمتعاً بالمعلومات المهمة التي دونت في صفحاته عن تاريخ تأسيس مملكة السويد وحياة ونضال ملك السويد غوستاف فاسا.
في نهاية سباق التزلج الريفي الذي استمر قرابة الأربعة ساعات متتالية فاز بسباق الرجال:
المتسابق السويدي الشاب (ألفار ميلباك) بزمن قدره: 3.28.45
بفارق ثانية واحدة عن المتسابق الثاني، ويعد الفائز الأول (ألفار ميلباك) بهذه المسابقة لهذا العام أصغر فائز على الأطلاق منذ تأسيس هذا السباق، والذي يبلغ من العمر (18) عاماً و(345) يوماً.
فيما فازت بسباق النساء بطلة العالم والأولمبياد بسباقات التزلج المتسابقة السويدية (ستينا نيلسون) من مواليد (1993) والتي تشارك لأول مرة بهذا السباق، والتي فازت بزمن قدره: 3.54.00 بفارق كبير عن منافستها الثانية بخمسة دقائق.
***
يَحيَى غَازِي الأَميرِي
مالمو في 2025.03.03

سألني أحدُهم: لماذا تكتبُ الشّعرَ؟
وسألني آخرُ: ما نفعُكَ من كتابةِ الشعر؟
وآخرُ: ماذا جلبَ لكَ الشعرُ؟ أما كان لك شُغلٌ بغَيره؟
قلتُ مع نفسي (قبل أن أجيبه): لو كان هذا شاعراً، ما سألني هذا السؤال. ولو كان ناقداً حقيقياً، ما سألني.
عدتُ إليه فكان جوابي (على سذاجته)، والحق أقول، أنني لم أكن أعلم ما الجواب، إلا أنني قلت له: أكتبُ الشعرَ للشعرِ. أكتبُ الشعرَ لنفسي.
حينما يتثاءبُ الإنسانُ، فاعلم أنه بحاجةٍ إلى النومِ، وحينما يستأذنك في الذهابِ، فاعلم أنه ربما تعبَ من الجلوسِ إليك. وأنا حينما أقضي ساعاتٍ طوالًا في كتابةِ قصيدةٍ ما، فاعلم أنني بحاجةٍ لأن أكتبَ القصيدةَ. أكتبُها لأنني أبوحُ بمكنونِ عواطفي فأضعها على محكِّ الأفكار وكأنني أعرضُها للجمهورِ وأقول: هذا ما أحببتُ إخبارَكم بهِ فلا تتأملوا ولا تفكروا كثيرًا.
ربما هي من بابِ الفرديةِ، وعرضِ الأنا للآخرينِ بصناعةٍ ذاتيةٍ. ربما هي محطةٌ من محطاتِ إراحةِ العقلِ ومحاكاةِ الأفكارِ. ربما وربما...
ثم سألني سؤالاً آخرَ: لِمَن تكتبُ الشِّعرَ؟
فوجدتني متحررًا في الإجابةِ نوعًا ما، وحالي في معرِضِها أيسرُ، فقلتُ في جوابي: لكم!!! ولي كذلك!!!
قال: وما قصةُ الشيطانِ الذي يعتري الشاعرِ، وهل هذا من خرافاتِ الفلكلورِ الإنسانيِّ؟
قلتُ: إنها من الأساطيرِ القديمةِ التي راجت عن اليونانِ قبل آلافٍ من السنينِ. شيطانُ الشعرِ كان يُطلقُ على أحد الآلهةِ اليونانيةِ المسمى "أبوللو"، وهو إلهُ الشعرِ، أو شيطانهُ لأنه كان يرمزُ إلى الشر. لكن، دعني أقول لك، إن الشيطان في الشعرِ ليس إلا حالةً من الفوضى التي تصيبُ العقلَ حين يُحاصرُ بفيضٍ من المشاعرِ والأفكارِ، مثل طوفانٍ لا يتوقفُ. إنه ليس كائنًا ماديًا يتلبسُ الشاعرَ، بل هو تجسيدٌ للإرهاقِ النفسي والفكري الذي يرافقُ عمليةَ الإبداعِ، تلك اللحظةَ التي يشعرُ فيها الشاعرُ أن كلماتِ القصيدةِ تفرُّ من بين أصابعهِ، وأن الجملَ لا تنسابُ كما ينبغي، وتختلطُ الصورُ لتصبحَ لغزًا يضيقُ به العقلُ قبل القلمِ.
الشعرُ، كما أراهُ، ليس مسألةَ إلهامٍ عفوي أو شيطانٍ متمردٍ يوسوسُ للشاعرِ. إنما هو، ببساطةٍ، حالةٌ من التوهجِ الداخلي، لحظةٌ يتمُ فيها التقاطُ خيطٍ رقيقٍ من الإلهامِ وسطَ العدمِ. الشاعرُ، في تلك اللحظةِ، لا يكتبُ للمكاسبِ أو للثناءِ، بل لأنه لا يستطيعُ أن يطفئَ تلك النارَ التي تشعلُ فيهِ كل فكرةٍ، وكل لحظةٍ حياةٍ. إنه لا يكتبُ ليُعجبَ أحدًا، ولا ليحظى بشرفِ التقديرِ. يكتبُ، ببساطةٍ، لأنه يحتاجُ إلى الكتابةِ؛ لأن الكتابةَ هي منفذهُ الوحيدُ ليفهمَ نفسه، ولينقشَ وجوده في الحياةِ على ورقٍ لا يشيخُ.
ومن هنا تأتي الإجابةُ البسيطةُ على السؤالِ الذي لا ينتهي: لماذا تكتبُ الشعر؟
أكتبُ الشعرَ لأنني أحتاجهُ. أحتاجهُ كما يحتاجُ الإنسانُ إلى التنفسِ، وكما يحتاجُ الطائرُ إلى السماءِ. هو لا يطلبُ مني أن أبررَ وجودهُ، بل هو موجودٌ فيّ بشكلٍ طبيعيٍ. مثل الندى الذي يتساقطُ صباحًا على الزهورِ، لا يسألُ عن جدوى وجودهِ، ولكنه يحيي الأرضَ، ويُطهر الروحَ من شوائبها.
الشعرُ، في نهايةِ المطافِ، ليس مجردَ كلماتٍ تتناغمُ مع بعضها، بل هو كائنٌ حيٌ يتنفسُ عبرنا.
وحينما تسألني لِمَن تكتبُ الشعر، سأقولُ لك: أكتبُه لأولئك الذين يفتحون أعينهم على العالمِ في لحظةٍ من الوعيِ، لأولئك الذين يتذوقون الجمالَ في أبسطِ الأشياءِ وأعمقها. أكتبُه لمن يقرؤون بين السطورِ، لمن لا يخشون من مواجهةِ القسوةِ والضعفِ، من يعترفون بخطاياهم دون خوفٍ أو ترددٍ، ومن لا يهابون من الجلوسِ مع أنفسهم في صمتٍ طويلٍ. هؤلاء هم الذين يفهمون ما بين الكلماتِ، الذين يعرفون أن الشعرَ ليس ترفًا، بل هو متاهةٌ تحتاجُ إلى بصيرةٍ عميقةٍ كي تجدَ المخرجَ.
ولكن هناك أيضًا أولئك الذين يسألون عن نفعِ الشعرِ، وكأن الشعرَ يجبُ أن يخدمَ غرضًا ماديًا أو اجتماعيًا محددًا. ما نفعُ الشعرِ، يسألون، وإذا لم يعطِك شيئًا ماديًا، فماذا أنت رابحٌ منهُ؟ أما كان لك شُغلٌ في أعمالٍ أخرى؟ والجواب، ببساطةٍ، هو: الشعرُ ليس بضاعةً تُباعُ في الأسواقِ، ولا سلعةً تُعرضُ على رفوفِ المحلاتِ. الشعرُ هو الفنُّ الذي لا يُرى سوى من خلالِ الوعيِ الذي يراهُ، ومن خلالِ الروحِ التي تتفاعلُ معهُ. فالشعرُ هو الطيرانُ في سماءٍ غيرِ مرئيةٍ، هو الصعودُ إلى قمةِ جبلٍ بعيدٍ دون أن تلمسَ قدمُك الأرضَ، هو إبحارٌ في بحرٍ هائجٍ دون أن تعرفَ أين ستنتهي رحلتك.
الشعرُ لا يُقاسُ بالنتائجِ أو الجوائزِ التي قد تُمنحُ لهُ. ليس هو قيمةٌ تُقاسُ بما تحقق من ربحٍ أو شهرةٍ، بل هو البحثُ عن الجمالِ في أقسى الظروفِ، هو الهروبُ من الضغوطاتِ اليوميةِ والاتصالُ المباشرُ مع الذاتِ العليا. لا تكتبُ الشعرَ لتربحَ، ولا لتثبتَ شيئًا للآخرين. تكتبُ الشعرَ لأنك، ببساطةٍ، تجدُ في الكتابةِ سلامًا لا تجدهُ في أيِّ مكانٍ آخر، تكتبُ الشعرَ لأنك لا تستطيعُ العيشَ دون هذا الصدى الداخليِّ الذي يخرجُ من الأعماقِ ليعبرَ عن كل ما يجولُ في داخلك.
وأخيرًا، عندما يسألني أحدهم: ماذا جلبَ لك الشعر؟ سأقولُ ببساطةٍ: جلبَ لي الحياةَ، جلبَ لي فهمًا أعمقَ لوجودي. جلبَ لي من يشاركوني هذا الفضاءَ الذي لا يدخلهُ إلا من يعرفُ أن الأدبَ ليس مجردَ كلماتٍ على ورقٍ، بل هو صوتٌ داخليٌ لا يتوقفُ عن الترديدِ. الشعرُ هو أن نعيشَ اللحظةَ بكلِّ تفاصيلها، دون التعلقِ بالنتائجِ أو بالمكاسبِ. هو أن نتنفسَ الكلماتِ ونسمعها تخرجُ منا، ثم نتركُها تُحلّقُ في فضاءٍ شاسعٍ، يُدركهُ من يملكُ القدرةَ على الاستماعِ.
***
بقلم د. علي الطائي

حين دنت منيته واجتمع الأتباع حوله داعين له بالسلامة وتجاوز محنة المرض التفت اليهم قائلا (الأرض جائعة وتطلب لقمة دسمة) ولم تمر أيام قليلة حتى فارق الحياة وكان هو اللقمة الدسمة التي أرادت الأرض ان تفرح به وتزداد خصوبة من فيض عطائه وعظيم فكره، وبهذه الجملة المعبرّة عن حكمة وحياة زاخرة بالتجارب ودع الحياة في مدينة قونية التركية امام العارفين والمتصوفين (جلال الدين الرومي 1207 ــ 1273م) أحد أبرز أعلام التصوف الفلسفي في التاريخ الإسلامي تاركا وراءه إرثا جماليا وانسانيا جليلاً، وعلى الرغم من تواضعه ولم ير ضرورة من إشادة القبور الضخمة وكان يقول (ان الضريح الحقيقي يجدر بناؤه في القلب) الّا ان الأمور لم تجري حسب رغبته، فالأتراك ولشدة تعلقهم برمزهم المقدس العارف " جلال الدين الرومي" خالفوه الرأي وشيدوا له عام 1926 ضريحا ضخماً في مدينته قونية ــ 460 كم عن اسطنبول ــ وعلى مساحة تقدر بـ 6500 متر مربع وصار اليوم مزاراً معروفا في تركيا، ويروى ان في يوم تشييعه هرع سكان قونية جميعاً لحمل نعشه على اكتافهم دون تمييز بين عِرق وعِرق ولا بين دين ودين وكان اليهود والنصارى يتلون التوراة والانجيل، والمسلمون ينحّونهم فلا يتنحون وبلغ ذلك حاكم المدينة، فقال لقساوستهم ورهبانهم: مالكم ولهذا الأمر والجنازة لعالم مسلم؟ فقالوا: به عرفنا الحقيقة، هكذا صار جلال الدين الرومي مصدر إلهام لكل الناس وثروة نفيسة لكل الشعوب المثقفة لما في فلسفته من موعظة وحث على التسامح بين الناس بعيدا عن قومياتهم ومذاهبهم .
عاش الرومي شخصية متعددة الابعاد فهو شاعر ومتصوف وقديس ومرشد روحي وكان زاهدا بالمال والملذات ماعدا الحب، فهو لا يحسد احد على ماله او ملكه بل يكفيه فخرا انه اسير الحب حيث يقول (بارك الله لعبيد المادة وعباد الجسم في ملكهم وأموالهم، لا ننازعهم في شيء، أمَّا نحن فأسارى دولة الحب التي لا تزول ولا تحول) فهو يرى للحب مفعول سحري اذ « يحوِّل المُر حلوًا، والتراب تبرًا»، معتبرًا أن تلك العاطفة السامية تصل بالإنسان إلى حالة من السعادة قد لا يصل اليها بالطاعات والعبادات فقط وينصح ان تكون عماد العبادة هو نظافة القلب وسلامته من الأحقاد والبغضاء (توضأ بالمحبة...فالصلاة لا تجوز بقلب حقود) ويعطي للحب صفة الخلود في قوله (وكل شيءٍ إلى زوال ويبقى الحب) ويجد نفسه (مولود للعشق) ويعتبر الحب هو رديف الحياة لذا ينصح (لا تكن بلا حب، كي لا تشعر بأنك ميت، مُت في الحب وابق حيا للأبد) ويرى ايضا انه (من دون الحب .. كل الموسيقى ضجيج، كل الرقص جنون، كل العبادات عبء) .
ان جانبا كبيرا من ثقافة الرومي وفلسفته العميقة تناولت الحب على انه وسيلة لبلوغ السمو والرفعة، كما يرى ان جميع من جهلوا الهوى اموات ويعيب على تجار الحروب (إنهم مشغولون بالدماء.. بالفناء، أما نحن فمشغولون بالبقاء، هم يدقون طبول الحرب، نحن لا ندق إلا طبول الحب) وكان يؤمن بأن الحب هو جوهر الوجود الانساني ويراه نعمة ومصدرا للسعادة والسلام الداخلي وله قوة سحرية في السمو بالأرواح واحاطتها بالقدسية حيث يقول عن قوة تأثيره:


لو أن زهرة نبتت لي
في كل مرة فكرت فيك
لمشيت في حديقتي إلى الأبد
ما لمس الحب شيئا إلا وجعله مقدسا
الحب لا يمكن ان تتعلمه او تدرسه
الحب يأتيك كنعمة .. !

بهذه اللغة البسيطة والعاطفة الصافية والبصيرة المتنورة تمكن الرومي ان يصل بإرثه إلى جموع واسعة من الناس واصبحت قصائده وعلى مدى عقود طويلة مصدر الهام العديد من البشر في العالم واهتمام المنظمات الدولية المعنية بالثقافة.
***
ثامر الحاج امين

من مُسوغات مَفْسدةَ يومي حين سألتني ذاكرتي: في أي يوم نحن؟ ابتسمت دون قهقهة، وأنا أقف عنوة عند موازن ذاكرتي وقد أتلفت بوصلة الاتجاهات الأربعة. لم أفكر بالتخمين عن إجابة مُنمقة ومُرصعة بالبيان والتبيين، بل بقيت عند فسحة الارتجال الفطري أتناول كلامي، وبلا مكملات من علم الكلام. لم تكن إجابتي عن ذاك السؤال البئيس في زمن الذكاء الاصطناعي موضع إفادة تامة، بل قلت بنباهة الأحمق المغفل: نحن في يوم ما!!!
ابتسم التذكر بالشراهة الموغلة في الغبطة، والتشفي من داء ذاكرتي الفزعة، والمتعبة من اليقظة المستديمة. كنت حينها لا أزال أُرتق العلاقة بين ذكرياتي الماضية، وذاكرتي الحاضرة، لكي يتسنى لي التذكر حين أمسي لفراشي مساء أني أضعت يوما من حياتي الفانية.
في حديث مُنعش بالمنبهات التنشيطية قالت ذاكرتي: لا تسرع (يا أنا) في خطى الهرولة والجري نحو خط النهايات، فكل ما في الغابة يسقط فريسة الموت نتيجة السرعة والتسرع في اتخاذ القرارات المربكة!!! لا يمكنك (يا أنا) إيقاف عقارب الساعة في الماضي، والبكاء على الأطلال المهشمة، وبيت الحبيبة التي تسللت ليلا من فراشك هروبا، ورحلت في صبح النفعية والانتهازية بعيدا.
حين رأيت القمر ليلا يتشكل إبداعا فنيا مع الغيوم الداكنة المتقطعة، فرحت من تلك الأشكال المتموجة، ومن نوعية رسومات حيوانات الظل البيضاء، ومن إنس التحكم في رقاب العباد بالنياشين المرتخية.
كنت في كل مرة أُحس بالخوف وأتراجع الخطى وراء من رسم الدب الأسود، لكني أبيت أن أسقط أرضا للتمويه والتخفي في عدة مرات، مادام الغول الفتاك يربح النزال عند الفرار ويزيد من سرعته في ركض الصيد.
في ليلة القمر القريب من الأرض السفلية، يموت الشر ليلتها وراء السد العتيد، ولم يقدر لا (يَاجُوجُ) ولا (مَاجُوجُ) من نقب قطر حديد ذي القرنين. فلعنة الحقيقة ليلتها بات بادية، وبلا ماكياجات، إنه يوم نهاية التخمين والتفكير في أي يوم نحن؟ مادامت الأيام تتناسخ بالثبات ونحن بالتحول نتغير. فمن كان يضع الأقنعة البلهاء ليلتها، قد يماثل في الأسطورة الوُحوش الآدمية من الأكلة لحوم البشر في يوم الاستيقاظ على نور شمس حارقة.
***
محسن الأكرمين

العمل الإبداعي هو ذاك القادر على اختراق جدار الصمت وعلى الولوج إلى قلب المتلقي وأفكاره مهما كانت وتحريض السؤال أياً كان
نحن كائنات حية وحركية وقودها المشاعر ومكبحها عقل واع ومدبر وماهر غياراتها بالمجمل تشاركية.. فإن كان الحدس موجهاً فهو وليد إلحاح معند للذاكرة حتى وإن استعصى القبض على أسبابه.
الجمال الداخلي هو جدار طاقي يحمينا من شرور أنفسنا وشرور العالم من حولنا وهو يوجهنا لتفريغ الشحنات الإنفعالية عبر أعمال إبداعية وأنشطة إنسانية بناءة.
و في مضمار التشكيل أقول:
العمل التشكيلي الذي يستوفي شروطه هو ذاك الذي يحقق التوافق ما بين قيمه التعبيرية والجمالية فلا وجود لقيمة فيه بعيداً عن الأخرى ولا يمكن أن يرقى ذاك العمل لمستوى الإبداع إن لم يستوف جميع مقوماته..
في التلقي
اللوحة التشكيلية خاضعة للمؤثرات اللحظية المرتبطة بالظروف الداخلية والخارجية (النفسية - والجسمانية). وهو خاضعة لتلك المؤثرات ذاتها لحظة التلقي المؤثرات المحيطة بالمتلقي. وهذا يغني العمل لتتنوع وتتعدد القراءات بعدد من مرَّ على اللوحة من زوار.
أنا كفنان إن لم تكن لي رؤيتي وفلسفتي الخاصة بالحياة فإن أية رؤية فنية أدعيها هي محض استعارة غير نابعة من الذات وبالتالي فهي لا تحمل أية خصوصية الإبداع هو رسالة موجهة لعالم آخر ولزمن آخر قادر فك شيفرته واللوحة الإبداعية لا يمكن قياسها سوى من خلال الدائرة الأكثر اتساعاً ومن خلال مساطر قادرة على قياس ما يتمتع به العمل من فرادة وخصوصية وقدرة على التجدد والإدهاش.
بذور العمل الإبداعي لا يمكن أن تسقى عبر المنافسة فأنت كفنان حالة فريدة لا يمكنك أن تنافس غير ذاتك ومن خلال ذاتك المتواصلة مع طقوس العمل الخاصة بها.
أما المنافسات والمسابقات فلا أساس لها في التشكيل وأعتقد أن من كرسوا جائزة أفضل عمل وأغلى لوحة وغيرها كانت غايتهم محاولة تضخيم وتعظيم فنان على حساب آخرين.
وهي محاولات لتحطيم وإلغاء الإبداع الحقيقي عبر تكريس الانتباه لما هو دون.. وأنا لا أعمم هنا.. تقييم العمل الفني مهمة ليست سهلة وتحتاج لناقد تشكيلي قادر على سبر أغوار العمل والكشف عن القيم الابداعية فيه والأهم من هذا وذاك قادر على تبرير خياراته للعلن وبكل شفافية.
الأطفال أكثر قدرة على تقييم الأعمال الفنية وأعتقد هذا لسببين أولهما أن الطفل يستند لانطباعه الأول في الحكم ويعبر عن رأيه بدون خوف ودون أن يكون تابعاً لأية جهة.. ثانيا الطفل يطلق آراءه بعفوية وتلقائية فهو غير مؤدلج أو محاصر بذاك الكم الهائل من المعلومات المشوشة.
هناك اتهام يصر عليه البعض من غير المواكبين وغير القادرين على استيعاب ماهية الفن ومفهومه المتبدل عبر الزمن يلخصه سؤالهم الدائم لماذا أغلب الفنانين الشباب يصرون على تقديم أعمال لا يفهمها أغلب الناس؟.
والحقيقة هو ليس إصراراً بقدر ما هو استيعاب للتجربة التشكيلية منذ بداياتها وحتى الآن وهو شعور ذاتي وضمني بالإشباع منها وهو وعي تام لمفهوم الإبداع وبالتالي فهم أبناء زمنهم ... من تلك التراكمية تتشكل رغبتهم العارمة في الاختلاف وترك أثر غير مسبوق للأجيال القادمة.
هم يحرقون المراحل وقد استوعبوها في مخيلتهم قبل هذا.. ثم ماذا.. تأخذهم تجاربهم لأماكن غير مألوفة. تجاربهم هذه تحتاج لزمن كي تنضج ومن ثم تعرض.. هي تحتاج أيضاً لمتابعة حثيثة من قبل قارئ أو متلق مهتم وأكثر انفتاحا. تلك هي سمات الإبداع الحقيقي فهو دائما وأبداً سابق لزمانه.
ووقع العمل تقرأه في عيون المتلقي قبل أن تلمسه في أسئلته وعباراته العفوية والسؤال الأكثر وضوحاً ودلالة على ما ذكرت (عملك جميل ومميز.. شيء ما يشدنا إليه لا نعرف ما هو.. لكننا لم نفهم شيئا فهلّا شرحت؟!!).
ربما اعتاد المتلقي أعمالاً مقاربة للواقع أو محشوة بالكثير من الأفكار لذلك كان يطلب دائماً وأبداً الشرح والحقيقة أن التشكيل كان ولايزال نخبوي يتطلب متابعة دائمة ولا يمكن اختصاره في إجابة.. ولكن يبقى السؤال هو المفتاح.
وتبقى الإجابة دوماً: العمل الإبداعي هو ذاك القادر على اختراق جدار الصمت وعلى الولوج إلى قلب المتلقي وأفكاره مهما كانت وتحريض السؤال أياً كان.
***
الفينيق حسين صقور

صَدَرَ الجُزْءً الثَّانِي لِ"حَيِّ بْن يَقْظَانَ: المَتَدَبِّرُ الَّذِي تَعَلَّمَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ" عَنْ دَارِ فَضَاءَاتِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوْزِيعِ الأُرْدُنِيَّةِ، فِي اِنْتْظَارِ الجُزْءِ الثَّالِثِ وَالأَخِيرِ، وَذَلِكَ فِي بَدَايَةِ سَنَةِ (2026)، بِحَوْل اللهِ تَعَالَى. وَالكِتَابُ الشِّعْرِي الصَّادِرُ هَذِهِ السَّنَةِ يَضُمُّ بَيْنَ طَيَّاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ (544) صَفَحَةٍ مِنَ الحَجْمِ الكَبِيرِ.
وَهَذَا مُقْتَطَفٌ مِنْ نَصِّ الكِتَابِ:
بَاتَ الحَفِيُّ كَئِيباً كَلَيْلِهِ، وَقَلِقاً فِي وَضَحِ نَهَارِهِ المُرْتَبِكِ.
مَا عَادَتِ الكَيْنُونَةُ آيَةَ اِعْتِقَادِهِ، وَمَا عَادَتِ البُسْرَةُ تَتَفَتَّقُ عَنْهُ وُعُورَةُ المَعَالِيج،
وَمَا عَادَ يَقِينُهُ يُرْعِبُهُ، وَمَا عَادَ شَكُّهُ يُحَيِّرُهُ، وَمَا عَادَ يُقْنِعُهُ شَيْءٌ،
وَمَا عَادَ يَرَى فِي [الظَّاهِرِ] بَسَاطَةَ التَّسْلِيمِ،
وَلاَ فِي [البَاطِنِ] تَوَاطُؤَ التَّنَاوُشِ المُشْرَئِبِّ فِي رِحَابِ التَّأْوِيلِ.
حَشْدٌ مُكْتَظٌّ بِأَطْيَافِهِ، وَالأَفْيَاءُ أَطْرَافُ الغَيْبِ، فِيمَا المَغِيبُ سِيرَةُ الشَّفَقِ، حَيْثُ بَاتَ النِّدَاءُ وَشْماً عَلَى ذَقَنِ الطَّنَسِ، ثُمَّ مَا بَرِحَ الوُجُودُ أَكْثَرَ وُضُوحاً مِنْ مَرَايَا السَّحَرِ. هَا هُوَ العَاطِسُ مَارِجُ الغُشَاشِ، تَرَاهُ يَتَهَجَّى مَقَالِيدَ البَرِيمِ الصَّارِمِ، عِنْدَمَا يَشْرَعُ خَفَقَانُ الرَّأْمَةِ فِي صَلاَةِ الإِسْرَاءِ، حِينَمَا يَتَهَيَّأُ الزَّاهِلُ مِشَارَ المُجُجِ، وَتَخُوضُ الآصِرَةُ مَجْرَى السَّلَفِ الصَّالِحِ، رَغْمَ أَنَّ السُّلاَلَةَ سَيْلُ المَسَالِكِ، مِثْلَمَا هُوَ الوِثَاقُ يَرْمِي جِعَارَهُ فِي شَرَكِ الدُّجَى، وَمَا فَتِئَ الحِصَارُ يُرَتِّبُ خَرَائِطَهُ فِي نُدُوبِ الأَسْرَى، وَظَلَّ القَهْرُ مُقْرِفاً فِي غَبْرَائِهِ، يَقْتَفِي صَهِيلَ القِفَارِ الفَاقِرَةِ، وَأَضْحَى الهَبُوغُ قَطْرَ اللَّيَالِي الغَابِرَةِ فِي أَسْفَارِ المَقَامَاتِ، وَصَارَتِ اليَقَظَةُ أُحَاحَ السُّؤَالِ الفَاتِرِ، وَتَلاَشَى الهَشِيمُ فِي مَمْشَى الجَعْفَرِ الحَائِرِ، وَسَاحَ زَغَبُ الزَّغْرَبِ فِي أَعْطَافِ الخَدِيرَةِ، وَاِكْتَسَحَ الرِّيشُ فِرَاءَ النِّعْمَةِ، وَأَشْرَقَ المَدَى عَلَى عَبِيرِ عَبَق العَفِيرِ وَالزَّعْتَرِ، وَانْشَرَحَتِ الرُّوحُ فِي قَدَعِ العَبْرَةِ المُتَحَجِّرَةِ، وَرَاحَ الصَّمْتُ يَلْتَفُّ حَوْلَ طَوْدِ المَعْبَدِ القَابِعِ فِي مَكْمَنِ رُطُوبَتِهِ، وَتَنَاثَرَتِ التُّرَبُ فِي ضَوْعِ الأَضْرِحَةِ المَشْفُوعَةِ بِدِيبَاجِ القَشِيبِ، وَمَاجَ الحَفِيرُ فِي قَرَارِ الأَغْوَارِ الشَّارِدَةِ، وَفِي مُنْتَهَى شَاهِدَةِ الجَدَفِ.
***

 

في الذكرى العاشرة لإصدار ديوان حليب وعسل، تعود فريندا جاجوتا لاستعراض حليب وعسل لروبي كور.
بقلم: فريندا جاجوتا
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

أصبح الأمر قهريًا في هذه المرحلة: عندما يحتوي ملصق سيارة على الكثير من الفواصل ("ابني / خدم في / الجيش")، أو عندما يرسل صديق لي رسالتين أو أكثر تحتويان على نصوص مثيرة للجدل بشكل خفيف عن ليلته ("من الجيد التقاط صورة عارية / في حدث فاخر")، يذهب عقلي مباشرة إلى "روبي كور". أصبحت الشاعرة مشهورة منذ 11 عامًا عندما نشرت مجموعتها الشعرية الأولى حليب وعسل بنفسها في سن الثانية والعشرين. وفي الوقت نفسه تقريبًا، انتشر مشروع مدرسي آخر لها، وهو مجموعة من الصور التي تُظهر بقع الدورة الشهرية الخاصة بها بفخر، بعدما حاولت إنستغرام فرض رقابة على الصور. لفت عملها انتباه الناشر المستقل أندروز مكمييل، الذي أعاد نشر حليب وعسل في عام 2015. وفي غضون عام، تم بيع أكثر من نصف مليون نسخة منها - ما يعادل تقريبًا 17 مرة العدد الذي يعتبره الناشرون ناجحًا لكتاب شعر - وشاركت الصور في العديد من حسابات إنستغرام حول العالم. اليوم، تجاوزت مبيعات الكتاب الستة ملايين نسخة، وأُطلق عليها لقب "منقذة" و"مخربة" الشعر المعاصر.
عملها سهل الانتشار في الميمات لأنه منتشر، ميكانيكي، وجاد في ذاته: اقلب إلى أي صفحة وستجد قصيدة تتبع القالب التالي "كنتُ X لكنك [كنتَ Y شيء لا يستطيع التقدير]" ("كنتُ موسيقى / لكنك قطعت أذنيك") أو قصيدة عن شعر الإبط تُقال بجاذبية رغبة محتضرة. أصبحت الإشارة الهزلية إلى عملها اختصارًا بين جيل الألفية المهووس بالإنترنت لنوع معين من الوعي السياسي: فراغ سياسة الهوية النيوليبرالية، والطريقة التي يبالغ بها الإنترنت في تضخيم غرورنا بينما يعفن عقولنا.
رؤية كور للمستقبل لا يمكن إنكارها. صممت عملها ليتناسب مع إنستغرام، المنصة التي ستصبح المسيطرة على انتباهنا، والتي ستؤثر في معايير جمالنا وقراراتنا الانتخابية، وتعمل كوسيلة رئيسية لتمثيل الذات لدى الشباب حول العالم. كما تحدثت بصراحة عن الاعتداء الجنسي وحرية الجسد قبل عدة سنوات من حركة #أنا_أيضًا وقضية الاعتداء الجنسي لجين جوميش في كندا التي أظهرت مدى انتشار العنف الجنسي وكيف كانت النساء بحاجة شديدة لمشاركة قصصهن حول ذلك. لم تكن أول شاعرة على إنستغرام، لكنها ربما كانت الأكثر نجاحًا في تعبئة سياسة الهوية لتتناسب مع الطريقة التي بدأنا في التواصل بها في عام 2014، وفي تقديم شعور للشابات بالانتماء إلى مجتمع عبر الإنترنت مرتبط بتهميشهن.
لكن رؤية كور المستقبلية لا تشير بالضرورة إلى عمل عالي المستوى. في العقد الماضي، أصبح من الواضح بشكل كبير أن الإنترنت يدمر قدرتنا على التركيز، ويقلل من قدرتنا على التعامل مع الآراء الدقيقة، ويشجعنا على رؤية العالم من خلال عدسة الذات على حساب المجتمع. عند قراءة الإصدار الجديد من حليب وعسل بمناسبة مرور عشر سنوات على نشره، من الواضح أن عمل كور لا يمكن فصله عن الآلية التي جعلتها مشهورة، وهي آلية لا تفعل الكثير لدعم التنظيم المجتمعي الحقيقي أو التغيير السياسي الجوهري. الإيديولوجيات السياسية التي تروج لها كور تتعارض جوهريًا مع المنصة التي تختار مشاركتها عليها.
في عام 2019، وصف رومان علام في ذا نيو ريبابليك كور بأنها شاعرة العقد بسبب قدرتها على تكييف عملها مع الإنترنت. يلاحظ علام أن كور تكتب نثرًا مقتضبًا ومضغوطًا، "جزئيًا لأنها تفكر ضمن حدود شاشة الهاتف الذكي." وهو افتراض تؤكد عليه كور في الطبعة الجديدة من الكتاب، حيث تشارك التنسيقات الفنية المختلفة التي جربت نشرها على تمبلر ومن ثم إنستغرام—مثل مقاطع الفيديو الموسيقية، وملفات الصوت، والنصوص المباشرة—قبل أن تستقر على قصيدتها المميزة التي تتكون من خمس إلى ست أسطر مصحوبة برسمة رسمتها كور بنفسها.
بالنسبة لكور، يمثل الإنترنت أيضًا شعورًا بالأصالة. كانت عازمة على التحكم في رؤيتها (التي تعرفها، في إحدى المقابلات، بتصميم الغلاف وحجم ولون الورق). كان النشر الذاتي، ثم الحصول على الاهتمام من مشروع أصبح فجأة ويُعرف بشكل مستقل، وسيلة لكور للوصول إلى قرائها مباشرة وبناء سمعة خارج البيروقراطية والهرمية للنشر التقليدي. هذه الطريقة التي تشبه "المنتج المحلي من المزرعة إلى المائدة" إلى جانب اللغة المباشرة التي تستخدمها أدت إلى الثناء عليها بأنها جعلت الشعر في متناول جيل جديد من القراء.
لكن من الصعب تجاهل كيف أن نثرها المبسط، الذي يُقصد به أن يُقرأ ويُستهلك بسرعة قبل أن يجذب إشعار على الشاشة انتباه القارئ بعيدًا، يؤدي أيضًا إلى تبسيط الإيديولوجيات السياسية والطموحات الفنية. في إحدى قصائدها الشهيرة، تؤكد أن "نسائي" جميلات مثل "النساء في / بلدك". تعترض كور على معايير الجمال التي جعلت النساء ذوات "الجلد بلون الأرض" و"العيون مثل اللوز" يشعرن بأنهن أقل جمالًا من نظيراتهن البيضاوات. ومع ذلك، بعد بضع صفحات، في قصيدة فيروسية أخرى، تكتب: "أريد أن أعتذر لجميع النساء / اللاتي دعوتهن جميلات / قبل أن أدعوهن ذوات عقول أو شجاعة." من غير الواضح إذا كانت تشعر أن جميع النساء جميلات، أو إذا كانت تعتقد أنه يجب علينا تحدي الجمال كعلامة على القيمة تمامًا. ولزيادة الأمر تعقيدًا، فإن اللغة التي تستخدمها لوصف النساء من ذوات البشرة البنية، وخاصة وصف "العيون مثل اللوز"، قد تم انتقادها على نطاق واسع لأنها تفرط في تمييز ملامح النساء الآسيويات.
في مكان آخر، في قصيدة عن شعر الجسم، تمارس كور نوعًا ضعيفًا من "الفكر النسوي الاختياري" الذي يبرر مشاعر قرائها الفردية المتنوعة على حساب غياب الأيديولوجية السياسية الصارمة والمتسقة. في قصيدة بعنوان "أنت تنتمين لنفسك فقط"، تكتب: "إزالة كل الشعر / من جسمك أمر مقبول / إذا كان هذا ما تودين القيام به / كما أن إبقاء الشعر / على جسمك أمر مقبول / إذا كان هذا ما تودين القيام به." من الناحيتين الأسلوبية والسياسية، تجعل المنطق الدائري الكلمات بلا معنى. إنها قصيدة تنتهي حيث بدأت تمامًا، لا شيء مهدد، لا شيء متعلم: أي قرار ممكن أن يتخذه القارئ قد تم تقنينه، سواء كان يقوض التوقعات الأبوية بشأن شعر الجسم أو يلتزم بها بدقة. تتخيل كور يوتوبيا زائفة حيث توجد خياراتنا في فراغات، غير متأثرة بالضغوط المجتمعية وغير قادرة على تجسيد التوقعات الإشكالية.
في أحد الأقسام اللاحقة من الإصدار الجديد، تركز كور على الشفاء، الذي تطرحه كأمر لا مفر منه بدلًا من كونه عملية تتطلب على المستوى الشخصي جهدًا كبيرًا، وعلى المستوى الاجتماعي تحتاج إلى تقليص أو إنهاء القمع الهيكلي. في هذا القسم، تذكر القارئ أنه لا يمكنه أن يحب شخصًا آخر إلا إذا تعلم أن يحب نفسه أولًا. إنها فكرة تهدف إلى تشجيع الناس، وخاصة النساء اللاتي تم تهيئتهن للوجود في خدمة الآخرين، على إعطاء الأولوية لأنفسهن. لكنني متشكك في التصنيفات الواضحة التي تخلقها هذه البلاغة بين "الأشخاص الذين يحبون أنفسهم" و"الأشخاص الذين لا يحبون أنفسهم." إنه تمييز صارم وعقابي وهرمي يتجاهل حقيقة أن الشفاء ليس خطيًا أو حاسمًا. كما أنه يضع كامل العبء على الفرد دون أن يعترف بأن الصدمة يمكن أن تكون مستمرة في عالم لا يزال يسبب الأذى.
تركيز كور على الترتيب والنظافة—من خلال تصنيف الأشخاص في هذه الفئات الإرشادية، والبحث عن نهاية نظيفة وسريعة لكل فكرة أو سرد—يضر حقًا بالفوضوية الجذابة للحياة، بينما يتجاهل أيضًا العمل المتواصل الذي يتطلبه كل من النمو الشخصي والمقاومة. هي ترى الألم والشفاء كمرحلتين حياتيتين متميزتين يمكن القفز بينهما، وتتغاضى عمومًا عن عملية معالجة الصدمة أو تغيير الأنظمة القمعية.
وجدت نفسي مفتونًا بالهمسات التي تحمل الضعف والحيرة التي ظهرت في قصيدة "الانتماء"—"ليس لدي أية فكرة إلى أين أنا ذاهب / في معظم الأيام أنا غريب عن نفسي"—فقط ليتم سحق عدم اليقين قبل أن يتم استكشافه بشكل صحيح. بنهاية القصيدة، بعد بضع أسطر فقط، تكتب: "أنا في المكان الذي من المفترض أن أكون فيه"، معيدة استخدام اختيار الكلمات الذي يمكن أن تجده، تقريبًا حرفيًا، في أغنية من فيلم ديزني الأصلي كامب روك لعام 2008.
هناك حزن وألم غير محلول في الكتاب، خاصة في القسم الذي يحمل عنوان "الألم"، الذي يتحدث عن الاعتداء الجنسي والصدمات المتوارثة في عائلة كور. القصائد قد تكون غامضة بشكل مربك: "الفكرة أننا / قادرون جدًا على الحب / لكننا لا نزال نختار / أن نكون سامين." وأحيانًا، تروي القصائد قصة تمتد لعقود دون أن تقدم الكثير من الداخل النفسي: "عندما تفتح أمي فمها / لإجراء محادثة على العشاء / يدفع والدي كلمة 'اسكت' / بين شفتيها ويخبرها أن / لا تتحدث أبدًا وفمها ممتلئ / هكذا تعلمت النساء في عائلتي / أن يعشن وفمهن مغلق."
لكن "الألم" هو أيضًا القسم الذي يتم فيه تحديد مرتكبي العنف بأسمائهم بشكل أكثر تحديدًا. هنا يظهر شعور كور القوي بالاقتناع الأخلاقي، ولغتها المباشرة وغير المتراخية، بشكل أكثر تأثيرًا. كور وأنا في نفس العمر. عندما أتذكر بداياتي في العشرينات، عندما تم إصدار الحليب والعسل، أشعر بالانزعاج من كم المعلومات التي كانت تفتقر إليها أنا وأقراني بشأن الاستقلال الجنسي. كثير منا لم يكن يعلم أن الاعتداء الجنسي قد يحدث في العلاقات، أو أننا مسموح لنا بتغيير آرائنا حول ما نريد في أي لحظة. كانت قصيدة تقول ببساطة "الجنس يحتاج إلى موافقة شخصين" ستكون بالفعل بمثابة كشف. لا أعتقد أن الملايين من القراء الذين وجدوا الراحة في أعمال كور في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين قد تم خداعهم تمامًا من خلال تسويق إنستغرام—بعضهم على الأرجح شعروا بشعور من الراحة لأن كاتبًا ما كان يتصدى بقوة وببساطة للرسائل الخفية والمنتشرة التي تقول إن أمان المرأة له وزن أقل بكثير من رغبة الرجل. كما أن وضوح كور الأخلاقي الثابت برز مؤخرًا: في عام 2023، عندما رفضت دعوة لحضور فعالية ديوالي في البيت الأبيض احتجاجًا على تواطؤ إدارة بايدن في الإبادة الجماعية في غزة. كانت خطوة بسيطة نسبيًا، لكنها قوبلت بتناقض صارخ مع لا مبالاة العديد من أقرانها.
حقيقة أن الحليب والعسل كُتب مع وضع وسائل التواصل الاجتماعي في الاعتبار تعني أن القصائد يمكن أن تقف بمفردها. الكتاب مُنظم في أقسام موضوعية، لكن القصائد الفردية تكون في الغالب مكتفية ذاتيًا. تقرأ وكأنها تغريدات تتجول عبر خلايا التغريدات الخاصة بك—ربما منظمة بيد خفية من خوارزمية، لكن غير مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسرد أطول. كتبت كيارا جيوفاني في 2017 أن هذا الغياب عن الترابط يسمح للعمل أن يُفصل عن سياقه ويستهلكه مجموعة واسعة من القراء، لم يتحدَّ أي من وجهات نظرهم بشكل كبير: النساء البيض، اللاتي لم يكن عليهن التفاعل مع المرات القليلة التي تكتب فيها كور بشكل صريح عن العرق، رأينها كـ"قديسة حزن جيل الألفية"، كما تكتب جيوفاني، في حين كانت النساء من ذوات البشرة الملونة يرونها كإجابتهن على بياض صناعة النشر المُغترب.
ومع ذلك، على الرغم من أن أعمالها تركز في الغالب على الذات ولا تثير المجتمع إلا بأوسع معانيه، فإن كور تكتب عن أهمية بناء المجتمع في الكتاب: "أحيانًا يتطلب الأمر أزمة لنتذكر / أن حياتنا تعتمد على بعضنا البعض / سوف ننتهي إلى لا مكان / إذا حاولنا أن نفعل ذلك بمفردنا." هي تعتبر جميع الأشخاص الذين شاركوا في إنتاج الحليب والعسل جزءًا حيويًا من نجاح الكتاب. في قسم استرجاعي جديد من الحليب والعسل بعنوان "الرحلة"، تشكر كور جميع من شاركوا في العمل، من المطابع إلى بائعي الكتب إلى "الناس الذين يحملون الصناديق الثقيلة إلى المصانع" إلى "سائقي الشاحنات الذين يوصلون الورق". تكتب: "أحبكم. في هذه الحياة، نجاحاتنا ليست ملكًا لنا؛ إنها تراكم ما يمكن لمجموعة من الأشخاص القيام به عندما يؤمنون بشيء." وفي مقابلة في 2017، أخبرت ذا كت: "الأمر حقًا يتطلب مجتمعًا هائلًا [...] بعض الرجال أو النساء العشوائيين الذين يقودون هذه الشاحنات يساعدون ملايين الأشخاص على أن يكون الكتاب في أيديهم."
بالطبع لا ضرر من الاعتراف بكل الأشخاص الذين يشاركون في إنتاج وتوزيع كتابها. وذلك الشعور الفوري بالانتماء الذي تشعر به مع سائقي الشاحنات تحديدًا منطقي على المستوى الشخصي، نظرًا لأن والدها كان سائق شاحنة. لكن في عملية كبيرة مثل تلك المطلوبة لتوزيع ملايين النسخ من الحليب والعسل، أتساءل كيف تعمل فكرة المجتمع التي تثيرها. هل يشترك جميع العمال المشاركين في صنع كتابها بالتساوي في أرباحها وشهرتها؟ كما أنها كانت قد نشرت الكتاب في البداية بنفسها عبر منصة CreateSpace من أمازون. وفي نفس العام، أفادت صالون أن الشركة استخدمت تقنيات المراقبة لمراقبة موظفيها، وفصلت أحدهم لأنه "أضاع" عدة دقائق من الوقت أثناء ما كان على الأرجح نوبة عمل امتدت 11 ساعة. هل كور في مجتمع مع هؤلاء العمال أيضًا؟ هل سيقولون أنهم في مجتمع معها؟ هذا بالطبع معيار صعب على أي شخص أن يلتزم به، لكن هذا هو المعيار الذي اختارته كور للإشارة إليه في طريقة تسويقها لعملها. هذه الأسئلة أيضًا تتعلق بالأخطاء الناتجة عن استدعاء مجتمع غير معرف بشكل دقيق.
على مدار العقد الماضي، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الإنترنت يعزز التعبير عن الذات على حساب الترابط الحقيقي. كتبت جيا تولينتينو في مقالها عام 2020 عن الإنترنت أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يشعرون بالحاجة الملحة للنشر، لأنه السبيل الوحيد للظهور على الإنترنت. نحن نشجع خصيصًا على مشاركة المحتوى الذي يجعلنا نظهر وكأننا جيدون موضوعيًا: أفضل زوايانا، أكثر الروايات إطراءً عن أنفسنا، الرسوم البيانية المنشورة بسرعة والتي تُعرض على أنها عمل سياسي ذو معنى. في الوقت نفسه، فإن الخطاب المعتمد على مساعدة الذات والذي يتم مشاركته معنا مصمم لإرضاء أكبر جمهور ممكن. نحن مغمورون دائمًا بنصائح من مدربي الحياة الافتراضيين الذين يفترضون أننا جميعًا قد تعرضنا للأذى بنفس القدر، بغض النظر عن من نحن أو ما فعلناه فعلاً. هؤلاء المتحدثون يشجعوننا على وضع حدود حاسمة مع أحبائنا، للتفكير أكثر فيما نُستحقه بدلاً من ما ندين به للآخرين، وقطع العلاقات مع أي شخص يظهر خلافًا. عندما كنت أمر بعملية انفصال سيئة بشكل خاص، كنت أرى مقاطع ريلز من معالجين نفسيين مزعومين يؤكدون لي أنني أنا الجائزة وشريكي السابق هو المشكلة. كان هذا يساعد نوعًا ما—حتى أدركت أن شريكي السابق ربما كان يتلقى نفس الفيديوهات عني.
كما أن مقاييس العنف قد تم تسطيحها، وتم تغطية الديناميكيات السلطوية. مصطلحات مثل "العمل العاطفي" كانت تُستخدم سابقًا لوصف الضغط الذي يشعر به العامل لأداء اللطف في صناعة مثل خدمة الطعام، حيث يرتبط مقدار المال الذي يكسبه بشكل غير عادل بكيفية إعجاب العملاء به. اليوم، تم تحريف هذا المصطلح على الإنترنت، وأصبح يُستخدم لوصف موقف تافه مثل الرد على رسالة نصية من صديق عندما لا ترغب في ذلك. هذا التغيير في التعريف يفهم بشكل خاطئ جوهر أهمية المصطلح: بينما يقوم رئيس العمل الذي يطلب العمل العاطفي بإساءة استخدام سلطته على العامل، فإن صديقًا يطلب منك الرد على رسالته النصية من غير المحتمل أن يكون لديه القوة لتعطيل قدرتك على دفع الإيجار أو سحب رعايتك الصحية إذا لم ترد. ورغم أنه لا ينبغي أن يكون هناك توقع بالتبادل العاطفي في مكان العمل، إلا أنه أحيانًا يجب أن تكون هناك مسؤولية عاطفية تجاه أحبائنا.
على مدار العقد الماضي، اتسع الفجوة بين كيف نرى ونقدم أنفسنا (مثاليين) وكيف نرى بقية العالم (قادرين على إلحاق الأذى بنا في أي لحظة) إلى درجة أن بناء المجتمع المستدام يبدو صعبًا. لا يوجد إطار للمساءلة الحقيقية عندما يمكن للمعتدين على العنف أن يسرقوا لغة (الحدود وحب الذات) التي قد تكون مفيدة فعلًا للناجين من العنف. ولا يوجد حافز للعناية ببعضنا البعض عندما يتم طمأنة الأكثر امتيازًا بيننا بأن الواجب الوحيد المستدام لديهم هو العناية بأنفسهم.
في إحدى القصائد، تكتب كور: "أنت / تحب نفسك / هي الثورة"، والتي، إذا نُشرت على إنستغرامها، يمكن أن يقرأها مدير تنفيذي يستغل عمل عماله، أو امرأة شابة تعرضت للاعتداء الجنسي في حفلة تابعة لإحدى الجمعيات الطلابية، أو فتاة تعيش في بلد يتم قصفه بأسلحة صنعها شركة المدير التنفيذي. بسبب موقع ولادتهم أو جنسهم، تم حرمان بعض هؤلاء النساء من الوصول إلى الحقوق الأساسية: الرعاية الصحية، الطعام والماء النظيف، والقدرة على العيش بسلام حتى يمتن من أسباب طبيعية. تأمين الوصول إلى هذه الحقوق يتطلب تغييرات جذرية على مستوى النظام: إنهاء حياة الجمعيات الطلابية وثقافة الاغتصاب بالإضافة إلى الاستعمار الاستيطاني المدعوم من الولايات المتحدة، على سبيل المثال.
هذه التغييرات كبيرة وأيديولوجية لدرجة أنه يمكننا أن نطلق عليها ثورات بحق. لكن العمل الهائل للوصول إلى هناك—التعبئة الجماهيرية، تعليم الناس أن تحررنا مترابط، والمطالبة من المدير التنفيذي أن يوقف سلوكياته الاستغلالية—لا يمكن أن يتم بمفرده. كور ليست مسؤولة عن منحنا الدليل لتغيير العالم، ولكن عندما تدعي أن حب الذات هو بداية ونهاية الثورة، فإنها تساهم في خنق خيالنا الجماعي. هي تخبرنا أن السعي وراء مشاعر السعادة الفردية والزائلة مع الحفاظ على الوضع الراهن هو كافٍ. تقول كور ذلك أفضل من أي وقت مضى: "تغيير الآخرين / ليس مسؤوليتي / أنا المشروع الوحيد / الذي أحتاج للعمل عليه."
***
...................
الكاتبة: فيريندا جاجوتا / Vrinda Jagota كاتبة مقيمة في بروكلين. لها مقالات في Pitchfork، وNPR Music، وThe Cut، وTASTE، إلى جانب منشورات أخرى.

تعتبر رواية عناقيد الغضب تحفة من أروع روئع جون شتاينبك أو ستاينيك، ولكن شتاينبك كتب أعمال روائية قصيرة وقصيرة جدًا، وهو الشكل الذي لجأ إليه في بعض أعماله ونظر إليه بوعي أكبر، ومع التجريب المستمر جعل هذا الشكل كآنه ملكًا له.بهذا التعبير يصف المحرر جاكسون جيه ـ بينسون لكتاب الروايات القصيرة جدًا لجون شتاينبك، ويرى جيه ـ بينسون، أن الكتابات الروائية المكثفة، القصيرة والموجزة تظهر من أفضل كتابات شتاينبك . تستعرض هذه المجموعة وتنظر إلى ما هو أبعد من التصنيف والنقد الكثير على كتابات شتاينبك وقد تعرضت إلى نقاط القوة والضعف الحقيقية في الأعمال. في هذا يوضح النقاد المساهمين أنه أبدع حتى في الروايات القصيرة جدًا إلا أنها غالبًا ما تم انتقادها لتوجهه في هذا النوع الذي كان غريبًا وكانت بعض الروايات يصل عدد صفحاتها إلى الاف الصفحات، لكن شتاينبك أبدع بعبقرية مذهله في خلق الكثير من العمق والتعقيد في كل أعماله وخاصة التي تميزت بالقصر والإيجاز والتكثيف الشديد.
الإيجاز والقصر لم يمنع أن تتحول بعض أعماله إلى أفلام عالمية: حولت روايته عناقيد الغضب وهي تقريبًا 500 صفحة تعتبر قصيرة في ذلك الزمن، إلا تحولت إلى فيلم شعبي من اخراج جون فورد في 1941.
كما تحول كتابه شرقي عدن إلى فيلم في 1955 من بطولة الممثل جيمس دين.
وأصبح كتاب المهر الأحمر أيضاَ فيلمًا هوليووديًا في 1949 ومرة أخرى عام 1973 من بطولة هنري فوندا.
أورد لكم ملخص الكتاب النقدي وهو متوفر على منصات الكتب الدولية

The Short Novels of John Steinbeck
Critical Essays with a Checklist to Steinbeck Criticism
Book
Pages: 360
Editor: Jackson J. Benson
Contributors: Joseph Fontenrose, Robert Gentry, Anne Loftis, William Goldhurst, Mark Spilka, Howard Levant, Tetsumaro Hayashi, John Ditsky, Peter Lisca, Jackson J. Benson, John H. Timmerman, Michael J. Meyer, Roy S. Simmonds, Charles R. Metzger, Louis Owens, Richard Astro, Carroll Britch, Mimi Reisel Gladstein, Robert E. Morsberger, Clifford Lewis
Subjects
Literature and Literary Studies > Literary Criticism
The Grapes of Wrath is generally considered Steinbeck’s masterpiece, but the short novel was the form he most frequently turned to and most consciously theorized about, and with constant experimentation he made the form his own. Much of the best—and the worst—of his writing appears in his short novels. This collection reviews what has been categorized as the “good” and the “bad,” looking beyond the careless labeling that has characterized a great deal of the commentary on Steinbeck’s writing to the true strengths and weaknesses of the works. The contributors demonstrate that even in the short novels that are most often criticized, there is more depth and sophistication than has generally been
***

حميد عقبي
......................
* وفي هذا رابط خمس روايات قصيرة جدًا للكاتب جون شتاينبك، هذا الكتاب مجاني، نص وصوت
https://archive.org/details/in.ernet.dli.2015.126732/page/n1/mode/2up?view=theater
الخمس الروايات القصيرة جدًا، عدد صفحات الكتاب 547، نتمنى لكم قراءة ممتعة.

ليست تلبانة مجرد قرية في قلب الدلتا، بل هي سِفرٌ ممتد عبر العصور، يحكيه النيل حين يفيض، فيجلب الخير، أو حين يشح، فيختبر صبر أهلها. اسمها ذاته يحمل دلالة على علاقتها بالماء والتاريخ، فـ"تل لبانة" تعني القرية التي نشأت فوق ربوة عالية، احتمت بها من فيضان النيل، وظلت شاهدًا على تقلبات الزمن.
هي مسرحٌ لصراعات الإنسان مع الطبيعة، مع السلطة، ومع ذاته. بين مروجها وأزقتها، تدور الحكايات عن فلاحين بسطاء جابهوا المماليك والعثمانيين، عن متمردين احتموا بالغيطان، وعن رجال حلموا بالهجرة، فابتلعتهم المدن والمهجر، لكن قلوبهم ظلّت معلقة بتلك الأرض.
"تلبانة في ظلال التاريخ"
في الأزمنة الغابرة، كانت تلبانة جزءًا من نسيج الدلتا الخصيب، حيث كانت القوافل التجارية تتوقف على ضفاف الترع، وعاش الفلاحون وفق إيقاع النيل، يحصدون حين يمنحهم الماء، ويجوعون حين يغضب. وفي العصر الإسلامي، أصبحت القرية مجتمعًا زراعيًا متكاملًا، تلتف بيوتها حول المساجد والكتاتيب، ويتوارث أبناؤها الأرض كما يتوارثون الحكايات.
لكن مع وصول المماليك، تحولت القرية إلى ميدان للظلم، إذ أثقلت الضرائب كاهل الفلاحين، وأصبح الوجهاء أدوات بيد الحكام. ثم جاء العثمانيون، ولم يكن حال الفلاحين أفضل، باستثناء ظهور "المطاريد"، أولئك الرجال الذين فروا من بطش الضرائب وتحولوا إلى مقاومين في الخفاء.
في إحدى ليالي الشتاء، جلستُ في حجرة الجلوس في بيتنا، واستمعنا إلى محمد أفندي عقل، ناظر الخاصة الملكية ومن كبار وجهاء القرية، وهو يحكي عن أسطورة "الزير سالم"، الذي يقال إنه مرّ بهذه الأرض، أو أن تلبانة أنجبت رجالًا يشبهونه. تحدّث عن "حسن المطاردي"، أحد أبناء تلبانة، الذي رفض الخضوع، فحمل سلاحه وهرب إلى الوسيات الاقطاعية، يغير على قوافل الحكام، ويسترد بعضًا مما سُلب من قريته. وحين أُلقي بجسده في النيل، لم تمت حكايته، بل بقيت تُروى على لسان الأجيال، كأنها تعويذة تحميهم من النسيان.{تلبانة في العصر الحديث: من الثورة إلى الاغتراب}
حين اندلعت ثورة 1919، كانت تلبانة حاضرة، خرج رجالها يهتفون ضد الاحتلال البريطاني، واحتضنت الحقول الفدائيين الهاربين، في مشهد يذكّر بحكايات المطاريد القدامى. وفي ثلاثينيات القرن، سقط شهداء من تلبانة؛ منهم من ضحى في مواجهة عسكر الهجانة ومن أجل صد تزوير الانتخابات في العصر الباؤد للملكية والقصر. ومع كل موجة من المتغيرات السياسية والحروب الحديثة، ظلت تلبانة تشهد تضحية أبطالها، شاهدة على بطولات لم تُمحَ من ذاكرة الأرض. وبعد سنوات، دخلت القرية في زمن التحولات، بين الإصلاح الزراعي الذي وزّع بعض الأراضي، والهجرة المتزايدة إلى المدن، حيث بدأ شبابها يرون في المصانع وورش القاهرة فرصة أفضل من محراث آبائهم.
لكن التحوّل الأكبر جاء في سبعينيات القرن الماضي، مع موجة السفر إلى الخليج وأوروبا. لم يعد "الحلم" مرتبطًا بالأرض، بل بمغادرتها. صار الرجال يرحلون بحثًا عن حياة أخرى، والنساء ينتظرن أخبارهم عبر رسائل بعيدة، وكأن الزمن قد قسم أبناء تلبانة إلى فريقين: من بقي ليحافظ على الجذور، ومن رحل بحثًا عن ثمار أخرى.
(حين عاد فاروق فهمي إلى تلبانة)
بعد عشرين عامًا من الغربة، عاد فاروق إلى قريته. لم يكن الفتى النحيل الذي غادرها ذات فجر، الي أمريكا بل رجلًا يحمل على كتفيه ثقل السنين.
حين دخل الحارة القديمة، وجدها قد تبدّلت. البيوت الطينية تحولت إلى بنايات رمادية بلا روح، المقهى الذي كان يجمع الرجال لم يعد كما كان، حتى ضفاف الترعة، حيث كان الأطفال يقفزون في الماء صيفًا، صارت مكبًا للقمامة.
سأل عن الشيخ عبد اللطيف ، الحكيم الذي كان يجلس عند باب المسجد، فقيل له إنه رحل منذ سنوات. بحث عن عبد الرازق، صديق الطفولة، فأجابه أحدهم بأنه سافر إلى الخليج ولم يعد.
جلس وحده امام شاطيء الترعة في القرية، يحدّق في الفراغ، يستعيد أصوات الماضي. كاد يسمع هتافات الثورة، وضحكات الفلاحين، وحكايات " المطاريد". شعر بالغربة، لكنه أدرك أن تلبانة ليست مجرد مكان، بل روحٌ تسكنه مهما ابتعد.
في تلك الليلة، وبينما كان القمر ينعكس على ماء الترعة، همس لنفسه:
"التاريخ لا يموت، لكنه أحيانًا يختبئ خلف الجدران."
وفي الصباح، قرر ألا يرحل مجددًا. ولكن كان بين أمرين ترك الاسرة والزوجة في أمريكا والأولاد او ان يعيش مع ذكريات الماضي فقرر الرحيل وثمن الغربة ،،،
***
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري
(من مجموعة قصصية للكاتب)

 

نجد مع هذا المقال غلاف كتاب روايات قصيرة جدا كاملة: أالكاتب الروسي أنطوان تشيخوف والذي تُرجم للإنجليزية ونُشر في يونيو 2004، تجدونه متوفر على منصات عالمية لكتب مثل أمازون، يتكون الكتاب من خمس روايات قصيرة جدا كاملة، تم وصف النوع وجعله على الغلاف، يمكنكم الأطلاع على نص الناشر وسأضع النص باللغة الإنجليزية:

The Complete Short Novels
juin 2004
Édition en Anglais de Anton Chekov (Auteur), Richard Pevear (Introduction, Traduction), Larissa Volokhonsky (Traduction)
Présentation de l'éditeur:
Chekhov, widely hailed as the supreme master of the short story, also wrote five works long enough to be called short novels. The Steppe-the most lyrical of the five-is an account of a nine-year-old boy's frightening journey by wagon train across the steppe of southern Russia to enroll in a distant school. The Duel sets two decadent figures-a fanatical rationalist and a man of literary sensibility-on a collision course that ends in a series of surprising reversals. In The Story of an Unknown Man, a political radical plans to spy on an important official by serving as valet to his son, however, as he gradually becomes involved as a silent witness in the intimate life of his young employer, he finds that his own terminal illness has changed his long-held priorities in startling ways. Three Years recounts a complex series of ironies in the personal life of a rich but passive Moscow merchant, engaging time as a narrative element in a way unusual in Chekhov's fiction. In My Life, a man renounces wealth and social position for a life of manual labour, and the resulting conflict between the moral simplicity of his ideals and the complex realities of human nature culminates in an apocalyptic vision that is unique in Chekhov's work.

لست مترجمًا أدبيًا لكي فهمت من خلال هذا التقديم أن تشيخوف، الذي يُعتبر على نطاق واسع السيد الأعلى لفن القصة القصيرة، كتب أيضًا خمسة أعمال طويلة بما يكفي لتُسمى روايات قصيرة جدًا. مثل عمله"السهب" وبحسب رأي الناشر يراها الأكثر غنائية بين الخمسة الروايات، هذه الرواية هي سرد لرحلة مخيفة لصبي في التاسعة من عمره عبر عربة تجرها الخيول عبر سهوب جنوب روسيا للالتحاق بمدرسة بعيدة. ثم "المبارزة" تضع شخصيتين منحطتين ـ شخص عقلاني متعصب وشخص ذو حس أدبي ـ على مسار تصادمي ينتهي بسلسلة من الانعكاسات المفاجئة. وفي "قصة رجل مجهول"، يخطط راديكالي سياسي للتجسس على مسؤول مهم من خلال العمل كخادم لابنه، ولكن مع تورطه تدريجيًا كشاهد صامت في الحياة الشخصية لصاحب العمل الشاب، يجد أن مرضه المميت قد غير أولوياته التي كان يحتفظ بها لفترة طويلة بطرق مذهلة. ورواية "ثلاث سنوات" تسرد سلسلة معقدة من المفارقات في الحياة الشخصية لتاجر موسكو الثري ،لاحظ الناشر أن استخدم الزمن كعنصر سردي جاء بطريقة غير معتادة في أعمال تشيخوف. في رواية "حياتي"، يتخلى رجل عن الثروة والمكانة الاجتماعية من أجل الحياة في العمل اليدوي، ويتصاعد الصراع الناتج بين البساطة الأخلاقية لمثله العليا والتعقيدات الواقعية للطبيعة البشرية إلى رؤية مفجعة وفريدة من نوعها في أعمال تشيخوف.
اعتقد هذا الكتاب لم يترجم إلى العربية، وهذا النموذج من ضمن أكثر من عشرين نموذج لكتب تم وضع مصطلح رواية قصيرة جدًا على أغلفتها، مصطلح (رواية قصيرة جدًا) ليس أكتشافًا عربيًا تم في 2015 ولا في 2019 ولا في 2023، أن واحد من الذين كانوا يجهلون بالمصطلح وحضرت ندوة لناقد عرافي مقيم بالسويد وصفقت له كما صفق الآخرين وكانيؤكد أن المصطلح ملكية فكرية سجلها في السويد وبعد ذلك بحثنا ووجدنا كاتب عراقي مقيم بالعراق نشر رواية في 2019 وكتب على غلافها (رواية قصيرة جدًا)، نظمنا ندوات نقدية لنغوص في هذا النوع وليس لمنحة براءة اختراع لكن الرجل أصبح يمنح نفسه لقب الرائد ومخترع الرواية القصيرة جدًا ولا يسمع ولا يرى إلا نفسه، المهم لا يمكننا أن نتمسك بجهلنا من أجل فلان المخترع والرائد، الألقاب المزيفة والفخمة توجد بالأطنان على منتديات كثيرة على فايسبوك، يمنحون شهادة دكتوراة، حتى أن سيدة اسمها الحاجة عيشة تمنح شهادات دكتوراة وتعين سفراء وصاحبنا المخترع يمكنه التواصل معها وهي سترحب به، أما المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرحلا نمنح هذه الألقاب وقد نرتكب أخطاء، نسارع بمراجعة أنفسنا ونصحح معلواتنا ونعتذر عن أي خطاء، المكابرة والتمسك بالجهل كارثة هدامة، ولا يوجد إبداع كامل ومنزه.

The Complete Short Novels
juin 2004
Édition en Anglais de Anton Chekov (Auteur), Richard Pevear (Introduction, Traduction), Larissa Volokhonsky (Traduction)

Éditeur ‏ : ‎ Everyman (17 juin 2004)
Langue ‏ : ‎ Anglais
Relié ‏ : ‎ 560 pages
ISBN-10 ‏ : ‎ 1857152778
ISBN-13 ‏ : ‎ 978-1857152777
***


حميد عقبي

حدثني صديقي، وهو من عقول الأدب الراجحة وأقلامه البارعة، فقال:
"يا صاح، إنَّ أهل الأدب في هذا الزمان غرباءٌ في أوطانهم، وإن العراق -وهو منارة الحرف ومهد الفكر- شاهدٌ على ذلك. فهل سمعتَ بمأساة قلمٍ نزف دون أن يُجبَرَ كسرُه، أو بكاتبٍ هام في أرضه دون أن تُرفع له راية؟"
قلتُ: "هاتِ ما عندك، فإنك قد أثرتَ في قلبي فضولاً، وألهبتَ في عقلي شوقاً لمعرفة هذا الحديث."
فقال:
"يا صاح، أليس العراق هو الذي تفجرت من أرضه ينابيع الفكر، وتفتقت في سمائه نجوم العلم والأدب؟ لكن العجب كل العجب أن يُرى الأدباء في هذه الأيام غرباء في أرضهم. فبدل أن يُحملوا على الأكتاف، تراهم يغرقون في زحام الحياة، ويُهمَّشون كما تُهمَّش الورقة في بحرٍ من الأوراق البالية."
ثم أردف قائلاً:
"ألم ترَ كيف أنَّ الأدب في العراق صار كالغريب الذي ينادي في صحراء لا مجيب فيها؟ ترى الشاعر يسكب روحه في قصيدة، فتُقرأ همساً إن قُرئت، وترى الكاتب ينحت أفكاره من صخر، فلا يلقى إلا التجاهل أو الإنكار. وكأنما صار الأدب وصاحبه عبئاً في وطنه، بعد أن كان تاجاً يُوضع على جبينه."
فقلت: "وما السبب يا صاح؟ أهو زهد الناس في الأدب، أم انشغالهم بأمور الحياة؟"
قال:
"بل الأمر أدهى وأمر. فقد صار الأدب غريباً لأن من بيده الأمر لم يعد يرى في الحرف نوراً، بل رآه وهماً. ولو قدَّروا مكانة الأدب، لكان العراق اليوم كما كان بالأمس، منارة الشرق ومأوى الفكر. ولكنَّهم قد تركوا الكلمة تموت في أفواه قائلها، وأهملوا الكتاب حتى علاه الغبار."
فقلت: "وهل من أملٍ يا صاح؟"
قال:
"الأمل في القليل الذين يحملون مشعل الأدب كمن يحمل شمعةً في ظلامٍ دامس. الأمل في من يؤمن أن الحرف أقوى من السيف، وأن الثقافة مفتاح النجاة. فإن عاد العراق إلى أدبه، عاد المجد إليه، وإن بقي غريباً عن أهله، بقي في غربته أسير الظلام.
وما زال يفيض بحديثه، كأنه السحاب يمطر بعد طول جدب، وقال:
"يا صاحبي، ألم ترَ كيف صار الأدب في بلدي كطائرٍ مكبَّلٍ لا جناح له؟ تُقصّ أجنحته وهو بعد لم يعلُ، ويُقمع صوته قبل أن يُسمع. ترى الكاتب يَسهر على مدادِه، يُضيء لياليه بفكره، فإذا أشرقت شمس يومه، وجد حروفه طيفاً عابراً لا يلتفت إليه أحد. والشاعر، ذلك الذي كان صوته يهزّ العروش، صار لحنه نغماً خافتاً في ريحٍ عاتية."
قلت له: "ألا ترى أن هذه الغربة قديمٌ عهدها؟ ألم يكن المتنبي نفسه غريباً في وطنه، يجوب الآفاق طلباً لمن يسمعه؟"
فقال:
"بلى، ولكن غربته كانت كريمة، يتغنّى بها التاريخ، ويُنصفها الزمان. أمّا غربتنا اليوم فهي ذلٌّ مقيم، وعتمةٌ بلا أفق. كان المتنبي غريباً وهو سيد كلمته، أمّا أديب هذا الزمان فهو غريبٌ مهزوم، كأنه يعتذر عن حرفه، ويخجل من قلمه. فيا حسرتاه على الأدب الذي كان نبراس الأمم، ويا أسفاه على وطنٍ أهمل ثروته العظمى: الكلمة!"
فقلت: "وما عسى الأدباء فاعلين في هذا الزمان الذي انقلبت فيه الموازين؟"
قال:
"الأدباء يا صاح، هم كالنخل في العراق، قد تُقصّ سعفاتهم، لكنهم باقون، راسخون بجذورهم في أعماق الأرض.
وإن تنكّر لهم أهل زمانهم، فإن التاريخ لا يُخطئ بوصلته.
الكلمة الحقّة لا تموت، وإن طال بها الأجل،
والحرف الصادق يظلُّ حيّاً، وإن اجتمع أهل الأرض على وأده.
فليكتبوا يا صاح، وليُشعلوا ظلام لياليهم بنور أقلامهم.
لعلّ في المستقبل بصيص أمل، ولعلّ طفلاً يتعلم من دفاترهم، فيعيد للحرف بهاءه، وللأدب مجده."
ودّعني وقد ترك في قلبي أثراً عميقاً، وفي عقلي فكرَةً عظيمة: أن الأدب لا يغترب حقاً، إلا حين يصمت أهله، وأن العراق – وإن جفا الأدبَ في زمانٍ – سيظل حاضنة الحرف ومنارة البيان، ولو بعد حين.
***
بقلم: د. علي الطائي

إلى من يعنيه الأمر من قُرّاء الزمان وأصحاب الأذهان
كيف آل حال الناس إلى هذا الهوان؟
كنا شعوبًا تتفاخر بجسور القلوب، وتتسامر بألحان الوداد، حتى أضحينا كأشباح تذرّها رياح العزلة على أطراف عالم افتراضي كاذب.
قد اجتمعنا حول الموائد يومًا بأرواحنا قبل أجسادنا، وها نحن اليوم نتقابل عبر شاشات لا ترى أعيننا حقًا، ولا تسمع قلوبنا نبضها.
أيّها الإنسان، كيف رضيت أن تختصر صوت الحياة في رموز باردة، وأن تُجَرّد كلماتك من حرارة الإحساس لتصبح سطورًا مبهمة؟ هل تعتقد أن "الإعجاب" يكفي ليُعيد دفء المودة؟ أو أن "تعليقًا" يرقى لمقام الحضور؟
لقد كانت الحكايات يومًا زاد الأرواح، وكانت الأحاديث الدافئة تُعيد ترتيب الفوضى داخلنا، لكننا اليوم نفرّ من البوح، ونختبئ خلف أقنعة زائفة، نسميها "حسابات".
أفي هذا الركض المحموم نحو السراب، لا نخشى أن نفقد أنفسنا؟
إننا نعيش في زمن انقلبت فيه الموازين؛ حيث تكاثرت طرق الاتصال، لكنّ التواصل قد انقطع، وحيث تسارعت الأخبار، لكنّ الحقائق أضحت ضبابًا كثيفًا.
أيها الرفيق الذي تُناديه روحي في غياهب هذا التيه، عُد بنا إلى بساطة اللقاء، إلى دفء الأحاديث التي تُشفي القلوب، إلى صدق العيون التي تُخبر بما تُخفيه الكلمات. دعنا نستلهم الماضي لنعيد ترميم حاضرنا، ونعيد بناء جسور تقودنا إلى أنفسنا.
يا صديقي، ليست الحياة سوى مرآة لما نبثّه فيها. فإن زرعنا فيها أشباح الوحدة، حصدنا فراغًا أبديًا. وإن غرسنا فيها بذور الحبّ والتواصل الحقيقي، تنفسنا حياةً بألوانها الحقيقية.
إلى من يعنيه الأمر من قرّاء الزمان وأصحاب القلوب التي لا تزال تنبض بالحياة، كيف انقلب حال الإنسان، وهو الذي خُلق ليعمر الأرض بالحب والتواصل، فإذا به اليوم يزرع الشوك في حدائق اللقاء، ويغلق أبواب القلوب بأقفال العزلة؟ كأننا نسير عكس الفطرة، نسابق الرياح نحو جزرٍ بعيدة نُسميها "الحداثة"، لكنّها في الحقيقة ليست سوى أوهام تُبعدنا عن حقيقتنا.
أيّها القارئ المُفكر، تأمل هذا الزمن الذي نعيش فيه: زمن كثرت فيه الوسائل وقلّت الغايات، زمنٌ تزاحمت فيه رنات الهواتف، لكنّها أخرست أصوات المشاعر. أتراه تقدمًا أن نُقابل أحبابنا برسائل مقتضبة؟ أن نُعبّر عن الحزن بوجه كئيب أصفر؟ أو عن الفرح بقلبٍ أحمر جامد؟
كنا في السابق نشكو المسافات، ونتحسر على الغائب، لكنّنا رغم ذلك كنا نعيش قربًا لا تقيسه الجغرافيا. كانت القلوب قريبة، وكان للكلمات أثرٌ لا يُنسى، وكأنّ كل حرف يخرج من الروح ليصل إلى الروح. أما اليوم، فقد أضحت الكلمات سلعًا نشتريها من قواميس مكررة، وأصبحت الأحاسيس قوالب جامدة نُرسلها بضغطة زر.
ما الذي حدث لزمن كان اللقاء فيه عبادة، والمجالس محاريب ودٍ يتقرب فيها الناس إلى بعضهم؟ أفي زحمة هذا العصر، نسينا أن الإنسان إنسان لأنه كائن اجتماعي؟ كيف نرضى أن نستبدل دفء اللقاء الحقيقي ببرد الرسائل النصية؟
أيّها الإنسان، إنّ ما يجري اليوم ليس مجرد تدهورٍ في التواصل، بل هو فقدانٌ لمعنى الحياة. حياتنا لم تُخلق لنعيشها منفردين في عزلة إلكترونية، بل خُلقنا لنعبر عن أنفسنا، لنسمع ونُسمع، لنشعر ونُشعر. قد نظن أنّنا نربح الوقت بتسارع الرسائل، لكننا في الحقيقة نخسر الزمن، نخسر لحظات كان يمكن لها أن تكون خالدة في ذاكرتنا.
لنا في الماضي دروس لا تنتهي. تأمل كيف كان الأجداد يجتمعون تحت ظلال الأشجار، يتحدثون عن أحلامهم، يروون قصصهم، ينسجون من كلماتهم روابط تتجاوز الزمن. لم تكن لديهم هواتف ذكية، لكنّهم كانوا أذكى في فهم جوهر العلاقات. لم تكن لديهم شبكات اجتماعية، لكنّهم كانوا شبكة حقيقية من الأرواح المتصلة بالحب.
أيّها القارئ العزيز، هل نسيت دفء المصافحة؟ هل نسيت كيف لرؤية الابتسامة أن تُبدد أحزانك؟ هل غابت عنك تلك اللحظة التي تتلاقى فيها الأعين، فتقول ما تعجز عنه الكلمات؟ إننا بحاجة إلى أن نعيد اكتشاف هذه المعاني لنعود إلى بساطة الأشياء، إلى دفء اللقاءات، إلى حكايات تُحكى لا تُكتب، إلى أحضان حقيقية لا تُختصر برمزٍ أصفر يضحك أو يبكي. لنفتح قلوبنا مجددًا، ونسمح للإنسان الذي بداخلنا أن يتنفس بحرية.
في الختام، إن الحياة قصيرة، لكنّها لا تُقاس بطولها، بل بما نتركه فيها من أثر. لنكن كالشمس التي تُنير من حولها، لا كالشاشات التي تُضيء ظاهريًا لكنها تخفي ظلامًا داخليًا. فالسعادة ليست في عدد المتابعين، بل في عدد اللحظات التي نعيشها بصدق مع من نحب.
***
بقلم: د. علي الطائي
15-2-2025

في صباحٍ ضبابي من تلك الأيام الخوالي، كانت شمس الشتاء الخجولة تلامس مياه الترعة الصغيرة التي تنساب من ماسورة تحت مركز شباب القرية القديم، آتيةً من الترعة العمومية التي تحتضن تلبانة كذراع أم حنون. كانت أشجار الكافور العتيقة تفوح برائحتها النفاذة، فيما تقف شجرة غريبة تميل بانحناءة أشبه بذراع يحتضن الصغار الذين يتسلقونها بحذر أو يجلسون عليها في انتظار القطار الفرنساوي.

على الجانب الآخر، عند كوبري المحطة، تقف قهوة الحاج يوسف، تلك البقعة التي تحمل روح القرية بكل تفاصيلها. قهوة صغيرة لكنها ممتلئة بالحياة، تتوسطها مصطبة عريضة مغطاة بحصيرة، كأنها أريكة ريفية تجمع بين المارة وأهل المكان. يجلس عليها رجال لهم سمات الوقار والخبرة، عماماتهم تلف رؤوسهم بإحكام، وأيديهم تلاعب فناجين الشاي الثقيل أو أكواب الشيشة المتراصة بجانبهم. كان بينهم العمدة، والمأذون، وبعض وجهاء القرية، يتبادلون الحديث عن أخبار المواسم والمحاصيل، وقرارات الحكومة التي تصلهم عبر صوت مذياع خشبي متهالك يصدح بأغاني عبد الحليم حافظ، وأم كلثوم وزمن الفن الجميل    وبين نشرات الأخبار.

في ركنٍ آخر، يجلس شيخ الخفراء، رجل طويل القامة ضخم الجثة بملامح صارمة، يعتمر طاقيته الصوفية، وعصاه الغليظة تستند إلى كتفه، يتابع بعين يقظة كل من يمر، وكأن الأمن كله مستقر تحت ناظريه. بجانبه، تدور معركة حامية على طاولة الطاولة، الزهر يتقافز فوق اللوح الخشبي وصوت الأحجار يضرب السطح مصحوبًا بضحكات ساخرة وتعليقات ماكرة بين اللاعبين، بينما على الطاولة المجاورة، جلس آخرون يتناوبون اللعب على رقعة الدومينو، يطرقعون القطع بحماس، ورؤوسهم تنحني في تفكير عميق قبل أن يلقوا بحجر جديد في اللعبة.

بجانب الطاولة، كانت زجاجات الكازوزة ترتص فوق الطاولات الخشبية، تتلألأ بألوانها الحمراء والصفراء، بينما يرفعها البعض إلى شفاههم في ارتواء بعد جدال طويل أو مباراة ساخنة.

وفي زاوية القهوة، اعتلى عمي فتوح البدوي المصطبة، شيخ الزجالين في القرية، يعتدل في جلسته، يأخذ نفسًا عميقًا من نرجيلته، ثم ينطلق صوته مجللًا بأبيات الزجل، فيتوقف الجميع، حتى لاعبو الطاولة والدومينو، منصتين إلى كلماته التي تتهادى كأمواج النيل في يوم صيفي، بعضها مليء بالحكمة، وبعضها محمل بالنوادر والضحكات.

على رصيف المحطة، كان القطار الفرنساوي يأتي في موعده، ينفث دخانه الأسود، وتخرج من نوافذه وجوه غرباء وعائدين، بعضهم يحمل حقائب السفر، والبعض يحمل رسالة انتظار. وبمجرد أن يتوقف، ينطلق بائع العرقسوس بندائه الرتيب، تتبعه خطوات بائع الجرائد، عمي نصر، الذي كان أشبه بمذيع متنقل، يوزع الصحف مصحوبة بتعليقاته الساخرة عن حال البلد والسياسة. وبينهما، يمر بائع الحامد بعربته الصغيرة، يحمل ألواحه المكدسة بالحمص والفول السوداني، يوزعها على الأطفال الذين يلتفون حوله بضحكاتهم المتقطعة.

كان هذا المشهد هو قلب القرية النابض، حيث تختلط الأصوات بروائح القهوة والعرقسوس والتبغ، حيث يلتقي الأباء كل صباح حتى العصر، يتبادلون الأحاديث، بينما الزمن يدور ببطء في ظلال الريف الحنون.

كنا نحلم بها ونحن غرباء في القارة العجوز، أوروبا. كان الحنين يراودني رغم عبق التاريخ في الفن المعماري في مدن مثل روما، ولكن ستبقى تلبانة، رغم القشرة السطحية من الحضارة، محفورةً في الوجدان والحنين.

تلبانة كما كانت… تسكن الذاكرة ولا تفارق القلب.!!

***

محمد سعد عبد اللطيف

من مجموعة قصصية للكاتب: يوميات كاتب في الأرياف

 

في زمن يُقال فيه إن الورق يندثر ويُستبدل بالرقمنة، تُطل الصحيفة، هذا الأثر الحجري لعصر الحداثة، لتذكّرنا بعبثية المصير الإنساني. كما لو أن كامو يهمس من بعيد: "الإنسان يتمرّد، إذن هو موجود"، فالصحيفة تتمرّد على تقادمها بإيجاد حياة أخرى في جيوب العمّال وعلى طاولات المطاعم وفي لفائف السجاد.
ألم يكن عمّال المصانع، ببدلاتهم الصوفية وصحفهم المطوية على الصدر كدرع ضد ريح الشمال، يطبّقون عمليًا نصيحة ميكافيلي بأن الغاية تبرر الوسيلة؟ لم تكن الصحيفة آنذاك أداة إعلام فحسب، بل كانت درعًا واقيًا، خشبة خلاص ضد قسوة الطبيعة. كم من صحيفة خاضت معركةً لم تقرأ فيها كلمة واحدة، ومع ذلك ربحت الحرب ضد البرد.
وفي زمن الحرب، حين كانت المجاعة أصدق من البيانات الصحفية، تحولت الصحف إلى وقود تحت وطأة الضرورة. كما يقول ماركس: "الإنسان يصنع تاريخه، لكن ليس كما يشاء". فإذا لم تقرأ الجريدة، أحرقتها، وإذا لم تحرقها، أكلتها العثّة – وهي حشرة صغيرة من رتبة الفراشات، تشبه الفراش ولكنها أصغر حجمًا وأقل جمالًا. تعيش العثّة عادةً في الأماكن المظلمة والرطبة، وتشتهر بقدرتها على إتلاف الملابس، السجاد، والأقمشة المصنوعة من الصوف أو القطن، لأنها تتغذى على المواد العضوية الموجودة في الألياف- ولعل الصحف التي قُدّر لها أن تنتهي في المراحيض بدل العقول كانت الأكثر صدقًا، لأن وظيفتها حينها كانت أكثر فائدة من وعود الساسة التي طُبعت عليها.
ثم تأتي سخرية القدر في كرنفال فياريجيو الايطالي، حيث تتحول الصحف إلى دمى مضحكة لسياسيين أكثر هزالة. هنا يتجلى قول نيتشه: "الإنسان شيء يجب تجاوزه". يتجاوز الورق ذاته من وسيلة إخبارية إلى وسيلة ترفيهية، لكنه لا ينجو من دائرة عبثية مكتملة: من الصحافة إلى الورق المعجّن، إلى الفولكلور، إلى السياحة، ثم عودة إلى الصحافة. وكأن الصحف تعيش نسختها الخاصة من أسطورة سيزيف.
وإذا كانت الصحف القديمة تحمي السجاد من العث، فربما لأنها تحتوي من السموم السياسية ما يكفي لتسميم الحشرات. ومن الطريف أن تكون الصحف اليسارية أشد كفاءة في هذا الأمر من الصحف اليمينية، كأن العثّ ينحاز أيديولوجيًا. ألم يقل سارتر: "الجحيم هو الآخرون"؟ حتى العثّ له ميول سياسية!
أما استخدام الجريدة كورقة للف الكستناء الساخنة أو كحماية للأرضيات من رذاذ الطلاء، فهو تذكير عبثي بفكرة ماركوز: "السلعة تُعيد تعريف ذاتها في دورة الاستخدام". فالصحيفة لم تمت، بل أعادت تشكيل نفسها في دورة من العبودية والاستهلاك.
حتى في المطار أو القطار، تظل الصحيفة سلاحًا اجتماعيًا متعدد الاستخدامات. ترفعها عاليًا كراية للتعريف بنفسك، أو كحاجز دفاعي لصد متطفلي المقاعد المجاورة. وكأنك تقول بصمت مع شوبنهاور: "الجدران تحميني من ضجيج العالم".
وفي النهاية، أليس من قمة العبث أن تظل الصحيفة، بعد كل هذا التاريخ من الاستخدامات النبيلة والدنيئة، أكثر فائدة حين يعاد تدويرها؟ إنها دورة حياة ساخرة تليق بهيغل، حيث كل نفي هو مقدمة لإثبات جديد.
فلتُحفظ الصحف، لا كأرشيف للأخبار، بل كأرشيف لعبث الإنسان ومقاومته لأقداره.
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

بعد منتصف الليل، حين تهدأ الضوضاء وينحسر ضجيج الحياة اليومية، تتحول قريتنا إلى مرآة للأرواح التي مضت، وتطفو الذكريات على سطح الظلام. الكلاب تعوي عند أطراف المقابر، كأنها تحرس أسرار الموتى أو تروي لنا حكايات لم نسمعها من قبل. أسير في الشارع الممتد ناحية "الدائرة"، حيث كانت تلتقي طرقات القرية، وأتأمل هذا الليل الشتائي البارد الذي يلف الأشياء بهدوء مهيب.
أتلفّت يمنةً ويسرة، فأرى البيوت التي كانت يومًا ما تعج بالحياة. أين أصحابها الآن؟ تلك الديار التي ضحكوا فيها، احتفلوا، بكوا، وتخاصموا، أصبحت مجرد جدران صامتة تحنّ إلى من سكنها. اليوم فقط، استقبلت مقابر القرية جثمان رجل وامرأة، كما تفعل كل يوم. نخرج جميعًا لتقديم واجب العزاء، ثم نعود إلى منازلنا، نتساءل: من سيعزينا حين يأتي دورنا؟
عند المقابر، تتجلى الحقيقة الكبرى: نحن مجرد عابرين، نظن أننا خالدون حتى نصبح ذكرى على لسان من بعدنا. يتراءى لي شريط من الذكريات، وأتذكر أستاذنا الراحل محمود عبد العزيز حسين، الذي كان يعمل في مؤسسة الأهرام. في زمنه، كان منزله فيلا تميّزت عن بيوت الطين التي كانت تحيط بها، لكنه اليوم مجرد ذكرى، مثل غيره.
ثم تأخذني الذكريات إلى أيام الطفولة، إلى حوش المدرسة الابتدائية، حيث كانت القرية بأسرها تتدفق للإدلاء بأصواتها في الانتخابات. أستعيد مشاهد الصراع على كرسي مجلس الشعب، والوجوه التي كانت تملأ المكان بالحماس والتنافس. أتذكر مهرجانات كرة القدم السنوية، وأصوات الهتافات التي كانت تدوي في الأرجاء، كأنها كانت إعلانًا للحياة.
ولكن، أين هم الآن؟ أين نحن؟ كم يبدو غريبًا أن نتشبث بالحياة، نخوض معاركنا الصغيرة، كأننا سنبقى إلى الأبد، غير مدركين أن النهاية تتربص بنا بصمت. نقاتل من أجل وهم السلطة، نتنازع على أشياء زائلة، ثم نختفي كما اختفى الذين سبقونا. أمام المقابر، تتلاشى كل الفوارق؛ لا غني ولا فقير، لا قوي ولا ضعيف، كلهم سواسية تحت التراب.
أقف هناك، في هذا السكون، وأسرح في الفلسفة الوجودية: ما نحن إلا لحظات تمضي، أسماء تكتب على شواهد، وصدى يتردد في ذاكرة من تبقى. الموت ليس مجرد نهاية، بل هو المرآة التي تعكس زيف صراعاتنا. وبينما أعود أدراجي، أترك خلفي أسئلة بلا إجابات، وأمضي، مثل الجميع، في طريقٍ لا رجوع منه.
ربما الحياة ليست سوى حلم عابر، والموت هو الصحوة الكبرى. نحن نعيش بين ولادة غير مخيرة ونهاية لا مهرب منها، وبينهما نخوض معاركنا اليومية دون أن ندرك أن الزمن لا ينتظر أحدًا. وفي النهاية، تبقى الحقيقة واحدة: لا شيء يدوم، سوى الأثر الذي نتركه في قلوب الآخرين.
يقول أحد الحكماء: "الحياة حلم يوقظنا منه الموت." فهل نحن مستعدون لتلك اليقظة؟
***
من يوميات كاتب في الأرياف
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

كتاب جديد للدكتور عبد العزيز عيادة الوكاع

صدر للكاتب د. عبد العزبز عيادة الوكاع كتابه الجديد (المعنى البلاغي والبيان اللغوي في النص القرٱني.. دراسة دلالية للفظة عبد) عن دار غيداء النشر والتوزيع عمان/الاردن..

 وليس بغريب على مهني متخصص وأكاديمي متمكن، مثل الأستاذ المساعد، دكتور عبد العزيز عيادة الوكاع، وهو من أعلام الأدب والثقافة، وقامة من قامات التنوير والتأثير، في الساحة الأدبية والثقافية، والأكاديمية والمعرفية، أن يفاجئنا بإصدار كتابه الجديد.

لقد إختار موضوعاً دلاليا غير مطروق، حيث وقع اختياره على دراسة جذر لفظ مفردة (عبد) في القرآن الكريم دراسة دلالية، وتتبعه في جميع موارده القرآنية، وسياقاته واشتقاقاته، واستجلاء للنظرة القرآنية، التي وردت بخصوص العبادة، ومفهوم وماهيتها.

تضمن الكتاب ثلاثة فصول، فصل في (التوحيد) وفصل في (الطاعة) وفصل (العباد المماليك).. بتوطئة لكل فصل من فصول الكتاب، يليها جدول بالآيات القرآنية، التي تحمل دلالة كل فصل.

وقد جاء الكتاب بتقديم الدكتور سامي محمود إبراهيم استاذ ورئيس قسم الفلسفة السابق في كلية الآداب جامعة الموصل، حيث عكس التقديم اهمية الكتاب في كيفية مقاربته إشكاليته، وأهم مزاياه في جمع مادة وافرة، في موضع حقل الدلالة، وفلسفة اللغة، وطرح جوانب الإعجاز في الخطاب القرآني، إذ يتبين أن مثل هذا العمل، مهم في رحاب البحث العلمي الرصين، وخاصة في الدراسات اللغوية، والقرآن الكريم..

ولعل اطروحة المؤلف د. عبد العزيز عيادة الوكاع للدكتوراه، التي كانت في مجال الآداب والعلوم الإنسانية (لغويات)، و في تخصص (الدراسة الدلالية في السياق القرآني)، والتي تلاها كتابه (الثراء اللغوي والتنوع البياني في السياق القرآني) الذي تم طبعه ونشره بواسطة (دار الخليج - للطبع والنشر) في عمان، يعدان رؤية جديدة، ونسق معرفي متميز، في مجال الدراسات اللغوية والقرآنية المعاصرة، ناهيك عن نتاجاته، ومقالاته، في مختلف المجالات الثقافية والعلمية واللغوية والاجتماعية، التي تحتل مكانتها المتميزة في أشهر المواقع على الإنترنت.

وتجدر الإشارة إلى أن (اتحاد مكتبات الجامعات المصرية) قد ضم كتابه (الثراء اللغوي والتنوع البياني في السياق القرآني)، إلى قائمة مجموعة مقتنياته من الكتب الرصينة، والمصادر الموثقة، المحفوظة في خزانته. ليكون مرجعا للقراء والباحثين والمهتمين بالدراسات اللغوية والدلالية مستقبلاً.

ولعل كون الدكتور عبد العزيز عيادة الوكاع، حافظا للقرآن الكريم، وواعظاً دينياً، ومدرساً لمادة اللغة العربية، في نفس الوقت، كانت كلها عوامل مؤازرة، منحته خبرة زاخرة بالعطاء، إضافة إلى موهبته الشخصية، مما جعله طاقة إبداعية متوقدة، وكفاءة عالية، تضاف إلى كفاءات الساحة الأدبية والثقافية، ليكون بهذه المعيارية العلمية، والمهنية الرفيعة، مشروع توهج علمي واعد، لخدمة لغة الضاد، لغة القرآن الكريم، والحفاظ عليها، من المسخ والتشويه، بالتداعيات التي أفرزتها معطيات العصرنة الصاخبة. بجوانبها السلبية، المعروفة للجميع.

وهكذا يظل الكاتب الموهوب الدكتور عبد العزيز عيادة الوكاع، نموذجاً متميزاً، للتحدي والتطلع، وعنواناً للإبداع، ورمزاً للاعتزاز، في خدمة اللغة العربية، وعلومها النبيلة

***

نايف عبوش

لستُ من أولئك الذين ينقّبون في الرماد بحثًا عن جمرٍ قديم، ولا ممن ينسجون من الخذلان عباءة يرتدونها في ليالي الحنين. حين يجرحني أحد، لا أقف عند الجرح طويلًا، لا أعدّ الندوب، ولا أستنطق الألم. لا ألملم الشظايا لأعيد تشكيل صورة لا تستحق الترميم.

أنا كالريح التي تعبر المدن ولا تعود ، لستُ شجرة تتوسل بظلها للعابرين، ولا صفحة بيضاء يتسخها حبر الإساءة ثم تبقى شاهدةً على ما كان. أنا أمضي... وأترك خلفي ما لا يليق. لا أبحث عن العدالة في قلوب لا تعرف سوى الطعن، ولا أطالب أحدًا بأن يكون ملاكًا، فقط أن يكون إنسانًا، أن يعي أن الكلمة سهم، والخذلان سكين، والصمت في حضرة الجريمة إثم.

لكنني حين أُخذل، لا أقتصّ. لا أرفع راية الحرب، لا أكتب رسائل العتاب، لا أنسج الحكايات الحزينة. أكتفي بأن أنفض الغبار عن روحي وأرحل. أرفع رأسي عاليًا، لا لأنني لم أُجرَح، بل لأن الجرح لم يستطع أن يحني قامتي. أنظر إلى الأمام، لا لأنني نسيت، بل لأنني اخترتُ ألا أحمل الموتى على ظهري، فبعض الخيبات قبور، وبعض الوجوه أوهام، وبعض العلاقات أوهى من بيت العنكبوت.

لا ألتفت كثيرًا، ليس ضعفًا، بل لأنني أقوى من أن يُثقلني الغدر، أن يطاردني الظل، أن أبقى أسيرة خطأ لم يكن خطئي. الحياة قصيرة، والعمر لا يكفي لحزم الأمتعة والوقوف طويلاً على عتبات الذين لم يعرفوا قيمتنا. أمضي، لأن الأمام دائمًا أوسع من الخلف، لأن الشمس لا تشرق مرتين في اليوم ذاته، ولأنني أعلم أن ما ينتظرني هناك... أكثر نقاءً، وأكثر استحقاقًا لقلبي الذي لا يخون نفسه.

***

مجيدة محمدي – شاعرة تونسية

 

في المثقف اليوم