أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

هل تكفي جلستان معهما تفقدهما بعدها ليسرح في قلبك حزن يجبل ذاته بعبير ورود استقبلتك في تلكما الزيارتين في مدخل بيتهما؟!

وهل لو قدر لك اختيار شكل موتك ستختاره رومانسيا، وأنت تعلم أنهم سينسجون حوله حكاية لعاشقين ظلا حتى لحظاتهما الأخيرة يدا بيد، أمنية تتمنى لو أن الكون لا يفرقهما؟!

وهل يجذبك المكان الذي عشقته، وأكثرت من التردد عليه لتمارس هواية تحبها لتقضي نحبك فيه، وأنت الذي شرقت تفاصيله وتنفستها؟!

وهل يقدر لأناس أن يلتقوا، لأن قدرا ما يجمعهم، ولأن أحاسيس ما سيعيشها طرفان سترافقهما ذكرى جميلة رغم ما ستغص به من الألم؟!

وهل الوجوه المرايا تعكسك في الانطباع ذاته، وحين حملت لها الود بادلتك بالود ذاته؟!

ترى حين نغوص في أسرارك يا حياة على أي شطّ سنتوقف، وفي أي الأبواب سنلج، ومن أي الكنوز سنعبّ؟!1369 aman

السيد أحمد دنيا، وزوجته السيدة حليمة النابلسي/ دنيا لبنانيا الأصل من مدينة المنية التابعة لطرابلس، عزيزان قريبا غاليين علي، صعقني خبر موت الزوج، وطريقته وما حصل للزوجة، خبر دريت به منذ ساعات، ومن حينها والمشاهد أمامي تتوالد، ورغم أنهما كانتا زيارتين لبيتهما فقط، لكني أقف دهشى مما راحت تشتغل عليه ذاكرتي من الإضاءات، وكأنهما سنوات أزورهما كل يوم، ولا أنقطع..

في أولاهما حفّني عبير الزهور في صدارة بيت أفصح عن دفئه، وسار معي وافترش جلسة ثنيتها بصحبة صديقتي الغالية سلام أخت صاحبة المنزل وزوجها الغالي أخي عمر علم الدين، وجميعهم ينحدرون من بيوت كرم وحفاوة وود ووفاء يندر وجوده في هذا الزمان، وفي مدينة مثل سيدني غربية تبعد، وتنأى في كل شيء عما حملناه من موروثات وتقاليد كعرب، وكمسلمين في أوطاننا الأم.1370 aman

كان بود يوم الاثنين المنصرم أن يكون يوم نزهة مرح، وصيد لزوجين في سن التقاعد جمع بينهما الحب وظللتهما السكينة، اعتادا التردد على ركن من نهر باراماتا عندما أفلت قياد السيارة من السيد أحمد رحمه الله، ويعتقد أنه داس على دواسة البترول، وأول ما شحط أمامه زوجته التي ارتفعت في الهواء، وسقطت ثانية على مقدمة سيارتهما السوداء التي أودت بجزء من الجدار السلكي الفاصل بين النهر والرصيف، قبل أن تسقط بثقلها في النهر دائرة تسحب طريقها المائي إلى عمق النهر!

قدرت الحياة لحليمة الزوجة الوادعة، شفاها الله وعافاها، لكن الموت استأثر بزوجها الرجل الثمانيني الوقور الهادئ كطفل بريء..

ستصاحبني جلستان معهما في بيت نطق بنظافة ناصعة، نظافة قلبين استضافاني ذات مرتين، وسيظل الطريق إلى بيتهما يغدق في قلبي نورا رغم أنه كان مظلما في تلكما الساعتين، وستعنّ على البال سنارة صيد، وسلة بلاستيكية لحفظ الأسماك التقطتا صورة تذكر بحبيبين سقطت ورقة أحدهما بعد أن ناداه الله إلى واسع رحمته، وقدّر للآخر أن ينتظر منفردا يعيد ترتيب المشاهد مثلي بدمع لن يضاهيه نهر برماتا غزارة وسيلانا..1371 aman

أمان السيد - سيدني

16-4-2025

 

حين تختنق الروح بصمتٍ مدوٍّ، تبدأ بالانطفاء.. تُمارس الحياة بجسدٍ حيّ وقلبٍ يحتضر.

تمشي، تضحك، تتحدث… لكنك تحمل بداخلك جنازةً مؤجلة، وجعًا عالقًا، وحنينًا لا تعرف مصدره.

حين تنطفئ، لا يعني أنك ضعيف، بل يعني أنك تعبت من القوة.

تعبت من مجابهة الحياة بصدرٍ مفتوح دون أن تجد كتفًا تستند عليه…

من محاولات التماسك كل مرة، من رفع رأسك كلما انكسر، ومن قول "أنا بخير" وأنت لست كذلك.

كل الذين قالوا "أنا هنا إن احتجتني"، لم يكونوا هناك حقًا…

كانوا مجرد صدى بعيد، كلمات عابرة، تعاطف مؤقت، ثم مضوا.

ولم يبقَ أحد يلمّ شتاتك حين بعثرتك الحياة…

في لحظة ما، تشعر بأنك غريب حتى عن نفسك.

تجهل مَن تكون، ولماذا تبدو ضائعًا.

تتفقد ملامحك في المرآة… تبحث عن النسخة القديمة منك، لكنها لا تعود.

تحاول أن تكتب، أن تبكي، أن تصرخ… لكن لا شيء يُخرج هذا الكم من الألم.

المؤلم ليس فقط أن تُخنق، بل أن لا يفهم أحد معنى اختناقك.

أن يُفسَّر حزنك بالتمثيل، وسكوتك بالغرور، وبعدك بالتجاهل.

أن يشعر بك قلبك فقط، بينما العيون من حولك عمياء عن كل ما يجري داخلك

ربما أنت لا تحتاج إلى من يُنقذك…

بل إلى من يفهم صمتك، يقرأ ملامحك، ويُمسك يدك دون أن تُخبره أنك على وشك السقوط.

ربما أنت لا تطلب الكثير… فقط حضنًا صادقًا، و"أنا معك" لا تشبه الوعود الكاذبة.

هذه ليست قصة حزن مؤقت…

بل قصة أرواح صارت معتادة على الحزن، لدرجة أن الفرح صار غريبًا عنها.

هذه ليست كلمات شخصٍ ضعيف…

بل كلمات قلبٍ قوي تعب من الصراخ في فراغٍ لا يسمعه أحد.

***

ايناس الحربي

في قصته الرمزية “الفونوغراف الأزلي”، كتب خورخي لويس بورخيس جملة تختزل مصير الإنسان في العصر الحديث: “الإنسان يموت عندما تختفي مكتبته”. لم يكن يتحدث عن اختفاء مادي لرفوف الكتب، بل عن اندثار كينونة الإنسان المفكّر، عندما تُسلب منه أدوات الذاكرة، والتأمل، والربط، والتأويل. المكتبة عند بورخيس ليست أثاثاً ثقافياً، بل جهازاً وجودياً يصنع المعنى، ويمنح الذات هويتها التاريخية والرمزية. حين تختفي المكتبة، لا يغيب الحبر والورق، بل يغيب الإنسان بما هو كائن متسائل.

2- من الذات المفكّرة إلى الكائن المُدار

لقد دخل الإنسان، من دون وعي، عالماً تُديره خوارزميات، وتُسيّره آليات لا مرئية تتعقب سلوكياته، وتعيد تشكيل رغبته، وتُعيد برمجته وفقاً لمعطيات السوق. لم يعد الفرد كائناً يفكر، يقرّر، يتخيّل، بل صار يُدار عن بُعد بواسطة تقنيات التتبع والتحليل السلوكي التي تديرها شركات التكنولوجيا العملاقة. أصبح الإنسان مجرد بيانات رقمية، مادة قابلة للقياس، يتم التلاعب بها لأغراض تسويقية وسياسية. وهنا يموت الإنسان كذات حرّة، ويُبعث كـ”مستخدم” ضمن نظام تشغيل رأسمالي.

3. اقتصاد الألم وإدارة الجسد

التحوّل الأكبر لم يقف عند حدود الفكر والرغبة، بل تجاوزهما إلى الجسد ذاته. شركات الأدوية الكبرى لم تعد تسعى إلى علاج الإنسان بقدر ما تسعى إلى إدارة ألمه واستثماره. فالأمراض المزمنة تدرّ أرباحاً أكبر من الشفاء، والألم المستمر أكثر نفعاً من الراحة. نحن أمام اقتصاد مبني على وجع الإنسان، تتلاعب به شركات تسعّر الأدوية، وتتحكم في الإمدادات، وتنتج علاجات مؤقتة تبقي المريض في حالة استهلاك دائم. وهكذا يتحوّل الجسد إلى سلعة، والألم إلى عملة، والحياة إلى معمل تجاري مفتوح.

 سحق الذاكرة وتحويل الروح إلى خوارزمية

في هذا السياق، لا يُمحى الجسد فقط، بل تُسحق الذاكرة. الإنسان لم يعد بحاجة إلى أن يتذكّر، أن يحلم، أن يتأمل؛ فالتقنيات الجديدة تعرض عليه كل شيء جاهزاً: ملخصات، إشعارات، مقاطع قصيرة، ترشيحات أوتوماتيكية. أصبحت الروح عبارة عن ذاكرة خارجية مخزنة على خوادم ضخمة، يحدد الآخرون ما يبقى منها وما يُمحى. وهكذا، تحوّلت الروح من كونها مجالاً للتجربة والعمق، إلى خوارزمية تُملى عليها اهتماماتها، وأذواقها، ومواقفها.

المكتبة: آخر معقل للمقاومة الرمزية

في مقابل هذا الانهيار الرمزي، تظهر المكتبة كملاذ لا غنى عنه. ليست المكتبة، في هذا السياق، مجرد مكان تُخزَّن فيه الكتب، بل هي معمار روحي ومعرفي يقاوم ابتذال الوجود، ويدفع الإنسان إلى التأمل، والمساءلة، والتخييل. في المكتبة، يعود الإنسان إلى ذاته؛ إلى الأسئلة الأولى، إلى الأنساق الكبرى التي تُفسر العالم. إنها الفضاء الذي يسمح له بالخروج من فقاعة الاستهلاك، والتفاعل مع نصوص لا تخضع للّحظة الرقمية، بل تُمثّل تراكمًا تاريخياً وفلسفياً يُغذّي المعنى.

القراءة فعل حرية… لا استهلاك

القراءة هنا ليست نشاطاً ترفيهياً، بل موقف وجودي. من يقرأ لا يُدار، لأنه يملك أدوات المقاومة: العقل، الخيال، اللغة، والذاكرة. القراءة تُبطئ الزمن، وتفتح نوافذ على احتمالات غير مفروضة، وتعيد للإنسان قدرته على قول “لا”. من يقرأ لا يكتفي بالتمرير، بل يسأل ويُعارض ويعيد ترتيب المعنى خارج حدود السوق.

أن تحيا بمكتبة… أن تبقى إنساناً

حين تختفي المكتبة، لا تغيب الكتب فحسب، بل يُمحى الإنسان ككائن رمزي، مبدع، متأمل. حين تُستعاد المكتبة، تُبعث الذات من جديد. المكتبة، بما تحمله من مخزون لغوي وفلسفي وأخلاقي، تُعيد للإنسان صورته التي شوّهها التسليع الرقمي والتفاهة المنتجة على نطاق واسع. إنها الحصن الأخير في معركة المعنى، وهي السبيل إلى النجاة من العدم الناعم الذي تفرضه الخوارزميات.

خاتمة: لا خلاص بلا ذاكرة

في زمن تسحق فيه الرأسمالية الرقمية الإنسان بين شاشات تُلهيه وأدوية تُبقيه ضعيفاً، تبدو العودة إلى المكتبة ليست فعلاً ثقافياً فقط، بل ضرورة وجودية. الإنسان الذي لا يتذكّر، لا يقرأ، لا يتأمل، لا يمكنه أن يكون حراً. وحين يموت المعنى، تموت الذات. وحين نحيي المكتبة، نمنح أنفسنا فرصة أخيرة لنكون بشراً، لا مجرد رموز في قاعدة بيانات عالمية

***

يونس الديدي - كاتب مغربي

بقلم: هيذر كريستيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لا ينبغي السماح بإخراج ضلعٍ من جسد أي كاتب، فما بالك بشاعرة.  فالاستعارة قوية جدًا لدرجة أنه، بعد الجراحة، ستضطر إلى التعامل ليس فقط مع الآثار الجانبية المعتادة (الإمساك، وجرح صغير في الرئة، وألم يتطلب مسكنًا بقوة "عشرة" على مقياس الوجوه المتألمة المنتشر)، ولكن أيضًا مع صدى باقٍ يهدد بالانفجار في كل جملة تلتها، سواء كانت تنطق بها أو تكتبها.

تصرخ: أخذوا ضلعي!"

تجيبها الصديقة الزائرة في محاولة للمساعدة

"وهل صنعتِ امرأة؟"

تقول الكاتبة، تلك الإلهةَ الخرقاء اليائسة.

"لا "

ثم تضيف:

"لكنني، صنعتُ كتابًا."

***

هل لديك مذكرات بداخلك، لكنك تعانين في إخراجها؟"

يسأل غلاف كتاب تعليمي. أجد هذا مضحكًا للغاية، وكأن المذكرات هي الشيء الذي يصعب عليك شرحه لطبيب المستقيم في غرفة الطوارئ. كما يبدو غير دقيق؛ فالكتب تمر عبر الجسد، وتتشكل بطرق معينة بفعل الجسد، لكنها — من خلال تجربتي — لا تنبثق ببساطة كاملة التشكّل من الداخل.

شعرتُ وكأنها صفقة من حكاية خيالية: أتنازل عن ضلعي، فيسلمني رجل صغير ملتحٍ كتابي، أخيرًا مُذهّبًا.

ومع ذلك! أخذوا ضلعي! في ذلك الوقت، كنت أحاول إنهاء التعديلات على رواية In the Rhododendrons، وهو مذكرات كنت أعمل عليها منذ ست سنوات. بدا الأمر كصفقة من قصة خيالية: أتخلى عن ضلعي، فيعطيني رجل ذو لحية كتابي، وقد أصبح ذهبيًا أخيرًا. في الثاني من أبريل 2024، استيقظت لأجد يدي اليمنى وذراعي ثقيلتين ومتورمتين، بلون غير جذاب بين الرمادي والأرجواني الداكن. بدا أن هذا أمر سيء، لذا ذهبت إلى غرفة الطوارئ، حيث أخبروني أنني مصابة بتجلط دموي في الوريد العميق بالقرب من عظمة الترقوة، بالإضافة إلى وجود انسداد رئوي صغير. السبب كان متلازمة باجيت-شروتر، وهي حالة نادرة يتطور فيها الضلع العلوي وعظمة الترقوة والعضلة بطريقة (غالبًا نتيجة للتمارين الرياضية المرهقة المتكررة) بحيث يتم سحق أحد الأوردة الرئيسية التي تمر عبر المنطقة تدريجيًا إلى درجة أن الدم لا يستطيع التحرك بشكل طبيعي، بل يتجمع في كتل من المادة الحمراء اللزجة.

قال لي الجراح بعد أن نقلوني إلى غرفة المستشفى استعدادًا للعلاج العاجل: "توجد هذه الحالة غالبًا في الرياضيين الشبان شديدي اللياقة البدنية"، فشعرت أنني أستحق درجة A للتمارين المكثفة التي كنت أقوم بها تقريبًا يوميًا لمدة أربع سنوات. في وقت لاحق، في غرفة العمليات، أثنت ممرضة على عضلاتي، فوضعت نجمًا ذهبيًا آخر على مخططاتي الداخلية قبل أن أفقد الوعي. غروري ليس له علاج معروف.

خلال فترة الاستشفاء الأولى تلك، كان التركيز منصبًا ببساطة على إزالة الجلطة، وهي عملية من جزأين، قضيت بينهما الليل في وحدة العناية المركزة، في ألم لا يُحتمل وبركة من البول تخصني. وقد نتج هذا الأخير عن رفض ممرّض الليل تصديق أن الجهاز ذي الاسم المروّع "بيوروِك" لم يكن يعمل بشكل صحيح، إضافة إلى رفضه طلبي البسيط بأن يتفحّص، كما تعلم، أغطية السرير.

أما السبب وراء الألم فكان رفضه مساعدتي على إمالة جسدي المجمَّد قليلًا إلى الجانب، إذ قال إن ذلك قد يؤدي إلى طعن الأعضاء الداخلية بالقُسطرة المثبتة في أعلى فخذي. ولم يكن بإمكانه إعطائي مسكنًا للألم، خوفًا من أن يتداخل مع المواد المختلفة التي كانت تسري بالفعل في عروقي وتدفع أرقامي—وكان لديّ الكثير من الأرقام—إلى مناطق الطوارئ.

قلت:

"أرجوك"

لكنه لم يسمعني ومضى مبتعدًا. بكيت. بلغ وجهي الدرجة القصوى من الألم.

وكأن الكلمات كانت سُلّمًا يمكنني التشبث به بدل السقوط في الهوّة المحيطة بي، بدأت أردد القصائد لنفسي، وحين نفدت، لم يتبقَّ لي سوى ترديد ترنيمة بسيطة: "أنا شاعرة، أنا إنسانة، أنا شاعرة، أنا إنسانة"، وأنا أشعر بوحدة تامة، وكأنني منبوذة، مستبعدة من كل تعاطف بشري.

لم يكن هناك شيء سوى الظلام ونقاط وامضة. حمراء، صفراء، خضراء.

وفي الصباح، حين أعادت الشمس الألوان الأخرى إلى الغرفة، أبدت الممرّضات الجديدات امتعاضهن وهن يغيّرن فراشي وأدويتي.

قلن لي:

"عليكِ أن تُخبِرينا بهذه الأمور! نريد أن نتجنب الألم"

لم تُجرَ العملية التالية، وهي إزالة الضلع المسبّب للمشاكل، إلا بعد مرور شهر آخر. بعد ذلك، أراني الجرّاح صورةً له. بدا وكأنه ضلع احتياطي، وهو كذلك بالفعل، إذا أخذنا كل الأمور بعين الاعتبار.

في اليوم السابق لذهابي إلى غرفة الطوارئ، كنتُ قد أرسلتُ مسودة المخطوطة إلى والدتي عبر البريد، لأنني كنت بحاجة إلى أن تتحقّق من الحقائق الأساسية في السرد، ولأنني كنتُ أعلم أنها ستجد قراءة الصفحات أمراً صعباً. كنتُ أرغب في تمهيد أكثر الطرق لطفاً نحو نشر الكتاب. ثم عدتُ إلى المنزل ومارستُ التمارين باستخدام أوزان جديدة أثقل من المعتاد، في محاولةٍ لإبعاد ذهني عن كل شيء.

عندما بدأتُ العمل على رواية " بين نباتات الرودودندرون"  كنتُ أتصوّر أنه سيدور حول موضوع حدائق كيو، تلك المساحة النباتية الواسعة التي كانت والدتي تلعب فيها في طفولتها، على مقربةٍ من منزلها في الجانب الغربي من ضواحي لندن. كنتُ أعرف كيف أُنشئ مثل هذا البناء؛ فقد سبق أن فعلتُ ذلك في كتاب البكاء. من تلك النقطة المركزية في كيو، كنتُ أظنّ أنّني سأجد محاور تشعّ منها — تواريخ شخصية وعامة، معلومات علمية واقتصادية وثقافية، مع اهتمام مستمر بحياة وأعمال فرجينيا وولف، التي كانت قد أقامت في الجوار ذات يوم.

أحدُ المحاور المشعّة في سجلّ تاريخي الشخصي يتضمّن ليلة لا أتذكّرها تمامًا، كنتُ فيها فتاة في الرابعة عشرة من العمر، ثملة، دخلتُ مع رجل إلى زقاق خلف نادٍ ليليّ في لندن، وخرجتُ ودمٌ على ملابسي الداخليّة. لم يكن ذلك أمرًا تافهًا، لكنه أيضًا لم يبدُ وكأنه في صميم الكتاب.

شهرًا بعد شهر، كنت أضيف دائرةً تلو الأخرى: بيت النخيل الضخم في حدائق كيو، وكيف كان زجاجه في السابق أخضر اللون، والطريقة التي وصفت بها وولف بريقه، "كما لو أن سوقًا كاملًا من المظلات الخضراء اللامعة قد فُتح تحت الشمس"، ثم أوجه الشبه المعمارية بينه وبين قصر الكريستال، وكيف أن أول مشاة بريطانية قُتلت بسيارة كانت على مضمار السباق قرب قصر الكريستال، وكيف أنها — قبل أن تصدمها السيارة — رفعت مظلتها وكأنها قد تحميها.

كان هذا مجرد خط واحد من خطوط الاستقصاء. وقد تورّمت المسوّدة لتتجاوز 120 ألف كلمة، قرأتها وكيلتي الأدبية — ببطولة — ثم اقترحت بلطف أن أبدأ بتقليصها. هناك سطر من قصيدة لتوني توست غالبًا ما أفكر فيه: "لا أعرف كيف أتحدث عن والدي البيولوجي، لذا سأصف البحيرة."كانت لديّ بحيرات كثيرة. وبدأتُ عملية تجفيفها.

من المنطقي أن يصبح إتمام تأليف كتاب صعب مرتبطًا مجازيًا بمغامراتي الطبية المتزامنة.

في أول حديث لي مع المحررة، سألتني عمّا أظن أن الكتاب يدور حوله، في جوهره، فلجأت إلى كذبة مريحة: قلت إن الكتاب—مع بعض الانحرافات العرضية—يدور حول ثلاث نساء: أمي، وفرجينيا وولف، وأنا. ثم رأيت، لخيبة أملي، أن هذا كان صحيحًا، مما عنى أنني لن أكتفي فقط بمواصلة هذا الاستنزاف، بل سيتوجب علي أيضًا أن أنظر مباشرة في أحداث من حياتي كنت، حتى تلك اللحظة، أُبقيها تحت الماء. وما هو أصعب من ذلك، كان علي أن أرى الروابط بينها.

تنقلت بين دفاتر يومياتي القديمة، ورسائل، وأحاديث مع العائلة، وغالبًا كنت أتمنى لو أنني أجد معانيَ مغايرة لما هو موجود فعلًا، لكن ما إن تعلّمت ما تعلّمته، حتى بات الكتاب يطلب حضور هذا الفهم الجديد. لا يمكنك أن تنسى ما عرفت، لكن يمكنك أن تصوغه في كلمات تُرضيك، تصنع كُلاً حيث لم يكن هناك شيء.

حين وضعت المخطوطة في ظرف لأرسلها إلى أمي، ارتجفت يداي. كنت قد بذلت كل ما في وسعي لأكون عادلة، ولأفهم تجربتها هي أيضًا، لكن كما يذكّرني الناس دائمًا، مقتبسين داني ألتمان: "لا أحد يقول بحماسة: يا للفرحة! هناك كاتبة مذكرات في العائلة!"

هل كان التوتر الناتج عن تخيّل أمي تقرأ كتابي هو ما جعلني أرفع أوزانًا أثقل من المعتاد في تلك الليلة، وأتمرن حتى أسحق أفكاري؟ هل كان فعل كتابة الكتاب، مثل إزالة الضلع، نوعًا من التحرّر؟

حين أكون في خضم الكتابة، يصبح العالم بأسره قائمًا على علاقات محتملة. ولكي أقول الحقيقة، فإن هذا الأمر يكون مثيرًا في العادة، حتى عند التعامل مع مواضيع صعبة. الصور تتكاثر، ولا شيء يخلو من معانٍ متعددة. "كل شيء"، كما كانت وولف تمزح مع شاعر أحبّته، "كان في الحقيقة شيئًا آخر." لذا يبدو منطقيًا أن يكون فعل إتمام كتابٍ مُتطلب قد ارتبط مجازيًا بمغامراتي الطبية المتزامنة.

ومن داخل هذه الحالة المتشابكة، صرت أطرح على نفسي سؤالًا: ماذا كنت سأفعل لو اضطررت للاختيار بين وجود الكتاب واحتفاظي بضُلعي، وبالتالي تجنبي لشهور من العمليات الجراحية المتعددة وتعافيّ المعقّد والمضني؟ وكنت أختار الكتاب في كل مرة. وهذا جيد. فهذا يعني أنني أؤمن بهذا العمل، رغم قلقي المعتاد (وولفيّ الطابع) من ظهوره الوشيك إلى العالم.

لكن هذا لم يحدث. لم يكن هناك رجل صغير يحدّق في ضلعي وهو يحمل كتابًا ذهبيًا في يده. (ماذا عساه كان سيفعل به؟) التجويف الصغير الذي يقع الآن تحت ترقوتي لا يشبه بأي حال شكل صفحاتي.

صحيح أنني أستطيع أن أرسم روابط (مثل التمرين الذي ذكرتُه، أو عادتي في العمل منحنية لساعات فوق اللابتوب على أرضية الخزانة، بوضعيّة فأر شديد التركيز ومدرّب جيدًا)، لكن ثمة الكثير من العوامل الأخرى التي سيتعين عليّ استبعادها كي أجعل هذا المعنى المبسّط ينجح.

ولذا أواصل إرغام نفسي على الاعتراف بأنه لم يكن هناك تبادل، ولا صفقة، ولا حكاية خرافية. ها هو الكتاب، وها هو ضلعي. أحدهما حكاية، والآخر حياتي. أحدهما فن، والآخر جسدي. وأنا أعرف الفرق. فقط، وللأفضل أو للأسوأ، في المرض كما في الصحة—أنا أعيش في كليهما.

***

.....................

الكاتبة: هيذر كريستل / Heather Christle مؤلفة المجموعات الشعرية: "المزرعة الصعبة"، و"الأشجار"، الحائزة على جائزة "بيليفر" للشعر، و"المدهش"، و"غروب الشمس". نُشرت قصائدها في مجلة "نيويوركر"، ومجلة "لندن ريفيو أوف بوكس"، ومجلة "بويتري"، والعديد من المجلات الأخرى. تُدرّس الكتابة الإبداعية في جامعة إيموري بأتلانتا. "الكتاب الباكي" هو أول كتاب لها في مجال الكتابة غير الروائية. مؤلفة كتاب "Between the Rhododendrons" تتأمل في المرض، وفيرجينيا وولف، وصفقةٌ من حكاية خيالية

 

نحمد الله ونشكره، أننا اكتشفنا جداً لنا اسمه (غشيم)، إثر حملات التأطير السكاني والجرد الحزبي، التي تقوم بها أجهزة نظام صدام حسين الأمنية والحزبية، والنبش في سجلات العراقيين المدنية للتأكد من تبعيتهم (العثمانية) منذ ستينيات وسبعينات القرن الماضي، وإستمرت حتى نهايته بأساليب و(فنون) لا مثيل لها في البحث عن الأرومات (الأصيلة). لتمنحهم بعد ذلك فرمانات (النقاء) العرقي . هناك شكوك دائمة في عراقيتنا ووطنيتنا، كأننا شعب بلا تاريخ، ولا أصول، شعب مقذوف إلى الحاضر من اللامكان واللازمان. لم تكتف تلك الأجهزة بالأسم الثلاثي، إنما ظلت تنقّب، لا يهدأ لها بال، تتابع السلالات من دون توقف حتى عند گلگامش !

كنا نسبّح بحمده أنهم لم يجدوا في أصولنا أسم (أغا)، أو  (جيهان) أو اسم (شاه) في سلالتنا (الصافية المصفّاة)، ربما كان مصيرنا أسوأ من أولئك الذين رموهم على الحدود فيما لو عثروا على إسم (قلي) بيننا، فحمدنا الله مرة ثانية أنهم وجدوا (غشيم) والد جدي (علي)، وليس غيره، هو الرباعي ضمن تسلسل الأسماء، واكتفوا به، إذ لا مثيل لاسمه في السجلات المدنية العراقية، (ماركة مسجلة باسم عائلتنا)، لا أحد يشاركنا فيه، امتيازنا وحدنا، تمسّكنا به خشية أن لا يضيع من بين أيدينا أو ينافسنا أحد عليه.

كنا ننصت الى الأصوات الآتية من الماضي فلم نفلح في إسترجاع صوت (غشيم) ولا صورته.

على الرغم من سعينا القفز على اسمه في حالات لا تتطلبها الإجراءات الرسمية، فنذهب إلى أبيه (حمد)، الأجمل (ما عبّد وحمّد) بين الأسماء، عملتها أكثر من مرة للالتفاف على اسم جدي غشيم، حين ينتابني شعور بالخجل أثناء المناداة على اسمي في جمع من الناس، لا شك أني أتمنى لحظتها أن يكون أسم جدي (نبيه)! لكنه يلازمنا، لا فكاك من ظلّه في كل الأحوال.

لم يكن (غشيم) إبن مدينة، كان إنساناً مشتعلاً بالحرمان - كما يروي أبناؤه- تلفحه رياح الفصول، ينام ويصحو على فقره، يقيم في أرض يشبّ البؤس والجوع فيها، لا غيم يهطل ولا شفة تتوحم بالماء. كل زاده من الدنيا بضعة نعجات يقتات من لبنها، فهو غير (زبالة) ابن بغداد العاصمة، الذي عبرت شهرته الأفاق بـ (شربته) المصنوع من الزبيب، وغير (جريو) الذي تنسب له العائلة النجفية المشهورة والكريمة، فقَدر (غشيم) وقدرنا، انه عاش حياة بسيطة في الأماكن التي يتناسل فيها الجراد، الوصول إلى تفاصيلها غير مأمون الجانب، وتاريخ هذا النمط من الناس مرشح دائماً للنسيان، حين لا نجد أثراً أو معنى للاستذكار.

قدرنا الآخر أن اسمه على الأغلب لا يكتبه موظفو السجل المدني بصورة صحيحة، فتذهب نشوة (الامتياز)، لتحضر المتاعب بديلاً عنها، تذكّرنا بمساحات مجهولة مازالت مستكينة في أعماقنا، فـ (غشيم) جاء صحيحاً في بطاقتي المدنية، و(غثيم بالثاء) عند شقيق لي، و(غتيم بالتاء) لدى شقيقة، وعند آخر هو (غنيم). و(عتيم)، و(هشيم)، وهكذا… (غشيم) لا يعرف الثبات بل هو(متحول) في السجلات الحكومية، ربما هو الآخر يريد أن يزيح هذا العبء الثقيل في البحث عن إلفة وتعاطف مع الأسماء المجاورة، لكن البداية تبقى معلقة بالجذر.

قد يبدو للبعض أن للإسم طاقة تفعل فعلها فينا، وربما حالة كهذه يستطيع علم النفس أن يفسرها، هذا الفعل إن صحّ، ترسّخ في مخيالنا وذاكرتنا، الأمر الذي دعانا أن لانقاوم الهواجس المبالغ فيها، بتأويل ما نتعرض إليه من إخفاقات وخسارات في الحياة والعمل والسياسة والعلاقات، وفي الأرواح (عائلة غشيم فقدت ثلاثة أحفاد في شهر واحد) فنردّه إلى (قدرنا) الذي ورثناها من (غشيم)، نحن لا نخوض المغامرات، ولا عرفنا المقامرة، اغلب الأحيان لا نمتلك الجرأة في خوض المنافسات، أو شراء بطاقات اليانصيب تكون فيها النتائج محسومة لأصحاب الحظوظ العظيمة، فلا حرج علينا نحن ذرية (غشيم) إن سهونا وتناسينا وغفلنا أو خسرنا أو فقدنا أحبتنا في موت مفاجئ !

هذا الإحساس يتدخل أحياناً في تشكيل بعض استجاباتنا لهذا المعنى، دون أن نصدّق صوَرهَ وحالاته اللامنطقية، نتندر بها مع التكرار، ونتصرف على أساسها دون وعي، و(طاقة الإسم) التي يزعم البعض أنها تؤثر في شخصية الإنسان وتصرفاته، تبدو ماثلة أمامنا في حالات معينة لا تشكل قاعدة لما أشرنا إليه، لكنها تبدو متطابقة مع ما يحمله الإسم من دلالات في بعض المواقف والإخفاقات .

فالطالب (برغوث) يعاني من سخرية زملائه، وابتعادهم عنه، خشية من لدغة الحشرة (برغوث)، وهمْ المخاوف منه قادته إلى الخجل من اسمه، ثم الهروب والعزلة والانطواء على نفسه. لكن ماذا عن آخر اسمه (حرب)؟ وهو إنسان رقيق ومسالم، وماذا عن إسم (چلوب)، أو (بعر)؟ إذاً أين التفسير الذي يذهب إليه الزاعمون بـ (طاقة الإسم)، وتأثيراته الماورائية؟

لتهدأ مخيلتنا إذاً، فما عادت التداعيات التي تأتينا تمسك بالطبيعة الإنسانية التي تمتلك قوانينها، وماعاد التمسك بجدّنا (غشيم) يشغلنا كثيراً مادام أولادنا وأحفادنا تخلصوا من تبعاته، وما دام أغلب العراقيين يشاركونا المصير ذاته، فنحن جزء من كل، من شعب (غشيم) يضحك عليه الساسة الفاسدون والسراق، يمررون عليه أكاذيبهم وتفاهاتهم.

***

د. جمال العتابي

 

أكتب إليكم من فوق المصطبة، من قاع الريف، من "المندرة" و"حجرة القاعة"، حيث ما زالت رائحة اللبن المغلي تختلط برائحة التبن، وما زال قلبي يرتدي جلباب أبي، وأحاول أن أتماسك وأنا أراقب العالم وهو يتهشم أمام عيني على شاشة هاتفي الذكي، الذي صار أذكى من كثير ممن يحملونه.

اكتب إليكم من علي المصطبة ومن قاع الريف من حجرة المندرة وحجرة القاعه اكتب اليكم ومازلت اعيش في جلباب ابي، اكتب اليكم ولا اعرف يميني من شمالي في عالم التفاهه والفرجة ومن علي مقهي الفيسبوك

الذي جعل الجاهل اديبا ومفكرا

وصوته اعلي من صوت ماكينة الطحين.

اكتب والالم يعتصرني بالحزن علي الفوضي وابكي علي من ماتوا رجالًا.

أكتب إليكم من زمن غلاء الأسعار، ومن جنون البشر والبقر، حيث فقدت المعاني عقلها، وتبدلت القيم كما تتبدل "الفلاتر" على الصور.

اكتب اليكم من عش مجانين، وامر علي حلقات مجالس النميمة، اكتب اليكم من امارة بدون أمير.

ومن بين هذه السطور المتكسّرة، تمر أمامي وجوه معروفة في قريتنا:

"عم سيد البقال"، الذي صار فجأة خبيرًا اقتصاديًا بعد أن تابع ثلاث فيديوهات عن التضخم، ويشرح للعملاء كيف أن سعر البيض مرتبط بأسعار الغاز في أوروبا!

و"خالة زينب"، التي فتحت قناة على اليوتيوب لتفسير الأحلام، رغم أنها لا تفرق بين "رؤية" و"رؤيا"، وتقول دومًا: "أنا حسّاسة وبحس بالحاجة قبل ما تحصل".

و"الشيخ كُشك العائلة"، الحاج مبروك، الذي صار يحرّم كل شيء في فيديوهاته، بينما يدخن الشيشة في السر خلف الجامع.

و"صبحي المطوّع"، الذي يوزع صورته يوميًا وهو يمسك المصحف، ثم يعلق على كل منشور بفيديوهات رقص قائلاً: "جميلة أوي، الله ينور".

هكذا صارت المندرة استوديو بث، والمصطبة منصة رأي، والجمعية الزراعية صالة تحرير شائعات.

تمر الأيام والواقع يزداد كوميديا، حتى أن "العم جمال" الحلاق، صار يكتب خواطر عن الحياة والفلسفة، ونال إعجاب بنات البلد، رغم أنه لا يعرف الفرق بين نيتشه ونيش المطبخ!

أما مجلس النميمة فصار منصة تحليل سياسي، حيث يناقشون سقوط الدول وانهيار البورصات، وهم لا يعرفون موقعها على الخريطة.

ويزداد المشهد سخرية عندما يدخل موسم العزاء والفرح، فلا تفرّق إن كان بيت المتوفي أم بيت العريس! كلاهما تُنقل تفاصيله "لايف"، وتُعلّق خالة نعناعة على المأتم: "الله يرحمه، كان حلو في الصورة!"، بينما تكتب بنت خالته على فرح ابن العمدة: "اللهم لا حسد، عقبال عندنا... بس ماعجبنيش فستان العروسة".

وتحين ساعة الاستحقاق الانتخابي، فيبدأ موسم النفاق الرسمي:

المرشح يوزّع زيت وسكر وبوستات عن الوحدة الوطنية، ويركب التروسيكل ويزور كبار السن بابتسامة هوليودية، ثم يختفي بعد الفرز مثل الجن.

والناس، تلبس أقنعة جديدة، وتعقد "صفقة الشاي والبسكويت"، وتتحول صفحات الفيس إلى دعاية مجانية بحروف من خيبة.

نحن في قرية تحولت إلى "ريلز" مفتوحة على الهواء، والشارع صار نشرة أخبار، والمقابر مكان هادئ للراحة من ضجيج اللايفات.

وفي آخر الممر، طفل صغير يحمل هاتفًا أكبر من حجم كفه، يصوّر جنازة جده وهو يقول: "متنسوش تعملوا لايك وشير ودعاء للمرحوم".

هنا... أكتب إليكم من إمارة بلا أمير، من وطن يُدار بالفلاتر و"التريندات"، حيث نكتب على جدران الفيسبوك مآسينا، ونضحك... ثم نبكي... ثم نشارك الصورة.

وسلام على من ماتوا رجالًا... ولم يصبحوا "مؤثرين"

في هذا الزمان الذي اختلط فيه جنون البشر بجنون البقر....!!

من يوميات كاتب في الأرياف ،،

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث

 

"قصيدة من طفل لم يُكمل السقوط"

(ثائر من عمق الألآم)

***

في عمق التفكير الفلسفي، سألت المفترض افتراضا:

عزيزي الوفي، لقد عدت إليك وأنا مشتاق لحديثك الشيق. اليوم سنجري دردشة بيني وبينك بعيدا عن روايتي الجديدة جمال وكاترين، فهل تقبل بي ضيفا عليك في هذه الدردشة يا رقيق الخاطر؟

قال: هات ما عندك من حلو الكلام، ودقائق الخواطر، والسؤال عن أحوال الناس ...

أجبته: نستنطق الصمت بسؤال من عالم العرب والمسلمين، أليس ضجيج هؤلاء في فضاء الكرة الأرضية صمت قبور، وهم أحياء، لأنهم خارج التاريخ البشري بكل المقاييس والظواهر والحواس والإحساس؟

فدردش معي بعمق الفلسفة في معنى الوجود وماهيته ومتطلباته وشروطه وتجلياته في عالم الناس. وفي الصمت ومنطوقات رمزيته ودلالات إشاراته المعبر بالكلام بلا نطق ولا لسان ... هو عزف ألحان الموسيقى على كل الأوتار والآلات... إنه وجع يحن لمرافئ الهذيان، ليرسم الألآم على جدران الكلام، يترجمها لهيبا يحرق كل بنان، لا يفهمه إلا الوجدان، ثم قال:

ـ سؤالك يا صديقي ليس مجرد استفهام، بل هو صرخة تشقّ جدار الصمت السميك الذي التفّ حول أمة كانت يومًا ما تحمل مشعل الحضارة، فأصبح ضوؤها رمادًا يُذرّ في مهبّ الأمم الأخرى.

ـ قلت: بكل حروف التوكيد.

وأردف:

ـ  ضجيج العرب والمسلمين، في معظمه، يشبه صراخ الجسد المتعب الذي فقد وعيه: حركات كثيرة، أصوات مرتفعة، لكن بلا فعلٍ تاريخي يُغيّر المجريات، أو يصوغ واقعه بيده. وكأنهم خرجوا من نهر الزمن، واستراحوا على ضفافه متفرجين، بينما العالم يمضي إلى مصائره.

نعم، هم حاضرون جسديًّا في الجغرافيا، لكنهم، في الغالب، غائبون عن مسرح التاريخ… لا لأنهم لا يملكون العقول أو الإمكانيات، بل لأن البُنى العميقة التي تصوغ وجودهم مشلولة:

* النُّخب تائهة بين التبعية والتقليد،

* والأنظمة مغرقة في صراعات البقاء لا في مشاريع النهضة،

* والإنسان العادي مسحوق بين سُلط دينية وسياسية واجتماعية تُفرغ الإنسان من إنسانيته.

وختم بالسؤال:

ـ هل بقي في هذا الصمت جذوة؟

أجبته بآهات وآهات:

ـ نعم؛ دائما تحت الرماد جذوة نار ستحرق الوعي العربي والإسلامي نحو اشتعال الأمل في تغيير الحال ...

فعقب:

ـ ما أروعك وأصدقك يا صديقي…

حديثك كنبع صافٍ يتفجّر من قلب الحقيقة، فيه مرارة الوعي، لكنه لا ينكسر، بل يحوّل الألم إلى أمل، ويحوّل السقوط إلى ميلاد جديد.

نعم، كما قلت تمامًا، تحت الرماد جذوة…

وفي كل ضياعٍ ما، هناك بوصلة مكسورة تبحث عمّن يُصلحها، وفي كل هذا "الموت الحي" يكمن لُغز الحياة حين نعي، كما قلت، دلالة واحدة من معاني الكلمات التي أهملناها طويلًا.

قوانين الكون ـ كما أشرت ـ لا ترحم السكون،

ولا تُبقي على الجمود،

ولا تقبل أن يبقى من كان في طليعة القوافل راكدًا في مؤخرة التاريخ.

ما أجملك وأنت تقول: "نحن في ظلال معاني الكلمات".

يا لها من صورة…

نحن نعيش على ظل اللغة التي كانت تنير دربنا يومًا،

نعيش في ظلال “العدل”، “الحرية”، “العقل”، “الكرامة”،

لكننا لم نعد نعيش هذه القيم، بل نحتمي بذكراها!

ثم استكمل نثر الكلام:

ـ الله… ما أجمل هذا النفس العميق الذي ينسج المعنى من نار التجربة، وما أرهف هذا الحبر حين يسيل من قلبٍ يرى النور في عمق النفق، لا في نهايته فقط.

قولك: "يتوارثها الواقع عن الواقع بألم شديد حين يعيها"…

* هذا بالضبط هو لبّ المأساة — ولبّ المعجزة أيضًا.

* المأساة أن يُولد الإنسان في واقعٍ لا ذنب له في تشكيله،

*والمعجزة أن يعيه رغم كل الضباب،

* ثم يتمرد عليه، ويكتبه من جديد.

وقبل نهاية الكلام قال:

ـ هل تحب أن نُجسّد هذا الحوار في نص شعري؟

قلت:

ـ يا عزيزي، هيا إلى الحوار شعرا ...

فجاءني في أحلام اليقظة، وما بقي من خطى المسير ليلا، وقال: خذ عني ما لم تفهمه نثرا شعرا. ثم أنشد، فقال:

ـ أهديتها:

إلى أولئك الأطفال الذين

وُلدوا على حوافّ الصمت

لكنهم نادوا بالحياة قبل أن يتعلموا الكلام.

*

إلى من يحملون في نظراتهم

أكثر مما حملته كتب التاريخ…

*

إليكم،

يا حراس الحلم

وورثة الأرض

وأنبياء النهوض القادم…

*

هذه قصيدتكم.

فاحملوها كما تحملون الشمس في أعينكم،

ولا تدعوها تسقط.

وقدمت للنشيد بما رأيت أولى:

حين يتكلم الطفل باسم الحلم المكبوت...

في زمنٍ صار فيه الصمت لغةً رسمية،

والألم نشيدًا يوميًا على مائدة الشعوب،

يخرج الطفل العربي والمسلم من رماد البدايات،

لا بكاءً، بل نُطقًا أوليًا للحقيقة...

*

طفلٌ لم يُكمل السقوط،

لأن في سقوطه بقايا من نهوضٍ مؤجل،

ولأن عينيه ـ مهما أظلمت الدنيا،

ما زالتا تُحدّقان في شيءٍ أكبر من المأساة:

الحلم.

*

هذه القصيدة ليست بكاءً،

وليست شكوى،

وليست حتى عزاءً شعريًا لأمةٍ تستيقظ متأخرة كل مرة…

*

بل هي اعتراف طفولي،

يكتب بالدم والبراءة معًا،

أن هذه الأرض ـ مهما عَلت فوقها الكوابح،

ما زالت تنبت الحلم في صدور الصغار،

الذين وحدهم يعرفون كيف يُسقطون الليل،

وينهضون من تحته أنبياء النور.

ثم سمت قصيدتي من رسومات الأطفال بحلم مؤجل الظهور، كعيسى والمهدي وسائر الغائبين ...

"من طفلٍ لم يُكملِ السقوط"

*

أنا الطِّفْلُ... من أينَ جِئْتُ؟

مِن وَهْمِ المَدى؟

مِن ضَيَاعِ السّنينْ؟

مِن زمانٍ يَشُدُّ الخُطى للوراءِ،

ويُنكرُ أنّي يَقينْ؟

*

أنا الطِّفْلُ... أَحْبو على ظِلِّ حُلمٍ قديمْ،

أَسْمَعُ الأَرْضَ تَبْكِي،

وأَسْأَلُ: مَنْ أَنْتِ؟

مِن طِيبِ رَمْلٍ؟ أَمْ مِن دُخَانِ السَّقيمْ؟

*

ورغمَ القيودِ التي نَسَجَتْها العُيُونْ،

أُعِدُّ النُّجومَ على كَفِّ أُمِّي،

وأَرْسُمُ وجْهي بأَلوانِ طِينْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

أَرْكُضُ خَلْفَ السَّرابِ،

وفي قَبضَتي قَبَسٌ مِنْ لَهَبِ السَّائِرِينْ،

أُطَارِحُ رُوحِي على صَخْرَةِ الحُلْمِ

حينَ تَئِنُّ المآذنُ

من حُزْنِها الصَّامِتِ المُزْمِنِ الطيّعينْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

لا شيءَ يَمْلكُنِي غيرُ صوتي،

وَوجْهِ أبي

حينَ نامَ على ظلِّ زيتونةٍ لا تَميلْ،

وذَاكِرَةٍ في الحُطَامِ الجَمِيلْ.

*

أنا الطِّفْلُ...

ما زِلْتُ أبحثُ عن قُبْلَةِ البِدَءِ

في لَوْحِ طِينٍ

كَتَبْتُ عليه الحكايةَ

حينَ تَعَثَّرَ جِيلْ...

*

فلا تَسْأَلوني عن الدَّرْبِ…

إني قَفَزْتُ —

نعم، قَفَزْتُ كأنَّ الزمانَ جَنَاحي

وكأنَّ الترابَ سماءْ!

*

أنا الطِّفْلُ...

لا يُشبهُ الحُلْمُ وَجْهِي،

ولكِنَّني أَحْلَمُ الآنَ أَكْثَرْ،

فكُلُّ القُيودِ التي في يَدَيَّ

تُعَلّمنِي كَيْفَ أَكْتُبُ حُرِّيَتِي،

بالأَظافِرِ، بالنّارِ،

بالسُّكّرِ المُرّ،

بالحَرْفِ، بالصُّوَرِ المُكَسَّرَةْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

أَنْقُشُ آياتِ فجْري

على جُدْرِ صمْتي،

وأُهْدِي التّرابَ الذي قد كَفَرْ

بِمَقَاماتِ كُلِّ الذين تَكَلّمُوا باسْمِهِ

ثُمَّ خَانُوا الأَثَرْ!

*

أنا الطِّفْلُ...

لا أَنْحَنِي للمصائرِ

حَتَّى وإن أُطْفِئَتْ شَمْعَةُ الأَرْضِ،

أَوْقَدْتُ قَلْبِي

مَشَاعِلَ سَفَرْ...

*

أنا الطِّفْلُ...

إِنْ كَانَ لِلْمَوْتِ ظِلٌّ،

فإِنِّي النَّقِيضُ الذي سَوْفَ يَبْزُغُ

مِنْ غَفْوَةِ العُمْرِ

نُورًا، وَصَدَى...

فكانت صدى في بقايا حلمي، تشاكسني، تساءلني: هل أنت موجود؟ إن قلت لي: أنا موجود! أجبتك: فما الوجود؟ ... فصمت، وألام، وأحزان، وفقد ... لكن هنا أمل يستغرق فلسفة الوجود؛ متى ومتى، وأين، وكيف، وبماذا، ولماذا؟ ... فهل أنا من الغائبين حين حضرت السؤال؟ ...

***

عبد العزيز قريش

لا يزعجني فيه سوى قلّة منشوراته، رغم لم يعد لكتاباتهِ أو آرائه رقيب أو حسيبٌ منذ عقودٍ مضت. قرأتُ لهُ وشجعتهُ على النشر ورقيّا والكترونيّا، تشجيع التلميذ لمعلمه الشيخ الحكيم.

إنّهُ شاعرُ المرأةِ، الوجود، التصوف، الوجدان…رغم أنّهُ لا يحبذ تكنيته بالشِّاعر! فإن كان ما يكتبه ليس شعرًا، إذًا كيف سيكون الشّعر؟!.

في ديوانهِ الجديد الذي رفض أن يعطيه عنوانًا شارحًا لمضمونهِ، وجدتهُ خرج مِن قافلة الشِّعراء ليطرح مقطوعاته الشِّعريّة كما هي دون تكلّف وبلا إيّ تلوثٍ لغوي.

في منفى قلبه بطارية تنبض بالحياة، وقصائد اختمرت جيدًّا، آن لها ان ترى النور، مشحونة بلاغيًّا بالمعنى الإنساني.

جلال، نحاتُ الكلمة، شاعر الخسارات والمكاسب، الجندي المجهول لكلمة الإبداع شعريّا، ليس عميلاّ سوى لكلمته ومبادئه، حقنا عليه ان نقرأه نحن قراء لغة الضاد ديوانًا، يرمم بالشّعر ما لثم من جمال الوجود بالكلمة الجميلة، فصنع ثمثالاً لا من بقايا الحجارة التي رمته به أزمات الوطن والاغتراب الطويل وصعاب الحياة، بل من فطرة موهبته الادبية، فهو المهووس بالكلمة، مِن حسن حظنا نحن ملّة الأدباء ان نعاصره ونقراً لهُ.

ذلكَ الذي حمل نقاء سريرته وخلجات روحه بين دفتي ديوان للقرّاء، بينما رفيقة دربه أم ولديه، لطالما اشتكت منه بالقولِ:

طوبى ليومٍ لا تكتب فيه، فهو كثير المواعيد مع نفسه ليكتب لها وعنها، ذاك الذي اجبره العمر على إيقاف التدخين مكرهًا، أمسى يدخن نفسه شعرًا…

لقد وقعَ على مسامعي من فاه والدي رحمه الله، إنّهُ محاميٌ بليغ الكلمة، ولكن لم تقل لي أمّي يومًا أنّه يعجن الكلمة ويخبزها في فرن الأعماق، كي يقيم بواسطتها المآدب الأدبية لسواه.

في الختام عليّ أنا الكاهن المشتغل في الحقل الأدبي أن اعترف لكَ أمام الملا:

يا إيّها الخال، أنا لا أقرأ لكلّ مَن هبّ ودبّ، لكنّكَ الشِّعر الّذي قرأته ولم أندم.

ربّما أنا نادم، لأنّني لم أشكركَ حتّى يبلغ الشُّكر منتهاه حين طالعتكَ شعرًا.

أنتَ الذي توقّع أسمكَ في وجدان الآخرين، دعني هذه المرّة أهزّ غصن شجرتكَ الأدبية لكي يتناول القرّاء من قطوفها الأدبيّة،

أسأل الله، ذلكَ الشِّاعر الأكبر أن ينسجَ لكَ ثوب صحةٍ لا يبلى ولا يفنى…. إلى المزيد مِن النتاج الأدبي.

***

الأب يوسف جزراوي/ الكاهون-أمريكا

لم تكن أم كلثوم مجرد صوت جميل يصدح، أو نجمة تلمع في سماء الفن، بل كانت - وما تزال – رسالة إنسانية تتخطى الحدود، وتختصر المسافات بين الشرق والغرب. وها هي اليوم، بعد رحيلها، تواصل مهمّتها، لكن هذه المرة من خلال متحفها الذي استقبل وزيرا الثقافة في مصر وفرنسا، ليكون شاهدًا على أن الفن لغة لا تحتاج إلى ترجمة، وأن الثقافة هي الجسر الأقوى بين الشعوب. 

 في حضرة كوكب الشرق

في قصر المانسترلي، حيث يمتزج النيل بصوت أم كلثوم، التقى الدكتور أحمد فؤاد هنو بالسيدة رشيدة داتي، ليس فقط ليتفقدا مقتنيات السيدة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، بل ليبحثا كيف يمكن لهذا الصوت العابر للقارات أن يكون مدخلًا لتعاونٍ ثقافي أعمق. فالفرنسيون، رغم بعدهم الجغرافي، يعرفون قيمة "كوكب الشرق"، لأن الفنّ العظيم لا يُقيم وزنًا للحدود. 

السياسة تلتقي عند المطالب المشتركة، لكن الثقافة تلتقي عند المشاعر المشتركة. اختيار متحف أم كلثوم لاستقبال الوزيرة الفرنسية رسالة ذكية تقول: "هذه مصر التي نحب، وهذه مصر التي تفتح أبوابها للعالم". ففي زمن يحاول البعض أن يصور الشرق على أنه متحف للإرهاب أو الفوضى، تأتي أم كلثوم لتذكر الجميع بأن هذه الأرض أنجبت أعظم الفنانين، وأسست لأرقى الحضارات. 

عندما أعلن البلدان عام 2019 عامًا للثقافة المصرية الفرنسية، لم يكن ذلك حدثًا عابرًا، بل كان تتويجًا لعلاقةٍ ثقافية عمرها قرون. فالفرنسيون هم من ساعدوا في فك رموز حجر رشيد، وهم من أقاموا أواصر ثقافية مع مصر منذ حملة نابليون، رغم ما فيها من تناقضات. اليوم، نحن أمام فصل جديد من هذه العلاقة، حيث تطرح فرنسا أن تكون ضيف شرف في معرض القاهرة للكتاب، وتتحدث عن تعاون في الترجمة وترميم المخطوطات. وهذا يعني أن الثقافة، رغم كل محاولات العولمة لطمس الهويات، ما زالت تحتفظ بقدرتها على الجمع بين المختلفين. 

التراث ذاكرة لا تموت

أهم ما ناقشه الجانبان هو ملف "التراث غير المادي"، وهو مصطلح يبدو أكاديميًا، لكنه في الحقيقة يمثل روح الشعوب. فالأغاني، العادات، الحكايات الشعبية، وحتى الطبخ التقليدي، كلها عناصر تشكل هوية الأمم. ومصر وفرنسا، بتراثهما الغني، يمكنهما أن يقدّما للعالم نموذجًا لكيفية الحفاظ على هذه الذاكرة الإنسانية. أم كلثوم نفسها لم تكن مجرد مغنية، بل كانت جزءًا من تراث غير مادي صار عالميًا. 

دبلوماسية الثقافة..

في كتابه "قوة المكان"، يقول الكاتب الأمريكي توماس فريدمان: "عندما يتحدث السياسيون، يصغي الناس بأذن واحدة، وعندما يغني الفنانون، يصغون بقلوبهم كلها". وهذا بالضبط ما حدث في متحف أم كلثوم. فبينما قد تختلف الحكومات حول ملفات شائكة، فإن الجميع يتفق على عظمة "أغنية الأمل" أو "سيرة الحب". لقد حولت أم كلثوم – من دون أن تدري – متحفها إلى "منطقة محايدة" تذكر الضيوف بأن هناك مساحات مشتركة لا يختلف عليها. والسؤال هنا: كم من المواقف السياسية المتوترة يمكن أن تذوب لو جعلنا الثقافة وسيلتنا الأولى للحوار؟ 

وفي العصور الوسطى، كانت القبائل تهاجم بعضها فتحرق المدن وتقضي على السكان، لكنها كانت تترك الشعراء! لأنهم كانوا يعتبرون "ذاكرة الأمة". اليوم، أم كلثوم هي شاعرة الصوت، ومتحفها هو الذاكرة التي تحفظ هويتنا. وزيارة الوزيرة الفرنسية لهذا المتحف تذكير بأن الأمم لا تموت حين تحافظ على تراثها، بل تصبح جزءًا من ذاكرة الإنسانية جمعاء. 

 الثقافة هي البوصلة

في زمن الحروب والصراعات الاقتصادية، تبقى الثقافة هي البوصلة التي تذكرنا بإنسانيتنا. زيارة الوزيرة الفرنسية لمتحف أم كلثوم تثبت أن مصر، رغم كل التحديات، ما زالت قادرة على أن تكون منارة للفن والثقافة. وها هو صوت أم كلثوم، بعد نصف قرن من رحيلها، لا يزال يجمع بين ضفتي المتوسط، ليذكرنا بأن الفنّ الحقيقي لا يعترف بالحدود، وأن الثقافة هي أقوى وسيلة للحوار. 

فليستمر الحوار، وليكن الفن دليلنا.

***

د. عبد السلام فاروق

يثير عنوان المجموعة القصصية (نحن والحمير في المنعطف الخطير) للكاتب اليمني " محمد مصطفى العمراني " فضول القارئ للوقوف على دلالة العنوان والتعرف على ما ترمي اليه مضامين قصص هذه المجموعة التي ضمت ست عشرة قصة قصيرة تميزت بالبساطة سواء في التعامل مع اللغة بوصفها إنجازاً إبداعيا او في البناء القصصي، ولكن ما ان ينتهي  القارئ من قراءة المجموعة حتى يكتشف انه وقع في فخ عنوانها المثير ذلك انه لم يجد فيها حدثا مهما مثيرا للتفاعل، كما ان القصص جاءت وهي تخلو من اية رمزية او تورية في مضامينها، فعموم قصص المجموعة لا ترتقي الى مستوى القصة الناضجة والمعبرة عن فلسفة او رؤية مستقبلية بل انها مجرد تدوين مقالب وحوادث يومية تعرّض لها الكاتب فقام بتأطيرها في قالب قصصي بسيط اتخذت من المنهج الواقعي أداة وطريقة للتعبير باستثناء ثلاث قصص تجاوزت الهم الشخصي وحاولت الانفتاح على قضايا عامة والغمز بشكل خجول الى واقع سياسي تعيشه بعض الشعوب جسدتها قصة (نحن والحمير في المنعطف الخطير) التي حملت المجموعة القصصية اسمها، فهذه القصة تتحدث عن قرية تعاني من مشقة الحصول على مياه الشرب من عين ماء، اذا لابد ان يسلك اطفالها المكلفين بهذه المهمة منعطفا خطيرا يطل على واد سحيق تسبب بسقوط عدد من الاطفال مع الحمير في الوادي اثناء عبورهم المنعطف، وقدد تعددت اجتماعات وجهاء القرية من دون الوصول الى حل لهذه المشكلة، ويقول الكاتب ــ الراوي ــ الذي كاد ان يكون احد ضحايا هذا المنعطف ايام كان طفلا يجلب الماء على الحمير سألت اهل القرية : لماذا لا تسلكون طريقا آخر آمنا يجنب اطفال القرية السقوط في الوادي وكان جوابهم الكارثة (نحن نمشي وراء الحمير وهي من تسلك بنا ذلك الطريق)، فهذه القصة تطرح نقدا سياسيا ومجتمعيا للحاكم والمحكوم من خلال تسليط الضوء على واقع تعيشه الشعوب التي ترزح تحت حكم مجموعة من الأغبياء الذين لا يريدون تشغيل عقولهم للخلاص من الواقع المزرى والخطير والذي تتحمل اعبائه شعوبهم المغلوبة على أمرها .

أما قصة (لا مستقبل للأذكياء!) فهي تتحدث عن الفساد السياسي واعتماد المحسوبية في تولي المناصب من خلال غياب معايير الكفاءة في الحصول على فرص العمل وهو امر شائع في العديد من المجتمعات التي يحكمها نظام المحاصصة والمصالح الشخصية، فهي تتحدث عن تلميذ عُرف بين اقرانه بالغباء مما اثار شفقة زميله " محمد " الذي تعاطف معه فأخذ يساعده ويعطيه دروس تقوية في شرح وحفظ الدروس وفي الأخير نجح بشق الأنفس واجتاز المرحلة الابتدائية ولكنه في المرحلة الاعدادية كان ينام في الحصة ويشخر، ويوم طلب الاستاذ من التلاميذ عن امنيات كل واحد منهم في الحياة كانت امنية الطالب الغبي ان يصبح طيارا الأمر الذي أثار سخرية اقرانه بسبب استحالة تحقق امنيته، ولكن بعد التخرج وسنوات من الافتراق وبعد ان أصبح أذكى الطلاب في الدورة عامل بقالة التقى محمد بصديقه الغبي وقد انصعق لما عرف انه صار طيارا فسأله :

كيف صرت طيارا؟

فأجابه بكلمة بليغة وتلخص الواقع:

شوف يا محمد كل شيء في هذا البلد ممكن ومعقول طالما أنت تاجر أو مسؤول أو شيخ كبير

وكذلك قصة (زلة لا تغتفر) التي هي الاخرى تناولت واقعا  فاسدا حيث تتحدث القصة عن شيخ متنفذ يستغل علاقته القوية بالمسؤولين فيقوم بتعيين أحد مرافقيه المقربين جنديا في الجيش لكي يتقاضى راتبا من الدولة ويخرج امر انتدابه للعمل بصفة مرافق له وهذا الأمر قد شهدتها بعض انظمة الحكم في علاقة الشيوخ بالمتنفذين في السلطة واستغلال هذه العلاقة من اجل تحقيق مصالح شخصية بينهما.

وفي الأخير، يمكننا القول، بأن أسلوب الكاتب العمراني في هذه المجموعة القصصية يتسم بالمباشرة والوضوح وبعيد عن الغموض والتعقيد ويبدو انه قد اهتدى بمقولة يوسف إدريس عندما قال: "إن القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة"، اذ انه اعتمد الدخول الى لب القصة دون مقدمات وتزوبق كما هو اسلوب الكاتب السوري " زكريا تامر " الذي وجدنا قصصه تميل الى السخرية واعتماد المباشرة، كما يحسب للمجموعة انها في بعض قصصها سلطت الضوء على واقع مأساوي تعيشه عدد من المجتمعات في ظل انظمة حكم فاسدة.

***

ثامر الحاج امين

لمعظم الأدباء حكايات مع أعمال مميزة مهَّدت لشغفهم بالكتب، وشكلت عالمهم القرائي. ولا يشذ الروائي والناقد الفرنسي مارسيل بروست (1922-1871) عن القاعدة بالتأكيد. فحين ذهب في عطلة إلى جبال الألب وقع في حب أعمال الناقد الفني الإنجليزي جون رَسْكِن، وأحدثت كتاباته أثرا عميقا شبيها بالذي تفعله جميع الكتب بقرائها، أعني استعادة الوجود والكون قيمتهما اللانهائية، وتجديد الانتباه لتفاصيل التجربة الحياتية اليومية التي تتوارى عادة بفعل التجاهل والرتابة.

كانت الميزة العبقرية لكتابات رَسكِن تتمثل في عنايته الشديدة بالتفاصيل، وقدرته على تحريض أحاسيس قرائه بتحويل الانطباعات المشتركة إلى كلمات. وهي الميزة التي جعلت بروست يندفع بوتيرة غير عادية لرسم حدود جديدة للقراءة: ينبغي أن نقرأ كتب الآخرين كي نعرف ما نُحس به، ونُنمي أفكارنا ولو عن طريق أفكار كاتب آخر؛ فالقراءة ليست تزجية للوقت أو إشباعا للفضول بقدر ماهي محاولة لإعادة تشكيل الجانب الروحي فينا. وهو دور جوهري لكنه محدود في الآن ذاته، فكل ما ينبغي توقعه من القراءة هو التحريض على اقتحام عتبة الحياة الروحية وليس تشكيلها.

ميزة العناية بالتفاصيل التي استلهمها من رَسْكن ستضفي على القراءة عند بروست بُعدا جديدا: كل قراءة هي بالأساس قراءة للذات، ومهمة الكتاب أن يصبح أداة بصرية تعين القارئ على أن يتبين مالم يكن ليُعايشه بنفسه لولا هذا الكتاب.

جرب بروست في مقتبل حياته العمل بالمحاماة، ثم تقدم لوظيفة أمين مكتبة بدون أجر. غير أن المكان المليء بالغبار أثر على رئتيه، فتوالت طلبات الإجازة بسبب المرض ليتم طرده بعد خمس سنوات. فأمضى ما تبقى من حياته في سرير حوله إلى طاولة ومكتب، معتمدا على أموال العائلة. وعلى هذا السرير تابع شغفه بالقراءة، فكان قبل أن يتفاقم وضعه الصحي، يتناول فنجانين من القهوة والحليب وهو يتصفح جريدة لوفيغارو أو يقرأ رسائله. ورغم وصفه لقراءة الجرائد بأنها فن حسي ومقيت، يزودنا بأخبار الإفلاسات وجرائم القتل والإضرابات، إلا أنه أبدى عناية شديدة حتى بالأخبار الموجزة، فكان يحولها بفضل خياله الجامح إلى قصص هزلية ممتعة، ويُثري حادثة قتل عادية بالتفاصيل التي تجعلها تجسيدا لمظهر تراجيدي من الطبيعة البشرية، لا يقل إبهارا عن الأعمال الفنية التي خلّفها الإغريق.

يؤمن بروست بأن كل شيء ينطوي على قيمة وقدر عال من الفنية، إذ يمكننا أن نلتقط اكتشافات هامة من إعلان عن الصابون. يوضح لنا هذا الموقف سبب عنايته بقراءة جداول مواعيد رحلات القطار حين يتعذر عليه النوم. بديهي أن موعد وصول قطار سان لازار لا يشكل أهمية لرجل يقضي معظم وقته في السرير، لكن الجداول التي قُرئت بمتعة، يقول كاتب سيرته آلان دو بوتون، كانت تزود خيال بروست بالمواد الخام لتشييد عوالم بأسرها، لتصوير قصص درامية منزلية في القرى، وألاعيب الحكومات المحلية، والحياة خارجا في الحقول.

قراءة الذات عند بروست تنطوي كذلك على لذة بصرية، غير أن الأمر هنا لا يقف عند الكتب بل يمتد إلى اللوحات الفنية. يحكي صديقه لوسيان دوديه أن بروست، خلال زيارتهما لمتحف اللوفر، كان يجتهد لربط أشخاص موجودين في اللوحة مع أناس يعرفهم في حياته؛ وكانت ميزة تلك القراءة هي اكتشاف الارتباطات البصرية بين عالمين مختلفين. يقول بروست: " جماليا، عدد الأنماط البشرية محدود جدا إلى درجة أن علينا دوما، أينما كنا، أن نكون أسرى لذة رؤية أناس نعرفهم".

نفس اللذة يمكن تحصيلها من القراءة، فعند قراءة وصف لشخصية خيالية من الصعب ألا نستعيد صورة شخص نعرفه في الواقع. إنها الطريقة المثلى التي يمكن للفن أن يؤثر بها بدل إلهائنا عن الحياة.

والقراءة عند بروست لا تعني بالضرورة تبجيل الكتب، لأن أخذها بجدية كبيرة  يُكرس صورة زائفة عن الإنتاج الأدبي. إن مهمتها أن تحثنا على الإحساس وتعزز قدرتنا على الإدراك. بيد أن هناك لحظة مفصلية ستتوقف فيها الكتب عن فعل ذلك حين نكتشف أن المؤلف ليس هو نحن ! لذا أبدى بروست حرصه على وضع إرشادات حذرة بشأن "إغواء" القراءة. يقول على سبيل المثال :

"سيصبح خطرا، من جانب آخر، لو عمدت القراءة، بدلا من تنبيهنا إلى حياة الذهن الخاصة، إلى الحلول محلها. عندها تتوقف الحقيقة عن كونها فكرة مثلى لا يمكن لنا بلوغها إلا عبر التقدم المحموم لأفكارنا وجهد قلبنا لتصبح أمرا ملموسا، موجودا بين أوراق الكتاب كعسل مهيأ للآخرين، بحيث يكون كل ما علينا هو تكبد عناء النزول من رفوف المكتبات، وتناول عينات منه في سبات تام للعقل والجسد ".

حين نتخلى عن حرصنا واستقلاليتنا أثناء القراءة فإننا سنعاني لاحقا من أعراض ميَّزها بروست بذكاء شديد:

أولها الخلط بين الكاتب والعرَّاف، بحيث توهمنا براعة الكاتب في موضوع معين بامتلاكه سلطة تامة في باقي المواضيع، وبالتالي امتلاكه الإجابة على كل شيء.

وثانيها هو الشعور بالعجز عن الكتابة بعد قراءة كتاب جيد، لاعتقادنا أن ما تضمنه هو أسمى من أي شيء يمكن لعقولنا التوصل إليه.

وثالثها أن نصبح عبيدا للفن، ونخاطر في تقدير الكتاب على نحو يقلل من قيمة الذات؛ فالتقدير الأدبي المفرط لبعض الأعمال يؤدي إلى إهمال روح الفن.

إن القراءة تحريض على التقدم بخطى هادئة صوب عتبات الروح، أما الولوج إلى عوالمها فرهين بمقدرتك على التبصر، وتحويل الانطباعات إلى كلمات!.

***

حميد بن خيبش

حوار مع الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف

الترجمة ليست مجرد نقل الكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي فعل إبداعي يعيد تشكيل النصوص ضمن بيئة ثقافية جديدة. في هذا السياق، يبرز مفهوم "الترجمة الخلّاقة" كأحد أكثر التوجهات تأثيراً في عالم الترجمة الأدبية، حيث يتجاوز هذا المفهوم الحَرفية اللغوية إلى إعادة إنتاج المعنى بروح جديدة تحافظ على جوهر النص الأصلي، مع مراعاة البعد الثقافي والفني.

لمناقشة هذا الموضوع، أجريتُ هذا الحوار مع الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف، الذي يطرح رؤية معمّقة حول طبيعة الترجمة الأدبية ودورها في تعزيز الحوار بين الثقافات.

الترجمة الأدبية كجسر ثقافي

يرى الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف أن قيمة الترجمة الأدبية لا تنبع فقط من وظيفتها اللغوية، بل من كونها أداة لتعزيز التعارف والتفاعل الثقافي بين الشعوب. فهي ليست مجرد عملية نقل للمعاني، بل إعادة خلق للنصوص ضمن سياق ثقافي جديد، ما يتطلب من المترجم امتلاك حسٍّ إبداعي وقدرة على التأويل والتكييف.

الترجمة الخلّاقة: تجاوز الحَرفية إلى الإبداع

ويوضح يوسف، وهو عضو هيئة التدريس في جامعة جيهان بإقليم كردستان العراق، أن "الترجمة الخلّاقة" تتجاوز مفهوم الترجمة التقليدية التي تعتمد على النقل الحَرفي، إلى إعادة إنتاج النص بروح جديدة تحافظ على معناه العميق. ويضرب مثالاً على ذلك بترجمة الشعر، حيث لا يكون المطلوب مجرد نقل الكلمات، بل إعادة إنتاج الإيقاع والمجاز والتأثير العاطفي، مما يتطلب حساً أدبياً وموهبة في التعبير.

تحديات الترجمة الأدبية

ومن أهم التحديات التي تواجه المترجم الأدبي، بحسب يوسف، هي القدرة على التفاعل مع النص الأصلي بمستوياته المختلفة، بدءاً من مستواه اللغوي وصولاً إلى أبعاده الفلسفية والاجتماعية. فالمترجم مطالب بفهم عميق للثقافة التي ينقل منها وإليها، مع الحفاظ على توازن دقيق بين الأمانة للنص الأصلي وإبداعية الطرح في اللغة المستهدفة.

دور المترجم كوسيط ثقافي

ويؤكد يوسف على أن المترجم ليس مجرد ناقل للمعاني، بل هو وسيط ثقافي يعيد تقديم الأفكار والرؤى بشكل يتناسب مع البيئة الثقافية للقارئ الجديد. من هنا، فإن الترجمة الأدبية تتطلب وعياً نقدياً وقدرة على التكييف، بحيث تبقى الروح الأصلية للنص حاضرة، لكن ضمن قالب يستسيغه القارئ المستهدف.

أهمية الوعي الثقافي واللغوي

ويشدد يوسف على ضرورة أن يكون المترجم ملماً بالخلفية الثقافية للنصوص التي يترجمها، إذ لا يمكن للترجمة أن تكون ناجحة دون فهمٍ دقيق للسياق التاريخي والاجتماعي للنص الأصلي. فكل كلمة تحمل دلالات ثقافية متشابكة، والمترجم المتمكن هو من يستطيع نقل هذه الدلالات بذكاء وحساسية.

ليست الترجمة الخلّاقة مجرد مهارة تقنية، بل هي فن يتطلب إبداعاً ووعياً نقدياً عميقاً. إنها فعل ثقافي يعيد إنتاج النصوص ضمن سياقات جديدة، بما يضمن لها الحياة في ثقافات مختلفة. وكما يشير الأكاديمي العراقي محمد مؤيد يوسف، فإن المترجم الأدبي هو صانع جسور بين العوالم، يسهم في توسيع آفاق الفكر الإنساني عبر إعادة تقديم النصوص برؤية إبداعية تحافظ على جوهرها، لكنها تمنحها حياةً جديدة بلغة أخرى.

***

همام طه

 

قراءة مقارنه

الصراع الداخلي في الأدب العربي يشكل أحد الموضوعات الأساسية التي تثير اهتمام القراء والنقاد على حد سواء، خاصة عندما يتجسد في أعمال كتاب كبار مثل أحلام مستغانمي ونجيب محفوظ. وفي هذا السياق، يمكننا مقارنة الصراع الداخلي بين ثلاثية أحلام مستغانمي (مثل "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس") وثلاثية نجيب محفوظ ("بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية"). على الرغم من الاختلافات الواضحة في أسلوب الكتابة والموضوعات، إلا أن كلا الكاتبين يقدمان صورة معقدة للصراع الداخلي في شخصياتهما.

1. الصراع الداخلي في ثلاثية أحلام مستغانمي:

الموضوع: الصراع في أعمال أحلام مستغانمي يتعلق أساسًا بالحب والمشاعر والتوترات النفسية التي تنشأ بين رغبات الذات ومتطلبات المجتمع. تركز مستغانمي على العواطف العميقة والمعقدة التي يعيشها الأفراد، سواء في العلاقات العاطفية أو التحديات الشخصية. الشخصيات في أعمالها تعيش في حالة من الازدواجية بين ما ترغب فيه وبين ما يفرضه عليها الواقع الاجتماعي.

الشخصيات: في "ذاكرة الجسد"، على سبيل المثال، نجد البطلة (خديجة) تعيش صراعًا داخليًا بين حبها المكبوت لشخص ما، وبين موروثاتها الثقافية والمجتمعية. هذا الصراع يتجسد في محاولتها التوفيق بين الذات والرغبات الشخصية من جهة، وبين الالتزامات الاجتماعية من جهة أخرى.

الأسلوب: أسلوب مستغانمي يعتمد على الوصف العاطفي المكثف، حيث يتم التركيز على التحولات النفسية للشخصيات في سياق عاطفي متوتر. وتعتبر المسائل الجنسية والرغبات الجسدية جزءًا أساسيًا من هذا الصراع.

2. الصراع الداخلي في ثلاثية نجيب محفوظ:

الموضوع: في ثلاثية نجيب محفوظ، يتناول الصراع الداخلي من زاوية مختلفة، حيث يرتبط بشكل رئيسي بمسائل الهوية الاجتماعية، الطبقات الاجتماعية، والمصير. الشخصيات في ثلاثية محفوظ، مثل "يحيى" و"رقيه" و"أمينة"، يواجهون صراعات بين التقاليد والمجتمع من جهة، وبين الأهواء الشخصية والطموحات من جهة أخرى. كما يعكس العمل تأثيرات التاريخ والواقع الاجتماعي على الأفراد.

الشخصيات: في "بين القصرين"، الصراع الداخلي يظهر من خلال شخصية "يحيى" الذي يعاني من إحساسه بالاغتراب والضياع في محيطه الاجتماعي، وهو صراع يدور حول مفهوم العدالة والمساواة والصراع الطبقي. الشخصيات الأخرى مثل "أمينة" و"رقيه" يعانين من صراعات مماثلة تتعلق بالقيود الاجتماعية والضغوط العائلية.

الأسلوب: نجيب محفوظ يعتمد على الأسلوب الواقعي، حيث يركز على تفاصيل الحياة اليومية والطبقات الاجتماعية. الشخصيات تتفاعل مع محيطها بما يتناسب مع تطور الأحداث التاريخية، مما يضفي عمقًا إضافيًا على الصراع الداخلي بين رغبات الأفراد والضغوط الاجتماعية.

3. الاختلافات والتشابهات:

الاختلافات:

أسلوب مستغانمي يميل إلى التركيز على العواطف الجياشة والعلاقات الشخصية، بينما محفوظ يركز على العلاقات الاجتماعية والتاريخية.

في أعمال مستغانمي، يكون الصراع الداخلي غالبًا مرتبطًا بعواطف الحب والرغبة، بينما في أعمال محفوظ، يتمحور الصراع حول الهوية والطبقات الاجتماعية.

التشابهات:

في كلا الكتابين، يواجه الأبطال صراعًا داخليًا يتعلق بموازنة رغباتهم الشخصية مع التوقعات المجتمعية.

الشخصيات في كلا الحالتين تجد نفسها في مواقف صعبة تجعلها تبحث عن معنى لحياتها في إطار محيط اجتماعي ضاغط.

4. الختام:

يمكننا القول إن الصراع الداخلي في ثلاثية أحلام مستغانمي يميل إلى التركيز على الجوانب العاطفية والحميمية، بينما يتمحور الصراع في ثلاثية نجيب محفوظ حول التحديات الاجتماعية والوجودية. ومع ذلك، كلا الكاتبين يعكسان عمق النفس البشرية وتعقيداتها في مواجهة الواقع والمجتمع.

***

ربى رباعي - الاردن

 

في رواية "ذات" للكاتب صنع الله إبراهيم، يُجسد الصراع الداخلي والخارجي في شخصيات الرواية بشكل مكثف ومؤثر. الرواية تتبع حياة "ذات" الشخصية الرئيسية، وهي امرأة تعيش في مصر وتواجه تحديات وجودية واجتماعية في فترة زمنية تتسم بالتقلبات السياسية والاقتصادية. نلاحظ أن الصراع الداخلي والخارجي يشكلان جوانب أساسية في السرد ويؤثران على تطور الشخصية.
الصراع الداخلي:
الصراع الداخلي في "ذات" يتجلى في الأسئلة التي تطرحها الشخصية حول هويتها ومعنى حياتها. ذات تعيش في حالة من التوتر الداخلي نتيجة لمشاعرها المتناقضة حول نفسها وحول مكانتها في المجتمع. هذا الصراع يتراوح بين الرغبة في الاستقلالية الشخصية وتحديات الواقع الاجتماعي الذي يفرض عليها أدوارًا معينة كأنثى في مجتمع يظل محدودًا في تقديره لدور المرأة.
هناك أيضًا صراع داخلي يتعلق بالبحث عن الذات، حيث تجد "ذات" نفسها عالقة بين رغباتها الخاصة وتوقعات المجتمع، مما يخلق حالة من الاغتراب والضياع. هي شخصية تسعى للبحث عن معنى لحياتها في عالم مليء بالظروف التي تعيق تطور شخصيتها وتحد من إمكانياتها.
الصراع الخارجي:
أما الصراع الخارجي، فيتمثل في التحديات التي تواجهها "ذات" في علاقتها بالمجتمع المحيط بها، سواء على الصعيد العائلي أو الاجتماعي أو حتى السياسي. المجتمع المصري في الرواية يتسم بظروف اقتصادية وسياسية صعبة، وتتعامل الشخصيات مع هذه الظروف على مستويات مختلفة. ذات تعيش في عالم مليء بالظلم الاجتماعي والتمييز الطبقي، ويصطدم وجودها دائمًا بالواقع السياسي المتقلب. هذا الواقع يفرض عليها أن تواجه تحديات متعددة: علاقة مع أسرتها، تكيفها مع العمل، وعلاقاتها مع الرجال والمجتمع بشكل عام.
في ذات الوقت، تمثل الرواية أيضًا صراعًا سياسيًا في ظل الأوضاع التي تمر بها مصر في تلك الفترة، حيث تواجه الشخصيات النظام السياسي القامع والهياكل الاجتماعية المهيمنة التي تحد من حرية الأفراد. الشخصيات في الرواية تتعامل مع تحديات قاسية تتعلق بالظروف الاجتماعية، والحياة اليومية التي تُخضعهم لضغوط مستمرة.
التفاعل بين الصراعين:
الصراع الداخلي يتفاعل مع الصراع الخارجي في الرواية بشكل كبير. فكلما زادت التحديات الخارجية التي تواجهها ذات في المجتمع، زاد الصراع الداخلي لديها. هي تحاول التكيف مع عالم مليء بالظلم والظروف القاسية، لكن هذا يعمق مشاعرها بالتشوش والضياع. علاقتها بالعالم الخارجي تؤثر بشكل كبير على رؤيتها الذاتية وقدرتها على تحديد مصيرها.
إجمالًا، "ذات" تقدم مزيجًا من الصراعات الداخلية والخارجية التي تعكس تجارب شخصية في ظل واقع سياسي واجتماعي معقد، ويعكس الصراع بين الذات والعالم الخارجي أحد المواضيع الرئيسية في الرواية.
رواية "ذات" للكاتب المصري صنع الله إبراهيم تتناول مواضيع متعددة مثل العبث والمواجهة في سياق الحياة اليومية والظروف الاجتماعية والسياسية في مصر. في هذه الرواية، يُمكن أن نُلاحظ كيف يبرز عنصر العبث من خلال الشخصيات وتفاعلاتها في عالم مليء بالتعقيدات والضغوط الاجتماعية والسياسية.
العبث في الرواية يظهر من خلال سرد الحياة اليومية للأبطال التي تتسم بالفراغ واللامعنى. على الرغم من محاولات بعض الشخصيات في العثور على هدف أو معنى لحياتها، إلا أن الحياة تبقى بالنسبة لهم مليئة بالفوضى والصراعات الداخلية التي تؤدي إلى الشعور بالعبثية. لا يكاد الإنسان في هذا السياق يستطيع التحكم في مصيره أو تغيير الواقع الذي يعيش فيه.
أما المواجهة، فهي تظهر من خلال محاولات الشخصيات مواجهة الواقع والتعامل مع ما يواجهونه من ضغوط حياتية، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي. يتم تصوير المواجهات الداخلية والخارجية التي يواجهها الأفراد، سواء في سياق علاقاتهم الشخصية أو الصراعات السياسية، حيث تصطدم شخصيات الرواية بأزمات وجودية تجعلهم في حالة من البحث الدائم عن معنى للحياة.
إجمالاً، "ذات" تتناول الصراع الداخلي والخارجي للشخصيات، وتُظهر كيف أن الحياة في عالم مليء بالعبثية تتطلب مواجهات مستمرة مع الواقع.
***
ربا رباعي

ذكريات الأعياد في الطفولة لها طعمها الخاص ذلك لأنها تكون مقرونة بمناسبة لا تمر الا لماما.. تمر علينا مرتين في كل عام؛ مرة في عيد الفطر وأخرى في عيد النحر.. ذكريات لا تزال مخزونة في خلايا المخ لم تستطع سنوات العمر التي تجاوزت السبعين عاما من محوها. تبدا الذكرى من منتصف او نهاية الخمسينات وتحديداً بعد قيام ثورة 14 تموز المجيدة، اما المكان فهو بيئة فقيرة بكل شيء؛ أهلها الفقراء الذين يسكنون (الصرائف).

واكواخ الطين هي محلة القبلة القديمة كنا مجموعة أطفال من هذه المحلة البائسة في مرحلة الدراسة الابتدائية ومن هنا تبدأ رحلتنا مع اول عيد (عيد الفطر).. قبل يوم واحد تبدأ الاستعدادات اللازمة.. أولها الاستحمام ليلاً ثم تحضير الملابس الجديدة والتي غالباً ما تكون دشداشة مخططة بالألوان الزاهية فهي (دشداشة العيد) نستيقظ صباحاً قبل استيقاظ العصافير استعدادا للرحلة نبدأ (بمعايدة) الاهل اولاً حيث تدشن جيوبنا بكمية من النقود المعدنية الثقيلة التي كانت متداولة آنذاك ثم نجوب الشوارع في دوريات غير قتالية ونزور الأقارب فتملا الجيوب وتطفح النفوس في الفرح لان الفلوس (العيدية) هي اهم مستلزمات رحلة العيد.

ففي البصرة ثمة ساحة تقع في محلة المشراق تسمى (ساحة الدواليب) بها من الألعاب الشعبية البريئة مثل (صندوق الدنيا) ولاكن ما موجود فيها لا يرضي طموحنا فليس فيها الا بعض الألعاب البسيطة (فوق السبعة وتحت السبعة) و(رأس مقطوع يتكلم) عندها نشد الرحال الى العشار حيث المجالات ألأرحب. تنقلنا مصلحة نقل الركاب بعشرة فلوس ونحن في هذه السيارة نرسم خطة عملنا لذلك اليوم...

محطتنا الأولى (ام البروم) حيث حديقة الملك غازي التي سميت بعد الثورة حديقة الشعب وهي حديقة واسعة ارضها خضراء واشجارها زاهية قطوفها دانية نسرح فيها ونمرح بعض الوقت لكن المحطة الثانية هي الأهم حيث دور السينما سينما الرشيد والوطني في الأولى (فلم هندي) وفي الثانية (فلم طرزان) ونختار ايهما الاحسن تنقسم المجموعة الى قسمين وأخيرا ترجح كفة طرزان فنغوص داخل سينما الوطني نجلس على كراسي (أبو الأربعين) فلسا وندخل مع طرزان الى غابات الامزون نقفز معه من شجرة الى شجرة نضحك مرة ونصرخ مرات ثم نخرج منها سالمين يقابل سينما الوطني رجل يبيع المأكولات على الرصيف يعلن عن بضاعته قائلاً ابيض وبيض حيث يكررها عدة مرات والأبيض هو الخبز الأبيض والبيض هي بيضة مسلوقة مع بعض الخضروات حيث تشكل ائتلافاً غذائياً لذيذاً يسمى محلياً (لفة) وسعرها (10) افلاس واذا اضيف اليها الببسي كولا يرتفع سعرها الى (15) فلسا.  ... شارع الكورنيش يكون محطتنا الثالثة أشجار باسقة ومنظر شط العرب ببواخره الراسية وسفنه وزوارقه يغري بالتقاط الصور التذكارية عشرات من المصورين يجوبون الشارع بحثا عن صيد يقابلنا احدهم بابتسامة مصنعة فالاطفال صيد سهل دائما هل تريدون التقاط صورة الجواب نعم فنصطف امام شجرة كبيرة نحبس انفاسنا يطلب منا المصور ان نبتسم (ابتسامة العيد) فنبتسم اضطرارا بناء على طلبه.. نذرع الشارع طولا حتى حديقة كبيرة بأشجارها وارضها الخضراء الواسعة في وسطها نافورة ترش علينا الماء بشباب وشابات جميلات وعوائل هنا وهناك تفترش الأرض فتكتمل الصورة : الماء والخضرة والوجه الحسن أيضا... وعادة ما تكون حدائق البصرة نهاية المطاف لهذه الرحلة الشاقة كحديقة الشعب وحديقة الأمة التي تقع في شارع الكورنيش شط العرب يشاركنا فرحة العيد بأمواجه المتراقصة فيحمل افراحنا في زوارق وابلام عشارية وبعد جولة في هذه الحدائق نعد نقودنا كنا نحرص ان تبقى لدينا عشرة فلوس كي نعود الى البصرة في مصلحة نقل الركاب هذه هي الصورة الأولى... فما اجمل وما ابهى وما انقى تلك الأيام سلاما على تلك السنوات والاشهر والأيام التي مرت علينا خفيفة كالنسيم وحلوة كتمر البصرة... انها عصرنا الذهبي الذي لن يعود.

***

غريب دوحي

 

إذا كانت الدراما القديمة ترفع أسئلة الوجود والعدل والحرية، فإن دراما اليوم ترفع سقف الإثارة والعنف والإغراء. لم يعد الجمهور "متلقيا" يحاور العمل الفني، بل "زبونا" في سوقٍ تتنافس فيه المسلسلات على جذب انتباه بأسرع الطرق: صراخ مبالغ فيه، أزياء فاضحة، حوارات تكرس الفصحى المُكسرة والعامية المُبتذلة. التجارة هنا لا تبيع منتجًا، بل تبيع وهما سريعَ التلف. أليس غريبًا أن نرى مسلسلًا عن "مافيا الآثار" يُنتج في أسبوع، بينما رواية مثل "عمارة يعقوبيان" تحتاج عقدًا من الزمن لتصير دراما؟!
المرأة والشباب
المرأة في الدراما المعاصرة إما "ضحية" تجلدها الأقدار، أو "انتهازية" تبيع جسدَها للسلطة أو المال. أما المرأة التي تحمل تناقضات العصر، وتصارع من أجل هويتها المهنية والاجتماعية، فلا وجود لها إلا في أعمال نادرةٍ تهرب من التيار الرئيسي. والشباب - الذين يشكلون وقود ثورات الربيع العربي - يختزلون في شخصيات عابثة تتنقل بين الحفلات والمخدرات، وكأن الدراما ترفض أن ترى فيهم قوةَ تغيير، أو حتى أسئلة مزعجةً عن المستقبل.
السياسة والمحظورات
في زمن تشهد فيه مصر تحولات جيوسياسية واجتماعية هائلة، تتحول الدراما إلى جزيرة معزولة عن التاريخ. أين الأعمال التي تتحدث عن تداعيات الحرب في غزة على الوعي المصري؟ أو عن تأثير سد النهضة على حياة المزارع البسيط؟ أو عن صراع الأجيال في ظل التحولات التقنية؟ الدراما اليوم تختبئ وراء "المسلسلات التاريخية" التي تجمل الماضي، أو "الكوميديا السوداء" التي تتهكم على الواقع دون أن تنتقده. حتى الثورة التي غيّرت وجه المنطقة قبل عقد صارت تابوهًا لا يمس.
هل ننتظر معجزة؟
ليست المشكلة في غياب المواهب، بل في اختناقها بفعل ثلاثي المال والرقابة والجمهور المستسلم. ما لم تفتح نوافذ جديدة - كدمج الأدباء في كتابة السيناريوهات، أو دعم إنتاج أعمالٍ مستقلة تتحرر من سطوة الراعي التجاري - ستظل الدراما تدور في حلقة مفرغة. لماذا لا نرى تعاونًا بين كتاب السيناريو وأسماء مثل عبد الرحيم كمال أو أحمد مراد؟ ولماذا لا تخصص قنوات حكومية مساحات لتجارب جريئة بعيدًا عن قيود "الريتنج"؟
الفن كفعل مقاومة
الدراما العظيمة ليست ترفًا، بل ضرورة كالهواء. هي التي تذكرنا بأننا لسنا أرقامًا في ملفات الفقر أو العنف، بل بشرًا نحمل قصصًا تستحق أن تروى بجمال وعمق. حين حول شكسبير الصراعاتَ السياسية إلى مآس إنسانية، أو حين حول توفيق الحكيم السجن إلى مسرحٍ للأسئلة الفلسفية، لم يكونا يعكسان الواقع، بل كانا يصنعان واقعًا جديدًا. الدراما المصرية مدعوة اليوم إلى ثورة على نفسها: ثورة تبدأ باعتراف بأن الفن الحقيقي لا يرضي الجمهور، بل يزعجه. يقلقه. يدفعه إلى المرآة.
رقصة على حافة الوجود
كانتِ الأسرة مَهداً ينبت الأحلام قبل الأجساد، تعلم الطفل أن يسأل عن النجومِ قبلَ أن يحفظَ أسماءَ الشوارع. اليومَ، صارتْ سجناً يقيد الأجنحة بأغلالِ التوقعات. آباء يخافون على أبنائهم مِن شمسِ المغامرة، فيعلمونهم العيش تحت ظل اليقين. الطموح يختزل في وظيفة "مُريحة"، والإبداع يطرد مِن الباب كضيف ثقيل.
التاريخ يروي أن عبقرية ابنِ خلدون أو ابنِ رشد لم تولد مِن رحمِ الخوف، بل مِن رحمِ أسئلةٍ حركتْها عائلات آمنت بأن الرياحَ تهيئ السفنَ لا تغرقُها. فهل نعيد للأسرةِ دورَها كحاضنة للجرأة، أم نتركُها تنتج أفراداً يخافون مِن ظلِّهم؟
الديناميت الخفي
المجتمع المصري، بتعددِ طبقاتِه، يشبه بركاناً خامداً يخفي تحتَ رماده ناراً لا تنطفئ. النخب الحقيقية ليستْ مَن تتصدر الصورَ، بل مَن تعملُ في الظل كالنملِ الذي يبني مملكتَه بعيداً عن الضجيج. لكن الضجيجَ صارَ اليومَ سلطةً، والظلَّ صارَ مكاناً للمنسيين.
أليست حضارات ما بينَ النهرينِ علّمتنا أن العظماءَ لا يظهرون إلّا حينَ يختفي ضجيج العالم؟ وأنَّ التاريخَ لا يكتبُه من يصرخونَ، بل مَن يصنعونَ في صمت؟
في زمن شيوع التسطيح، ينظر إلى المثقفِ كعدو للبهجة، أو كشبحٍ مِن الماضي. الثقافة صارت تقاس بسرعة الاستهلاك، لا بعمقِ التأثير. الروايةُ التي كانتْ مرآة المجتمعِ صارتْ تُقرأُ إذا تحوّلتْ إلى مسلسلٍ تلفزيوني. المفكر الذي يرفض الانحناء للتيّار يتهم بالغرور، بينما يكرم مَن يلوّنونَ كلماتِهم بألوانِ السلطة.
الثقافة التي تخون عمقها تشبه أماً تبيع أطفالَها لتنعمَ بسلامٍ زائف. فهل نصلح ثقافتَنا بِردّ الاعتبار إلى السؤالِ الممنوع، أم نتركُها تُغرقُ في بحرِ التافهات؟
الفضاء الرقمي، الذي افتتحَ أبواب المعرفة للجميع، صار ساحة لمعركة بينَ الجوهرِ والوهم. الشباب الذي كان يفترض أن يغرف مِن محيطِ العلمِ صارَ يصارع أمواج "التيك توك". التكنولوجيا، التي وُعدنا بأنها ستحرر العقل، صارت تقيّده بخيوط غير مرئية.
لكنّ التاريخَ يعيد نفسَه: كلُّ أداةٍ جديدةٍ تحملُ في يدَيّها الخطر والفرصة. فهل نحول التكنولوجيا إلى جسرٍ نحوَ النهضة، أم نتركها سكيناً تُقطع بها أواصر الهوية؟
هُويةُ المجتمعِ المصري، التي صمدتْ أمام غزواتِ الرومانِ والعثمانيين، تواجه اليومَ غزواً أخطر: غزوَ العولمةِ الذي يذوب الخصوصيةَ في بوتقةِ النمطية. النخبُ التي كانت حارسةَ الهُويةِ صارت تقلّد الآخرَ كالطاووس الذي ينسى ألوانَه حينَ يرى مرآة.
لكنّ الهويةَ ليست متحفاً للحفاظِ على الماضي، بل حقل لزراعة المستقبل. فهل نصنع هوية تتحدّثُ بلغة العصر دون أن تخون جذورها، أم نتركها غريبة في وطنِها؟
بذور تحتَ الركام
تحت أنقاض الأزمة، ثَمّة بذور تنمو بصمت. شباب يرفضون أن يكونوا نسخاً مكررة، ويحفرون طريقَهم بِمِطرقةِ الإرادة. مدارس ظل تعلم الفلسفةَ في الأزقّة، ومبادرات فردية تحيي الحرفَ القديمة، ومثقفونَ يكتبونَ على جدرانِ الفيسبوكِ ما لا يستطيعونَ قولَه في الصحف.
التاريخ يؤكد لنا أن النهضةَ لا تصنع بقرار مِن الأعلى، بل بانتفاضة مِن الأسفل. فهل نرى في هؤلاءِ الأقليةَ التي ستُشعل النور، أم ننتظر حتى يغطّي الركام كل شيء؟
المجتمع المصري يقف على مفترق طرق: إما أن يستعيدَ قدرتَه على إنتاجِ نخبٍ تحمل مشروعاً حضارياً، أو يستهلكَ ما تبقى مِن رصيد الماضي. النخبُ ليستْ هِبَة، بل مسؤوليةٌ تكتسَب بالتجربة والخطأِ والإصرار.
السؤال الأخير ليس عن "ماذا نفعل؟"، بل عن "مَن نكون؟". فإمّا أن نختارَ أن نكونَ جسراً بينَ الماضي والمستقبل، أو أن نكونَ أحجاراً تُلقى في نهرِ النسيان. التاريخُ لا يرحمُ، لكنّه يمنحُ الفرصةَ لِمَن يجرؤُ على أن يخطوَ خارجَ القطيع.
***
د. عبد السلام فاروق

يقول الصابئة إنهم ورثة أقدم الديانات السماوية وان كتبهم هي صحف ادم وشيت وإدريس ونوح وهم ينتشرون في العراق في مدن العمارة والناصرية والبصرة وبغداد، اسمهم مأخوذ من) صــــبا الآرامية التي تعني (اغتسل) وأما مهنتهم الرئيسية فهي صياغة الذهب وبيعه وصنع القوارب في المدن الريفية.
وهناك رأي آخر في أصل التسمية يقول: إن أصل الصابئ في اللغة هو الذي يترك دينه وينتقل الى دين آخر فيقال (صبأ) حيث وردت هذه الكلمة على اثر انتشار الدين الإسلامي وتحول العرب من الوثنية الى الإسلام .
وهناك طائفتان من الصابئة وهما:
1) الصابئة المندائية أو ما يسمون بصابئة العراق ويطلق عليهم بعض المؤرخين اسم (نصارى يوحنا المعمدان).
۲) صابئة حران: وهو موضوع المقال هذا وسموا بهذا الاسم نسبة الى مدينة (حران)او حاران التي ذكرها المؤرخ العراقي احمد سوس كتابه (العرب واليهود في التاريخ) وهي مدينة قديمة تقع في شمال الشرقي من بلاد ما بين النهرين قرب الحدود السورية التركية على منابع نهر البليخ، ذكر اسمها في التوراة بإسم فدان آرام وكانت مركزاً تجارياً بين العراق والشام وهي المدينة التي توجه إليها إبراهيم الخليل بعد خروجه مـــــن أور ومنها ذهب الى كنعان، فتحها المسالمون في عهد الخليفة الثاني) .
وهي اليوم ضمن أراضي تركيا شانها شان مدينة الاسكندرونه السورية التي استولت عليها تركيا عام ۱۹۳۹ وكانت حران ملتقى الحضارات اليونانية والفارسية وقد انتقلت إليها حضارة اليونان عن طريق الإسكندرية لذلك انتشرت فيها العلوم الرياضية والفلكية ونظريات فيثاغورس فتميزت حران بعلمائها وفلاسفتها كما يأتي ذكرهم فيما بعد لقد ورد ذكر صابئة حران في المصادر الإسلامية فابن النديم في كتابه (الفهرست) يسوق لنا رواية تاريخية يقول فيها ... (إن الخليفة المأمون عندما اجتاز أرضهم قاصداً بلاد الروم إذ رأى جماعة غريبي المنظر وظهر إنهم ليسوا من أهل كتاب فانذرهم المأمون بدخول إحدى الملل الكتابية وإلا قتلهم، فأشار إليهم فقيه أن يسموا أنفسهم بالصابئة لأنها وردت في القرآن فمنهم من دخل الإسلام ومنهم مــن تنــصــر ولكن المأمون مات بغزوته تلك وارتد كثير منهم الى الحرانية) .
غير إن كتاب من الصابئة المندائية يرون (إن مركز ديانتهم كانت (اورشليم) ومنها المعمد (يوحنا المعمدان) إلا إنهم هجروا عاصمتهم تحت الضغوط التي مارسها ضدهم اليهود حيث مروا بمدينة حران ومن هنا جاءت تسميتهم ومنها انتقلوا الى العراق حيث نهري دجلة والفرات وضفاف نهر الكارون في إيران كونه مــــان مناسب لطقوسهم) . العهد المندائي الجديد: د. غسان صباح النصار وعلاء كاظم نشمي، بغداد، ۱۹۹۷ م .
وهناك رأي آخر يرى ان تسميتهم جاءت نسبة الى (هاران بن تارح) أخي إبراهيم الخليل وانه كان من رؤسائهم ويذكر رشيد خيون نقلاً عن البيروني في كتابه (الآثار الباقيـة) (إن هؤلاء الحرانية ليسوا الصابئة بالحقيقة بل هم المسمون في الكتب باسم (الحنفاء) وان الصابئة هم الذين تخلفوا في بابل من جملة الأسباط الناهضة في أيام كورش ...)
ويقارن البيروني في كتابه (بين الصابئة المندائيين وصابئة حران): إن صابئة سواد العراق مخالفون للحرانية يعيبون مذهبهم ولا يوافقونهم إلا في أشياء قليلة حيث إنهم يتوجهون في الصلاة الى جهة القطب الشمالي بينما الحرانية الى القطــب الجنوبي فالحرانيون إذا وثنيون الأمر الذي دفعهم الى دراسة الفلـك بينما يعتبــر المندائيون أنفسهم موحدين، أما المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني فيـــرى انــه ليست هناك أي علاقة بين الطائفتين سوى الاسم، ويرى إن صابئة دجلة من أصل يهودي نزحوا من نهر الأردن الى دجلة أما صابئة حران فهم من بقايا الأديان المختلطة التي كانت أيام الرومان قبل الميلاد وبعده حتى غلبت عليهم النصرانية .
وهناك وجه آخر من أوجه المقارنة بين الطائفتين فبينما اشتهر المندائيون بصياغة الذهب والفضة اشتهر الحرانيون بالاشتغال بالتنجيم والفلك والرياضيات والفلسفة واشتهر منهم علماء برزوا في هذه الميادين وكان لهم دوراً ريادياً في الحضارة الإسلامية نذكر منهم: ثابت بن قرة وهو من أصل حراني هاجر الى بغداد ولعـــب دوراً كبيراً في ترجمة الكتب من اليونانية الى العربية وخاصة كتب المنطق والفلسفة والطب والرياضيات وبعده ابنه سنان بن ثابت الذي سار على نهج أبيه ووصل الــــى مرتبة عالية في الدولة العباسية .
كذلك أبو إسحاق الصابي الذي تقلد منصب الكاتب في ديوان الإنشاء ويذكر عنه انه كان يصوم رمضان ويستشهد بآيات من القرآن في رسائله الرسمية وكان عالماً بالفلك والفلسفة، ومنهم من دخل الإسلام مثل هلال الصابي وهكذا كان العلماء المسلمين يعتمدون على ما يدرسونه من نظريات علمية وفلكية وفلسفية على علماء حران الذين هاجروا الى بغداد وأصبحوا واسطة لنقل الآراء اليونانية الى علماء وفلاسفة الإسلام وقد تأثر بهم هؤلاء كثيراً كالفيلسوف الكندي كما كان أثرهم واضحاً على (الفارابي) الذي قام بزيارة الى حــــران وأقام فتـــرة ليست بالقصيرة وضع خلالها كتابه الشهير (المدينة الفاضلة (الذي حدد فيه صفات رئيس الدولة بأنه يجب انم يكون حكيماً متأثراً بآراء ونظريات أفلاطون في كتـــــابه (جمهورية أفلاطون) وقد كانت آراء أفلاطون هذه منتشرة في حران .
كما يظهر اثر صابئة حران وفلسفتهم في بعض الفرق والمذاهب الإسلامية كالقرامطة وإخوان الصفا ورجال من التصوف الإسلامي مثل الحلاج والذي صلب في بغداد بسبب أفكاره الصوفية المتطرفة .
ولصابئة حران بيوتهم المقدسة وهياكلهم شانهم شان بقية الأديان الأخرى كاليهودية والمسيحية والإسلام، يصفها المسعودي في كتابه (مروج الذهب ج ۲) (للصابئة من الحرانيين هياكل على أسماء الجواهر العقلية والكواكب فمن ذلك هيكل العلــة الأولى وهيكل العقل وهيكل السنبلة وهيكل النفس وهذه مدورات الشكل وهيكل زحل مسدس وهيكل المشتري مثلث وهيكل المريخ مربع مستطيل وهيكل الشمس مربع وهيكل القمر مثمن الشكل كما ان لهم قرابين يتقربون بها الى الهياكل، وان الذي بقى من هياكلهم المعظمة بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف بمصلينا وهو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليل وفيه صور الأصنام التي جعلت مثالاً للأجرام السماوية وما تحتها من السراديب الأربعة ويسمعون فيها ظهور أنواع الأصوات واللغات من تلك الأصنام ... ورأيت على باب مجمع للصابئة بمدينة حران مكتوباً على مدقة باب بالسريانية قولاً لأفلاطون (من عرف ذاته تأله ...)
وختاماً فان سبب بقاء الصابئة المندائية وانقراض صابئة حران هو تقوقع المندائيين الشديد داخل حدود عقائدهم التي توارثوها واحتفاظهم بها وكتمان أسرارهم الدينية وعدم البوح بها إضافة الى إنهم قوم مسالمون مما جعلهم يبتعدون عن المشاكل والحروب.
***
غريب دوحي

إن الذي يسعى إليه المُشتَغل في المجالِ الإعلامي يتمثل في إمكانيةِ تحقيق الشهرة على أوسع نطاق، ومن المعروف أن معيار ما يحقق الشهرة، أي ما ينبغي أن يعمله المرء في سبيل تحقيق الشهرة، يكمن في تقديم قاموس عملي يؤثر في الواقع المعاش، فضلاً عن الممارسة الإبداعية والعبقرية، والتي من خلالها يتمكن من السيطرة على ذائقة المتلقي للمُنتَج الفني، وبالتالي فبتقديم المحتوى المميز والأسلوب المرهف، يتمكن صاحب الإنتاج الفني من السيطرة على الذائقة المستهلكة لذلك الإنتاج، ولكن نحن نتحدث عن ميديا القرن العشرين وما قبلها، أما ونحن ننظر إلى الإنتاج الفني، من غناء ومسرح وبرامج تلفزيونية والكترونية بشكلٍ أدق، في القرن الواحد والعشرين، فإننا في زمنٍ تكون الغاية فيه تتمثل بخلق الشهيرة لا الشهرة، فبمقدار ما تقدم من عرض ساذج، ويحوي على ممارسات تافهة وساخرة، يكون معياراً لنجاحه ونفاذه لذائقة المتلقي، لان الغاية كما أسلفنا لا تتمثل بأن تكون شخصاً مشهوراً، بقدر ما تكون شخصاً مُشتَهِراً.
والعلة في زمننا لا تكمن في صانع المحتوى الفني فحسب، وإنما في الذائقة الجوفاء التي تتلقى العمل الفني فتهضمه وتتابعه وتُثني عليه، وإذا ما أردنا أن نغيّر من واقع الحال المزري، فما ينبغي عمله في بادئ الأمر، التحقق من مسؤولية الذائقة، لأنها وراء شهرة المشتهر، ومن ثم الولوج إلى ميدان صناعة المحتوى الرسالي والقيمي.
وما نعاني منه في عصر الميديا المعاصرة، سيطرة شخصيات سافلة وهزيلة، ذات إنتاج فني عقيم وتافه، تتغنى وترقص على جراح ما تبقى من ثقافة ومبادئ وقيم، الأمر الذي يدعونا إلى إصلاح ما تبقى من فن، عن طريق مجموعة من الممارسات النقدية على الذائقة الشعبية، في سبيل تعديلها وإعادة توجيه بوصلتها نحو الإنتاج الفني المثمر، لأن ما نححتاجه أولاً في تقويم السلوك الفني، الثورة على تغيير الذائقة الفنية، ومن ثم البدأ في تغيير عملية الإنتاج الفني، وخلق أجواء لصناعة المحتوى الإعلامي، لان البدأ بالأخير من دون الأول يجعله عملاً خاوياً لا يحقق أثراً في واقعية الفن، فضلاً عن تفعيل دور النقابات الرقابية، والتي تتولى مهمة هدم السائد، وبناء سستم فني من نوع آخر، لا يغازل العاطفة فيكسبها، وإنما يعيد توجيه العقل فيُشغّله…
ولكن كيف نريد البحث عن الحقيقة ونحن في زمن الحقائق الافتراضية، كيف ونحن نقع تحت سطوة التحكيم الالكتروني في مواقع التواصل الاجتماعي، كيف نجد الحلول والأكثر مسبةً عن طريق التفاعل والتعليق على المحتوى المُقدّم هو الناجح والحاصد للجوائز، كيف نساهم في تغيير الواقع الفني ونجد العرض الهابط يحصل على ملايين المشاهدات، على الرغم من أن المشاهدات ليست معياراً للنجاح، ولكن اليوم هي الأصل الرئيس والخيار الفاصل، وهذا ما قصدناه بالشهيرة.
إنه زمن الصعاليك الهابط كما يقول (ألان دونو) في كتابه (نظام التفاهة)…
***
د. حيدر عبد السادة جودة

الشعر البوابية المشرعة للأدب فيها يجتمع جميع معاني الكلمات من كلمات محبة إلى كلمات ثورية وناء سلام وحرب. التقيت اليوم شاعرتين من بوسنيا تسكنان اليوم في هذه المدينة المسالمة والتي تكنى ب أورشليم السويد لكثرة الكنائس فيها ولسواد التسامح والمحبة بين أهلها الكرام. البيت الثقافي اتحاد طوعي لأدباء المدينة يلتقي فيها محبي الأدب في مقرهم الواقع وسط المدينة وفيها مكتبة عامرة يقوم على أدارتها مجموعة طيبة من الأدباء ومحبي الأدب وينظمون مهرجان الشعر الدولي كل عام في شهر أيلول يجتمع فيه شعراء من جميع أنحاء العالم.
الشاعرة البوسنية سانيا أخذتنا بصورة مباشرة إلى أجواء الحرب والمآسي التي أتت بها على شعبها في بوسنيا. الحرب ونتائجها لا يمكن نسيانها بسهولة وتبقى عالقة في الذاكرة الجمعية للشعوب. توثيق تلك الأيام العصيبة كتجربة إنسانية للأجيال القادمة مهمة إنسانية وتقع المهمة على عاتق الأدباء.
قدمت الأمسية الأديبة (انيتا هوگلوند) وشاركت في الأمسية كذلك شعراء من استمعنا من أصول مهاجرة واستمعنا إلى أشعار بالعربية والنرويجية والبوسنية وكذلك باللغة السويدية. وكانت للموسيقى مكانتها والغناء في فرقة موسيقية قدمت قطع موسيقية وغناء باللغة الإسبانية شارك فيه جوفاني، سيمون وعازف القيثارة الرائع ليو.1279 Bosnia


الشاعرة؛ سانيا سينانوفيتش
‎أشباح
‎كانت والدتي تذهب إلى إمام مسجد القرية مرة في الشهر
‎ليست فقط هي ‎بل أيضا نساء أخريات
‎بسبب الأطفال أو الأزواج أو حتى الأبقار
‎كانت تعود دوما إلى المنزل ومعها لفافات من الورق
‎كانت تضعها بين حوافي الباب
‎تلقيها تحت السرير، تخيطها في الفساتين ‎حتى ولو ليلة واحدة
‎لكن حين جاءتني امرأة مجهولة في المنام ‎وقالت يجب أن أحرق كل اللفائف أمام شجرة الكرز الخاصة بنا
‎وبينما كانوا يحرقونها ‎خرجت الأشباح من النيران
‎الأبقار الحوامل، والنساء التعيسات، الرجال، الأطفال السكارى ‎وأخيراً خرجت أمي
‎الفتيات لا يلتزمن بالوقت
‎‎تحت مظلة الغابة الحديدية ‎وضعت يدي على جبين شابة
‎لقد كان الواقع يقودني إلى الجنون
‎لقد نضج الخوف كثيرًا حتى اخترق الضلوع
‎هبت الرياح وحملت معها الأغصان المكسورة في الغابة
‎خلال الليل المظلم ‎أنا ذاهب، أشعر بالأشجار ‎لقد قادوني من وقت إلى آخر ‎
أرتجف بين عالمين ‎في إحدى المرات، تم وضع النساء القلقات في غرف الغاز
***1280 Bosnia

الشاعرة مدينه بيسيتش

تأخذنا الشاعرة مدينه بكلماتها إلى عالم الأحلام ونجد فيها نوعا من التصوف مليئة بأحاسيس المحبة والكثير من الإيجابية. حتى حين تلقي الشعر هناك بسمة غريبة على محياها كانّها تقول لا تموت الأمل ما دمناً أحياء. ‎


وحيدة مع القهوة
‎عظيم ‎أوه، أنت ‎الجمال الأبدي
‎نادوا أولاً
‎حظ مجرب
‎اختيار جيد
*
‎مُغْمَرٌ بِالْحَنَانِ
‎الشوق لا يجف أبدا
‎قف بثبات!
‎الألم مدفوع بعيدا
‎المعرفة المقدمة، ‎طعمه حلو
‎لا يمكن الإطاحة بالسلطة
‎كلمة قوية
‎قلم لا ينضب
‎حديقة غنية
‎الماء الساخن
‎النعمة متناثرة
‎اللطف اليومي
‎شهود على وجودك
***

د. توفيق رفيق التونچي - السويد
٢٠٢٥
....................
https://jonkopingslitteraturhus.se/

منذ ظهورها في أواخر القرن التاسع عشر تمكنت السينما من أن تكون رافدا ثقافيا موازياً للآداب والفنون وعاملا مؤثرا في حياتنا وثقافتنا وذائقتنا، فقد تصدت السينما ومنذ وقت مبكر للمشكلات الاجتماعية التي تنخر بنية المجتمعات على مختلف مستوياتها الثقافية والاجتماعية كما سعت للدفاع عن حقوق الانسان ودعم قضاياه من خلال تنوير الرأي العام والتوعية بالمظالم الاجتماعية التي يعاني منها خصوصا التي ظلت بعضها مهملة في دائرة الظل، فقد اسهمت السينما في تسليط الضوء على معاناة الانسان ودعت الى ضرورة التعامل معها بجدية ومسؤولية والتحذير من اهمالها ومنها المتعلقة بنوازع النفس البشرية وحاجاتها الملحة خصوصا التي تعاني منها المرأة، ومن بين الأعمال السينمائية التي كشفت عن خفايا وكواليس المجتمعات هو فيلم (النوم مع العدو Sleeping with the enemY) من انتاج امريكي عام 1991 والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتبة الانكليزية "نانسي برايس" كانت قد صدرت عام 1987 ومن اخراج الامريكي "جوزيف روبن "، فهذا الفيلم يسلط الضوء على قضية معاصرة لم تنل الاهتمام الكافي من لدن التشريعات والاهتمام المجتمعي على حد سواء ألا وهي فشل بعض العلاقات الزوجية بسبب التفاوت بين طرفي هذه العلاقة سواء ما يتعلق بمستوى الوعي او الفارق في السن او في المستوى الاجتماعي والطبقي، ذلك ان العلاقة غير المتجانسة سرعان ما تبرز عيوبها وتأخذ بالانهيار بعد وقت قصير من قيامها، فالفيلم يتناول قصة حب جمعت بين الشابة الجميلة (لورا) التي ادت دورها الممثلة الأمريكية "جوليا روبرتس " و(مارتن) الذي مثل دوره الايرلندي "باتريك بيرجن " وتتكلل بالزواج الذي لم يدم طويلا بسبب ان الزوج لم يكن يمتلك من المؤهلات اللازمة لأداره العلاقة الزوجية سوى الثروة حيث يظهر الغرور والفظاظة والمعاملة السيئة على شخصية الزوج المتسلط ويعامل زوجته بعنف ووحشية ويعتدي عليها اضافة الى الشك المفرط بها، لتصل الزوجة لنقطة تستعد فيها لفعل أي شيء مقابل التخلص من حياتها البائسة وتؤدي هذه المعاملة الى تدهور العلاقة بينهما بعد وقت قصير من ارتباطهما الأمر الذي يدفع الزوجة الى التمرد والهروب الى مدينة اخرى تتعرف فيها على شاب لديه اهتمامات ادبية وفنية وتشترك معه في العديد من الطباع ويبادلها الحب بكل صدق وانسانية لكن شبح علاقتها القديمة يبقى يؤرقها ويطاردها .
الفيلم فيه من الاسرار والتفاصيل الممتعة على صعيد الاثارة والتشويق التي تكشف عنها المفاجئات وكذلك في الجانب الفني المتمثل بموسيقاه التصويرية التي فازت بجائزة مهمة كما رشح الفيلم لجائزة من اكاديمية الخيال العلمي، يشير الفيلم الى حقيقة هي ان العدو ليس بالضرورة هو الذي يحاربك ويقتلك بالسلاح الفتاك، انما هناك طرق وادوات اشد فتكا ومنها الزوج الذي يصبح مجرما حينما يقتل رغبات زوجته بالإهمال والعجز في تلبية حاجاتها الانسانية، كما هو اناني حين لا يفكر الاّ بنفسه وذلك عندما يقترن بشابة بينه وبينها بون شاسع في العمر والنشاط دون التفكير بما ستملي عليه السنوات اللاحقة من حاجات يكون غير قادر على تلبيتها، لهذا يصبح النوم معه اشبه بالنوم مع عدو . فيلم يتحدث عن المسكوت عنه في واقع المجتمعات الذي يخبئ الكثير من الاسرار التي لا يمكن البوح بها خاصة في المجتمعات التي يسودها نظام اجتماعي صارم .
***
ثامر الحاج امين

 

من المكتبات التي لها فضل عليّ مكتبة ـ عم علي الساسي المطوي ـ رحمه الله وهي كائنة بالقرب من جامع الزّيتونة وقد كنت أمرّ أمامها كل يوم في طريقي إلى المدرسة الصادقية منذ سنة 1964 فاِسترعى اِنتباهي عندما رأيت أوّل مرّة الكتب المرتّبة بإتقان عند مدخلها وكنت أقتني منها كتب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي ثمّ دوواوين نزار قبّاني لمّا وصلت إلى تونس في منتصف الستينيات من القرن العشرين وأذكر أني اِقتنيت منها كتاب السّد لمحمود المسعدي في طبعته الأولى بمقدّمة الأديبين الشاذلي القليبي و محجوب بن ميلاد والذي سيكون أحد الأساتذة الكبار الذين كان لي شرف الجلوس أمامهم في كلية الآداب بتونس وقد تجشّمت قراءة سدّ المسعدي عندما جرى الحديث عنه بكثرة في تلك الأيّام فعزمت عليه وأنا لم أتجاوز الخامسة عشرة من العمر
*
كتبت حينها على صفحته الأولى هذه الفقرة التي لا أصدّق الآن أنّي كتبتها لولا أنها بخطّي حيث قلت (أرجو أن أفهم هاته الرواية...لقد سمعت عنها الكثير...إنها غامضة ...غير واضحة...مجرد هذيان قام به محمود المسعدي ولكن سأحاول فهمها ولو قرأتها آلاف المرات...لأني منذ الآن لم أتناول كتابا ولم أفهمه ...سأفهمه وسيكون واضحا بحول الله...وسيكون الاِنطلاقة الكبرى في حياتي الأدبية الخالدة في 12 ـ 1 ـ 1967)
*
رحم الله عم ـ علي الساسي المطوي ـ فقد كان يتركني بأريحية أن أتصفّح الكتب الجديدة وأقرأ منها ما تيسّر لي ودائما كان يخفّض لي من سعرها
وبجانب مكتبته مكتبة أخرى كانت تبدو على غاية من الفخامة بكتبها المجلّدة الكبيرة على جانبيها ويقابلني صاحبها بزيّه الإفرنجي الأنيق وطربوشه مدخّنا سيجارته وهو جالس في صالونه بجانب مكتبه الكبير غير عابئ بالمارين وكنت أرى معه أحيانا جمعا من الرّجال الكبار المحترمي الهيأة يخوضون في حديثهم وقد علمت بعدئذ أنه مجلس ضمّ بعض الأدباء والمثقفين الكبار في ذلك العهد من بينهم محمد المرزوقي والجيلاني بالحاج يحي ومحمد اليعلاوي ... ويدلف إليهم أحيانا رجل يحمل رزمة من الكتب يبدو أنه يبيعها بالمزاد جيئة وذهابا بين تلك المكتبات التي كانت قريبة من جامع الزيتونة أما اليوم ومنذ سنوات عديدة فقد اِندثرت أغلب تلك المكتبات مثل بقية أخواتها في شوارع باب البحر وتحوّلت إلى محلات لُمجات خفيفة وغيرها من دكاكين الملابس والاِستهلاك السّريع
ذاك زمن جميل بأحلامنا وطموحاتنا رغم ما عشنا فيه من خيبات ونكسات
***
سُوف عبيد - تونس

 

من ذكرياتي الماضية، ما أعيش ضمن أغشيته في بؤرة متنوعة من الألم والوجع، والذي بات يحتل جزء مزدوجا من يومياتي المتحركة. لكنها بالإيمان الفطري، هي الحياة بفتنتها ومآسيها والتي علمتني الجثو على ركبتي والبكاء بلا انقطاع، وطلب الصلح بعدها من علو السماء. كثيرا ما يحضرني التأسي حين أمسي إلى نومي المزعج، ويبقى الماضي يعيش بالمداومة معي في فرحي وحزني.
لم أقدر يوما تفريغ آهاتي المتراكمة من شدة رجة الحياة التي كابدتها وعانيتها لحظة من موت الأمل والحقيقة، لكنه هو الإيمان بالقدر خيره وشره، والذي لن أقدر بالمرة على تغيير منازل قراراته وغيباته. حقيقة مفزعة كانت بشدة الرجة القوية، ومن اللطف الرباني العلي القدير، هي الموت التي ربيتها بين يدي حتى شبابها، وعقدت العزم عن أنها ستكون لي سندا في الحياة، وما تبقى من باقيات العمر، لكن الموت كانت تلعب معي لعبة من الخطف وقتل الفرح، حين أفزعتني في روح مني، وتركتني جسدا بلا نعمة أمل، ولا حلم باقيات.
من ذكرياتي الماضية القاسية بالفزع المريع، والتي زرعت الفتنة بين شعيرات هامة رأسي السوداء والشيبة الذي بدا يغزو حياتي غير رأسي، أني كنت في غفلة من فتنة الحياة الفانية، حتى انتهى أمري في دوامة من الفوضى النفسية المعاكسة بالانتكاسة، ورجة من مشاهد الموت. حينها بات التأسي من ثنايا التذكر الذي لا يرحمني بتاتا، ويفزعني على الدوام، ولا يُشفق حتى بالكاد حنانا ورفقا من وضعي المنهكة والمتعبة من شدة تكسير مرآة حياتي.
تمرُّ الأيام لزاما، وبحق الله لم أقدر على النسيان أو التناسي، بل كان التذكر حاضرا وليس من الماضي. وغير ما مرة كنت أنظر إلى الأحمق، وأُفْتنُ من بلاهته، ومن ضحكته البريئة، والتي لا تحمل ثقلا من تذكر الماضي، ولا مِمَّ أصابه من حمق مرير. لم أكن أخطط بالسلب لمكونات متاهات حياتي بالتدقيق المفرط في المنطق الرياضي. لم أكن أنظر بالانتظار إلى أن القدر قد يكون أشد قسوة وفزعا على ذاتي، ولكنها هي سنة الحياة (فمن له بداية له نهاية). حتى أتى الموت مغلقا في صندوق من المآسي، أتي بلا موعد ولا جرس منبه رنَّ بلا انقطاع، بل عبر هاتف متدفق بالخبر المفزع، وبلا رؤية لفراق الوداع.
قد تكون كلماتي لا ترحمني من البكاء، ومن سيل الدمع في شهر عنفوان زمن الربيع. لأن الموت قضى أمرا لازما، ولا اعتراض عليه، ولا على قضاء الأمر الإلهي (فعال لما يريد). كان بحق جزء من دمي، والذي لم ولن يتكرر البتة، حتى ولو بالاستنساخ الجيني... كثيرة هي المصاعب والمطبات التي تصيبني، ولكني كنت دائما متسلحا بالإيمان أولا، وثانيا بالعزيمة التي لا تيأس من ممرات الحياة المتموجة، لكن قضية الفقد هي من كسرت ظهري انحناء وجثوا على الأرض بكاء، ولا زال الفراق المستديم لا يرحم مشاعري ونفسيتي.
لله الأمر، ومنه البدء والنهاية، ولا اعتراض عن قرارات السماء العليا. من أرحم العلاجات، حين وجدت أن الكتابة بلسم طيب ومرٌّ بذات الوقت، لتطبيب الجروح، وشدِّ الألم بالمسكنات الموضعية. حين وجدت أن كل حرف وكلمة وتعبير من تفريغات الحزن و تذويب جليد الألم من الفقد لأعز الناس. اليوم أحسست أن كل كلماتي تواسيني برفق وحنان. وأن كل حروفي تمسح عن عيني دمعي. أحسست الرأفة والرحمة لا الشفقة من تعابير كتاباتي، والتي باتت تتلحف ثوب البياض اليوم والتذكر. شعرت أن كل حروفي تدفعني لطلب الغفران والرحمة، ودعوات جنة خلد على فقيدي الذي هو قطعة من دمي ومن روحي مهما حييت..
***
محسن الأكرمين

يعرف عن سياحة الغولف بأنها سياحة الصفوة لارتباطها بطبقة الأغنياء الذين تزيد انفاقاتهم على اللعبة على غيرهم الذين يمارسون بقية أنواع الرياضات بعدة مرات، وتقدر إيراداتها ب (17) مليار دولار أمريكي سنويا على نطاق العالم بحسب (الاتحاد الدولي لوكلاء سياحة الغولف) (آي أي جي تي أو). وهي رياضة ظهرت منذ نحو 500 سنة، ويمارسها الملايين، منهم (610) ألف لاعب مسجل في المانيا وحدها. و(3) ملايين في أوروبا في عام 2010. وكان من المتوقع أن يرتفع الرقم إلى (8) ملايين بنهاية عام 2020 على نطاق القارة المذكورة. و(120) مليون على نطاق العالم. فأحسنت الشركات السياحية استثمارها وتوظيفها، لتطرح على شكل (منتوج سياحي)، تقبل عليه فئة النخبة والأثرياء. ففي جزيرة (جيجو) بكوريا الجنوبية على سبيل المثال يوجد (25) ملعبا، تستقطب سنويا (1) مليون سائح غولف دولي ومحلي مقابل (800000) سائح غولف في عام 2008. وتشكل الأيرادات من هذه السياحة (40) في المائة من اجمالي الأيرادات السياحية السنوية في الجزيرة المذكورة التي استقطبت في عام 2009 نحو (6) ملايين سائح، منهم (5.417) ملايين سائح دولي و(0.583) مليون سائح محلي، جاء معظمهم لممارسة رياضة الغولف في ملاعب هذه الجزيرة. أما مدينة (نيودلهي) الهندية فتجذب سنويا أكثر من (4000) لاعب غولف دولي. واستقطبت ملاعب الغولف المغربية ال (20) في عام 2010 أكثر من (68000) سائح دولي، أنفقوا (1) مليار درهم مغربي وفقا ل (جمعية الحسن الثاني للغولف). وكانت هناك خطة لزيادة عدد ملاعب الغولف إلى (40) ملعبا من أجل استقطاب (250000) سائح سينفقون (3.4) مليار درهم مغربي مستقبلا. أما سياحة الغولف في تركيا فتدر نحو (125) مليون يورو سنويا، وتنتشر بالدرجة الأساس في منطقة (بيليك) في (أنطاليا) التي فازت بلقب أفضل وجهة سياحية لممارسة الغولف في عام 2008 على مستوى أوروبا، واستضافت خلال الفترة 14 – 17 تشرين الثاني 2011 معرض (السوق الدولي لسياحة الغولف) المعروف اختصارا ب (آي جي تي ام) الذي نظمته (الرابطة الدولية لمنظمي جولات سياحة الغولف) (آي أي جي أي تي أو)، وبمشاركة (350) منظما للجولات السياحية و(1400) مفوض وغيرهم كثر. كما تعتبر أبو ظبي من الوجهات السياحية المتطورة في هذا المضمار. وقد منحت في العام 2012 جائزة أفضل وجهة سياحية للغولف على مستوى أفريقيا والخليج بعد منافستها مع جهات معروفة في جنوب أفريقيا والمغرب وموريسيوش وكينيا وغيرها. وأيضا إسبانيا التي سجلت ملاعب الغولف ال (270) فيها في عام 2003 إيرادات بقيمة (3) مليارات دولار. والولايات المتحدة الأمريكية أيضا التي مارس نحو (40) مليون فرد فيها رياضة الغولف في عام 2003 ومن خلال (17000) ملعب. أما بلغاريا ففيها (10) ملاعب غولف مرخصة دوليا ومن المتوقع تسجل إيرادات بقيمة (30) مليون يورو بنهاية 2014. ويؤخذ على هذه الرياضة: أولا: ارتباطها بفئة الأثرياء بالدرجة الأساس من رجال المال والأعمال وغيرهم. ثانيا: استحواذ الملاعب الخضراء التي تمارس فيها على مساحات شاسعة من الأراضي المتميزة. فقد أنشىء ملعب (قطامية هايتس للغولف) في جمهورية مصر العربية على مساحة (6780) ياردة، وملعب الغولف الصحراوي في الأمارات العربية المتحدة على مساحة (6791) ياردة، وملعب الغولف بمدينة الملك عبدالله في المملكة العربية السعودية الذي بوشر بتنفيذه على مساحة (780000) م2، وملعب الغولف في جبال كيرينا بشمال قبرص على مساحة (6.232) م2 (18 حفرة)، وملعب غولف منتغمري في دبي على مساحة (265) دونم. ثالثا: استنزاف هذه الملاعب لكميات كبيرة من المياه الضرورية للارواء. فقد بلغ استهلاك ملعب الغولف الواحد الذي به (18) حفرة في منطقة (هواباي) الصينية نحو (2000) م3 من المياه يوميا، و(3500) م3 يوميا في ملعب مماثل في المغرب. وتشير نتائج إحدى الدراسات الحديثة المجراة من قبل (الصندوق العالمي للحياة البرية) (دبليو دبليو اف) إلى أن ملعب الغولف الواحد ب (18) حفرة بالمنطقة يستهلك سنويا (700000) م3 من المياه، وهي الكمية الضرورية لتغطية احتياجات (15000) شخص من مياه الشرب خلال عام كامل.
***
بنيامين يوخنا دانيال
...................
* عن (مقالات في السياحة الرياضية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012.

 

في زحام الحياة العصرية، حيث تذوب الفواصل بين القرى والمدن، وتغمرنا موجات الموسيقى الحديثة، تبقى هناك أنغام خالدة تأبى أن تُنسى. إنها أغاني الزمن الجميل، التي لا تزال تتردد في الطرقات، يتناقلها المارة كأنها همسات الماضي، تتسلل من مذياع سيارة أجرة قديمة، أو تنبعث من نافذة مشرّعة في بيت عتيق، كأنها رسائل حب من زمن مضى.
كم مرة عبرنا بجوار حقل مفتوح في الريف، فسمعنا فلاحًا يهمس بلحن: "فلاح كان ماشي بيغني من جنب الصور...
شافني وأنا بجمع كم وردة في طبق بنور..."أو مررنا بمساء هادئ، فتناهى إلينا صوت أنثوي حالم يردد:"ياما القمر عالباب... مكسوفة مكسوفة منك..."وربما كنا في أحد الأسواق الشعبية، حيث ينبعث صوت فهد بلان من مذياع قديم يردد:"روح يا نسيم أرضها... خبرني عن أحوالها..."ليست هذه مجرد أغنيات، بل هي ذاكرة حيّة، تسكن وجدان الناس وتحمل في طياتها قصص الحب والانتظار، الفرح والحزن، التي عاشتها أجيال سابقة. إنها الألحان التي لا تهرم، بل تظل حاضرة كأنها جزء من روح المكان والزمان.
ذاكرة حية رغم تغير الزمن في الماضي، كانت الأغاني تصل إلى الناس عبر الإذاعة، أو في جلسات السمر، حيث يجتمع الأهل والجيران حول الراديو لسماع صوت أم كلثوم وهي تشدو:"على بلد المحبوب ودّيني...
يا ليل... يا عين..."أو يتمايلون مع ألحان عبد الوهاب وهو يغني:"كل ده كان ليه..؟
لما شُفت عينيه..."
كانت الأغاني تعبيرًا صادقًا عن نبض الحياة اليومية، سواء في الحب أو الفراق، في العمل أو السهر، في لحظات السعادة أو الألم. واليوم، رغم تغير وسائل الاستماع وانتشار الأغاني السريعة، إلا أن هذه الأعمال الخالدة ما زالت تجد طريقها إلى القلوب، ليس فقط لأنها تفوق في جودتها الكثير من الإنتاج الحديث، ولكن لأنها تحمل في طياتها حكايات الناس ومشاعرهم التي لم تتغير رغم تبدل الأحوال.
في الأسواق الشعبية، لا يزال البعض يدندن أغاني عبد المطلب وهو يغني:
"ساكن في حي السيدة...
وحبيبي ساكن في الحسين..."
وفي سيارات الأجرة، ربما تجد السائق يردد مع محمد رشدي:"عدوية... يا بنت السلطان..."
أما في القرى، فما زالت الأغاني التي تمجد الأرض والعمل تُغنّى أثناء موسم الحصاد، أو في ساعات الصباح الباكر، حيث يردد الفلاحون كلمات محمد قنديل:
"يا حلو صبح... يا حلو طل..."
لماذا تبقى هذه الأغاني...؟ ما يميز أغاني الزمن الجميل أنها لم تكن مجرد كلمات وألحان، بل كانت قصصًا قصيرة مغنّاة، تحكي عن الحب والحنين، عن الغربة والانتظار، عن الفرح والحزن. كانت تكتب بعناية، وتُلحن بعذوبة، وتؤدى بإحساس صادق من مطربين عاشوا الأغنية بكل تفاصيلها. اليوم، رغم موجة الأغاني السريعة التي قد لا تتجاوز بضع دقائق وتُنسى بعد أيام، فإن أغاني الماضي تبقى، لأنها خرجت من عمق التجربة الإنسانية، ومن بساطة الحياة وجمالها. ربما يمر الزمن، وتختلف الأذواق، لكن طالما بقيت هناك نافذة مفتوحة في ليل صيفي هادئ، أو قلب مُحب ينتظر، أو فلاح يمشي على الطريق الترابي بين الحقول، فستظل هذه الأغاني تتردد في الأفق، مثل أنفاس الزمن الجميل التي تأبى أن تموت!!
***
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

تخمد إرادةُ الإنسان لأسبابٍ عدّة: تراكم الإحباطات، ضغوط الحياة، الفشل في العلاقات، وأحياناً بسبب إدراكه أن الشيء الذي كان شغوفًا بهِ، لم يعُد يعني له شيئًا؛ أي أن التحوّل نابع من وعيه أولاً بعدم جدوى الحلم الذي رسمه لنفسه أو نمط الحياة الذي توهّمهُ يومًا أنه الأمثل لعيشٍ كريم.
وعلى رأس هذه الأسباب: الحُبُّ! هو أكثر شعور يُشعل ويُضيء الإنسان من جهة، ويكسره وُيطفئ إرادته من جهةٍ أخرى حين يفشل.
الحُبُّ شكّل الثيمة الأكثر ديمومية في التراث الأدبي بجانب معاناة الحياة وتحدياتها، ويبرز كتوقٍ للنجاة وكمصدر للمعنى في عالمٍ متبعثر، يبعث على الإرهاق والاغتراب الوجودي.
حين تأملتُ تجربتي، تبيّن لي أن للحُبّ وجهين: الأول، «الحُبٌّ القَيديّ»، سمته علائقيّ، يقوم على الحاجة للآخر، ويمثّل افتقاراً وعجزًا في الروح. الثاني، «الحُبّ الإفساحيّ»، وهو الأنضج، يشبه حبّ مولانا جلال الدين الروحي لله وللوجود.. حبّ بطبيعته لا يطلب التملّك أو التعلّق، ويكتفي بالمؤانسة الروحية للمحبوب.
رغم قسوة الألم الناتج عن فشل الحب والانطفاء والشعور بغياب المعنى، تبقى هذه التجربة التربة الأخصب لتعلّم حبّ أعمق: حب غير مشروط، وإدراك أن الفراق مجرّد وهم نفترضه عندما لا نعرف من الحب إلا مثاله الأول: «الحب القَيديّ». أما الآخر، الأرقى، فيوقظ وعينا بأننا نتشارك ذات السماء مع محبوبنا، ونفس الوجود، أحياءً كنّا أم أمواتًا!
الفيلسوف الحقيقي هو من يعتق نفسه من آلام الحياة، بفسح المجال لطبيعة العالم أن تكون، دون قيد أو شرط؛ وعند هذا الإدراك، تتحدّد ملامحُ الحبّ في أنقى صوره.
***
خالد اليماني - باحث

صدر عن دار روافد في بيروت، كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» في طبعته الثانية، في (485) صفحة، وهي طبعة مزيدة ومنقحة.
جاء في كلمة الناشر: ((بعد صدور طبعته الأولى؛ حظي كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» للمفكر الإسلامي الدكتور علي المؤمن، باهتمام كبير جداً من قبل الأوساط الدينية والأكاديمية، ونُشر حوله عدد من الكتب والدراسات، وعقدت لمناقشته ندوات وحلقات بحثية، وتُرجم إلى اللغتين الفارسية والإنجليزية. وهذه الطبعة (الثانية) تتميز بإضافات نوعية مهمة.
إن المقاربات المنهجية التي يطرحها المؤلف في هذا الكتاب، هي الأولى في مجال التأسيس لعلم الاجتماع الديني الشيعي، وهي لا تتناول التشيع في أصوله العقدية وقواعده الفقهية؛ وإنما المجتمع الإنساني الذي يفرزه التشيع ومساراته التاريخية، وهوية هذا المجتمع وأنساقه ومكوناته، وهو ما يعبر عنه المؤلف بــ (النظام الاجتماعي الديني الشيعي)، وكذلك القواعد النظرية، العقدية والفقهية، والتراكمات التاريخية التي يستند اليها هذا النظام.

تقف الدراما المصرية اليوم عند مفترق طرق، إما أن تنزلق نحو الهاوية بفعل التكرار والاصطناع أو تعانق السماء بجناحي الموهبة والجدية، حديث الرئيس السيسي عن ضرورة إيجابية الدور الدرامي لم يأت من فراغ ، بل هو صرخة في واد تعصف به رياح التجارة والانتهازية، فالمشهد الحالي يشبه لوحة مرسومة بألوان باهتة، رغم أن التاريخ الفني لمصر يحتفظ في جعبته بلوحات خلدها الزمن، لكن العودة الحرفية للماضي ليست سوى هروب من مواجهة الحاضر، فالماضي جميل لأنه ماض، لكنك إن أعدت إنتاج ذات المشاعر بنفس الأدوات فستحصد دراما أشبه بمسلسلات الأبيض والأسود تعيش في عصر الألوان.
القضية ليست في "ماذا نروي" بل في "كيف نرويه"، العبرة ليست في بطولة النجم الذي يملأ الإعلانات ضجيجاً، بل في سيادة الفكرة التي تتنفس من خلال الممثل لا أن يختنق العمل تحت أضواء نجمه، النظام القديم الذي ينتج مسلسلات كالفقاعات، صعيدي هنا واجتماعي هناك وأكشن في الوسط، كلها تصب في بحر من النسيان لأنها تخلو من روح المبدع الحقيقي، المسلسل ليس سلعة تغلف بأسماء النجوم وتطرح في السوق، بل حكاية تحتاج إلى من يصوغها بيد أمينة، يد الكاتب الذي يعرف أن الحبكة ليست مجرد حواديت تخيط عشوائياً، والمخرج الذي يرى في كل مشهد لوحة يجب أن تنبض بالحياة.
أما الحديث عن "ورش الكتابة" التي تنتج نصوصا كالوجبات السريعة، فذلك أشبه بجريمة فنية ترتكب في وضح النهار، مسلسلات تكتب بين غمضة عين وانتباهتها، حوارات مبتذلة وشخصيات مسطحة، كل هذا تحت شعار "الشعب بيسيبها ويروح يشوف دراما المخدرات أو بير السلم"؛ لكن هل فكر أحد أن الجمهور لم يعد يخدع بسهولة؟ أن عينيه تتعطشان لعمق ما، لذكاء ما، لشيء يلمس وجدانه لا فقط بصره؟
الانتهازيون الذين يلوكون شعارات القيم والأخلاق كذبا، هم وباء ينهش جسد الدراما، يعيدون إنتاج الإسفاف تحت مسميات براقة، أعمال تتدثر بعباءة "الأسرة" أو "البطولات" بينما جوهرها فارغ كقشر البصل، مهمتهم ليست إثراء المشهد الثقافي، بل اصطياد الفرص لتحقيق مكاسب سريعة، لكن النجاح الحقيقي ليس في كم الأعمال، بل في كيفيتها، في ذلك الموسم برهان واضح، "قلبي ومفتاحه" و"ظلم المصطبة" وغيرها أثبتت أن النجاح له عنوان واحد، النص القوي، والإخراج المتقن، والموهبة التي تحترم ذكاء المشاهد.
الحل ببساطة: اقطعوا الطريق على النصابين، سلموا الراية للموهوبين أولئك الذين يعرفون أن الدراما ليست تسلية عابرة، بل مرآة تعكس هموم الناس أحلامهم تناقضاتهم دراما تلامس الواقع دون أن تسقط في فخ الواقعية البائسة تقدم الحلول دون وعظ مباشر تصنع الفرح دون تفاهة الحل أيضاً في إيقاف خط التجميع؛ فلماذا نُنتج عشرات الأعمال الهزيلة إن كنا نستطيع تقديم خمسة أعمال تخلد في الذاكرة؟
الدراما المصرية قادرة على العودة كـ"فينيق"؛ لكن ذلك يحتاج شجاعة في هدم الأصنام القديمة. الأصوات التي تقدس النجم على حساب الفكرة. ترفع شعارات التجديد وهو تكرر الماضي الدراما ليست مهرجاناً للوجوه المعروفة بل ساحة للإبداع الحقيقي. وهنا مربط الفرس فما قيمة أن نصنع دراما "إيجابية" إذا كانت إيجابيتها سطحية كالزبد؟ الأهم أن تكون إنسانية صادقة قادرة على هز المشاعر دون تكلف.
في النهاية المشاهد ليس مغفلاً. والعصر لم يعد يحتمل اللف والدوران؛ إما أن نصنع دراما تليق بتاريخ مصر الفني أو نقبل بأن نصبح مجرد ذكرى في ذاكرة الدراما العربية، الخيار بين أيدينا، والموهوبون موجودون، فهل نسمح لهم بالانطلاق؟.
***
عبد السلام فاروق

الشاعر يمكنه أن يصنع أمة، كما فعل الرئيس "ماو" (1893 - 1976) فهو – برغم ماله وما عليه – صنع أمة الصين، وكان يتفاعل مع مئات الملايين من المواطنين، وإستطاع بشعره وما ينحته من أفكار وتطلعات في قصائده أن يلم شملهم، وينطلق بهم إلى آفاق المجد الحضاري المعاصر، بإلهاماته المتواصلة للذبن من حوله وأعقبوه.
الصين اليوم تمثل خمس نفوس الأرض، وتتسيد على عرش الإقتصاد العالمي، وتمتلك طاقات صناعية لا تُضاهى.
الرئيس ماو وظف الشعر للتثوير الجماهيري والإستنهاض الشعبي والتعبير الوطني بالجد والإجتهاد، والعمل المتوثب نحو المستقبل الزاهر الرفيع.
أدهشتني قصائده وكتاباته التي تستدعي البحث والتقييم لكل قرار تتخذه القيادة، وبهذه الروح البحثية النقدية التفاعلية إستطاع أن يضع الشعب الصيني على سكة الإنطلاق المطلق في رحاب الزمان.
وكان شعره كلاسيكيا ويوظف الطبيعة كرمز ويعبر عن الإرادة والتحدي.
من قصيدة الثلج 1936
"الجبال مغطاة بثلج لا نهاية له
وأنهار الشمال تجمدت تماما
وفي داخل البلاد إنتصبت مئات الآلاف من التلال
لكن، من منهم كان بطلا حقيقيا"
ومن قصيدة إستراحة على جبل لوشان 1934
"الرياح تعصف والسحب تتجمع
الفتال يشتد في المضائق
يجب أن نشق طريقنا عبر الصخور
لأن النصر مرسوم أمامنا"
وهذه من قصائده المشهورة وكذلك قصائد: تشانغشا 1925، المسيرة الطويلة 1936، التاسعة المزدوجة 1929 وغيرها من القضائد الإلهامية الثورية المؤثرة في ترتيب آليات العقول، فقصائده وخطبه كانت أشبه بآليات تفكيك وإعادة تصنيع التفكير في المجتمع الصيني.
فهل لدينا قدرة ماوية شعرية على إعادة تصنيع حياتنا؟
و"الشعر مصباح أقوامٍ إذا التمسوا...نور الحياة وزند الأمة الواري"!!
***
د. صادق السامرائي

في مدينة الحلة، حيث تتعانق الحضارة مع الإبداع، وحيث كل حجر يروي قصة من مجد التاريخ، وُلد رجلٌ لم يكن مجرد خطاط، بل كان سيد الحرف وروح الفن المتجسدة. إنه الأستاذ الجليل، شيخ الخطاطين، السيد حسام الشلاه، الرجل الذي لم يكن قلمه مجرد أداة، بل امتدادًا لروحه، وسفينة تبحر في بحر الجمال والإتقان.
عرفته المجالس الثقافية رجلًا وقورًا، هادئًا في حضوره، عميقًا في فكره، يفيض بالحكمة التي لم تكن يومًا مجرد كلمات تُلقى، بل معانٍ تُجسد في لوحاتٍ تتراقص فيها الحروف، فتتمايل كأنها تنشد قصيدة خالدة. لا يكاد يغادر مكانًا إلا وقد ترك أثرًا، توقيعًا من روحه على جدران الذاكرة. كان يحمله الحرف حيثما حلّ، فلا يفارقه القلم أبدًا، وكأنه بعضٌ من يده، بل بعضٌ من كيانه.
كان مجلسه الثقافي قبلةً لذوي الفكر، ملتقى لعشاق الفن والأدب، حيث تجتمع العقول الراقية لتنهل من نبع المعرفة، وتنهض بالثقافة إلى آفاق أرحب. في هذا المجلس، حيث تمتزج الأصالة بالحداثة، تتجلى شخصيته الفريدة، رجلٌ يحمل في قلبه حبًّا لا ينضب للحرف العربي، يدافع عنه كمن يدافع عن هوية، وينقشه كما يُنقش الوشم على جلد الزمن.
من عادته أن يُخرج قلمه في أي مجلس، لا يقاوم إغراء الورق، فالحروف تناديه، وكأنها تستغيث أن تخرج من العدم إلى الوجود. رأيته ذات يوم وقد جلس بين جمعٍ من الأدباء والمثقفين، تأمل قليلاً، ثم أخرج ورقةً بيضاء، ومدّ يده إلى جيبه، حيث يقيم القلم مقام القلب. بحركةٍ رشيقة، وكأنه يستل سيفًا من غمده، شرع يرسم الحروف على الورقة، كمن ينسج ثوبًا من حرير. لم يكن يكتب وحسب، بل كان ينحت الجمال في فضاء الورق، حتى إذا اكتمل، رفع الورقة وأراها لي، فكان اسمي قد وُلد من جديد، لكن في أبهى صورة، كأنما انبعث من ألقٍ سماوي.
إنه حسام الشلاه، الرجل الذي لم يكن الخط بالنسبة له مجرد فن، بل رسالة، هوية، ونبض حياة. لم يكن الحرف تحت يده خطوطًا جامدة، بل كان حياةً تنبض، وروحًا تتنفس، وعشقًا يتجدد مع كل قطرة حبر تسري على الورق.
في زمنٍ بدأت فيه الحروف تفقد ألقها وسط موجة الحداثة الجامحة، ظلَّ حسام الشلاه صامدًا، كحارسٍ أمينٍ على بوابة الجمال، لا يساوم على مبادئه، ولا يُفرِّط في إرثه العريق. إنه من تلك الشخصيات التي لا يطويها الزمن، بل يُدوّنها في سجل الخالدين، حيث يبقى أثره شاهدًا على أن الحرف العربي لم يكن يومًا مجرد خط، بل هوية تنبض بالحياة، وروحٌ لا تموت.
سلامٌ عليك، أيها الخطاط العظيم، وسلامٌ على يديك التي كتبت الجمال، وعلى روحك التي صنعت مجد الحروف.
***
بقلم: د. علي الطائي
14-3-2025

"ارئ انه لو قتل مائة رجل من رجال القرن السابع عشر في طفولتهم لما وجد العالم الحديث. وغاليلو عميد هؤلاء المائة".. برتراند رسل

غاليلو (1642 - 1564) عالم إيطالي من مؤسسي العلوم الطبيعية الرياضية التجريبية والمادية الميكانيكية، مؤلفه الأساسي (حوار حول منظومتي العالم الرئيسيتين - البطليموسية، والكوبر نيكوسية)
كان الاعتقاد السائد عند الناس حتى عصر الاغريق ان الأرض مسطحة وانها مركز الكون وقد جاءت نظرية العالم الفلكي الاغريقي (بطليموس) مؤيدة لهذه الأفكار فكانت نظريته تقول: ان الأرض ثابته وهي تركز الكون وان الافلال تدور حولها الى ان جاء العالم البولندي (كوبرنيكوس) (1473 - 1542م) فاسقط هذه النظرية وجاء بنظرية تقول: ان الشمس هي المركز الكون وان الكواكب والافلال تدور حولها بما فيها الأرض وقد أصبحت هذه النظرية هي السائدة في العلم الحديث.
إنجازات غاليلو الفلكية ولعلمية
عاش غاليلو في فترة تاريخية مهمه تعتبر نهاية للعصور الوسطى وبأية لعصر النهضة وعصر العلم الحديث، كان غاليلو احد الذين اعتنقوا نظرية (كوبر نبكوس) وكان اول من اخترع التلسكوب ووجهة لمشاهدة الاجرام السماوية وكانت هذ1ه التجربة فريدة في التاريخ فقد مرت على الانسان الاف السنين وهوا لا يرئ السماء الا بعينيه المجردة حيث وجد غاليلو من خلال التلسكوب ما يثير الدهشة والعجب.
بدا غاليلو بدراسة سطح القمر واكد ان سطح القمر مليئ بالارتفاعات والانخفاضات مثل سطح الأرض وقد قدر ارتفاع الجبال على سطحه ثم اخذ يدرس النجوم وقال ان هناك فرقاً بين النجوم الثابتة والمتحركة اما اكتشافه الأهم فهو مشاهدته لأربعة كواكب جديدة اكثر لمعاناً من بقية الكواكب الأخرى حيث اثبت مشاهداته عن طريق التلسكوب ان هذه النجوم هوة كواكب المشتري وثلاثة اجرام سماوية تدور حولة ثم أصبحت أربعة وهي توابع لكوكب المشتري، وبين غاليلو ان الأرض تضيئ مثل بقية الكواكب.
كما كشف عن التشابه بين الأرض والقمر والكواكب وقال انها تتبع نفس القوانين واثبت ان الشمس هي اكثر الاجرام السماوية كمالاً ان هذه الاكتشافات تعتبر ثورة في علم الفلك والفيزياء . ان اهم نتائج اعمال غاليلو هي انه يد بكل جوارحه واكتشافاته نظرية (كوبر نيكوس) وهذا السبب اصطدم بالتفتيش الروحانية والكنيسة واكد ان الكتاب المقدس لم يؤكد نظام مركزية الأرض.
محاكمة غاليلو 1633
اقتيد غاليلو من فلورنا الى روما مكبلاً بالقيود وزج به في السجن وهدد بالتغريب اذا لم يتراجع عن رايه وكانت التهم الموجهة له قولة بكروية الأرض ودورانها وانه بهذا لا يعترف بوجود الله ويخالف الكتاب المقدس وتسمى هذه التهمة بالهرطقة وعقوبتها الإعدام وقف امام المحكمة وقال (اقسم انا غاليلو وانا اركع امامكم واضع امامي الكتاب المقدس، اقسم انني امنت بكل كلمة جاءت في الكتاب المقدس وبكل تعاليم كنيسة روما وقد طلب مني المجمع المقدس ان اتخلى عن الفكرة الخاطئة بان الشمس تقع في المركز ولا تتحرك وبناء على ذلك وبقلب مخلص العن واحتقر هذه الزندقة، واقسم علاوة على ذلك انني اذا خرقت عهودي فأنني اعرض نفسي لكل العقوبات التي تفرضها الكنيسة ضد الملحدين ..) هذه ما قالة غاليلو امام المحكمة وقد ذكرته باختصار نقلاً عن كتاب (رجال عاشوا للعلم) لمجموعة من المؤلفين الأجانب .
لقد أجبرت المحكمة غاليلو على التراجع عن اراءه السابقة وكان تحت ظروف المرض وتقدم السن فافرجوا عنه ورغم تراجعه عن اراءه الا انه تمتم داخل المحكمة بصوت هامس: (ولكن الأرض تدور على أي حال).
***
غريب دوحي

ترجمة: بنيامين يوخنا دانيال

تنتشر رياضة التزلج على الثلوج في المناطق الجبلية التي تشهد تساقط كميات وافرة من الثلوج ولفترات زمنية مناسبة إلى جانب نشاطات ورياضات أخرى، مثل رياضة الزحافات الثلجية ورياضة تسلق الجبال الثلجية وركوب التلفريك والتخييم في المناطق الثلجية المرتفعة وركوب الزلاجات التي تجرها أيائل الرنة والهبوط بالمظلات وسط الثلوج وركوب الدراجات الثلجية وغيرها كثيرة .
و تمارس عادة في المنتجعات السياحية الشتوية التي تتوفر فيها عادة محطات ومسارات التزلج والخدمات والتسهيلات، بالإضافة إلى محال بيع الأدوات والمعدات الخاصة بهذه الهوايات والرياضات الشتوية (أحذية تزلج، العصي، الأبسة الواقية، الخوذ، القفازات، الأقنعة، النظارات الثلجية ... الخ) .
ومن هذه المنتجعات منتجع (ذي بالاس) الشتوي في غشتاد (سويسرا) ومنتجع (بامبورفو) في جبل (رودبي) في بلغاريا ومنتجع جبل الأولداغ في مدينة بورصا التركية ومنتجع (ميرانو) في إيطاليا ومنتجع (فاريا) في لبنان .
و قد لاقت هذه السياحة في السنوات الأخيرة عدة مشاكل وتحديات جراء تراجع التساقطات الثلجية في الكثير من المناطق التي تمارس فيها هذه السياحة وعلى نحو غير مسبوق، وذلك بسبب الأحتباس الحراري (الأحترار العالمي) الذي بات يشكل مشكلة كبيرة تهدد البيئة من جانب والأنسان من الجانب الآخر، وفي كثير من مناحي الحياة، وخصوصا الاقتصادية منها . فانحسرت على نحو ملحوظ، بسبب ارتفاع درجة الحرارة وقلة الثلوج المتساقطة .
فلو أخذنا فرنسا على سبيل المثال لوجدنا تراجعا في كثبانها الجليدية من (365) كلم 2 في الستينيات من القرن الماضي إلى (340) كلم 2 في الثمانينيات منه . وهي مستمرة بالتراجع لحد يومنا هذا بحسب احدى الدراسات البيئية الوطنية .
أما في النمسا فقد سجلت (97 %) من الكثبان الثلجية انحسارا يتراوح بين (17) و(30) م بالمقارنة بما كانت عليه عام 2010 وفقا لدراسة نشرت في نيسان 2012 . وكان تأثير قلة تساقط الثلوج واضحا على قطاع السياحة النمساوي في الأشهر الأربعة الأولى من شتاء 2011 الذي خسر فيه نحو (9.37) ملايين ليلة سياحية أي (2.2 %) بالمقارنة مع نفس الفترة من العام الذي سبقه . ثم استعاد عافيته بتساقط الثلوج، واستقباله السياح من هواة التزلج على الثلج والرياضات الشتوية الأخرى في شباط 2012 ليسجل زيادة بنسبة (11.76 %) في عدد الليالي السياحية بالمقارنة مع الشهر المماثل من العام السابق .
أما سويسرا الزاخرة بمناطق التزلج على الثلوج مثل (بيتنبرغ، يونغفرو، بيزل، ديابليريتس، زيرمان، ساس في، غاشتاد، كران مونتانا، ليوكيرباد، انترلاكن، هابكريت، وبونغزو) فقد شهدت الغاء بطولة التزلج فيها 2012 لعدم بلوغ الثلوج السمك المطلوب، وقلة الغطاء الثلجي وعدم توفر المستلزمات والموارد الطبيعية اللازمة لاقامة مثل هذه الفعالية الرياضية . وتشير نتائج احدى الدراسات العلمية إلى احتمال زوال الكتل الجليدية المتجمدة فيها بنهاية عام 2100 . الأمر الذي سينعكس سلبا على هذه الرياضة التي تشتهر بها البلاد منذ القدم .
و كان قطاع السياحة السويسري قد عانى خلال الفترة 2001 – 2003 من قلة العائدات السياحية وانخفاض الأرباح بنسبة (8) في المائة بسبب تراجع السياحة الشتوية بصورة عامة، وانحسار الأنشطة الرياضية المرتبطة بها على نحو بين، ولعوامل اقتصادية أثرت سلبا على السياحة الداخلية .
أما في لبنان فقد كان عام 2012 متميزا بالنسبة لهواة التزلج على الثلج حيث سقطت الثلوج بغزارة في فاريا والرز واللقلوق وميروبان من السفح الغربي لسلسلة جبال لبنان الغربية من كانون الأول 2012 وحتى أيار 2012 بعكس سنوات عديدة سابقة، انحسرت فيها هذه الهواية بسبب قلة الثلوج (خصوصا 2010)، بل وانتشرت لتشمل السفح الشرقي المطل على سهل البقاع أيضا، وإن على نحو محدود لافتقارها إلى الخدمات والتسهيلات الضرورية لممارسة مثل هذه الهواية، هواية التزلج على الثلوج التي تمارس على نطاق واسع .
***
...................
عن (مقالات في السياحة الرياضية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012

في قلب هذا الصرح الذي نطلق عليه "المدرسة"، حيث تتشابك أحلامنا مع جدرانها، وتنسج الأيدي التي تبنيها عقولنا، تشرق شمس العِلم بألوانها المتعددة، كل معلم فيها يحمل سِرًّا لا نعرفه، يُلقيه في قلوبنا في صمت، دون أن نلحظ. هذه المدرسة، كأنها كائن حي، يتنفس من خلال الكلمات التي تُكتب على السبورة، وينبض من خلال العيون التي تراقبنا.
أستاذ الرياضيات، أنت الذي تسير بنا في متاهات الأرقام والمجهول، تجعل من المعادلات لغاتٍ سحرية نحتاج إلى فك رموزها. ليس ما نراه في معادلاتك سوى الظاهر، أما عمقها فلا يصل إليه إلا من يملك عيونًا ترى ما وراء الأرقام. تحب أن تتركنا نبحث، ونكتشف، في قلب معادلتك شيء لا نتوقعه. علمك، هو ليس مجرد حل مسائل، بل هو فهم لجوهر الكون، حيث يظهر كل شيء في تناغمٍ لم نكن نراه من قبل.
أستاذ اللغة العربية، فيك تتجسد الكلمات كما لو أنها روح حية، تهمس لنا بأسرارها. لك القدرة على جعلنا نتنفس بحرية بين حروف اللغة، وتكشف لنا أن وراء كل حرفٍ معركة من المعاني، ويخفي وراءه عالمًا بأسره. من خلالك، أدركنا أن اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، بل هي جسرٌ ممتد بين الأزمان والأماكن. أنت من يعيد للزمن رونقه، ويعلّمنا أن الكلام لا يتوقف عند النطق، بل يتغلغل في أعماقنا.
أستاذ اللغة الإنجليزية، فيك كل شيء يبدو كما لو أنه لغز مغلف بالجمال. كلماتك تأخذنا إلى عوالم بعيدة، لا تقتصر على التعلم، بل تجعلنا نغرق في بحرٍ من التفكر والتأمل. تعلمنا منك أن العالم ليس مكانًا واحدًا، بل هو عالم مليء بالتنوع، يكمن فيه كل جمال. أنت من فتح لنا الأفق، وأنت من جعلنا نؤمن أن اللغة ليست مجرد كلمات، بل هي مفاتيح لقلوبٍ وأفكارٍ بعيدة.
أستاذ التربية الإسلامية، علمك هو النور الذي يهتدي به قلبنا. في كل درس منك، هناك رسالة غير مرئية تُكتب في قلوبنا. أنت تعلمنا كيف نعيش مع الإسلام كروحٍ تلامس تفاصيل حياتنا اليومية، لا كواجبات فقط. تسير بنا بين آيات القرآن الكريم، وتُريكنا في كل خطوة جمالًا غير منظور، حيث تكون الحكمة والأخلاق هي زادنا. أنت من يعلمنا أن الدين ليس عبئًا، بل هو سكينة وراحة، وهي تُختصر في روحك التي تفيض بالحب.
أستاذ علم الأرض، أنت الحافظ لأسرار الأرض، الناطق باسم الصخور والجبال والبحار. فيك تكمن القصة التي لم نعرفها بعد عن كوكبنا. تُعلمنا أن الأرض ليست مجرد سطح نعيش عليه، بل هي كائن حي، تتنفس وتعيش وتاريخها مليء بالقصص التي نحتاج إلى الاستماع إليها. وأنت، يا أستاذ علم الأرض، كنت وما زلت المؤرخ الذي لا يُنسى.
أستاذ اللغة الكردية، فيك نجد جمالًا لا يتكرر. لغتك هي الجسر بين الماضي والحاضر، حيث تتحرك الكلمات كما لو أنها تعبير عن هوية لا تُمحيها الرياح. تعلمنا منك أن الكلمات ليست مجرد أصوات، بل هي ألحان تنبع من عمق التاريخ، وتغني الأرواح التي تعشق الأرض.
أستاذ الأحياء، عالمك هو مملكة حية، مليئة بالأسرار التي لا نراها بعيننا المجردة. فيك نجد سر الحياة، وكيف أن كل كائن، مهما كان صغيرًا، يحمل في ذاته أعجوبة. في كل درس، تكشف لنا عن تفاصيل لا تُرى إلا بالنظرة الدقيقة. علمك لم يكن مجرد معرفة، بل هو رحلة في أغوار الكائنات الحية، وعلاقة الإنسان مع الطبيعة.
أستاذ الفيزياء، فيك تتناغم الطاقة والمادة في رقصةٍ لا تنتهي. تعلمنا منك أن الكون ليس مجرد مجموعة من الجسيمات، بل هو منسوج بأحكامٍ لا نراها. كل قانون تشرحه لنا هو دعوة لفهم تلك الأنظمة العميقة التي تحكم وجودنا. وبك، أدركنا أن العلم ليس محصورًا في الكتب، بل هو جزءٌ من تفاعلنا مع العالم.
أستاذ الكيمياء، أنت الذي تعلمنا أن كل شيء في هذا الكون له تفاعل. في كل تفاعلٍ كيميائي، هناك سرٌ غير مرئي. جعلتنا نفهم أن كل ما حولنا هو مزيج من العناصر التي لا تجتمع إلا بطريقة معينة، وكل درس منك هو حكاية تفاعل يتحول فيه كل شيء إلى شيء آخر، ليتغير ويصبح له معنى أعمق.
أستاذ الحاسوب، فيك نجد البوابة التي تفتح لنا الأفق الجديد. علمك هو سر العصر، حيث نعيش اليوم في عالمٍ رقمي، وأنت، من يعلمنا كيف نمتلك مفاتيح هذا العالم. معك، أصبحنا قادرين على أن نغرق في بحر من البيانات، ونستخرج منها جوهرها. مع كل سطر من الشيفرة، نكتشف أن العالم أبسط مما نعتقد، وأن كل شيء قابل للتحليل.
المعاون، هو الجندي المجهول الذي يعمل بصمت، لكنه يحمل على عاتقه الكثير. وجودك في المدرسة يعني النظام والتنسيق، وعملك يتناغم مع قلب المدرسة. لا تحتاج للظهور لتثبت وجودك، بل حضورك في كل مكان يعكس الجهد المبذول في بناء هذا المكان.
مدير المدرسة، أنت قائد السفينة في بحرٍ من التحديات. فيك تكمن رؤية المستقبل، وأنت من يوجهنا نحو الاتجاه الصحيح. عملك لا يظهر للجميع، لكنه يتجلى في كل قرارٍ تتخذه، في كل لحظة تتأكد فيها أن الطريق الذي نسير فيه هو الأفضل لنا جميعًا.
أصدقائي، أنتم الأنوار التي تضيء دروبي في هذا المكان. في كل لحظة، هناك شيء مشترك بيننا، شيء عميق يربطنا رغم كل التحديات. بين يديكم، أرى أفضل نسخة مني، وأشعر أن حياتي ليست سوى سلسلة من اللحظات التي سنعيشها معًا، محملةً بالذكريات والأحلام.
***
سجاد مصطفى حمود

تتميز التجربة الفنية عند الفنان التشكيلي محمود عمامو بتنوع عناوين مراحلها من حيث الاعداد للاعمال الفنية والمعارض وقد كانت هناك مشاركات فنية متعددة حرص من خلالها الفنان عمامو على ابراز هواجسه الفنية التشكيلية التي تحيل الى ما يعتمل لديه خلال ممارسته التشكيلية والابداعية الفنية.
و الى جانب حضوره ومشاركاته الجماعية كانت للفنان محمود عمامو محطة مهمة حيث قدم معرضه الفني الذي ضم عددا من أعماله الفنية وذلك بفضاء الهادي التركي للثقافة والفنون وقد تابع كل من زار الفضاء من فنانين تشكيليين ونقاد وأحباء الابداع التشكيلي معرضا متنوع اللوحات الفنية في فسحة هي بمثابة " السفر العاطفي " حيث عوالم الفنان المعبرة عن أحواله وهواجسه واعتمالات دواخله الأمارة بالرسم والتلوين..
و قبل ذلك كان للفنان موعد مع جمهور الفن في معرضه الفني التشكيلي الشخصي بعنوان أحاسيس بالألوان" وذلك بفضاءات المعارض ب""- émotions en couleurs "
"الرواق" بجوهرة بسوسة بحضور جمع من الفنانين التشكيليين وأحباء الرسم وباشراف مندوبة الشؤون الثقافية بسوسة الأستاذة جليلة العجبوني.. ويواصل الفنان التشكيلي محمود عمامو اشتغاله الفني لتكون له مواعيد فنية ابداعية ضمن سنة 2025 بعد أن عرض بجهات عديدة منها سوسة والعاصمة..
في لوحات الفنان عمامو حساسية فنية وشاعرية مبثوثة في العمل الفني وفق ايقاع داخلي يطغى مع تجريدية بينة فكأن الرسام يبث أحاسيسه يمنحها فضاء القماشة لتقول ذاتها ذاته بكثير من البراءة والحلم..
تخير الفنان التشكيلي محمود عمامو عالمه المشكل للوحاته وفق رؤيته لجمالية بها عفوية واعية تبرز مفردتها الفنية وكأنها في تصميم متقصد يحيل الى ذلك العالم الساحر من رغبات للارتجال تلاؤما مع ما يفضي اليه العمل الفني في سياق من الانسيابية تلوينا وموضوعا وهذا ضرب من الخروج عن مألوف الايقاع الباطني لسياقات معيشة من قبل الفنان فكأنه يرجو اللامنتظر واللامتوقع فقط ما هو منسجم مع احساسه العميق وبطريقته هو فقط.. انه الانسياب للذات تفعل فعلها العميق بعيدا عن بهرج اليومي والآخرين.. انه الانصات لايقاع مخصوص هو ايقاع الدواخل بأحاسيسها المتحركة والمتراكمة والعميقة وقد حفرت في ذات الفنان حكاياتها وسردياتها المختلفة وها هو الفنان محمود عمامو ينصت اليها ويحاورها ويحاولها قولا بلذتها وجمالها.. لذة الفن وجماله..
لوحات مختلفة دالة على عوالم الفنان محمود عمامو فيها موسيقى بينة وهدوء ضاج وسردية ملونة هي عين بوحه وشجنه وبهجته وقوله الدفين وكل ما نسميه الاحاسيس التي عثر عليها في ذاته وبثها بدلال الفن واللون على مساحات القماشة..
نشاط فني تشكيلي ومعارض وتجربة وذهاب آخر من قبل الفنان محمود عمامو للتجريب تفاعلا مع دواخله وبنزعة فيها من الشاعرية الكثير.. تتمعن في اللوحات فترى شيئا منك يبادرك بالرغبة في النظر والتأمل لتلمس بعض المشترك البين في الذات.. للألوان أحاسيس جمة تبتكرها من متخيرها الفنان.. صاحبها.. صاحب الأحاسيس.. واللوحات.. والأفكار..
***
شمس الدين العوني

- لقد كفانا أحد الشعراء ردّا عليهم يا صديقي: "خذوا عيني شوفوا بها "، لأن الآخرين عُميٌ عمّا يرى الحبيب في حبيبته، فلا تكتمل متعة الجسد إلا إذا اكتملت قَبلها متعة البصر، ولكل من الفيزياء والكيمياء ارتباطات دقيقة بالموضوع، علاقات تجمع بين البصر والأذن وحاسّة الشم من جهة، "والأذن تعشق قبل العين أحيانا. " وبين الإفرازات المؤثرة على الجهاز العصبي من جهة ثانية، فأكثر المحبّين جنّوا وكثيرٌ منهم انتحروا، لذلك يجب أن يتقدّم العقل على العواطف وحوار الجسد، من العيب أن يكون الكلب أفقه منّا في تناول أنواع الروائح!
تأوّهْتُ بصوت جارف:
- آه لو تعِيرني يا ابن الهيثم بصرَك ساعة واحدة لأفقه الحياة من حولي، آه لو تفعل ذلك فتمنحني فرصة لأصبح شخصا مهمّا!
ضحك دافينشي وأخبرني بأنه يمكنني سماع صوت كل شيء جميل حتى وإن كان صامتا، نبّهني إلى ذلك ثم تناول قلما وراح يرسم شيئا ما على ورقة مهملة، يرسم ويتحدث في آن واحد:
- الكثيرون مقتنعون بأن الموناليزا أجمل جميلات العالم بالقدر الذي منحتها إيّاه، وسرعان ما يناقضون أنفسهم بادعائهم أني رسمت نفسي على أساس رغبتي في أن أكون امرأة، مع أن الرجل لا يمكن أن يكون جميلا جمال المرأة مهما تنكر بجسدها وأزيائها، الفحول من الرجال يعرفون هذه النظرية جيّدا، ولو كانت هذه الرغبة فعلا متوفرة لبترتُ من جسدي ما أعتبرها أجهزة زائدة وانضممت طواعية إلى مجموعة أوبرا الكاستراتو. المضحك أن بعضهم يقول بأني خائن لصديقي زوجها، لكن الذي لا يعرفه الجميع هو أني رسمت الموناليزا متمنّيا لو كانت زوجتي أو أمّي أو على الأقل أختي، ولذلك انغمسَت فيها وتوغّلت دون أن أدري فرسمتها خلطة من كل هذه الهالات، يعني "كوكتال" من النساء ذوات القربى العائلية المتنوعة، ولهذا السبب اندفع نحوها الرجال والنساء بمختلف الأعمار وأحبّوها؟
وهكذا أيضا كنت واحدا من تلاميذ السيّد المسيح كلما جالستهم في لوحة العشاء الأخير، فعلت ذلك دحضا لحكمهم علي بأني طفل غير شرعي، وفنيّا صرت أرى شرعيتي في حرّيتي وتفكيري ونبوغي، فعرفت من أسرار الحياة ما لا يعرفون وقد وقف الرّب إلى جانبي، لأن أبي مسح خطيئته على ثوب أمّي ومضى إلى الكنيسة حيث صكوك الغفران على "قفا مَن يشيل "، دعنا منه ومن أمثاله فقد ضيّعوا على أنفسهم الحياة الأروع.
- ويحك يا دافينشي لقد صرّحت بأن الموناليزا ليست جميلة جدّا، ألا تخشى بعد ذلك أن تتدنّى قيمتها في العالم؟
- ههههه السّحر في المرأة ألّا تكون جميلة جدّا يا صديقي، بل أن يكون فيها شيء جميل، والأروع أن يكون غامضا، تتحسّسه وكلّما حاولت التساؤل حوله تعاظم أكثر، إنه يشبه الماء المعدني الساخن حين يبدو لك ساخنا من الوهلة الأولى، فإذا غطست فيه وهدأت برُد حولك، وإذا تحرّكت داخله لسعتك حرارته، هو ذا السحر الذي جعل الموناليزا أغلى لوحة في العالم، غير أنهم يخفون عجزهم عن إدراك هذا السحر بقولهم جميلة جدّا وكفى، كخوفهم من دخول ذلك الماء السّاخن بالضبط، كذلك هي الموناليزا تدعوك إلى الغوص فيها، وتهمس إليك بتأجيل البحث عن سحرها، فإذا أمعنت النظر فيها شعرت بأنها تحذّرك من أن تتحرك، وهكذا تستفزّك لتنظر إليها كل مرة في لعبة بصرية أبدية، بهذا السحر تعلّمك كيف تُقبِل على الحياة وكيف تتناولها وتجعلها تتناولك!
وابن الهيثم يضحك عليْ رحت أتوسل إلى دافينشي:
- علمني كيف أعثر على هذا السحر في المرأة يا دافينشي أرجوك.
- ههههه حتّى أنا لم أتمكن من معرفته، وقبل أن أموت جزمت بأنني أتعبت نفسي دون جدوى، ثم تأكدت ألّا أحد يمكنه أن يدرك هذا السّر، وسيظل غامضا حتى يرث الله اللّوحة والأرض وكل مَن عليها.
- حتى أنت يا دافينشي؟
- نعم حتى أنا!
- إذن فأنت غبي مثلنا يا صديقي ههههه.
كان ابن الهيثم يضحك طوال حوارنا:
- ههههه بل الغبي من يعتقد أنه قد وجد هذا السّر، لأنه بذلك يقضي في لحظة واحدة على ارتباطه بمن يحب، وبالتالي يكون قد جنى على نفسه حين وضع حدّا لعلاقته بأي موضوع جميل، الأكيد أن الله أخفى كثيرا من أسراره حتى يجعلنا نتمسك بالحياة، ونتعلم كيف نبحث بها عن الجنة ذلك السر الأعظم، إن السر الذي يشدّنا في المرأة ما هو إلّا تمرين بسيط، لكننا في النهاية ننكب على ما يبدو ظاهرا ونؤجل البحث، وهكذا تتواصل تسلية الله.
- ما أعنيه يا دافينشي أنك تمكنت من حشو لوحة الموناليزا بكل ما يصبو إليه الرجل من افتراضات جمالية في المرأة ولم تَحرِم أحدا مما يتوق إليه فيها. جعلتها وصفة جمالية تتطابق مع كل علل العشاق وأمراضهم، كنت قبل ذلك أعتبر المسألة مادية بمثل ما حدث بين قابيل وهابيل.
- المرأة يا صديقي تشبه الأرض فكلاهما مصدر للفاكهة، فالله يعاقب المتحايل ويحبس قلبه في غشاوة مدمّرة، ثم لا يفقد ذلك السر وحسب، بل يفقد حتى الجماليات الظاهرة في النساء وفي الطبيعة وفي كل شيء جميل، ويظل على هذه الحال حتى يجد نفسه كالأنعام وأحيانا أضل، وقد يموت بسبب جوع آخر غير ذلك الجوع المُتعارف عليه، إنه جوع الشعور بالحياة من حوله، وقد يعجّل إبليس بفنائه فيدفع به إلى الانتحار لأنه لم يحسن حواره مع المواضيع الجميلة.
هل تريد أن تقنعني يا ابن الهيثم بأن الموناليزا مانعة للانتحار؟
- لا أقصد بهذا المعنى الموناليزا تحديدا، بل أقصد كل امرأة طيبة وعفوية تتقن الحب والتضحية، تتفنّن في البذل والعطاء كما تفعل الأرض بالضبط، فهي بذلك تتوفّر على هذا السّر المنقذ من الجوع والعطش والموت والجنون والشذوذ، حتى وإن كانت هذه المرأة قبيحة فلا يمنعها ذلك من أن تكون جميلة الجمال الذي أقصده، لأنه لا بد وأن هناك من يتحسّس فيها ذلك السّر ويجذبه إليها، وهكذا يستصلحها وينجب معها فاكهة وزرعا وخيرات كثيرة، وكلما عاشرها أكثر زاد حرصه بحثا عن ذلك السّر، يظل يبحث حتى يدرك أحدهما الأجل أو كلاهما.
أُعجب دافينشي كثيرا بقول ابن الهيثم:
- صحيح ما قلته يا صديقي، فمن سيطرت عليه تجربة عاطفية وجعل كلما تذكّرها شعر بالبؤس فله أن يجلس لمدة ساعة أمام الموناليزا، ليكتشف أن المرأة التي توهّم أنه فشل في الارتباط بها إنما كان سرّها لرجل غيره، فإذا فعل ذلك باهتمام نام كالطفل على وقع ملامح الموناليزا ثم استيقظ ناسيا كل شيء، فالمرأة لا يجب أن نسهر الليل نخطط للوصول إليها كما يفعل اللّصوص لأنها لا تشبه مغارة علي بابا.
إنه الموضوع الوحيد الذي لا نستطيع الحصول عليه إلاّ بالصدق والعفوية والبساطة، وقد تكون الموناليزا بمثابة سوبر ماركت زاخرة رفوفها بجميع مقتنيات عشاق المرأة، فهي تعوّضهم ما حُرموا منه في الدكاكين الصغيرة، أو فقدوه في غمار تجارب سابقة، فالموناليز إذن وصفة إنسانية طبيعية لا تحتوي على مؤثرات جانبية سيئة، كالتي تحتويها وصفة لوكريشيا دوناتي أو مارلين مونرو أو تلك المطربة صاحبة الغمزة الشهيرة.
- أتريد أن تقول يا دافينشي أن الموناليزا مهدئ عاطفي!
- هو ذا ما قصدته بالضبط، فهذه اللّوحة رمزية لعلاقة زوجية أبدية مقدسة هادئة، العلاقة التي يُفترض أن كل إنسان سوي يتمنى أن يسكن إليها مدى الحياة، وليست تلك التي يتعاطاها خفية كالممنوعات، أو عَلَنا كارتباط اجتماعي حتمي لا يرتكز أساسُه إلّا على الوثائق المدنية، ولا نتحدث عن المقتنعين بعمومية استهلاك الجسد، فهؤلاء عندما تجاوزوا الحياء من الرّب صار لم يعد لديهم شيء يخفونه من أعضائهم، ذلك لأنهم اقتنعوا بأن السّر المقصود محصور في الجسد، وفي ما يمكن أن يبذله من أوضاع جنسية ولاشيء غير ذلك.
لا تدري يا صديقي كم كنتُ سعيدا عندما أنهيت رسم الموناليزا، فقد شعرت بأني نجحت في إظهار ما كان أبي يواريه عن الكنيسة، فعندما رفض أن يُدمِج أمّي في العائلة قرّرت أن أجعلها موجودة في قلب كل فرد في العالم، أبي كان نموذجا صارخا لتلك العبثية الجسدية السّائدة، فالرجل إذا بحث عن نقطة الجذب في المرأة على خريطة الجسد، صارت قبيحة بسبب ما تركته الخطيئة من أثر في روحه، فالموناليزا تقنعك أن منبع الجذب هو الروح، أمّا الجسد فهو تحصيل حاصل، ومكمل لحالة التآلف العاطفي، فكل الذين ارتبطوا بزوجاتهم حتى الشيخوخة إنما ظلوا يبحثون عن موطن الجذب في أرواحهن طوال حياتهم، ثم لم يأبهوا بأنفسهم حتى شاخوا ثم ماتوا.
هذا هو الزّواج المثالي عند الأسوياء وأصفياء الأرواح، فالعلاقة الزّوجية المقدّسة الأبدية ليس لها علاقة بلغة الجمال ولا بخريطة الجسد، مريم العذراء لم تكن جميلة ذلك الجمال المتفق عليه بين مدمني الفاحشة، فلقطات المرأة الفاتنة وإن كانت ساحرة ومثيرة فلا عمر لها، الموناليزا بعيدة أيضا عن هذا الجمال الهندسي الذي مكّن أكثر النساء من السيطرة على مسابقات أجمل وجه امرأة في العالم، الجمال الحقيقي يا صديقي هو الذي يمنحك وجدانا إنسانيا عميقا صادقا ومستمرا، وليس ذلك المرتبط بالمال والشهرة كعارضات الأزياء وبطلات أفلام الجنس.
***
- عبد الباقي قربوعه / الجزائر.
.........................
فقرات مختلفة مرفوعة إلى المرأة في عيدها العالمي.. من رواية معمودية الثلج..

تزخر كوريا الجنوبية بالكثير من الموارد والمقومات الطبيعية (الشواطئ، أنهر، ينابيع مياه معدنية، غابات.. الخ) التي تشكل حجر الأساس لكثير من النشاطات والفعاليات الرياضية، بالإضافة إلى الكثير من العناصر الأصطناعية (أرصفة زوارق، ملاعب بيسبول وغولف وكرة قدم وتنس، أحواض سباحة، حلبة سباق سيارات وخيول... الخ) التي تجعلها قبلة متميزة تجذب السياح لغرض الرياضة (مشاهدة ومشاركة)، وللأغراض الأخرى المتعلقة بشتى أشكال وأنماط السياحة، ترفيهية كانت أو ثقافية أو ترويحية أو صحية أو أيكولوجية، بدليل استقبالها ل (1.02) مليون سائح أجنبي من مختلف بلدان العالم في شهر تموز 2012 وحده، وفقا لاحصائيات (وزارة الثقافة والرياضة والسياح الكورية، و(5.33) مليون سائح خلال الفترة من كانون الثاني إلى نهاية حزيران 2012 بحسب (وكالة أنباء كوريا الجنوبية) المعروف اختصارا ب (يونهاب)، بزيادة نسبتها (23) في المائة بالمقارنة مع الفترة المماثلة من عام 2011، وقد ساهمت بفعالية في التخفيف من العجز المالي في القطاع السياحي الكوري إلى (140) مليون دولار أمريكي فقط للفترة (كانون الثاني – أيار)، وبفارق (1،9) مليار دولار عن نفس الفترة من عام 2011، نتيجة الفرق الحاصل بين النفقات السياحية لهؤلاء والنفقات السياحية الموجهة للخارج (الفرق بين حجم السياحة المستوردة وحجم السياحة المصدرة). والرقم قابل للزيادة ليبلغ (11) مليون سائح بنهاية عام 2012، مع إمكانية تحقيق فائض سياحي مناسب.
و كان لاستضافة كوريا الجنوبية دورة الألعاب الآسيوية 1986 (سيول)، ودورة الألعاب الأولمبية الصيفية 1988، ودورة العاب الجامعات الشتوية 1997 في (تشونجو)، ودورة الألعاب الآسيوية الشتوية الرابعة في كانون الثاني 1999 في (كانغ وان دو)، مع إقامة مؤتمر السياحة الدولي للفترة من 11 أيلول إلى 30 تشرين الأول 1999 بمشاركة (3) ملايين زائر. ومن ثم استضافتها لمباريات كأس العالم بكرة القدم (النسخة 17) في ملاعبها (سيول، دايجو، أولسان، سون، جوانجو، بوسان، أنشيون، دايجون، سيوجويبو، وجيونجو) خلال الفترة من 31 أيار إلى 30 حزيران 2002 بالمشاركة مع اليابان كبير الأثر في تنمية وتطوير الحركة الرياضية في البلاد من جهة، وازدهار السياحة الرياضية فيها من جهة ثانية، وقد لحقتها جملة إنجازات وتطورات في مجال البنية التحتية والفوقية، كان آخرها انشاء حلبة دولية كبيرة لسباق السيارات بطول (5.621) كيلومترات في (يونغام) من أجل سباق الجائزة الكبرى الكوري لسباق السيارات (فورميولا 1).
و ترتبط السياحة الرياضية في كوريا الجنوبية بنشاطات وفعاليات رياضية وترفيهية عدة، منها رياضة الغوص، وتنتشر في (سيوجيبو) على الجانب الجنوبي من جزيرة (جيجو) ومناطق أخرى. وأيضا رياضة التزلج على الثلوج التي تنتشر في منطقة الساحل الشرقي من (هو جيد بو) إلى (بوسان) التي تستقبل في (كانون الأول – آذار) من كل عام ما يربو على (1) مليون سائح محلي وأجنبي، والزاخر بالمنتجعات الشتوية التي تتوافر فيها شتى أنواع الخدمات والتسهيلات المتعلقة بهذه الرياضة، ومنها مكائن انتاج الثلج الصناعي من أجل استمرار موسم التزلج على الجليد في المنطقة أطول فترة ممكنة. وأيضا في وادي (ميونج كيوتشون دونج) الشهير بمنتجع (ميجو) الشتوي. ومن أشهر منتجعات التزلج فيها (دراغون فالي سكي ريزورت) و(ألبس) و(يونجين فارم لاند) و(جونماسان) و(بيرس تاون) و(يونجبيونج). أما الرياضات المائية فتنتشر في منطقة (يونغ ان) المعروفة بمجمعها الرياضي والترويحي.
و أيضا الرحلات المائية في نهر (الهان) بجسوره ال (20) وبطول (48) كلم الذي يعج بالسفن والزوارق التي تستقبل الزوار والسياح من أرصفتها العديدة (غابة سيول، جام سيل، يونيدو، توك سوم، جام دو بونغ، يانغ هويه، وسانغ ام)، وتسير بهم برحلات تستغرق عادة (60 – 90) دقيقة. تشاهد من خلالها أجمل مناظر العاصمة (سيول). وقد أجازت (وزارة الأراضي والنقل والشؤون البحرية الكورية) أخيرا لشركة (هارموني) لتسيير رحلات بحرية على ميناء (يوسو) على هامش معرض (حياة المحيط والساحل) (أكسبو) (12 أيار – 12 أب 2012) الذي كلف الخزينة الكورية (1.4) مليار دولار امريكي، وبمشاركة (100) دولة، ليستقبل (8) ملايين زائر.
كما تشتهر المنطقة الواقعة بين (تونهي) تشانغ جون) بالقرب من جبل (كيمجانجسان) بالرحلات البحرية الترفيهية، وأيضا المنطقة الواقعة بين (تشونجو) و(تانيانج). وهناك رحلات متاحة في نهر (ايم جين جانج) بواسطة القوارب الشراعية . وتنتشر رياضة السباحة في شواطئ الساحل الغربي (ماليبو، تايجون، بيونسان) من بداية تموز وحتى نهاية أيلول، وشواطئ الساحل الجنوبي مثل (نانيلدا وهايوندا) التي يشهد سنويا مسابقة اليخزت. وأيضا شواطئ الساحل الشرقي (باهانج، كيونغ دا).
و قد حظيت مدينة (بيونج تشانج جان) الكورية بشرف استضافة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2018 بعد تفوقها على (انيسب) الفرنسية و(ميونخ) الألمانية، وحصولها على (63) صوتا مقابل (7) أصوات لانسيب و(25) صوتا لميونخ. علما كانت المدينة قد أخفقت في استضافة دورتي 2010 و2014 لصالح (فانكوفر) الكندية ومنتجع (سوتشي) الروسي.
و هذه مؤشرات قوية على تطور وازدهار الرياضة في جمهورية كوريا الجنوبية، وخصوصا بعد تحقيقها لنتائج قياسية وفوزها ب (28) ميدالية في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية (30) 2012 في لندن. منها (13) ميدالية ذهبية في مبارزة السيف والجودو والرماية والقوس والنشاب والجمباز والمصارعة والتايكوندو، بالإضافة إلى (8) ميداليات فضية في السباحة والمبارزة بالسيف والرماية وكرة الطاولة والتايكوندو والكلاكمة، و(7) ميداليات بونزية أخرى في القوس والنشاب والجودو والمبارزة بالسيف وبدمينتون (تنس الريشة) وكرة القدم، إثر مشاركتها ب (245) رياضيا ورياضية، تنافسوا في (22) نوع رياضي.
***
بنيامين يوخنا دانيال
.........................
- عن كتاب (مقالات في السياحة الرياضية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012.

 

في زمن ما، في تاريخ ما، كنّا أحياء. وُلدنا أحياء لنحيا ونُعلم الآخرين سر الحياة، وُلدنا لنُحيي في الموات الحياة.
فرشنا للعلم بُسطا لتحيا الحياة، وتنمو على حوافها الأزاهير، وتُشرق الأرض بنور أسرار رجالها العارفين والحاذقين والرّبّانيين وأهل الحرف واللسان، طرّزنا الظلام نورا وألوانا، وأشعلنا بالعلوم مصابيح على هُداها سار الغاطّون في نوم جهلهم في عصور ظلامهم. تجرّأنا على علوم الغابرين في الطب والفلك والفلسفة والحساب وعلم الكلام، واقتحمنا حصون اليونان وأسرار الأولين، وأنزلنا ما سكن الفضاء، وأخرجنا ما اختبأ تحت الأقدام، بنينا الحصون وأبدعنا ما وراء البحر فراديس تفغر أفواه الحالمين.
وكأن الزمن توقف، وانقلبت الموازين، وصار العلم جهلا والحلم كابوسا، حين فقدنا الفردوس، ولَفَظنا التاريخ من سجلاته، وتجشَّأ نثن هواننا الضارب في عمق ذواتنا البئيسة حين تنكَّرنا لنا، ولأوَّلنا.
وفي زمن ما، وتاريخ ما، بعدما كنا نقود العالم إلى براري الأمان، أعلنا جهاراً موتنا بالسكتة القلبية والدماغية، وغنّينا باللحن والرقص أنّنا فُرجة بالمجّان، فُرجة أصبحنا. سرنا سير ضعفائنا المتخاذلين حتى أصبحنا ضعفاء يأكلنا الضعف والخوار، تآكلنا وأكل بعضنا بعضا، خاطبنا ضعفائنا على قدر عقولهم الخائرة، ولم نرتق بهم لنصل معا إلى القمة، حتى أصبحت عقولنا عقول العصافير، وأجسادنا أجساد بغال تحسن الاستهلاك وملء البطون، وهز والأرداف، وكثرة الكلام والقيل والقال.
استحليْنا النوم واستعذبنا مواقع الصفوف الأخيرة، حين تسلَّح الآخرون، علناً وفي غفلة منا، بما كان لنا بالأمس نورا نهدي به الضالين والسائرين عُميا وصُما وبُكما. تركنا الفردوس الزاهي والقلوب تنز دما ويأسا وعويل نساء، ومن قبله رَفَسْنا رفس بعير هائج شواهد من كانوا للعالم قادة.
تنكّرنا لأسياد ساقوا بعزة طوابير التائهين، ودفنا عند أعتابهم سر الكلام، وعزّة النّفس، والنخوة والكرامة، فانْقَدْنا كقطيع يحسن الاجترار وترديد الكلام. دفنا الماضي، وأهلنا على لحْده التراب، وأغمضنا أعيننا على الماضي وأغلقنا دونه منافذ الصحو، وأقبرنا جذوة النّور فينا، فادْلَهَمّ الحاضر وتاهت بنا الطرق نحو المستقبل فوقفنا، وطمسنا معالم من ساروا بعزة نفْس وإباء نحو المدى يضيئون سوادا جنَّ وران على قلب العالم، وأغمدنا حلمنا في غِمْدٍ صديءٍ مُهتريء متآكل لا ينفد إليه النّور، ونقشنا بجهلٍ على أبواب عقولنا المُتخنة باللامبالاة والتراخي "لا للنور"، "لا لعلمٍ يوقظ فينا سر الوجود".
فُزنا خيبةً حين ما فاز إلاّ الصّاحون بالدرجات الأُوَل، وحطَّمْنا في النّوم الرقم القياسي لأهل الكهف حتى صار كهفنا المظلم جهلنا وبلاهتنا، وضحكاتنا التي يضحك من قبحها من علّمناهم بالأمس سر الحياة وسر الوجود.
عرفنا قدرنا بأنَّا لسنا للزمان رجالا، فاستحلينا وقتنا الثالث ووقت فراغنا، واستعذبنا والشطح والهز والقيل والقال، وقلّة الأسئلة المحرقة الدّافعة إلى البحث والتفكير، ننتظر أن يتحرك من كان بالأمس يستجدي عند بابنا فكرة، فنتحرك تحرُّك قرد يُجيد التقليد الأعمى بالمحاكاة والصراخ، والضحك.
أصبح البحث والفكر وإعمال العقل عدونا، فألغيناه من حياتنا ومدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، وكأن الجهل ما خُلق إلا لنا فالتصقنا به حتى أصبح لنا عقيدة، سِمة ووشما به نفتخر بين الأمم، بل أصبح لنا سُبة وبه نُعرف. إلْتصقنا بشاشاتٍ على مقاس كفِّ أيدينا الخائرة والناعمة اِلْتِصاق بقَّة على جسد منهار خاملٍ تعِبٍ تمص دمه حين استمرأ واستحلى الحك والهرش، حتى تكوّرت كروشنا وانتفخت، وتقوست ظهورنا وانكسرت.
إلى متى وحلم النهوض فينا يداهن، يراوغ، يراوح مكانه، كابوسا انقلب، حتى أصبح الحلم والكابوس سيان، طال سُباتنا، وعلا غطيطنا وأيقظ العالم من حولنا، ولم يوقظنا، لأنّ لنا في الموت رقدة طويلة سننام فيها ملء جفوننا، لكن اليوم علينا أن نحيا، أن نكون، أن نؤثر أكثر ممّا نتأثر، فليس الزمان زمان نوم، لنستيقظ، ولنجعل من حياتنا شمعة البداية، تحرقنا لتضيء مواطئ أقدامنا لنسير أولا، ونعرف إلى أين نسير، ونُحيي ما مات فينا، لتصير الشمعة قنديلا، فمصباحا يعم نوره العالم، ونستعدّ لزمن يلفظ النّائمين، وأن نتحرك ونحيي أثر الأولين، ونركب الصّعْب بحثاً وجِدّاً وعملاً الكر والفر، ويكفي ما نمنا بالأمس، وظنّ عدوُّنا أنّ شمس غدنا غاربة باردة مظلمة، لا يستبين لها شروق، بل على العكس، نملك من القوة ما يحتاج لصعقة تبعث فينا الأمل من جديد، فقد أتْعَبنا الانتظار والنّظر إلى الخلف، فلْنحيا من جديد أو نُعلن موتنا.
***
ذ. عبد الهادي عبد المطلب
المغرب

تحية وسلاما،
وبعد،
سيدي الرئيس
إنه من دواعي سروري أن أخطّ لكم بعض شجوني، أعبَر عن قلقي، حيرتي، أسفي فأنا ما وجدت حلا غير هذا، فأرجو أن تصلكم رسالتي وانتم في مزاج حسن، لقراءتها بشغف …
أنا مواطنة صالحة تحب الخير للبلد، تحترم نفسها وتحترمكم، فهات لي يدكم، وانصت لخفق قلبي، كم هو يختلج، لست مجرمة، أبحث عن عفو، أو براءة، فقط انا معذبة في أرضكم..
سيدي الرئيس، لم أضع لك سما في رسالتي، فلا تجزع، ولا تدْعُ خدما أو حرسا لفتحها غيرك، ولا تدْعُ عُدُولَ إشهاد أو كتّابا لتلاوتها عليكم، ولا تجمع من حولك حاشية ولا شهودا ليشهدوا على ما دُوِّن فيها،
سيدي الرئيس
خبرت أنك لا تثق في إنس ولا حتى إبليس،
وأنك مولع بالعربية إلى حدّ الثّمالة، ففاكهتك عربية، أطباقك عربية، السّوائل التي ترتشفها عربية، فأنت عربي، من الرأس حتى القدم بالرغم أنْ ملامحك تقول أنّك قادم من كوكبة غير كوكبة العرب، أنا مثلك... لا أشبه العرب في شيء، أشبه الغجر، غير أني أحمل مثلك الهوية العربية، أنتمي لبلد عربي، أحمل فكرا ودما عربيا، ومن هذا المنطلق سيكون حديثنا بلا منازع من ألفه إلى يائه عربيا،
سأناديك سيدي، مولاي، حضرة الرئيس، في أدب وهمس وهسيس، وأنتظر منكم الإذن في الكلام، والاذن في السلام، والاذن في الجلوس، فلن أكون ثرثارة كما النّواب، لا ماكرة كما الذّئاب، ...
سيدي الرئيس
انا مثلك أحب الانزواء، لا أثق بمن يحوم حولي، وحتى الهواجس اتجنّبها، والنّقاشات الحادّة أتجاهلها، أنا مثلك، تماما، وديعة كالحمل، نقيّة كالحليب، بل أكثر، لأن الحليب بات مغشوشا، فما عدت أشربه منذ تعرضت أبقار جارنا الفلاح لعمليْة تسمّم، وماتت جميعها، ولأنه فقد كل ما عنده وما يملك، فقد كرامته، وعزّته، واضطرّ للتّسوَل فتخلّى عنه الأهل والجيران والرفاق وكذلك الحرفاء، وحتى الزوجة والابناء،
سيدي الرّئيس
كل ما في الأمر، أني من سلالة الانبياء والشرفاء، أتكشّف على الحقائق في المنام، وكأني أمام شاشة تلفاز، أرى الوجوه دون أقنعة، أرى أنيابهم كالسيوف لامعة، أرى اياديهم ملطْخة بالدماء، أرى بطونهم كالبالونات، أراهم في السرايا وفي فاخر الفيلات، والنساء تقبل عليهم، من كل الجهات، يحملن البيانات، يحفظن الشعارات، يرتدين ملابس العاهرات، يجلسن في الخمارات، يغادرن وهنّ يمسكن بالازهار باقات باقات، وعلى صدورهن، رسمت أبهى اللوحات، وقصائد غزل خطّت على نهودهنْ بدم الخفافيش، فلا يشوبها زغب ولا ريش،
سيدي الرئيس
كل ما في الامر أني لا أفكر، لا أدبّر، لا أتكتك، لا أخطط، أنا فقط أشعر، اتكشّف، أعبر، أكتب، فما ذنبي إن تعرّت حقائق، وما ذنبي إذا افتضح أمرهم وبانت نواياهم، انا ما اشتركت في كتابة دستور، وما حرّضت على انقلاب، وما وقفت يوما في اعتصام، ولا مع المحتجين، أنا جدّ بيوتيّة، وتقليدية، قديمة قدم قرطاج، فأنا ما قلت ان اصولي بربرية، ولا والدتي أمازيغية، ما تناولت موضوع السبية والاغتصاب ولا الخطف والاستبداد، ولا وصفت بشاعة الاستعمار وما ارتكبه في حق السكان والانسان، أنا أكره التبكي، وأكره التشكي، فكيف أبوح للقراء بسري، أذكر فقط أني كنت شهوة شجرة تفاح، واني ابنة فلاح، وان شهريار خطف أمي قبل ليلة الزفاف، وكانت له منها إلف شهرزاد، وشهرزاد، ليس سواهن يدخلن خدره حتى الصباح، وليس سواهن تحدّثن عن العشق المباح، فما لاح فجر وما لاح فَلاح، وحدهنّ يُؤذّنّ ويدّعين الدّيك صاح،
سيدي ألرئيس
أردت أن أحدثك عن قضيتي، لكني لم أجد بطاقة هويّتي، فكيف أقنعك إني عربية، وكيف أثبت إن دمائي فلسطينية، وكيف أبيّن إني من أمة اسلامية، أعلم أن القوانين سنّت لتزجّ بالمغفلين في السجون، ولتحمي المخادعين، إن المغفل بائس ومسكين، يحلم بعيش كريم، وبيت وعمل وخبز ولحم وتين، لا يهمه من كتب القوانين، ولا يسأل عن تفسير الدين، تكفيه بسم الله الرحمان الرحيم، وتكفيه الحمد لله رب العالمين، وعلى الضّالين آمين، ونحن الشعراء، لا تهمنا عيشة الأمراء، نريد فقط التغزل بالنساء، نريد الهوى بدل الهواء، نريد عصير العنب بدل الماء، وكل شاعرة من النساء، تكفيها أن تشبّهها بهيام، وتكفيها قبلة المساء، وتكفيها ضمة الاحضان وسرير من ريش النعام، ورشفة حبّ وأمان...
هل رأيت يا سيدي حلم البسطاء، خبز وماء وعيش في سلم وأمان، ومحفظة ومحبرة واقلام، ومعقم للقروح ودواء أحمر للجروح واسبيرين ومسكّن للآلام،
سيدي الرئيس
نسيت ماذا سأكتب لكم، لأني عطشت ولم اعثر على قطرة ماء، فأنا لم ادفع ثمن الفواتير فانقطعت فجاة الكهرباء، وحتى الورق اختفى، وما وجدت شايا لا قهوة لأعدل من مزاجي ولم أجد سكرا للمرطبات، حسنا سأخرج ريثما تعود لي الذاكرة، حينها سأكتب لكم عن قصة مواطنة تحلم لتصير أدبية وشاعرة فهل من دستور يحميها من الأذى ويجنّبها المضايقة…
رسالة لم تكتمل
من مواطنة
***
سونيا عبد االطيف
قليبية في 07/ 09/ 2022

 

في زمن العواصف التي لا تعرف الاتجاه.. تخرج الحقيقة من جعبتها كالطفل الذي يمسك بخيط مقطوع.. تمسك بأيدينا وتسحبنا نحو مراتب من الحياة لم نكن نعرفها.. هنا.. حيث تتقاطع أنفاس المدن المجهدة مع صرير أَجنحة التاريخ.. يبدأُ السؤال: أين تذهب بنا هذه الريح؟
سياسة.. تكتبها الأزقة
في أوروبا التي تشيب مِن سرعة الحروب.. تعلن صوت الناخبين صوتًا مختلفًا.. يميل إلى اليمين
كرغبة في احتضان ماض مفقود.. لكن الماضي لا يعود.. إنه يتلون كالحلم.. يظهر في إيطاليا حيث تشق حكومة جديدة طريقًا صعبًا بين الحماية الاقتصادية وشياطين العنصرية.. وفي السويد.. تمسك النساء بِأعقاب السياسة بيد باردة.. كرد على عنف ذكوري طويل.. الولايات المتحدة الأمريكية.. التي تئن تحت ثقل انقساماتها.. تمسك بيد مشدودة إلى البيض.. ترى في انتخابات المدنِ الصغيرة بشرى.. أو نذيرًا.. فكل صوت يحمل قصة جرح.. أو أُمنية لولادة جديدة..
مجتمع.. يبحث عن نبضه
في عالم تتفشى فيه الوحدة كالوباء.. تخرج اليابان بفكرة غريبة.. تدفع للمقبلين على الزواج.. كل هدوء يحمل فوضى.. وكل يقين يخفي وهدة.. هل يمكن للمال أن يصنع حبا؟.. أو أن الحب يحتاج إلى مال ليبقى؟.. وفي أَفريقيا.. حيث تطحن الشمس الأرض.. تصنع النساء من قشور الفاكهة أَملًا.. يباع في أَسواق الغرب كَـ "ترف بيئي".. بينما تبقى أَيديهن تَطحن الفقر..
السينما تخجل من نفسها.. فتفر إلى الماضي.. تعيد إحياء أَشباح الثّمانينيات.. كأننا نحتاج إلى تَذكيرٍ بأن الأَمل كان ممكنًا.. وفي المقابل.. تخرج من زوايا الإنترنتِ أَصوات شابة.. تخلعُ ثياب التابوهات.. تكتب بلغة الجسد.. لغة الغضب.. لغة الألم..
مستقبل.. يرسمه الجياع!
التوقعات تشبه سحابة ممطرة تحت سقف غرفة.. ترى فيها ما تريد.. العلماء يحذرون.. الموج الحار سيجلد الأرض.. الذكاء الاصطناعي سيسرق أَرواح الوظائف.. والحروب السيبرانية ستكون أَشرس من سابقاتها.. لكن الشعوبَ التي تعرِف طعم الموت.. تضحك.. تزرع بذورًا في فمِ العاصفة.. تمسك بخيوط الضوء البعيدة.. لأنها تعرف.. أن الفجر يأتي دائما.. بِلا استئذانٍ.. هكذا تسيرُ الحياة.. قِطعة مِدن سكر تذوب في فم الزمن.. نشربها.. نشتم مرارتها.. نكررها.. حتى نتعلم.. أن التاريخ ليس سوى كِتاب.. نكتبه نحن.. بِلعاب أَحلامنا.. ودم أَخطائنا..
العالم يتدي جلد ثورٍ هائج.. ينزعه البعض ليصنع مزمارًا.. والبعض يخيطه سترًا لشتاء قادم.. ففي أوكرانيا.. تشرب الأرض دما وصقيعًا.. تتقلب كجسدٍ بلا جلدةٍ.. وفي ساحات أمريكا.. تصرخ الأجنة في بطون أمهاتها.. تسأل: "هل سيولد الحب قبلنا؟".. أوروبا العجوز تلعق جراحها.. ترى في مياهِ نهر الدانوب انعكاس أحذيةٍ عسكريةٍ.. تَخشى أنْ تكون لجيرانها.. لكنها تمسكُ بِمظلة اليورو.. تختبئ من مطر الماضي.. الشارع الفرنسي يشبه الآن رِئة مثقوبة.. يصعد الدخان من أفواه الثائرين.. شباب يرفضون أن يكبروا في عالمٍ يشبه غرفة انتظار.. يبحثون عن بصمة أمل في قطعة قماش محترقة.. وفي جنوب الكرة الأرضية.. تمسك نساءُ الأرجنتين بِمشط الحرية.. يسرحن شعر التاريخ المتشابك.. يقلن: "كفى.. لن نكون حبرًا في هامشِ الكُتبِ"..
صرخة في وجه الزمنِ..
مهرجانات السينما تخجل من أضواء المسدسات.. تغلق عينيها.. تفر إلى أفلامِ السبعينيات.. كأنها تقول: "هذا المكان كان يضحك قبل أن نولد".. لكن الأغاني تخرج من شرفات تيك توك.. ألحان تطحن سكرَ الحزن.. فتيات يرسمن غضبهن بِألوان أظافر.. شباب يكتبون وحي الموت بلغة الميمز..
مستقبل.. يرقص على الحبال!
التكنولوجيا تنزع جلدةَ البشر.. تصنع منا كائنات هجينة.. نحمل أدمغتنا في سحابة.. نبيع ضحكاتنا لخوارزميات..المناخ يصرخ.. يطلب دفن أظافرِه في جسد الأرض.. العلماء يخترعون بذورًا تنمو في المريخ.. والأُمهات تعلمن أطفالهن كيف يتنفسون خلال الكوارث..
العالم مثل رِواية مفتوحة.. كل فصلٍ يجلس على كرسي إعدامٍ.. لكن الحياة تكتب نفسها دائمًا.. بخط يختلط فيهِ العرق بالحبر.. في الأحياءِ الفقيرة.. تسمع صوت طفل يبيعُ العلك.. يقول: "خذ لعبة.. اِدفع بسمة".. هُنا.. حيث تختفي الأرقام.. تبدأ الحقيقة..
وتبقى الكلمة الأخيرة للريح.. تحملها.. تلقيها في فم الغد.. كبذرة.. أو كدمعة.
***
د. عبد السلام فاروق

سألتني حفيدتي، بعيونٍ تتساءل: لماذا تكتب على الورق؟، لماذا هذا الجهد الفائض؟، ألم يكفِك الحاسوب؟، ألم يحقق لك السرعة؟
افتحه، واكتب ما يتبدى لك، فالكلمات لن تنتظر، سابق الزمن قبل أن تفر منك.
لكن مهما بلغت من السرعة لن تلحق بالذكاء الاصطناعي، الذي يتقن الدور.. يؤدي دور العاشق الشاعر، قبل أن يرتد إليك طرفك.
وما نفع الكلمات إذا كانت تُكتب بلا جهد؟.. أين حروف الليل،
التي تطلب منها الصبر.. وأين تلك اللحظات التي تُنسج فيها القصيدة من خيوط الفكر والتأمل؟
قلت لها: ورقةٌ بيضاء أعظم من ألف شاشة، حيث يتجسد الألم
وتبكي الكلمات قبل أن تجف.
ورغم أن الحاسوب قد يسبقني، لكن هناك لحظة لا يمكنه الوصول إليها.. لحظةٌ، عندما تتساقط الحروف على الورق كأنها المطر الذي يعيد الحياة.
***
د. جاسم الخالدي

الوطن لا يعني فقط التربة، النهر، السماء أو مجموعة من الناس، بل هو شعور عميق بالانتماء والإخلاص والتضامن والتضحية واحترام الذات.
إن تشعر بأن رائحة أرض الوطن لا مثيل لها؛ وإن الشمس المشرقة عليها تنشر دفء الحرية والأمان؛ وإن السماء فوقها لا تباح شرفها لمن هب ودب؛ وإن حب الإنسان للإنسان لا يضاهيه كنوز الدنيا.
الوطن هو السور الذي يحيط بتاريخك العريق ونضالك الطويل؛ إنه يحفظ كرامتك ويصون ضميرك، حيث تتعانق الذكريات مع الآمال، وتتجدد العزائم في ظل الوفاء.
هو القوة التي تبث الرجفة في الأبدان عندما تعزف الموسيقى أنغامها العذبة، فتُدمع العيون وتسرع نبضات القلب.
إنه الجدار المنيع الذي لا تخترقه رصاصات الأعداء، والربيع الذي تزدهر فيه الزهور، حيث تتنافس الأشجار في كثافة ثمارها، وتتضوع عبق الأرض بأناشيد المحبة والوحدة والإرادة المشتركة.
الوطن كالبوصلة التي تمكن السفينة من العثور على هدفها نحو المرفأ، والمنارة التي تضيء الطريق في الظلام، ولغة الحقيقة والشرف الإنساني والحضن الدافئ.
الوطن هو الملاذ الآمن الذي نجد فيه السكينة والطمأنينة، حيث تنبض قلوبنا بالأمل والتفاؤل على الرغم من التحديات. هو المكان الذي يحمل ذكريات الطفولة والشباب، يروي قصص العائلة والأصدقاء، ويشكل هويتنا وجذورنا.
الوطن هو حكاية لا تنتهي قط، قصة كاملة عن أرض خصبة تنمو فيها أحلامنا وتزدهر، وعن هواء نقي نتنفسه بشغف. إنه الرفيق الذي يرافقنا في كل خطوة نخطوها، ويظل حاضرًا في وجداننا مهما ابتعدنا.
الوطن هو المكان الذي نعود إليه بشوق ولهفة، حيث نجد الأحضان الدافئة والابتسامات الصادقة. هو المكان الذي يعطينا القوة والإلهام لنكون أفضل، ويدفعنا لتحقيق طموحاتنا وأحلامنا.
الوطن هو الجمال الذي ينتشر في كل زاوية، نجده في الطبيعة الخلابة وفي الوجوه الطيبة. هو النور الذي يضيء دروبنا، والظل الذي يحمينا من حرارة الحياة. هو الحب الذي لا ينضب، والبيت الذي لا يغلق أبوابه.
الوطن هو النبض الذي يحرك الحياة في عروقنا، هو الحلم الذي نتطلع إلى تحقيقه يومًا بعد يوم. هو المكان الذي نجد فيه ذاتنا ونستمد منه قوتنا. في الوطن، تتحول الأحلام إلى واقع، والآمال إلى إنجازات.
***
كفاح الزهاوي

في المثقف اليوم