أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

هذا ابني يا سيدي، كان صوته في الفجر أوّل ما يُوقظ العصافير من حلمها، وكان يضحكُ حين يسقط المطر، كأنه يُعيد للسماء رغبتها في الولادة.

هذا ابني يا سيدي، كان يحملُ رغيفًا في يده، وطفولةً في الأخرى، لا يعرف من الحرب إلا ما يشاهده في نشرة الأخبار ولا من الموت إلا ما يُقال في خطب الجنازات.

 لكنه خرج… خرج ذات يومٍ ليعود رجلاً — وما عاد!

الحرب انتهت، أو هكذا قال المذياع، لكن ابني لم يعد! كأنّ الطلقات ابتلعته، كأنّ المدافع خبّأته في جوفها، كأنّ الأرض استحسنته ولم تُرد أن تُفرّط فيه.

هل أخبركَ بسرّ، يا سيدي؟ الأمهات لا يصدّقن نشرة الانتصار، لأن النصر لا يُقاس بعدد الرايات، بل بعدد الأبناء العائدين إلى العشاء دون أن تُعدّ أرواحهم مع الغنائم!

هذا ابني يا سيدي، أنا لا أطلب سوى أن يُعاد إليّ كما كان: بنصف كدمة، أو نصف ذراع، أو حتى بصوته في هاتفٍ مقطوع، بظلّه على الجدار، أو بصورته محروقة في جيب مقاتلٍ ناجٍ… لكنّه لم يعد!

أتعرف ما الذي يعود من الحروب؟ لا يعود سوى القادة! القادة فقط، يا سيدي، يعودون بربطات أعناقهم، وملابسهم المكويّة، وابتساماتهم المستعارة في مؤتمرات السلام، يعودون ليكتبوا خطابات الغفران، ويمنحونا أوسمةً على قبور من نحب.

أما أبنائي... فهم لا يُجيدون العودة، لأنّ الوطن نسي كيف يُعيد أبناءه دون أن ينساهم في المقابر. وأنا؟ أحملُ صورتَه كأمٍّ تحمل تابوتَ العالم، أقرأ وجوه الأطفال في الطرقات، أبحث عن عينيه في المارّين، وأرسم صوته فوق لهاثي… لعلّ الحياة تخجل وتعترف أنها سرقته.

يا سيدي، هذا ابني الذي خرج في صباحٍ هادئ ولم يعد في المساء، ربما تعثّر في ضوء القذيفة، أو سها عن درب العودة، أو تاه في نشيد الوطن…

لكنه لم يعد، وأنتم تقولون: الحربُ انتهت.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

عاشت اوربا فترة طويلة وهي تئن تحت وطأة رجال الدين والاقطاع وصولات الفرسان وقد اطلق على هذه الفترة اسم (العصور الوسطى) کما سميت أيضا بالفترة المظلمة ، غير ان هذه القارة افاقت من سباتها وكانت البداية من ايطاليا ومن مدينة تسمى (فلورنسا) وهي المدينة التي قادت ذلك الانقلاب الاسطوري الذي وضع اوربا على اعتاب عصر جديد حتى سميت بحق (عاصمة النهضة) ولم تقتصر النهضة على ايطاليا حيث امتد تأثيرها إلى دول غرب اوربا وكان من ثمار هذه النهضة التقدم في مجال الفلسفة والعلوم والادب والفنون وكان (دافنشي)  احد عمالقة ذلك العصر.

لقد تميز العصر الذي ظهر فيه (دافنشي) بانه عصر انبعاث العلم والفن والفلسفة اليونانية القديمة وطرحها في ميادين المعرفة، كما ظهرت تصورات اخلاقية جديدة حول الحرية الشخصية بعيدة عن الفهم اللاهوتي للإنسان باعتباره (صوره للإله) .

تذكر مصادر تأريخ اوربا أثناء عصر النهضة بانه ولد في مدينة فلورنسا عام 1452 م وتقول عنه تلك المصادر ان التاريخ لم يشهد مثله عبقرياً مسيطراً على زمام شتى المسائل العلمية والفنية والفكرية وانه من العباقرة الذين ابدعوا في عصر النهضة الاوربية وقد تركز ابداعه في فن الرسم وكان يؤمن بوجود علاقة فلسفية بين الفن والعلم وخاصة علم الرياضيات وبذلك كان دافنشي رساماً ونظرياً في فن الرسم حيث وضع الرسم في اعلى مراتب الفنون وقد اعتبرت لوحاته من اندر واثمن ما انتج في هذا الميدان لإنها تعبر عن الثورة الكامنة في الطبيعة والحياة وقد تجد هذا في لوحته الشهيرة (الموناليزا)

 او (الجوكندا) حيث اعطى صاحبة الصورة الرائعة الجمال بعداً فنياً خاصاً من خلال نظرتها البعيدة وابتسامتها الغامضة التي كانت ولا تزال مثاراً للجدل بين المختصين في فن الرسم.

كانت لدافنشي محاولات لصنع أجهزة طائرة جديدة حيث اعتمد فيها على ملاحظاته الشخصية حول تحليق الطيور المختلفة وقد تمكن فعلاً من صنع آلات تطير بواسطة اليد وتعتمد على وجود محرك خاص بداخلها. 

ابداعات اخرى لدافنشي

اهتم دافنشي بالإنسان وكان يفكر في مسألة تطور الانسان من الإشكال البدائية الى ان تبلغ التكامل وهو اول من تكلم في حدد بشكل صحيح عدد فقرات العمود الفقري للإنسان. وقد اراد ان يعرف كيف يبدو الانسان عندما يضحك وعندما يبكي وقد طلب من المستشفيات ان يعطوه جثث الموتى حيث قام بتشريحها وكان عمله هذا غير مسبوق في ذلك الوقت وقام بدراسة الحيوانات والنباتات ان اعماله هذه كانت تثير اعجاب معاصريه

اما في مجال الفلك فقد وقف بثبات من الآراء التي تجعل من الأرض مركزاً للكون وهو اول من حدد اللون الرمادي للقمر وتوقع حدوث زلازل وبراكين على سطح الارض - كما انه ساهم في تطوير اسلحة الحرب مثل تطوير المدافع والمفرقعات وبناء الجسور المتنقلة وينسب اليه قوله (اني اخترع من وسائل الدفاع والهجوم ما نواجه به بأس الطغاة الطامعين لكي نحافظ على النعمة التي وهبتنا اياها الطبيعة الا وهي الحرية) وقد وصف الحرب بانها شكل من اشكال الجنون .

ايامه الاخيرة

عندما لاحظ دافنشي ان بلاده قد اخذ الانحلال يدب في مختلف مرافقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، اضطر الى ان يقضى ايامه الأخيرة في السفر إلى خارج إيطاليا فعقد العزم للسفر إلى باريس عندما تلقى دعوة من ملك فرنسا وقد وجد فيها المكان الملائم لإبداعاته وقد حظى برعاية الملك وخصص له قصراً بجوار قصره وكان الملك يزوره في معظم الاوقات ويقضي الساعات الطويلة في الحديث معه وهكذا استمر لمدة عام على هذا المنوال بعيداً عن وطنه وشعبه حيث حقق تلك الانجازات الكبرى على ارض مدينة (فلورنسا)، فنال منه المرض ورقد في فراشه وكان الملك والمعجبون بأعماله يزورنه بین حين و آخر لوداعه وقبل ان يغمض عيونه ويتسلم للموت أوصى بان كل ما يملك من اموال هي هدية لخادمه الذي ظل وفيا له حتى وفاته ... توفي دافنشي في عام ١٥١٩ م بعد ان ترك آثار فنية خالدة كلوحة (الموناليزا) ولوحة (العشاء الأخير).

***

غريب دوحي

ونوبل التي تنتظر صاحب نزيف الحجر

بينما تعلن الأكاديمية السويدية عن فوز الكاتب المجري (لاسلو كراسناهوركاي) بجائزة نوبل للآداب لعام 2025، تطفو على السطح مشاعر متعددة في العالم العربي، لا سيما في ليبيا، حيث ينتظر الكثيرون اعترافاً عالمياً بأحد عمالقة الأدب العربي، إبراهيم الكوني.

الكوني: نبي الصحراء وأسطورتها

لا يختلف اثنان على مكانة إبراهيم الكوني الأدبية الفريدة، هذا الكاتب الليبي، الذي ينتمي إلى قبيلة الطوارق، استطاع عبر عشرات الروايات والمؤلفات أن يخلق عالماً سردياً مكتملاً، متجذراً في صحراء ليبيا الكبرى، لم تكن الصحراء في أعماله مجرد مكان، بل كانت كوناً متكاملاً، وشخصية رئيسية، ومصدراً للأسطورة والفلسفة والروحانيات.

ينتمي الكوني إلى نفس التقاليد السردية الملحمية التي ينتمي إليها كراسناهوركاي، لكن من بوابة الصحراء الأفريقية، إذا كان كراسناهوركاي يستكشف كابوسية الوجود في قلب أوروبا، فإن الكوني يستلهم من الصحراء رؤية وجودية مختلفة، تزاوج بين الواقعي والأسطوري، وتغوص في العلاقة المصيرية بين الإنسان والطبيعة، بين البداوة والحضارة، بين الفناء والخلود.2020 lazlo

لماذا لم يفز الكوني بعد؟

سؤال يطرحه الكثيرون، وليس هناك إجابة واحدة قاطعة، فالجوائز الكبرى، وعلى رأسها نوبل، تخضع لاعتبارات أدبية بحتة أحياناً، ولعوامل أخرى متشابكة في أحيان كثيرة، منها:

الترجمة: رغم ترجمة العديد من أعمال الكوني إلى لغات أوروبية، يبقى حضورها في المشهد النقدي الغربي أقل مقارنة بأدباء آخرين، فجائزة نوبل، في النهاية، تمنحها مؤسسة أوروبية وتقرأ الأعمال بلغاتها الأصلية أو بلغات وسيطة قوية مثل الإنجليزية والفرنسية.

السياق الثقافي: قد يكون العالم الأسطوري والروحاني الذي يبنيه الكوني، رغم عالميته، بحاجة إلى جهد أكبر من القارئ غير الملم بثقافة الصحراء وأساطيرها لفك شفراته والغوص في أعماقه، مقارنةً بالنصوص التي تنتمي إلى الموروث الثقافي الأوروبي المألوف للأكاديمية السويدية.

المنافسة: المنافسة على الجائزة شرسة دائماً، ويوجد العشرات من الكتاب العظام من مختلف القارات الذين يستحقون التتويج.

نظرة إلى المستقبل: الأمل باقٍ

فوز كراسناهوركاي، وهو كاتب ذو رؤية فلسفية عميقة ومعقدة، يثبت أن الأكاديمية السويدية لا تزال تبحث عن الأصوات الأدبية الفريدة والمؤثرة، التي تقدم رؤية مغايرة للعالم، وإبراهيم الكوني هو بالتأكيد أحد هذه الأصوات.

غياب الجائزة عنه حتى الآن لا ينقص من قيمته الأدبية الهائلة، فهو بالفعل فائز في مكتبات القراء، وفائز في تاريخ الأدب العالمي، تراثه الأدبي الغني هو انتصار للثقافة الليبية والعربية والإنسانية جمعاء.

ربما يكون تأخر فوزه بمثابة دفع للمؤسسات الثقافية العربية لتعمل بشكل أكبر على تقديم هذا العملاق إلى العالم، عبر ترجمة أوسع ونشر أعمق وإبراز لقيمة مشروعه الأدبي الفريد. فالأدب الحقيقي، في النهاية، أقوى من أي جائزة، لكن الجائزة يمكن أن تكون جسراً يعبر عليه هذا الأدب إلى مزيد من القراء في كل مكان.

ختاماً، بينما نحيي الفائز بنوبل 2026، نظل نرى في إبراهيم الكوني نجماً ساطعاً في سماء الأدب، يستحق كل تقدير، وتبقى الجائزة، بأموالها وبريقها، مجرد لحظة في مسيرة الإبداع، بينما الإبداع نفسه هو الباقي.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

في الساحة الأدبية والثقافية المغاربية

يظهر من خلال متابعة النتاجات في الساحة الأدبية والثقافية المغاربية الراهنة، ولاسيما ما ينشر منها في منصات التواصل الاجتماعي، ان النتاجات النسوية المغاربية بشكل عام إبداعية، وحاضرة بشكل مكثف لافت للنظر، وربما أكثر غزارة وحضورا في المشهد، من النتاجات الرجالية.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن توهج ظاهرة الأدب النسوي المغاربي، جاء نتاج فعل أدبي إبداعي نسوي، يعبر عن حقيقة واقع تجربة النساء الاجتماعية والأدبية في الساحة المغاربية، بما تحمله في طياتها من رؤى تتعلق بالهوية الذاتية والحرية والعدالة الاجتماعية، والتحرر من قبضة الاستعمار، تحريرا للارادة الوطنية، وما ترتب على كل تلك التحديات من تحولات ثقافية واجتماعية وسياسية، ومنها بالطبع الساحة الأدبية والثقافية.

وفي سياق التفاعل مع كل التطورات، برز دور الكاتبات والأديبات المغاربيات في نتاجات ثقافية وادبية ابداعية جديدة، تعبر عن قضايا التحرير، وقضايا المرأة وما تواجهه من تحديات من منظور نسوي، يعيش هذه التحولات العميقة بوعي تام، ويكافح من اجل انتزاع الصوت النسوي المغيب، وسط مجتمع يتسم بالذكورية التقليدية.

على أن ما شهدته الساحة المغاربية من تطور في التعليم، وانفتاح ثقافي، وتوسع في تعليم الفتيات، وفسح المجال والآفاق أمامهن، للمساهمة في كل تفاصيل الحياة الاجتماعية والأدبية والثقافية، أتاح لهن قاعدة معرفية ولغوية، وخبرة زاخرة خصبة، انعكست في إبداعاتهن على نحو متوهج، يزيد من ثقلهن الأدبي والثقافي، ويعمل على ترسيخ حضورهن في الساحة على نحو متميز، وبشكل فاعل.

وهكذا جاء الأدب النسوي المغاربي تعبيرا حقيقيا عن تجارب النساء في الساحة المغاربية، بكل تحدياتها، ليتميز عطاؤهن بتنوعه وثرائه، بما تناوله من موضوعات متنوعة مثل الهوية والحرية، والعدالة الاجتماعية.

 كما تجدر الإشارة إلى أن الأدب النسوي المغاربي امتاز بالصدق والواقعية، في عكسه تداعيات افرازات تجارب النساء الحقيقية، بحيث جاءت نتاجاته بلغة شاعرية جميلة، تعبر بصدق عن عمق مشاعرهن المرهفة، وتعكس حقيقة مرارة تجاربهن القاسية، حتى بات الأدب النسوي المغاربي أداة نقدية لبعض الظواهر المجتمعية، مثل التمييز ضد المرأة، والظلم الاجتماعي، الذى نحاها عن الحضور الإبداعي الفاعل في عموم الساحة المغاربية.

ولعل نجاح الأدب النسوي المغاربي في تجاوز كل تلك التداعيات والمعوقات, اتاح لهن الحضور الإبداعي المتميز في الساحة الأدبية والثقافية بجدارة، كما مكنهن من حضور المنتديات والندوات والملتقيات العامة التي تدعم الأصوات النسوية، مما ساعد في إبراز دورهن الأدبي والثقافي بشكل أكثر حضورا، مقارنة برجال الأدب، الذين ظلوا يراوحون في فضاء تقليدي جامد، عجز عن التفاعل بجدية، مع تلك المعطيات بنفس الوهج.

***

نايف عبوش

لا أدري من أين أبدأ، لأنني أظن أن الكلمات – مهما سَمَت – ليست إلا خيانة صامتة لشيءٍ أعظم من أن يُقال. أكتب إليكِ لا لأن في جعبتي قولًا يستحق، بل لأنكِ ما زلتِ تتسكعين في دهاليز ذاكرتي كطيفٍ لا يؤمن بالفناء. سبعُ سنواتٍ مرّت، لم تجمعنا فيها علاقات العشاق، ولم تفرقنا قطيعة الأعداء. كنّا بين بين، لا صداقة تُروى، ولا حبًّا يُعاش، لكن بيننا حديثٌ ومزاحٌ ومواعيد مؤجلة، ورسائل تائهة، وأمنيات لا تملك الجرأة لتولد. كنتِ قريبة، ولكن بُعدكِ كان أعمق من المحيطات، ونظراتكِ لم تكن مجرّد نظرات، بل كانت تقلب كياني، تحفر في قلبي، وتتركه دون أن ترفقيه بكلمة أو وداع.

وذات مساءٍ – لا أدري أكان القدر فيه أعمى أم قاسيًا – اعترفتُ لكِ بما ظلّ يحترق في صدري لسنوات. قلت لكِ إنني أحبكِ، لا لأنني كنت أملك خيارًا، بل لأنكِ كنتِ الهواء الذي لم أعد أستطيع العيش بدونه. وبدل أن تهمسي لي بما يُشبه الرجاء، قطعتِ نياط القلب ببرودة غريبة: أنتِ مجرّد صديق... وأنا أحبُّ رجلًا آخر. في تلك اللحظة، لم ينكسر قلبي فقط، بل انطفأ داخلي شيءٌ لا اسم له. لم أعد أؤمن بالحب، ولا بالنساء، ولا بالحياة التي يمرّ فيها الإنسان كظلٍّ لخيبة.

مرّ عامٌ وستة أشهر، وأنا أجرُّ خيبتي خلفي كجرحٍ قديم لا يلتئم. قلبي المثقوب كان يسير بي، لا أملك عليه سلطانًا، ولا على حزني شفاء.

ثم جاء الخميس، وكان صباحًا كأيّ صباحٍ في حياتي الرتيبة. كنتُ في العمل حين فتحت هاتفي، فظهر لي إعلان خطوبتكِ. لم أرتبك، لم أغضب، بل شعرتُ كأن شيئًا ما في داخلي – لم يكن قد مات تمامًا – بدأ ينزف من جديد.

كتبت لكِ تهنئة. نعم، تهنئة من ذلك القلب المثقوب، الذي رفض أن يُقابلكِ بالحقد، رغم كل ما تركتِه فيه من وجع.

إلى من كانت يومًا قريبة من القلب، في خضمّ هذه اللحظة الفارقة من حياتك، أبعث إليكِ بأصدق التهاني والتبريكات بمناسبة خطوبتك، سائلاً المولى أن يجعلها فاتحة خير وبركة، وأن يكتب لكِ فيها سعادة دائمة وهناءً لا ينقطع.

وإن كنتُ قد حملت لكِ مشاعر خاصة في زمنٍ مضى، فإنني اليوم – وبكل صدق – أفرح لكِ من القلب، وأتمنى لكِ من الأعماق أن تكتمل مسيرتك الجديدة بكل طمأنينة ورضا. فالسعادة التي كنتُ أرجوها لكِ، ما زلتُ أرجوها، وإن تغيّر شكلها وموقعها في حياتنا.

إن شاء الله تفرحين، وتبقين دومًا في رعاية الله وعنايته، ويكون القادم أجمل وأطيب. تقبّلي مني كل الاحترام والتقدير، لم أكتب لكِ لأنني ما زلتُ أريدكِ، بل لأنني لم أعد أستطيع أن أُخرجكِ من ذاكرةٍ تتنفس باسمكِ في كل لحظة. أنتِ لستِ حبًّا، بل حكايةٌ لم تكتمل، وفراغٌ نتنفسه معًا. كلانا كذب على نفسه، آمن بحلمٍ مائل، وأدار ظهره للواقع.

اليوم، أنتِ مع رجلٍ يبيع الدراجات، ويعمل في توصيل الطلبات. وأنا هنا، أكتب من قلبي المثقوب... أكتب لأنني لم أعد أملك ما أفعله غير ذلك.

وقد قال شاعرٌ قبلي، كأنما لسان حالي:

وما الحب إلا نارُ قلبٍ خفيّةٍ

إذا اشتعلتْ... لا يُرى منها الدخان

وظننت – بسذاجتي الجميلة – أن تلك التهنئة ستغلق الدفتر، وتمحو الصفحة الأخيرة من حكايتنا. لم أكن أرجو ردًّا، ولا حتى امتنانًا، كل ما أردته أن أُغلق الباب بأدب... وأن أترك خلفي أثر إنسانٍ لم يَخُن، حتى حين خانه كل شيء.

لكنّ القدر، كعادته، لم يسمح لي بالرحيل بهذه السهولة.

فبعد أيامٍ من الصمت، كانت الحقيقة تتسلل إليّ، لا من باب العتاب، بل من نافذة السخرية المريرة... وهناك بدأت قصة العدالة الإلهية في حكايتنا.

بعد ما كتبتُ لكِ تهنئة من قلبي المثقوب الذي أصرّ أن يظل نبيلًا حتى في حضرة الخذلان. ثم مرّت الأيام، كما تمرّ الجنازات في مدن الذكرى، صامتة، ثقيلة، لا تحمل جديدًا سوى تواريخها.

حتى جاء ذاك الصباح الرمادي... فتحتُ هاتفي، لا لشيء، سوى لتجريب شعور اللاجدوى من جديد. فإذا بي أقرأ ما لم أتوقّعه منكِ: أنا لم أُخطب... بل خُطبتُ لغيره. ثم ضحكتِ.

يا الله، كم كانت ضحكتكِ مؤلمة!

ضحكة خرجت من فمكِ، لكنها ارتدّت في صدري كارتطام نيزكٍ في أرضٍ بور.

ضحكة أعرفها، تلك التي أطلقتِها يوم قلتِ لي بانكساركِ: ارجع لي... لقد خانني ذاك الرجل ويكرهني، كنتُ على خطأ، سامحني، أرجوك عد...

وفي لحظةٍ خاطفة، كانت الحياة تعرض أمامي شريطها دون أن تستأذنني. تذكّرتُ كم مرة حرقتِني، ثم عدتِ تستدفئين من رمادي وكأن شيئًا لم يكن.

تذكّرتُ كيف كنتُ الجسر الذي عبرتِ عليه من خيبةٍ إلى خيبة، دون أن تنظري خلفكِ لترَيْ كم مرة انكسر هذا الجسر ليبقيكِ واقفة.

هدأتُ، ليس لأنني سامحتُ، بل لأنني لم أرد أن أكون مثله، لم أرد أن أثقب قلبكِ كما أثقبتِ قلبي. فنظرتُ إليكِ بهدوء وقلت:

كلُّ ساقٍ يُسقى بما سقى... ولا يَظلم ربُّكِ أحدًا.

سألتِني: هل أنا ظالمة؟ أجبتكِ: نعم... أنتِ ظالمة، وخائنة أيضًا.

ارتبكتِ، وهمستِ: لماذا؟ قلتُ: لأنني أحببتكِ بقدر السماوات... ولا أرض تكفيني.

فهمتِ الجواب، وسألتِ: هل ما زلت تحبني؟ قلتُها ببرود العارف بحقيقته: لا... لقد صرتُ أكرهكِ بقدر ما كنتُ أحبكِ.

شهقتِ، وأردتِ أن تعرفي لماذا، فقلتُ وأنا أتحسّس جرحًا لا يندمل: دعيني وشأني... قلبي يتألّم، ولن يحتمل من جديد.

ستجدين من هو أفضل... لكن لا تعودي إليّ، أنا لا أعود لمَن مزّقني.

حاولتِ لملمة الخراب بكلماتكِ، قلتِ إنكِ تحبين الشعر... وإنكِ رأيتني أكتب.

ضحكتُ، لا سخريةً بل وجعًا، وقلت: أنا لستُ شاعرًا... بل رجلٌ انكسر، فلم يجد غير الكلمات ليلملم ما تبقى منه.

قلتِ: لماذا؟ قلتُ: لأنني وجدتُ في الكتب ما هو أعمق من الشعر، في الكتب وجدتُ نفسي التي ضاعت حين التقيتُكِ.

ثم طلبتِ أن أكتب عن لحظات حبّنا، فقلتُ: هل أبدو لكِ صبيًّا بلا عقل؟ أم تظنينني كاتبًا لمأساةٍ لا يفهمها؟

أقسمت بالله... وبالإمام علي عليه السلام، وطلبتِ أن أصدقكِ، فقلتُ لكِ: إن كنتِ تؤمنين بالله، وحقّ الإمام علي، فاستمعي لقوله: أجهل الجهّال، من تعثّر بالحجر مرتين.

وأنا، يا من كنتِ يومًا كلّ حياتي، لن أكون ذلك الجاهل.

ثم ساد صمتٌ طويل... صمتٌ يسكن بين نبض القلب وصرخة الكرامة.

قلبي يريدكِ، وعقلي يرفضكِ، لكن كرامتي... كرامتي لا تسمح لي أن أكون ظلًّا لمن خان النور.

تمّتُ... ولم تنتهِل، لأن الوجع لا يحتاج إلى نهاية... يكفيه أن يُقال.

لستُ كاتبًا... فقط كنتُ أحب.

***

سجاد مصطفى حمود

صاحب الظل الطويل والعيون السومرية.....

بظله المستقيم، وخطواته المحسوبة، وعينيه الجاحظتين اللتين تقدحان براكين من النار، وحاجبيه الغليظين اللذين يختزلان كل معنى للهيبة، كان ذلك الرجل يخيف من يراه، لا بطغيانه، بل بوقاره.

لطالما رأيته منضبطًا، صادقًا ووفيًّا لطبيعته، كأن الأرض نفسها تستقيم حين يمرّ. هيبته العسكرية كانت تسكنني، لا تفارقني، لكنها بدأت شيئًا فشيئًا تذوب...

لم يعد الظل مستقيمًا كما كان، بدأ بالانحناء ببطء، كما تنحني الشمس نحو المغيب.

تلك العيون الجادحة خفت بريقها، وصار النفس متقطّعًا، والخفقات غير متوازنة، والسعال لا يهدأ ليلًا، يُثقِل الليل بأنفاسه، ويُرهق الفجر بطول انتظاره.

تغيّر كل شيء...

الأشجار الخضراء اصفرّت حزنًا.....

والعصافير هجرت نوافذنا......

حتى الفاكهة، كأنها لم تعد تعرف مواسمها...... كل شيء بلغ غايته من الغثيان...

كل شيء ذوى، كأن المكان كله ينوح لفقد العيون السومرية… ولحزنها العميق..

... فجأة، وكعادته في كل شيء ، كأنه كان يُمهّد بصمته لرحيله.

انتهى كل شيء بهدوءٍ لا يُحتمل......

 ثم دخل ذلك الصندوق…

الصندوق الذي بدا ضيّقًا على قلبه، واسعًا بما حمله من الذكريات والحنين.

حمل معه قلوبًا ظلت تنبض باسمه، وحمل عمرًا كاملًا لا يُمحى.......

عمرًا لا يمكن للصندوق أن يُغلق عليه مهما أُحكم الغطاء، ولا يمكن للرحيل أن يسرقه من الذاكرة......

رحل......

لكن ظلَّه ما زال يمرّ بين الغرف.......

رحل ......

وعيونه السومرية ما زالت تفتح أبواب المساء كلّما اشتدّ الحنين لتلك البيضاء الفراتية ......

رحل صاحب الظل الطويل...

لكنّ الفرات لم ينسَ ملامحه، ولا نسيت النخيلُ تلك الخطوات التي كانت توقظ الصباح، وكأن ظله تحول إلى حارسٍ خفيّ، يُطلّ مع كل فجر من بين ضباب الماء،

يُراقب النهر وهو يتهجّى أسماءه القديمة.

أما الفراتية البيضاء فكانت تقول إنّها تسمع خطواته كلّ مساء، حين تهبّ نسمة من الجنوب وتفتح الباب، كأنها تنتظر أن يدخل… كما كان يفعل، بخطواته المحسوبة، ونظراته التي تختصر العالم.......

لم يمت صاحب العيون السومرية، بل عاد إلى طين سومر الأوّل، إلى الهدوء الذي يسبق الخلق......

إلى الأرض التي تعرف كيف تحفظ أسرار رجالها.

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

 

متى يموت المكان؟ حين يرحل الذين منحوه الحياة بأقدامهم، بضحكاتهم، بدموعهم الصغيرة التي تبخّرت في زواياه دون أن تراها الشمس.

يموت المكان عندما تُغلق فيه النوافذ على صوتٍ لم يعد يأتي، عندما يتوقّف الباب عن الأنين، لأن أحدًا لم يعد يطرقه… يموت، لا لأنه تَهاوى، بل لأنه توقّف عن التذكّر.

*

المكان لا يموت حين يُهدم، بل حين لا يعود أحدٌ ليقول: هنا كنتُ سعيدًا. هنا انتظرتُ ولم يأتِ. هنا فقدتُ شيئًا لا يُعوّض.

المكان هو الجسدُ الثالث بين العاشقين، هو ذاكرة الحجر، هو عرقُ الجدّات على الأرائك، هو رائحة الخبز، والظلّ الطويل لساعة الحائط القديمة.

يموت المكان حين تُنزع عنه صفة الأمان، حين يصبح محايدًا، كأنه لم يعرفنا، كأنه لم يشهد بكاءنا في زواياه ولا ارتعاش أملنا في أركانه.

*

المكان ليس جمادًا، إنه كائن يعيش على ما نمنحه من روح. كل مقعد جلسنا عليه، كل جدار أسرّ لنا سرًّا، كل رصيف ودّعنا فوقه أحدًا، كان حيًّا بنا… وحين نسيناه، تحوّل إلى غبار.

*

متى يموت المكان؟ حين نصبح غرباء في حضرته، حين نمرُّ فيه كما يمرُّ الغريب على أطلالِ لغةٍ لا يعرفها، حين نكفّ عن سماع أنينه الصامت، حين يتوقف عن مناداتنا بأسمائنا القديمة.

*

يا أيها الراحل من بيتك، تُراك تدرك أنك حين غادرت، أخذت معك نَفَس الجدران؟ هل تعرف أن للمكان ذاكرة، وأنك كنتَ آخر القصائد المكتوبة على جدرانه؟

المكان لا يموت وحيدًا… بل يموت بنا. نحن نغلق قلبه حين ننكر أننا كنّا فيه، ونطمره حين نمضي دون أن نلتفت.

*

المكان لا يُغلق بالمفاتيح، بل بالنسيان.

***

كريم عبد الله

بغداد - العراق

 

استحقاق متجدد وسؤال ثقافي معلق

لا ينفك اسم أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر) يطفو على سطح المشهد الثقافي العالمي مع إطلالة كل خريف، في طقس سنوي أصبح يشبه طقوس الانتظار لمعرفة مصير عربي في جائزة نوبل للآداب. فالشاعر الذي بلغ الخامسة والتسعين من عمره، والمشهور بمواقفه المثيرة للجدل، يظل "المرشح الدائم" الذي لم ينل بعد مبتغاه، رغم مسيرة إبداعية تمتد لأكثر من سبعة عقود.

هذا الاستعصاء في حصول أدونيس على الجائزة يحمل في طياته إشكاليات عميقة تتجاوز مجرد التكريم الأدبي إلى علاقة المركز الأوروبي بالأدب العربي، وإلى موازين القوى الثقافية في عالم تتشابك فيه السياسة مع الفن في عقد معقد يصعب حله.

زلزلة التأسيس وتفكيك اليقين.

أدونيس هو أحد أبرز مجددي الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث قاد "ثورة حداثية كان لها تأثير زلزالي" على الشعر العربي، يقارن بتأثير ت. س. إليوت في العالم الناطق بالإنجليزية. وقد تجلى هذا المشروع التجديدي في أعماله المبكرة مثل "أغاني مهيار الدمشقي"، حيث تمرد على الوزن والبلاغة التقليدية، مستلهماً الميثولوجيا وواجه الموروث الديني والسياسي بجرأة نادرة.

امتدت تجربة أدونيس لتشمل حقل النقد الأدبي، حيث قدم في عمله المرجعي "الثابت والمتحول" مقاربة نقدية جذرية للثقافة العربية، مركزاً على الصراع بين عناصر الجمود وعناصر الحركة والتجديد في التراث العربي. هذا العمل الذي أصبح مرجعاً أساسياً في نقد الثقافة العربية، يمثل مع شعره مشروعاً متكاملاً يسائل المسلمات ويفكك اليقينيات.

صوت عربي ببعد كوني

يتمتع أدونيس بمكانة فريدة في الثقافة العربية المعاصرة، فهو في نظر كثيرين واحد من أهم الشعراء العرب منذ وفاة السياب إلى اليوم، وأهم عقل تنظيري شعري عربي في النصف الثاني من القرن العشرين. هذه المكانة التي يحتلها في الذاكرة الثقافية العربية وحركة الحداثة "لا يدانيها أحد" كما يرى بعض النقاد.

في العالم الغربي، حصد أدونيس جوائز مرموقة مثل "غوته" الألمانية و"بي إي إن/ نابوكوف" الأميركية، وهي جوائز ينظر إليها عادة كمقدمة محتملة لنوبل. كما يقدم في المهرجانات الأوروبية بوصفه أحد "الأصوات التي منحت العربية بعداً كونياً". وتُرجمت أعماله إلى ثلاث عشرة لغة، مما وسع من دائرة تأثيره خارج العالم العربي.

رغم هذه المكانة الأدبية، تشكل المواقف السياسية لأدونيس عائقاً أمام حصوله على الجائزة من وجهة نظر العديد من المحللين. فمواقفه من الثورة السورية عام 2011 أثارت انقساماً في الأوساط الثقافية الغربية؛ بين من رآه ناقداً للعنف والتدين، ومن اعتبر صمته عن النظام السوري نوعاً من "التواطؤ".

ويعد موقفه من عملية ميونيخ عام 1972 من أكثر مواقفه إثارة للجدل، حيث نشر افتتاحية بعنوان "العنف المحرر" دافع فيها عن العملية، معتبراً إياها "جزءاً متميزاً وفذاً من العنف المحرر الشامل" الذي "ينقل العرب من اجترار الذات إلى القبض على الموضوع". هذا الموقف وغيره جعل صورته في الإعلام الغربي متناقضة، فهو تارة يظهر كصوت للتنوير والعقلانية، وتارة يرى كرمز للانخلاع والغربة الفكرية عن واقعه.

حاجز اللغة والثقافة

تواجه ترشيح أدونيس تحديات أخرى تتعلق بالمركزية الأوروبية في الجائزة. فالعربية، رغم ثرائها، تظل بعيدة عن المشهد النقدي السويدي، ما يجعل أعضاء الأكاديمية يعتمدون بشكل رئيسي على الترجمات الفرنسية أو الإنجليزية لأعماله. هذه الترجمات تشكل حاجزاً تأويلياً بين النص الأصلي والقارئ السويدي، وقد تفقده الكثير من جوهره الشعري.

ويشير نقاد ومراقبون إلى أن غياب ترجمات جديدة لأعمال أدونيس إلى السويدية والإنجليزية في السنوات الأخيرة يقلل من فرص تقييم منجزه في سياق نوبل، التي تعتمد أساساً على التلقي النقدي الراهن داخل أوروبا.

في موسم 2025، يواجه أدونيس منافسة شرسة من أسماء تتقدم عليه في قوائم الترجيح الأدبية العالمية. فبينما يراهن أنصاره على تكريم مستحق لتاريخه، تشير التوقعات إلى أسماء لها زخم نقدي حالي، مثل الروائي المجري لاسلو كرازنا هوركاي الحائز على "مان بوكر الدولية"، والشاعرة والأكاديمية الكندية آن كارسن المعروفة بدمجها بين الكلاسيكيات والتجريب، والروائي الياباني هاروكي موراكامي المرشح الأبدي رغم شعبيته الجارفة التي قد تدفع الأكاديمية لتجنبه.

تتعامل الأكاديمية السويدية منذ عام 2019 بحذر مضاعف تجاه الأسماء المثيرة للجدل، بعد الانتقادات الواسعة التي واجهتها إثر منحها الجائزة للكاتب النمساوي بيتر هاندكه، المعروف بمواقفه المؤيدة للزعيم الصربي الراحل سلوبودان ميلوشيفيتش أثناء حرب البوسنة. منذ تلك الأزمة، باتت الأكاديمية أكثر حساسية للجدل السياسي، ما قد يؤثر على فرص مرشح يثير الانقسام كأدونيس.

بين النص والسياق

ينفتح مشروع أدونيس على أسئلة فلسفية عميقة تتعلق بالعلاقة بين الموروث والحداثة، وبين الذات والآخر. ففي "الثابت والمتحول"، لم يقدم مجرد دراسة نقدية، بل مشروعاً لقراءة الثقافة العربية في صيرورتها التاريخية، مفككاً إشكاليات التقدم والجمود. هذا المشروع الفكري الذي يمزج بين الشعر والفكر جعله أحد أبرز المنظرين للحداثة العربية، لكنه أيضاً عرضه لانتقادات كثيرة، خاصة من قبل من رأوا في مقاربته للموروث الديني تقويضاً للهوية.

استحقاق بلا ضمان

رغم المكانة الكبيرة التي يحظى بها أدونيس في الثقافة العربية، فإن أغلب المراقبين يرون أن احتمال فوزه هذا العام ضعيف. وتتراوح الأسباب بين محدودية الحضور الأكاديمي للأدب العربي في السويد، وغياب ترجمات جديدة لأعماله، إضافة إلى انشغال الأكاديمية مؤخراً بتوسيع خريطتها نحو كتاب من آسيا الوسطى وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية.

لكن يبقى أدونيس، بشعره وفكره، علامة فارقة في الثقافة العربية الحديثة، سواء حصل على نوبل أم لم يحصل. فالجوائز، في النهاية، ليست مقياساً وحيداً للإبداع، والإضافة التي قدمها هذا الشاعر إلى القصيدة العربية والفكر النقدي تظل إرثاً يستحق الدراسة بمعزل عن التكريم. وكما قال هو نفسه عن فوزه المحتمل: "إن فاز بنوبل للآداب فهو أمر متوقع وطبيعي، وإن لم يفز.. فهو أمر متوقع وطبيعي أيضاً".

***

د. عبد السلام فاروق

الذهاب في درب الشعر بما هو حنين العناصر والأمكنة والكائنات بحثا عن جمال الكلمات والصور والأصوات..

تمضي الكلمات في دروبها حيث الكائنات مفعمة بالنشيد والأحلام والذكرا.. هي فسحة القلب في أكوان تتلاطم أمواج أحاسيسها وتفاصيلها المكللة بالذكرى وبالغناء الطالع كزهرات في بستان منسي لم تعهده سوى الفراشات وهي المغمورة بالجمال في رياح ناعمة تصنع الهبوب والألق والبهاء...

هي كلمات الذات في سفرها وغدوها ورواحها وفي عناصر بهجتها نحتا للقيمة وتأصيلا للكيان.. و بين الكلمات الطافحة بالحنين والأصوات المسكونة بالشجن والجمال والصور المشيرة الى المعاني.. يبرز الالمكان بتعدد ألوانه من البحر الى الاخضرار الى الأنهار الى الحدائق...الى كل ما هو باعث على السحر الدفين والهدوء..

ثمة أمنيات ونشيد وحروف ترقص وهي تشكل الكلمات والمعاني في مياه الشعر العذبة والجهات في هذه الأرض التي تسعد بجمال الكلمات والذكرى والحب والحنين والأمل المبثوث والطالع من أنفاس أطفال لا يرتجي غير أحوال الرفعة والبهاء لأجل سكينة وهذوء العناصر والأشياء..

من هنا كانت في ذهابها في أرض الكلمات والشعر والغناء بكثير من شؤون وشجون الذات.. كل ذلك وفق عنوان لافت هو الكائن في سفره الناعم باسم الحنين.. كم يقتل الحنين كائنه مثلما تفعل تلك الخيوط بالكمان ليولد اللحن الشجي والنغمات الدافئة.. انها موسيقى الأرجاء على ايقاع الجمال في الجهات والأمكنة والأحوال..

بدأت علاقتها بالشعر وبالكتابة منذ طفولة حالمة ديدنها الذهاب تجاه عوالم لا تقول بغير الحلم والنوستالجيا مجالا للعناق الشعري بكلمات وصور وأصوات هي من جوهر ذاتها المبحرة والموغلة في فتنة الكلام كما ترى هي ذلك وتقوله وتحلم من خلاله ببلوغ مراتب القول والفن والابداع.. و هي المفعمة بدهشة العوالم والرغبات الموزعة بين الكتابة والقراءة والحنين والصوت وهو يقرأ المشاهد والصور.. كون من رغبات شتى نحو الآفاق وتجليات الطفولة الكامنة في الكينونة..

هكذا هي الشاعرة والمترجمة والصوت الاذاعي المميز الكاتبة ايمان داوود.. في نشيدها المفتوح على العلم وجواهره المتصلة بالابداع والبهجة والحنين.. هي الآن تعد لديوانها الشعري الجديد باللغة الفرنسية بعنوان " همسات قلب مُنتشٍ" وفيه عدد من القصائد المعبرة عن ذات الشاعرة وهي ترى العالم وكائناته وأمكنته بعين القلب لا بعين الوجه عنوانها الحنين ودافعها الحلم هكذا هي تكتب تتقصد القصائد يهزها النشيد مثل فراشات من ذهب الأزمنة.

ديوان بعنوان معبر والنصوص بها شفافية الذات في تفاصيلها قولا بالسير نحو الشعر هذا الاخذ بناصية الأشياء والعناصر.. احساسا ووجدا وسفرا في دروب الكينونة..

نشرت بعدد من الفضاءات والمواقع نصوصها باللغتين العربية والفرنسية ولها مبادرات متعددة في ترجمة النصوص الأدبية وتسعى لأان تشارك في فعاليات ومهرجانات وطنيه ودولية للابداع الأدبي وللثقافه والشعر وفي هذا الجانب من تجربتها تقول الشاعرة والمترجمة ايمان داوود ".. أرغب في ان اترجم اكثر من اثر الي الفرنسيه او العكس

و ان اجد حظي ومكاني المستحق في الساحة الثقافيه وفي الاعلام كشاعرة وكاتبة ومترجمة تونسية على الصعيد الوطني والعربي والعالمي.. صفاقس هي مدينتي ومسقط راسي.. وقد كانت لي رغبة جامحة للذهاب في عالم الأدب وكانت العائلة حاضنة هذه الموهبة في بداياتها وشجعتني للمضي في الكتابة التي تطورت ضمن بنامج اذاعي قدمته وفيه قراءات شعرية بصوتي وتواصلت تجربتي في الكتابة حيث الشعر بالنسبة لي عالم رحب وجميل لاكتشاف الذات وعشقي للموسيقى قديم بين الأغنيات العربية القديمة والحديثة والموسيقى الغربية.. الأدب مجال مفتوح على الحلم والدهشة.. قرأت للعديد من الأدباء واستوقفني اعجابا عدد غير هين منهم وأذكر الشاعر الشابي وجعفر ماجد ونجيب محفوظ... وغيرهم.. ديواني هذا الذي هو بصدد الاعداد باكورة كلماتي بين الحلم والحنين في حياة الانسان وهو يعانق جمال الأشياء والأمكنة والعناصر وأتمنى النجاح ضمن تجربتي حيث الشعر عالم يأسرني بجماله وفداحة حلمه وحنينه الجارف...".

هكذا هي الشاعرة ايمان داوود أستاذة اللغة الفرنسية والمترجمة والاذاعية تمضي في دروب الشعر والكلام والأدب وفي قلبها شغف لا يضاهى بسحر المعاني والكلمات ويمثل ديوانها الشعري هذا " همسات قلب مُنتشٍ" والذي يصدر بفرنسا مجالا ضمن محطة من مسيرتها الشعرية فيه النظر والتأمل والقول بالشعر حالة وجد وحنين وحلم في عالم متغير ومربك.

***

شمس الدين العوني

* في تلوثٍ أدبي، لغويٍّ... رحتُ أُقطَرُ العسلَ مِن مرِّ الكَلام، والماء مِن بئر الكتابات.

* احتفظُ ضمن "انتيكاتي" في غُربتي، بفانوسٍ كتبتُ تحتَ أفياء أنوارهِ في زمِنِ الحصار الأقتصادي، وكَم استظلُّيتُ بلهابتهِ إبّان انقطاع التيار الكهربائي والحروب على بلدي، لكنّني تنكرتُ لهُ منذ هُجّرت مِن مسقط رأسي إلى بلاد الغرب، حيثُ بتُ أنعم بحضرةِ المصّباح العصري الذي أتعب بصري.

 * أشتاقُ لمكتبتي الكبيرة وإلى كتبٍ قرأتها ورقيًّا وقد استبدلتها بحواسيبٍ أضعفت النّظر في عيني..

في عصرٍ فيه تحولات ضخمة وتغيرات مُخيفةٍ وتحدياتٍ كُبرى ..تحكمه معايير الكلمة والصورة الالكترونية.. ومنشورات (سوشيل ميديا) غير متزنةٍ!. والاختصار والإيجاز وغياب الرقيب وشيوع التقليد وغياب الأمانة الأدبيّة!.

حقيقةً، اعتذرُ للكتابِ، لأنّهُ لم يعد خير جليسٍ في هذا الزمانِ للكثيرين.

* أفاخرُ بابجديّة بلدي وأنا أكتب بها مِن أرض الغربةِ، وقد حلّقت بواسطتها كتبي إلى عواصم عربية عدة وتُرجمت إلى لغات أجنبية.

 * أحنُّ للمتاحفِ ودور الموسيقى والطبيعة الخلاّبة في أوروبا وأوربا وأمريكا؛ لأنّني يوم زرتها وتنعمتُ بجمالها قلتُ لها: ليتكِ كنتِ في بغدادي!

* أعاتبُ بلدٌ تخاذل فيه العسكر؛ فأنا جنديٌ عاد بعد حربٍ..فلم يجد وطنه. هكذا انكرني موطنٌ، ساسته لا يصونون المواطنة! كشجرةٍ مائلة ترمي قطوفها في باحةِ جيرانها وتحرم صاحبها!.

* الحقيقة التي لا يحجبها غربالٌ، أنَّ الأدباء والشِّعراء العراقيون، غادروا بغداد أو مدنهم، إلاّ لكي ينقلوها معهم إلى حيث انتهوا إليه في البلاد البعيدة. فواحدهم حمل مدينته، بلده، كما يحمل المرء، قلبه أو بؤبؤ عينيه حيثما توجه أو سار واستقر وكتب!.

* اعتذرُ ليوسف الكاتبُ والأديب والكاهنُ، فهو كالسمكةِ ماكولة ومذومة، لا سيّما لذوي النفوس الضعيفةِ، "لأنّني لستُ أدري مِن أينَ آتيه، هل مِن دُرر الكلامِ ومَا أبهاها لديه، أمْ مِن سموَّ المعاني ومَا أغناها في كنوزهِ، أم مِن صوره المنثورةِ على أطراف العينِ لا تُدانيها ريشةُ رسامٍ، أم عبر نَثرهِ المصقولِ مُتعةً ورفعةً؟!... لهُ معابرَ لا تنتهي، أم مِنَ الشّرقِ؛ حيث للرّوحِ كواكبٌ تضيء الكونِ. إنّهُ مدوّن الغرباتِ الفاتنة... الذي أشعلَّ بيراعه جمر الوفاء"[1].

* أعشقُ بلاد الورود، التي انتمي لها دونَ أن أُجبل مِن تُربتها... فطوبى لِمن زرع للإنسانيّة شجرة يقطف مِنها العابرون.

* عَلى عبلة المَلِيحَة كَمْ نَادى عنترُ، وَلكنها مَا كانتِ للنداءِ ملبيةً.. فكيفَ يمتطي الجيادَ إليها

وقد تِقطّعت بِطرقاتِها السُّبلُ؟!

أ يقودُ قافلتهُ إلى صحاريِّها؟،

ولكنْ كَيفَ لِخيامها الوِجْهةُ، والأحصِنةُ قد خارت لها حوافرُ؟!.

***

الأب يوسف جزراوي

سميح القاسم: "خذوا حزني إن استطعتم، واتركوا لي فلسطين، فالحزن يتبدد لكن الأرض تبقى."

فلسطين،

ليس لي ما أقدّمه لك سوى هذا الحبر الذي يلهث، وهذه الكلمات التي تُسابق نزف القلب. منذ أن وعيت على العالم، وأنا أتزحلق خلف اسمك كأنني أركض في منحدرٍ من الضوء، أتشبّث بقصائد محمود درويش، وأتفيّأ ألحان الشيخ إمام، كأنهما طريقان متوازيان إلى غابةٍ من الرموز حيث اسمك هو الشجرة الأم.

كنتُ أظن أنّني أكتبك، لكنني اكتشفت أنّك من يكتبني. كنتُ أركض خلف رغبتي في استعادة مدينة لم أرها، مدينة اسمها فلسطين، تتّسع لخيالاتي جميعًا، تتسلّل إلى ليل الحلم، وتوقظ في قلبي نداءً أقدم من الذاكرة. هل كنتُ واعيًا، وأنا أحمل في دمي تلك الرغبة التي تجعل منّي ناقلاً أمينًا لمشاعر ملايين الشباب الذين يشبهونني، يطاردون خيالاً لم يلمسوه لكنهم يعرفونه بحدس الروح؟

كانت أحلامنا الأولى قريبة، صغيرة كحبة رمان، لكنّها كانت قادرة على استنفار الغيم، واستدعاء المطر، والانتصار لعواطفنا المتعبة. واليوم، ونحن نعيش زمنًا أثقل، نجد أنفسنا أمام حزنٍ بطيء، حزن يزحف كالمساء على غزة، يستهلك طاقاتنا، ويفتح في القلب تاريخًا من الجراحات والآلام لا يلتئم.

فلسطين،

أنتِ أكثر من جغرافيا متنازع عليها، أنتِ كيمياء الذاكرة، وصوت الأذان الذي يوقظ الليل في المدن النائمة، وأغنية الطفولة التي لا تموت. فيكِ نلمح صورة الإنسان حين يواجه المحو، ونكتشف أن الكرامة ليست شعارًا بل طاقة حياة. أنتِ المجاز الذي يحرس معنى الحرية، والمعنى الذي يفضح قسوة العالم.

أكتب إليكِ لا لأواسيك، بل لأعترف: كلما اتسعت الجراح، اتّسع فينا حلمكِ. كلما اشتدّ الحصار، انفتح في قلوبنا أفقكِ. أنتِ الوعد الذي لا يشيخ، والقصيدة التي لا تنتهي، والأرض التي تُعلّمنا أنّ النصر الحقيقي ليس ما يُكتب في معاهدات، بل ما يُسقى من دموع الأمهات وصبر الحجارة.

فلسطين،

خذي هذه الكلمات القليلة كما يأخذ البحر رشفة نهر، لن تُطفئ عطشك، لكنها تعترف بوجودك الأبدي فينا.

 أنتِ الأفق الذي يعيد إلينا ملامحنا، والجرح الذي يعلّمنا كيف نحبّ دون أن نيأس، وكيف نحيا دون أن نساوم.

ابقي، كما كنتِ دائمًا، رمزًا للحلم الذي لا ينكسر.

***

د مصـطـفــى غَـــلمـان

ذوي الاحتياجات الخاصة وعكاز الإرادة

أجسادهم مختلفة… لوحاتهم صامتة، ألوانها باهتة، لا مكان لهم بين أطفال الرواياتلا نراهم يتجولون بين أزهار الحدائق، ولا يلاعبون الفراشات، لا وجود لقوس القزح، لكن عيونهم تتساءل، ونحن ننظر إليهم بشفقة، يتبعها تجاهلعالمهم الخيالي تؤلفه الروايات، رواياتهم مختلفة، مليئة بالفراشات التي تنثر الألوان على لوحات باهتة في عالمنا.

لكننا… لا نمنحهم الفرشات الالوان ولا نفتح لهم أبواب الروايات، ليرسموا لنا عالمهم، ويملؤوا الصفحات بالحياة والخيال، ويزينوا لوحاتهم بألوان قوس قزح، ويغزلوا من أحلامهم حكايات ومغامرات في عالم ملون بألوانهم فكم من روح يقودها الخيال لكنها تضل طريقها نحو ذلك العالم المقصود

عالم تتنفس فيه الاحلام على صفحات الحياة، وهو عالم تحقيق الاحلام واحتضان الامنيات ....

هم

هم الاختبار الذي يكشف إنسانيتنا، هم الرسالة التي يضعها الله أمامنا لنمتحن بها قلوبنا وعقولنا، لنرى هل نملك الرحمة حقًا، أم أننا نحيا في صمت تجاه من يحتاج إلى نظرة تقدير،إلى مساحة مشاركة، إلى فرصة ليكون كما هو… كاملًا في اختلافه، غنيًا في قدراته، قويًا بعزيمته.......

نحن اليد التي تساند وترفع ....

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

كلما قيلت لها أثناء محاورتها عبارة "أفهمكِ جيّدًا"، تصريحًا أو تلميحًا، تبسّمت ابتسامةً تُخالطها ثقة عالية جدًّا>  وَدّتْ لَو فَنّدَت بشدة تلك المقولة، وإقناع القائل بأنها خاطئة لا أساس لها من الصحة، لكنها تكتفي بتلك الابتسامة التي يتبعها صمت الحكمة.

صمتٌ يصدح بداخلها أن لم يسبق لأحد أن عثر عليها، لأنه صعب جدًّا الوصول إليها، فهي لا تتواجد حيث يُعتقد أن تكون، ولا تظهر علنًا بكُلّيتها البتّة، هي لا تنصهر ولا تندمج في الأشياء، بل تكون دومًا وراءها، لا تتجلّى كحقيقة كاملة أبدًا، فقط طيفها من يتجسد، هي تتوشح الكلمات، تمكث وراء ستار الفكرة والمعنى، تقبع هنالك بعيدا جدا خلف الشعور، ووراء الأفعال وردودها،

تجلس في هدوء خلف الأشياء تتأمل، لتعيد الأمور لنصابها، وتكتشف ذاتها من جديد. 

تقول واصفة عجز قلمها عن سردها كاملةً، ومحدوديّته حينما يحاول حلّ أُحجياتها، ظنًّا منه امتلاكه مُكنة ترجمة كيانها حرفيا! لكن هيهات:

لا يتأتّى لقلمي أبدًا

سكبي على الورق دفعة واحدة

لا يستوعبني حبري

 لا تحملني السطور

 ولا ما تَخفَّى بينها غيرَ مذكور

يبقى دومًا نبضي فُتاتًا مني

مجرد رذاذٍ عنّي منثور.

صعب عليها ونادر جدا العثور على من يجيدون لغتها الفريدة، ليخاطبوها بها، لغة راقية جدا تختصّ بعوالم مثالية، تسمو بالروح وترقى بالفكر لأعلى المنازل.

***

الكاتبة زينة لعجيمي - الجزائر

 

من الأسماء الجديدة التي ظهرت في تونس خلال السنوات الأخيرة الأديبة ـ زهرة الحوّاشي ـ التي أصدرت عديد العناوين في الشعر والرواية والأمثولة والترجمة

الأديبة زهرة الحواشي متخصّصة في علم البيولوجيا وهي أصيلة ربوع بلدة الدهماني من الشمال الغربي التونسي تكتب الشّعر باللغة العربيّة الفصحى والدارجة التّونسية وكذلك باللغة الفرنسية وتترجم الشّعر من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية ومن اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية

صدر لها

- في جانفي 2019: ثلاث مجموعات شعريّة في نفس الوقت تحمل كلّ واحدة منها ثلاثة أجزاء: جزء بالعربية، جزء بالتونسية المحكية وجزء بالفرنسية تحت نفس الغلاف وهي

1- رأسي في قفص الإتهام / تونسية /Confidence

2- حديث الروح /تونسية / Etat d'esprit.

3- حرف ودمعة /تونسية / Nostalgie.

- في فيفري 2021

1- مجموعة شعرية كذلك بثلاثة أجزاء عربية، تونسية وفرنسية تحمل عنوان:

دبشليمات وما من بيدبا / تونسية / Diamant

2- كتاب ترجمة المجموعة الشعرية اللحمة /Avec ou sans الحيّة للشاعر التونسي صالح القرمادي حيث ترجمت الجزء العربي إلى اللغة الفرنسية والجزء الفرنسي إلى اللغة العربية.

- صدر لها في 2023

1- رواية بعنوان: ابن العاقر.

2- مجموعة أمثولات بعنوان Mes fables préférées

3- مجموعة أمثولات بالعربية بعنوان من بديع القصّ.

ولها قيد النشر

- ترجمة ديوان أشعار نقشتها الرّيح على أبواب تونس السّبعة للشاعر الشهيد شكري بلعيد، من العربية إلى الفرنسية.

- ديوان شعري خامس بأربع لغات: 1عربية فصحى - 2تونسية محكية - 3 فرنسية- 4 أنغليزية.

- رواية بعنوان يمينة.

وقد ظهر لها أخيرا إصدار جديد بعنوان ـ كُتّاب أبي ـ وهو كما ورد في الغلاف ـ شواهد وشوارد وأقاصيص ومذكّرات ـ وقد جمعت في هذا الكتاب شتاتا من وقائع وذكريات ظلت راسبة في شجونها

توالت في الكتاب الفصول والفقرات تحمل عناوين خاصة بها كمثل سلسلة أو محطات رصدت فيها ما رسب من مختلف أطوار حياتها بدأتها بحديثها عن أبيها وأمها وهما يتخصمان ضمن الفصل الأول بعنوان ـ عندما كنت قاضية ـ وقد رصدت فيه بعض تفاصيل شيخوختهما وذلك عند زيارتها لهما فوجدهما يتخاصمان عن الملح في الطعام وتنتصب زهرة الحواشي حينذاك قاضية بينهما لتجد نفسها في موقف حرج بينهما فأبوها يشتكي لها من أمها التي قال إنها نغّصت حياته بفقدان الملح من طعامه وبمنعه من اللحم الدّسم ثم تستمع إلى أمها وهي تبرّر حرصها الشديد على صحته بِاِعتبارها مسؤولة عنه

في مثل هذا الموقف العائلي الحميمي تكشف لنا زهرة الحواشي خيوطا دقيقة لأقرب الشخصيات منها في سيرتها الذاتية وتختم هذا الموقف الحرج بين أمّها وأبيها حينما اِنتصبت بينهما قاضية فتقول متخلصة من مسؤولية الحكم: كثيرا ما نزعتُ جبّة القاضية وعصيت أوامر الطبيب رأفة به وفي عفلة من أمي طبخت له من اللحم ما يشتهي ووضعت امامه الملح ليأخذ منه غرضه وكنت ارابط بجانبه كامل اليوم خشية أن يرتفع ضغته

:وتغتنم الكاتبة هذه الحادثة لتبثّ في آخرها حنينها وشجونها قائلة سلاما لمنزلنا الصغير في مساحته الوسيعة في تاريخه ومعارفه وتعدد مواهبه سلاما لحيّنا ـ حومة الواد ـ الصاخب العامر بالبراءة والجِيرة الطيبة والفن والهزل والطرائف والذي كان قلعة نضال سلاما بحرّ الدموع وحرقة الفؤاد لإخوتي فاطمة وعلالة ومحمد الذين فارقونا باكرا تاركين في القلب جراحا لا تندمل

ومن ضمن اِستحضار الذكريات الطريفة ما أوردته عن جدّها في فصل ـ جدّ يصطاد جدّتي ـ إذ ذكرت أنها مرّة وفي غفلة منها جذب جدّتها بعكازه يطلبها أن تقترب منه وهي تهمّ بالخروج غير أن الجدّة تفطنت لحضورها فنهرته كي لا يفتضح الأمر ومن جملة الوقائع الطريفة التي أخبرتنا بها في فصول هذا الكتاب ذكرها لفقدان فردة حذائها بينما كانت تسرع للاتحاق بالدروس وعندما اِلتفتت تبحث عنها لعلها سقطت بينما كانت تسرع فرأت جمعا من التلاميذ يتقاذفونها كأنها كرة قدم

ومن النوادر الأخرى التي وقعت لها في صباها حدّثتنا أن جَمَلا هائجا جرى خلفها وكاد أن يطرحها أرضا ويوقع بها لولا أن سارعت بالتسلّق وهذه الحادثة ذكرتها بما وقع لعمّتها قبلها مع الجمل الأجرب الذي نزل عليها بكلكله فلم تتمكن العمّة من الإفلات منه وقد أصيبت إثر هذه الحادثة الأليمة بشرخ نفسيّ عميق أفقدها حياتها

وفي الكتاب مواقف عديدة ذكرتها زهرة الحواشي بأسلوب فيه الكثير من الألم مثل ظلم بعض المربين وخروجهم عن ضوابط رسالتهم النبيلة. الكتاب سِجل زاخر بكثير من تفاصيل السيرة الذاتية والمواقف الخاصة بحيث يمكن أن يكون مدخلا لبحث خفايا نفسية الأديبة وهو إلى جانب ذلك صورة للمجتمع التونسي ولبعض خصائصه وأحداثه كاحداث سنة الفيضانات وعام المجاعة ويعطي بعض اللمحات عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في جهة الشمال الغربي في فصل ـ العريفة ـ الذي وصفت فيه أجواء الحصاد وروح التعاون والبهجة بين الفلاحين والفلاحات ولم يخلُ الكتاب من الشّعر ذلك أنّ قصيدة ـ فراق لحباب ـ الواردة فيه ترشح حنينا وشجونا كيف لا وزهرة الحواشي شاعرة بالفصحى والدارجة والفرنسية وحتى بالإنقليزية فقد كانت في دراستها لها ممتازة لدى أستاذتها الأمريكية التي أحبتها ودعتها إلى إتمام دراستها معها وكادت أن ترافقها في عودتها إلى أمريكا لولا لحاق أبيها بها وهي تكاد تصعد القطار معها

إن كتاب ـ كُتّاب أبي ـ لزهرة الحواشي يندرج ضمن أدب الحياة أي أدب السيرة الذاتية فهو يندرج في سياق مكاشفات كتاب ـ الأيام ـ لطه حسين وـ يوميات نائب في الأرياف ـ لتوفيق الحكيم وـ سبعون ـ لميخائيل نعيمة وكتاب ـ رجع الصّدى ـ لمحمد لعروسي المطوي وغيرها.

***

سُوف عبيد ـ تونس

ذلك صاحب الظل الطويل ذو العيون السومرية… الرجل الغامض الذي يعرف كيف تُفتح الأدراج وتُغلق، لم تُترك الأدراج مفتوحة يومًا بسبب نسيانه، فهو لا ينسى شيئًا أبدًا، لكن الصدفة وحدها قادتني تلك المرّة إلى أن أجدها مفتوحة، وفضولي – كما هو دائمًا – دفعني إلى الاستكشاف.

لم أجد كنوزًا ولا أسرارًا كبرى؛ بل صورًا بلا ملامح، أوراقًا متناثرة، خاتمًا صدئًا، وعلبة صغيرة تضمّ ألوانًا مائية باهتة، غريبٌ أنّ تلك الألوان، لا الخاتم ولا الصور، أسرتني.

ظلّ السؤال يطاردني: ماذا كان يفعل بها؟ هل كان رسّامًا خفيًّا لم يُعلن نفسه؟ أم أنّ الألوان كانت ترجمة لشيء آخر لم أستطع فهمه؟

صوت جدّتي البيضاء الفراتية جاء يذكّرني، كدرس يعاد في مدرسة حياتي على طول الزمن، وصوتها وكأني أسمعه اليوم:

"هذه أشياء تخصّه، لا يجوز أن نتدخل بها، وما تفعلينه ليس بالصواب. إذا كان قد أقفلها، فهذا يعني أنّها أشياء تعنيه، ومهمّة له، حتى لو بدت لنا بلا قيمة."

يا لعظمة تلك البيضاء الفراتية… علّمتني أن بعض الأشياء تُترك لأصحابها، وأن احترام حدود الآخرين أحيانًا أهم من الفضول، والغريب أن الفراتية نفسها لم تعرف ماذا تضمر الأدراج، ولم يقودها الفضول كما قادني لتقليب ما فيها.

ما حدث كان درسًا لم يُكتب في كتاب، ولم يُلقَ في فصل، بل تعلمته من موقف حيّ، ومن تأنيب ضمير يعود إليّ كلّما حاولت تكرار الخطأ نفسه.

عندها أدركتُ أنّ ليس كلّ ما في داخلنا يمكن أن نبوح به، وليس كلّ جرح أو ذكرى يمكن ترجمتها أو كشفها، هناك خفايا تبقى خفايا، أسرار ترافق صاحبها طوال حياته، وربما هذا هو سرّها الحقيقي، وربما هذا ما يمنحها قيمتها: أن تكون سرًا، صامتًا، لكنه حاضر، يلوّن حياة الإنسان كما تفعل الألوان المائية في اللوحة، خفية، لكنها حاضرة، وأحيانًا أكثر صدقًا من أي كلمات يمكن أن تُقال.

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

يجيء من العدم، ترميه القرى الصغيرة إلى المدن الكبيرة، والمدن الكبيرة إلى لغزها السري، ويتحدان في العلاقة المستحيلة، يستقر أخيراً في المدينة السرية المتشظية، يدخل في تجاويفها الليلية، باحثاً عن مأوى لجسده المشروخ. لقد كانت مدينة، أصبحت الآن شبحاً، ماضياً، ماضياً مبتلاً، وعلى جسدها وخصرها الأسمر، يجري نهران، لم تتعب المدينة بعد من الغرباء، ولم يتعب الغرباء بعد منها.

هذا الكائن الذي يدعى (وليد جمعة) لم يكن غريباً عنها، الفقير المثقل بالرغبة الشبقية وبالأيام الماضية والآتية، انه هنا في المدينة في ركن من أركانها، يزرع القلق مثل قمح، يردد بصوت مرتفع وهم يعبرون الشارع المذهب بالفتيات:

«طالبوني بقصيدة، ما الذي نكتبه عن دوخة الناس، اقترحت الناسَ، من منهم تريد؟ وعلى أي القوانين تشيد كلمات، وتسوي عالماً من كلمات.

يكتب عن نفسه وعنّا، عن العلاقات الواضحة والغامضة، عن المرأة المشتهاة في الخيال، وعن الليل، وعن النساء الليليات وعن الرجال النهاريين، عن الأصدقاء والمعارف، عن حبه القديم وحبه الجديد، عن الغائبين، الطارئين والمستقرين في ذاكرته، شرب كأساً، كأسين، ثلاث كؤوس، رأى المدينة، هي لعنة يومية، أما آن أن أفارقها؟ وفارقها! هذا الكائن الغريب الاستثنائي.

هو الكائن قادم، ساق تسابق ساقا، ترنّح مكشوف من فعل البارحة، الأزقة الضيقة جد متعبة صعوداً وهبوطاً، لا أحد في المدينة، إنه إله المدينة، قدّيسها، صعلوكها، ضمير المدينة. كل أبوابها مفتوحة له، كل الحانات، المقاهي والمطاعم، هكذا كان، لقد اختزن المدينة في ذاكرته ووضعها على الورق، عنف قاس لطفولة مشروخة حتى العظم، عنف يتجدد في الشيخوخة المقبلة، وفي المرض الذي داهمه مبكراً.

لم لا؟ يريد أن يكوّن نفسه، لم لا؟ لكن لهذه المدينة نظاماً آخر، لماذا يصر على أن يسير في طريق الاختلاف؟ لا يريدونه نموذجاً ولا يريدونه بناءً، يضحكون في وجهه ويتلاسنون في غيابه، لكنهم يحبون استثناءه، وخروجه عن نظام المدينة، وعندما استوى في جلسته الفوضوية، كانت الأيام الحزينة فوق جفنيه.

نعم، لهذه المدينة بؤر متعددة، قال ذلك وكتب ذلك، بؤر سرية وغامضة ومكشوفة، بؤر تفضي إلى متاهات ومدارات متشابكة، بؤرة للنسيان وللغياب الكلي، للضياع الجميل، والتشرد الجميل، من تختار يا وليد؟ تمسّك في بؤرة الجرح اليومي العنيد، كانت المدينة تتعملق من حوله، من أنت؟ لماذا تقفلين في وجهي أبوابك؟ عشت وشفت، وها أنا استرجع ذاكرتي وأنفي الموشومين.

كان يمكن لوليد جمعة أن يكون مجرد موظف عراقي عابر، يمضي نهاراته بملل في مكاتب دائرة الضمان الاجتماعي، ويمحو أيامه بالروتين الذي يشبه الموت المؤجل. لكنه لم يكن كذلك. كان في قلبه يخفي جمرة الشعر، والسخط، والسخرية، والعناد المكشوف الذي لا يحتاج إلى منصة أو جائزة أو تصفيق.

لم يكن وليد خارج السلطة فقط، بل خارج «مشروع الشعر الرسمي» أيضا، يكتب بنبرة تسخر من كل شيء، كان يكفي أن أصدقاءه يستمعون إليه، وهو يتهكم على زعيم حزب، أو وزير، سيان عنده، للثقافة أو الداخلية، أو يلعن بلداً يشبه معسكراً دائماً، يقوده حزب شمولي، أو يروي نكتة عن شاعر «منبطح»، كان رجلاً كريماً في السخرية، كرماً يشبه كرمه في الصداقة، وتقاسم الخبز، في نهاية كل شهر وحين يستلم راتبه المتواضع يجتمع «صعاليك» مقهى إبراهيم ـ كان يتجنب تسميتها: مقهى المعقدين ـ المشهد يكشف عن جوهر وليد الإنساني، الأصدقاء ينتظرون تلك اللحظة بشهيّة ولهفة، مطعم نزار القريب من المقهى، يتحول إلى طاولة بعدة أمتار، كان سعيداً لا يتردد لحظة واحدة في دفع حساب الجميع. كمن يعرف أن هذا المشهد العابر هو كل ما يمكن إنقاذه من الحياة المهانة.

وليد رجل مقامر، مواظب على حضور رهانات سباق الخيل، لا يحسب للمال حساباً، الفلوس ترمى على الطاولة. الحياة عابرة، بل رهاناً دائماً، يخسر ويضحك، يربح ولا يطمئن، كأن كل شيء مؤقت.. حتى نفسه. هو، ليس من طينة الشعراء الذين يطلبون المجد، بل من طينة الذين يستهزئون به، يكره التصفيق، كتب شعراً شتم فيه الظالم والظلم، ينفجر حين تضيق عليه البلاد، ويغلق فيها السياسيون نوافذ الكلام في بلاد الزنزانات والأناشيد العسكرية. كان شاعر شظايا ساخراً، وخصماً للنظام، خصومة تحتقر السجّان، والمنبر، والمهرجانات، والمثقف الذي يتحول إلى بوق، وليد حين يصعد المنصة يقول ما يجب ألا يقال. في شعره لا أثر لبطولة مفتعلة، ولا مجد فارغ، بل هناك إنسان يبكي من دون دموع، لأن البكاء ترف لا يستحقه المنفي:

في الغروب النحيف/ رغم كل البلايا/ أراه من المستحيل عليّ/ من المستحيل تماماً/ كراهية (هذا) العراق.

ديوانه «الغروب النحيف» ليس نصاً، بل أثر، وصيته الأخيرة التي لم يتركها لأحد، ليس توثيقاً لتجربة شاعر، بل وثيقة شاعر قاوم كي يودع كل شيء: الوطن، الأصدقاء، اللغة، حتى نفسه.

هيّن فقر الأناشيد وزهو الارتزاق/ هيّن أن يختفي أنبل ما باح به للكون/ وجدان العراق/ هيّن موت العراق

سخرية وليد لا من أجل التهكم، بل طريقته في الإدانة، يسخر من الشعراء الذين ركعوا للسلطة، أي سلطة، لم يكن ساخطاً لأنه ضحية، بل كان ساخطا لأنه يرى ما لا يراه غيره. كان شاعراً متمرداً، ليس لأن التمرد موضة، بل لأنه لم يكن قادراً على التواطؤ. يعرف أن الخسارة حتمية، لكن الرهان على الشعر، على الحرية، على الضحك، هو الفوز الحقيقي. اختار وليد جمعة أن يودّع «الغروب النحيف» بدخول أخير إلى مقهى إبراهيم (مقهى المعقدين)، ذلك المكان كان مشهده الأكثر صدقاً وحضوراً، هنا في الأبجدية الأخيرة للديوان يكتب وليد:

في عام 1987 فسخ البعثيون عقد الزواج مع الشيوعيين، فعادوا إلى المقهى، ثم سرعان ما اختفوا عن المقهى، فرّ من فرّ، وتعهّد من تعهّد، أغلقت جريدة «طريق الشعب»، لكن جريدة «الفكر الجديد» استمرت بالصدور، بقي فيها من مثقفي الحزب اثنان، محمد كريم فتح الله، وسلوى زكو، وبقيت مقهى إبراهيم.

لي كل الشرف أن أعلن لأول مرة، ان الأعداد الأخيرة من «الفكر الجديد» قد تمّ تحريره من قبل زبائن المقهى، بادر المثقفون على تشكيل هيئة تحرير عاجلة تعهدت بكتابة المواد الصحافية والثقافية، من دون أدنى رقابة حزبية أو سلطوية، كانت أكثر المواد جرأة في قمة الهجمة الفاشية ضد الأصوات الحرّة، فأغلقت الجريدة:

مدنٌ جبتها/ مدنٌ بالمئات/ لو تخيّرت أبهجها/ ولوّنتها مثل لعابة/ وأجريت فيها نسيم السكينة/ لم تكن حلوةٌ وحبابةٌ/ كضجّة دربونة في هذيج المدينة.

توفي وليد في منفاه الدنماركي في 20 سبتمبر/أيلول 2015، لم ينشر سوى قصائد قليلة في حياته. صدر له عن دار الجمل ديوانه الوحيد «الغروب النحيف» بعد وفاته بأيام.

***

جمال العتّابي

في ذاكرة الصحافة العربية، ثمة أسماء تلمع كنجوم في ليل حالك، لكن قليلاً منها ظل قادراً على اختراق الزمن ليبقى حياً في وجدان الشعوب. محمد حسنين هيكل واحد من هؤلاء النادرين، بل لعله الأبرز بينهم. لم يكن مجرد صحفي يدون الأخبار، كان معمارياً للوعي، وصائغاً للسرديات التي تحولت إلى جزء من التاريخ نفسه. امتلك موهبة نادرة جعلت من قلمه سلاحاً أخطر من المدافع، ومن كلماته طاقة تفوق ضجيج الخطب السياسية.

هيكل لم يكن شاهداً على عصره، كان طرفاً أصيلاً في صنعه. كتب فارتجت القصور، وحلل فارتجفت العروش، وصمت فاشتعلت الأسئلة. كان المثقف العضوي الذي حمل هم الأمة في قلبه، وقرأ لحظتها التاريخية بعين المؤرخ وذكاء الاستراتيجي. لذلك صار "مطلوباً حياً وميتاً"، يخشاه الساسة ويتبعه القراء.

هيكل، مطلوب حياً وميتاً

قبل أيام، وبينما كنت أقلب أرشيفاً قديماً، وقعت عيناي على صورة بالأبيض والأسود لمحمد حسنين هيكل. كان واقفاً بظهر منتصب كالأمراء، عيناه الثاقبتان تشقان الزمن وتصلان إلى حيث نقف نحن اليوم. توقفت أمام الصورة، وأدركت أن السؤال الأكبر ليس: من كان هيكل؟ بل: ماذا بقي منه في زمن لم يعد فيه للصحفيين سوى ظلال باهتة من نجوم غابت؟

العبارة التي التصقت به: هيكل مطلوب حياً وميتاً"، ليست مجرد وصف صحفي عابر، بل شهادة تاريخية. لم يطلب الأحياء إلا من خشي الناس بأسهم، ولم يطلب الأموات إلا من خلدتهم أفكارهم. وفي ذلك يكمن سر هيكل: رجل ظل مصدر خوف وإلهام في آن واحد، حتى بعد غيابه.

بين النبذ والتأليه

في الثقافة العربية، ثمة مفارقة صارخة: العظماء ينبذون في حياتهم، ثم يؤلهون بعد رحيلهم. وهيكل المثال الأبرز لهذه القاعدة. عاش مطارداً، محاصراً، متهماً بكل التناقضات: ناصري الهوى، ساداتي الولاء، خصماً للسلطة، ومرآة لها في الوقت ذاته. لكن هذا كله لم يمنعه من أن يهز عروش الملوك والرؤساء بكلماته وحدها.

الجواب عن سر تأثيره يكمن في فهمه العميق لآليات الوعي الجمعي. هيكل لم يكن ناقلاً للأخبار، بل صانعاً للمعنى. كان يدرك أن الكلمة حين تصاغ بدقة تصبح قادرة على إشعال الثورات. ولذا قال يوماً: " الكلمة هي الجندي المجهول في معركة الوعي".

المثقف العضوي

خلافاً للكثير من مثقفي النخبة الذين اكتفوا بالنقد من أبراجهم العاجية، كان هيكل مثقفاً عضوياً بالمعنى الجرامشي. يعيش هموم شعبه، وينتقد الداخل كما ينتقد الخارج. آمن أن التحرر من الاستعمار الخارجي يبدأ أولاً بتحرير الداخل من استبداده. وكان يكرر: "دور المثقف أن يكون ضمير الأمة، لا بوقاً للسلطة".

وهذا ما جعل الناس ينظرون إليه بوصفه صوتاً جمعياً، لا مجرد قلم فردي. فالصحفي عنده ليس شاهداً صامتاً على الأحداث، هو طرف فاعل في صناعتها.

سيد السرديات وعبقري التحليلات

هل ما زالت تحليلاته صالحة اليوم؟ نعم، لأنها لم تكن انفعالات آنية، كانت قراءات عميقة لبنية التاريخ والسياسة. تحليله للصراع العربي–الإسرائيلي، أو للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ما زال يقرأ كأنه كتب بالأمس. في كتابه "ملفات السويس" (1957) مثلاً، قدم رؤية مبكرة لطبيعة التدخل الغربي في المنطقة، وهي رؤية أثبتت السنوات صدقها.

هيكل لم يكن مجرد صحفي كبير، كان سيد السردية العربية.  فهم أن السلطة الحقيقية ليست فيمن يصنع الخبر، لكن فيمن يروي الحكاية. بقدرته على السرد، كان يصوغ الوعي الجمعي، ويحرك الرأي العام، حتى تتحول كلماته إلى قرارات وسياسات.

براعته تكمن فيما يتركه بين السطور. كان يتقن فن "المسكوت عنه"، يلمح ولا يصرح، يترك للقارئ متعة الاكتشاف. وهنا يكمن ذكاؤه: يجعل الفكرة تنمو في عقل القارئ حتى يظن أنه صاحبها.

ظاهرة خارقة للعصور

لا يمكن فهم ظاهرة هيكل من دون تحليل علاقته المعقدة بالسلطة. عاصر ملكين وسبعة رؤساء، من فاروق إلى السيسي، لكن ذروة تأثيره كانت في عصر عبد الناصر. قال أنيس منصور يوماً: "عبد الناصر من اختراع هيكل"، وهي عبارة تلخص شراكة سياسية وفكرية نادرة. كان هيكل "عقل ناصر" الاستراتيجي، وصاغ معه الخطاب القومي.

لكن ولاؤه لم يكن أعمى. كتب مقالات انتقد فيها المخابرات وأجهزة الدولة في زمن ناصر. ومع السادات، بدأ مؤيداً متحمساً، وكتب عنه أنه "قائد تاريخي لشعبه"، قبل أن ينقلب الخلاف بينهما إلى مواجهة حادة انتهت بطرده من الأهرام. عندها قال عبارته الشهيرة: "الرئيس يملك أن يقرر إخراجي من الأهرام، أما أين أذهب بعد ذلك فهذا قراري وحدي".

حضور أقوى في الغياب

في سنوات "اغتياله المهني"، حين مُنع من الكتابة، تحول من كاتب إلى فكرة. صار وجوده من خلال غيابه أقوى من حضور أي صحفي آخر. أي تصريح له كان حدثاً، وأي مقال عنه يتحول إلى مادة رئيسية. وهنا برز الدرس الأهم: أن الكلمة حين تمنع تكتسب قوة أكبر، وأن الفكرة حين تُطارد تتحول إلى نار لا تنطفئ.

كان هيكل يرى الصحافة بوصفها كتابة للتاريخ "في لحظة وقوعه". في كتابه "إيران فوق بركان" (1951) استشرف تحولات طهران قبل الثورة، وفي كتابه "خريف الغضب" (1983) قدم تشريحاً نادراً لمرحلة السادات وصراعاتها الداخلية والخارجية.

إرث عسير المنال

يمكن تلخيص إرثه في أربعة أبعاد: أنه الصحفي الذي قاد الأهرام وحولها إلى مدرسة. وهو المفكر الذي أسس مراكز الدراسات الاستراتيجية. كما أنه المؤرخ الذي دون تاريخ مصر عبر أكثر من أربعين كتاباً. ثم هو المحلل الذي حاور شخصيات القرن العشرين من أينشتاين إلى الخميني.

  لقد رفض هيكل الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأمريكية قائلاً: "رموز التكريم للصحفي هي قراؤه لا الجامعات". بهذا المعنى، كان صحفياً للجماهير، لا للنخب وحدها.

 ومن إرثه المعرفي والفكري والصحفي يمكن استخلاص دروس بالغة الأهمية: أولها: أهمية الاستقلال الفكري : رغم قربه من السلطة، لم يكن بوقاً لها. وثانيها: العمق المعرفي: جمع بين الصحافة والبحث التاريخي . وثالثها: الجرأة الأخلاقية: كتب في المسكوت عنه، دون أن يفقد لياقته الأدبية. رابعاً: الشعبية:  جعل من الصحافة خطاباً للجماهير.

 بها المعني قال إدوارد سعيد عن الصحفي المثالي: "هو المؤرخ والمفكر في آن واحد"، وهي صفة تنطبق على هيكل بأوضح صورة.

هل يتكرر هيكل؟

هل يمكن أن يظهر هيكل جديد في زمن الصحافة الرقمية؟ الأغلب لا. فقد كان ابن ظرف تاريخي استثنائي: صعود الصحافة الورقية، الأنظمة الثورية، وصراعات الحرب الباردة. ومع ذلك، فإن دروسه تبقى خالدة: أن الصحفي يجب أن يكون صاحب مشروع، رؤية، ورسالة.

هيكل لم يكن شخصاً فحسب، بل مدرسة متكاملة. مثل كل المدارس العظيمة، قد يختلف تلاميذها عنها، لكنهم لن يستطيعوا إنكار فضلها. ربما لن يأتي "هيكل آخر"، فالعظماء لا يتكررون، لكن آثارهم تبقى منارات للأجيال.

هيكل هو ذلك الصحفي الذي علمنا أن الكلمة يمكن أن تكون أقوى من المدفع. رحل الأستاذ، لكن دروسه باقية. ومهما حاولت "النملة أن تحجب الشمس"، كما كتب يوماً، فإن نوره سيظل ممتداً.

قد لا يعود هيكل بشخصه، لكن يمكن أن يعاد إنتاجه في وعينا الصحفي إذا استلهمنا جوهر تجربته: شجاعة الكلمة، عمق الرؤية، وصدق الانتماء. إن الوسط الصحفي اليوم، الغارق في ضجيج السرعة وسطوة الصورة، يحتاج إلى من يوقظ فيه روح هيكل: صحفي لا يكتفي بالنقل بل ينسج المعنى، لا يلهث خلف الحدث بل يقرأ جذوره. هيكل الجديد ليس نسخة من رجل رحل، بل فكرة متجددة: أن الكلمة إذا صيغت بضمير الأمة، عادت لتصنع التاريخ من جديد، وتكتب حاضرنا بمداد لا يزول.

***

د. عبد السلام فاروق

يقول الجاحظ في وصفه للكتاب: " والكتاب هو الذي إن نظرتَ فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوّد بيانك، وفخّم ألفاظك، ونجّح نفسك، وعمّر صدرك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك".

**

مع قيام الدولة العباسية، شهدت الكتابة العربية نقلة جديدة، فتنوعت أساليبها، وتعددت خصائصها ومجالاتها. وصار التمييز واضحا بين كتابة الديوان التي تنهض بشؤون الدولة، وكتابة التأليف أو الكتابة الفنية التي تمثل أزهى مظاهر هذا العصر، وعنوان ترقيه وبلاغته وجماله، والتي حمل رايتها كُتاب أمثال: ابن المقفع، والجاحظ، والفضل بن سهل وغيرهم.

أدى اتساع رقعة الدولة الإسلامية إلى اختلاط العرب بشعوب البلدان الأخرى، وتبادل التأثير في نمط العيش والتفكير، وإنتاج المعرفة. وكانت الكتابة من ضمن ما شملته رياح التغيير، فظهر التجديد في ألفاظها ومعانيها، وتميزت بسهولة العبارة، وحسن اختيار الألفاظ، ووضوح المعاني.

وأدى امتزاج اللسان العربي بلغات الشعوب الأخرى إلى ظهور الألفاظ الدخيلة في نسق الكتابة. فغلبت المفردات الفارسية على الأشياء المادية، كأسماء الملابس والأطعمة وأدوات المنزل. وغلبت اليونانية على مفردات الطب، والفلك، والرياضيات، والفلسفة.

مرت الكتابة خلال العصر العباسي بثلاث مراحل، لكل منها سمات خاصة انعكست على أسلوب الكُتاب وطرائق تعبيرهم:

شكلت المرحلة الأولى امتدادا لأسلوب الكتابة الذي أبدعه عبد الحميد الكاتب أواخر العصر الأموي والذي عُرف ب"فن الترسل"، فكان الكاتب العباسي حريصا على أداء المعنى الجميل في القالب الجميل، مع تنويع للعبارة وإدخال المُحسنات اللفظية دون مبالغة أو تكلف.

يعد ابن المقفع إماما للكتابة في هذه الفترة، من حيث التجديد الذي أدخله على النثر العربي عموما. ومن أهم سمات أسلوبه: المزج بين الأسلوب القصصي والمنطقي، فكانت جُمله وعباراته مزدحمة بالمعاني الفلسفية، والقياسات والحِكَم دون غموض أو تعقيد، كقوله في مُؤَلفه الشهير (كليلة ودمنة): "وجدتُ من لا إخوانَ له لا ذكرَ له، ومن لا مالَ له لا عقلَ له ولا دنيا ولا آخرة، لأن من نزل به الفقر لا يجدُ بدا من ترك الحياء. ومن ذهب حياؤه ذهب سروره. ومن ذهب سروره مقتَ نفسَه. ومن مقتَ نفسه كثر حزنُه".

ومنها حرصه على الوضوح وسهولة اللفظ، فكانت عباراته من قبيل السهل الممتنع. كقوله في (الأدب الصغير):" وعلى العاقل أن يُحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي، وفي الأخلاق وفي الآداب. فيجمع ذلك كله في صدره أو في كتاب، ثم يُكثر عرضه على نفسه، ويُكلّفها إصلاحه".

ومنها كذلك ابتعاده عن الألفاظ العامية والمبتذلة، فكان يتمتع بذوق حسن وطبع سليم في اختيار كلماته. قال الراغب الأصفهاني " كان ابن المقفع كثيرا ما يقف إذا كتب. فلما سئل عن ذلك قال: إن الكلام يزدحم في صدري، فأقف لتخيُّرِه".

امتلك ابن المقفع ناصية البلاغة، وظل أسلوبه مرجعا للكُتّاب في عصره لفصاحته التي لم يؤثر فيها أصله الفارسي، حتى قال عنه أبو العيناء:" كلامه صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح، كأن بيانَه لؤلؤ منثور، وروض ممطور".

أما المرحلة الثانية من الكتابة في العصر العباسي، فكانت امتدادا لمدرسة ابن المقفع مع تطور طفيف اقتضاه اهتمام الكُتاب بتصنيف الكتب. غير أن منتصف القرن الثاني الهجري سيشهد ميلاد عبقري الكتابة وشيخ الأدباء أبي عثمان عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ.

اشتهر الجاحظ بموسوعيته وتبحره في اللغة، وبراعته في تصوير مجتمعه، ونقد أخلاقه وعاداته. وتميز أسلوبه بالرشاقة ووضوح المعنى وترديده في تراكيب مختلفة، وميل إلى نحت عبارات قصيرة لا تخلو من الإيقاع، مثل قوله في مقدمة كتابه (الحيوان):" جنّبك الله الشُّبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا، وبين الصدق سببا، وحبّب إليك التثبت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعرَ قلبَك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين".

والكتابة عند الجاحظ استطراد ينتقل به من موضوع إلى آخر بهدف الترويح على القارئ وتشويقه، فكانت كتاباته تتشعب معانيها بين الفلسفة، والتاريخ، والقرآن، والحديث، مع خلط بين الجد والمزاح، وقدرة عجيبة على استحضار الأخبار والقصص التي تتناسب مع الفكرة.

ويمتاز الجاحظ عن كُتاب غيره بأسلوبه الجدلي، وميله الشديد للمناظرة والاحتجاج، وقدرة فريدة على الجمع بين الأضداد في أغلب مصنفاته. ففي كتابه "البخلاء" يدافع تارة عن السخي الكريم ويحتج له، ثم يدافع تارة أخرى عن البخيل ويحتج له، كل ذلك بعبارات تسيل رقة وعذوبة، دون تكلف أو تصنع.

تشهد الآثار الفكرية والأدبية التي خلّفها الجاحظ على تأثيره الهائل في أسلوب عصره، وإبداع طرائق غير مسبوقة في الكتابة، حتى صار الناس كما يقول ابن العميد، عيالا عليه في البلاغة والفصاحة، والتلمذةُ عليه شرفا لا يعدله شرف، ومجدا يُدنيهم من بلاط الملوك.

وخلال المرحلة الثالثة بلغ أسلوب الكتابة أقصى حدود التفنن والتصنع، وصار الكُتاب لا يقلون براعة في مجاراة خيال الشعراء في الوصف، والمجاز، والبديع. كما شُغفوا بالاقتباس من القرآن، والحديث، والأمثال ونوادر التاريخ، فلا تجد سطرا لكاتب إلا ويليه بيت شعر أو نادرة.

وممن ذاعت شهرتهم في تلك الفترة أحمد بن الحسين الملقب ببديع الزمان الهمذاني. الأديب والكاتب الذي اشتهر بنباهته، وقوة حافظته، حتى قال الثعالبي أنه كان يسمع القصيدة، وهي أزيد من خمسين بيتا، للمرة الأولى فيعيد ترديدها دون أن يَخرِم منها حرفا واحدا، ويترجم المعاني الغريبة من الفارسية التي يجيدها إلى العربية، فيجمع بين الإبداع والإسراع.

تميز أسلوب الكتابة لدى بديع الزمان بالفصاحة، والتركيب السهل والواضح. يصوغ المعنى في عبارات أنيقة، حافلة بالمُحسنات من استعارة، وكناية، وتورية، وغيرها. ورغم أنه ألف الأشعار والرسائل في أغراض متنوعة، إلا أن أصالته ككاتب تبلورت بشكل واضح في المقامات التي يعد مبدعها الأول.

والمقامة كتابة مزجت بين الحكي ونقد الأوضاع السائدة. تمتاز بجمال اللغة، وترجيح المجاز على الحقيقة. يلتزم كاتبها بالسجع، والإكثار من المفردات الغريبة، واقتباس الأشعار، والأمثال، والآيات، والأحاديث. وتجلى فيها حرص بديع الزمان على ابتكار صور جديدة للتعبير، تتسم بالدعابة والمجون أحيانا، لكنها أفسحت المجال أمام الكاتب ليلتصق بهموم المجتمع، ويحرر الكاتب من قيود البلاط.

أما وضع الكُتاب في هذا العصر فقد كانوا بحق تراجمةَ الملوك، وذلك بفضل الرعاية التي أبداها الخلفاء والأمراء للنهضة الثقافية والعلمية، وتشجيعهم الانفتاح على الفكر الإنساني عن طريق الترجمة.

كان ابن المقفع كاتبا لدى بني العباس

وارتفعت منزلة الجاحظ حتى صار جليسا للملوك، وكان الناس يسألون عن كتبه المفقودة وهم في صعيد عرفات.

وكان ابن العميد وزير ركن الدولة، والصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة.

وبلغ من تقديرهم للكتب والمصنفات أنهم دفعوا مقابل وزنها ذهبا، وسارت الرسل من بلاد إلى أخرى طلبا لنسخة من كتاب.

***

حميد بن خيبش

....................

- محمد عبد المنعم خفاجي: الآداب العربية في العصر العباسي الأول

- محمود مصطفى: الأدب العربي وتاريخه في العصر العباسي ج2

- بيومي السباعي: تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي

يسعى الناس في العادة إلى تحسين ظروفهم المعيشية، ماديًا ومعنويًا، فترى كلًّا منهم يسعى بطريقته الخاصة به لتحقيق ما يرغب ويريد، وهذا ينطبق على كلّ الناس بمن فيهم الكتّاب، فماذا يطلب الكاتب وينشد عندما يتقدّم بكتاب ما إلى المطبعة أو دار النشر؟.. إنه يطلب الامرين، أو أحدهما كما سنرى. في هذا يتفق الكتّاب في شتى بقاع العالم، غير أنهم يختلفون وفق البلاد التي يعيشون فيها، فاذا كانت الدولة مُتقدمة وقارئة، كان وضع الكاتب كذا، وإذا كانت متخلفة، بين قوسين، كانت ظروفه كيت، اما اذا كان يكتب لأقلية فان امره يختلف كلّيًا.. وهكذا.. فيما يلي اتطرق الى ثلاث صور تجسّد وضع الكتاب في كل أصقاع العالم، بشكل عام.

الصورة الأولى، وضع الكاتب في الغرب:

يتّصف وضع الكاتب هناك بأنه عادة ما يكتب عمله الروائي خاصة، ويبذل أقصى ما يمكنه من تجويد، عبر المراجعة وإعادة الكتابة إذا تطلّب الامر، بعد الانتهاء مِن هذه المرحلة يتقدّم يكاتبه إلى إحدى دور النشر التي تروق له وتعجبه، فإذا ما قبلته، بعد معاينته والنظر فيه، وفيما يُتوقّع ان يثيره مِن أصداء تتمثّل في إقبال القراء عليه، قاموا بنشره بعد تحريره وبذل مجهود غير عادي من أجل أن يحظى الكتاب بالاهتمام المحتمل أولًا والإقبال على اقتنائه ثانيًا. وفي حال رفضته هذه الدار، عاود الكاتب الكرّة فأرسله إلى أكثر من دار، وفي حين قبول إحدى دور النشر إعداد الكتاب للنشر وطباعته، تبدأ مرحلة أخرى تتمثّل في تسويق دار النشر للكتاب ولفت القراء إليه، من أجل تحقيق الربح المرجو، ونحن إذا ما أرسلنا نظرة متمعنة فيما يُعانيه الكتّاب المبتدئون هناك، في العادة، فإننا سنلاحظ أنهم يواجهون العدد من العقبات والعثرات، حتى يصلوا إلى مرحلة الموافقة على إصدار الكتاب. في هذا المجال نشير إلى أن الكاتب يعرف أنه إذا ما حقّق كتابه نجاحًا حقيقيًا فإنه قد يرتاح طوال المتبقي من أيام العمر، مما يدرّه عليه كتابه من دخل دائم وسائل. يساهم في هذا كله الاقبال القرائي في الغرب، أما إذا لم يكن الكتاب ذو مستوى، انصرف عنه القرّاء وأهملوه.

الصورة الثانية، في عالمنا العربي المُحيط بنا:

ينقسم الكتّاب في هذا العالم اسوة بالعالم العربي، الى قسمين، فاذا ما كان الكاتب في بداية طريقه، فإنه يحتاج أولًا لأن يُثبت نفسه، حتى تغامر إحدى دور النشر المعروفة، وتُقدم على طباعته. لهذا تراه يتوجّه إلى هذه المطيعة أو تلك طالبًا منها طباعة كتابه، مُقابل مبلغ من المال. بعد طباعة عدد من الكتب التي تلفت الاهتمام، ويُعرف اسم الكاتب، قد تتعامل معه دار النشر بنوع من الليونة، غير أنها لا تُرحّب به تمام الترحيب، إلا إذا كان مشهورًا وسبق وحققت كتبه انتشارًا واسعًا، نسبيًا بالتأكيد. هكذا يجري الأمر في هذه الفترة بالطبع، أمّا في فترات سابقة، عندما كان الكتّاب قلةً في العالم العربي، فقد كان الكاتب عادة ما يتّفق مع دار نشر، بعد إثبات نفسه أيضًا، بحصوله على جائزة ما، أو باقتناع ناقد مشهور بما أنتحه وقدمه من مؤلفات، أما في الفترة الراهنة فإن الامر يختلف نوعًا ما، ذلك أن دار النشر عادة ما لا تغامر بطباعة كتاب قد يُخسّرها الكثير، لذا تراها تتعامل مع الكتّاب بقفازات مِن حرير وبحذر شديد. السبب في ذلك يعود أيضًا إلى قلة القُراء. وهنا في هذا العالم، يَطلب الناشر مِن الكاتب أن يكون قد أثبت نفسه، وبات الربح من وراء اصدار كتابه مضمونًا.

الصورة الثالثة، في بلادنا:

يُعتبر وضع الكاتب في بلادنا، وضعًا إشكاليًا ومن نوع فريد، فهو يندر أن يجد دار نشر قويّة ترضى بطباعة كتابه، خاصة الأول، الأمر الذي يحشره في الزاوية، كما يقال، فلا يكون أمامه من مفرّ، سوى أن يتوجّه إلى إحدى المطابع، أو دور النشر، التي نادرًا ما تخوض مغامرة إصدار كتاب دون ضمان مردوده ونجاحه، مهما كان محدودًا، وأن يعبّئ جيوبه بما تتطلّبه طباعة كتاب، ليقدّمها هنيئُا مريئًا إلى المطبعة أو دار النشر، هكذا يصدر الكتاب، غير أن صاحبه يواجه بعد صدوره، مُشكلة من نوع آخر، تتمثّل في توزيعه.. وفي ظل عدم الاقبال على الكتب في بلادنا، وتعويد الناس على تقديم الكتب إليهم مجّانًا، فإن الكاتب عادة ما يُضطر إلى توزيع كتابه مجانًا في هذه الأمسية أو تلك الفعالية الثقافية. نوع آخر مِن الكتّاب في بلادنا، يَعرف قوانين اللعبة وما ستوصله إليه مِن نتائج، عادة ما يبحث عن ناشر يُحسن إصدار الكتب بالشكل المُناسب والمقبول، فيخيره الناشر بين واحد من أمرين، احدهما أن يدفع مُقابل إصدار الكتاب، والآخر أن يقوم بتقديمه إلى إحدى المؤسسات المعنية بطباعة الكتب، مثل بايس، فإذا ما رضيت لجنة الفحص، عن الكتاب ووافقت على طباعته، على نفقتها الخاصة، قدمت المؤسسة التمويل السخي للناشر، فيقوم هذا بطباعة الكتاب، ويمنح صاحبه عددًا محدودًا مِن النُسخ، يقوم هذا الأخير بتوزيعه أيضًا مجّانًا على أصدقائه ومَن يتوقّع منهم شيئًا مِن التشجيع، في الاماسي والفعاليات الثقافية الأدبية أيضًا، وهناك نوع آخر مِن الكتّاب، ومعظم هؤلاء من الدارسين الجامعيين، عادة ما يتقدّمون باقتراح دراسات، سبق لهم وقدموها، ضمن دراستهم الجامعية أو قدّموها في أمسيات أدبية سبق لهم وشاركوا فيها. ويختلف هؤلاء عن باقي الكتّاب في بلادنا في أنهم نادرًا ما يقومون بالطباعة على حسابهم الخاص، ويتقدّمون بدراساتهم إلى دور النشر ذات العلاقة بالمؤسسات المعنية بتمويل اصدار الكتب، فتقوم هذه بطباعة ما يقدمه اليها أولئك، من دراسات في كتب فاخرة، ومِن المُلاحظ على هؤلاء أنهم يطبعون بالجُملة، ثلاثة أو أربعة كتب دفعة واحدة، وهم بالمُجمل لا يختلفون عن سابقيهم، في توزيع كتبهم في الامسيات الأدبية والفعاليات الثقافية، إلا فيما ندر.. فانهم يبيعون عددًا قليلًا مِن النُسخ. أما الكُتب المدرسية، فلها شأن آخر.. وحديث آخر، فهي الوحيدة التي تُربّح وتُريّح.

*كما ترى أخي القارئ، استعرضنا فيما سلف، أوضاع صور ثلاثة كتاب، كلهم يجهد وكلهم يكتب، مع اختلافات جذرية في أوضاع كلٍّ منهم، ففي العالم الغربي، تُوجد مساحات أكبر بما لا يُقاس، فيما يتعلّق بالنجاح الذي يُمكن أن يُحقّقه الكاتب في حال نجاحة، فقد أضحت كي رولنجز صاحبة هاري بوتر مثلا مِن الأغنياء الذين ينعمون بالحياة الهنيئة، الشهرة والمال، لقاء نجاح سلسلة كتبها، ويُهمني أن أشير هنا إلى أن الكثيرين من الكتّاب في الغرب، عادة ما ينصرفون عن الكتابة، إلى أعمال أخرى في حال عدم نجاحهم، أما في العالم العربي المُحيط بنا، فان الكاتب يُعاني حتى يصل، وتتمثّل معاناته هذه في أن دور النشر تُفضّل الربح المضمون وتترفع عن المغامرة، وكي يُحقّق الكاتب هناك، إبّان الفترة الجارية تحديدُا، نجاحًا ما، عليه أن يسلك طريقًا صعبًا، وأن يدفع الثمن تامًّا. وكلّ هذا يتمّ جرّاء قلة القُرّاء.. تلك القلة التي تخيف دور النشر وتجعلها تُقدّم رجلًا وتؤّخر أخرى قبل القيام بأي مُغامرة. أما وضعُ الكاتب في بلادنا، باستثناء مؤلفي الكُتب المدرسية المفروضة على طلاب المدارس فرضًا، فإنه وضعٌ مُزرٍ، ذلك أنه مِن الصعب عليه أن يُحقّق أية مبيعات إلا إذا تحوّل إلى تاجر، ونسي انه كاتب، وفي هذه الحالة أيضًا لا يوجد هناك ما هو مضمون، إن جُلّ ما يطلبه الكاتب في بلادنا، هو أن يُصدر كتابه، وأن يرضى بالربح المعنوي، ممثّلًا بامتداح عدد مِن الأصدقاء والمحيطين، أو بأمسية إشهار، إنه يفعل كلّ ما يُمكنه، بصورة عامّة، مِن أجل إيصال رسالة آمن بها، أو مِن أجل الشُهرة، وعادة ما لا يُحقّقها إلا مؤقتًا. مسكين.

***

ناجي ظاهر

 

في ظهيرة خريفية من أيام تسعينات القرن الماضي، كان شارع المتنبي يتنفس بصعوبة، ينوء بثقل الحصار، الشارع بين موت وفراغ موحش، يعتاش على ما يحمله الأبناء من مكتبات آبائهم الذين توفوا غارقين في الحزن، كانت الكتب كالأشلاء تئن من الجوع معروضة على أرصفة الشارع، من يشتري الكتب، وبغداد نهر طافح بالأسى؟

الظهيرة بساط يخدّشه الضوء والظل، تسطع الشمس حيناً وتتوارى خلف دكنة الغيوم، ضوء باهت على أجزاء المدينة، الأجزاء الأخرى كامدة، واجهات شاحبة، كان حسن يخطو ببطء محاذياً باعة افترشوا أرض الرصيف، وآخرون يمرون بصمت. يتفحص وجوه البائعين، كمن يفتش عن وجوه غابت منذ عقود من الزمن، يبحث عن ظل قرب ناصية الدار العصرية للنشر لمح وجهاً لا تخطئه الذاكرة:

ـ مرحباً كاظم، أنا غير مصدّق أن أراك بعد هذه السنين الطويلة التي مرّت!

التفت الرجل ببطء، نظر إليه بعينين غائمتين، ثم عاد وجهه يتفحص عناوين الكتب المفروشة بعناية على الرصيف.

كاظم ! قالها حسن مرة أخرى بشيء من الرجاء، لكن الآخر ظل صامتاً، لم تصدر عنه أية إشارة تدلّ على أدنى استحسان أو قبول لتحية غير متوقعة، تحرك قليلاً، ثم غاب بين الزحام.

أعرف كاظم جيداً، هو بلحمه ودمه، انحناءة ظهره، سائق مطبعة الرواد اليساري، كان حريصاً على أن يوصلنا إلى أبواب بيوتنا آخر الليل، لا نغادر المطبعة إلا بعد الاطمئنان التام على اكتمال المرحلة الأخيرة لصفحات الجريدة المعدّة للطبع بشكل نهائي، كانت الطرق خالية، وصامتة مثل قلوبنا المتعبة، ساكنة أشبه بسكون وجه كاظم الأسمر، لكن الحديث معه لا ينقطع، كانت لديه أحلام، يتحدث عن العدالة، وطريق التطور اللارأسمالي صوب الاشتراكية، يتحدث عن عالم بلا استغلال، عالم قرأ عنه في الكتب والنظريات، وحلقات التثقيف الحزبي، في درج سيارته يحتفظ بكتاب عن تجربة المجر، والآخر عن الصراع الطبقي في البرتغال، تآكلت حواشي الكتابين وعلا غلافهما التراب، لم يكمل دراسته، لكنه كان يقرأ، قال ذات مرة:

هذه الكتب تعطيني أمل في الحياة.

كان كاظم يأخذ في السر كأساً من المستكي آخر الليل كي يقود السيارة بأعصاب باردة كما يزعم ويواصل الضحك. ثم يعود إلى بيته مع أول ضوء من خيوط الفجر.. لينام.

كنا نحفظ من ذكريات تلك الليالي الكثير، بينما كانت تلوح في ليل العراق سموم راعفات، وتتسع فيه ساحات زنازين الطغاة.

تفرقنا وراح كل منا يبحث عن ملاذ، كانت البلاد تضيق، والخوف يكبر، والبطش لا يرحم، ودّعنا كاظم  ذات ليلة، بعينين فيهما حزن وأسى. ودّعنا وفي داخله نار لم تطفئها السنين، وأحلام أوسع من المدينة التي تضيق بنا يوماً بعد يوم.

كان الوداع قصيراً، لكنه ثقيل، اختصره بعبارة واحدة:

ـ إذا غبت لا تسألوا عني، الحي منكم يذكرني بين الحين والآخر.

لم يفصح عن أي شيء، إلى أين يا أبا جواد ؟ إلى أية أرض ستقودك خطاك المتعبة، إلى أي مقام، وأية وهاد ستعبر؟ اختفى كما يختفي الحلم عند أول استفاقة.

في ظهيرة أخرى من تموز جلس حسن إلى جوار رجل يرتدي نظّارات داكنة، وقميص بأكمام طويلة، وجسد الرجل يتصبب عرقاً من شدة الزحام في باص المصلحة الأحمر ذي الطابقين، في يد الرجل اليمنى جريدة مطوية كان يحركها  بسرعة يميناً وشمالاً من أجل نسمة هواء تخفف من لهب الصيف الذي يلفح الوجوه.

ـ مرحباً كاظم! قالها حسن هذه المرة بثقة عالية، وهو يضع يده على كتفه.

لكن الرجل انتفض كمن لدغته ذاكرته:

ـ أخي أنا لست (كاظم) أنت متوهم! هذا غير بلاء! ابتعد عني، ماذا تريد مني تلاحقني؟ أرجوك كفّ عن السؤال، أنا لا أعرفك.

سكت حسن مبهوتاً، وهو يرى الرجل ينزل مسرعاً، عند أول موقف لباص المصلحة، كأن شيئاً يطارده، يريد الإمساك برقبته.

في ربيع عام 2003، كانت الديكتاتورية قد سقطت كتمثال على رؤوس العابرين، التقيا حسن وكاظم في مبنى الجريدة، كان لقاءً جنونياً، تعانقا بشدة، غرقا بالبكاء والضحك.

قال كاظم  وهو يمسح دموعه بكمّه:

ـ كنت أخشى حتى من اسمي يا حسن، صار ظلي يلاحقني، كنت في كردستان، يقتضي الواجب الحزبي النزول إلى بغداد  بين الحين والآخر في احتياطات عالية السريّة . أضحك في سري، وأنت تلحّ عليّ في السؤال (لا تفك ياخة مني)، ليس أمامي خيار، إلا أن أنكرك، وأنكر حتى مذهبك، أي خطأ أرتكبه يقودني إلى مقصلة الإعدام كما حصل مع رفاق لي آخرين. هربت إلى الجبال، والتحقت بالمقاتلين، كان الجبل بالنسبة لي وعد بالخلاص. واجهت الموت أكثر من مرة، وها أنا بلحمي ودمي، أمامك بلا خوف.

ضحكا معاً، واستعادا ذكريات جميلة، وأخرى حزينة عن شركاء لهما غابوا، صمت كاظم قليلاً، ثم عاد يتحدث بألم وهو يحمل حنيناً غامضاً إلى صوت المطبعة القديمة، وصوت محرك سيارته التي صادرها أمن النظام:

ـ ظننت أنني سأعود بطلاً.. لكن الوطن نسي البطولة. ثم ردّ حسن مبتسماً:

ـ وظلك بقي في قلبي، يمشي معي كل يوم.

ـ في أحد الليالي، قال لي رفيقي المقاتل وهو يحتضر: كاظم... في يوم ما ستعود، لا تبحث عنّا، نحن دفنّا أحلامنا تحت الثلج، احفظ أسماءنا فقط! كنت أبكي يا حسن! ها أنا أبدأ مرحلة جديدة في حياتي، اسميها " مرحلة البحث عن الخبز" لم أجد عملاً يليق بي، أو يسد رمقي، لا أحد يسأل عني، لا مطبعة تنتظرني. ولا …!

ـ ما الحل يا صديقي؟ سأله حسن ولسانه يتعثر بالكلمات.

ـ عدت إلى وطن غريب لا شيء أملك فيه، حتى الأحلام تلاشت، والأحزاب تقاسمت السلطة، تقاسمت الغنيمة، ليس أمامي سوى زاوية صغيرة في ساحة الميدان، اتفقت مع مالكها أمس، أحولها إلى دكة لبيع الشاي  للفقراء، لقاء أجور بسيطة.

يرتدي كاظم  قرب سوق الهرج معطفاً شتوياً قديماً رغم الحر، يجلس على صندوق خشبي ويحدًق في المارة طويلاً، كأنه يرى فيهم نسخاً متكررة من نفسه.

زبون يطلب شاياً:

استكان شاي ثقيل، لا تنس النعناع!

كاظم: النعناع لا يخفي مرارة الحقيقة.. لكننا نحاول.

الزبون متضايقاً: شنو عمي ؟!

ـ لا شيء اشرب شايك بالهنا.

في يوم ماطر، يجلس كاظم وحده، لا زبائن، لا صوت إلا المطر. هو بصوت مسموع:

حسن.. لو جئت لي غداً، وقلت لي مرحباً كاظم، سأردّ، أعدك... سأردّ، لكن لا تتأخر، فأنا بدأت أنسى شكل الحلم!

بعد أيام، غاب كاظم، بقي صندوق العدّة وحده، وبقايا شاي متجمد في قعر الاستكانات.

***

د. جمال العتّابي

عند ملتقى الطرق، كان تقاطع (باتا) يعجّ بالحركة، أربعة شوارع تتقاطع، كأنها شرايين تضخّ الحياة في قلب المدينة. ليتني الآن أرى شارع المشتل الذي افتتحه الزعيم، من ذاك الملتقى يبدأ الشارع، الآخر الذاهب إلى الشمال الغربي نحو الحرية الثانية، والقادم من مطحنة الچلبي مدخل المدينة الرئيس. ماراً بدور العمال والموظفين، وصغار العسكر.

في التقاطع مفاتن كثيرة، فضاؤه الرحب أحاله إلى موقف باص (الأمانة رقم 25)، وسيارات النقل، ذاكرة أحذية (باتا) جزء من سيرة المدينة أيضاً، في خمسينيات بغداد، كانت خطوات الفتيان متشابهة بأحذية باتا الرياضية البيضاء، كانت رخيصة ب (الفلسان)، لا أحد يتفاخر بحذاء مستورد، ولايلهث وراء ماركة أجنبية، أصحاب الرواتب فقط يلبسون أحذية بصناعة محلية (دجلة، زبلوق، حرّاق، كاهچي)

أصبحت الساحة مقصداً لكل أبناء المدينة، هناك أقام المصوّر صلاح الجاف مملكته (ستوديو الشعب) في بداية ستينيات القرن الماضي، لم يكن مجرد مكان، بل محراب ضوء ومرآة حلم، تزيّن واجهته الزجاجية اللامعة صور الصبايا والشباب، بالأسود والأبيض، تضفي قدراً وافراً من الألوان والضياء والمهابة على الساحة المفتوحة على القلوب التي تخفق بالحب. على بعد خطوات من المكان يطلّ بيت الصديقين فاطمة المحسن وشقيقها فرات، بيت يختزن وداعة اللقاءات، يتسع للحوار والضحكات والذكريات.

الوجوه لها حكايا، عيون مشعّة بالضوء، صور للعرسان، لطلاب بزي التخرج الجامعي، صورة للاعبي الكرة والمغنين، والممثلين، صور لطلاب الكلية العسكرية، صورة العائلة: الأب في الوسط، الأم على اليمين، الأطفال مصطفّون كزهور الحديقة. صورة الصبي ببدلة ضيقة وربطة عنق حمراء رفيعة، يضع يده في جيبه كأنه نجم سينما.

كل صورة لها حكاية، تراقب المارّة بعيون صامتة، تستدرج فيهم رغبةً أو حنيناً، منهم من يتوقف، ومنهم من يلتقط منها الومضات السريعة، تاركين الوجوه في أسرارها الأنيقة خلف الزجاج تروي لمن يعرف كيف يصغي: أن الحرية كانت مدينة تصنع الحب والمبدعين، والبطولات، قبل أن تصاب بالخرس.

صلاح شاب وسيم، (يحمّض، ويرتّش، ويطبع ويعرض)  وجهه من ضوء، لا ترتجف يده حين يوجّه الضوء نحو الوجوه، ويعدّل من تسريحات شعر الفتيات، كان يحرّك عدسته باتجاهات عدّة كما لو كان يعزف مقطوعة من الخجل والدهشة. ليلتقط صورة تحمل كلّ ألوان الجمال في الحياة.

كان كاكا صلاح يجمع بين وسامة ممثلي السينما وهدوء المصورين المحترفين، يقف خلف الكاميرا أشبه بمن يقود اوركسترا من الضوء والظل، شعره أسود كثيف، يرتدي قمصاناً بيضاء مكويّة بعناية، أكمامها مطويّة حتى منتصف الساعد، وبنطالاً أسودَ، تنبعث منه رائحة الكولونيا (الريف دور) المستوردة.

لدي اعتقاد أن كل شباب الحرية مرّوا من هناك، كانت وجوههم نضرة كالماء، وضحكاتهم حرّة، وثيابهم نظيفة بلا تكلّف. يقيمون احتفالهم تحت الأنوار الكاشفة،

وهم يرددون: “من لم يصوّره صلاح لم يُولد بعد في الحرية”. كان الاستوديو نظيفًا كقلب صلاح، عابقًا برائحة الماء الممزوج بكيماويات غسل الأفلام. يا له من جمال! تسريحات البنات متشابهة، كن يدخلن بخطوات خجولة، فيتناثر حول وجوههن الضوء،

شَعْر طويل مصفوف بعناية، مدهون، مشدود إلى الخلف بشريط ساتان ابيضّ أو وردي، يتشبهن بتسريحة الممثلة نادية لطفي في فلم الخطايا.

ضفائر مربوطة بشرائط ملونة، بأناقة وأنوثة، وتموّجات ناعمة تنحدر على الكتفين كأسرار،

وغُرّة كأنها موجة على جبين تنسدل على جانب منه خصلة سوداء أنيقة.

والشباب؟

يا لسحر (البُكله) التي ترتفع فوق الجبين، شعر الرأس مدهون بالكريم (الياردلي)، لمعانه كان علامة فارقة، وقمصانهم مكويّة بعناية، وبنطلونات تشي بأنّ الأم سهرت الليل تكويها على لَهب خافت.

كان الشباب متأثرين بممثلين مصريين (كمال الشناوي، عبد الحليم حافظ، رشدي أباظة)، يتشبهون بتسريحات شعر الممثل الأمريكي (جيمس دين)، شعر متوسط الطول، مرفوع قليلاً من الأمام، وبخصلات (مارلون براندو) المسحوبة إلى الخلف، تأثروا أو جربوا تسريحة شعر (إلفيس بريسلي)، رفع الشعر إلى الأعلى.

كانت الحياة نفسها تمرّ من أمام الاستوديو، تسلّم عليه، وتبتسم. في تلك اللحظة، كان كل واحد يضع قلبه في الصورة، الابتسامة صافية بلا رياء، والنظرات واثقة من الغد، في كل الوجوه هناك شيء واحد لا تخطئه العين: ذلك الصفاء الذي لا يعرف المساحيق الزائدة، أو صالونات التجميل الباذخة.

البيوت قريبة، والقلوب أقرب.

الطرق نظيفة، بلا ضجيج. كانت المدينة تعرف كيف تُحسن الإصغاء، كيف تحيي الأصوات في ذاكرة الحيطان.

ثم، مرّت السنوات مثل إعصار صامت. شاخ صلاح، ثم هاجر،الكاميرا صمتت. الصور بهتت.

الضوء الذي كان يحيط وجوه العاشقين بدأ يتلاشى.

الخراب بدأ يتسلل.

ليس فقط إلى الجدران، بل إلى الأرواح.

المدينة التي كانت تنام على صوت ضحكات الشباب،

صارت تصحو على صدى الرصاص والخوف.

أحياء بغداد تمزقت، كأن يدًا غريبة أعادت ترتيبها بالمقلوب.

الحرية… ما عادت كما كانت.

كل شارع فقد اسمه، وكل زاوية فقدت دفأها.

ستوديو الشعب، ذلك المكان الذي كان يوثق الجمال،تحوّل إلى نقطة نسيان في خريطة موجوعة.

كأن كل الصور التي كانت فيه، حزمت حقائبها، ومضت.

***

جمال العتّابي

…………..

أود أن أقدم جزيل شكري وامتناني للصديق العزيز مهدي الطعمة الذي أفادني بمعلومات تفصيلية عن ستوديو الشعب، مع عدد من الصور، اتمنى له موفور الصحة ليواصل مشروعه النبيل في توثيق تاريخ (العمارة الإنسانيّة) الحرية.

 

قال أمين إنّ شذى روض الحبيب فاح، مذ نقّش الهوى أخضره بالأفراح، وإنّ نبعه قد صفا وراق، مذ هَمر عند حياضه الدموع والأشواق. وإن هواه حلوٌ مر، عَسيرٌ ومطرّزٌ باليُسر. زُلاله عذبٌ ثجّاج، وموجه صاخبٌ أجّاج. وهذا خبرٌ تعجز الحال عن ذكر بيانه، وبيانٌ تاهت العقول في إتيانه. قد تجلّت سماؤها، وتنقلت أفناؤها، حالٌ إن قام خطيبها بشرحها فَضَح وافتضح، ووديعةٌ إن طلبها صاحبها جرح واجترح، ورأيٌ كلما صُفِّي كُدِّر، وكلما عُرِف نُكِّر، وأمرٌ في الجملة لا يُنادي وليده، وسرٌّ قوله عناء، ومعناه هباء، وما لي من مدّه وجزره إلا غثاؤه. فقد أبكتني زلّته دمًا، وأوردتني عثرته سقمًا، وقتلتني عبرته ندمًا وسدمًا.

والهوى، يا قارئي، شَرَكٌ كما قال تميم*، والهوى ظلّيمٌ لا ندري بحضرته ما نصنع، ولا نعرف من جوره إلى من نفزع. نتنفّس الكلام بحضرته تنفّس المملوق، ونختلج به كما يهذي المألوق. وأنا وإن أنكرتُ وهربتُ ممن ذهب على وجهه، وانقلب الهوى عليه، وتلَا صبابات الهيام بوجده، فقد اختلط عندي الإفصاحُ باللّكنة، وتلاقى النعيم بالمحنة، والتبست الغباوة بالفطنة، وأشرقت الأكوان بالأشباح، وشرّفت الأعيان بالأرواح. فلما هجتُ ولهًا، وغبتُ علهًا، جعلت الهوى مركبي، والهدى مطلبي، وتشاغلت بعلم يصحُّ بكل بيان، وحجّة تضحُّ في كل أوان، وصرت أكتمُ شجوي في كلامي، فعمدت إلى الحكمة وجعلتها أمامي، وإلى الوجد فصيّرته إمامي، وأجريتُ أحتجب عن الجهل بالحلم، وأغضُّ عن الفهم بالوهم، وأنثر الذكر بالفكر، وأمزج الصحو بالسُكر. فإن الدنيا، والله، من غير غرامكم موحشة، وقلوب الخلائق إن قرأت حرفي عن غيركم مستوحشة، فعليكم سلام الله ما اقترن مساءٌ بصباح، واتصل وهجٌ بمصباح.

“أستغفر الله إلّا من محبتكم

فإنّها حسناتي يوم ألقاه

فإن زعمت بأن الحب معصية

فالحبُ أحسن ما ألقى به الله”*

٢

قال المسكينُ السجينُ في ماضيه: "نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى، ما الحبُّ إلا للحبيب الأول".. ولم يتنبه هذا الأسيرُ، إلى أن الحب هو ما يكون للمحبوب الحالي، وما سواه ليس حباً وإنما ذكريات. وكذلك الحال في العشق، فهو لا يكون إلا بالوصال والمواصلة وحُمّى الحس متتالية النوبات. أما الهيامُ، فهو يطوي طرفي الزمان، فلا يبقى معه معنى لأولٍ أو أخير.

فقه الهيام-يوسف زيدان

٣

يا صاحب المقامات، احفظ عنّا، واسمع منّا وإذا رأيتنا فالحكمة ماء من نبعك، فإجره أين شئت، ليثبت به ما أردت، واعلم أنّ لكل شيء قلبًا، وقلب القلب شوقه المدفون. مبلغنا معك أن نزيل همك فتطمئن. إذا جعل الحبيب غيبته عنك مسرحًا لك فاذكره فيها. فإن أنت لم تدرِ من أنت منه فلا أنت منه ولا هو منك. واعلم أنّ أوّل الوجد رفع الحجاب، وحضور الفهم، ومناجاة السر، وإيناس المفقود، وهو فناؤك أنت من حيث أنت. وإذا نظرت فَارْحَمْ، وإذا أقبلت فَتَكَرَّمْ، وإذا دنوت فَجِدْ، وإذا حفظت فَجُدْ. وإن لفعَك الهوى بهبّات نسيمه، فلا تركض فزعًا، فإنّ بقاءَك نازحٌ عن وفائك، حالٌّ بولائك، فانٍ ببلائك، ومستغيثٌ إلى ربّك من رعبِك وفنائِك. وهذا حديثك إذا سكتّ، وهذا شأنك إذا نطقت. وقُلْ: كيف المنجى من هذا الفضاء الغاصّ؟ وكيف الخلاص ولات حين مناص؟ وهل الرجوع بعد هذا كله إلا إلى إطراق يلهب الأحشاء ويذري الدموع، ويراشق الإشارات بإنشاء حركة بين الإجابة والتمنّع، بلفظ مداره على الزخرفة، ومجازه إلى السفسفة. يخاطب باطنًا جوهر الزمان ويبكي سرًا في سبيل مصالحته؟ ولا نرى في مناجاتك إلا هبّات من رام الخير عنها تاه، ومن حدّث نفسه بالظفر فيها شاه، وما هي إلا كتمان في وجدان، ونكرة في عرفان، وعرفان في حدثان. فالزمان لا يرسمها سبحًا، والخاطر لا يجتازها سنحًا، والمراد لا ينقاد لها حزنًا، والدعوى لا تمرّ بها وهمًا، وأنّى لك ذلك؟ ومهجتك تذوب خوفًا من فراقه وآمالك تتغلغل إلى ما لا تصل إليه. فهل يبقى يا صاحبي بعد هذا ترنّم بلحن، أو تنغّم بشجو؟ يا أمين، لا طمأنينة إلا في حب، ولا معرفة إلا في طمأنينة. كل حب لا يقود إلى طمأنينة لا يعوّل عليه. وعلى هذا تطول زفرات الزافرين وتسكب عبرات المتألمين، وتسهر عيون المشتاقين. وذلك شأنٌ لا يلوذ به نبأ، ولا يطور فيه حلم، ولا ينقّر عنه بأين، ولا ينحب فيه آخر الليل بلماذا، ولا تستعمل فيه “لم”. وهذا يا قارئي خبرٌ من بصره أبصر، ومن أُشهد عليه شهد، ومن شهد عليه استشهد، ومن جُلي عنه عاين، ومن خُصّي به تلذّذ. ومن شرب من حياضه بُرِئ. وهذا شوقٌ من تطلع إلى جنباته احترق، وشوِّق في محلّه واشتاق، وهزّ إليه فاهتزّ. ومن عجز عن إتيانه تمنّى، وسأل عنه فتأوّه، وسمع جميل الوصف فحنّ إليه، وتلذّذه فجُنّ. وتدلّه بوهمه وناغاه فنزع، وتولّه بوجده فتوسّع، وغاية قولي، رغم زخرفته وإطنابه، أنّني هويت وانتهيت.هل قصد سيد درويش أنّ العاشق انتهى عند محبوبه وامتزج معه، أم كان مجرد قرار أسكت به العذّال؟ أ قصد العذول أم الزمن؟ هل يقصد أنّ الزمن قوة خارجة عن إرادة العاشق حاكمة على تجاربه بالذبول أو التحوّل، محاولةً تذكيره بحقيقة المعشوق وتباريح الحب وسيرته المؤلمة؟ ولا أرى أن الزمن يعذل بالكلام، وإنما بالمآل. ولا أراه يعذل باللوم بل بفرض مساراته، معيدًا سحق العاشق وتشكيله بجعله يراجع نفسه، يختبر الفقد والندم،وربما ينتهي إلى الجنون.

أنا وحبيبي في الغرام…

ما فيش كدا ولا في المنام.

أحبه حتى في الخصام،

وبعده عني يا ناس حرام.

ما دمت أنا بهجره ارتضيت،

مني على الدنيا السلام.

٤

"المحبة هي صفاءُ الود مع دوام الذكر، لأن من أحب شيئًا أكثر من ذِكره".

سمنون المُحب

٥

محاسنُ الوردِ تنثرُها ألوانُكِ، وعبقُهُ حسنُ طلعتِكِ، يُستضاءُ بها بينَ الشُّهودِ، ويسجدُ لها الزَّمنُ، وتترنَّحُ أمواجُهُ. لوجهِكِ حسنٌ تتلاقى من جلالتِه الأرواحُ، وتدورُ في أفلاكِها فيتكوَّنُ الوجودُ، وينعدمُ الموجودُ. وتطوى الأنفسُ فلا وصَلٌ يُحيي ولا هجرانٌ يُبيدُ.

لجمالكِ آيةٌ في الصمتِ يرتّلُها من ماتوا ظامئين دونَ حدِّ الماءِ، يتلطّفُ في حضرتِكِ القولُ وتترتّلُ آياتُهُ في زوايا العشقِ ومجالسِ الهوى. توقدُ المجالسُ بجمرِ الشوقِ فيحرقُ قلوبَ المريدينَ، ويوجّر جفونَ الحيارى بعمرٍ فانٍ لا يمرُّ.

وأنا يا نبعي نورٌ، كفّ عن الابتهالِ وصلاة ليسَ لها غفران. مثل ملكٍ معزولٍ يحلّقُ وحدهُ مشنوقًا في الأعالي، والذبابُ حولَهُ يدور، معلّقًا ثاملًا من تزاحمِ الراياتِ. أنا أرقك المزمنَ وصلاتُك في ليالي القدرِ، رجفةُ صوتِك في ذيلِ الدعاءِ، قدركِ المحتومُ المضمرُ في دعواتِ أمكِ، وساوسُك التي تهجمُ آخرَ الليلِ، عارفةً أنّ قوةً عظمى تهزُّ كينونتكِ كلّما هربتِ منها. أنا مغناطيسُ الهوى وفانوسُ الغرامِ، ارتجافتُكِ كلّما تتذكّرين أنّ شيئًا عظيمًا فاتكِ. أنا دمعةٌ حارّةٌ على خدٍّ عاشقٍ تحاولُ الفكاكَ من قبضةِ الزمانِ. أنا سفّاحٌ بارعٌ يعودُ إلى طريدتِه حيثُ التقاها أول مرةٍ مع أنّهُ قتيلُها لا قاتلُها. مثل تكبيرة في صلاةٍ باركها اللهُ في ساعةِ استجابةٍ، عُزفت على وترِ الرجوعِ وصارت شقيقةً للضوءِ ومنبعًا لأطيافهِ، مثل تائهٍ أعياهُ الطريقُ فأضاعَه،مثل زمانٍ صالحته في ليلةِ حنينٍ كتبتُ فيهِ مقامةً تقطرُ من رحيقِ السهرِ، حنينًا يشبهُ توقَ الماءِ العائدِ إلى متنِ غيمتهِ شوقًا إلى منبعهِ. مثل حلاجٍ خافَ من الهجرانِ حتى لا يصيرَ غائبًا محرومًا فانتهى به الحال مصلوبًا في شوارع بغداد. والويلُ يا هذه لمن يغيبُ بعدَ الحضورِ، متسليًا بظلماتِ أشباحِ الغيابِ، متناسيًا أشباحَ النورِ، والويلُ لمن يهجرُ بعدَ الوصلِ ولمن وقفَ عندَ الإشارةِ ولم ترشدهُ العبارةُ، والويلُ لمن ظنّ أنهُ يقدرُ على الزمانِ. فما تركَ من طريدةٍ إلا سحقَها، ولا دينًا إلا وردّه. لا يبلغُ كنهك أوهامُ العبادِ ولا حقائقَهم. يسرّحني ذكركِ في ميادينِ الحيرةِ، ويفتحُ عليَّ غمراتِ التفكُّرِ، ويوحشني عن العالمِ؛ ذكركِ وردٌ استهلكَ المحبّونَ فيهِ، واغترّ العذّالُ بأياديهِ. اختطفني مني على حينِ غرّةٍ، ومزجني بالملكوتِ هائمًا في الحضرةِ.تنهيدةٌ تعالت من صدرٍ صوفيٍّ تحيطُ بهِ البنادقُ وتحتشدُ حولَهُ السلطاتُ، فاكهةٌ للحُبِ قدّمها نزارٌ على مائدةٍ لا تسعُها الأراضي ولا السماوات.

(لا تهتمي في إيقاعِ الوقتِ وأسماءِ السنواتِ

أنتِ امرأةٌ تبقى امرأةً في كلِّ الأوقاتِ

أنتِ امرأةٌ لا أحسبها بالساعاتِ وبالأيامِ

أنتِ امرأةٌ تسكنُ جسدي قبلَ ملايينِ الأعوامِ

أنتِ امرأةٌ صنعت من فاكهةِ الحبِّ ومن ذهبِ الأحلامِ)*

٦

المحبّةُ إيثارُ المحبوبِ على جميعِ المصحوبِ، وموافقةُ الحبيبِ في المشهدِ والمغيبِ، واستقلالُ الكثيرِ من نفسِك، واستكثارُ القليلِ من حبيبِك.

محيي الدين بن عربي-الفتوحات المكيّة

٧

انشجَّ قلبي بالدعاءِ، وتجلَّى بالحمد. ناغيته على مهدِ الغرام، وصيَّرتُ من تهدُّجه حرزًا. رتَّلتُ أدعيةً للأملِ تتهالكُ فيها الأرواحُ وتفنى. تَسَلَّقتُ مآذن الوجدِ وأذّنتُ للفرجِ، همهمتُ بتمائمَ تتشكّلُ منها آفاقُ الخلودِ ولا تبصرُ لها نهاية. وأقمتُ للشوقِ صلاةً تنهى عن كربةِ البُعدِ وتأمرُ بالقبولِ والرضا. صيَّرتُكِ حرمًا لا يدبُّ فيه واشيٌ ولا رقيبٌ ولا يحلُّ به ظنينٌ ولا مريبٌ، ينتعشُ به العاثرُ ويتجدّدُ بنورهِ الداثر؛ مقامة* تردُّ بعتبٍ يتحرّقُ به القلبُ، ولطفٍ تحيا به الأرواحُ. تذوبُ منها الأكبادُ وتتعالقُ فيها الأماني. مجلسًا ممتلئًا بحديثٍ حلوٍ مع الحبيبِ، ليس لأحدٍ من تعريضِه وتصريحهِ نصيبٌ، يقظةٌ مقصورةٌ على الشوقِ إليكِ والوجدِ بك. فقد تركني الزمانُ متحرّقًا لوصلكِ، مشغولَ القلبِ به عاشقًا لفضلهِ، وأعانني على بعدِكِ بتسيارهِ. ولو لزمني لأفدته، ولو جزمَ عليَّ لطاوعته، فما رأيتُ مثلَ حسنِكِ زاده اللهُ ولا نقّصَه. ولستُ أدري علامَ حربي مع غيابِكِ، أَ لأنَّهُ ورَّثني حسرةً لا تفيء لي بها نعمةٌ؟ وهممتُ إلى حضرتهِ فسألته، ودنوتُ من محرابه وناجيته فقال، يا صاحبَ المقاماتِ، دعْ طريدَ الهوى حتى يتهادى في سُكرِه، ودعْ مقلِّدَ الحالِ حتى يمعنَ في نُكرِه. ودعْ فاطرَ السماواتِ حتى يُوصَفَ بذكرِه. وصارفْ نفسك في أنفاسِها وخواطرِها، وإن لم تقدرْ فاستأجرْ نائحةً تنوحُ عليك، فإنك في الأحياءِ ميتٌ. وانظرْ في ذاتِك تبلغُ حبيبَك، فأسرارُ الإنسانِ يا صاحبي في نفسهِ، وأسرارُ نفسهِ غريبةٌ بهيَّةٌ، لا تستوعبُ بتحصيلٍ ولا يُوقَفُ منها بتفصيلٍ، تسبحُ متمعنةً في منابعِ الزمانِ، ناظرةً على طولهِ، متعلمةً منه طولَ الاعتبارِ وشدةَ الاختبارِ.

زاغَتِ الأبصارُ يا نبعي حين سرحتْ نحوكِ، وارتدّتْ خاسِئة حين رامتكِ، وحارتِ الألبابُ حين فحّصتْ عنكِ وأمعنتْ في جوهرِ مكنونكِ.أنتِ حقيقةٌ غَفَلَ عنها محيي الدين، ووقفةٌ لم يبلغها النفريُّ.شطحةٌ لم يدركها أبو يزيد في معراجه، أملٌ دلَّه العرافين، ووهمٌ أكلَ الزهادَ، جنةٌ لا خطرَ لأهلِ المحبّةِ فيها، رقصةٌ مولويةٌ لم يكملها جلالُ الدين.نعمةٌ أزليةٌ تُوجبُ شكرًا أزلِيًّا يُصالِحُ الزمان.صالحت بيك أيامي، سامحت بيك الزمن، نسيتني بيك آلامي ونسيت معاك الشجن.هل يبدو الحبُّ قوةً وجوديةً تفرضُ سطوتها على الزمانِ وتطويه؟ لا أعرفُ ولا أظنُّ أنّ ثومة تعرفُ أيضًا.فالوقتُ يطوي تجاربَنا، يمحوها ويعيدُ تشكيلَ ذاكرتنا ومصيرَنا.وما أنا هنا إلّا لأجاريهِ أدلّله، وأقلّبه من قوةٍ ساحقةٍ إلى مجالٍ للتجاوزِ والتجديدِ.فالزاهدُ سيارٌ والعارفُ طيارٌ، ولا يدّعي أمينُ زورًا؛ لا سامح الله أنّهُ عارفٌ، ولكنّه يتوقُ إلى المعرفةِ ويحاولُ اكتشافها ويؤمنُ بحديثهِ هذا أنّ الأقدارَ تُؤخذُ من الأفواهِ.*

“أصلي صلاةَ الحبِّ وحدي جماعةً

تصفُ عيوني والفؤادَ إمام

يطيلُ فؤادي في الصلاةِ وصوتهُ

كأجملِ نبضٍ والبياتُ مقام

فيتلو عليهم سورةَ الهجرِ خاشعًا

لها سجدةٌ عندَ الوصالِ لزام

ويرفعُ عندَ الوترِ كفيه داعيًا

تلطّفُ بمن جارت عليه مرام

تردُّ عليه العينُ آمينَ فاستجبَ

ويسمعُ منها زفرةٌ وزكام”*

٨

كان قد قال آخر بيت من شِعره: اشتقت شوقا كاد يقتلني، ولم يكمل الشطر الثاني، لأن الشوق كان قد قتله بالفعل!

محمد المنسي قنديل-وقائع عربيّة

٩

قال الشيخُ الأرملُ إنَّ الوطنَ ليس البلادَ، وإنَّه سَكِرَ بدونِ شرابٍ، واجدًا في ثَملتِهِ أرواحًا تترنَّحُ في الضوءِ، وليلًا يسرقُ القلوبَ ويقذفُها إلى أكوانٍ بعيدةٍ، يُعيدُ تشكيلَ الأشياءِ ويُظهِرُهُ أحمقًا. أمعنَ في المسيرِ فوجدَ أشكالًا غريبةً، وأجسادًا متناثرةً، وأياديَ مبتورةً، وحضرةَ ذِكرٍ مهجورةً يُغطِّيها الدخانُ ويتراشقُ من جنباتِها الرصاصُ، وقبورًا فارغةً حُفِرتْ في الهواءِ. رأى الأرضَ عطشى، وأعناقَ الموتى منها تمتدُّ مُتلهِّفةً للماءِ. فركَ من شدَّةِ حسرتهِ يدَيْهِ، ورنا نحوَ سماءِ اللهِ الواسعةِ هاربًا من خرائبِهِ. كان عرَّافًا لا يعرفُ شيئًا عمَّا يرويهِ، ويحسبُ أنَّ النجمَ يُكلِّمُهُ ويرشدُهُ. نسي المراعيَ والذئابَ وكلابَ الحراسةِ، وجراحَهُ التي لعقَتْها الحشراتُ، وزغاريدَ العشيرةِ وهي تسحبُ رأسَهُ معصوبًا بالشوكِ والدمُ ينزفُ منهُ.

قال الشيخُ إنَّ الأيَّامَ خفافيش تُغَنِّي، وإنَّ الحزنَ سعادةٌ يتزيَّنُ بها الثكالى، وإنَّ البسمةَ لا تعني الأملَ، وإنَّ الهوى يلتهمُ ما مرَّ عليهِ، وإنَّ حواسَّهُ اشتعلتْ عندما بزغَتْ جثثُ زوجتهِ وابنهِ المحروقَيْنِ من الترابِ، ولعلَّهُ كذبَ على الزمانِ عندما قالَ لنفسهِ: لا يهمُّ، لأنَّ جسدَهُ الفانيَ يخوضُ حربًا خاسرةً. قال الأرملُ إنَّهُ استسلمَ وقرَّرَ الصلحَ لأنَّ النارَ أكلَتْهُ أيضًا.

قال أمينُ، إنَّ الهوى هائجٌ وهَّاجٌ، داءٌ لا يصحُّ معهُ علاجٌ، وإنَّهُ صَحْوٌ وسُكْرٌ، قَبُولٌ مُرصَّعٌ بالنُّكْرِ. قال أمينُ، إنَّ شذى روضِ الحبيبِ فاح، مذْ نقَّشَ الهوى أخضرَهُ بالأفراح، وإنَّ نبعَهُ قد صفا وراقَ، مذْ هَمَرَ عندَ حياضِهِ الدموع والأشواق.

***

أمين صباح كُبّة

..........................

١- حذاري يا صاحبي إنّ الهوى شركُ، تميم البرغوثي

٢- الأبيات للعبّاس بن الأحنف

٣- فاكهة الحب، نزار قبّاني

٤-الحسين بن منصور الحلاج

٥-المقامة في هذا الموضع جاءت من تأنيث المقام (كل مكان لا يؤنّث لا يعوّل عليه)

٦-محيي الدين بن عربي

٧- أبو يزيد البسطامي، والشطحة مصطلح صوفي أصله التباعد والاسترسال في الخيال.

٨-محمد بن عبد الجبار النفري،والوقفة هي رؤية الأشياء والكون من منظور يفوق كلّ علم بشري وكل معرفة صوفيّة إذ أنها تأتي من الحضرة الإلهية فحسب فالله هو الذي يجعل عبده يقف في الوقفة.

٩-جلال الدين الرومي

١٠-اشارة الى حديث (أقداركم تؤخذ من أفواهكم)

١١- الأبيات لشمس الدين التبريزي

 

عن رائحة التمر، وعن ألوان الطين، عن الأساطير التي ما زالت تتنفس في أزقة الأرض المالحة، في تلك الأراضي التي تحفظ الذاكرة.

الحكاية الشعبية كامرآة للذاكرة والروح في جنوب العراق تحت مجهر النقد الثقافي.....

تُعد الحكايات الشعبية في جنوب العراق جزءًا أساسيًا من التراث الأدبي والثقافي، فهي ليست مجرد قصص تُروى للأطفال أو للتسلية، بل انها مرآة للهوية الاجتماعية، والقيم المجتمعية، والأساطير المحلية، إذ تحمل هذه الحكايات عناصر متعددة من الواقع والمعيش اليومي، وتعبّر عن الصراعات، الانتصارات، والمواقف الإنسانية التي عاشها الناس عبر القرون .

ضمن هذا السياق، يكون الأدب الشعبي وسيلة لفهم التجربة الثقافية الجنوبية بطريقة حيّة وملموسة، إذ تضمر كل حكاية رموزًا وطبائع المجتمع الذي أنتجها.

تتسم الحكايات الجنوبية بأسلوبها السردي الشفهي، وتقوم على التكرار، الإيقاع، واللغة المبسطة، ما يجعلها سهلة الحفظ والنقل من جيل إلى جيل، ومع ذلك، فإن هذا الشكل الأدبي لا يقتصر على التسلية فحسب، بل يفتح المجال للتحليل النقدي من منظور ثقافي: كيف ينقل السارد القيم الأخلاقية، كيف يُوظف الأسطورة لتفسير الظواهر الطبيعية، وكيف يُظهر الصراع بين الخير والشر في إطار مجتمع محدد؟ هنا يظهر دور النقد الشعبي وغير الرسمي، حيث يقيّم المستمعون أو المشاركون في السرد جودة الحكاية، من حيث القدرة على إيصال العبر والمعاني، ومدى ارتباطها بالخبرة الحياتية الواقعية.

ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل تحمل الحكايات الشعبية في جنوب العراق أبعادًا رمزية وفلسفية، فالشخصيات، سواء كانت بشرية أم خارقة للطبيعة، تمثل طبائع إنسانية أو قوى طبيعية، وتقدم رؤية متكاملة عن كيفية تعامل الإنسان مع البيئة، المجتمع، والقيم الدينية، ورغم بساطة الحكايات، فإنها تحتوي على مستويات متعددة من المعنى، ما يجعلها صالحة للتحليل النقدي الأكاديمي والفلسفي، وكذلك للقراءة الإبداعية التي تتيح إعادة إنتاج النصوص بأساليب حديثة.

ومن خلال دراسة الحكايات الشعبية الجنوبية يمكننا أن نفهم دور المرأة والطفل في الثقافة المحلية، حيث تظهر بعض الشخصيات النسائية كـ"حارسات للحكمة"، بينما يظهَر الأطفال كـ"شهود على المعاني الأخلاقية"، وهذا يؤكد على تفاعل المجتمع مع أفراده عبر التقاليد الشفوية، وتوضح الحكايات آليات الاستمرارية الثقافية، إذ لا تختفي القصص بمجرد انقضاء الزمن، بل يتم تعديلها وتكييفها وفق المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما يجعلها نموذجًا حيًا للدينامية الثقافية في الجنوب العراقي.

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن الحكايات الشعبية في جنوب العراق تشكل نقطة التقاء بين الأدب النقدي الشعبي والأدب الأكاديمي، فهي تقدم مادة خصبة للباحثين والدارسين لفهم كيفية بناء المجتمع لذاته، وكيفية نقل القيم والمعارف عبر الأجيال، وتبعا لهذا المنطلق، يمكن اعتبار الحكايات الجنوبية ليس مجرد تراث ثقافي، بل أداة نقدية حية تساعد على دراسة العقل الجمعي، والخيال الثقافي، وأبعاد الفعل السردي في المجتمع.

***

د. نسرين إبراهيم الشمري

(قصّة قصيرة تُفلسفُ سيرةَ الْحاكِي في قبْضةِ أيّامِ الأسبوع)

- الْأحَدُ ...

يُضِيءُ الْأَحَدُ دَمِي بِالْجُنُونِ، قَبْلَ أَنْ يُوقِظَنِي وَرْداً غَجرِيّاً فِي سَدِيمِ الْفَجْرِ الصَّامِتِ، مِنْ أُرْجُوحَةِ لَذِيذِ الْوَسَن. يَلُفُّنِي فِي عَبَاءَةِ الْاِسْتِرْخَاءِ الْإِضَافِيّ، ويُعْلِنُ فِي وَجْهِي أَنَّ النَّهَارَ سَحابَة، وَأَنَّ الْعَرَقَ مَحْظُورٌ، وأَنَّ الْأَرْقَامَ مُلْغَاة...

شَيْءٌ مِنْ فَوْضَى الْأعْضَاءِ تَعُومُ فِي تَهَافُتِ الْوَقْتِ وَالْوَقْتُ يُهَرْوِلُ فِي اتِّجَاهِ الْمُتْعَةِ المغلّفة بالسَّرَابِ. وفِي عُجَالَةِ الْعَاشِقِ الْيَائِسِ، تَرَاهُ يُقَلِّصُ مِنْ نِسْبةِ الضّوْءِ كَأنّهُ عَلى مَوْعِدٍ خُرافِيّ مَعَ أنْثى مَجْهُولَة .

- الاِثْنَيْن ...

يَدْعُو الاثْنَيْنُ دَمِي إِلَى الدُّخُولِ فِي لَعْنَةِ الزِّحَامِ. كُرَيَّات بَيْضَاء وحَمْرَاء تَتَنَازَعْنَ الْمَسافاتِ. وتَتَعَلّمْنَ الْمُرُورَ الْمَمْنُوعَ، مِنْ تَعَثُّرِ الاِنْسِيَابِ إِلَى تَهَجِّي كلِّ أشكالِ التَّوَتّرِ. تَتَفَقَّدْنَ الْخَطْوَ، الْتَهَمَهُ الْأَمْسُ وامتصّهُ الضّبابُ. نَسِيَ شَكْلَهُ أَوْ كَاد.

تَأْتِي الرُّوحُ، حَكِيمَةً، تُهَدْهِدُ جُثَّةَ الْكَلامِ تسْتَجْدِيهَا قِطَافَ بَكارَاتِ الْيَقَظَةِ والْيَقَظَةُ عَنْقَاءُ، مَا زَالَتْ لَمْ تُدْرِكْ رَمَادَ النَّهَار. والنَّهَارُ كَائِنٌ كَسُولٌ يَتَثَاءَبُ فِي فَنَاجِينَ صَامِتَة، لَا قَاعَ لَها ولَا بُنّ.

- الثُّلَاثَاءُ ...

يَدْلِفُ الثُّلَاثَاءُ إِلَى دَمِي، مِثْلَ نَشَّالٍ ظَرِيفٍ مَاهِرٍ. يَسْرِقُ مِنِّي آخِرَ حَبَّةِ رَمَادٍ، ويُعِيدُ لِلطَّائِرِ آخِرَ رِيشَةٍ كَيْ يَسْتَقِيمَ الْاِشْتِعَالُ فِي الْأَجْنِحَةِ. تَاْخُذُ الْأَوْرِدَةُ شَكْلَ الْوَرْدَة. تَأْكُلُ أَكْمَامَها فِي الْتِهَامٍ مَازُوشِيّ، يَسْتَبِقُ الْخَطْوَ فِي غَيرِ الْتِفَاتٍ، ولَا رُجُوع.

الثُّلاثَاءُ كَائِنُ خَبِيرٌ بِتَلاوِينِ مَا تَبَقّى فِي نَسْغِ الوَرْدَةِ مِنْ رُوح، يَرْسُمُ لَها خُطُوطَ الطُّولِ، ويَنْسَى مَلامِحَ الْعَرْضِ. يُطَرّزُ عَلَى رَأسِهَا تَسْرِيحَةً عَصْرِيّةً لِشَعَرٍ أشْعَثَ، قَبْلَ أنْ تُعانِقَ حَبِيبَ اللّقاء.

- الْأَرْبِعَاءُ ...

يَتَرَبَّعُ الْأَرْبِعَاءُ عَلَى دَمِي، فَتىً مَرْبُوعَ الْقَدِّ يَرْشَحُ جَبِينُهُ دَبِيباً لتَعَبٍ لَذِيذٍ. يَقْسِمُ سُلَّةَ الْاِمْتِدَادِ شَطْرَيْنِ: شَطْرٌ لِلْأَعْشَابِ النَّاشِفَةِ، فِي قَرارِ الاِنْسِحَابِ مِنْ فَوْضَى الْخَلَايَا. وَشَطْرٌ ثَانٍ يَسْتَقْبِلُ احْتِمَالَاتِ الْأَشْجَارِ، تَحْبُلُ بِالْمَعْنَى، ثَمْراً أَلَذّ، ثَمْراً أَشَدّ، وثَمْراً بَعِيداً عَنْ كَمَائِنِ الْقِطَافِ. زِئْبَقِيّ الْمَلْمَسِ، يَنْفَلِتُ مِنْ قَبْضَةِ الطَّعْمِ، ويَشْكُو الْاِلْتِذَاذ.

هَا نَكْهَةِ الاِنْتِظَارِ تَتَرَقّبُ سَجِينَها الْبَرئ فِي خَرَائِطِ الْعَمَى كَبُسْتَانٍ مُشَمَّعِ الْقُفْلِ، عَلى أزْهَار غَاضِبَة تَسْتَعْصِي عَلى التَّرْوِيضِ .

- الْخَمِيسُ ...

لِدَمِي لَوْنٌ صَاخِبٌ، كَمَا الْخَمِيسُ رَاكِضُ الْإِيقَاعِ فِي امْتِلَاءِ الشِّفَاهِ بِموسِيقَى الرّوكْ، يُغْرِينِي هَذا الْوَجْهُ، وأكْسِرُ لَعْنَةَ الشَّبَهِ والتِّكْرَارِ. يُدْخِلُنِي فِي سِبَاقٍ غَرِيبٍ، أُنَافِسُ ظِلِّي عَلى اعْتِلَاءِ رَأْسِ اللَّحَظاتِ الْهَارِبَةِ، تَتْوِيجاً رَاقِصاً، يُمْسِكُ بِثَدْيِ الْغَزَالَةِ الْبَرِّيَةِ. يَهْصِرُ دَرَّها الْمُكْتَظَّ بِيَدَيْنِ عَامِرَتَيْنِ بِالرَّغْبَةِ، تُوَزِّعَانِ الْغَمْرَ عَلى كُلِّ مَنْ مَرَّ عَلى بَطْنِ رَاحَتَي، وانْتَشَى فِي خُطُوطِهَا بِرَقْصَةِ الْعَطاء.

-الْجُمُعَة ...

وَ لَقَدْ زَارَتْنِي فِي عَباءَتِها الْبيْضَاء، تَفْحَصُ دَمِي، قَالَتْ: يَشْهَدُ مِهْرَجَانُ الضَّخِّ الْيَوْمَ أَصْغَرَ، بَلْ أَسْرَعَ دَوْرَةٍ فِي تَارِيخِ الرَّكْضِ نَحْوَ النِّهَايَاتِ والْبِدَايَاتِ... لَيْسَ لَكَ إِلّا شُرُودُ الْخَطْوِ، فَلا يَلْتَفِتْ مِنْ مِيَاهِكَ مَاءٌ .

اِمْضِ إِلَى نَشِيدِ النَّبْعِ، لَمْلِمْ مَا تَبَقَّى مِنْ أَطْيَافِ الْوَقْتِ الْعَابِرِ.فَالْوِسَاداتُ مَنَاشِفُ سَعِيدَةٌ بِالْغِيَاب.

-السَّبْتُ ...

دَمِي سَاخِنٌ، دَرَجَاتٍ فَوْقَ احْتِمَالِ الْعَرْبَدَة. رَقِيقُ الْمَلْمَسِ هَذا الْيَوْمُ، عِرْبِيدٌ... جَرِئٌ عَلى تَنُّورَاتِ الْمَليحاتِ ومُشَاكِسٌ، مُتَحَوِّلٌ وخُنْتَى غَجَرِيَّة تَلْبَسُ فَوْضَى النَّهْر، تَتَكَحَّلُ بِسَوَادِ الْمَغِيبِ. قِوَامُهَا قِيثَارَةٌ تَعْزِفُ لَحْنَ التِّكْرَارِ الْأَهْوَجِ، تُمْسِكُ فِي يُمْنَاهَا قَرَارَ الْهُرُوبِ إِلَى الْأَلْوَانِ، وفِي يُسْرَاهَا فَنَاجِينَ مَشْقُوقَة. تَقْرَأُ فِي قِيعَانِهَا قَدَرَ الْأَحَدِ وَالْإثْنَيْنِ وبَاقِي الرَّنِينِ .

***

نورالدين حنيف أبوشامة\ المغرب

من البحث الأكاديمي إلى الحوار الحضاري مع الإباضية

منذ زيارتي الأولى لسلطنة عُمان، أسرتني بساطة أهلها وشعرت أنني أمام مجتمع يتنفس الطمأنينة، ويجسد معنى التسامح في تفاصيل الحياة اليومية لا بين مكوناته فحسب وإنما حتى مع غيرهم.

لقد أدهشني أن أرى مذهبا إسلاميا يعيش في سلام مع ذاته ومع الآخرين، بعيدا عن ضجيج الصراعات البينية التي أنهكت العالم الإسلامي، وتسببت في فرقته وتباعده عن بعضه.

ومن هذه الدهشة الأولى، تولّدت في داخلي رغبة عميقة في أن أقدّم عملاً علميا منصفا، يلامس حقيقتهم كما عايشتها لا كما شوّهتها بعض صفحات التاريخ الصراعي.

وحينما عدت إلى العراق شرعتُ في تأليف كتاب بعنوان: "الإباضية: مذهب ظلمه التاريخ وأنصفه البحث"، الذي تجاوزت صفحاته ستمائة صفحة، وكنت مدفوعا برغبة في كشف زيف كثير من القراءات التي وُجّهت ضد هذا المذهب عبر العصور.

غير أنني، وإذ أعترف بحدود معرفتي بكثير من تفاصيل عقيدتهم ومناهجهم الفكرية، خشيت أن أقع في تقصير يحول دون إنصافهم، أو يسبب لهم أذى غير مقصود. لذلك بادرت بإرسال المخطوطة بعد ان اكملتها إلى إخوتي وأصدقائي في سلطنة عُمان: الأستاذ الدكتور محمود بن مبارك السليمي، والأستاذ الشيخ طالب الضامري، ذلك لأني كنت قد لمست فيهما، وفي المجتمع العماني عامة، روح السلام والانفتاح، ما جعلني أكثر يقينا بضرورة أن يخرج هذا العمل موضوعيا نافعا.

ولضمان دقة التناول، قاموا باستنساخ مسودة الكتاب وتوزيعها على نخبة من الأكاديميين والتخصصيين في وزارة الأوقاف العمانية ورجال الدين؛ الذين قرأوها بعناية فائقة، وأبدوا ملاحظاتهم عليها. ثم بدأنا النقاش حول تلك الملاحظات عبر التراسل الإلكتروني، لكنهم لم يكتفوا بذلك، بل شكّلوا وفدا تخصصيا وجاؤوا إلى العراق لنتباحث وجاها، في فرصة نادرة لتبادل الآراء مباشرة.

على مدى خمسة أيام أقاموها في العراق، أقمنا لهم نشاطات بغدادية متعددة في مقر رابطة المجالس البغدادية، وجناح الرابطة في معرض الكتاب، وفي نشاطات معرض الكتاب الدولي ببغداد، فضلا عن نشاط آخر في جامعة الكوت الأهلية في محافظة واسط بعد وصولهم إليها. وقد ولَّدت لديهم تلك التجربة شعورا بعمق التواصل الروحي والفكري بين بلدينا.

ثم كان اللقاء الأهم في داري بالكوت، حيث امتد النقاش العلمي على مدى ثلاث ساعات كاملة. وكان الحوار هادئا وشفافا، توصلنا خلاله إلى تفاهمات جوهرية أثمرت عن الاتفاق على تعديل بعض فقرات الكتاب بما ينسجم مع الحقائق الموثوقة والمدعومة بالمصادر الرصينة، ويعزز الموضوعية.

لقد شدّني في هذه التجربة أنني لم أتعامل مع مذهب ديني فحسب، بل تعاملت مع أخلاقية حضارية متجذرة في النفوس بعد أن قدّم الإباضية أنموذجا راقيا في إدارة الاختلاف: بالعلم وبالحوار وبالبساطة وباللقاء المباشر الحميم الذي يجمع ولا يفرق. وكانت صراحتهم وشفافيتهم مثار إعجاب عميق زادني يقينا أنى أسير في الطريق الصحيح.

ولعل هذا الدرس يتجاوز حدود الكتاب نفسه، ليصبح دعوة إلى ثقافة التلاقي بدلا من ثقافة التنافر. فالمذاهب والأديان، مهما تباينت رؤاها، إن لم تُحسن إدارة الحوار، تحولت إلى جدران عازلة بدل أن تكون جسورا للمعرفة والتقارب. ومن جميل المصادفات أن أحد نشاطاتنا التي أشركناهم بها ببغداد على مسرح معرض الكتاب الدولي، والذي توليت إدارته بنفسي، تناول موضوع التلاقي والتبادل والتلاقح الثقافي.

أعود اليوم من هذه التجربة أكثر يقينا أن البحث الأكاديمي حين يقترن بالحوار الإنساني الصادق، يتحول من مجرد أوراق إلى جسور ضياء تفتح أفقا جديدا في وعينا، وتعيد الاعتبار لصفحات التاريخ التي طالها التشويه.

ولقد ازداد يقيني من خلال هذه التجربة أن قوة المذاهب لا تُقاس بمدى اختلافها عن الآخرين، أو عن غيرها من المذاهب، وإنما بقدرتها على تحويل الاختلاف وحتى الخلاف الراسخ إلى فرصة للحوار والتبادل المعرفي.

ومن هنا وجدت أن من واجبي إعادة صياغة بعض فقرات الكتاب بما يعكس روح الإنصاف والموضوعية، ليكون أقرب إلى وجدان القارئ المسلم، إباضيا كان أم من المذاهب الأخرى.

فضلا عن ذلك رسخَّت لدي هذه التجربة قناعة حقيقية أن الإنصاف لا يولد من القلم وحده، بل من لقاء العقول والقلوب معا.

***

الدكتور صالح الطائي

السكون الذي يلف البحيرة الهادئة، كأنه يطوف بهذا الخيال. يمضي به نحو محطات الكون. هنالك حيث تنتصب الجبال، تسترق الأشجار لغة السمع إليها، بينما يتألق الأفق وفقا لمساحة ذلك الاتساع الممتد نحو السماء. لذلك عند المساء، من منتصف المسافة نحو الغروب تحديدا، تصبح الروح مثل زورق هائم في محيط عالم تسوده الأسرار، ولهذا يستكين العقل في جوف الصمت، ليستجيب إلى نداء ذلك السكون. الصمت هنا هو التحرر من ضجيج العالم المسكون بلغة الوهم والتناقض والاضطراب. ولذلك مع هذا النوع من التوزع يصبح للحياة لونا آخر، وصورة أخرى. أما النفس فتصبح أكثر استجابة لمثل هذا النوع من التناغم. حيث جميع المفردات تتحد في فضاء واحد. ترى هل هو محيط هذا العالم الذي يتجسد شامخا ليشرق في عمق هذا الكيان الغارق في المتاهات.  

***

عقيل العبود

كان لجنوب العراق خصوصيته في البوح العاطفي والطقوس الصوتية، فكانت النعاوي – النواح والتهويدات – تحتل حيزًا مهمًا من الثقافة الشفاهية النسائية.

تمارس المرأة الجنوبية النعي أو النوح بوصفه بكاءً شعريًا على الفقد؛ كانت تؤلف أبياتًا من الشعر الشعبي، غالبًا بالعامية الجنوبية، ثم تُلحّنها بصوتها، لتصبح وسيلة لبوح الحزن الداخلي وكشف وجعها الذي خلفه الفراق.

ولم يكن هذا اللون من "النواح الشعري" مقتصرًا على مجالس العزاء الخاصة بالنساء، بل كانت المرأة تعيد إنتاج نفس الأبيات – أو ما يشبهها – في مواقف أخرى، خصوصًا في تهويدات الطفل أثناء هدهدته في الكاروك (المهد).

هكذا، جعلت الأم الجنوبية من الشعر وسيلة مزدوجة: حدادًا على الغائب أو الميت، وتهويدًا للطفل، حيث يسمع الصوت الحزين فيصبح بمثابة "فاصل غنائي" يرافقه إلى النوم.

وهذا يفسر لماذا يمتاز الغناء الجنوبي بالشجن حتى في أغراضه الأخرى، فهو خرج من صلب الوجع الجمعي، وتجذر ودمج في طقوس النساء.

وبين الأم السومرية والأم الجنوبية، كانت المعتقدات متباينة ثقافيًا، لكن صوت الأم ظلّ قيثارة ممتدة عبر العصور؛ فقيثارة سومر، التي عزفت للأرض والسماء في الطقوس الأولى، تجسّدت لاحقًا في "دللول الجنوب"، الذي ما زال يهدهد الطفل ويمسح عن قلبه وحشة العالم، ويبعث الطمأنينة.

إنها القيثارة نفسها، لكن أوتارها تغيّرت: في سومر، أوتارها من ذهبٍ وأحجار كريمة، تعزف للآلهة حماية للطفل، وفي الجنوب، أوتارها من صوتٍ مبحوح وحزن يومي، تعزف الحياة للأرض وللإنسان.

بين الأم السومرية والأم الجنوبية خيطٌ من الشجن، يجعل التهويدة ليست مجرد غناء، بل ذاكرة جمعية وحارسًا روحيًا يرافق الأجيال عبر الأزمنة.

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

قالت لي صديقة، ما جدوى ما تكتبين في عالم رمادي يزداد قتامة كل يوم، فهل بهذه الكلمات ستجلّين السواد ... فقلت لها، أنا أؤمن بما أقول وأكتب، حتى وإن تغيّر العالم من حولي، حتى وإن انقلبت الموازين، واختلطت الألوان، وضاعت البوصلة في رياحٍ عمياء. إنّ للكلمة عندي جذوراً لا تُقتلع، كأشجار الزيتون في حقولٍ قاومت قرونَ الحروب، ولها أجنحة من نورٍ لا تُقصّ، ولو سُدّت في وجهها السماء.

*

الكتابة عندي ليست زينة عابرة، ولا نزهة في حديقة الألفاظ، إنّها عهدٌ مع النفس، وميثاقٌ مع الحقيقة، ونبضٌ يتردّد في الصدر. كلّما حاول الظلام أن يفرض صمته على الأفق. أنا أكتب لأنّ الصمت خيانة، ولأنّ الاستسلام موتٌ بطيء، ولأنّ اللغة هي حصني الأخير في مواجهة زحف الفراغ.

*

قد يتبدّل العالم، قد يبيع الناس قناعاتهم كما يبيع التاجر بضاعته في سوقٍ مزدحم،

قد يتغيّر كلّ شيء، الأوطان، العادات، الوجوه، بل حتى الذاكرة ذاتها،

لكنّ ما أؤمن به يظلّ قائماً في داخلي، كصخرةٍ تعاند البحر،

وكطفلٍ يرفض أن يتخلّى عن لعبته الأخيرة في ساحة الخراب.

*

إنّ الإيمان بالكلمة هو ما يمنحها القدرة على اختراق الليل،

هو ما يحوّل الجملة إلى سيفٍ من معنى،

ويجعل النقطة الأخيرة في النصّ كأنّها توقيع على معاهدة أبدية مع الأمل.

فأنا لا أكتب كي أرضي أحداً، ولا كي أساوم على الحقائق،

بل أكتب لأني أخشى إن سكتُّ أن أموت وأنا حيّة،

وأخشى إن خنتُ عبارتي أن أُصبح غريبة حتى عن نفسي.

*

إنّ العالم قد ينكسر، قد ينهار تحت ثقل المصالح والخيبات،

لكنّني أتمسّك بإيماني كما يتمسّك العاشق بصورة وجهٍ لم يره منذ سنين،

وكما يتمسّك الشهيد بآخر قطرة دم

ولذلك، سأظلّ أكتب، وأقول، وأصرخ في وجه التبدّل،

إنّ ما أؤمن به لا يُمحى، ولا يُغيَّر، ولا يُشترى.

فأنا الكلمة حين تُبعث، وأنا المعنى حين يتجلّى،

وأنا الإصرار حين ينهار كلّ شيءٍ سواي.

ولئن تغيّر العالم من حولي،

فإنّني أبقى ثابتة كالنجم الذي يعرف أنّ ليله الطويل

ليس إلّا طريقاً إلى الفجر.

***

مجيدة محمدي

 

الحاضر السلبي الاغترابي للمكان، ولّد استرجاعاً لماضٍ لم يعد موجوداً، استعادة الامكنة عودة إلى الذاكرة التي تحفظ الصورة الأولى بكل تفاصيلها، غير أن تلك الصورة غابت كلياً، أو تشوهت،ربما تضعف الذاكرة، لكنها وحدها لا تكفي في استعادة جماليات المكان، هكذا كان شعوري وأنا أزور احد الأصدقاء في مدينة الحرية، لم تكن المدينة التي سكنتني يوماً، وسكنتها، بل تجمع سكاني غريب الملامح، متعباً مثقلاً، كأن المدينة لا تعترف بتاريخها ولا بأبنائها، أدرك أن الذاكرة أكثر صدقاً من الواقع، وأن الأمكنة حين تفقد صورتها الاولى، تفقد معها شيئاً من ارواحنا. كانت الزيارة صدمة لا ينمحي اثرها وانا اقف أمام هذا المكان.. (حلاقة مهدي) في ركن يطل على شوارع ثلاثة، من اليمين القادم من دبّاش، وآخر في الوسط متّجه إلى "القلم طوزه"، أما الثالث فيتجه إلى اليسار نحو تقاطع "باتا" ودور الشؤون. كان المحل مجلسنا الصغير في أوقات الضحى، نافذتنا على العالم، نأتيه مزهوين، نضحك ونغني ونتجادل في السياسة، معظمنا تخرج تواً من الجامعة، البعض ما يزال في المراحل الأخيرة من الدراسة، أعوام الستينات شهدت أحداثاً كبيرة على مستويات عديدة: المحلية والعربية والعالمية، نحلم بالثورة، ونضع خططاً للمستقبل، كما لو أن العمر لن ينقضي.

مقصّ مهدي كان يلمع كأنه أداة سحر، يقص أطراف الشعر على إيقاع اغنية لفريد الأطرش: "تأمر عالراس وعل عين"، لم يخطر ببالنا أن الصلع يتربص بنا، أو أن الأيام ستحلقنا على نحو أعمق من أية شفرة لحلاق، كان منهل العارضي أول الضحايا داهمه الصلع مبكراً، وأول المغيبين الذين اختطفهم النظام أوائل ثمانينات القرن الماضي. كما داهم الصلع رستم الكردي ولقي كذلك نفس المصير.

حلاقة مهدي تشعّ مثل مربع ضوء وسط غبار الشوارع، المرايا فيه تعكس وجوهنا الفتية بعيون لامعة، على الكراسي الجلدية الضيقة كنا نتحاور في أسباب فشل الثورة في بوليفيا، ونكسة حزيران، تتصاعد نبرات أصواتنا حين يتحول النقاش إلى (لجنة أم قيادة؟)، مَن اليمين، ومَن اليسار، مَن هو الصّح، ومَن الخطأ؟ يضيق بنا المحل حين تلتقي المجموعة بأغلب افرادها من العاطلين، والباحثين عن عمل، ومنتظري التعيين. مدمنون على الحضور الصباحي اليومي: حميد الخاقاني، بعد أن يفرغ من بيع (العرقجين) في أسواق الكرخ، رياض عيسى، موسى فنجان الساعدي، مجيد خليل، رشاد مهدي، منهل العارضي، أحمد الكناني، موفق الشديدي، كاتب السطور، عبد الأمير الحبيب، ساجد انجيدي ، حسين ابو التمن، نزار الخشيمي، رستم الكردي، صباح كردي، سعيد خربالي، سعيد زويني، لقرب منازلهم من محل الحلاقة.

نقاشات تمتد مثل ظل طويل لا ينكسر، فكرة تلد أخرى، كل اقتباس ينفتح على حوار حار، تعلو الأصوات أحياناً، ثم تخفت، كأنها تحفظ سراً مشتركاُ، نتجادل مشدوهين، ونتساءل: لماذا التحق عباس مع مجموعة أمين الخيون للكفاح المسلح في الأهوار، بينما كان خالد أحمد زكي القادم من لندن يقود مجموعة أخرى لأسقاط النظام، بعد هجوم على مركز شرطة (عكيكة) في أقصى أطراف الهور، كانت الشرارة الأولى لاندلاع (الثورة) مقتل شرطي، لحظتها كان (يدخن سكائر لف).

مهدي من أمام المرآة، صوت مقصّه يقطع السكون، كنبض منتظم، يبتسم بين حين وآخر، ليس بمقدوره أن يمنعنا، أو يطردنا بعد أن أصبح المحل صيداً سهلاً لعيون أفراد الأمن، يراقبون ويسجلون للأيام القادمة!

يحتدم النقاش حول الأغاني، لمن الأفضلية: أغنية (لا خبر) أم أغنية (يانجمة)، يتدخل سامي كمال يندب حظه، كان يستعد بلهفة ليغني لحناً لكوكب حمزة أعدّه لأغنية (أفيش بروج الحنية)، إلا أن كوكب تراجع عن وعوده لسامي، وخذله، فضّل صوت سعدون جابر عليه، فأصيب بخيبة كبيرة ظلت آثارها ملازمة له لسنوات طويلة، كنا من اشد اللاعنين لفعلة كوكب. معجبين بصوت سامي (الحلاق) الأجمل والأقوى، نضع في الحسبان أنه خيارنا الثاني في الحلاقة، ومحله على بُعد خطوات من مهدي.

لم تكن حلاقة مهدي بحاجة إلى لافتة، لم يعلّق فوق بابه لوحة بالألوان، أو بالمصابيح المضيئة كما في صالونات الحلاقة الأخرى، كان يعرفه الجميع، ويعرفون الطريق إليه كما يعرف المرء طريقه إلى بيته، واجهته الزجاجية المتواضعة تكشف الداخل: كراسي جلدية قديمة، مرآة عريضة تكسو الجدار تحتفظ ببصمات أعيننا، وشيئاً من أرواحنا طاولة صغيرة تعلوها مجلات قديمة وأمشاط ومقصّات فقدت بريقها، كولونيا للتعقيم تصيب الجلد بلهيب حارق.

كانت الحلاقة ذريعة، واللقاء هو الغاية. نحلم بزمن تسود فيه العدالة، بسماء لا تظللها الغيوم الثقيلة، تلك الحقبة كانت تتقد بالصراع والأفكار تسري في عروقنا مثل تيار ساخن لا يهدأ.

كنا نكتب أحلامنا على صفحات لا يقرؤها سوانا، يشاركنا الكتابة: حاتم الصكر، منعم الأعسم، أحمد خلف، حسين الهنداوي، نصر محمد راغب، باقر مسير، مالك الأسود، حسن أبو شيبة، فيتحول المحل إلى مختبر للأفكار الكبيرة والجديدة، يبدأ الحوار في الرواية والشعر، ويتواصل الحديث عن القراءات الأخيرة: الانسان ذو البعد الواحد، الوجود والعدم، كافكا، كولن ولسن، بودلير، روجيه غارودي، نتنقل بين أغاني مهيار، وقصائد مرئية، كتّاب وشعراء يفجرون اللغة ويعيدون تشكيلها، ألبير كامو الذي يجعل العبث سؤالاً حائراً في وجوهنا، ثم نعود إلى صوت مظفر النواب ومحمود درويش وأنسي الحاج فنستعيد وطناً بحجم القصائد.

في المساء، حين يهبط الظل على الحي، نغلق الكتب ونحملها معنا، نمشي بخطى متحمسة نحو مقهى أبو سليم كبيت يعرفنا، واجهة المقهى المغبرّة تعكس ضوء النيون الباهت، أبو سليم يستقبلنا بهزّة رأس وابتسامة غامضة، ثم يشير إلى طاولتنا المعتادة التي تحمل خدوشاً قديمة تركتها حجارة الدومينو، كأنها توقيعات زبائن المقهى عبر السنين، مع طاولة أخرى يجلس صباح الشمري، وعمّه نزار المنشد في فرقة الموشحات التي شكلها حديثاً الموسيقار روحي الخمّاش، مع أصدقاء من جيلهم: اذكر سلام، وفاضل الحسني. كريم السراي (أبو فارس). ناظم، وصديقه فلح البطّاوي. و(ريس) الأعور. من بعيد كنا نلمح زهير الجزائري في زيارات خاطفة لبيت خاله في الدبّاش.

كنا نشجع فريق النهضة الكاظمي بقيادة الكابتن صاحب (ابو الهايشة)، لان ابن المدينة صاحب خزعل يلعب مهاجماً فيه.

في المقهى عالم آخر لا يشبه حلاقة مهدي، الأصوات تتعالى، الضحكات أكثر هتكاً، في زاوية المقهى راديو فيليبس كهربائي (أبو اللمبات) يسمعنا أغنية (الهدل) للمغني ياس خضر، فتتمايل رؤوس بعض الزبائن، بينما آخرون غارقون في حساب نقاط لعبة (الأزنيف). في أعلى الزاوية تلفزيون بالأسود والأبيض، تابعنا من شاشته مباريات كأس العالم في كرة القدم لدورتي لندن 1966، والمكسيك عام 1970. كان الوقت يمضي بين رشفة شاي وأخرى، في لحظات السكون القصيرة، كنا نتبادل نظرات تقول كل شيء: أننا رغم صخب العالم خارج هذه الجدران، وجدنا هنا ملاذاً.. مكاناً يأوينا بأحلامنا الكبيرة، وعبثنا البريء.

لكن الريح تغيرّت، واختلط الضياء بالظلام والدماء بالعظام، بعضنا مضى إلى الكفاح المسلح ولم يرجع، البعض غابوا في الجبال أو انطفأوا في المنافي، بيننا، مهجّرون ومعتقلون ومغيبون، بعضنا التهمته الخيبة، غادر حميد الخاقاني، وتبعه الأعسم، ثم رياض عيسى الذي اختار (رياض رمزي) اسماً أدبياً جديداً له، مات نصر في حادث سيارة. وياحسرتاه! لغياب منهل ورستم.

اليوم ونحن ننظر إلى صورنا القديمة بشعر (الخنافس)، نرى تلك الوجوه ممتلئة بالثقة، بالضحك، بضوء لم نعد نحمله، صرنا شيوخاً بملامح متهدّلة، وشعر أبيض، أو صلع تام، لكن في أعماق المرايا القديمة ما زال أولئك الفتيان يقهقهون، ينتظرون دورهم تحت مقص الحلاق مهدي، يظنون أن الثورة قائمة سيقودها "حجام البريس" من هور "الغموگة"

***

د. جمال العتابي

 

قدّم الكاتب الإيطالي البرتو مورافيا بحياته وكتابته نموذجًا حيًا لكاتب عصريّ لافت، ويُمكن التعلّم من تجربته فيما يتعلّق بالكتابة وفيما يحيط بها، كما سيأتي، فقد استعد للكاتبة استعدادًا تامًا، ورغم أنه لم يتلقَ تعليمًا مُنظّمًا، إلا بحدود أقل مِن الدراسة الثانوية، إلا أنه تمكّن مِن أن يثقّف نفسه وأن يتغلّب على المرض الذي ألمّ به، وعطّله نوعًا ما عن مواصلة دراسته، وتوجهه إلى الكتابة بمنتهى الجِدّية، ليضع روايته الأولى وهو لمّا يتجاوز العشرين من عُمره إلا بعامين اثنين فقط.

البرتو مورافيا، واسمه الأساسي البرتو بنكيرلي (28 تشرين الثاني من عام 1907-26 أيلول من عام 1990)، ولد لعائلة من الطبقة المتوسطة، وكان أبوه رساما ومهندسا يهوديًّأ يدعى كارلو، وأمّه كاثوليكيّة تدعى تيريزا ليجيانا. كما سلف، أصيب البرتو مورافيا في يفاعته الأولى بمرض السُلّ، ما حدّ مِن حركته مُدةَ خمسة أعوام، وأدى بالتالي إلى توقّفه عن الدراسة.. وقد ابتدأ الكتابة في الثانية والعشرين من عمره، وكانت روايته الأولى تتحدّث عن زمن اللامبالاة واستقبلها النُقّاد باهتمام شديد، كونها ولدت أقرب ما تكون من التكامل الروائي. بعدها تتالت رواياته في الصدور لتكرّسه واحدًا مِن أكبر كتّاب القرن العشرين، ليس في بلاده إيطاليا وحسب، وإنما في مختلف انحاء العالم، وفي العديد من اللغات، ومنها اللغة العربية التي تُرجمت إليها معظم رواياته، وصدرت في بيروت عن دار الآداب وغيرها، وتعرّف عليها القارئ العربي بصورة جِدية أكثر مما تعرف عليها في الفترة السابقة على الستينيات الأولى، علمًا أإن العديد من روايته تحوّل إلى أفلام سينمائية، نذكر منها رواياته: امرأة من روما، وامرأتان، وقد كتبت عن هذه الرواية قبل العشرات من السنين، إضافة إلى روايته السأم، ومن رواياته المعروفة لدى القارئ العربي نذكر روايته انا وهو. كان مورافيا مِن أشد المُناهضين للفاشية في بلاده، لا سيّما في الفترة التي عاش فيها، وأقصد بها فترة ما بين الحربين العالميتين، وقد تمحّور الموضوع الذي برز في كلّ ما كتبه حول الجنس بوصفه الحقيقة الأولى في الحياة. علمًا أنه تأثر بكاتبين بارزين هما دوستويفسكي وجيمس جويس، وقد صرح انه اخذ عن الأول البناء الفني للكتابة الروائية، في حين أنه أخذ عن الثاني براعته التحليلية للنفس البشرية.

انتج مورافيا خلال عمره الادبي المديد والحافل (عاش 82 عامًا)، العديد مِن الروايات وكان ناشطًا ثقافيًا، فقد كان يحرّر مجلة ثقافية، ويساهم في حياة بلاده الأدبية بصورة فعّالة، ولعلّ هذا كله يدفع الاخوة القراء إلى طرح السؤال الصعب، وهو كيف تمكّن مِن تحقيق كلّ هذه الإنجازات الروائية اللافتة؟.. وفي الإجابة عن هذا السؤال المُهم، الذي يعني الكثيرين معرفة الإجابة عليه، نقول إن مورافيا، كما تقول سيرتُه التي نشرت في أكثر مِن كتاب، مُختصرةً حينًا وموسعةً حينا آخر، انتهج منذ بداياته الأولى طريقة مكّنته مِن الإنتاج بغزارة وإبداع، وقد تمثّلت هذه الطريقة في جُلوسه يوميًا تقريبًا إلى طاولة الكتابة، ما بين التاسعة صباحًا والثانية عشرة ظهرا، ليكتب. ولنقرأ معًا ما يقوله أو يكتبه عن عادته هذه، يقول:" إنني لا أعرف مُسبقًا ما سأكتب لكنّني ابدأ الكتابة فإذا بالشخصيات والاحداث تعمر مُخيّلتي وتنثال على قلمي.. إنني اومن بالوحي، لكنّني لا أجلس بانتظاره كلّ صباح وإنما أسعى إليه". في هذا الوقت الصباحيّ يكتب البرتو مورافيا، وهو لا يُرسل ما يكتبه إلى الناشر إلا بعد إجراء المراجعة تلو المراجعة، إنه، كما يقول، عادةً ما يُعيد النظر فيما يكتبه مِن أعمال روائية، وما يقوله في هذا المجال إنه أعاد كتابةَ روايته ذائعة الصيت امرأة من روما ثلاث مرات، وأنه أعاد كتابة روايته السأم أربع مرّات، وقد قلّص حجم روايته الأخيرة هذه، من ألف صفحة في مسوداتها الأولى، إلى اقل مِن النصف، لتصدر في أربعمائة صفحة فقط.

يُعتبر مورافيا كاتبًا واقعيًا مغرقًا في واقعيته، ولنقرأ معًا ما يقوله عن قصته مع الكتابة الروائية، يقول:" أنا لا أعرف أن لي مذهبًا فأنا أكتب لأسلّي نفسي وأعبّر عن افكاري ولأمتع القرَاء بمشاركتهم فيها، ولكلّ إنسان في هذه الحياة، طريقته الخاصة في التعبير، وطريقتي أنا هي الكتابة". 

إن ما يلفت النظر في تجربة هذا الكاتب المتألق، حتى أيامنا الجارية، برواياته ومسرحياته وبالأفلام التي اقتُبست عنها أيضًا، هو أنه لا يبذل جُلَّ وقته في التسويق لأعماله الروائية، كما يفعل الكثيرون من الكتاب في فترتنا الراهنة، وإنما هو، كما يقول، يبذل تسعين بالمائة في الكتابة وعشرة في المئة فقط بالتسوق، أما مُعظم كتاب فترتنا الملتبسة الجارية، فإنهم كما يتضح مما يُكتب ويُنشر عنهم، يبذلون مجهودَ عشرة بالمائة في الابداع الكتابي، وتسعين بالمائة في التسويق، الامر الذي يفرض سؤالّا جوهريًا ومركبّا حول أهمية ما يُكتب وينشر اليوم، او بالأحرى عدم أهمية. فهلا نتّعظ؟.. ونتعلّم درسًا في الكتابة الروائية وتسويقها مِن هذا الكاتب الفذ؟.. أرجو..

***

ناجي ظاهر

.......................

* الكاتب الروائي الايطالي البرتو مورافيا- درس في الابداع.

 

سرديات الكولاج[1]

وماذا بعد ذلكَ، لقد كانَ وكتبَ بما ينبغي عليه أن يكونَ ويكتب عن بعدٍ..فالمرءُ مِنّا قد تتشوّه صورته كُلّمَا أقترب مِنَ المرآة..كذلكَ هي الحالُ، فإنسانُنا لا يكتشف حقيقة الوجود إلاَّ عندما يبتعد عنها!. هكذا واحدنا كُلّمَا ابتعد عن مرآةِ الحياة يَتفّننُ في تصويرِها.

***

وتصلكَ رسائلٌ دونَ موعدٍ، وقد يرنّ هاتفكَ بِلا توقيتٍ مَا، ولكنْ، عدم قرائتكَ لرسائل الآخرين الالكترونيّة والصوتيّة أو الاجابة على مكالماتهم، بسبب مشاغل أو سوء مزاج، أو تعمد في تجاهلهم أو لضيقِ ذاتِ الوقتِ، أو لعدم استحقاق المرسل الاجابة...أو رغبةً بالبقاء مع نفسكَ، قد لا يعني بالضرورة تأجيلكَ لِما يودّ شخصٌ ما أن يقوله لكَ، رغمَ أنّهُ قد لا يعلم أنكَ تودّ أن تخفي نفسكَ، لتنائ بنفسكَ عمّا يرغب بالبوح به لنفسكِ، للتقليلِ مِن " دوخة البال".

 ***

أليسَ غريبًا وأنتَ صوتٌ جميلٌ في برية الكلمة، أن تتعرضَ إلى البعض مِن سوءِ القراءة!، رغمَ أنَّ طموحكَ يكمنُ بعدم تكرار ذاتكَ أو إعادة مَا هو مُستهلكٌ وسائدٌ وشائعٌ ومكتوب ومنشورٌ، لكنّكَ قد لا تكتفي ببثّ الشّعريّة في متونِ قصائد وطيات كُتب أو بين سطورِ نصوصٍ، ولا تحجّم المعنى في سرديات قصصٍ وحكايات أدبيًة سورياليّة بشعبويّة آلفها الكثير!.

***

قد لا يضع البعض مِنّا صوره على جدران بيته، ولكن يمكن للمرءَ أن يُعلق نفسه على السّواحلِ ويجلسُ قبالة البحر ويقيم شواء المسكوف بينَ الفترة والآخرى في طبيعة خلاّبة، لكي يحيد عن العادي والخروح مِن "روتين" الذات، كمن يسعى لقولِ أحاديثٍ مكتومة في أذانٍ صماء، أو كفراشةٍ تبكي وردتها المقطوفة قد عَلق عليها بقايا رحيقٌ!. هكذا تسترجعُ نفسكَ مِن زحمةِ الحياة... كمن يجلس في صالةِ عرضٍ سينمائية أو قبالة تلفازه لوحده مُسترخيًّا، ملتصقًا بشاشةٍ لمشاهدة فيلمٍ ما يستهويه.

***

كُلّما تستيقظُ يغمضُ اللّيل عينيكَ، فتجدُ نفسكَ تقفُ على الضفة الآخرى مِن حياتكَ، وكأنَّ عليكَ أن تقطعَ الطريقَ بمفردكَ لتكتب بينَ ولعٍ وآخر حكاية شروق جديدة لسواكَ.

 ربّما قد راقَ لكَ مصباحكَ الذي تحملهُ بيدكَ في ليلِ شاعريتكَ لتُضيء العُتمة في حياة الآخرين!. ثمّةَ شيءٍ يجعلكَ تُفكّر ولو لبحبوحةٍ قليلة بنفسكَ، فتتمنى أن تكونَ لنفسكَ ذلكَ الشخص الذي كنت على شاكلته لهم!. لقدَ كانَ على الكثير مِنّا أن يفهمموا هذا الأمر مِن ذيّ قبل.

***

نازحةٌ كغيرها مِن حروبٍ طويلةٍ في بلادها البعيدة، قالتْ ليّ ذات لقاءٍ: "لستُ ضعيفةً يَا أبانا؛ ولكن الخصم كانَ أغلى أحبابي!.

طأطأت رأسها وأكملت: لقد أخبرتُ الله عنُه كما خبرتُكَ الحكاية الآن". ومضت!. ورأيتها تمدُ يدها وتصافح مجروحًا يجلسُ على صخور البحر ويُغني آهاته لليلِ أهيمٍ؛ قائلة:" واللهُ الموفق بِكَ إلى سواءِ السبيل"!.

 لقد تركَ رحيلها في القلبِ ندبة صلاةٍ، غيرَ أنَّ مشقّةَ الطّريق ووقعَ خطواتها كانت في قلبها لا في قلبه!. هكذا علينا أن نتعلمَ ونتقنَ قول كلمة: "لا و كلا"؛ رغمَ أنَّ الطرقاتِ قد تكون مُمهدة أمامنا.

***

المرءُ مِنّا لا يطمحُ أكثر مِنَ البقاء على قيد حياةٍ مفعّمة بالحياة، تسري بها روحٌ، توقد جمرة الوجد ونبض الحياة وشعلة السعادة في القلوب المطفأة. لقد زاد افتنانه بانصاتها باذان العقل والقلب وهي تزيل عنها الوحشة، قاطعة دربها عائدة إلى حيثما أتت.

***

وَمَا زالَ يسعلُ، يحتسي شوربة فيها عظمة، تعوم وتطفو فوق طبقٍ مِنَ "سوبِ" يستذوقه؛ بينما فتاةٌ تقضمُ وتأكلُ أظافرها، ربّما جوعًا، ضجرًا، تسلية..والله أعلم؟!. وتساءل: لماذا النّاسُ هُنا تعتاشُ على أظافرهنّّ؟!. بيدَ أنَّ الأمرَ لم ينتهي عند هذا الحد مِنَ التساؤلِ، بل أمامهُ ثمّة ظلالٍ تتحرك بخفةِ ظلٍّ، وقد كبرت كما شابت السنين بينهما مِن كثرة الانتظار؛ بينما البحرُ الصديق الصادقُ، ظلَّ الشّاهد الصّامت عليهما.

 لقد كتبَ على رمال السواحلِ: " وأما بعد يا سندانة القلب، هلا أزدتِ النّار اِشتعالاً، لا تقلقي أحرقيني، فأمواجُ بحرنا بدأت تعزفُ في الظُلمةِ، وصافراتُ الانذار شرعت تقرع منبّهةً اشتعال الحرائق"!.

***

ومنذ قال لها: "ما عدتُ يا حلوتي أُعاتبُ نبضي إذا مَا عادَ يتسارع إنَّ مرَّ اسمكِ أو طاريكِ".

باتت هي ترقدُ في ردهات مشفى الحُبِّ ..تتأمّل زيارة أحبتها!. لكنّه ما تفقدها!.

***

قالتْ لهُ واطنبتْ بِالحديثِ: لكَ في ذمّة المكتبات كتبٌ تستهويني..

ولستُ أدري ألامَ كُلّمّا أرتادها للمطالعة...

 أراكَ في القهوة والفنجان وحاضرًا في الكلمةِ كالثمرة في البستانِ!.

لعلَّ خطيئتي تكمنُ بأنَّ عيني أدمنت قرأتكَ؟!

حسنًا...إنَّ اخطأتُ أو تماديتُ أو حَتّى غاليتُ.. فأينَ صفحكَ؟.

صمتَ لوهلةٍ وأجابَ في مدحها ‏وهو يزاملُ خُطاها

 شاكرًا إياها بامتنانٍ.. حَتّى بلغَ الشُّكر مُنتهاه بِالقولِ: وأنتِ تشبهينَ مِنَ القرّاءِ مَا لا شبه لهُ!.

***

تثاءبتِ الشّمسُ وَزّينَ الشّفقُ البحر، مُلوِّحًا لقواربِ الصّيدِ الرّاكنةِ... فكُلّمّا لوّحَ لشمسِ الغروب جاءت النوارسُ وطيور السّماء لتأكل مِن كفه!

القمرُ في كالفورنيا في ذلكَ المساء توسّطَ السّماء... لكنّه لم يكن يضيء!.

حالهُ كفانوسٍ مطفأ في العتمةِ!.

بينما طائرُ السنونو بعث الدفء بوصلةِ غناءٍ ليليّةٍ...ومِن ثُمَّ طارَ...وكم تمنّى لو حلّق قلبه معه وطار!.

هكذا كُلّمَا هبتِ الريحُ، تشابكت أغصان الشّجر..

وبقدرِ ما علاً المدُّ وغنتِ الأمواج بطبقةٍ عالية...

غسلت مياه البحر آثار خطاه مِنَ الرّمال النّديةِ!.

بينما هو، راحَ يُخيّطُ الكلمةُ بِالكلمةِ ويلصقُ الحرفَ بِالحرفِ...عسى أبجديتهُ تكتُبُ سطرًا مُطعّمًا بل قُل مُلقّحًا بسردياتِ المعنى والكولاجِ الشّعري، يلصقُ صورهُ الأدبيّة للقرّاء الصورةُ تلو الصورة، في ليلةٍ نفذَ فيها الاريجُ إلى أنفهِ..ولكن لقد فاتهُ القول لِطائر السنونو :

 حينَ يعود لن يجده يسند ظهره في ذاتِ المكان!.

***

الأب يوسف جزراوي

........................

[1] هذه النصوصُ كنتُ قد كتبتها قبل بضعةِ أعوامٍ خلت، فكنتُ أعودُ إليها بينَ مدة ومدةٍ لكي أغيّر فيها وأعدّل عليها بينَ الحينِ والحينِ، ولا أخفيكم سرًّا لكم مِن مرّةٍ ومرّةٍ فقدتها أوأضعتها أو أتلفها الحاسوب عن غير قصدٍ..، فأرتأيتُ الآن نشرها وتعميمها على القرّاء، عليَّ أفيد بها سواي، وكذلكَ حفاظًا عليها مِنَ الضياعِ وعربدات الحاسوب، لهذا عنونتها (بنصوصٍ لها سبعِ أرواحٍ). لقد أقتضى التنويه.

 

النمنم… مخلوق أسطوري من الميثولوجيا السعودية، تختلف صفاته ودوره حسب كل عائلة. لكن مهمته الأساسية التي يجتمع عليها الجميع هي “إرهاب الأطفال”.

طبعاً هذا يعكس حجم الاضطرابات النفسية التي عانى منها جيل الثمانينات وما قبل، جراء التعنيف التربوي وأساليب السيطرة.

وبعد استفتاء بسيط على صفحتي، اكتشفت أن أغلب النمانم كان يُرَوّج لهم بجرعات عنصرية: معظمهم إناث، يخرجون فقط في الليل، يلبسون العباءة على الرأس أو الجلابية والعمامة الكبيرة التي تغطي قرونهم إذا كانوا النمانم ذكوراً.

نمنمي الخاص

أما "نمنمي" الذي اخترعته جدتي رحمها الله هو الأشد ضراوة والأقوى تأثيراً على الإطلاق والسبب أنه خلا من العناصر السابق ذكرها، فليس لدى نمنمي أي صفات شكلية عنصرية بحيث يمكن حصره على فئة معينة أحذرها وكذلك صفاته الواقعية أكثر من الخيالية مما يجعله أكثر فتكاً بالمخيله..

أعتقد أن جدتي لم تكن تتمتع بمخيلة جامحة لتخترع كائنات أو قصص أسطورية فقد كانت كل قصصها منطقية مما يكسبها مزيداً من التأثير الذي مازلت ولأكثر من ٢٤ عاماً أذكره..

كان إنتاج جدتي لذلك المخلوق أنه عبارة عن شخص عادي ببشرة عادية بيضاء أو سمراء لاملامح محددة شكلياً له ولكن مايجعل هذا الشخص نمنم هو أنه وبعد الساعة الثامنة مساءً  يخرج له ذيل ديناصور وأظافر غوريلا مع الإبقاء على هيئته البشرية فيما عدا ذلك..

كان يتربص في الباحة المقابلة للسوق حيث تسكن جدتي وينتظرني وبنات خالي عند محلات أبو ريالين..

قد يتحول أي شخص في محيطي القريب إلى نمنم بعد الساعة الثامنة مساءً بغض النظر عن أخلاقه أو علاقتي به

فقد يكون النمنم  بائع الأقمشة في المحل الملاصق لبيت جدتي أو  بائع الحلوى أو حتى البائع في محلات أبو ريالين بنفسه !!

رعب الثامنة مساءً

كنت أنام يوميا قبل الساعة الثامنة مساءً حتى أتخلص من النمنم وقصصه "من أكل اليوم من أطفال الجيران في الأحياء البعيدة التي لا أعلم عنها شيئاً، ولا من أفلت منه."

مواجهة النمنم

اذكر في أحد المرات أصرت إبنة خالي المدمنة على محلات أبو ريالين على النزول لشراء "الحمرة السحرية الخضراء وبعض الأساور والتيجان الذهبية"

كنت أصرخ من على السلالم  بشكل هستيري محاولة منعها من الذهاب لأن هذا الوقت يبدأ حظر التجول وأن سبب نزولها ليس ضرورياً لكنها لم تستمع إلي وذهبت ثم عادت بعد نصف ساعة بسلامة!

سألت جدتي كيف لم يأكلها النمنم!؟

فأجابت وبسرعة بديهه: لأن الخادمة كانت معها ربي ستر عليها ماشافها النمنم

فقلت بلهفة: اذا استطيع النزول ومعي أي شخص كبير؟

أجابت بثقة: لا انا فقط أحميكِ من النمنم..

لكنني كبرت.

وانكسر الوهم أخيراً.

وتلاه انكسارات أخرى..

ومع انكساره لم يختفي النمنم من باحة السوق فقط بل تسلل إلى داخلي. صار يسكن في تجاويف روحي، يبتلع صفائي، ينهش من طهري النفسي، يسرق مني الإيمان العميق بالحب المطلق والثقة العمياء والسذاجة البريئة.

النمنم الآن لم يعد يطاردني في الأزقة بعد الثامنة مساءً، بل صار يهمس داخلي كلما هممت أن أصدق أحدهم، كلما هممت أن أفتح قلبي. صار يقف حاجزاً بيني وبين الآخرين، يذكرني أن الخوف أوفى من الطمأنينة، وأن الحذر أوثق من الثقة.

كان أول وهم أحزن لانكساره. أول مرة شعرت أن العالم لا يرحم، وأن الأحلام التي نحيا بها لا تدوم.

ومع رحيل جدتي، رحل النمنم، لكنه ترك لي هدية مسمومة: وعيٌ مبكر قاسٍ، وجدارًا سميكًا بيني وبين براءة الطفولة.

أدركت أن بعض الأوهام أجمل من أن تُكسر، وأن الحقيقة لا تمنحنا دائماً الحرية، بل أحياناً تحمّلنا سجوناً أشد قسوة من الخيال.

أفلتت جدتي قبضتها من يدي، لكنها أبقتها في قلبي للأبد

أحبكِ أينما كنتِ

أينما كنتِ

***

لمى ابوالنجا/ أديبة وكاتبة من السعودية

 

في المعجم المحيط الحُورِيَّةُ: فتاة أسطوريّة بالغة الحُسن تتراءى في البحار والأنهار والغابات ومن دلالاتها أيضا المرأة الحسناء ساحرةُ الجمال كأنها حوريّة من حوريّات الجنّ

وفي المعجم الوسيط كذلك (الحُوريَّةُ) فتاةٌ أسطوريةٌ تتراءى في البحار والأنهار والغابات

وهذا المعنى ممّا ورد في - لسان العرب - الذي فصّل الجذر تفصيلا إلى أن بلغ قوله أن الحواريات من النساء: النقيّات الألوان والجلود لبياضهن ومنه قولهم: اِمرأَة حَوارِيَّةٌ إِذا كانت بيضاء ومنه قولهم أيضا ـ الحواريّ: الدّقيق الأبيض، وهو لُباب الدّقيق وهو أجوده وأخلصه وهذه الكلمة الفصيحة نسمعها في اللغة اليومية التونسية حيث وردت في أغنية شعبية انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية

ـ أمَانْ أمانْ يا لْمانِي * سافرْ عَلَيَّ وخَلّاني

إلى أن تقول ـ دَوِّر دوّرْ خُبز سْخُون وكعك محوّر ـ

فما أبلغ لغتنا التونسية الأصيلة التي يتضمن معجمها كثيرا من الكلام العربي الفصيح

وقد ورد في المعاجم العامة أنّ حورياتِ البحر أو عرائس البحر أو خَيْلان أو اِبنة البحر أو اِبنة الماء أو ـ عروسة البحر ـ في الكلام اليومي هي حوريات أسطورية خيالية تسكن في البحار والبحيرات والأنهار وتجمع بين صفات البشر وخصائص الأسماك، فالقسم العلويّ - وهو القسم البشري - يتمتع بكامل صفات البشر العلوية من الرأس إلى المنتصف بينما القسم السفلي - وهو القسم السّمكي - يتمتع بجسم سمكي من المنتصف إلى الذيل ويوجد منها الذكر والأنثى وحوريات البحر عادة جميلات وساحرات ولهن حكايات عجيبة عديدة يتناقلها الناس جيلا بعد جيل وقد ذُكرن في الآداب القديمة لدى شعوب بابل والهند واليونان وحتى الرّومان فقد وجدنا ذكر الحوريات على نقيشة رومانية في الحوض الكبير بمدينة قفصة التونسية هذا نصها بالعربية

مُقدّس لنبتون والحوريات

غنايوس يونيوس ابن غنايوس من قبيلة بابيريا

بنى قناة المياه والينبوع على نفقته الخاصة

وأهداه كهِبَة ممنوحة

- 2 -

لم تخلُ قصصُ ألفِ ليلة وليلة من ذِكر الحوريات أيضا ففي الليلة السادسة والثمانين بعد الستمائة وما تلاها من ليال ورد فيها ذِكرُ حورية البحر ومنها:

- بلغني أيها الملك السعيد، أن جُلّنار البحرية لما سألها الملك شهرمان حكت له قصتها من أولها إلى آخرها، فلما سمع كلامها شكرها وقبّلها بين عينيها وقال لها

ـ والله يا سيدتي ونور عيني إني لا أقدر على فراقك ساعة واحدة وإن فارقتني مُتُّ من ساعتي فكيف يكون الحال ؟ فقالت: يا سيدي قد قرب أوان ولادتي ولابد من حضور أهلي لأجل أن يُباشروني لأن نساء البرّ لا يعرفن طريقة ولادة بنات البحر، وبنات البحر لا يعرفن طريقة ولادة بنات البرّ فإذا حضر أهلي أنقلب معهم وينقلبون معي، فقال لها الملك: كيف يمشون في البحر ؟ فقالت: إننا نمشي في البحر كما أنتم تمشون في البرّ ببركة الأسماء المكتوبة على خاتم سليمان بن داود عليه السلام، ولكن أيها الملك إذا جاء أهلي وإخوتي فإني أعلمهم أنك اِشتريتني بمالك وفعلت معي الجميل والإحسان فينبغي أن تُصدق كلامي عندهم ويشاهدون حالك بعيونهم ويعلمون أنك ملك ابنُ ملك فعند ذلك قال الملك: يا سيدتي اِفعلي ما بدا لك ممّا تحبين فإني مُطيع لك في جميع ما تفعلينه فقالت الجارية: اعلم يا ملك الزمان أننا نسير في البحر وعيوننا مفتوحة وننظر ما فيه وننظر الشمسَ والقمر والنجوم والسماء كأننا على وجه الأرض ولا يضرنا ذلك واعلمْ أيضاً أن في البحر طوائفَ كثيرةً وأشكالاً مختلفة من سائر الأجناس التي في البر، واعلم أيضاً أن جميع ما في البرّ بالنسبة لما في البحر شيء قليل جداً، فتعجب الملك من كلامها ثم إن الجارية أخرجت من كتفها قطعتين من العود القُماري، وأخذت منه جزءًا وأوقدت مِجمرة النار وألقت ذلك الجزء فيها وصفّرت صَفرة عظيمة وجعلت تتكلم بكلام لا يفهمه أحد فطلع دخان عظيم والملك ينظر، ثم قالت للملك: يا مولاي قم واِختف في مَخدع حتى أريك أخي وأمي وأهلي من حيث لا يَرونك فإني أريد أن أحضرهم وتنظر في هذا المكان في هذا الوقت فقام الملك من وقته وساعته ودخل مخدعاً وصار ينظر ما تفعل، فصارت تُبخّر وتُعزم إلى أن َأزبد البحر واِضطرب وخرج منه شاب مليح الصورة بهيّ المنظر كأنه البدر في تمامه بجبين أزهر وخدّ أجمر وشَعر كأنه الدرّ والجوهر، وهو أشبه بأخته ولسانُ الحال في حقه يُنشد هذين البيتين

البدر يكمُل كل شهـر مـرةً

وجَمال وجهكِ كل يوم يكمُلُ

وحُلوله في قلب بُرج واحـد

ولكِ القلوب جميعُهن المَنزلُ

ثم خرجت من البحر عجوز شمطاء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح

- 3 -

وقد اِستلهم في العصر الحديث بعضُ الشعراء العرب حورية البحر وجعلوها رمزًا للحسن والعشق مثل الشاعر مصطفى خريف في قصيدة ـ حُورية الموج ـ التي يستهلها بقوله

شَفّ صدرُ البحر عن سرّ الجـلال

وطـــفـــت فـــيـــه الـــلآلـــي

فوق موج فاض من سحر الجمال

فــــــاق تــصــويــر الــخــيــال

جــال فـــي حـســن وإشـــراق

مُستجـيـشًـا مــثــل أشــواقــي

حيـن أكسوهـا بديعًـا مـن بيـانـي

هل على صدرك فاضت موجتـان

بـــالـــهـــوى تــرتــعــشـــان؟

ونجد ـ الحورية ـ كذلك لدى للشّاعر بدر شاكر السيّاب ضمن قصيدة ـ حوريّة النهر ـ التي يقول في نهايتها

رأى - ويح عينيه - حُورية * فجُنّ بها ساعة ثم راح

فَقدْ يُخبر النجمُ عنه الرعاة * فيَبكون حُزنا و تبكي البطاح

و مات الشّقيّ الحزين فعادت * تُكفنّه بالشّراع الرياح

فقصيدة مصطفى خريف تبدأ بمنظر شامل للبحر الذي تلوح منه حورية جذلى بجمالها فينبري الشاعر لوصف ملامح حُسنها وهو في حالة اِنسجام معها لكأنهما يرقصان على نغمات سنفونية رائقة وتنتهي القصيدة بتمام اللقاء عند الوصال فحركة القصيدة تسير في تنامٍ وتصاعد حتى تبلغ أوج الاِنصهار عند قوله

واِرتمينـا فـي اِنقـبـاض واِمـتـدادِ واِمتزاج واِتّحادِ

وهـي تـنـزُو باِبـتهاج وتُـنادي فـيُلبّيها فـؤادي:

يـا حبيـبـي أنـت لـي وحدي

فاقتـربْ واُشْمُـمْ شــذى نـَهدي

أمّا قصيدة بدر شاكر السياب ـ حُورية النهر ـ فإن ظلال الرومنطيقية تبدو وارفة عليها في جميع أبياتها منذ المطلع

نفوسٌ مُعذبه هائمة * تَخَبّطُ في الظلمة القاتمة

أجَدَّ لها الليلُ أحزانَها * و تَذكار أيامِها الباسمة

فالحزن والكآبة باديان في القصيدة لذلك كان إيقاع الرتابة الثقيل قد حطّ بكلكله على الأبيات التي اِنساقت ضمن مسار تنازلي إلى الاِنحدار والتلاشي في قوله

ومات الشقيّ الحزين فعادت * تكفنه بالشّراع الرياح

ذلك هو البيت الأخير من القصيدة موت وكفن وتعبير عن مأساة الفتى الباحث عن الخلاص لدى حورية النهر التي حسب أنّ النجاة والخلاص على يديها ولكن مصيره المحتوم كان هو الغالب على أمانيه وأحلامه لذلك تبدو حورية بدر شاكر السياب مثل السّراب الذي لا يُشفي من غليل الآمال على عكس حورية مصطفى خريف التي شَفته من شوق الوصال.

***

 سُوف عبيد ـ تونس

ملأنا البحر حتى ضَاقَ عَنَّا*

وَمَاءُ الْبَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِينا

ملأنا البحر حتى ضاق عنا، وماء البحر نملؤه سفينا… هو أبلغ وصف يمكن أن نصف به رحلتنا التعليمية في جامعة كركوك، هذا الصرح العلمي القيم الذي أصبح منبعًا صافياً للمعرفة ومصدرًا للمهارات، إذ أُتيح لنا أن نصقلها تحت إشراف أساتذة أفذاذ، جعلوا من العلم بحرًا واسعًا لا تحده شواطئ، ومن كل تجربة تعليمية موجًا يدفئ العقول ويمده بالوعي.

جامعة كركوك، التي تقع في قلب المدينة، تظل من الصروح الأكاديمية البارزة في العراق، فكانت وما زالت جسراً بين الماضي الثقافي العريق والحاضر التعليمي النشط.

برز قسم اللغة العربية من الأقسام التي احتضنت نخبة من الأساتذة المتمرسين، إذ امتلكوا معرفة رصينة، مستندة إلى أمهات الكتب، ومزجوا بين أساليب التعليم التقليدية والفذّة، لتكون خبرتهم تجربة عملية وعلمية في آن واحد.

وكان من بين هؤلاء الأساتذة الذين تركوا بصمة واضحة في مسيرتناالدكتور   

دكتور سامي شهاب الجبوري

الدكتور عبد الرحمن محمود

الدكتور نوفل الناصر....

إلى جانب العديد من الأكاديميين الآخرين الذين عملوا على تطوير وصقل مهاراتنا النقدية والأدبية، وجعلوا من كل ورشة تدريبية بحرًا يفيض بالمعرفة والوعي.

ما يميز جامعة كركوك هو طبيعة مجتمعها الجامعي، الذي هو انعكاس طبيعي لطبيعة المجتمع الكركوكي المتعدد القوميات والأديان والمذاهب؛ عرب وأكراد وتركمان، مسلمون ومسيحيون، سنّة وشيعة، مع طوائف متنوعة أخرى.

وفي ظل هذا التنوع الكبير، كان الأساتذة نموذجًا في التعامل العلمي المحايد؛ فقد علمونا كيف نتجاوز الانحيازات والأيديولوجيات في تعاملاتنا مع النصوص، وكيف لا نسقط عليها أي أيديولوجية، وكيف نقرأها بعين نقدية مستقلة، بعيدًا عن أي تأثيرات خارجية، حتى نصبح طلبة واعين قادرين على استيعاب المعرفة بكل صفاء.

كانت ورشهم العلمية بمثابة بحار متسعة من المعرفة، نغترف منها دون توقف، وتكتنز ما يغذي عقولنا ويحرّك روحنا، واليوم، بعد أن تخرجنا، أصبحت لدينا سفننا الخاصة، أشرعتها مفتوحة أمام رياح المجد والمعرفة، تبحر في فضاءات العلم الرحبة، محملة بما تعلمناه من خبرة وإرشاد، ومتشبعة بفيض عطائهم الذي لا ينضب.

إن هذا العطاء المستمر يجعلنا نقف إجلالًا وامتنانًا لهؤلاء الأساتذة الكبار، فنقول: كنتم خير اليد التي مدت لنا، وخير السند الذي اعتمدنا عليه، وخير المعلمين الذين زرعوا فينا بذور الإبداع والوعي، وجعلوا من كل تجربة تعليمية موجة من الفهم والمعرفة،ةلقد منحتمونا أكثر من مجرد تعليم نظري؛ لقد فتحت لنا الأفق، وأمّنت لنا المساحة لنصبح قادة في بحار العلم التي صقلتموها، لتبحر سفننا دون خوف.

تحية حب وإجلال لحضراتكم، فأنتم النموذج الحي لما ينبغي أن يكون عليه التعليم: منبع صافٍ للعلم والمعرفة، بعيد عن الأيديولوجيات، وبيئة خصبة لصقل المواهب وتنمية القدرات، حيث يخرج كل طالب سفينة قادرة على الإبحار في بحار المعرفة كسندباد المغامر دون خوف، والساموراي المحارب بقلب شجاع، وابن بطوطة الرحال من نص إلى نص…

***

د نسرين ابراهيم الشمري

لا خلاف على ان النجاح لا يتحقق بدون الكفاح الجاد والمثابرة والثقة بالنفس، فالبحار الهادئة كما يقولون لا تصنع بحارا ماهرا، ولو تأملنا سيرة المبدعين واصحاب الانجازات الكبيرة لوجدناها لا تخلو من المقومات الآنفة الذكر، وهو ما لمسناه عن كثب من خلال مواكبتنا لعدد من تجارب الآخرين،  ففي صيف عام 1978 الذي يمثل بداية عملنا الوظيفي في " مكتب تحريات التربة في الديوانية  " حل علينا شاب وسيم هادئ قادم من مدينة الناصرية ليشاركنا العمل في الدائرة بصفة  "رسام خرائط " وبعقد مدته شهور العطلة الصيفية للطلبة حيث تبين بعد ايام قليلة من مباشرته العمل ان الشاب يدرس في معهد الفنون الجميلة ببغداد قسم الرسم  وان دافع قدومه للعمل بعيدا عن مدينته هو من أجل توفير نفقات ومصاريف السنوات الدراسية المتبقية له في المعهد، ودعما لهذا الهدف النبيل قام المدير بتخصيص احدى غرف الدائرة مكانا لمبيته، ولم تمض مدة طويلة حتى انسجم مع موظفي المكتب وراح يتبادل مع الجميع الحديث والطرائف، وفي أوقات الفراغ كنت المح الشاب يلوذ في زاوية من الغرفة وينشغل في تخطيط الوجوه بقدرة فنية عالية مستثمرا في ذلك مسودات الاوراق التالفة  فهو يستغل انشغال العاملين ليقوم باقتناص واحد من الوجوه التي يراها مناسبة لقلمه وقدراته لينفذ تخطيطه، وكان الاسلوب الذي ينفذ به البورتريت هو الكاريكاتير حيث يقوم بتثبيت معالم الوجه مع المبالغة في تضخيم السمات البارزة فيه فيظهر الوجه بشكل يثير الضحك، وقد تسببت تخطيطاته بإشكالات مع العاملين الذين نالهم قلمه نتيجة موجة الضحك والسخرية التي كانت تثيرها بين صفوف الموظفين، توطدت علاقتي بهذا الشاب وكم من مرة وبعد انتهاء الدوام الرسمي اصطحبه الى البيت ليشاركني وجبة الغداء وكذلك في تمضية المساء معا فقد كان غريبا على المدينة لا يعرف فيها احدا، ولإعجابي بتخطيطاته وحرصي على توثيقها فقد زودته  بكراس من الورق الابيض كي ينفذ عليها ما يشاء بدلا من الورق التالف الذي سرعان ما يذهب مع جهده الى سلة المهملات وقد حقق لي ذلك وما زلت احتفظ الى اليوم بالكراس المذكور ومن الوجوه التي نفذها بأسلوب الكاريكاتير كانت لصباغ احذية مميزا بذقنه المدبب ولحيته الكثة واثناء انهماك المذكور في خدمة الموظفين، كما انه وقبل انتهاء عقده نفذ لي لوحة الفنان الهولندي " رامبرانت " الشهيرة بـ " اختطاف جانيميد " هدية منه وتعبيرا عن وفائه وعمق الصداقة التي توطدت بيننا .

هذا الشاب أصبح اليوم فنانا تشكيليا عالميا مقيما في لندن ومعارضه الفنية تتنقل بين لندن وكوريا وفرنسا انه الفنان العراقي (سعدي داود) الذي بنى مجده الفني بالكفاح والمثابرة وقدم لما منجزا فنيا مميزا يستحق الاشادة والتقدير.

***

ثامر الحاج امين

 

طالب المواطن الشفا عمري الغيور طربيه طربيه، بتاريخ 15 ايلول 2021، في رسالة بعثها إلى رئيس بلدية المدينة انذاك السيد عرسان ياسين، بأن يعمل على إطلاق اسم الكاتب الشاعر المرحوم ماجد عليان، مدير مدرسة العين المُخلص، في فترة ماضية، على مدرسة العين ذاتها، او على أحد شوارع المدينة، وقد سبق للصديق الكاتب المسرحي عفيف شليوط ان تقدم عبر مقالة كتبها قبل ست سنوات بمثل هذه المطالبة. بما انني عرفت المرحوم عن قرب وربطتني به علاقة صداقة ومودة، تواصلت خلال فترة مديدة من الزمن ولم يقطعها سوى موته المبكر، وبما انني اعرف جيدا العطاء الغني الثرّ الذي قدمه المرحوم في المجالين الثقافي والاجتماعي، فإنني اضم صوتي إلى صوت صاحب الرسالة وسابقه في دعوة مماثلة الاخ عفيف شليوط، علما انني لا اعرف الاخ طربيه حتى الآن.

ماجد مهنا عليان من مواليد مدينة شفاعرو عام 1965، تلقى دراسته العليا في دار المعلمين في حيفا وتابعها في جامعة حيفا ليحصل منها على اللقب الجامعي الثاني في علم الاجتماع والادب العربي. عمل اعوامًا طوالًا في سلك التدريس وشغل منصب مدير مدرسة "العين" في مسقط رأسه فترة ليست قصيرة. عُرف بعطائه الادبي الغزير كتب الشعر والبحث الادبي، وله في الشعر عدد من المجموعات هي: "أحلى الكلام في الحبّ والغرام" (صدر عام 1985). "ورد وعبير" (1986). "نفحة من الصّدر" (1991). "تأمّلات في حقيقة الذّات" (1995). "حوار مع الأنا الآخر"(2001(. وله كتاب هام عرض فيه العروض الشعرية العربية عنوانه"التّبيين والبيان في العروض والأوزان" (صدر عام 2007). اي قبل رحيله عن عالمنا بعام واحد، فقد توفي قبل سبعة عشر عاما وكانت وفاته مفاجئة في صبيحة 27 ايلول.

ذكرتني الرسالة المذكورة، وقد احسن يعض الاخوة حينما تناقلوها في صفحاتهم الفيسبوكية، بتلك اللحظات والسويعات الطيبات التي جمعت بيني وبين المرحوم ماجد عليان، فقد كان يتدفق حيوية ونشاطًا، وكان محبًا حقيقيًا للأدب وأهله، واذكر انني التقيت به في مدرسة العين التي تولى ادارتها حتى ايامه الاخيرة في الحياة، كما التقينا في مكاتب مجلة "الشرق" الشفاعمرية خلال رئاستي تحريرها، وكان المرحوم زائرًا شبه دائمٍ لمكاتب مجلة "المواكب" التي عملت في تحريرها إلى جانب مؤسسها ورئيس تحريرها الصديق الشاعر والباحث الراحل ايضًا فوزي جريس عبدالله.

لقد اولع المرحوم ماجد عليان منذ بدايات وعيه الاولى بالقول الشعري، فراح يكتب القصيدة تلو القصيدة، كما راح يصدر المجموعة الشعرية بعد المجموعة، عائشًا الهمَّ القوليَّ حتى أعمق أعماق روحه ووجوده، وعندما أحس أنه توجد هناك ضرورة لتيسير العروض والاوزان الشعرية العربية الصعبة، وضع كتابه المذكور عنها، وفي خاطره أن يكون مدخلًا طلابيًا يتعلّم منه وعبره الابناء ما ارتآه مُهمًا وضروريًا للإبداع الشعري العربي الحقيقي، وهي الاسس التي قعّد لها الخليل ابن احمد عندما رأى ان الوقت حان لفعل ذلك محافظة على جانب مهم جدًا من تراثنا العربي.

مما اتذكره عن الصديق المرحوم، انه كتب العديد من الدراسات والابحاث الادبية، حينًا بغرض الدراسة الوظيفية الجامعية وآخر بدافع المحبة في نشر الثقافة الادبية الرصينة بين ابناء الاجيال الصاعدة، ويُهيأ لي أن عَملَهُ مُدرسًا ومديرًا لمدرسة، قد شدّد من عزيمته في هذا المجال، وقد نشر العديد من الدراسات والابحاث في المجلات والصحف التي كانت تصدر خلال فترة انتاجه الادبي، واعتقد ان ذكراه الحالية السابعة عشرة، فرصة مناسبة لأن يبادر أحد طلبته او زملائه او ابناء عائلته لجمع هذه الدراسات، واصدارها في كتاب او اكثر، فالرجل لم يكن عابرًا وبذل مجهودًا مصوّبًا وموجهًا وعاش الهموم الجماعية وكأنما هي همومه الشخصية.

لقد رحل ماجد عليان وهو في ذروة عطائه وتوقده الذهني، ورغم فترة وجوده بيننا وفي عالمنا كانت قصيرة نسبيا، اذ عاش ثلاثة وأربعين عاما فقط، فقد ادى دوره كاملًا، سواء كان في المجال الادبي الذي استحوذ على اهتمامه طوال سنوات وعيه وادراكه، او في المجال الاجتماعي الذي شغله طوال الوقت فلم يقصّر مع أحد من ابناء مدينته ومنطقتها، وكان شُعلة متوهجة من العطاء والمحبة.. لهذا كله اضم صوتي الى صوت المطالب بإطلاق اسمه على مدرسة العين او الشارع القريب منها.. اذ يحق لمن اعطانا الكثير ان يأخذ القليل.

***

ناجي ظاهر

 

مصير كتاب (الشيعة والدولة القومية) المجهول!

العلاقة بشارع المتنبي تعود إلى أيام الدراسة في الجامعة، يوم كنّا نقطع شوطاً من المسافات مشياً على الأقدام من كلية التربية في الوزيرية، نعبر محلة (الصابونچية) في الميدان، حيث تصطف بيوت عتيقة متداعية، جدرانها ملطخة برطوبة السنين، وأزقتها ضيقة تفوح منها رائحة عطنة. خلف أبواب نصف مخلوعة تجلس نساء عجائز، عاهرات الأمس وقد شاخن، يتطلعن إلى المارة من الشباب بنظرات خاوية. دخان سجائرهن يتصاعد في الهواء الثقيل، وملابسهن البالية تروي حكايات سقوط واندثار. لم يكن أحد يلتفت إليهن، بل يمرّ الطلبة بعيون شاخصة إلى الأمام، كأن الزمن تخطى تلك الأرواح وتركها عالقة في بيوت مهجورة.

في الأزمنة الملكية، كانت تلك الأزقة يدخلها الرجال بعد فحص وترخيص، لم يبق منها سوى أطلال حرفة بائدة ووجوه ذابلة، شاهدة على زمن انقضى.

في (المتنبي) تبدأ رحلة البحث بين المكتبات، وهي رحلة ممتعة، متعة اللقاء بالقرّاء، والباحثين، والكتّاب، هذه الرحلة كانت كفيلة أن تدبّ فينا حياة ما، لا ندري كنهها الحقيقي، لأننا لم نجرّب غيرها، لم تتسن لنا مقارنتها بغيرها، خليط كنا، يجمعنا ويوزعنا، نلتهي ونكتوي، ندخل إلى يفاعتنا من بوابة المشاكسة، وارتكاب البراءات، نجد الجدّ غير ملائم لأحلامنا، فنقذف به إلى خارج أسوار الكلية، نهتف: تسقط الحكومة، نحتج على إلغاء نتائج الانتخابات الطلابية التي شهدت صعوداً مفاجئاً لقوى اليسار، نواجه رصاص آمر الانضباط العسكري (سعيد صليبي)، أيام حكم عارف الثاني، نلهو، نلوك النكات البذيئة، نكتب كلمات عشق بريئة على صفحات الدفاتر ونسرّبها إلى طالبات يافعات ـ أغلبهن قادمات من محافظات خارج العاصمة ـ يقتنصن نظراتنا الساخنة في حمأة المواجهة والتظاهر، والعطش العاطفي. نعود للشارع بلهفة عندما نستلم المخصصات الشهرية لطلبة القسم الداخلي، لنتغدى أكلة (قوزي الشام) اللذيذة، في مطعم تاجران أو كباب الإخلاص بشهية لا حدود لها.

تعود العلاقة بشارع المتنبي لعقود من الزمن، فيه تختلط رائحة الورق وأحبار الطباعة وأصوات الباعة بوقع خطوات المارين. مرَ أكثر من نصف قرن، تغيرت الوجوه، والأزقة، والواجهات، كل شيء تغير، إلا تلك الرائحة واللغة الخفية التي تختزنها الروح، لم تتغير، كان للنكهة سحر خاص، وللألفة والحنين الجميل طعم لا يزول.

في تسعينات القرن الماضي أخذت العلاقة بالشارع منحى آخر، حين داهمتنا ألوان شتى من الحصارات، الحصار الأول الذي تلبسنا وأخذنا من هويتنا إلى هاويتنا، لأن الممنوع هو كل ما يمكن، وما لا يمكن تصوره يوم كان "المتنبي" وسيطاً لتهريب كنوز الثقافة العراقية من المخطوطات، والآثار، ومجلات سومر والمورد إلى دول الجوار، وتحولت الأرصفة على مكتبات حزينة تحمل آثار جوع المثقفين والأدباء والأساتذة، يوم كانت لقمة العيش أفرض من أي شيء، تلك من أكثر الصور مرارة وقسوة في ذاكرة شارع المتنبي. حين صار الكتاب رغيفاً وقت أيام الشحوب والخوف.

لم أجد سبيلاً للعيش سوى ذاك الملاذ الذي لا يبعد عن مقهى "الشابندر"، سوى خطوات، أعود من جديد لمهنة التكسب، كنت قد غادرتها منذ سنوات لأجرّب حظي فيها، عدت إلى (الخط)، في غرفة معلّقة، مشرفة على الشارع في بناية قديمة هرمة، سرعان ما أضحى المكان ملتقى (الناقمين) الرائحين والقادمين، هو ليس ببعيد عن عيون افراد الأجهزة الأمنية المنتشرين طوال الوقت في الشارع.

شعرت بخطورة المكان حين فوجئت بسرقة محتويات المكتب صباح أحد الأيام، كنت في المساء الذي سبق الحادث قد نسيت كتاب حسن العلوي (الشيعة والدولة القومية) في أحد أدراج الطاولة، الكتاب نسخة أصلية كنت قد استعرتها من صديقي الفنان محمود حمد، وكالعادة أعرتها لصديق آخر، هكذا كنا لانحسب حساباً لحجم المخاطر التي تحيط بنا، أحياناً بسذاجة أو بغفلة!

حالاً اتجهت إلى الطاولة، لم أجد الكتاب! يا ويلتاه! ماذا أقول لمحمود؟ كيف يصدقني، وأنا؟ إلى أين المفر؟ لم يكن أمامي أي خيار سوى قفل الباب والهروب، لكن إلى أين؟

اخترت هجرة المكان تحسباً لوقوع الأسوأ، عدت إلى الشارع في أحد الصباحات محملاً بشيء من الاطمئنان الداخلي. مع الحذر الشديد، هناك على الرصيف كانت مقتنياتي المسروقة معروضة بعفوية غريبة باستثناء كتاب العلوي بالطبع، تحولت لحظة الخوف إلى دهشة صامتة، كان البائع الذي عرضها صديقي (س)، لم يكن على علم بما حصل بالتأكيد، لكن حاولت معه أن يدلّني على الشخص الذي اشترى منه (المسروقات)، كلانا يخشى الآخر، من الصعب عليّ أن أسأله عن مصير الكتاب! امتنع وسكت، لحظتها تبدد خوفي وقلقي، كأن صمته حماية سرٍ صغير بيننا. صديقي أحمد الصالح الوحيد الذي عرف السر، التمسته أن يتحرى عن الكتاب لثقتي العالية فيه، ولم يتوصل إلى أية نتيجة إلى هذا اليوم.

السؤال الذي أحاول الإجابة عليه، ما الأسرار التي ينطوي عليها هذا المكان؟ ما دلالاته ورموزه؟ إنها أسئلة تحمل العديد من الإيحاءات، والحكايات. منها ان شارع المتنبي يختصر متعة (المثقف)، على الرغم مما تعرض له من تدمير، وازاحة وجوده الرمزي، ظل يحتفظ بمعناه في جدال مع تاريخه، ليقول لنا دائماً: انه مصدر النور، واستمرار الحياة.

***

د. جمال العتابي

حدث ذلك قبل حوالي العقد من الزمان، يوم ناولني الشاعر الصديق الدكتور فهد أبو خضرة مجموعة شعرية لموهبة جديدة وصاعدة من مدينة حيفا كما قال. كنت حينها أقوم بالتعاون مع هيئة تحرير مواقف، المجلة التي أصدرتها عبر سنوات جمعية المواكب، وتوقّفت حاليًا عن الصدور. تناولت المجموعة من يد الصديق فهد. قرأتها وقدّمتها إلى المطبعة لتصدر ضمن منشورات مواقف، مُحمّلةً بعنوان حين يجن الحنين، وقد صدرت مُرفقة بالعدد الجديد من المجلة. تلك كانت المجموعة الشعرية الأولى للشاعرة حنان جريس خوري، ابنة مدينة حيفا التي رحلت يوم الاحد الخامس عشر من آب العام الفائت 2024.

صاحبة هذه المجموعة هي ابنة لعائلة مُهجّرة من قريتها البروة، والدها هو الأستاذ المُربّي ومعلّم اللغة العربية الأستاذ جريس جبران خوري (1938- 2021)، ووالدتها هي المُربية فادية خوري، أما عمُّها شقيق والدها الأكبر فهو الكاتب المعروف سليم خوري(1934- 1991) صاحب وريث الجزار. كانت حنان ابنة لعائلة مُحبّة عاشقة للغة العربية وآدابها، غير انها اختارت أن تدرس علم الاجتماع وعلوم الفيزياء والرياضيات للقب الجامعي الأول، والفلسفة وعلم النفس والدين للقب الثاني، من جامعة القدس العبرية. عملت حنان أخصائيّةً اجتماعية في مجال الصحة، وقد عملت في مستشفى هداسا عين كارم ومستشفى رمّبام وغيرها من المؤسسات العلاجية الاجتماعية النفسية. في الفترة الأخيرة ألمّ بها المرض ولم يمهلها طويلًا، فرحلت وهي لما تُكمل عامها الثاني والخمسين.

بالعودة إلى مجموعتها الأولى هذه، قُمت في البداية بالاتصال بها لاطلاعها على مُجريات طباعتها، كما كان دأبنا في مواقف، في التعامل مع مَن نقوم بطباعة كتاب لاحدهم، وما زلت أتذكر تلك اللهفة وذلك الامل الذي ردت علي به، فقد كانت متشوّقة كلّ الشوق، لطباعة مجموعتها الشعرية الأولى التي تُطبع لها وهي لما تزل في ذروة الشباب، أما المُناسبة التي كمنت وراء تقديم الدكتور فهد أبو خضرة تلك المجموعة، لتصدر ضمن منشورات مواقف، فقد جاءت بعد أمسية شعرية، عُقدت في خيمة البادية في عُسفيا، وضمّت لوحات فنّية من إبداع الفنان الحيفاوي كميل ضو المعروف ببراعته الفنية في مجال الخط العربي، وقد قامت اللوحات التي عُرضت آنذاك على كلمات من ابداعات حنان جريس خوري، وهو ما لفت نظر الدكتور فهد إليها، لا سيما عندما استمع إليها وهي تُنشد شيئًا من كتاباتها الشعرية. لقد تعرّفت خلال اتصالي بحنان عليها اكثر وأذكر أنني اتفقت معها، على أن تزورنا في موعد، قُمنا بتحديده في مطبعة النهضة في الناصرة، حيث كنا نقوم بتحرير المجلة أولًا وطباعتها ثانيًا، وذلك برفقة والدها أستاذ اللغة العربية المحترم.

في الموعد المُحدّد استقبلنا صاحبة الكتاب ووالدها الأستاذ المعروف، وجرى بيننا حديث حول الشعر والادب، فهمتُ خلاله أنها لم تكن وافدة جديدة على عالم الادب والشعر، وأن موهبتها في ذلك المجال المحبّب ابتدأت منذ أيام دراستها الابتدائية، وأنها نمت يومًا بعد يوم، شهرًا اثر شهر وسنةً بعد سنة. أطلعتُ يومها زائري على المُقدِّمة التي كتبتها للكتاب، فأعربت صاحبته عن سُرورها بها، موضحةً أن ما كتبته جاء في الصميم وعبّر عن مكنونات ما أرادت أن تقوله، عن والشوق لكل ما هو جميل وراسخ في النفس التواقة للرقة والحلم الرومانسي. أما والدُها فقد فضّل الصمت، وعندما جرى الحديث عن علاقة صداقة ربطتني بأخيه الكاتب الراحل سليم حوري، افترشت وجهَه ابتسامة فاضت بكلّ ما لديه مِن ذكريات طيبة عن أخيه الكاتب القصصي والمسرحي اللامع.

بعد صدور مجموعة حين جن الحنين، تواصلَ الاتصالُ فيما بيننا قليلًا إلى أن انقطع، ليستمر بصورة أخرى، أعرفُها جيدًا، فأنا أتابعُ كلّ ما يتعلّق بالحياة الأدبية في البلاد، وبما أنني كنت مُشاركًا في صدور ذلك الكتب، فقد تابعت أخباره باهتمام شديد، فهذه أمسية شعرية تَحتفي به، يتولّى إدارتها الصديق الإعلامي رشيد خير، إضافة إلى كوكبة من أصحاب الأسماء الذين أكن لهم الكثير من التقدير والاحترام مثل الكاتب الصديق فتحي فوراني وعضو الكنيست في قترة سابقة عصام مخّول، وغيرهم ممن لا تحضُرني أسماؤهم للأسف، بل ها هو الصديق رشيد خير يستضيف صاحبة الكتاب، بعد نحو العام من صدوره، وها هي تستفيض في التحدّث عنه وعن محبّتها للكلمة المجنحة الطائرة. بل ها هو نادي حيفا الثقافي بإدارة الصديق المثقّف فؤاد نقارة وخدينته سوزي، يحتفل يجنون الحنين، ويرحّب بها ضيفًة عزيزًة غاليًة في ديوانه الفخم.

والآن بعد أن رحلت حنان جريس خوري عن اثنين وخمسين عاما لا أكثر، ماذا بإمكاني أن أضيف، لقد أصدرت حنان بعد خمسة أعوام من مجموعتها الأولى تلك، مجموعتها الثانية والأخيرة، مُحمّلةً إياها عنوانًا يُكمل عنوان كتابها الأول، هو في حضن الورد. رحم الله حنان جريس خوري، فقد أحبت والدها حُبًّا جمًّا وقدّرته حقّ التقدير، ولم تَعش بعد رحيله سوى ثلاث سنوات.. لتمضي مُواصلةً في طريق الشعر، الحنين والورد.

***

ناجي ظاهر

من الكاتب العظيم إي. بي. وايت

بقلم: سام ويلر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

"أعتقد أن الكتابة في الأساس عمل شاق."

- إي. بي. وايت

إي. بي. وايت، الكاتب المحبوب لأدب الأطفال (مثل " عنكبوت شارلوت " و"ستيوارت الصغير " و"بجعة البوق")، وكاتب المقال المبتكر المُبَجَّل، والمحرر المشارك للكتاب الأساسي "عناصر الأسلوب"، يُحتفل اليوم بذكرى ميلاده. وُلد في ماونت فيرنون، نيويورك، في 11 يوليو 1899.

كان وايت - اسمه الكامل: إلوين بروكس وايت (أما لقبه في جامعة كورنيل فكان"آندي") – شخصية شديدة الخصوصية، لكنه عُرف بحبه العميق للطبيعة والبيئة، وهو ما تجلى بوضوح في كتبه المقالية وأعماله للأطفال.

نُشر أول عمل له في مجلة "ذا نيويوركر" عام 1925، ثم أصبح محررًا مساهمًا فيها عام 1927، حيث كتب خلال هذه الفترة أكثر من 1800 مقال. وقد أشاد به ويليام شون، محرر "ذا نيويوركر" الشهير، لابتكاره شكلاً أدبيًا جديدًا – وهو مقال "التعليق" الخاص بالمجلّة: غالبًا ما كان شخصيًا، يمزج تجربة الكاتب الذاتية مع النقد الثاقب، بلغة سهلة تصل إلى جمهور واسع.

أحب إي. بي. وايت الكتابة، وبفضل إنتاجه الغزير عبر أجناس أدبية متعددة، قدم هذا الكاتب الموهوب نصائح حكيمة حول الصنعة الأدبية. إليك بعض أفكاره الأكثر إثارة حول الكتابة، والإبداع، وروعة الكلمة المكتوبة.

عن أهمية حدس الكاتب (وأخذ الوقت الكافي):

عندما أنهيت كتابة " عنكبوت شارلوت "، وضعته جانبًا وشعرت بأن هناك خطبًا ما. استغرقت القصة سنتين لأكتبها، بين العمل والانقطاع، لكني لم أكن في عجلة من أمري. ثم أخذت سنة أخرى لأعيد كتابتها، وكانت سنة مُستثمرة بحكمة. إذا كتبت شيئًا ما وشعرت بشك حوله، أتركه ينضج. فمرور الزمن يمكن أن يساعد في تقييمه. لكن بشكل عام، أميل إلى الإسراع بالنشر، مُحتَمِياً بأمواج المشاعر.

– من مقابلة في مجلة "ذا باريس ريفيو" عام 1969

في صفحة بيضاء...

".....الصفحة البيضاء تحمل بالنسبة لي أعظم إثارة ممكنة - أكثر وعودًا من سحابة فضية، وأجمل من عربة حمراء صغيرة. إنها تحمل كل الأمل، وكل المخاوف. ما زلت أتذكر بوضوح تام وقوفي وجهاً لوجه مع ورقة بيضاء وأنا في السابعة أو الثامنة من عمري وأنا أفكر: 'هذا مكاني. هذه هي.'"

- من "رسائل إي. بي. وايت"

عن الكتابة للأطفال:

" من يكتب للأطفال دون مراعاة لمشاعرهم هو ببساطة مضيعا لوقته. عليك أن تكتب مُتطلعًا لأعلى، لا لأسفل. الأطفال قراء صارمون - إنهم أكثر القراء انتباهًا، وفضولًا، وحماسًا، وملاحظة، وحساسية، وسرعة، وتقبلاً في العالم. يقبلون تقريبًا دون تردد أي شيء تقدمه لهم، طالما كان العرض صادقًا، وشجاعًا، وواضحًا.

لقد قدمت لهم - خلافًا لنصائح الخبراء - فتىً فأرًا في (ستيوارت الصغير)، فقبلوه دون تردد. وفي" عنكبوت شارلوت" ، أعطيتهم عنكبوتًا مثقفًا، فتقبلوه كذلك."

- من مقابلة في "ذا باريس ريفيو" عام 1969

عن الأسلوب:

"مع بعض الكتّاب، لا يكشف الأسلوب عن روح الكاتب فحسب، بل يكشف عن هويته أيضًا، بوضوح يعادل بصمات أصابعه."

- من كتاب "عناصر الأسلوب"

عن أهمية الوضوح:

"أهم ما أحاول القيام به هو الكتابة بأكبر قدر ممكن من الوضوح. لأن لدي احترامًا كبيرًا للقارئ، وإذا كان القارئ سيتكبد عناء قراءة ما أكتبه - وأنا نفسي قارئ بطيء وأظن معظم الناس كذلك - فأقل ما يمكنني فعله هو تسهيل مهمته في فهم ما أحاول قوله أو توصيله. أعيد الكتابة مرارًا كي أوضح الفكرة."

- من مقابلة في نيويورك تايمز عام 1942

عندما تواجه صعوبة في الكتابة:

" لم أرَ كتابًا كُتب بلا جهد. جميعها تُستنزف طاقتك، بطريقة أو بأخرى....إذا كنتَ تواجه صعوباتٍ مع كتاب الآن، اسأل نفسك: هل أهتم حقًا بهذه الشخصيات أو هذا العمل؟ إذا كانت الإجابة نعم، فلا شيء يجب أن يثنيك. وإن شككتَ، فانتقل لشيء آخر. كنتُ أعرف مع 'شارلوت ويب' أنني أهتم بهم جميعًا بعمق، لذا واصلت الكتابة ."

- من رسائل إي. بي. وايت

عن تقييم نفسك:

"القدرة على تقييم أعمالك بدقة مهارة حيوية. عرفت كتابًا موهوبين يمتلكونها وآخرين لا يمتلكونها. بعضهم كان مقتنعًا أن كل ما يخطه قلمه هو نتاج عبقري، وأقرب ما يكون إلى الصواب.."

- من مقابلة في باريس ريفيو 1969

عن التسويف:

"التأجيل طبيعة عند الكاتب. إنه أشبه براكب الأمواج - يترقّب، وينتظر الموجة المثالية التي سيركبها إلى الشاطئ.. التأجيل غريزة لديه. ينتظر تلك الدفعة (من العاطفة؟ أو القوة؟ أو الشجاعة؟) التي ستحمله معه. ليس لديّ تمارين إحماء، سوى مشروب من حين لآخر. أميل إلى ترك الأفكار تنضج في ذهني قبل صياغتها. أتمشى في الغرفة، أقوم بتعديل الصور على الجدران، والسجاد على الأرض - وكأن كل شيء في العالم يجب أن يصطف في تناسق تام وكأن العالم يجب أن يصبح مثاليًا قبل أن أكتب كلمة واحدة."

- من مقابلة منشورة في باريس ريفيو 1969

عن الإلهام:

كل هذا الكلام عن الإلهام... اسمع، لا يمكنني أن أخبرك بشيء عن "أساليب العمل"...

لكنني أظن أن كل ما يُقال عن الإلهام — في رأيي — مبالغ فيه. الكتابة، في جوهرها، عمل أشبه بعمل ميكانيكي. والميكانيكي لا ينتظر 'إلهامًا' ليُشحّم سيارتك."

- من مقابلة في نيويورك تايمز 1942

عن أهمية الأحلام:

" ... ظهر 'ستيوارت ليتل' في حلمي كاملاً، بقبعته وعصاه وأسلوبه المرح . كان الفأر ستيوارت الشخصية الوحيدة التي زارتني هكذا، فلم أشأ تغييره إلى كنجر أو جندب."

- من رسائل إي. بي. وايت

عن مسؤولية الكاتب:

"ينبغي للكاتب أن يهتم بكل ما يسترعي خياله، ويحرك قلبه، ويحثه على تشغيل آلة الكتابة. لا أشعر بأي التزام بالتعامل مع السياسة. أشعر بمسؤولية تجاه المجتمع بسبب عملي في مجال النشر: من واجب الكاتب أن يكون جيدًا، لا رديئًا؛ صادقًا، لا زائفًا؛ حيويًا، لا مملًا؛ دقيقًا، لا يشوبه خطأ. عليه أن يسعى إلى رفع شأن الناس، لا أن يُحطّ من شأنهم. فالكتّاب لا يكتفون بعكس الحياة وتفسيرها، بل يساهمون في توجيهها وتشكيلها"

من مقابلة منشورة في باريس ريفيو 1969

عن دور الكاتب:

" على الكاتب أن يعكس مجتمعه وعالمه ويفسرهما؛ كما ينبغي له أن يُلهم ويوجّه ويتحدّى. أجد الكثير من الكتابات اليوم ساخرة وهدّامة وغاضبة.. لا شك أن هناك أسبابًا وجيهة للغضب، وليس لديّ ما أُعارض به الغضب في حد ذاته. لكنني أعتقد أن بعض الكتّاب قد فقدوا إحساسهم بالتوازن، وروح الدعابة، وقدرتهم على التقدير والامتنان. كثيرًا ما أشعر بالغضب، لكنني سأكره أن أكون مجرد كتلة من الغضب؛ وأظن أنني سأفقد ما لي من قيمة — إن كان لي من قيمة أصلاً — إذا كنت، كمبدأ، أرفض أن أستقبل دفء أشعة الشمس حين تلامسني، وأن أنقل أثرها للآخرين كلما واتتني الفرصة. أحد أدوار الكاتب اليوم هو أن يدق ناقوس الخطر. البيئة تتدهور، والوقت متأخر، ولا يُبذل الكثير من الجهد. بدلًا من نقل الصخور من القمر، علينا أن ننقل الفضلات من بحيرة إيري.

- من مقابلة منشورة في باريس ريفيو 1969

عن الأمل:

ما دام هناك رجلٌ صالح وما دامت هناك امرأةٌ رحيمة، فقد تنتشر العدوى، ولن يكون المشهدُ مُوحشًا. الأملُ هو ما تبقى لنا في الأوقات العصيبة. سأستيقظ صباح الأحد وأُعيد ضبط الساعة، مساهمةً في النظام والثبات. للبحارة تعبير عن الطقس يقولون فيه: 'الطبيعةُ مخادعٌ عظيم'. وأظن أن هذا ينطبق على مجتمعنا البشري أيضًا - قد تبدو الأمور قاتمة، ثم يبزغ فجوة في السحاب، ويتغير كل شيء فجأة. من الواضح أن الجنس البشري أحدث فوضى عجيبة في الحياة على هذا الكوكب.لكننا كبشر نحمل في دواخلنا بذور خيرٍ راقدةٍ تنتظر الظروف المناسبة لتنبت. فضول الإنسان وعناده واختراعاته وبراعته أوقعته في مأزق عميق. ولا يبقى إلا أن نأمل أن تُمكنه هذه الصفات نفسها من الخلاص.تمسك بقبعتك .تمسك بأملك. وحرك عقارب الساعة، فغدًا يومٌ جديد."

- من رسائل إي. بي. وايت

عن مغزى كتاباته:

ما الذي أقوله لقرّائي؟ حسنًا، لا أعرف أبدًا. الكتابة بالنسبة لي ليست تمرينًا على مخاطبة القراء، بل هي أشبه بمخاطبة نفسي أثناء الحلاقة. كان دخولي إلى عالم أدب الأطفال بمحض الصدفة، ومع أنني لا أقصد التلميح إلى أنني نسجت حكايتي ببراءة تامة وأنني لم أشرع في كتابة " شارلوت ويب" عمدًا، إلا أن الأمر بدأ ببراءة كافية، وواصلت الكتابة لأنني وجدتها ممتعة. كما أصبحت مجزية من نواحٍ أخرى - وكان ذلك مفاجأة، لأنني لست بالضرورة راوي قصص، وكنت فقط أُجازي نفسي بعطلة عن عملي المعتاد. كل ما أتمناه أن أقوله في الكتب هو أنني أحب العالم. أعتقد أنك ستجد ذلك هناك، إذا تعمقت في البحث. الحيوانات جزء من عالمي، وأحاول أن أرويها بأمانة واحترام.

***

...........................

* عن نيويورك تايمز 1961

* إي. بي. وايت/ E.B. White : إلوين بروكس وايت (11 يوليو 1899 – 1 أكتوبر 1985) كاتب أطفال ومقالات أمريكي ، وُلِد إي. بي. وايت في ماونت فيرنون، نيويورك. تخرج من جامعة كورنيل عام ١٩٢١، وبعد خمس أو ست سنوات، انضم إلى فريق عمل مجلة "ذا نيويوركر"

الكاتب: سام ويلر/ Sam Weller: سام ويلر مؤلف كتابي "سجلات برادبري: حياة راي برادبري" (دار هاربر بيرينيال، ٢٠٠٦) و"استمع إلى الأصداء: مقابلات راي برادبري" (دار هات آند بيرد برس، ٢٠١٧). وفوق ذلك كتبويلر لمجلات باريس ريفيو، وسليت، ولوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس، وغيرها الكثير.

(نقلا عن اخبار الأدب المصرية – الأحد 14 سبتمبر 2025)

 

يقول المثل الصيني: "عندما يشير الحكيم إلى القمر، ينظر الأحمق إلى الإصبع." لكن يبدو أن بعض الفلاسفة – وبعضهم من "النُخب" الثقيلة على الفكر كالرصاص على الرئة – لم يكتفوا بالنظر إلى الإصبع، بل شرعوا في نحت تمثال له، ونسيان القمر تمامًا.

في مختارات سيفيرينو "الإصبع والقمر"، يُعيد فيلسوفنا الإيطالي اختراع العجلة – لكن هذه المرة، العجلة مصنوعة من العدم. فالعالم، بحسب سيفيرينو، ليس سوى مسرحية عبثية من "الوجود-العدم-الوجود"، حلقة مفرغة تجعلنا – نحن البشر الحالمين – نعيش وهم الخلق لنمارس هواية الدمار، كما لو أن هدم الأشياء هو السبيل الوحيد لنشعر بأننا أحياء. ألا يذكرنا هذا بعبارة ألبير كامو الساخرة: "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرفض أن يكون ما هو عليه"؟

سيفيرينو – بإصرار لا يُحسد عليه – يؤمن بأن العقل الغربي، منذ أفلاطون وحتى ماركس، كان ضحية لإدمانٍ فلسفي يُدعى: اللاشيء. يقول إن الجميع، من الحطّاب إلى هيغل، يعانون من نوعٍ من عمى أفلاطوني، لا يرون إلا الظلال، ويتخيلون أن الأشياء التي يولدونها بأيديهم هي أشياء حقيقية، بينما هي في الحقيقة، على حد زعمه، توازن مؤقت بين الوجود والعدم. توازن هشّ، كقهوة إسبريسو فوق لوحة مفاتيح ماك بوك في مقهى يضجّ بالمثقفين المزيفين.

ثم يأتي ماركس، ذلك الرجل ذو اللحية الكثيفة واليقين الأثخن، ليحوّل السمك والخشب والمعدن إلى أشياء اصطناعية بواسطة "العمل". لكن سيفيرينو – الغارق حتى أذنيه في الشك البارمنيدي – يرفض هذا التحول الحرفي. العمل عنده ليس خلقًا، بل تمويه مأساوي لنهاية محتمة. إنه فخ العدم متنكرًا في هيئة نشاط بشري نبيل. كما قال بيكيت: "نولد جميعًا مجانًا، لكن نموت مكبّلين".

ماركس، بسذاجة العامل الذي يعتقد أن النسيج أكثر ديمومة من الخيط، يكتب: "المنتَج هو تجسيد لعمل الإنسان، فيه تظهر حركة العامل كشيء ثابت". ما أجمله من تصريح، لو لم يكن يتحدث عن موت الأسماك والفؤوس المسنونة على عنق الطبيعة.

أما هايدغر، فهو فيلسوف من طراز آخر. رجل لم يعجبه لا الإصبع ولا القمر، بل أراد أن يتأمل في العدم كأنه قطعة فنية على جدار معرض حداثي في برلين. فبينما ماركس يحوّل الأشياء إلى أشياء عبر العمل، هايدغر يعلن بصوت رخيم كراهب متصوف: "الشيء يعيش قبل أن يُستَعمل، وهو موجود لأنه يُظهر نفسه". الفلسفة، عنده، ليست تفسيرًا للعالم، بل ندبة على جبين الحداثة. كما قال نيتشه: "الحقائق ليست إلا أوهامًا نسينا أنها كذلك".

يبدو أن الخلاف بين هايدغر وسيفيرينو هو خلاف بين كاهنَين يقفان أمام مذبح التكنولوجيا، أحدهما يلعنها لأنها تسلب الروح، والآخر يلعن الروح لأنها قادتنا إلى اختراع التكنولوجيا. الفارق؟ الأول يخاف من زر التشغيل، والثاني من فكرة أن هناك شيئًا ما يمكن تشغيله أصلًا.

ويستمر سيفيرينو في عزف سمفونيته المأساوية، التي تصل ذروتها حين يضع الأشياء – نعم، الأشياء! – في مرتبة الإنسان، فينسب لها "ألم الصيرورة" ومعاناة الموت، كما لو أن الغلاية الكهربائية تشعر بالحزن عند غلي الماء. كافكا نفسه ما كان ليجرؤ على هذا الإسقاط العاطفي: "الحياة حربٌ مع النوم، والموت هدنة قصيرة".

وفي لحظة درامية، يستدعي الشاعر باسكولي صورة أوديسيوس الذي عاد من البحر حاملاً ذكرى الحب، فوجد أن البحر لم يعد هو البحر، وأن الحياة، على الأرجح، كانت مجرد خدعة بصريّة من نوع "مايا" الهندوسي. صرخ باسكولي: "لا تكن! لا شيء أكثر، ولكن موت أقل، من أن تكون!" — وكأن الموت صار أخف وزنًا من الحياة نفسها، وهي مفارقة تستحق جائزة نوبل في اليأس.

في الختام، نعود إلى الإصبع والقمر. الفلاسفة يشيرون، والمثقفون ينظرون، والناس يموتون – موتًا رمزيًا، مفاهيميًا، وأحيانًا فيزيائيًا – بينما تستمر التكنولوجيا في طحن الأخشاب والأسماك، غير آبهة بمقولات هايدغر أو بكاء باسكولي. ولا عزاء سوى في حكمة أوسكار وايلد: "الفكر الحر هو الفخ الأخير الذي نصبته الحياة كي لا نفهم شيئًا على الإطلاق".

***

محمد إبراهيم الزموري

في المثقف اليوم