
مضت أيام وأيام، والقلم كالح يشبه جَوّنا يتلكّأ عن الانصياع للكتابة. يتعنّت في كبرياء العذراء التي تعتز بحسنها وجمالها، أُغازله وأُداعبه علّه يلين بين يديَّ ويُرخي العنان، فاسحاً المجال للكلمة أن تنعتق من عقال الذاكرة بعدما شكلتها حادثات الزمان، إلى عقال الورق والقرطاس حيث مقبرة المكتوب؛ حين أرفعه بين أناملي وأغمسه في الدواة لأُبلّل رأسه في الليقة، يحمل معه ما قدَر عليه راسماً أسطراً في كتاب. أمام هذا التلكُّؤِ، تحضر صورة الجبل الأخضر؛ ذلك الذي يجثو رابضاً، وضوء الإشراق يتسلّل إلى منازلنا كل صباح من جهته مع تغيير زاوية الشروق حسب الفصول فهو في حركة دائمة يسير ونحن نعدّه هامداً. تحت أنظاره غرباً وعلى أطرافه شمالاً وجنوباً، وعلى امتدادٍ شريطيٍّ، يفصل بين قبائل الرحامنة ودكالة، تقع مضارب قبيلة العونات. في هذا الصقع، تكتب قبيلة العونات بعضاً من تاريخ وجودها وتجتهد في صياغة جغرافية المنطقة، تكتب قصّة حوار وتفاعل بين الأرض والإنسان. تتحدث الروايات أن سكان العونات أُنزلوا بهذه البقعة تخفيفاً من تطاحن قبائل دكالة وقبائل الرحامنة على المراعي الخصبة المترامية الأطراف، حيث جال بصرك لا ترى سوى تلال ومرتفعات تتخلّلها شعاب، كلّ التضاريس مغطاة بشجيرات تقاوم الجفاف من قبيل الدوم التي تثمر الغاز والسدر الذي يعطي النبق، أما شجيرات الرطم والدفلة فتخرجان زهرات طيبة الرائحة، ناهيك عن أعشاب وحشائش تطفح وتزين المراعي كلما جادت السماء بأمطارها.
يختلط في قبائل دكالة الأمازيغي والعربي، وقد جمع بينهما تآخ قوي يعمّ كل أقطار المغرب، تدلّ عليه العبارة: "من أين أنتَ في الإخوة؟" حين يلتقي مغربيان ويسأل أحدهما الآخر. يعود الوجود العربي في المنطقة إلى العصر الموحدي. وأنا هنا لست حكماً بين من يرجع كلمة دكالة إلى أصل أمازيغي اعتماداً على الدلالة اللغوية للكلمة؛ فهي تتكون من لفظين: "دو" وتعني الأسفل والمنخفض، ثم "اكال" وهي الأرض، بمعنى أن دكالة هي الأرض السفلى أو المنخفضة قياساً على أرض الجبال "أدرار". في حين، يرى آخرون أنّ الكلمة أصلها عربي من "الدَّكَلة" وهم الذين لا يجيبون السلطان من عزّة وأنفة. وبين هذا وذاك، فإنّ دكالة تدل على الأرض كما تدل على الساكنة، تجمع التاريخ والجغرافية، ويصعب الجزم في أصول الساكنة إلاّ أنهم اليوم خليط متجانس من الأمازيغ والعرب.
يعزو بعض الباحثين أنّ قبيلة العونات تنسب إلى عون بن يحيى بن طالب من بني هلال، وهؤلاء نزلوا بأرض دكالة منذ العصر الموحدي مع القبائل العربية، بني هلال وبني سليم، التي وفدت من الشرق واستقرت بأرض المغرب لأسباب سياسية أولاً ثم طبيعية ثانياً. يجعل بعض النسابين العونات ضمن القبائل العربية ذات النسب الإدريسي الشريف، وإن كان لابن خلدون رأي في عراقة الأنساب، حيث ينفي الشرف عن الجميع مع طول الزمن؛ لكن أهل الرحامنة ودكالة يرون عكس ما يراه صاحب كتاب العبر؛ فهم يقدّرون العونات ويحترمونهم ويقرون لهم بالنسب الشريف ويتحاكمون إليهم. وقد أُنزلوا بهذه المنطقة من طرف السلطان العلوي، إسماعيل حين تسلطن، لحل النزاع وإيقاف الاحتراب والصراع بين الرحامنة ودكالة على المراعي.
في وصف إفريقيا لحسن الوزان، أخبر عن نزول السلطان الناصر، سلطان بني وطاس بالجبل الأخضر، في القرن السادس عشر الميلادي خلال حملته العسكرية لمعاقبة قبائل بلاد دكالة التي هادنت الاستعمار البرتغالي ووالته. في وصفه للجبل الأخضر، تحدث عن بحيرة مائية كبيرة كثيرة الأسماك؛ الأمر نفسه أكده مارمول بالقول: «تولّدت عن عيون الجبل الأخضر بحيرة كبيرة عند سفحه كانت دائمة، قبل أن تصبح اليوم مؤقتة (ورار)». لقد اكتسب الجبل الأخضر تسميته من خضرة الأشجار التي تكسوه، ومن المروج الغناء التي تترامى عند قدمه. الأرض تنبت كل ما يبهج النفس ويشرح الصدر؛ الخمائل والأزهار العطرية يفوح شداها، والوحيش يكثر ويتنوع بشعاب هذه التضاريس؛ فقد اجتمع في المكان كل ما يؤنس الناظر ويريح المُقل ويشرح الخاطر، مما يساعد على دفع الكلّ والعياء أو صدأ الأحاسيس. براري شاسعة تزج برعاة الغنم والماعز إلى ملاعبة اليراعة والمزمار أو القتار والكمنجة التي ينحتونها ويصنعونها مما تجود به الأرض. والحال اليوم يختلف، فأرض العونات كما أرض دكالة حصباء، أرض حجر وحزونة، أرض قراح، لكنّها معطاء ساخنة حين تجود السماء بخيراتها بعد السنوات العجاف وشبح الجفاف الذي يهدد بلاد دكالة عموماً ومنازل العونات خصوصاً. تظلّ الأرض هامدة؛ بيد أنه إذا جادت السماء بالأمطار فإنّ الأرض تهتزّ وتؤتي من الأكل ما الناس به يغاثون، حيث يملؤون المطامر قمحاً وشعيراً ودرة وغيرها، ويجمعون إبّان الإمطار مياهاً عذبة بخزانات يحفرونها بباطن الأرض تسمى بالنطافي، يقع بها أمنهم ويجوزون بها إلى زمن الإمطار، كما يجفّفون العنب والتين، ويذخرون السمن والعسل وكل ما قدروا على جمعه احترازاً مما تخبئه السنوات القادمة؛ هذه الطبيعة غير القارة والثابتة طبعت سلوك الناس في أخذ الحيطة والحذر من دوائر الزمان الطبيعية.
أذكر أيام الطفولة، حين كنت أمتطي صهوة فرس بيضاء جميلة، اجتمعت فيها رشاقة الأنثى في مشيتها وتثنيها تثني الخيزران مع هبات النسيم. حين كنت أرفع يدي هاشّاً عليها تتحرك بلطف ناعم أجده في خصلات شعر ناصيتها الذي ينسحب في اتجاهي دليلاً على سرعة الاستجابة. نشوة ما بعدها نشوة تلك التي كانت تغمرني وأنا على صهوة الفرس أعدو خلف قطيع الغنم كي لا يخرج عن حمى المرعى، أحوشه وأحُول من دون أن يتخطّى أراضي الجوار التي صرت أعلم حدودها من خيالات تفصل بين المراعي. قبيل الغروب بقليل، يعود الرعاة إلى مضاربهم تحت ثغاء الغنم وشقشقة الطيور ونباح كلاب تسمع من بعيد، نورد القطيع قبل إدخاله للزريبة حيث يقضي الليل تحت حراسة الكلاب مما يمكن أن يفزعه. أما نحن فكنا نتحلّق جالسين القرفصاء قرب البيدر أو داخل خيمة مفتوحة من كل جانب كلما كانت الحرارة مرتفعة، أو مسدولة الجوانب إذا كان لذلك ضرورة. نتحلّق على ضوء فانوس يعكس على وجوهنا شعاعاً دافئاً خفيفاً، يمكننا من رؤية الحشرات الزاحفة أو الطائرة حتى نتفاداها متى ما سقطت في الطعام. في انتظار أن ينضج الطعام، يدور بيننا كشكول من الأحاديث يحكي فيها كلّ منّا عن طرائف حصلت له في المرعى أو يروي عن بعض ما شاهده. نظل محرنجمين نتبادل الحكي ريثما تضع الخالة بيننا صحناً من الحساء أو العصيدة لنتناولها بمغارف خشبية أو بالأيدي في حال غياب المغارف أو نقصها. وفي وسط الصحن تضع الخالة حفنة من الزبدة الطرية التي أتتبع سيلانها وهي تذوب على الجنبات من سخونة الطعام. لا تخلو حلقة الطعام هذه من دردشة وقصص؛ لكن السمر يحلو مع جلسة الشاي تحكي لنا الخالة عن التجربة التي قضتها بعين عائشة إقليم تاونات رفقة زوجها ومعهم والدتي؛ أو يحكي لنا زوجها عن مغامراته وهو مجند مع الفرنسيين في مواجهة الغزاة النازيين بجزيرة كورسيكا إلى أن أصيب في ساقه وعاد إلى وطنه يعرج برجله اليسرى لا يلوي سوى على إتاوة شهرية مع عكاز وحذاء طبي كل سنة. عدا تيْنك الروايتيْن، كنا نتبادل النكت والحجايات والفوازير مع رشف الشاي حتى يحل بنا النوم، نلتفّ وسط البيدر نفترش أكوام التبن والهيشر ونتدثر بقبة السماء المزينة بالكواكب السيارة والنجوم المتلألئة، وما إن يبصر أحدنا نجماً ساقطاً حتى يطفو إلى السطح تفسيراً لتلك الظاهرة أن أحد الأشخاص قد مات أو أنّ ذلك شهابٌ رُجِم به شيطان أراد أن يسترق السمع. أما البنات فكن يبتن داخل الخيمة في كل الأحوال ويأخذن الركن الموالي لأوني الطبخ على قلتها. لم نكن، نحن الذكور، نبيت بالخيمة إلا في المشتاة حين تنخفض الحرارة وتمطر السماء. ما علق بذاكرتي، في كل صباح، كنا نعاين تلك البراغيث التي كانت تشاركنا الفراش ليلا فتترك لباسنا مزركشاً بنقط الدم علامة على مرورها، كما نعاين خدوشاً من شدة الحكّ لطرد البرغوث أو القمل أو غيرها وهي تهيم فوق أجسادنا.
غير بعيد عن الجبل الأخضر، تقع جماعة "مطران" التي ينحدر منها والديّ. تجتمع الدواوير التي تتشكّل منها هذه الجماعة كل يوم أحد حيث يعقد سوقهم الأسبوعي. أسواق العونات أربعة: الأربعاء والخميس والسبت ثم الأحد. في السوق الأسبوعي، تتوزع خيام الباعة حسب البضاعة التي يتم عرضها على المتسوقين، وكأنك في قيسارية متعددة التخصص، بحيث يجد الوافد إلى السوق كل ما يحتاجه؛ يكفيه أن يتجه إلى الرحبة المتخصصة في ما يطلبه. يبدأ التجار في نصب خيامهم ليلا؛ أصحاب المقاهي أول من يقيم «قيطونه»، عبارة عن خيمة واسعة من الثوب السميك ذي اللون الأبيض تسع لعدد كبير ممن يفد عليها لتناول وجبة الفطور. فطور يتشكل من حساء «حريرة» مصحوب ببرّاد من الشاي يقوم الزبون بإعداده بنفسه بعدما يقدم له صاحب المحل ما يلزم من إبريق به شاي مغلي مع ربطة من النعناع الأخضر والسكر، وغالباً ما يتناول مع الشاي الإسفنج أو الخبز مع البيض. أول رحبة يبدأ رواجها رحبة البهائم: الأبقار والأغنام والماعز وكذا الحمير والبغال والخيل. في الطرقات الواصلة إلى أبواب السوق الأربعة، تجد من يعترض المتسوقات الحاملات معهن الدواجن والبيض. يعرف السوق ذروة الرواج في الفترة الصباحية، فكل الأزقة تعج بالزبناء الذين يتبضعون حاجتهم الأسبوعية، ولا يؤخرهم عن مغادرة السوق سوى خروج اللحم من المجزرة لينقلبوا إلى بيوتاتهم. وما إخال أحداً منهم لا يشتري الفول والحمص والذي يصطلحون عليه من باب المزحة بالجوز الدكالي. ينفض السوق وتطوى الخيام ظهرا لتشد الرحال إلى سوق آخر لا يبعد كثيراً. عموماً، عشية يوم السوق يتم إعداد وجبة العشاء باللحم والخضر وبعض فواكه الموسم؛ الناس يأكلون اللحم مرة في الأسبوع أو كلما حل عندهم ضيف، ويجتمع على الماعون كل أفراد العائلة، وأحياناً أفراد من القرابة في الدوار.
***
د. محمد رزيق مبارك