أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

مصير كتاب (الشيعة والدولة القومية) المجهول!

العلاقة بشارع المتنبي تعود إلى أيام الدراسة في الجامعة، يوم كنّا نقطع شوطاً من المسافات مشياً على الأقدام من كلية التربية في الوزيرية، نعبر محلة (الصابونچية) في الميدان، حيث تصطف بيوت عتيقة متداعية، جدرانها ملطخة برطوبة السنين، وأزقتها ضيقة تفوح منها رائحة عطنة. خلف أبواب نصف مخلوعة تجلس نساء عجائز، عاهرات الأمس وقد شاخن، يتطلعن إلى المارة من الشباب بنظرات خاوية. دخان سجائرهن يتصاعد في الهواء الثقيل، وملابسهن البالية تروي حكايات سقوط واندثار. لم يكن أحد يلتفت إليهن، بل يمرّ الطلبة بعيون شاخصة إلى الأمام، كأن الزمن تخطى تلك الأرواح وتركها عالقة في بيوت مهجورة.

في الأزمنة الملكية، كانت تلك الأزقة يدخلها الرجال بعد فحص وترخيص، لم يبق منها سوى أطلال حرفة بائدة ووجوه ذابلة، شاهدة على زمن انقضى.

في (المتنبي) تبدأ رحلة البحث بين المكتبات، وهي رحلة ممتعة، متعة اللقاء بالقرّاء، والباحثين، والكتّاب، هذه الرحلة كانت كفيلة أن تدبّ فينا حياة ما، لا ندري كنهها الحقيقي، لأننا لم نجرّب غيرها، لم تتسن لنا مقارنتها بغيرها، خليط كنا، يجمعنا ويوزعنا، نلتهي ونكتوي، ندخل إلى يفاعتنا من بوابة المشاكسة، وارتكاب البراءات، نجد الجدّ غير ملائم لأحلامنا، فنقذف به إلى خارج أسوار الكلية، نهتف: تسقط الحكومة، نحتج على إلغاء نتائج الانتخابات الطلابية التي شهدت صعوداً مفاجئاً لقوى اليسار، نواجه رصاص آمر الانضباط العسكري (سعيد صليبي)، أيام حكم عارف الثاني، نلهو، نلوك النكات البذيئة، نكتب كلمات عشق بريئة على صفحات الدفاتر ونسرّبها إلى طالبات يافعات ـ أغلبهن قادمات من محافظات خارج العاصمة ـ يقتنصن نظراتنا الساخنة في حمأة المواجهة والتظاهر، والعطش العاطفي. نعود للشارع بلهفة عندما نستلم المخصصات الشهرية لطلبة القسم الداخلي، لنتغدى أكلة (قوزي الشام) اللذيذة، في مطعم تاجران أو كباب الإخلاص بشهية لا حدود لها.

تعود العلاقة بشارع المتنبي لعقود من الزمن، فيه تختلط رائحة الورق وأحبار الطباعة وأصوات الباعة بوقع خطوات المارين. مرَ أكثر من نصف قرن، تغيرت الوجوه، والأزقة، والواجهات، كل شيء تغير، إلا تلك الرائحة واللغة الخفية التي تختزنها الروح، لم تتغير، كان للنكهة سحر خاص، وللألفة والحنين الجميل طعم لا يزول.

في تسعينات القرن الماضي أخذت العلاقة بالشارع منحى آخر، حين داهمتنا ألوان شتى من الحصارات، الحصار الأول الذي تلبسنا وأخذنا من هويتنا إلى هاويتنا، لأن الممنوع هو كل ما يمكن، وما لا يمكن تصوره يوم كان "المتنبي" وسيطاً لتهريب كنوز الثقافة العراقية من المخطوطات، والآثار، ومجلات سومر والمورد إلى دول الجوار، وتحولت الأرصفة على مكتبات حزينة تحمل آثار جوع المثقفين والأدباء والأساتذة، يوم كانت لقمة العيش أفرض من أي شيء، تلك من أكثر الصور مرارة وقسوة في ذاكرة شارع المتنبي. حين صار الكتاب رغيفاً وقت أيام الشحوب والخوف.

لم أجد سبيلاً للعيش سوى ذاك الملاذ الذي لا يبعد عن مقهى "الشابندر"، سوى خطوات، أعود من جديد لمهنة التكسب، كنت قد غادرتها منذ سنوات لأجرّب حظي فيها، عدت إلى (الخط)، في غرفة معلّقة، مشرفة على الشارع في بناية قديمة هرمة، سرعان ما أضحى المكان ملتقى (الناقمين) الرائحين والقادمين، هو ليس ببعيد عن عيون افراد الأجهزة الأمنية المنتشرين طوال الوقت في الشارع.

شعرت بخطورة المكان حين فوجئت بسرقة محتويات المكتب صباح أحد الأيام، كنت في المساء الذي سبق الحادث قد نسيت كتاب حسن العلوي (الشيعة والدولة القومية) في أحد أدراج الطاولة، الكتاب نسخة أصلية كنت قد استعرتها من صديقي الفنان محمود حمد، وكالعادة أعرتها لصديق آخر، هكذا كنا لانحسب حساباً لحجم المخاطر التي تحيط بنا، أحياناً بسذاجة أو بغفلة!

حالاً اتجهت إلى الطاولة، لم أجد الكتاب! يا ويلتاه! ماذا أقول لمحمود؟ كيف يصدقني، وأنا؟ إلى أين المفر؟ لم يكن أمامي أي خيار سوى قفل الباب والهروب، لكن إلى أين؟

اخترت هجرة المكان تحسباً لوقوع الأسوأ، عدت إلى الشارع في أحد الصباحات محملاً بشيء من الاطمئنان الداخلي. مع الحذر الشديد، هناك على الرصيف كانت مقتنياتي المسروقة معروضة بعفوية غريبة باستثناء كتاب العلوي بالطبع، تحولت لحظة الخوف إلى دهشة صامتة، كان البائع الذي عرضها صديقي (س)، لم يكن على علم بما حصل بالتأكيد، لكن حاولت معه أن يدلّني على الشخص الذي اشترى منه (المسروقات)، كلانا يخشى الآخر، من الصعب عليّ أن أسأله عن مصير الكتاب! امتنع وسكت، لحظتها تبدد خوفي وقلقي، كأن صمته حماية سرٍ صغير بيننا. صديقي أحمد الصالح الوحيد الذي عرف السر، التمسته أن يتحرى عن الكتاب لثقتي العالية فيه، ولم يتوصل إلى أية نتيجة إلى هذا اليوم.

السؤال الذي أحاول الإجابة عليه، ما الأسرار التي ينطوي عليها هذا المكان؟ ما دلالاته ورموزه؟ إنها أسئلة تحمل العديد من الإيحاءات، والحكايات. منها ان شارع المتنبي يختصر متعة (المثقف)، على الرغم مما تعرض له من تدمير، وازاحة وجوده الرمزي، ظل يحتفظ بمعناه في جدال مع تاريخه، ليقول لنا دائماً: انه مصدر النور، واستمرار الحياة.

***

د. جمال العتابي

حدث ذلك قبل حوالي العقد من الزمان، يوم ناولني الشاعر الصديق الدكتور فهد أبو خضرة مجموعة شعرية لموهبة جديدة وصاعدة من مدينة حيفا كما قال. كنت حينها أقوم بالتعاون مع هيئة تحرير مواقف، المجلة التي أصدرتها عبر سنوات جمعية المواكب، وتوقّفت حاليًا عن الصدور. تناولت المجموعة من يد الصديق فهد. قرأتها وقدّمتها إلى المطبعة لتصدر ضمن منشورات مواقف، مُحمّلةً بعنوان حين يجن الحنين، وقد صدرت مُرفقة بالعدد الجديد من المجلة. تلك كانت المجموعة الشعرية الأولى للشاعرة حنان جريس خوري، ابنة مدينة حيفا التي رحلت يوم الاحد الخامس عشر من آب العام الفائت 2024.

صاحبة هذه المجموعة هي ابنة لعائلة مُهجّرة من قريتها البروة، والدها هو الأستاذ المُربّي ومعلّم اللغة العربية الأستاذ جريس جبران خوري (1938- 2021)، ووالدتها هي المُربية فادية خوري، أما عمُّها شقيق والدها الأكبر فهو الكاتب المعروف سليم خوري(1934- 1991) صاحب وريث الجزار. كانت حنان ابنة لعائلة مُحبّة عاشقة للغة العربية وآدابها، غير انها اختارت أن تدرس علم الاجتماع وعلوم الفيزياء والرياضيات للقب الجامعي الأول، والفلسفة وعلم النفس والدين للقب الثاني، من جامعة القدس العبرية. عملت حنان أخصائيّةً اجتماعية في مجال الصحة، وقد عملت في مستشفى هداسا عين كارم ومستشفى رمّبام وغيرها من المؤسسات العلاجية الاجتماعية النفسية. في الفترة الأخيرة ألمّ بها المرض ولم يمهلها طويلًا، فرحلت وهي لما تُكمل عامها الثاني والخمسين.

بالعودة إلى مجموعتها الأولى هذه، قُمت في البداية بالاتصال بها لاطلاعها على مُجريات طباعتها، كما كان دأبنا في مواقف، في التعامل مع مَن نقوم بطباعة كتاب لاحدهم، وما زلت أتذكر تلك اللهفة وذلك الامل الذي ردت علي به، فقد كانت متشوّقة كلّ الشوق، لطباعة مجموعتها الشعرية الأولى التي تُطبع لها وهي لما تزل في ذروة الشباب، أما المُناسبة التي كمنت وراء تقديم الدكتور فهد أبو خضرة تلك المجموعة، لتصدر ضمن منشورات مواقف، فقد جاءت بعد أمسية شعرية، عُقدت في خيمة البادية في عُسفيا، وضمّت لوحات فنّية من إبداع الفنان الحيفاوي كميل ضو المعروف ببراعته الفنية في مجال الخط العربي، وقد قامت اللوحات التي عُرضت آنذاك على كلمات من ابداعات حنان جريس خوري، وهو ما لفت نظر الدكتور فهد إليها، لا سيما عندما استمع إليها وهي تُنشد شيئًا من كتاباتها الشعرية. لقد تعرّفت خلال اتصالي بحنان عليها اكثر وأذكر أنني اتفقت معها، على أن تزورنا في موعد، قُمنا بتحديده في مطبعة النهضة في الناصرة، حيث كنا نقوم بتحرير المجلة أولًا وطباعتها ثانيًا، وذلك برفقة والدها أستاذ اللغة العربية المحترم.

في الموعد المُحدّد استقبلنا صاحبة الكتاب ووالدها الأستاذ المعروف، وجرى بيننا حديث حول الشعر والادب، فهمتُ خلاله أنها لم تكن وافدة جديدة على عالم الادب والشعر، وأن موهبتها في ذلك المجال المحبّب ابتدأت منذ أيام دراستها الابتدائية، وأنها نمت يومًا بعد يوم، شهرًا اثر شهر وسنةً بعد سنة. أطلعتُ يومها زائري على المُقدِّمة التي كتبتها للكتاب، فأعربت صاحبته عن سُرورها بها، موضحةً أن ما كتبته جاء في الصميم وعبّر عن مكنونات ما أرادت أن تقوله، عن والشوق لكل ما هو جميل وراسخ في النفس التواقة للرقة والحلم الرومانسي. أما والدُها فقد فضّل الصمت، وعندما جرى الحديث عن علاقة صداقة ربطتني بأخيه الكاتب الراحل سليم حوري، افترشت وجهَه ابتسامة فاضت بكلّ ما لديه مِن ذكريات طيبة عن أخيه الكاتب القصصي والمسرحي اللامع.

بعد صدور مجموعة حين جن الحنين، تواصلَ الاتصالُ فيما بيننا قليلًا إلى أن انقطع، ليستمر بصورة أخرى، أعرفُها جيدًا، فأنا أتابعُ كلّ ما يتعلّق بالحياة الأدبية في البلاد، وبما أنني كنت مُشاركًا في صدور ذلك الكتب، فقد تابعت أخباره باهتمام شديد، فهذه أمسية شعرية تَحتفي به، يتولّى إدارتها الصديق الإعلامي رشيد خير، إضافة إلى كوكبة من أصحاب الأسماء الذين أكن لهم الكثير من التقدير والاحترام مثل الكاتب الصديق فتحي فوراني وعضو الكنيست في قترة سابقة عصام مخّول، وغيرهم ممن لا تحضُرني أسماؤهم للأسف، بل ها هو الصديق رشيد خير يستضيف صاحبة الكتاب، بعد نحو العام من صدوره، وها هي تستفيض في التحدّث عنه وعن محبّتها للكلمة المجنحة الطائرة. بل ها هو نادي حيفا الثقافي بإدارة الصديق المثقّف فؤاد نقارة وخدينته سوزي، يحتفل يجنون الحنين، ويرحّب بها ضيفًة عزيزًة غاليًة في ديوانه الفخم.

والآن بعد أن رحلت حنان جريس خوري عن اثنين وخمسين عاما لا أكثر، ماذا بإمكاني أن أضيف، لقد أصدرت حنان بعد خمسة أعوام من مجموعتها الأولى تلك، مجموعتها الثانية والأخيرة، مُحمّلةً إياها عنوانًا يُكمل عنوان كتابها الأول، هو في حضن الورد. رحم الله حنان جريس خوري، فقد أحبت والدها حُبًّا جمًّا وقدّرته حقّ التقدير، ولم تَعش بعد رحيله سوى ثلاث سنوات.. لتمضي مُواصلةً في طريق الشعر، الحنين والورد.

***

ناجي ظاهر

من الكاتب العظيم إي. بي. وايت

بقلم: سام ويلر

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

"أعتقد أن الكتابة في الأساس عمل شاق."

- إي. بي. وايت

إي. بي. وايت، الكاتب المحبوب لأدب الأطفال (مثل " عنكبوت شارلوت " و"ستيوارت الصغير " و"بجعة البوق")، وكاتب المقال المبتكر المُبَجَّل، والمحرر المشارك للكتاب الأساسي "عناصر الأسلوب"، يُحتفل اليوم بذكرى ميلاده. وُلد في ماونت فيرنون، نيويورك، في 11 يوليو 1899.

كان وايت - اسمه الكامل: إلوين بروكس وايت (أما لقبه في جامعة كورنيل فكان"آندي") – شخصية شديدة الخصوصية، لكنه عُرف بحبه العميق للطبيعة والبيئة، وهو ما تجلى بوضوح في كتبه المقالية وأعماله للأطفال.

نُشر أول عمل له في مجلة "ذا نيويوركر" عام 1925، ثم أصبح محررًا مساهمًا فيها عام 1927، حيث كتب خلال هذه الفترة أكثر من 1800 مقال. وقد أشاد به ويليام شون، محرر "ذا نيويوركر" الشهير، لابتكاره شكلاً أدبيًا جديدًا – وهو مقال "التعليق" الخاص بالمجلّة: غالبًا ما كان شخصيًا، يمزج تجربة الكاتب الذاتية مع النقد الثاقب، بلغة سهلة تصل إلى جمهور واسع.

أحب إي. بي. وايت الكتابة، وبفضل إنتاجه الغزير عبر أجناس أدبية متعددة، قدم هذا الكاتب الموهوب نصائح حكيمة حول الصنعة الأدبية. إليك بعض أفكاره الأكثر إثارة حول الكتابة، والإبداع، وروعة الكلمة المكتوبة.

عن أهمية حدس الكاتب (وأخذ الوقت الكافي):

عندما أنهيت كتابة " عنكبوت شارلوت "، وضعته جانبًا وشعرت بأن هناك خطبًا ما. استغرقت القصة سنتين لأكتبها، بين العمل والانقطاع، لكني لم أكن في عجلة من أمري. ثم أخذت سنة أخرى لأعيد كتابتها، وكانت سنة مُستثمرة بحكمة. إذا كتبت شيئًا ما وشعرت بشك حوله، أتركه ينضج. فمرور الزمن يمكن أن يساعد في تقييمه. لكن بشكل عام، أميل إلى الإسراع بالنشر، مُحتَمِياً بأمواج المشاعر.

– من مقابلة في مجلة "ذا باريس ريفيو" عام 1969

في صفحة بيضاء...

".....الصفحة البيضاء تحمل بالنسبة لي أعظم إثارة ممكنة - أكثر وعودًا من سحابة فضية، وأجمل من عربة حمراء صغيرة. إنها تحمل كل الأمل، وكل المخاوف. ما زلت أتذكر بوضوح تام وقوفي وجهاً لوجه مع ورقة بيضاء وأنا في السابعة أو الثامنة من عمري وأنا أفكر: 'هذا مكاني. هذه هي.'"

- من "رسائل إي. بي. وايت"

عن الكتابة للأطفال:

" من يكتب للأطفال دون مراعاة لمشاعرهم هو ببساطة مضيعا لوقته. عليك أن تكتب مُتطلعًا لأعلى، لا لأسفل. الأطفال قراء صارمون - إنهم أكثر القراء انتباهًا، وفضولًا، وحماسًا، وملاحظة، وحساسية، وسرعة، وتقبلاً في العالم. يقبلون تقريبًا دون تردد أي شيء تقدمه لهم، طالما كان العرض صادقًا، وشجاعًا، وواضحًا.

لقد قدمت لهم - خلافًا لنصائح الخبراء - فتىً فأرًا في (ستيوارت الصغير)، فقبلوه دون تردد. وفي" عنكبوت شارلوت" ، أعطيتهم عنكبوتًا مثقفًا، فتقبلوه كذلك."

- من مقابلة في "ذا باريس ريفيو" عام 1969

عن الأسلوب:

"مع بعض الكتّاب، لا يكشف الأسلوب عن روح الكاتب فحسب، بل يكشف عن هويته أيضًا، بوضوح يعادل بصمات أصابعه."

- من كتاب "عناصر الأسلوب"

عن أهمية الوضوح:

"أهم ما أحاول القيام به هو الكتابة بأكبر قدر ممكن من الوضوح. لأن لدي احترامًا كبيرًا للقارئ، وإذا كان القارئ سيتكبد عناء قراءة ما أكتبه - وأنا نفسي قارئ بطيء وأظن معظم الناس كذلك - فأقل ما يمكنني فعله هو تسهيل مهمته في فهم ما أحاول قوله أو توصيله. أعيد الكتابة مرارًا كي أوضح الفكرة."

- من مقابلة في نيويورك تايمز عام 1942

عندما تواجه صعوبة في الكتابة:

" لم أرَ كتابًا كُتب بلا جهد. جميعها تُستنزف طاقتك، بطريقة أو بأخرى....إذا كنتَ تواجه صعوباتٍ مع كتاب الآن، اسأل نفسك: هل أهتم حقًا بهذه الشخصيات أو هذا العمل؟ إذا كانت الإجابة نعم، فلا شيء يجب أن يثنيك. وإن شككتَ، فانتقل لشيء آخر. كنتُ أعرف مع 'شارلوت ويب' أنني أهتم بهم جميعًا بعمق، لذا واصلت الكتابة ."

- من رسائل إي. بي. وايت

عن تقييم نفسك:

"القدرة على تقييم أعمالك بدقة مهارة حيوية. عرفت كتابًا موهوبين يمتلكونها وآخرين لا يمتلكونها. بعضهم كان مقتنعًا أن كل ما يخطه قلمه هو نتاج عبقري، وأقرب ما يكون إلى الصواب.."

- من مقابلة في باريس ريفيو 1969

عن التسويف:

"التأجيل طبيعة عند الكاتب. إنه أشبه براكب الأمواج - يترقّب، وينتظر الموجة المثالية التي سيركبها إلى الشاطئ.. التأجيل غريزة لديه. ينتظر تلك الدفعة (من العاطفة؟ أو القوة؟ أو الشجاعة؟) التي ستحمله معه. ليس لديّ تمارين إحماء، سوى مشروب من حين لآخر. أميل إلى ترك الأفكار تنضج في ذهني قبل صياغتها. أتمشى في الغرفة، أقوم بتعديل الصور على الجدران، والسجاد على الأرض - وكأن كل شيء في العالم يجب أن يصطف في تناسق تام وكأن العالم يجب أن يصبح مثاليًا قبل أن أكتب كلمة واحدة."

- من مقابلة منشورة في باريس ريفيو 1969

عن الإلهام:

كل هذا الكلام عن الإلهام... اسمع، لا يمكنني أن أخبرك بشيء عن "أساليب العمل"...

لكنني أظن أن كل ما يُقال عن الإلهام — في رأيي — مبالغ فيه. الكتابة، في جوهرها، عمل أشبه بعمل ميكانيكي. والميكانيكي لا ينتظر 'إلهامًا' ليُشحّم سيارتك."

- من مقابلة في نيويورك تايمز 1942

عن أهمية الأحلام:

" ... ظهر 'ستيوارت ليتل' في حلمي كاملاً، بقبعته وعصاه وأسلوبه المرح . كان الفأر ستيوارت الشخصية الوحيدة التي زارتني هكذا، فلم أشأ تغييره إلى كنجر أو جندب."

- من رسائل إي. بي. وايت

عن مسؤولية الكاتب:

"ينبغي للكاتب أن يهتم بكل ما يسترعي خياله، ويحرك قلبه، ويحثه على تشغيل آلة الكتابة. لا أشعر بأي التزام بالتعامل مع السياسة. أشعر بمسؤولية تجاه المجتمع بسبب عملي في مجال النشر: من واجب الكاتب أن يكون جيدًا، لا رديئًا؛ صادقًا، لا زائفًا؛ حيويًا، لا مملًا؛ دقيقًا، لا يشوبه خطأ. عليه أن يسعى إلى رفع شأن الناس، لا أن يُحطّ من شأنهم. فالكتّاب لا يكتفون بعكس الحياة وتفسيرها، بل يساهمون في توجيهها وتشكيلها"

من مقابلة منشورة في باريس ريفيو 1969

عن دور الكاتب:

" على الكاتب أن يعكس مجتمعه وعالمه ويفسرهما؛ كما ينبغي له أن يُلهم ويوجّه ويتحدّى. أجد الكثير من الكتابات اليوم ساخرة وهدّامة وغاضبة.. لا شك أن هناك أسبابًا وجيهة للغضب، وليس لديّ ما أُعارض به الغضب في حد ذاته. لكنني أعتقد أن بعض الكتّاب قد فقدوا إحساسهم بالتوازن، وروح الدعابة، وقدرتهم على التقدير والامتنان. كثيرًا ما أشعر بالغضب، لكنني سأكره أن أكون مجرد كتلة من الغضب؛ وأظن أنني سأفقد ما لي من قيمة — إن كان لي من قيمة أصلاً — إذا كنت، كمبدأ، أرفض أن أستقبل دفء أشعة الشمس حين تلامسني، وأن أنقل أثرها للآخرين كلما واتتني الفرصة. أحد أدوار الكاتب اليوم هو أن يدق ناقوس الخطر. البيئة تتدهور، والوقت متأخر، ولا يُبذل الكثير من الجهد. بدلًا من نقل الصخور من القمر، علينا أن ننقل الفضلات من بحيرة إيري.

- من مقابلة منشورة في باريس ريفيو 1969

عن الأمل:

ما دام هناك رجلٌ صالح وما دامت هناك امرأةٌ رحيمة، فقد تنتشر العدوى، ولن يكون المشهدُ مُوحشًا. الأملُ هو ما تبقى لنا في الأوقات العصيبة. سأستيقظ صباح الأحد وأُعيد ضبط الساعة، مساهمةً في النظام والثبات. للبحارة تعبير عن الطقس يقولون فيه: 'الطبيعةُ مخادعٌ عظيم'. وأظن أن هذا ينطبق على مجتمعنا البشري أيضًا - قد تبدو الأمور قاتمة، ثم يبزغ فجوة في السحاب، ويتغير كل شيء فجأة. من الواضح أن الجنس البشري أحدث فوضى عجيبة في الحياة على هذا الكوكب.لكننا كبشر نحمل في دواخلنا بذور خيرٍ راقدةٍ تنتظر الظروف المناسبة لتنبت. فضول الإنسان وعناده واختراعاته وبراعته أوقعته في مأزق عميق. ولا يبقى إلا أن نأمل أن تُمكنه هذه الصفات نفسها من الخلاص.تمسك بقبعتك .تمسك بأملك. وحرك عقارب الساعة، فغدًا يومٌ جديد."

- من رسائل إي. بي. وايت

عن مغزى كتاباته:

ما الذي أقوله لقرّائي؟ حسنًا، لا أعرف أبدًا. الكتابة بالنسبة لي ليست تمرينًا على مخاطبة القراء، بل هي أشبه بمخاطبة نفسي أثناء الحلاقة. كان دخولي إلى عالم أدب الأطفال بمحض الصدفة، ومع أنني لا أقصد التلميح إلى أنني نسجت حكايتي ببراءة تامة وأنني لم أشرع في كتابة " شارلوت ويب" عمدًا، إلا أن الأمر بدأ ببراءة كافية، وواصلت الكتابة لأنني وجدتها ممتعة. كما أصبحت مجزية من نواحٍ أخرى - وكان ذلك مفاجأة، لأنني لست بالضرورة راوي قصص، وكنت فقط أُجازي نفسي بعطلة عن عملي المعتاد. كل ما أتمناه أن أقوله في الكتب هو أنني أحب العالم. أعتقد أنك ستجد ذلك هناك، إذا تعمقت في البحث. الحيوانات جزء من عالمي، وأحاول أن أرويها بأمانة واحترام.

***

...........................

* عن نيويورك تايمز 1961

* إي. بي. وايت/ E.B. White : إلوين بروكس وايت (11 يوليو 1899 – 1 أكتوبر 1985) كاتب أطفال ومقالات أمريكي ، وُلِد إي. بي. وايت في ماونت فيرنون، نيويورك. تخرج من جامعة كورنيل عام ١٩٢١، وبعد خمس أو ست سنوات، انضم إلى فريق عمل مجلة "ذا نيويوركر"

الكاتب: سام ويلر/ Sam Weller: سام ويلر مؤلف كتابي "سجلات برادبري: حياة راي برادبري" (دار هاربر بيرينيال، ٢٠٠٦) و"استمع إلى الأصداء: مقابلات راي برادبري" (دار هات آند بيرد برس، ٢٠١٧). وفوق ذلك كتبويلر لمجلات باريس ريفيو، وسليت، ولوس أنجلوس ريفيو أوف بوكس، وغيرها الكثير.

(نقلا عن اخبار الأدب المصرية – الأحد 14 سبتمبر 2025)

 

يقول المثل الصيني: "عندما يشير الحكيم إلى القمر، ينظر الأحمق إلى الإصبع." لكن يبدو أن بعض الفلاسفة – وبعضهم من "النُخب" الثقيلة على الفكر كالرصاص على الرئة – لم يكتفوا بالنظر إلى الإصبع، بل شرعوا في نحت تمثال له، ونسيان القمر تمامًا.

في مختارات سيفيرينو "الإصبع والقمر"، يُعيد فيلسوفنا الإيطالي اختراع العجلة – لكن هذه المرة، العجلة مصنوعة من العدم. فالعالم، بحسب سيفيرينو، ليس سوى مسرحية عبثية من "الوجود-العدم-الوجود"، حلقة مفرغة تجعلنا – نحن البشر الحالمين – نعيش وهم الخلق لنمارس هواية الدمار، كما لو أن هدم الأشياء هو السبيل الوحيد لنشعر بأننا أحياء. ألا يذكرنا هذا بعبارة ألبير كامو الساخرة: "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرفض أن يكون ما هو عليه"؟

سيفيرينو – بإصرار لا يُحسد عليه – يؤمن بأن العقل الغربي، منذ أفلاطون وحتى ماركس، كان ضحية لإدمانٍ فلسفي يُدعى: اللاشيء. يقول إن الجميع، من الحطّاب إلى هيغل، يعانون من نوعٍ من عمى أفلاطوني، لا يرون إلا الظلال، ويتخيلون أن الأشياء التي يولدونها بأيديهم هي أشياء حقيقية، بينما هي في الحقيقة، على حد زعمه، توازن مؤقت بين الوجود والعدم. توازن هشّ، كقهوة إسبريسو فوق لوحة مفاتيح ماك بوك في مقهى يضجّ بالمثقفين المزيفين.

ثم يأتي ماركس، ذلك الرجل ذو اللحية الكثيفة واليقين الأثخن، ليحوّل السمك والخشب والمعدن إلى أشياء اصطناعية بواسطة "العمل". لكن سيفيرينو – الغارق حتى أذنيه في الشك البارمنيدي – يرفض هذا التحول الحرفي. العمل عنده ليس خلقًا، بل تمويه مأساوي لنهاية محتمة. إنه فخ العدم متنكرًا في هيئة نشاط بشري نبيل. كما قال بيكيت: "نولد جميعًا مجانًا، لكن نموت مكبّلين".

ماركس، بسذاجة العامل الذي يعتقد أن النسيج أكثر ديمومة من الخيط، يكتب: "المنتَج هو تجسيد لعمل الإنسان، فيه تظهر حركة العامل كشيء ثابت". ما أجمله من تصريح، لو لم يكن يتحدث عن موت الأسماك والفؤوس المسنونة على عنق الطبيعة.

أما هايدغر، فهو فيلسوف من طراز آخر. رجل لم يعجبه لا الإصبع ولا القمر، بل أراد أن يتأمل في العدم كأنه قطعة فنية على جدار معرض حداثي في برلين. فبينما ماركس يحوّل الأشياء إلى أشياء عبر العمل، هايدغر يعلن بصوت رخيم كراهب متصوف: "الشيء يعيش قبل أن يُستَعمل، وهو موجود لأنه يُظهر نفسه". الفلسفة، عنده، ليست تفسيرًا للعالم، بل ندبة على جبين الحداثة. كما قال نيتشه: "الحقائق ليست إلا أوهامًا نسينا أنها كذلك".

يبدو أن الخلاف بين هايدغر وسيفيرينو هو خلاف بين كاهنَين يقفان أمام مذبح التكنولوجيا، أحدهما يلعنها لأنها تسلب الروح، والآخر يلعن الروح لأنها قادتنا إلى اختراع التكنولوجيا. الفارق؟ الأول يخاف من زر التشغيل، والثاني من فكرة أن هناك شيئًا ما يمكن تشغيله أصلًا.

ويستمر سيفيرينو في عزف سمفونيته المأساوية، التي تصل ذروتها حين يضع الأشياء – نعم، الأشياء! – في مرتبة الإنسان، فينسب لها "ألم الصيرورة" ومعاناة الموت، كما لو أن الغلاية الكهربائية تشعر بالحزن عند غلي الماء. كافكا نفسه ما كان ليجرؤ على هذا الإسقاط العاطفي: "الحياة حربٌ مع النوم، والموت هدنة قصيرة".

وفي لحظة درامية، يستدعي الشاعر باسكولي صورة أوديسيوس الذي عاد من البحر حاملاً ذكرى الحب، فوجد أن البحر لم يعد هو البحر، وأن الحياة، على الأرجح، كانت مجرد خدعة بصريّة من نوع "مايا" الهندوسي. صرخ باسكولي: "لا تكن! لا شيء أكثر، ولكن موت أقل، من أن تكون!" — وكأن الموت صار أخف وزنًا من الحياة نفسها، وهي مفارقة تستحق جائزة نوبل في اليأس.

في الختام، نعود إلى الإصبع والقمر. الفلاسفة يشيرون، والمثقفون ينظرون، والناس يموتون – موتًا رمزيًا، مفاهيميًا، وأحيانًا فيزيائيًا – بينما تستمر التكنولوجيا في طحن الأخشاب والأسماك، غير آبهة بمقولات هايدغر أو بكاء باسكولي. ولا عزاء سوى في حكمة أوسكار وايلد: "الفكر الحر هو الفخ الأخير الذي نصبته الحياة كي لا نفهم شيئًا على الإطلاق".

***

محمد إبراهيم الزموري

دأبتْ خلال سنوات مديدة على التحدث عن صالون ادبي تريد ان تقيمه وان تقدم للحياة الادبية في مدينتنا المشتركة الناصرة.. ما يذكر ويبقى. وكنا ما ان نلتقي ونشرع في التحدث حتى تعود الى طرح الفكرة مجددا. وكثيرا ما كانت تطرح علىّ أنا واحد من اصدقائها المقربين سؤالا طرحته خلال سنوات. هذا السؤال هو: ماذا علينا ان نفعل لإقامة صالون ادبي يجمع  الادباء والمبدعين في ظل تعثر اقامة اتحاد للكتاب، لأسباب سياسية باتت جلية معروفة.

كنت كلما طرحت علي الصديقة العزيزة نهى زعرب - قعوار، هذا السؤال افكر فيما عسانا نفعل تلبية لحاجة ادبية مشتركة، لم اكن اقل منها حماسة في المبادرة اليها وتنفيذها، الى ان حان الوقت كما يحدث عادة، فشرعنا بالاتصال بعدد من الفنانين والمهتمين بالأدب، وعقدنا جلسة الصالون الاولى في بيت الصديقة نهى القائم في حينها على مقربة من ساحة المطران في الناصرة. حضر هذه الجلسة كل من الفنان عماد دلال، والمحامي المتأدب الصديق على رافع وزوجته اضافة الي انا كاتب هذه السطور، وعدد من افراد اسرة الصديقة نهى في مقدمتهم زوجها ورفيق دربها الاستاذ بهجات قعوار. تداولنا في هذه الجلسة في امر اقامة صالون ادبي، تحدثنا كثيرا الا ان ما تحدثنا فيه بقي وراءنا ونامت فكرة اقامة الصالون، الى ان استفاقت بعد فترة من الزمن، لنجد انفسنا وقد تمكنا من جمع جمهور من الادباء والمتأدبين في مقدمتهم الشاعر الدكتور جمال قعوار شقيق زوج السيدة نهى.

في هذه الجلسة ابتدأت الفكرة بالتبلور اكثر فاكثر، واتذكر ان المرحوم جمال قعوار افتتح الجلسة بكلمات عذبة هدفت الى تعضيد ميلاد الصالون الادبي النصراوي الذي يذكر بصالون مي زيادة ابنة مدينتنا  الناصرة الذي اقامته في القاهرة وترك اثرا ودويا ما زالت اصداؤه تتردد حتى هذه الايام، رغم مضي العشرات والعشرات المضاعفة من السنوات على انتهائه، ورحيل عدد من اعلامه الى عالمهم الاخر. رحم الله مي  زيادة. عندما ادلى جمال بكلماته هذه طلب مني ان القي كلمة فتحدثت عن اهمية اللقاء بين الادباء والناس بشكل عام من أجل العصف الفكري وتبادل الآراء ومن اجل التغلب على ما يعانيه الانسان المعاصر من وحدة وعزلة في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة واتذكر انني تمثلت خلال حديثي بقصة "الشقاء" للكاتب الروسي انطون تشيخوف. هذه القصة التي دفعت حوذيا للتحدث الى حصانه بعد ان اعياه التواصل مع راكب كان من الممكن الا يكون عابرا، الا انه عبر مخلفا وراءه حسرات وزفرات كما قالت نهاية القصة.

بعد هذه الجلسة الثانية وقد عقدت في بيت طنوس قعوار، اول رئيس بلدية لمدينتنا الناصرة وهو احد اجداد السيدة نهى. انتقلت عائلة نهى من بيتها في ساحة المطران للإقامة في بيتها الجديد الفاره في مدخل حي القفزة. عندها استدعتني الصديقة نهى للشروع في عقد الصالون مجددا.. فابتدأنا بدعوة الاصدقاء.. وعقدنا الجلسة الاولى الحقيقية للصالون وهي الجلسة التي ستضم عددا من الادباء والمتأدبين ومحبي الادب.. وسوف تستمر حتى هذه الايام.

اتفقنا في تلك الجلسة على ان نعقد جلسة شهرية في الاربعاء الاول من كل شهر، وتداولنا في كيفية الاستمرار، وهكذا كان. استمر الصالون بعقد جلساته الشهرية وقد قمت بتكليف من ادارة الصالون بتغطية اخباره خلال فترة ليست قصيرة، الامر الذي ساهم بإعطائه دفعة الى الامام، وشجع الكثيرين على حضور جلساته.

في الفترة التي اتحدث عنها، وهي الاولى في حياة الصالون، اتفقنا على ان نطلق عليه اسم "صالون نهى"، وكان ذلك بعد جدال طال وطُرحت فيه العديد من الاقتراحات الى ان استقر الاسم وشرعنا باستعماله والاشارة اليه كلما اقتضت الحالة.

الآن وقد مضت سنوات مديدة على اقامة هذا الصالون، وابتعدت عنه لأمور شخصية صرفة، اود ان اشير الى عدد من اعلامه.. وان اتوقف عند عدد من محطاته الكبيرة لعلها تدفع الدماء  المتجددة في شرايينه الحية. اتذكر ممن ساهم في انعاش الصالون كلا من الادباء والمثقفين: الدكتورين بطرس دلة ومنير توما من كفر ياسيف، والزجال المبدع شحادة الخوري من ابو سنان، واتذكر ان الزجال محمد زعبي- ابا الشادي ابن بلدة سولم، حضر عددا من جلسات الصالون، كما حضره الكاتب محمد علي سعيد والكاتبة الصديقة فاطمة ذياب من طمرة والشاعرة امال رضوان من عبلين والكاتبة زينة فاهوم من الناصرة، ومن الشعراء اذكر الشاعر يحيى عطاالله من يركا، وجورج جريس فرح ونزيه حسون ، وازدانت جلسات الصالون بحضور لافت للفنانة الكاتبة نهاي داموني من شفاعمرو، فقد كانت تشنف الاذان في نهاية كل جلسة تقريبا باغان من الزمن العربي الجميل. الطريف في الصالون انه جمع ازواجا رجالا ونساء ما كان يضفي جوا طريفا على الاجواء.

كانت جلسات الصالون تعقد بشكل عام بطريقة عشوائية، فما ان يفتح احدهم موضوعا ما حتى تندفع النقاشات مثيرة ومغنية، مفيدة ومسلية. ناقشنا في الصالون الادبي العديد من القضايا الحارقة في مقدمتها قضية الربيع العربي في بدايته وطلبنا من الاخوة ان يتريثوا قليلا في الحكم عليه واتخاذ موقف منه، وقد تبين اننا كنا مصيبين في هذا فقد تبين انه ربيع اشبه بالخريف. ونذكر مما قلناه ان السياق العالمي منذ الحرب العالمية الثانية لا يسير في مصلحة العرب وانما هو ينطلق بقوة في مصلحة اعدائهم ومبغضيهم.

في فترة قريبة تالية على إقامة الصالون بشكله الرسمي، اكتشفنا انه لا بد لكل جلسة من مدير يتولى ادارة الحوار بين الاخوة الحاضرين، وتم الاتفاق على تكليف الدكتور بطرس دلة القيام بهذه المهمة الشاقة، فقام بدوره على اكمل وجه، علما ان السيدة نهى تولت ادارة الجلسات الاولى.

 ضم الصالون نوعين رئيسيين من الجلسات احدهما تعلق بالأدب واهله، وقد نوقشت فيها العديد من الكتب مثل رواية احلام مستغانمي " الاسود يليق بك"، والعديد من الكتب المحلية، كما استضاف العديد من الشخصيات الثقافية المعروفة وقد استضاف في هذا الاطار كلا من البروفيسور جورج قنازع في حديث موسع عن الشيعة والدكتور فهد ابو خضرة في حديث هام عن العولمة. وقد تم في الصالون احياء ذكرى العديد من الادباء الراحلين، اذكر منهم الدكتور سليم مخولي وقد كرسنا لإحياء ذكراه جلسة كاملة.. عقدت بحضور عدد من ابناء اسرته. النوع الاخر من الجلسات تمحور حول الصحة وابعادها واتذكر ممن استضفناهم كلا من: محمد صفدي، شربل بلوطين، وطبيب عيون نسيت اسمه تحدث عن المستجدات في موضوع طب العيون.

انني اليوم وانا انظر الى الخلف بأمل اشعر ان صالون نهى الادبي مع كل ما قد يقال عنه، ادى دورا رياديا وما زال يؤدي هذا الدور بكل محبة، لقد تركت هذا المجلس قبل حوالي السنتين لأسباب شخصية صرفة، واذا ما سألتموني عما اشعر به اليوم.. اقول لكم انني اشعر بفخر ان ما اسسناه وبنيناه معا استمر وسوف يستمر رغم ابتعاد البعض عنه وانا منهم. سيدة نهى ارجو لك دوام التوفيق.. فقد تسنمت موقع الريادة بإقامتك هذا الصالون الادبي الرائد، فكنت جديرة به وكان جديرا بك.

***

بقلم: ناجي ظاهر

نستطيع القول أن لكل فيلسوف او عالم او مفكر تخصصه في حقل معين من الحقول: فسقراط كان شعاره (اعرف نفسك) وعرف عن ارسطو انه زعيم المنطق وهيجل كان فيلسوف العقل وحتى العلماء كانت لهم اهتماماتهم الخاصة كدارون وتوماس اديسون وانطوان لا فوزيه وغيرهم - ان اهتمام توماس مور كان حول التسامح وخاصة التسامح الديني لأنه عاش في عصر النهضة الأوربية. التي فتحت الابواب امام الأوربيين لحياة جديدة بعد اغلاق ابواب ونوافذ العصور الوسطى التي كانت السيطرة فيها للكنيسة على كل مفردات الحياة.

توماس مور.. سيرة حياة

هو مفكر وسياسي وقانوني انكليزي ولد في لندن ودرس في جامعة (اوکسفورد) اهتم بدراسة القانون واصبح عضواً في مجلس النواب ثم رئيساً لمجلس القضاء الاعلى الا انه كان في خلاف دائم مع النظام الملكي في انكلترا وخاصة مع الملك (هنري الثامن) حيث رفض توماس الحضور في حفلة تتويج الملك فاخذ الملك يحوك المؤامرات ضده فاتهم بانه مرتشى ثم وجهت اليه تهمة الخيانة العظمى فالقي في السجن وقد نفذ فيه حكم الاعدام بتاريخ ٦ تموز 1525 م  لرفضه الاعتراف بالملك هنري الثامن رئيساً للكنيسة.

كتاب اليوتوبيا

يعد توماس مور توسى الاشتراكية الخيالية ذلك لانه الف كتاباً سماه (اليوتوبيا) وتعني الكلمة (المكان الذي لا وجود له) تخيل فيه الحياة في جزيرة سماها بهذا الاسم وقد نسج في هذا الكتاب على منوال افلاطون -في كتابه المسمى جمهورية أفلاطون) ومن الجدير بالذكر ان الكثير من الفلاسفة تأثروا بهذا الكتاب مثل الفارابي الذي سمى كتابه (المدينة الفاضلة) واخوان الصفا الذين اطلقوا على مدينتهم اسم (مدينة الله). لقد اصبح كتاب (اليوتوبيا) مرجعاً للفكر الاشتراكي حتى نهاية القرن الثامن عشر حيث ظهرت أول نسخة منه باللغة الإنكليزية في عام ١٥٥١ م ثم نشر باللغة اللاتينية عام ١٩١٦ والكتاب يسخر من نظام الحكم والمجتمع في انكلترا، لقد تخيل مور هذه الجمهورية الخيالية بانها تعيش في تسامح دائم فلا نزاعات بين الكنائس والأديان والمذاهب ولا حروب عنصرية.

ان المبادئ التي يقوم عليها مجتمع هذه الجزيرة هي الملكية المشتركة والتعليم لجميع افراد المجتمع وفرض العمل على الجميع، والمخازن عمومية تزود كل فرد بما يحتاجه مجانا. وان مدة العمل ست ساعات في اليوم وتتمتع المرأة اليوتوبية بالمساواة التامة في الحقوق والواجبات وهي لا تتهم الا بالجمال الطبيعي ولا تستخدم مستحضرات التجميل. فجمال الخلق قبل جمال الخلقة، وفي ظل هذا الوعي فان سكان (يوتوبيا) يحتقرون الذهب فيصفون منه كعادات للاطفال، هذا ما جاء في كتاب جزيرة يوتوبيا الذي الفه الفيلسوف (توماس مور).

توماس مور وايامه الاخيرة

عرف عن مور دماثة خلقه وثباته على المبدأ وروحه المرحة , يصفه أحد اصدقاءه بانه كان شعلة في عصر الظلام وانه كان مؤمناً بالله وبوطنه، صدر عليه الحكم بالاعدام وهو جالس على كري الاتهام. في شجاعة نادرة رفض طلب زوجته ان يتبرأ من مبادئه حتى يسلم من الموت لكنه رفض طلبها ولم يستسلم للمرض الذي كان يأكل صدره. عندما قاده الجنود إلى آلة الاعدام وقف لحظة وطلب من الجنود ان يا يأجلوا اعدامه بضع دقائق حتى يحلق لحيته التي اطلقها في السجن فاستجابوا إلى طلبه وعندما بدأ يحلق لحيته اخذ ينظر الى الشعرات المتطايرة في الهواء والابتسامة على وجهه ثم قال:(لقد كانت هذه الشعرات رفيقتي في سجنى ولا اريد لها الموت معي.. انها تستطيع الآن ان تتطاير بحرية كاملة في الهواء).ونظر مور إلى الجندي المكلف بإعدامه وقال له:(والآن ايها الصديق قم بواجبك ولا تدع الخوف يسيطر عليك).

وهكذا انتهت حياة هذا الفيلسوف الذي لقبه الغربيون ب (فيلسوف التسامح)، وقد وضعه البعض في صف الفلاسفة الكبار الذين كان يطلق عليهم وصف (انبياء الغرب) كتولستوي وتوما الاكويني وسقراط واوغسطين، الا ان اسم توماس مور بقى رمزاً للحب والوفاء والمثل العليا وفي مقدمتها التسامح الديني.

***

غريب دوحي

تُعدّ السينما واحدة من أكثر الأدوات قدرةً على التعبير وإيصال المحتوى القيمي في صورة مشوِّقة وفاعلة. فهي لا تنقل مجرد أحداثٍ أو صورٍ متحركة، بل تُجسّد ذاكرةً جمعية قادرة على مقاومة النسيان الذي يفرضه الزمن، لتغدو وعاءً لقيم المجتمع ومخزونه الرمزي.

لقد ارتبطت الصورة، منذ فجر الفلسفة، بالبحث عن الحقيقة والمعنى، فأفلاطون، في أمثولته عن الكهف، فرّق بين صورة الوهم وصورة الحقيقة، مانحًا الأولوية للمعقولات على المحسوسات، ليضع الصورة في قلب الإشكالات الميتافيزيقية الثلاثة: الوجود، المعرفة، والقيم.

ومع التاريخ، صارت الصورة محورًا لفلسفة الجمال، تتطور عبر المدارس والاتجاهات الفنية لتغدو لغةً قائمة بذاتها، تحمل رموزًا وشفرات تستدعي التأويل، حتى بدا وكأنّ للصورة روحًا تتحرك وإن كانت ساكنة. ومن هنا كان ميلاد السينما بمثابة ثورة جمالية كبرى دشّنت عهدًا جديدًا للفن الإنساني. ولأن السينما خطابٌ

قادر على صناعة المعنى، فقد تحولت إلى وسيلة ذات أثر مزدوج: فهي تارةً أداة لتشييد الوعي وبناء الهوية الجمعية، وتارةً أخرى سلاحًا للتلاعب بالعقول وتقويض البنى الاجتماعية. لقد استخدمتها الأنظمة السياسية والدول في بثّ الوعيد أو الوعد، في الترغيب للمؤتلفين أو الترهيب للمختلفين، حتى غدت تُصنَّف في بعض اللحظات التاريخية كسلاحٍ يفوق أثره ما تحمله الترسانات العسكرية.

وعلى هذا الأساس، يصبح لزامًا علينا أن نعيد النظر في علاقتنا بالسينما؛ إذ لا يكفي أن نستهلك إنتاجها الوافد من الخارج، بل يجب أن نؤسس لفضاء سينمائي يعكس قيمنا، ويُصدّر هويتنا، ويُبرز استقرارنا الاجتماعي وطموحاتنا الأكاديمية والتقنية.

فالسينما ليست مرآةً للواقع فحسب، بل أداة لتشكيله وإعادة بنائه، خصوصًا في ما يتصل بتنشئة الأجيال الصاعدة على ذاكرة نقدية تعي ماضيها وتقرأ حاضرها وتتهيأ لمستقبلها. لكن السينما، لكي تنهض

بدورها الحقيقي، لا بد أن تُصان من الابتذال والاختزال في منطق السوق النفعي، حيث تُقاس القيمة بكمية المشاهدة لا بجودة الفكرة، وإنّ ما نشهده اليوم من تفاهةٍ في بعض الأعمال الهابطة إنما يعكس انسلاخ الفن عن رسالته، وتحوله إلى بضاعة عابرة تكرّس الركود بدل أن تفتح أفق التقدّم.

في المقابل، يبرز اليوم أفق جديد من خلال تبنّي الدولة، ممثلةً بوزارة الشباب والرياضة، لملف السينما بوصفها رافعة للوعي الجمعي، فقد أعاد الوزير الدكتور (أحمد المبرقع) الاعتبار لمكانة الشباب، ناقلًا الوزارة من انحصارها في فضاء الرياضة إلى فضاء أرحب يحتفي بالإبداع الثقافي والفني، ومن هنا جاءت مبادرته النوعية بإطلاق مهرجان العراق السينمائي الدولي لأفلام الشباب، الذي يفتح المجال أمام الطاقات الشبابية لصياغة رؤاها وتجسيد طموحاتها عبر لغة الفن السابع.

إنّ هذا المشروع لا يقف عند حدود الترفيه، بل يتجاوزها إلى بناء خطاب ثقافي عابر للحدود، يصوغ ذاكرة جمعية متجددة، ويمنح العراق نافذة حضارية يُطلّ بها على العالم، ومن خلاله يمكننا أن نؤسس لثقافة تصدير القيم، وإبراز واقعنا الاجتماعي والتاريخي بعيون سينمائية تحمل خطابًا فلسفيًا، نقديًا، وإنسانيًا في آن واحد.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

لا يقل حضور الطفولة في الثقافة الشعبية عن مثيله في حقل الدراسات النفسية والتربوية المعاصرة، سواء محليا أو عالميا. تشهد بذلك الأمثال والألعاب والأهازيج، وآلاف الخرافات وحكايات الجدات التي تعد مدرسة في الإبداع، والجنوح بالخيال إلى أقصى مداه. فالثقافة الشعبية كانت، ولاتزال بدرجة ما، هي الحاضنة الأساسية للطفل، يتشرب منها القيم والعادات، ويكتسب منها معايير السلوك الاجتماعي، وقواعد العيش داخل فضاء الأسرة والقبيلة.

إن عملية تنشئة الطفل شكلت تحديا لدى كل أمة للوصول به إلى أفضل مستويات النمو والتعلم، من خلال تزويده بالتجارب والخبرات، والممارسات العملية التي يتوجب تمريرها من جيل إلى جيل. هكذا تصبح شخصية الطفل حصيلة معتقدات الراشدين، التي تعبر بدورها عن مخطط ثقافي، هاجسه الأساسي هو ضمان الاستمرارية والخصوصية، ومكافحة كل أشكال التغريب والاقتلاع.

والأمثال، باعتبارها إحدى قوالب الموروث الثقافي، تلعب دورا مستمرا في غرس معتقدات مشتركة، تتسم عادة بالثبات وصعوبة التغيير. فكما أنها تنطوي على مبادئ تربوية واجتماعية أصيلة، فإنها أيضا تُسهم في تغذية تمثلات خاطئة، وتضطلع بوظيفة الدفاع عن تصورات جرى تفنيدها بفعل التقدم الحاصل في شتى حقول المعرفة.

من هذا المنطلق، وسعيا للكشف عن صورة الطفل في الموروث الشعبي، والأدوار أو المعايير الثقافية التي يجد نفسه مرتبطا بها وملزما بالتكيف معها، تم رصد نماذج من الأمثال العامية المتداولة في المغرب، واستنطاق دلالاتها النفسية والتربوية، من خلال أربع مستويات تهم: صورة الطفل في المثل المغربي، وعلاقته بالأم، ثم الاتجاهات الإيجابية والسلبية المتعلقة برعاية الطفل وتنشئته. وفي الأخير نلقي نظرة على موقف المجتمع من الطفل في وضعية خاصة "الربيب، اليتيم، ابن الأمة..." والتي تؤسس لوضع مُفارق، بين توجيهات الخطاب الديني وتجلياته في الواقع.

بداية تجدر الإشارة إلى أن المثل، باعتباره خلاصة بليغة وموجزة للتجربة الإنسانية، لا يكتسي في جميع الأحوال طابع التوجيه والإلزام السلوكي، بل كما يرى الأستاذ عبد العزيز الأهواني، فإنه يضطلع أيضا بوظيفة أدبية وبلاغية، تقصد إلى عرض صور تحقق الإمتاع الفني، بما تشتمل عليه من تشبيه دقيق، أو مفارقة مضحكة، أو فن من القول طريف(1).

غير أن الممارسة التربوية، سواء داخل الأسرة أو على مستوى الفضاء المدرسي، تكشف عن تأثر واضح بالتوجيهات التربوية التي تتضمنها بعض الأمثال، حتى وإن كانت أدبيات التنشئة والرعاية المعاصرة تؤكد ضررها وآثارها السلبية. ولا أدل على ذلك من استمرار العقاب البدني داخل الفصول الدراسية اقتناعا بأن "العصا خرجات من الجنة!"

* صورة الطفل في المثل المغربي:

تتراوح صورة الطفل المغربي في الأمثال العامية بين القبول به كعطية من السماء، يضفي على الحياة بهجتها، ولا تستقر الحياة الزوجية إلا بوجوده، وبين اعتباره هما ينضاف إلى سائر الهموم التي تقيد حركة الإنسان وتؤرق معيشه اليومي.

وتبدو المسألة في عمقها رهينة بسوء فهم لمدلول الرزق وارتباطه بالمشيئة الإلهية، كما نبهت إلى ذلك النصوص الدينية والثقافة العالِمة. كما تحيل ضمن سياق تاريخي على مخاوف الأوبئة والمجاعات التي كان المغرب مسرحا لها خلال فترات محددة، والتي جعلت من القمح صاحب القول الفصل في تاريخه، كما يقول المؤرخ فرنان بروديل، وبالتالي ارتبط إنجاب الأولاد بزيادة الهم والبلاء.

في وضع اليسر والرخاء، تبرز أمثال بالغة الإشادة بالطفل من قبيل:

- الدراري ربيع القلب

- الخدمة على الأولاد سبقت العبادة والجهاد.

- اللي ما عنده بنات ما عرفوه الناس فوقاش مات.

أما في حال الضنك وقلة ذات اليد، يفقد الطفل حضوره كعطاء، ليصبح بلاء وهمّا يُنغّص المعيشة. بل وتكتسي بعض الأمثال صبغة احتجاج على الفوارق الاجتماعية:

- التاجر إيلا اطلب العيال كيجيه الريال، والمسكين إيلا اطلب الريال كيجيه العيال.

- أنا نشكي له بعذري، وهو يقول: الله يعطيك الدراري.

بيد أنه في الحالتين معا، يشكل الأولاد لبنة أساسية لاستمرار الحياة الزوجية، والمحافظة على مقدرات الأسرة المادية "الإرث"، والمعنوية "الشرف، المكانة الاجتماعية، الدينية..." لذا تدافع الأمثال عن حضورهم كتوثيق لتلك العلاقة:

- الزواج بلا عيال قليل دوامو للرجال.

- الزيتونة كتصبر للضرب على أولادها.

* علاقة الطفل بالأم:

يختزن المثل تعبيرات متفردة للأمومة في أوضاعها وحالاتها، التي يلتئم فيها الاستئناس بهم مع الشكوى من متاعب التنشئة والرعاية:

- الأولاد تينوّسوا وتيهوّسوا.

كما نجد في الأمثال مغربية تنوعا في الإشادة بأدوار الأمومة، ما بين ذكر الأم صراحة، أو استعارة أدوات ثقافية دالّة من عالم الطبيعة والحيوان:

- كل خنفوس عند أمه غزال.

- قالتها العودة: من نهار اللي ولدت ولادي، ما كليت علفي وافي، ولا شربت مايَ صافي.

- الزيتونة كتصبر للضرب على أولادها.

- الزيزون (الأبكم) ما تعرف لغته غير امه.

غير أن التعبير المفرط عن الأمومة يثير سلوكيات تربوية غير مقبولة، ويلقي على عاتق الأم مسؤولية تقييد مشاعرها الجارفة، لتنشئة الطفل بشكل متوازن، يؤهله لتحمل تبعات الحياة.

- حبّ أولادك من قلبك، وربّيهم بيدك.

- دردب تكسب؛ وهي عبارة تقال لحثهم على عدم الخوف، ومواجهة المواقف بشجاعة.

- تكبر وتنسى؛ وتقال للصغير حين يسقط على الأرض، لتسليته وحثه على الكف عن البكاء.

-  زيّر اللّوالب، لا تبقى راخي الحبل.

ويظل الاستثناء الوحيد الذي تسمح به الذاكرة الشعبية، على مضض ربما، هو وحيد أمه الذي رزقت به بعد عناء، إما بسبب المرض، أو تأخر الإنجاب، أو قدوم الإناث أولا. وسبب ذلك أن محيط الأسرة يتقاسم تلك المعاناة بشكل حاد، ويدفع الأم بشكل مباشر أو غير مباشر، لبذل مساع مؤثرة، تطرق من خلالها المرأة فضاءات الزوايا والأضرحة، وتقدم النذور، وتستجيب لألوان الشعوذة والدجل:

- هذاك الولد جا على تَاتَه والفكرون، وسيدي قاسم بن رحمون.

- هذاك غير لقيمة مسعية.

- هذا لهرا طايب فالكدرة (القِدر).

* رعاية الطفل وتنشئته.. آراء واتجاهات:

تنطوي الأمثال المغربية على قيمة تربوية وتعليمية، تتمثل في رصد مختلف الاتجاهات والممارسات التي طبعت أداء الأسرة لهذه الوظيفة الاجتماعية الهامة. وإذا كانت الأصول والمبادئ العامة سليمة ومعبرة عن ثوابت المجتمع وقيمه، إلا أن الأساليب والمواقف اختلفت تبعا للأدوار التي سيلعبها الطفل في محيطه السوسيو ثقافي، وكذا للتصور السائد حول التعلم كمدخل للاندماج في فضاء أرحب.

تعكس بعض الأمثال تباينا في الآراء حول فعل التربية نفسه، والمحصلة النهائية من توجيه سلوك الطفل وإلزامه بمعايير اجتماعية وثقافية محددة. حيث يعتبر الفريق الأول أن التربية جهد إنساني خالص، يتصل فيه السبب بالنتيجة:

- العنقود الكبير من الدالية المخدومة.

- شبّع وطبّع!

- الفقوس من الصغر تَيْعواج.

- اللي ربى ولده نكا عدوه.

- اللي ما تربى على طبلة بوه ما يشبع.

بينما يربط الفريق الثاني جهد التربية بسبب غيبي، ويقدم ذريعة لبعض مظاهر السلبية والتواكل التي ترخي بظلالها حتى اليوم على علاقة الأسرة بالمدرسة، والفضاء السوسيو ثقافي بشكل عام:

- المربي من عند ربي.

- الشّا الرّا ما ربّات حمير.

- الوردة كتولد الشوكة، والشوكة كتولد الوردة.

- اللي ولد الغول ما عنده ما يقول.

من جهة أخرى تتفق الأمثال على أن التنشئة الحسنة تمنح الأسرة قيمة مضافة، وسمعة طيبة؛ مثلما أن التفريط فيها يعود بالضرر وسوء العاقبة:

- اللّي خلّا اسم مليح، ولادو يصلّيوا بلا تسبيح.

- الترابي قبل الجامع.

- أولاد عبد الواحد كاع واحد: كناية عن تربية الأبناء على نمط سيء مشابه للأب. ويحكى أن عبد الواحد هذا كان رجلا طماعا، ومحتالا على ما في يد الناس، وربى أبناءه على هذه الخصلة الذميمة.

- ولدك كوّنيه لا تكوّن ليه: ويحيل المثل هنا على توجيه تربوي فريد، يقوم على إعداد الطفل ليبني مستقبله بنفسه، بدل أن ينشغل الآباء بذلك. ويقال أن هذا المثل من مآثر أهل سوس جنوب المغرب، والذين يشتهرون بالحذق في التجارة.

- قرّيه وأنت اقتل وانا ندفن: وهي دعوة صريحة للتشدد في تعليم الصبيان، حتى يتعلموا العلم ويتربوا على الأخلاق السامية. وبالرغم من آثاره الضارة، لايزال هذا الموقف يحظى بتأييد من لدن الآباء والمدرسين حتى اليوم!

- اغرس قلّع ما فيه اربح، و" النبتة المقلعة ما تنبّت ربيع": وهي عبارة تقال لمن يكثر تغيير المدرسة لأبنائه، فلا يحقق ذلك التوفيق المطلوب.

وعلى المستوى التعليمي استوعبت الأمثال جانبا من النقاش المجتمعي حول أيهما الأفضل في تلقي العلم: الشفهية أم الكتابية؟ ويبدو أن للأمر علاقة بانتشار المدارس العصرية، وما مثّله ذلك من تراجع لدور الكتاتيب القرآنية، فأرخت المسألة بظلالها على أنماط تلقي العلوم والمعارف، رغم أن الثقافة لا تقيم تعارضا بين الاثنين:

-العلم فالراس ماشي فالكراس.

- ينسى الراس وما ينسى الكراس. 

- كيسكتو اللّحِي ويتكلمو الكواغط.

* أطفال في وضعية خاصة:

لعل أغرب موقف اختزنته ذاكرة الأمثال المغربية، هو موقف الأسرة من الربيب، والذي لا يكتفي بالتحذير من تقبله وإدماجه في نسيج الأسرة، بل يصل إلى حد الدعاء عليه بالفقدان والموت. كما جرى التحذير من "ولد بنادم" او الدخيل على العائلة، واعتبار محاولة تنشئته ورعايته جهدا بغير طائل، وهدرا للوقت والمال.

وقد يجد هذا الموقف تفسيره في تكلفة الرعاية إذا كان الوضع المعيشي للأسرة لا يسمح بذلك، كما قد يحيل على أسطورة زوجة الأب الشريرة، والتي تغذيها عشرات القصص، رغم وجود زوجات يتمتعن بحس العطاء، وتستوعب أمومتهن القريب والغريب. وقد يعود الأمر من جهة ثالثة إلى ما أثير من إشكالات فقهية مرتبطة بالإنفاق، واستغلال مال الربيب وغيرها.

- زِد هاذ الصبي على صبيانك تكمل احزانك.

- اللي تيربي ولاد الناس بحال اللي كيدق الما فالمهراس.

- ولد الأمَة ما يفلح، وإذا افلح يا عجبا!

- فرّش لأولاد الناس فاين ينعسو ولادك: وهي حالة فريدة في الدعوة للمعاملة بالمثل، تستلهم معطى الخطاب الديني، والثقافة العالِمة.

- الربيب كله علّة وطُليب، طيّره يا رحمن: والطُليب في مأثور أهل فاس هو العدو.

- ولد ابنــادم لا تربـيـه       بعد ما تربيه نادم

يا السايلني على الغول       الغول، هو ابنادم.

 وهي إحدى رباعيات الشيخ عبد الرحمن المجذوب الذي جرت أقواله وأزجاله مجرى الأمثال في شمال إفريقيا.

وفي وضعية اليتم يفقد الطفل كل ناصر ومعين، لذا تقرنه الذاكرة الشعبية بصور الانكسار والضعف، وضياع الحقوق:

- رجلين ليتيم كيجيبو الغيس في السمايم.

- كيتعلموا الحجامة فريوس ليتامى.

أما وضعية الإعاقة فتحتفظ الأمثال بمواقف قاسية، وتمثلات خاطئة تحيل على العجز والتشفي الذي يقرن تلك الوضعية بالعقوبة الإلهية:

- ما يعواج ولا يعراج غير البلا المسلط.

- يدي ويد القابلة ويخرج الحرامي اعور.

- عيات أم الحمق ما تعض فشواربها، قال ليها: من جهتي غير قطعيه.

إن الأمثال باعتبارها وحدات كلامية تختزن ذاكرة الشعوب، بحاجة إلى مراجعة استخداماتها وإعادة فرزها، وتحرير مضمونها الإنساني من المواقف السلبية، خاصة في مجالات تتنافى أدوارها الحديثة، مع التمثلات المجانبة للصواب كمجال التربية والتعليم.

وتظل الأمثال، بالرغم من قيمتها و رمزيتها، ودلالتها على الانتماء الثقافي، وليدة خبرات ذاتية، بعضها يعكس حقائق تحظى بالواقعية في حياتنا الاجتماعية، بينما يحيل البعض الآخر على تصورات وعادات، وردود أفعال لا تقبل التعميم.

***

حميد بن خيبش

....................

1- إلى طه حسين في عيد ميلاده السبعين: إعداد وإشراف عبد الرحمن بدوي. ص251- القاهرة1962

 

حينما قررت البحث عن وسيلة للترفيه واختبار الانطباعات حول الأعمال الدرامية، وجدت في مسلسل “صراع العروش” (Game of Thrones) أولى محطاتي. هذا العمل الفنتازي الملحمي من تأليف (ديفيد بينيوف ودانيال وايز)، والمقتبس عن سلسلة روايات “أغنية الجليد والنار” للكاتب جورج ر. ر. مارتن، استطاع أن يحجز لنفسه مكانًا فنيًا رفيعًا في الدراما العالمية.

تدور أحداث المسلسل في قارتين خياليتين هما ويستروس و إيسوس، حيث تتصارع سبع عائلات نبيلة للسيطرة على “العرش الحديدي”. وبالتزامن مع هذه الصراعات، يتنامى خطر قادم من الشمال يتمثل في مخلوقات خيالية، فضلًا عن سعي السلالة الحاكمة السابقة لاستعادة عرشها.

طول الزمن وتنامي الأحداث

المسلسل يقع في ثمانية مواسم تضم أكثر من ثمانين حلقة، وهذا يتطلب صبرًا ووقتًا من المشاهد. ففي المواسم الأولى يركّز العمل على التأسيس الدقيق للأحداث، وتعريف المشاهد بالرموز والشخصيات، ووضع القصة في سياقها التاريخي.

الأحداث تنمو بشكل تدريجي، وتمزج بين الحقيقة والخيال، مع إبراز وحشية القرون الوسطى وما كان يُمارس من إجرام بحق البشرية. وقد ضمّن الكاتب مشاهد جريئة جدًا، سواء من الناحية الجنسية أو بتناول المثلية والسفاح. لكن ما شدّني أكثر هو التفصيل المفرط في القتل والتعذيب وطرق الموت الوحشية، مما جعلني أتساءل: هل هذه مجرد مبالغات درامية، أم أن هناك تقاربًا مع وقائع تاريخية فعلًا؟

بين الخيال والتاريخ

استعنت بالذكاء الاصطناعي لمحاولة إيجاد مقاربة بين ما عرضه المسلسل وما جرى فعليًا في التاريخ، وكانت المفاجأة أنّ هناك تقاطعات حقيقية. فقد وُجدت أحداث مشابهة في حرب الوردتين بإنجلترا أو خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ما يعني أنّ الكاتب لم يبتكر العنف من فراغ، بل استلهم من حقائق تاريخية، وأضاف إليها طابعًا أسطوريًا.

روعة فنية وهَنات بصرية

لا شك أنّ المسلسل، بحلقاته الكثيرة وأحداثه المتشابكة، يمثل تحفة درامية عالمية. فالحوارات عالية الدقة، والمشاهد مشحونة بالحيوية والإبداع. لكن بالمقابل، يمكن تسجيل بعض الملاحظات:

- في بعض المشاهد، بدا واضحًا استخدام الحيل البصرية والتوليد الصوري بطريقة مكشوفة.

- في الموسم الثامن، تسارعت الأحداث بشكل مفرط، وأُجبرت الشخصيات على نهايات متعجلة، ما أفقد القصة عنصر الإثارة المعتاد. كان من الممكن التمهل أكثر لمنح النهاية إقناعًا أعمق.

خلاصة

يبقى “صراع العروش” عملًا دراميًا غير عادي، جمع بين الخيال الجامح والحقائق التاريخية القاسية، وترك بصمته كأحد أبرز الإنتاجات الفنية في القرن الواحد والعشرين. أما عن مؤلفه جورج ر. ر. مارتن، فقد استطاع أن ينسج عوالم معقدة بأبطالها وصراعاتها، وأن يضع المشاهد أمام تساؤل أبدي:

هل ما نراه من وحشية مجرد فن درامي؟ أم أنه انعكاس لماضٍ بشري لم يزل يلقي بظلاله على حاضرنا؟

***

بقلم: أنور الموسوي

ربطتني بالكاتب الصحفي الصديق الراحل نبيل عويضة، ابن مدينة حيفا، علاقة طيبة، وقد أعادني نبأ رحيله، في مثل هذه الأيام، من العام الماضي ٢٠٢٤ ، إلى ذكرى لقاءين معه، تمّا في حيفا. الأول، وهو في الواقع شمل عددًا مِن اللقاءات، جرى قبل أكثر من خمسين عامًا، والثاني، تمّ قبل حوالي الخمس سنوات، في ندوة أدبية أقيمت احتفاء بالكاتب الراحل محمد نفاع، ونتاجه الادبي السردي. فيما يلي سأتحدث عن هذين اللقاءين، لما ارتبط بهما مِن معان ثقافية شبابية دافئة، لم يُقلّل من دفئهما مُضيّ نحو نصف قرن من الزمان، بل زادهما حرارة ودفئًا والقًا.

اللقاء الأول: كما قُلت احتوى هذا اللقاء العديد من اللقاءات، وقد تمّ بداية، عندما قمنا انا والصديق الشاعر سيمون عيلوطي كعادتنا آنذاك، بزيارة مدينة حيفا، مدينة الصحافة الشيوعية في حينها / السبعينيات الأولى، وقد مررنا ضمن زيارات سريعة، في البداية على مكاتب صحيفة "الاتحاد"، وزرنا هناك الأصدقاء حنا إبراهيم، صليبيا خميس، علي عاشور، وبقية الأصدقاء، بعدها انتقلنا إلى مكاتب مجلة "الجديد"، للقاءٍ باتَ في حينها روتينيًا للشاعر سميح القاسم، في مكتب تحرير المجلة، وانتقلنا بعدها إلى مكاتب مجلة " الغد"، الشبابية، وكانت تلك الصحيفة والمجلتان، تقومان في منطقة متقاربة من حي وادي النسناس الحيفاوي.

عندما دخلنا مكاتب مجلة "الغد"، وكانت متواضعة نوعًا ما، استقبلنا أحد مُحرريّ المجلة الكاتب الفنان نبيل عويضة (1944- 4-9-2024). منذ اللحظات الأولى، شعرنا اننا نلتقي بإنسان يمكن ان يكون صديقًا مُقرّبًا، وقد كان يتدفّق حيوية وشبابا، راوح عمره الثلاثين، كان أكبر منّا قليلًا، وقد استقبلنا بحرارة، ما زلت استشعر دفئها حتى هذه الأيام، وتحدّث إلينا عن رسالة مجلة "الغد". أخبرنا أنه تمّ تأسيسها، حينها، قبل أكثر مِن عقد مِنَ الزمان (صدر العدد الأول منها عام 1962)، بختم مُحرّرها المسؤول توفيق طوبي، الشخصية السياسية الشيوعية المعروفة وعضو الكنسيت على مدار ناهز العشر دورات.  مما أذكره أن حديث نبيل لنا تواصل على مدار عدد من اللقاءات، تعرّفنا خلالها أكثر فأكثر، على المجلة وهيئة تحريرها، الصديق الراحل سالم جبران، والكاتب الصديق عودة بشارات امد الله في عمره وغيرهما من الشباب المتحمّس الطالع، وقد ردّد نبيل في جميع تلك اللقاءات، قوله إن مجلة "الغد"، أقيمت من أجل الشباب وتثقيفهم على المبادئ اليسارية الشيوعية، لهذا، كان يقول، مهمتنا ليست سهلة، وعلينا أن نكون حذرين في النشر، قريبين ومُقنعين لقطاع الشباب الذي يُعتبر الأهم في مجتمعنا العربي. مجلة "الغد"، هي مجلة الشباب وسوف نعمل على تطويرها طوال الوقت، سواء كان ذلك في صفحات الرياضة أو صفحات الفنّ والثقافة، وكان نبيل يستعمل كلمة الثقافة بدلًا من كلمة الادب الذي كان يعرف أنها تستهوينا، فالثقافة، كما أوضح، واسعة مترامية الأطراف وتشمل الادب وشتى ضروب الفنون الجميلة.

اللقاء الثاني والأخير: تكررت لقاءاتُنا بالمرحوم نبيل عويضة في مكاتب مجلة "الغد"، وتواصلت الاحاديث فيما بيننا وبينه، إلى أن صرفت المشاغل والهموم كلًا مّنا إلى ناحية، غير أن حبل المودة فيما بيننا بقي موصولًا ولم تنقطع له آصرة، لهذا كان اللقاء الأخير به، كما اذكر، يوم الخميس 18-9-2019 في احتفال "نادي حيفا الثقافي"، بالكاتب محمد نفاع واشهار كتابيه "غُبار الثلج" و"جبال الريح"، الصادرين في تلك الفترة ضمن منشورات راية الحيفاوية، بإدارة الكاتب الصحفي الصديق بشير شلش، أقول لهذا كان اللقاء به دافئًا، وأذكر أنني امتدحت على مسمع منه/ نبيل عويضة، جرأة الدكتورة علا عويضة في مناقشتها كتابي الكاتب المُحتفى به، سالكة نهج النقد الموضوعي، الذي يركّز على النص ويتغاضى قليلًا عن الشخص، فقد وجّهت الدكتورة علا بعضًا من الانتقادات إلى الكتابين وناقشتهما مُناقشة الغيّور القلق على ادبنا العربي في هذه البلاد، المحب له والراجي له كل تقدّم وازدها. يومها اتسع وجه نبيل عويضة، وأرسل ابتسامة جذلة، لم تتسبّب الأيام وتعاقب السنين في التأثير عليها، وإنما أبقتها في جوهرها، كما هي، ابتسامة رجل يحب الشباب ويرى فيهم المستقبل المضيء لشعبنا. واستمعت إلى نبيل وهو يقول بفخر لا حدود له، فخر أبٍ مُحّب ووادّ: علا عويضة هي ابنتي. هل أعجبتك محاضرتها. فهززت رأسي أن نعم، وافضت في امتداحها وكأنني أمتدح حُلمًا تحقّق لنا جميعا. حلم تحقق المُراد والمُرام.. حُلم الشباب.

رحم الله الصديق الراحل نبيل عويضة، فقد كان فنانًا وكاتبًا صحفيا شبابيًا، وقد أصدر في حياته كتابا واحدًا، حمّله عُنوانًا هو "خلجات"، وعبر في كتابه هذا عن كلّ ما خالج قلبه الكبير من محبة لكلّ ما هو شابّ، تقدمي، مشرق وجميل..

***

ناجي ظاهر

هذا الدمُ لي

وبقايا خمار امي

لي

 وعكّاز أبي

لي

وحدي أتجشم عناء البقاء حيّاً

فلا ضلٍّ قريبٍ

لأحتمي

 أو حتى صديقٍ لأرتمي .

هذا الدثارُ

 ليس لي

وبقايا الخيمة

 ليس لي

ولابقايا المكرفون

الملقى على قارعة الموتى

ولاسترة ذلك الصحافي الشهيد،

كان شاب مغموراً

 كثير ماكان يتررد اسمه في أروقة الإعلام

وهل من يبحث عن الحقيقة اليوم ؟!

وحدي أدافع عن أمتّهِ من الموتى

وحدي أدافع عن الثكالى

عن الأرامل عن الجياع

وحدي بين ركام المدينة واقفٌ

وأسأل عروبتي هل مات آخركم ؟!

أأرعنْ أم ديوثٌ من يحكمكم ...؟!

ولازلت وحدي أروّض نفسي الثكلى

فتأبى أن تطاوعني ..

***

كامل فرحان

....................

إضاءة في قصيدة الشاعر كامل فرحان

الشاعر لا ينكر دمه، ولا بقايا خمار أمه، ولا عكاز أبيه...يتفرد في تجشم عناء البقاء، لأن البقاء ثقل وأمانة، ولأن البقاء مسؤولية، فكيف يحافظ على البقاء إذن؟ وكل مقومات الحياة سلبت، سُلِب الفكر بالتفاهة، وسلب الحق بالغصب، وأما تصريح بالخذلان: فلا ضل قريب

لأحتمي

أو حتى صديق لأرتمي

...و كأنه يقول وبلسان الحال: أين المحضن الدافئ وأين القلب الرحيم في ضجبج ملأ الكون متاهة وخوفا من القادم...

ثم ينتقل الشاعر من ولاء إلى براء

يتبرأ من الدثار:

هذا الدثار

ليس لي

و بقايا الخيمة ليس لي

لانه لم يتسبب في دمار، ولم يروع اهل ديار، الشاعر يبني القصيدة كما يرسم تاريخ أجيال تنقرض أمام ماكينة الجشع اليوم والهلع،

كما يتبرأ الشاعر من مسؤولية المكروفون الملقى، لم يكن يوما قاتل حق ولا غاصبا له، في الدلالة المكروفون...الإعلام وتبليغ رسائل الواقع إلى ضمائر حية تمّ التعتيم عليها في موطن ما، لكن الشاعر هنا يرمي برشقه الجميل، في من ألقي عليهم أسلوب التبليغ بالحق للحق في الحق عن الحق، فشبههم بالموتى وقارعتهم مقابر أحياء، لصمتهم عن مناصرة المظلوم والوقوف في وجه الظالم...في إشارة إلى شهداء الحق ...

و وحده الشاعر لا يدافع عن أمته من الموتى

و حدي بين ركام المدينة واقف

... وقد تكون المدينة المطلوبة المدينة الفاضلة...لكن كيف تكون؟

و هو يسأل العروبة؟

و يسأل الحكام؟

حيث يقول:

و أسأل عروبتي هل مات آخركم؟

أ أرعن أم ديوتي من يحكمكم؟

و لا زلت وحدي أروّض نفسي الثكلى

فتأبى أن تطاوعني.

و أقول: كلنا نروّض تلك النفس الثكلى لعلها تطاوع، لكن شقاء الجهل يقتل فينا خيط محبتنا الناظم، فكيف بي أشبع ودمعة هناك تبكي جوعا؟ وكيف بي أنام وأطفال تقصف وبها يعصف، ليت حروفي تموت لدمع خالط النبض، وليت تحليلي أشفى غليل القصيدة.

***

الإدريسي رحال - المغرب

 

الخريف هنا ليس بالدلالة ذاتها التي درج المزاج العربي على فهمها ليشير إلى انقضاء السنون واقتراب الأجل، وذلك في القول المتكرر عن "خريف العمر"، إنه هنا خريف يعيد للمرء شبابه ويجدد فيه حب الحياة، فخريف ظفار هو موعد خفي بين الأرض وسماءها، هو لحظة يسقط فيها الظل على سفوح الجبال فيتخلق من رحم الغيم بساتين خضراء لتستيقظ المدينة على أنفاس البحر وندى الروح. ففي خريف ظفار يبدو الهواء وكأنه يكتب قصيدة في مديح التنوع، ويُعيد ترتيب مشاعر العابرين حتى يظنوا أن الظل نفسه هو الذي أنبت هذه الواحات الممتدة في القلب قبل أن تمتد في الأرض. ولذا وفي كل عام يطل هذا الموسم ليوقظ في الوجدان العربي فرادةً عُمانية آسرة الجمال، والحقيقة أن زوّار هذه البقعة العزيزة من السلطنة لا يغادرونها بعد انتهاء الموسم مشبعين فقط بجمال المكان وبهائه، أو حاملين معهم مناخها الاستثنائي؛ إنهم أيضًا يحملون في دواخلهم ذكرى أوضح ملامح للعُماني؛ العُماني المشحون بقيم الكرم والسماحة والصدق والنقاء الروحي. وليست هذه مجاملة تُستدر من مجانية الوصف إنها الحقيقة التي يجتمع عليها من يزورون سلطنة عُمان في موسم خريف ظفار؛ إذ يقتحم عليك العُماني حواسك وهو متلحفٌ بصمتٍ نبيل، وتكفي ابتسامة صافية منه لتمنحك إحساسًا بالأمان كأنها تمسك بيدك برفق شديد لتهدي إليك باقات من جمال لا يُنسى. ولعل ما يثير التساؤل في نفس كل من زار ظفار في خريفها المنعش هو: كيف لمكان مهما بلغ من العنفوان أن يمد أرواحنا بكل هذه الدفقات من المحبة وراحة النفس، وكأن العرب ومن يقصد صلالة على موعد سنوي لغسل الروح بودٍّ عُماني غير مصنوع.

في تمام الساعة العاشرة مساءً حطّت رحلتي وكان أول ما شدّني وأنا أغادر مطار صلالة الدولي ليس فقط جوها المنعش. فما استوقفني أنني وأنا أنتظر وصول حقائبي شعرت كأنني انزلقت إلى صفحة من رواية ماركيزية حيث المدينة تستقبلك بحضور ثابت في الزمن؛ كأنك عاشق عاد فجأة إلى طفولته بعد غياب طويل، وقد استقبلني الهواء مشبعًا بذكريات متأصّلة. وحقاً كانت تلك حالتي ولا أدري لماذا تذكرت فجأة قريتي في شمال السودان وأنا أزورها لأول مرة، ومع ذلك أعرف الطرق الخفية بين جنبات البيوت المتراصة، وكأن الحنين نفسه يمسك بيدي. وحينها لم أحتج إلى دليل سوى حفيف النخيل يهمس لي الطريق نحو بيت جدي هناك على سفح من الرمال المحترقة حيث وُلد الجد الأكبر واختار تلك البقعة من أرض السودان ليعقد معنا عهدًا وميثاقًا جيلًا بعد جيل. ترى أيكون للأمر علاقة بتشابه الجغرافيا؟ قد يكون. أيكون السبب في هذه الحميمية التي التصقت بوجهي وهو يستقبل هواء صلالة؟ قد يكون.. أم أن السبب هو هجرة الروح في جزيرة العرب من أقصى شرقها لتستقر على مياه النيل الذي لم يتعب رغم جريانه لآلاف السنين؟ أظنّها ممكنة.

كان أول هاتف رنّ عليّ مشعًّا بالنور وخلال الدقائق المعدودة التي استغرقتها المكالمة كانت كلمة السر فيها: "نورت".. عجيب! لماذا اختار محدثي هذه العبارة التي قد تبدو في نظر البعض مجرّد مجاملة عادية؟ لكنها جاءت لتعني لي  الكثير، فالكلمة المشتقة من "النور" جاءت استجابة لنور غمرني أو بالأحرى غمر روحي المتعبة من الترحال. ونسيت أن أخبركم أنني كائن لا يؤرقه شيء مثل طرح سؤال بريء لعابر يلتقيه فيتعرف عليه ثم تتطور المقابلة ليسأله: "أين تستقر؟". فمفردة "الاستقرار" من "قرّ" أي ثبت، أي يفيد حالة من الثبات في مكان بعد حركة أو اضطراب، أو الوصول إلى حالة من الاطمئنان والسكون، كما تخبرنا معاجم اللغة. وهذا ما لم أعشه طيلة حياتي.. لكن دعونا نعود إلى النور الذي حدثتكم عنه. فالحقيقة كنت أتمنى لو أن رحلتي جاءت في ظهيرة لأدخل المدينة فاتحًا لا متسللًا تحت الليل؛ فقد علّمني السفر أن لزيارة المدن آدابًا، وصلالة بالذات تحتاج إلى تهجد أكثر يقين حتى أبصرها في ضوء الشمس، فلا تخدعني ذاتي بحقائقها وهي في سكون الليل. ومع ذلك فإن النور الذي سطع من المكالمة الأولى كان النور ذاته الذي قال عنه سلطان العاشقين مولانا جلال الدين الرومي: "النور الذي في العين ليس إلا أثرًا من نور القلب، وأما النور الذي في القلب فهو من نور الله". جميل ما قاله…

خرجت أحمل حقائبي واستقللت السيارة لأدخل إلى حضن المدينة والتي كانت حينها في لحظات سكينتها المعتادة. وعلمت لاحقًا أن موسم خريف ظفار هو الوقت الذي تكتظ فيه المدينة بأرواح العاشقين لها. وكان أول ما شدني أنها بدت لي كمدينة تحمل عبء هويتها الخاصة؛ نصيبها الأصيل من التنوع العُماني والذي هو سر قوة هذه البلاد، فسلطنة عمان تملك خصوصية لم تُكتشف بعد بالقدر الكافي لدى العرب. وقد يكون للأمر صلة بشعب لم يعد بحاجة إلى الحديث عن نفسه، وهو ما يصدّقه مثل سوداني عريق: "العارف عزو مستريح".

وصلتُ سكني وكان أول ما فعلته أن أبحث عن الكتاب الذي حملته معي وللمصادفة كان عنوانه: "موت وحياة المدن الأمريكية العظيمة" لجين جاكوبس؛ وهو عمل مهم في مجال التخطيط العمراني وعلم الاجتماع الحضري، ويعد أحد أهم المراجع لفهم سوسيولوجيا المدن حتى الآن رغم صدوره في ستينيات القرن الماضي. ومن أهم خلاصاته كيف أن التنوع شرط للأمان والحيوية الاقتصادية.

عدت أقرأ فيه كيف أن للمدن الحقيقية قدرة على منح الفرد حضوره الخاص لأنها تقوم على عقد اجتماعي بليغ التكوين يجعل الزائر الغريب يندمج فيها بلا عناء؛ فهي مدن صاغها أفراد متنوعون. وبعد هدأة قصيرة فتحت النافذة لأطل على الشارع في "صلالة الجديدة" وللمفارقة تعبير "جديدة" مجازيًا حقًا؛ فالحي الذي سكنت فيه لم يكن غريبًا عن جسد المدينة التي بدأت أكتشفها. وبعد أن أشرعت النافذة وجدت الشارع يلوّح لي بالترحاب كما لو يبعث برسالة تقول: "أنت آمن هنا، ولا في أي مكان آخر". ولحظتها تذكرت ما قالته جاكوبس كيف أن المدينة التي صنعتها إرادات قوية تصبح مهيأة لاستقبال الغرباء وتحويل وجودهم إلى عنصر أمان يُضاف إلى حقيقتها الآمنة.

وفي ساعات الليل تلك تذكرت قصيدة صلاح عبد الصبور "مرثية رجل عظيم" والسبب أنني شعرت وكأن الشارع يدير معي حوارًا وجدانياً تشهد عليه نافذتي، إذ وجدته شارعاً لا يترك للغريب فرصة البحث عن ذاته فيه لأنه يزيل الحدود بينه وبين الجدران التي تحتضنه. فالنوافذ وجوه مفتوحة والعيون مشرعة تراقب لكنها تبتسم للعابرين وتشجعهم على رواية الحكايات للمارة، وكأنهم جمهور مسرح مفتوح على فضاء لا متناه. أما الأصوات فهي خليط من أنفاس الغرباء وأهل المدينة، خليط يمتزج فيه الجميع ليعيد تخليق الحياة مع كل زائر. وقد كانت هذه أولى الرسائل التي بعثتها صلالة لرجل طالما آمن أن المكان ليس إلا جدران الذات المغلقة.

أطلّ الصباح وخرجت لا أبحث عن شيء سوى التمعّن في ملامح المدينة. وعندما جلست أحتسي قهوتي في مقهى قادني إليه صديق عزيز، وهو صديق يجسد مقولة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي يشير فيها كيف أن أصل الاجتماع البشري هو التضامن، وأنه ليس لمجتمع أن يعيش أفراده في أمان إذا قامت بينهم حدود اللغة والمعتقد والقبيل، ويختصرها قوله المأثور: "المرء كثيرٌ بأخيه، قليلٌ بنفسه".

في المقهى، وبسبب إدماني النظر المتأمل في المكان والناس – لعلها عِلّة من يقوم عمله على التحليل – كانت الأصوات عالية لكنها دافئة. رجل ينادي بأعلى صوته مرحّبًا بقادم لم يعبر الشارع بعد وكأنها رسالة صلاليّة في الصميم تلخّصها العبارة التي يستقبلك بها أهلها: "يا حي وسهلا". والملفت في لقاءات الصلاليّة أنهم يحيّونك بلغتهم وكأن الأمر عربون شراكة للغريب.

في المقهى ذاته، لكن مساءً كان لقائي بالأحبة الأصدقاء الذين يغمرونك ببِشرٍ أنيق وكأنهم مبعوثون لإسعاد روحك المتيبّسة. جلسنا وتناولنا قهوتنا – قهوتي تختلف؛ فهي أكثر إفريقية، سوداء وسكّرها غير عربي – وكان الأنس في هذه الجلسة كاشفًا عن روح الدعابة التي يتمتّع بها أهل المدينة. وهي دعابة تذكّرك بفستاف وهو الشخصية البارزة في مسرحية "هنري الرابع" لوليم شكسبير حين كان يسخر من مفاهيم القوة، وقرر أن يختار الحياة المليئة بالضحك وأحاديث الليل على الموت في المعركة. وكم كان جلسائي يشيدون حكاياتهم على رأس فستاف، ويسخرون منه شخصيًا.

إن خريف ظفار فرصة عظيمة لإعادة اكتشاف سلطنة عُمان، هذه البلاد التي تهدي إلى العرب أخلص ما فيهم: الكرم، والإيثار، والاعتزاز بالهوية. وتعلّمك زيارة ظفار أن سر تفرد هذه البلاد يكمن في تنوعها الثقافي، وفي قدرتها على تقوية أواصرها الاجتماعية في أرض تحتضن كل جميل، وتتركه ليعبّر عن نفسه بلا ادعاء. وللعرب أن يشكروا عُمان وقد ظلت تذكرهم كيف يمكن للتنوع أن يتحول إلى مصدر قوة.

إنني مدين بالشكر لمن جعل زيارتي هذه ممكنة، وغمرني بفضله فله مني عظيم الامتنان. فقد منحني فرصة أن أكتشف حدائق سرية لم أطأها من قبل؛ وعرفني على مدينة لا تُرى إلا بعيون الحب والعرفان..

***

غسان علي عثمان

 

استكتب الأمير أحمد بن طولون جعفرَ بن عبد الغفار المصري، لكنه لم يستطع أن يؤدي عمله كما يجب، ومع ذلك احتمله ابن طولون. وقد سأله صديقه أحمد بن خاقان عن السر في ذلك، فقال له الأمير: "أنا أحتمله لأنه مصري".

فقال ابن خاقان: أراك أيها الأمير تفضل الكاتب المصري على الكاتب البغدادي!

قال: لا والله، ولكن أصلحَ الأشياء لمَن ملَك بلدا أن يكون كاتبه منه، وأن يكون شمل الكاتب فيه؛ فإنه يجتمع له في ذلك البلد أمور صالحة، منها أن يكون بطانة الكاتب وحاشيته في ذلك البلد.

**

حين لاحت بوادر الضعف على الخلافة العباسية، تزايد لدى البلدان الإسلامية شعور بالكيان الذاتي، والاستقلال بماضيها الحضاري، وإمكاناتها المادية والبشرية. هكذا نشأت إمارات ودويلات في الشام، ومصر، والحجاز، والأندلس. تبحث كل منها عن هوية خاصة، ولا تخضع لخلافة في بغداد إلا خضوعا شكليا، يتمثل في خطبة الجمعة ودفع الخراج.

ولأن الكتابة في جوهرها تعبير عن روح الأمة وتطلعاتها، فقد لقيت اهتماما متفاوتا من لدن الأمراء والولاة، سواء في شكلها الرسمي الذي تمثله دواوين الإنشاء، أو من خلال استقدام الكُتاب والمبالغة في إكرامهم لتأسيس ودعم شرعية الحاكم.

حرص أحمد بن طولون أمير مصر على أن تبلغ كتابة الرسائل الصادر عن ديوانه درجة عالية من الإتقان، فأنشأ ديوان" التصفح" لمراجعة ما يكتبه كُتاب الإنشاء. وتولى أمر الديوان كاتب بليغ فصيح هو محمد بن أحمد بن مودود المعروف بابن عبد كان. ويروى أن أهل بغداد كانوا يحسدون أهل مصر على بلاغته ويقولون:" بمصر كاتب ومحرر ليس لأمير المؤمنين بمدينة السلام مثلهما، ابن عبد كان الكاتب، وطَبطب المحرر".

اعتمدت كتابة الرسائل أو فن الترسل في هذه المرحلة على السجع في فقرات متفاوتة بين القصر والطول. واشتملت على عبارات رصينة، يتناسب فيها اللفظ الواضح مع المعنى، دون تفريط في ألوان الاستعارة والتشبيه التي تُكسب الصورة مسحة من الخيال. كتب ابن عبد كان في إحدى رسائله الإخوانية:" أطال الله بقاءك ففي إطالته حياة الأنام، وأُنسُ الأيام والليالي، وأدام عزك ففي إدامته دوام الشرف ونمو المعالي، وأتم نعمته عليك فإنها نعمة حلّت محل الاستحقاق، ونزلت منزلة الاستيجاب، ووقفت على ما تكره الآلاء مكانه، ولا تُنكر الفواضل محله.."

سارت الكتابة على نمط الأسلوب الذي وضع ابن عبد كان أصوله وخصائصه. أما في زمن الدولة الإخشيدية، فقد برز اهتمام الكُتاب بالمعاني أكثر من الاهتمام بالمحسنات البديعية إلا ما جاء عفوا دون تكلف من الكاتب. ويعد أسلوب إبراهيم النَّجِيرَمي الذي تولى الكتابة لدى كافور الإخشيدي، نموذجا للكتابة الميالة إلى البساطة في التعبير، مع تأثر واضح بالنحو والعلوم العربية الخالصة.

وفي العصر الفاطمي اهتم الخلفاء بفنيات الكتابة وقواعدها، وبالغوا في رعاية الكُتاب الذين يطورون أسلوبا راقيا، يدافع عن شرعية الخلافة الجديدة، ويُسخرون براعتهم لخدمة أغراض مذهبية. فكانت الكتابة سلاحا يخوض به الفاطميون غمار المواجهة مع مجتمع سني معارض، وضد أعداء الخارج.

اِلتزمت الكتابة زمن الفاطميين بالسجع، وصار تقليدا لم تتحرر منه إلا في العصر الحديث. واهتم الكتاب بالاقتباس المتزايد من القرآن الكريم، والشعر ومعانيه لتحلية كتاباتهم، وبالمبالغة في تشخيص المعاني. وكان ابن أبي الشخباء والقاضي الفاضل نموذجا لعودة أسلوب ابن عبد كان إلى الواجهة مجددا، مع تصرف يقتضيه فن الكتابة ومجريات العصر.

وباستقرار الأحوال في الأندلس، تزايد عدد الكُتاب الذين تُناط بهم مهام إدارية، وكان لابد للكاتب من تحصيل قدر كاف من الثقافة، والمعرفة. أما السمات العامة للكتابة آنذاك فقد اقتصرت على الإيجاز وإيثار المعنى.

لكن مع أواسط القرن الرابع الهجري، سيظهر كُتاب اهتموا بترسيخ قواعد للكتابة، تميل إلى الأصالة وعدم محاكاة كُتاب المشرق، كابن شُهيد، وابن دراج القسطلي، وابن زيدون، والجزيري، وغيرهم.

تميز أسلوب الكتابة الأندلسية بالاعتدال، وإيضاح الفكرة بعبارات بسيطة ودالّة، فلا نلمح في كتاباتهم عناية زائدة بالسجع، باستثناء حرصهم على التوازن في العبارة. جاء في رسالة لأبي المُطرّف، يعقد فيها أهل شاطبة الولاء للخليفة العباسي المستنصر:" الحمد لله الذي جعل الأرض قرارا، وأرسل السماء مدرارا، وسخّر ليلا ونهارا، وقدّر آجالا وأعمارا، وخلق الخلق أطوارا، وجعل لهم إرادة واختيارا، وأوجد لهم تفكرا واعتبارا، وتعاهدهم برحمته صغارا وكبارا".

غير أن الكتابة ستعرف في عصر الطوائف، حالة من الجمود الفني كما سماه الدكتور شوقي ضيف، تتكرر فيها الأساليب والعبارات مئات المرات، ولا جديد إلا ما يتصنعه الكاتب من مصطلح علمي، أو استخدام مثل أو لفظ غريب.

يعتبر لسان الدين بن الخطيب أحد أعلام الأدب والفن في القرن الثامن الهجري، وأبرع كاتب أخرجته الأندلس في عصورها الأخيرة. تميز أسلوبه بالانتقال من السجع إلى الكلام المرسل، واللجوء إلى الجناس بأنواعه. كما تفنن فيما يسميه الدكتور ضيف بالسجع المركب.

يقول على سبيل المثال في وصفه للعرب:" العرب لم تفتخر قط بذهب يُجمع، ولا ذُخر يُرفع، ولا قصر يُبنى، ولا غرس يُجنى. إنما فخرها عدو يُغلب، وثناء يُجلب، وجُزُر تُنحر، وحديث يُذكر، وجود على الفاقة، وسماحة بحسب الطاقة.."

استمر حضور الرسائل كقالب مهيمن للكتابة، مع سعي إلى تناول مواضيع وقضايا جديدة. وهكذا ازدادت عناية الكتاب بالرسائل الموضوعية التي تدور حول إفضاء الكاتب بما يدور في ذهنه حول قضية معينة، فكانت بذرة أولى لما سيُعرف لاحقا بفن المقالة. ولعل من أبلغ النماذج تفردا وإبداعا هي رسالة الغفران للمعري، والتي بناها على نمط من الخيال غير مسبوق.

وتميز العصر كذلك بظهور كُتاب مارسوا الكتابة إلى جانب صنعة الشعر، فتبنوا أسلوبا يمزج بين المنظوم والمنثور، ويحاول أن يوحد الخصائص الفنية بينهما. لذا شهدت الساحة الأدبية انقساما بين الفريقين، وظهرت مؤلفات تنتصر لهذا اللون أو ذاك، حيث تعصب ابن رشيق للشعر والشعراء في كتابه "العمدة"، بينما دافع ابن خلف في كتابه "مواد البيان" عن الكتابة والكُتاب.

في مقابل التفكك السياسي الذي شهدته الخلافة العباسية، واصلت الكتابة المشرقية حضورها في مختلف الأقطار الإسلامية. فكان ابن المقفع والجاحظ وبديع الزمان الهمذاني، ظلالا يلمح المرء حضورها في ثنايا مئات المصنفات في القاهرة ودمشق وقرطبة.

حضور يدين بالفضل للنبع والواحد، واللغة الواحدة، والملامح الأدبية المتقاربة، دون أن ننكر محاولات التجديد والإبداع التي أضفت على الكتابة في كل عصر وبلد خصوصية وذوقا متفردا.

***

حميد بن خيبش

........................

محمد كامل حسين: الحياة الفكرية والأدبية بمصر

محمد زغلول سلام: الأدب في العصر الفاطمي

محمد رضوان الداية: في الأدب الأندلسي.

 

مقدمة: تشكل رواية دعاء الكروان نصًا سرديًا مفتوحًا على العديد من التأويلات، وتكشف عن براعة طه حسين في توظيف الرموز والمعادلات الموضوعية لإيصال معانٍ عاطفية وفكرية عميقة. وتغدو جماليات التلقي أداة لفهم هذا النص، حيث يلعب القارئ دورًا محوريًا في إعادة إنتاج دلالاته.

أولًا: مفهوم المعادل الموضوعي

ظهر هذا المفهوم مع الناقد ت. س. إليوت، ويقصد به: التعبير عن العاطفة أو الفكرة من خلال مجموعة من الأشياء أو الأحداث أو الحالات التي تُفضي إلى المعنى نفسه.

في دعاء الكروان، تظهر عدة رموز تمثل معادلات موضوعية لمشاعر الكبت، التمرد، الانتقام، والحب.

ثانيًا: تطبيق المعادل الموضوعي في الرواية

1. الكروان:

يمثل رمزًا للحرية والصوت الداخلي الذي يرشد البطلة (آمنة).

صوته المتكرر يشكّل خلفية شعورية للنص، يُعبّر عن تحولات آمنة النفسية.

2. الجبل والوادي:

الجبل يرمز إلى التحدي والعزلة والسمو، في حين يُجسد الوادي التقهقر والانحدار.

3. الضوء والظل:

تتكرر مفردات الضوء والظلام للدلالة على التنوير والجهل، أو الصراع بين الحب والكراهية في داخل آمنة.

ثالثًا: جماليات التلقي

1. القارئ كمنتج للمعنى:

يُعيد القارئ تشكيل رمزية الكروان، وفقًا لخبرته الجمالية والثقافية. اختلاف الأجيال يؤدي إلى تعددية في التفسير: مثلًا، قارئ تقليدي قد يرى الانتقام فعلًا مبررًا، بينما قارئ معاصر قد يراه تعبيرًا عن تحرر داخلي.

2. التلقي من زاوية نسوية:

القارئة المعاصرة قد تستقبل الرواية كرحلة تحرر نسوية لبطلة سعت لإثبات ذاتها في عالم ذكوري.

3. التلقي التربوي أو القيمي:

الرواية تطرح أسئلة أخلاقية حول العدالة، الغفران، والتمرد، ما يجعلها خصبة لتحليلات تربوية وقيمية.

خاتمة:

تجمع دعاء الكروان بين الجمالية الرمزية والعمق الإنساني، ويُعدّ تحليلها من خلال المعادل الموضوعي وجماليات التلقي مدخلًا لفهم كيفية بناء النص لوعيه الجمالي، وكيفية تفاعل القارئ مع هذا البناء، لتغدو الرواية نصًا متجددًا عبر الزمن والقراءات.

***

ربى رباعي - الاردن

 

صناع أفلام عالميين"أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم". 

مقدمة: أطلقت مجموعة كبيرة من محترفي صناعة السينما، معظمهم من الإيطاليين، بمن فيهم المخرجون: ماركو بيلوتشيو وماتيو غاروني وأليس روهرواشر، نداءً لمهرجان البندقية السينمائي لاتخاذ موقف أكثر فعاليةً لمناصرةً للقضية الفلسطينية.

وكانت المجموعة، المنضوية تحت شعار موسوم "فينيسيا من أجل فلسطين" Venice4Palestine، قد نشرت يوم السبت 23 أغسطس / آب 2025 رسالةً مفتوحةً تحثّ فيها المنظمة الأم للمهرجان، بينالي البندقية، وأقسامه الموازية المستقلة "أيام البندقية" و"أسبوع النقاد الدولي"، على "أن يكونوا أكثر شجاعةً ووضوحًا في إدانة الإبادة الجماعية المستمرة في غزة والتطهير العرقي في جميع أنحاء فلسطين الذي تمارسه الحكومة والجيش الإسرائيلي". ينطلق مهرجان البندقية السينمائي يوم الثلاثاء. 26 آب 2025 .

في الرسالة، تُحثّ المؤسسات وقطاعات السينما والفن والثقافة والتعليم على التحلّي بمزيد من الشجاعة والوضوح في إدانة الإبادة الجماعية المستمرة في غزة والتطهير العرقي في جميع أنحاء فلسطين الذي ترتكبه الحكومة والجيش الإسرائيلي. كما تدعو الرسالة أيضا إلى توفير مساحات وفرص طوال فترة المهرجان للترويج للمبادرات المتعلقة بفلسطين، وذلك عقب حراك 30 أغسطس الذي دعمته أيضا شبكة "فنانون بلا بافاليو"، حتى لا يصبح المهرجان "معرضا فارغا حزينا"، كما ورد في رسالة V4P، "بل يغتنم الفرصة ليعود من جديد مكانا للحوار والمشاركة الفاعلة والمقاومة، كما كان في الماضي"، كما أوضح أعضاء المجموعة.

وفيما خاطبت الرسالة العديد من الجهات السينمائية والثقافية والإعلامية. ومنها: بينالي البندقية، مهرجان البندقية السينمائي، أيام البندقية، أسبوع النقاد الدولي، والعاملين في مجالات السينما والثقافة والإعلام. أيدت العديد من الشخصيات المرموقة في السينما والفن والموسيقى والثقافة ـ الإيطالية والدولية الرسالة التي حملت نصا قيميا في مغزاه التعبيري، وإنسانيا في مضمونه الأخلاقي ـ تحت عنوان"أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم". جاء فيه:

إنّ العبء ثقيلٌ جدًا على مواصلة العيش كما كان من قبل. منذ ما يقرب من عامين، تصلنا صورٌ جليةٌ لا تخطئها العين من قطاع غزة والضفة الغربية. في ذهولٍ وعجز، نواصل مشاهدة عذابات إبادة جماعية ترتكبها دولة إسرائيل في فلسطين. لن يستطيع أحدٌ أبدًا أن يقول: "لم أكن أعرف، لم أكن أتخيل، لم أكن أصدق".

لقد رأينا كل شيء.

ما زلنا نرى كل شيء.

لكن مع تسليط الأضواء على مهرجان البندقية السينمائي، نُواجه خطرَ المرور بحدثٍ كبيرٍ آخر لا يكترث بهذه المأساة الإنسانية والمدنية والسياسية. "يجب أن يستمر العرض"، يُقال لنا، بينما نُحثّ على صرف أنظارنا - كما لو أن "عالم السينما" لا علاقة له "بالعالم الحقيقي".

ومع ذلك، فمن خلال تلك الصور تحديدًا، التي التقطها زملاؤنا، وربما حتى أصدقاؤنا، علمنا بالإبادة الجماعية، وبالهجمات العنيفة، بل القاتلة، على مخرجي الأفلام وطواقمها في الضفة الغربية، وبالعقاب الجماعي الذي مورس على الشعب الفلسطيني، وبجميع الجرائم الأخرى ضد الإنسانية التي ارتكبتها الحكومة والجيش الإسرائيليان. لقد أودت هذه الصور بحياة ما يقرب من 250 إعلاميًا فلسطينيًا حتى الآن.

يُفترض أن يحتفي البينالي ومهرجان البندقية السينمائي الدولي بقوة الفن كوسيلة للتغيير، والشهادة، وتمثيل الإنسانية، وتنمية الوعي النقدي. وهذا تحديدًا ما يجعل الفن وسيلة استثنائية للتأمل والمشاركة الفاعلة والمقاومة.

ردًا على التصريحات الأخيرة الفاترة والغامضة، أو الأسوأ من ذلك، المريحة، الصادرة عن أجهزة السلطة والإعلام والثقافة، نتخذ موقفًا واضحًا لا لبس فيه: لقد حان الوقت ليس فقط للتعاطف، بل أيضًا للمسؤولية. الدلالات واللغات، والكلمات والصور، ليست مجرد أدوات ثانوية - وخاصةً لمن يؤمنون بالفن، بل هي شكل أساسي وضروري للمقاومة. لو لم يكن الأمر كذلك، لكان من الأفضل لنا أن نستسلم للدليل القاطع على أن كونك صانع أفلام أو صحفيًا اليوم لم يعد له معنى.

ولهذا السبب، نحن - ناشطون وعاملون في مجالات السينما والإعلام والأخبار - نؤمن بأنه يجب أن يتوقف هذا العرض ولو لمرة واحدة: يجب أن نكسر جمود اللامبالاة ونفتح طريقًا للوعي. لذلك، نطالب البينالي والمهرجان وأيام البندقية وأسبوع نقاد البندقية باتخاذ موقف واضح ودعم مطالبنا. كما نؤكد على ضرورة توفير مساحات لاستضافة سرديات متنوعة لفلسطين.

نناشد كل من يستطيع ويرغب في إحداث تغيير - على أي مستوى. في البندقية، ستكون الأضواء كلها موجهة نحو عالم السينما: علينا جميعًا واجب إبراز قصص وأصوات أولئك الذين يتعرضون للمجازر، حتى في ظل لامبالاة الغرب المتواطئة.

نحث جميع أعضاء عالم الثقافة والإعلام على استخدام شهرتهم وأي وسيلة أخرى متاحة خلال المهرجان لخلق خلفية دائمة للحوارات والمبادرات لدعم حقيقة التطهير العرقي والفصل العنصري والاحتلال غير الشرعي للأراضي الفلسطينية والاستعمار وجميع الجرائم الأخرى ضد الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل لعقود، وليس فقط منذ 7 أكتوبر.

ندعو العاملين في مجال السينما إلى تصور وتنسيق وتنفيذ أعمال معًا، خلال المهرجان، تُعطي صوتًا لانتقاد سياسات الحكومة المؤيدة للصهيونية: معارضة تُعبّر عنها من خلال الإبداع، بفضل مهاراتنا الفنية والتواصلية والتنظيمية.

بصفتنا فنانين ومحبي فن، ومحترفي صناعة سينمائية، ومنظمين ومراسلين صحفيين، نحن القلب النابض لهذا المهرجان، ونؤكد بحزم أننا لن نكون متواطئين، ولن نلتزم الصمت، ولن نتجاهل، ولن نستسلم للعجز أو لمنطق القوة.

هذا ما يفرضه علينا عصرنا ومسؤوليتنا كبشر. لا سينما بدون إنسانية.

فلنضمن أن يحمل هذا المهرجان قيمًا قيّمة، وألا يتحول مرة أخرى إلى معرض غرور حزين وسطحيّ.

لنفعل ذلك معًا - بشجاعة ونزاهة. فلسطين حرة!

***

عصام الياسري

جبران خليل جبران

مقدمة: يمثل جبران خليل جبران أحد أبرز رموز الفكر والأدب في العالم العربي الحديث، وقد شكّل برؤيته العميقة وفلسفته الإنسانية ظاهرة أدبية تجاوزت حدود الزمان والمكان. يتسم نتاجه الأدبي بتكثيف الرموز والدلالات التي تنفتح على تأويلات متعددة، وتنهل من ينابيع التصوف، والمسيحية الشرقية، والفكر الفلسفي، والرومانسي الغربي. وفي قلب هذا العالم المتشابك، تتجلّى الرمزية بوصفها أداة جمالية وفكرية، يتوسل بها جبران لإيصال رسائله الروحية والاجتماعية.

أولًا: مفهوم الرمزية عند جبران

الرمزية عند جبران ليست مجرد تقنية بلاغية أو زخرف لغوي، بل هي بنية فكرية وجمالية عميقة تعبّر عن رؤيته للعالم والوجود. فالرمز عنده يحمل طاقة دلالية تتجاوز ظاهر النص، ليفتح أفقًا تأويليًا يتفاعل فيه القارئ مع النص من موقع المشاركة الروحية لا الاستقبال السطحي.

ومن أبرز خصائص الرمزية الجبرانية:

التجريد والتكثيف: فالرمز يحمل دلالات متراكبة تتطلب التأمل العميق.

الازدواجية في المعنى: بين الدلالة الظاهرة والباطنة.

الامتزاج بين الروحي والحسي: حيث تتداخل العواطف بالمقدّس، والجمال بالحقيقة.

ثانيًا: فضاءات الرمزية في نصوص جبران

1. الطبيعة كرمز

الطبيعة لدى جبران ليست مجرد خلفية للأحداث، بل كائن حي يحمل معانيَ رمزية متعددة:

الشجرة ترمز إلى الحياة والخلود.

الريح تعبر عن التغيير والتحرر.

الماء يمثل النقاء والتجدد.

يقول في "النبي":

 "وكيف تسيرون إلا إذا انصهرتكم الريح التي تهب شمالًا وجنوبًا، وتسلخ عنكم أثوابكم البالية؟"

2. المرأة كرمز

تحتل المرأة مكانة محورية في فكر جبران، وتُمثّل غالبًا رمزًا للروح أو للحكمة أو للجمال الإلهي. "سلمى كرامة" في الأجنحة المتكسرة ليست فقط معشوقة، بل رمز للمرأة-الوطن، والمرأة-الحرية، والمرأة-القدَر.

3. الصورة المسيحية الصوفية

استخدم جبران الكثير من الصور الدينية المسيحية، ولكن بروح صوفية، تتجاوز الشكل الطقسي إلى جوهر روحي عميق. المسيح في نصوصه رمز للمُخلّص، وللتضحية الكونية، وللثائر على الظلم الاجتماعي والروحي.

في كتابه يسوع ابن الإنسان، لا يقدّم سيرة تقليدية للمسيح، بل يراه ككائن رمزي يتجاوز الزمان والمكان، يتجسد في كل من يسعى للحقيقة.

ثالثًا: جماليات التأويل في النص الرمزي الجبراني

1. تعددية القراءة

بسبب انفتاح الرمز، لا يقدّم جبران معنى واحدًا أو مباشرًا، بل يضع القارئ أمام شبكة من المعاني الممكنة، ويدعوه للمشاركة في خلق المعنى. فكل قارئ يُنتج تأويلًا خاصًا به، متأثرًا بخبرته وثقافته.

2. اللغة الشعرية والإيقاع الداخلي

نصوص جبران مشبعة بالبعد الموسيقي، مما يعزز البعد الرمزي للنص. الإيقاع هنا ليس مجرد تجميل، بل عنصر من عناصر الدلالة.

3. الغموض البنّاء

لا يهدف الغموض عند جبران إلى إرباك القارئ، بل إلى استفزازه فكريًا وروحيًا، ليتجاوز سطح النص إلى أعماقه.

رابعًا: تأويلات ممكنة لبعض الرموز الجبرانية

الرمز         المعنى الظاهري       التأويل الرمزي

النار          العذاب، الدمار         التطهير الروحي، الشغف

الجبل         الطبيعة المرتفعة      السمو، القرب من الله

الطفل           البراءة                النقاء الأول، الحقيقة الأصلية

الرحيل        الفراق، الموت      التحول، الخلاص

خاتمة:

في فضاء جبران خليل جبران الرمزي، لا يبقى القارئ متلقيًا سلبيًا، بل يتحول إلى متأوّل، إلى كائن يبحث عن المعنى بين السطور، وفي ظلال الكلمات. إن جمالية الرمز عند جبران تكمن في قدرته على تجاوز المألوف، وفتح نوافذ للروح، تُطل منها على المطلق واللانهائي. وهكذا، فإن قراءة جبران هي دائمًا رحلة لا إلى الخارج، بل إلى الأعماق.

***

ربى رباعي - الاردن

في مقدمة كتابه (مع الزمن) الصادر سنة 1964 يقول توفيق الحكيم ( ولقد أغراني هذا الفن الجديد في السنوات العشرين من هذا القرن وأنا في باريس بالشروع في المحاولة فكتبت قصائد شعرية نثرية من هذا النوع وهو لا يتقيّد أيضا بنظم ولا بقالب معروف) ويؤكد توفيق الحكيم أن نصوصه الشعرية هذه قد تأثر في صياغتها بالقرآن حيث يقول (إني لأذكر الآن من حيث» الشكل كيف كان القرآن يثير فينا الـتأمل بأسلوبه الفريد، لا هو بالشعر المنظوم ولا هو بالنثر المرسل لكنه طاقة شعرية وموسيقية معجزة) والقصائد التي جمعها توفيق الحكيم في هذا الكتاب جعل لها عنوانا خاصا هو ( رحلة الربيع) وقد كتب نصوصها بين سنتي 1926 و1927 ويمكن أن تُعتبر ديوانا شعريا صغيرا يحوي نحو إحدى وعشرين قصيدة.

القصيدة الأولى تحت عنوان (قبّة سمائنا) وهي من الأسلوب السردي ذي الأبعاد الرمزية:

غطاء محكم الإغلاق

أزرق زرقة الأبد

زرقة ضمير طفل في المهد

أغلق غلقا على جوهره

تلمع داخلها جمجمة

تحسب أنها وحيدة

تقول كلاما وتعيش غراما

و تنام طويلا بعيون غير موجودة (ص 15)

أما في قصيدة (حلمنا وواقعنا) فإن توفيق الحكيم يعمد إلى الجناس وإلى المقابلة من ناحية وإلى التكرار والعود على بدء من ناحية أخرى للتعبير عن حالة وجودية متشابكة العلاقات:

مخمور يطرق باب الحان

و يخرج يهذي بالألحان

يسرق حلي زوجته

و يهديها لعشيقته

و يسرق حلي عشيقته

و يهديها لزوجته (ص16)

 فما يمكن أن نلاحظه في نصوص قصائد توفيق الحكيم هذه أنها بقدر ما حاول فيها النسج على غير منوال الشعر العربي القديم من حيث المعنى والمبنى بقدر ما كان الشعر الفرنسي فيها واضح التأثير خاصة فيما يبدو من أبعاد رمزية وسريالية مثل قوله في قصيدة اللامتناهي في المتناهي) ص 36

هبطت بعيني في أعماق فنجاني

فرأيت الكون يخلق من جديد

هذا النقيع في القاع له غبار

يهيم طليقا في فضاء مديد

أدرت فيه المعلقة

و اذا بدوّامة تدور ثم تدور

و تجمّع الغبار

في كتلة دائرة معلّقة

و بدا في الأفق نجم وليد.

بل إن العبثية تبدو واضحة الحضور في بعض القصائد الأخرى وقد فرضت معناها في التلاعب بالكلمات المتوالية على غرار ما ورد في قصيدة (نسيج الخليقة)

عروق ذهب في جبل

جبل يسير على قدم

قدم تطير على عجل

عجل يمزّق في رخام

رخام جو من غيوم

غيوم حقل من نجوم

نجوم جوّ من سكون

سكون اصداف بحار

بحار كأس من ورق

ورق يفور ويحترق....(ص29)

و خلاصة القول تتمثل في ان توفيق الحكيم قد كتب الشعر انطلاقا من البحث عن شكل جديد حاول أن يجد له تأصيلا في النص القرآني كما استفاد من المدارس الغربية في الفن عند الثلث الأول من القرن العشرين مما أضفى على قصائده رغم قلة عددها لونا جديدا في مسيرة الشعر العربي الذي يظل التجديد فيها اِستثناء والتقليد هو القاعدة.

***

سُوف عبيد

دخل مكاتب الصحيفة دون أن يقرع بابها. دخل إليّ في غُرفة المحرّر الادبي. أطل مِن عينيه عتب كبير وهو يسألني عن سبب عدم نشري مادته الأدبية الأخيرة. كان هذا الداخل إليّ واحدًا من اصدقائي الباحثين عن ذواتهم، فقد حاول الموسيقى والغناء وبعده الفنّ التشكيلي، كما حاول الكتابة الأدبية. في البداية صوّبت مادته المقدّمة إلي ونشرنها. بعدها جاء إلي بمادة أخرى، فصوبتها ونشرتها. في الأسبوع الثالث، جاء وقدّم مادة أخرى وغادر. تناولت تلك المادة وشرعت في اجراء التعديلات اللازمة. وبينما انا أقوم بتلك المهمة الصعبة/ تصويب تلك المادة، اقترب منّي صاحب الصحيفة، وعندما تبيّن له أنني أُعد ما قدّمه إلي ذلك الصديق لنشره، قال لي دعنا منه.. هذا ليس كاتبًا. لقد قرأت ما نشرته له في العددين الماضيين، واختصر قائلًا دعنا منه. عندما لاحظ ذلك الصديق انني لم أقدّم له ردًا أيًا كان على عدم نشري مادته تلك، عاد يكرّر سؤاله عن عدم نشري لها، وعندما أصررت على صمتي، قال بعتب كبير.. لماذا لا تفتح لي المجال لتجريب الكتابة الأدبية.. وأرسل نظرة إلى البعيد.. ساعدني فهي قد تكون ضربة نرد رابحة. أردت أن أقول له إن الادب ليس ضربة نرد، قد تربح وقد تخسر، وإنما هو نتاج لجهد نفسي واجتماعي كبير، وإن الكاتب لا يُضحي كاتبًا بين ليلةٍ وضحاها، أو بالمصادفة وإنما هو يُحقّق ذاته بالتعب والجهد وسهر الليالي. غير أنني بقيت مُحافظًا على صمتي. أما ذلك الداخل إلي في مكتب المحرّر الادبي، فقد خرج مقطّبًا حانقًا، ولم يعد إلى محاولته تجريب ما اطلق عليه ضربة نرد أدبية.

حاليًا.. في هذه الفترة، لم يعد ذاك الداخل إليّ والكثيرون.. الكثيرون من أمثاله، بحاجة إلى صحيفة ورقية، يعمل فيها مُحرّر أدبي، ولا إلى صاحب صحيفة يقبل بنشر موادهم على مضض حينًا، ويرفض أحيانًا، فقد فتحت وسائل الاتصال الاجتماعي الأبواب على أوسع ما يمكن أن تُفتح، وبات بإمكان مَن يعرف ومَن لا يعرف، أن ينشر كلّ ما يعنُّ له ويخطر في باله من تُرّهات، وكلام فارغ، كما بات بإمكانه أن يجنّد عددًا مِن أصدقائه ومعارفه لأن يشيدوا به وبكتابته "الخارقة"، ناسيًا أو متناسيًا بالأحرى، أن طريق الابداع الادبي قد يكون من أصعب الطُرق التي يمكن للإنسان أن يسلك فيها، ذلك أن الابداع عامةً والابداع الادبي خاصةً يحتاج إلى الدراسة والاطلاع، ولا يمكن لأيٍّ مِن الناس التعاطي به ومعه بسهولة. فمن المعروف أن الكتابة لا تأتي عفو الخاطر، وإنما هي تقوم وتتأسس في ثقافة واطلاع عميقين، على التُراث الثقافي السابق، كون مَن يكتُب ليس نسيجَ وَحده وإنما هو استمرار لسابقين مُتفوّقين ومُجلّين في المجال.

لقد أظهرت السير الذاتية للمبدعين في كلّ المجالات الإبداعية، خاصة الأدبية، أن سُلّم الادب والشعر تحديدًا، صعب وطويل سُلّمه، كما قال شاعرنا العربي القديم الحطيئة، ومَن يطلع على سيَر معظم الكتّاب المبدعين في عالمنا القديم والمعاصر أيضا، لا بُدّ له من أن يلاحظ إلى تلك المُعانيات التي خاضها اولئك مِن أجل أن يكونوا كُتّابًا ومبدعين حقيقيين. لنأخذ مثالًا مِن الكاتب الأمريكي إرسيكن كالدول، صاحب رواية قطعة ارض الله الصغيرة، وصاحب القصص القصيرة الشهيرة، التي تحوّل العديد منها، إلى أفلام سينمائية شاهدها الملايين من الناس، في مختلف انحاء العالم. لنأخذ تجربة هذا الكاتب كما سجّلها في كتابه الموسوم بعنوان "كيف أصبحت كاتبًا؟"، بترجمة الكاتب الفلسطيني الراحل أحمد عمر شاهين أو بعنوان " اسمها خبرة"، بترجمة الكاتب العراقي علي القاسمي، لنتمعّن معًا في هذا الكتاب ولنلاحظ

إلى المعاناة التي عاشها هذا الكاتب كي يحقّق حُلمه في أن يكون كاتبًا معترفًا به، ومما يرد في هذا الكتاب/ السيري، نسبة إلى السيرة، أن صاحبه، ارسكين كالدول، كان يضطر للتنقّل من بيت مستأجر إلى بيت آخر، بعد أن يعافَه مؤجر هذا البيت أو ذاك له، لكثرة ما تتسبّب به آلته الكاتبة من ازعاج تواصل طوال الليل وآناء النهار. لنتمعّن في تلك المُعاناة التي دفعت صاحبها لأن يخصّص كلّ ما يملكه من نُقود قليلة لشراء طوابع الارسال البريدي، لأنه كان يحتاج إلى الكثير منها، فهو يرسل قصته إلى ست أو سبع مجلّات، فإذا رفضتها مُجتمعةً، قام بمحاكمتها وتقديمها إلى منصة الاعدام، أما إذا كانت تَرضى بنشرِها إحدى المجلات، فقد كان يعتبر تلك خطوة موفقة في طريقة الادبي الصعب. اقرأوا هذا الكتاب.

صحيح أن الدنيا تغيّرت وتبدّلت في العشرات الأخيرة من السنين الماضية، وصحيح ان أحدًا ليس مخوّلًا لمنع هذا أو ذاك من ممارسة حقّه في القول والتعبير، فلم يكن الامر كذلك، لا في الماضي ولا في الحاضر، بيد أنّ ما نُودُّ قولَه هو أن الحياة تتغير وأن مياهها دائمة السيولة، على حدّ تعبير عالِم الاجتماع البولندي المقروء عالميًا، في جُماع مؤلفاته التي تمّت ترجمتُها إلى العديد من اللغات منها العربية. كلّ هذا صحيح، لكن الاصح منه ألا يتحوّل الابداع بصورة خاصة، إلى حيّز لعبث العابثين، وللحمقى والتافهين، على حدّ تعبير الكاتب السيميائي الإيطالي اومبرتو ايكو، صاحب اسم الوردة. أؤكّد في النهاية أنه يوجد هناك فرقٌ كبيرٌ بينَ الحرية التي يتطلّبها الابداع في كلّ مجالاته، وبين الفوضى الهدّامة التي يتبنّاها البعض، لا أقول الكلّ.. عندما يرون أن الابداع الادبي، يمكن أن يكون ضربة نرد، قد تُخطئ وقد تُصبب، علمًا ان الابداع الادبي خاصة، كما أثبت التاريخ حتى هذه الأيام، لا يمكن أن يكون حقًا وحقيقةً، إلا وليدًا حقيقيًا وأصيلًا للإرادة والتصميم.

***

ناجي ظاهر

اختلف النقّاد والشعراء في تعريفهم للشعر، وتعدّدت مفاهيم هؤلاء، تقاربت حينًا وتباعدت آخر، غير أنهم لم يختلفوا في تعريف الادب في جوهره، وقد اتفق مَن قاموا بدراسة الادب وتعمّقوا فيها، على أربعة عوامل لا بدّ من توفرها في أي عمل أدبي حقيقي وجدير، هذه العوامل هي: الفكر، المشاعر، الخيال والأسلوب، أما فيما يتعلّق بأدبنا العربي القديم، فقد ذهب بعض من الباحثين، لا أقول النقاد، إلى ان الشعر هو الكلام الموزون المقفّى، وقد اختلف النقاد مع هؤلاء، ورأوا ان اشعر ابعد واعمق من الكلام الموزون المقفى، كما سنلاحظ فيما يلي، هكذا رأى بعض العالمين ببواطن الشعر ان له علاقة بالسحر، وانه عالم من الخلق، الدهشة والاغراب، ومن مثل هكذا رؤية، بات الشعر، إضافة الى أهمية الوزن والقافية في تكوينه، اشبه ما يكون بالكلام الطائر المجنح، الذي يتمكّن فيه صاحبه من أخذ قارئه الى عالم مجنح من يرفرف في مرافئ بعيدة، وجزر لا تغيب عنها الشمس. من هذا الراي انطلق في ابداء عدد من الملاحظات، دفاعًا عن هذا الكائن الفاتن الرائع/ الشعر، وذودًا عن حياضه المُنتهكة من اعداد هائلة من المتطفلين والمنتهكين المحترفين.

الشعر العمودي: ابادر أولا الى ما سبق وردده الكثير من النقاد قديما وحديثا، وهو ان الشعر ليس كل كلام موزون ومقفى، وضرب بعض هؤلاء مثالا صارخا في هذا المجال، بألفية ابن مالك التي يُعرّف بها قواعد اللغة العربية، بوساطة الشعر الموزون المقفى. فما هذه الالفية بإجماع الجميع، الا نظم متقن وخال من الحياة والروح. وقد ميّز الناقد المفكر العربي العريق عبد القاهر الجرجاني، صاحب دلائل الاعجاز واسرار اللغة، بين النظم والخلق، ورأى في الشعر زيادات واضافات من العاطفة والخيال، ضمن إشارة مفادها ان القصيدة العمودية ما هي الا عالم ضاج بالحركة والاثارة. اما ناقدنا العربي الكبير حازم القرطاجني صاحب منهاج البلغاء فقد رأى ان الشعر، ويقصد العمودي بالطبع، هو عالم من الاغراب والادهاش، وان الشاعر المبدع هو ذاك الذي يأخذ بيد قارئ قصيدته زاجا إياه في حالة شعرية فاتنة سبق له وان عاش فيها وعبر عنها، بكل ما في كينونته ووجوده من إغراب وإدهاش كما سبقت الإشارة. وقد تقاطع مع ناقدنا في مفهومه هذا للشعر ناقد معروف في كل المحافل الأدبية في العالم، هو جون كوهن صاحب اللغة العليا وبناء لغة الشعر، فقد رأى هذا الناقد في الشعر، نفس ما رآه حازم القرطاجني فيه. ماذا نُريد أن نقول من هذا؟.. نريد أن نقول إن معرفة العروض واتقان الاوزان لا تخلق شاعرًا مبدعا، وان الشاعر لا يولد بين ليلة وضحاها، وانما يحتاج الى ثقافة ومعرفة بالشعر، اسراره وخفاياه، لدى كباره وعظمائه خاصة. أقول هذا كله وانا أفكر في أولئك الذين يعتقدون انهم بتعلمّهم العَروض والاوزان، يمكنهم تعاطي الشعر والتعامل معه، وها انذا أتذكّر نادرة طريفة في هذا السياق، عندما نوى الحسن ابن هاني/ أبو نواس، ان يكون شاعرا اقترح عليه أحدهم، ان يستشير خلف ابن الأحمر، أحد اهم رواة العرب الشعريين في زمانه. ذهب أبو نواس الى خلف ووجه اليه سؤاله ذاك، فطلب منه ابن الأحمر ان يذهب الى البادية وان يحفظ هناك الفي بيت من الشعر. نفّذ أبو نواس ما طلبه منه ابن الأحمر وعاد اليه ليستظهر ما حفظه عليه. استمع ابن الأحمر الى ابي نواس وهو يهز راسه اعجابا وتقديرا، وقال له الان بإمكانك ان تكتب الشعر. هذه النادرة تؤكد ما قاله جرول ابن اوس/ الحطيئة، وهو ان الشعر صعب وطويل سُلّمه، فلا تستخفوا بالشعر يا اهلي واحبابي.

قصيدة النثر: اعتقد أن ما قيل عن بحر الرجز في شعرنا العربي القديم، وتردّد على اكثر من لسان وفي اكثر من مجلس، وهو ان الرجز هو حمار الشعراء، انطبق على قصيدة النثر او ما اطلقت عليها هذه التسمية. فكل مَن أراد ان يكون شاعرا، دون دراسة مُتعِبة ودراية تحتاج الى سهر الليالي الطوال، توجّه الى كتابة هذه القصيدة، وكل من اعجزته معرفة الموسيقى الشعرية، مكنوناتها ومكنوزاتها، تلك التي تعتبر من اساسيات العملية الشعرية، كما اقر بها العشرات من المنظّرين، النقّاد والباحثين، توجّهوا الى هذا النوع من الكتابة، التي لا تكلّف الواحد منهم سوى نثر الكلمات دون ترتيب منطقي مسبق، ليطلق على ما كتبه مصطلح قصيدة النثر. اما مَن فشل في قصة حب واراد ان يبعث رسالة مُغلّفة بكلمة شعر الساحرة، خاصة في الاذن العربية، حتى قام بكتابة تلك القصيدة الما تتسمى. اما النساء لا سيّما مَن ارادت ان تسجل تفوقا مشهودا على بنات جنسها، فقد دخلت السباق الشعري الموهوم، وراحت تدبّج الكلمات تلو الكلمات مطلقة عليها تلك الصفة، لا اريد ان اواصل ذكرها. اشير بالمناسبة الى ما سبق ونوّهت اليه في العديد من الكتابات واللقاءات، وهو انني عرفت الاخوة الذين كتبوا قصيدة النثر في بلادنا، وعرفت أيضا انهم حاولوا وبذلوا الكثير من الجهد والوقت لتعلّم البحور الشعرية غير انهم أخفقوا، الامر الذي دفعهم الى كتابة هذا النوع من الشعر، أولًا كي يقنعوا أنفسهم والمحيطين بهم انهم يستحقون تلك الصفة الباهرة الساحرة صفة الشاعر، وثانيا لأنهم اقنعوا أنفسهم بأوهام طالما اقتنع بمثلها أناس في الخارج وفي بلادنا أيضا، وفي مقدمتها انه توجد هناك قصيدة تسمى قصيدة النثر، ناسين او متناسين عمدا، ان غياب الموسيقى من الشعر هو اشبه ما يكون بغياب الروح من الجسد، واذكّر هنا بما قاله الناقد محمد النويهي، نقلا عن نقاد معروفين ومشهود لهم في العالم الشعري، وهو ان الموسيقى هي جانب هام من جوانب العملية الإبداعية. فالطفل عندما يفرح لأن اباه عاد بما أراده واحبه من فواكه يهتف راقصًا اجى ابوي.. اجى ابوي. اما الشاعر الفرنسي الكبير بول فالري فقد وصف الشعر بالرقص والنثر بالمشي. وشتان ما بين الاثنين. لا اعرف لماذا يصرّ الكثيرون على تسمية ما يكتبونه بقصيد النثر، مع اننا نعلم انه يوجد هناك تعبير حداثي جديد يقول بشعرية الكلام. وهنا اضم صوتي الى أصوات نقّاد آخرين، من بينهم الناقد الصديق نبيه القاسم، في احتجاجهم على إصرار البعض اطلاق اسم القصيدة على كلام قد يكون نثرا شعريا جميلا.. هل هو جنون التسمية؟ هل ابتعدنا عن الابداع الإنساني الى هكذا حدّ؟.. هل وصلنا الى جنون الشكل.. واهملنا عقلانية الجوهر؟. ما هذا الجنون.. ولماذا تصرفون عقلاءنا عن قراءة الشعر بنشركم ترهاتكم يا اصلحكم الله.

شعر فيسبوكي: بالعودة الى كتابة سابقة في هذا الموضوع، اكرّر، ما سبقة وطرحته حول هذا النوع الذي اخذ يطلّ علينا مشرئبا بعنقه هازا براسه، منذ ظهور وسائل الاتصال الاجتماعي، والفيس بوك تحديدا، فقد شرعنا نرى تحوّلا في مفهوم الشعر، يركّز على ما يطلبه القارئ او المستمع، مِن نقد، وأفكار لا تخلوا من جفاف، فيصوغ الكلمات بطرائق متعدّدة، كل ما تطلبه هو اثارة المستمع او المشاهد الى حدّ التفاعل والتصفيق، وعليه اخذنا نرى هذا الشاعر يتلّوى ويتقصّع، ويوجه انتقاداته اللاذعة الى هذه الظاهرة او تلك من الظواهر، التي يعرف تمام المعرفة انه يوجد هناك الكم الكبير من جمهوره يريد ان يسمعها، وان تفاعله معها بات في معتقده من الأمور المفروغ منها، أو راينا تلك المرأة الملآى رغبة في الظهور كونها حديثة عهد به، توجّه كلماتها الناقدة الى كل الزعماء العرب واضعة إياهم في كفة واحدة وكأنما لا يوجد بين احدهم والآخر أي فرق، كما هو الامر في الواقع. صحيح ان النقد والفكر هما من صفات الانسان المثقف المُطّلع، سواء كان كاتبا او شاعرا، وهذا ما شهد به التاريخ الادبي عامة والشعري خاصة، حتى ان شاعر العرب الأكبر أبو الطيب المتنبي، وجّه إليهم نقدا لاذعا وصفهم، او بالأحرى وصف قطاعا واسعا منهم قائلًا: يا امة ضحكت من جهلها الأمم. هذا وغيره صحيح ومعلوم، بل اننا نذهب الى ابعد منه فنرى ان الادب الحقيقي بعامّته، انما هو في أحد تعريفاته العميقة، ضد كل سلطة سواء كانت السلطة الحاكمة او السلطة النصّية السابقة والمُهيمنة. هذا كله صحيح، ولا يوجد لدينا خلاف كبير معه، الخلاف يبدأ عندما يتحوّل مَن يُمكننا أن نطلق عليهم شعراء الفيسبوك، الى مُهرجين او اشباه مهرجين كل همهم هو ان يثيروا جمهور مشاهديهم او مستمعيهم، وان يستجدوا تصفيقهم. فالشاعر الحقيقي لا يمكن ان يكون مهرجا كل همّه اثارة جمهوره، كما يحصل في الحالة التهريجية، وهو إضافة الى هذا لا يمكن ان يكون مستجديا يتسوّل المشاعر والتصفيق، بترداده ما يودّ الآخر ان يستمع اليه. الانسان الحقيقي، بما يشمل الشاعر الحقيقي، يُبدع في العُمق لذاته أولا وثانيا وثالثا، بمعنى انه انما يكتب لإنسان صغير في داخله، انسان يشبهه كل الناس المماثلين له على الأقل، وعندما يصل الى هذا الانسان، يصل الى الآخر، اما ان يقلب الآية ويبدا من الاخر، فهذه هي الطامة الكبرى التي قد يُفضي اليها هذا النوع من الكتابة الشعرية.. شعر الفيسبوك.

***

ناجي ظاهر

 

عندما ضربت النكبة ابي بيدها الحديدية الخالية من الحياة والروح، اضطر لمغادرة قريته سيرين الحبيبة الوادعة، مكرها لا بطلا، تصحبه والدتي واخي الاكبر جوهر واختي نجية وخالاي محمد وعوض، رحمهم الله جميعا واطال في عمر اختي نجية، ليتشردوا في طول البلاد وعرضها وليستقر بهم المقام بالتالي في مدينة الناصرة، لأولد بعد سنوات، ولتولد فيها ايضا اختي ليلى وبعدها بسنوات اخي الاصغر موفق او توفيق كما اعتدنا مناداته. في تلك السنوات الغبراء السوداء، كان ابي في نحو الخمسين من عمره. وقد اراد حينها ان يستعيد عافيته المُولّية المُدمرة، فسافر الى مدينة حيفا، ليضع رأسه هناك في قفة تراب، وليعود بعد نحو الثلاثة عقود الى الناصرة ليفارقنا في رحلته الابدية الاخيرة.. بعد سفرة عمر قد تكون الاقسى لكثرة ما رافقها من الآلام والمعانيات.. رحل ابي قبل اربعة عقود ونيف، وها انا اشعر بها وكأنما هي اربع دقائق.. فيهزني الشوق اليه والى ايامه العذبة، رغم ما حفلت به من مر يوحي برائحة الحنظل.

فارقنا ابي رحمه الله، في صباح احد الايام المغبرة المصفرة. بعد ان دعونا الدكتور عزيز سروجي لمعاينته كما افترضت الاعراف والعادات، تمنيت لو انه ينظر نحوي عبر نظارته الطبية العريقة ويقول لي وابتسامته المعروفة تبشرني بالأمل القائل بان ابي لم يرحل وان كل ما حدث في ذلك الصباح، ما هو الا مزحة ثقيلة اخرى ارسلها الينا القدر في محاولة منه لامتحان صبرنا المتجدد وغير المتناهي، سوى ان ما حدث بالفعل كان غير ذلك.. وما زلت ارى رأي العين والمس لمس الروح، شفتي ذلك الطبيب القريب من قلبي.. وهو يقول لنا البقية في حياتكم.. العمر الطويل لكم.. يرحمه الله.

توجهت بعد انتهاء حياة ابي ورحيله المؤسي، الى مقبرة الناصرة وسألت حارسها عما يُطلب منا، نحن ابناء العائلة المهجرة، ان نفعل، فرد علي بعينين لمست فيهما اسى شفافا ومعنى غامضًا، قال هذه المقبرة لأهل البلد، واقترح علي ان اتوجه الى مقبرة" الغرباء"، لدفن ابي هناك.. توجهت الى تلك المقبرة، عينت موقعا تحت شجرة صنوبر وارفة.. وهناك حفرنا في بطن الارض لندفن ابي بهدوء وصمت يليقان بلاجئ في الوطن. بعدها بعقود نافت على الثلاثة، دفنا والدتي في نفس القبر على منى ان تلتقي الآمال الهاربة بين احب الناس الي واقربهم الى قلبي وروحي.. امي وابي. اما اخي جوهر ، وبعده اخي توفيق، رحمهما الله فقد تم دفنهما بعد رحيلهما المبكر، بفارق سنوات بينهما بالتأكيد ، في مقبرة الناصرة الجديدة.

كان ابي يحلم ان يدفن في ارض قريته سيرين، وقد عبر عن هذا اكثر من مرة، واذكر انني رأيت عندما زرنا قريتنا بعد عام النكبة الثانية "نكبة 67"،.. رأيت في عينيه دمعة وسؤالا.. دمعة لإحساسه انه لن يدفن، على الاغلب الاعم، في قريته العزيزة الغالية مسقط رأسه سيرين.. وسؤالا مفاده: ترى هل سيضمني تراب قريتي بحنو كما ضم قدمي الحافيتين ايام كنت طفلا صغيرًا؟

كثيرا ما كان ابي ينقل الينا رغبته هذه مرفقة بأحزان من عرف ان ما كسرته الايام من زجاج لن يعاد له سبك، واذكر بكثير من الالم انه كان في لحظات شروده يردد كلمات.. يغنيها، هي:

"يا شجرةٍ في الدار حاميكِ اسد

وتخلعت الغصون من كثر الحسد

زرعت الزرع.. واجى غيري حصد

يا حسرتي.. راح الزرع لغيرنا".

رحم الله ابي ورحم جميع مهجرينا ولاجئنا.. في البلاد والخارج والشتات ايضا، واسبغ عليهم رحمته الواسعة.

***

بقلم: ناجي ظاهر

لا تكترث لزيادة تاء غير مألوفة..

ودعك مما يثيره الاسم من حنين إلى الشدو المنساب عبر الأثير العربي، متوسلا طير الوروار أو مناجيا زهرة المدائن. فيروزة هنا عنوان الشقاء في بلدتي، حيث كل شيء يباع ويشترى حتى الضمائر!

قد تجد فيروزة في كل بيت. أما أو أختا أو جدة ملقاة في أي ركن كالدمية البالية. لذا لن أحكي شيئا مما تعرفه، أو تعودت طبلة أذنك على اهتزازاته كل صباح في مقهى الناصية.

 لك وعد مني، أنا الراصد لبعض ألوان الشقاء، أن تكمل القصة وتنصرف. لأنك دُست مثلي على صور الحرمان دون اكتراث. ما العيب في ذلك إن كان العالم خطة فاشلة لاقتناص السعادة؟ 

هرولت العاملات إلى حيث سقطت فيروزة مضرجة بدمها القاني. شمس الظهيرة تلفح الوجوه بسياطها اللاذعة لتزيد المشهد تذمرا وسخطا، بينما صوت مالك الضيعة يقرع الآذان بشتائمه الغليظة متوعدا فيروزة بالمزيد.ولد الخيرية، صاحت إحداهن، لو كنت ابن أصل لما رفعت عصاك على ولية. تفو يلعن أب.." ركلت الأخرى علب الكرتون المرصوصة غيظا فتناثرت حبات الخوخ يمنة ويسرة على العشب المبلل.

فيروزة ممددة جنب الطريق ترسل أناتها الموجعة، بينما العاملات يتوسلن العربات المارة لنقلها إلى المركز الصحي. يقف أحدهم لالتقاط صورة، ويلوح آخرون معتذرين عن التصرف بإنسانية في بلد قوانينه لا ترحم !

لم يكن مالك الضيعة غير مُهرب سابق، أفلت من حملة التطهير التي شنتها الداخلية على رؤوس أينعت في الشمال وحان قطافها. حسابه البنكي لم يعد في مأمن من المساءلة أو المصادرة، فحمل مدخراته إلى سفوح الأطلس. يكفي شراء ضيعة بائسة، وحفر بئر تعيد لشجيرات الخوخ نضارتها حتى يسلم المرء من ملاحقة المخبرين. هنا كل شيء هادئ تقريبا. عوَز يضطر القرويين أن ينادوك: سيدي، ويتحينوا غفلة من الحارس لتأخذ علب الخوخ وجهة أخرى. ليسوا لصوصا لكنهم يمتحنون عدالة السماء. إن أمطرت ففي صدر الرب متسع لزلاتهم، أما حين تنضب الآبار الصغيرة، ويضطر أحدهم إلى بيع دجاجاته بثمن بخس فإن غريزة السلب تنبعث من رمادها كعنقاء مجنونة !

يبدأ يوم فيروزة قبيل الفجر بدقائق تكفي لحزم صرتها، وارتداء معطف زوجها الراحل. بين الدعابة والمرح على ظهر الشاحنة المتجهة صوب الضيعات الجنوبية، انكشفت لفيروزة هموم متلاحقة. ما الذي أصابكن يا حفيدات الوجع اليومي والتيه في دروب الأحلام الوعرة؟ نثرت كل بلهاء منهن ما لملمته طوال شهور بين يدي مالك الضيعة، لقاء ماذا؟

عقد للعمل بدولة خليجية..

أو زواج متعة برب مزرعة مجاورة، ينتهي غالبا بكسر مضاعف في لوح الكتف..

لكن ما هز الفؤاد حقا تأكيدهن بأن المرء لا يحتاج سوى كلية واحدة، أما الأخرى فكنز علي بابا الذي يطوي أيام العوز المريرة !

استأذنت بالدخول ثم شرعت تحكي سيرة زواجها المُرة:

- زوجي كان من أعيان البلدة. غرته أيام الباكور السبعة فتاجر في كل شيء. المال والشرف والسياسة. قبح الله الزلط الذي يجعل ابن الحرام قاضيا للحوائج.الله يهديك يا وليدي سـ...

ترنحت فيروزة قبل أن تهوي. صدى الكلمات يخفت شيئا فشيئا بينما ينساب خيط دم دافئ على السجاد. شيء ما يمرق إلى عظامها كوخز الإبر، ثم رائحة عشب مبلل تنفذ إلى الخياشيم.

قد تجد فيروزة في كل بيت، لذا لن أرش ملحا على جرحك المخبوء في فنجان قهوة. فأنت مثلي.. راصد لألوان الشقاء دون اكتراث !

***

حميد بن خيبش

تختلف اللغة الابداعية عن اللغة اليومية المباشرة بالعديد من الصفات والسمات، ففي حين يتمحور همُّ اللغة اليومية المتداولة بين الناس في عملية التوصيل، فإن اللغة الابداعية كما يرى دارسو الادب ونقاده، لا سيما الخبراء في علم الاسلوب، تتمحور في هموم أخرى مختلفة تمام الاختلاف، مع عدم تجاهل عملية التوصيل، ذلك أن الكتّاب والشعراء الجادين لا يتنازلون عن عملية نقاوة التوصيل اللغوي، ويصرّون في الآن ذاته على جماليات اللغة الابداعية، علمًا ان هذه  اللغة تختلف الى حد بعيد عن لغة الكتابات النثرية، اقول هذا وانا افكر في اللغة المخادعة التي تحدثت عنها في هاجس سابق، فهناك فرق بين اللغة الابداعية في الشعر والقصة وبينها في لغة المقالة التي يُفترض ان تكون واضحة كونها ترمي الى توصيل معنى او اكثر تم تحديده مسبقًا من قبل كاتبه المرسِل له. 

تتصف اللغة الابداعية، كما يظهر من اعمال ادبية راقية ومعروفة، بالعديد من الصفات، ذلك ان حمولتها تختلف عن حمولة اللغة اليومية المباشرة او حتى لغة الكتابة النثرية خاصة في المقالة الصحفية بالعديد من الامور، فيما يلي اشير إلى عدد من مُميزات اللغة الابداعية.

* الانزياح: تنزاح اللغة الادبية لا سيما في مجال الشعر، عن اللغة اليومية المباشرة، ضمن محاولتها رفد ذاتها بحمولة تتوزع على المتطلبات الادبية المتفق عليها بين الدارسين وهي: الفكرة، المشاعر الوجدانية، الخيال والاسلوب. لهذا تنحو هذه اللغة حينًا نحو الغموض وآخر نحو الوضوح، وتحاول في كلتا الحالتين أن تُحقق هدفها المقصود، وهو إثارة مشاعر قارئها بحيث تتماهى هذه المشاعر مع مشاعر صاحبها الشاعر، فتتداخل بذلك فيما بين المرسِل/ الشاعر او الكاتب وفيما بين المرسَل اليه/ القارئ، وقد تحدّث عن عملية التأثر هذه العديد من النقاد والباحثين الادبيين، اذكر منهم اثنين احدهما عربي والآخر أجنبي، أما العربي فهو حازم القرطاجني صاحب الكتاب الرائد في علم الشعر وصناعته واعني به كتاب "منهاج البلغاء وسراج الادباء". لمن يهمه الامر اقول إن طبعة محققة صدرت من هذا الكتاب الهام في نقدنا العربي القديم ضمن منشورات الغرب الاسلامي المُميزة، وان الباحث الدكتور المتخصص في دراسة ادبنا العربي القديم خاصة الشعرمحمد محمد أبو موسى وضع كتابا رائعًا حول هذا الكتاب-منهاج البلغاء- قرّب فيه مفاهيمه وما تضمنه من آراء ورؤى متعمقة. حمل هذا الكتاب عنوان" تقريب منهاج البلغاء". اما الاجنبي فهو جون كوين صاحب الكتابين اللافتين عن "اللغة العليا" و"بناء لغة الشعر"، وقد تمت ترجمة هذين الكتابين إلى العربية، وبإمكان من يود التوسع في الموضوع قراءتهما.

* الايحاء: وواضح من هذا ان اللغة الابداعية، تختلف عن اللغة اليومية المتداولة، في كونها لغة ايحائية تعتمد التلميح والاشارة من بعيد او قريب، وسيلةً لتوصيل ما تود توصيله، وهنا تؤدي براعة الانسان/ الكاتب المبدع، دورًا رئيسيًا في تشكيل هذه اللغة، فهو يتحدث إلى قارئه بلغة تكتسب كل صفات اللغة، غير انها تختلف عنها جوهريًا، ففي حين أن اللغة المتداولة يوميًا، وحتى لغة المقالة الصحفية، إلى حد بعيد، ترمي إلى توصيل معنى واحد محدد مسبقًا من قبل الكاتب، فان اللغة الايحائية ترمي إلى اكثر من معنى، يبرز من بين هذه المعاني، نقل الحالة التي يود الشاعر أو الكاتب السردي توصيلها إلى قارئه، لهذا فان بإمكاننا أن نقول إن ما وراء الكلمات أهم بكثير من الكلمات ذاتها في اللغة الايحائية، وينطبق على هذه اللغة ما اعتدنا على قوله في مثلنا السائر وهو " الحكي الك واسمعي يا جارة". من هكذا منطلق أعتقد أنه يتوجب علينا التعامل مع اللغة الابداعية ضمن اعتبار مختلف عن ذاك الذي نتعامل به مع اللغة اليومية المتداولة. من مواصفات هذه اللغة- الايحائية- انها تتحدث من داخل اللغة وليس من خارجها فهي لا تذكر ما تود ذكره بطرائق مباشرة، بقدر ما تذكره ضمن سياقاته الشعرية والقصصية ايضًا. ومن مواصفات هذه اللغة أيضًا تُجسّد الحالة التي يعيشها الراوي الشعري او القصصي وتروي ما ترمي إلى روايته من وجهة نظر هذا الراوي.. كما يتخيلها الكاتب مرهف الاحساس واسع التجربة وشديد الملاحظة. للتوسع في هذا الموضوع اقترح على من يريد أن يقرأ كتاب " عناصر القصة"، لمؤلفه روبرت شولز ترجمة محمد منقذ الهاشمي.

* الغائية: وتتمثل هذه في أن اللغة الابداعية تتحوّل في العمل الادبي الابداعي، من كونها اداة توصيل وحسب، الى لغة تتغيّا ذاتها، بمعنى أنها تضحي هدفًا جماليًا قائمًا بحد ذاته له استقلاليته وبُعده القائم بذاته، لكنه يستهدف اول ما يستهدف عملية التأثير عبر استعمال صاحبه الكاتب، قاصًا او شاعرًا، للجماليات اللغوية، وهو يفعل هذا كله، معتمدًا على التأثير اللغوي في قارئه. لهذا نلاحظ أن المبدعين الجُدد لا سيما في مجال كتابة القصة والرواية، يبتعدون عن الجماليات القديمة المتعارف عليها كلاسيكيًا وقديمًا، ويلجؤون إلى استعمال اللغة النابعة من أعماق الحالة الادبية المقصود توصيلها من مُرسِل إلى مُرسَل إليه. على هذا يمكننا أن نشير إلى أن المبدع الجديد والمُجدد يسمح لنفسه التلاعب في اللغة تقديمًا وتأخيرًا، وهو ما سبق وحدث في نماذج عديدة من شعرنا العربي ايضًا، ولعلّنا نشير هنا إلى مثال بارز مارسه الكثيرون من كُتّاب القصة المحدثين في مقدمتهم الكاتب العربي المصري اللامع يوسف ادريس، عندما قدموا مثلًا الفعل على الفاعل، على العكس مما تقول به الاسس اللغوية المتعارف او المتفق عليها.

صفوة الرأي، أن اللغة الابداعية تختلف عن اللغة المتداولة يوميًا بين الناس، وأنها تتصف بالعديد من المواصفات والصفات المختلفة، أهمها الانزياح، الايحاء والغائية. وعليه بإمكاننا القول إن الاختلاف بين هاتين اللغتين إنما يؤدي أمرين هامين جدًا احدهما في صميم اللغة الابداعية وهو تأثير المرسل/ الكاتب في المرسل إليه/ القارئ، والآخر أن اللغة الابداعية عادة ما تُجدد شباب اللغة كما قال الشاعر الفرنسي الهامّ جدًا بول فالري.

* * *  

هاجس: ناجي ظاهر

ليست مجرد محاكاة للماضي

بقلم: أندريا باريت

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كاتبة "الغبار والضوء" تشارك تأثيراتها التأسيسية في استخدام الحقائق داخل الرواية

س: ما الذي يحيط بالأرض؟

ج: الغلاف الجوي؛ وهو مكوّن من الهواء والبخار وغازات أخرى.

س: إلى أي مدى يمتد الغلاف الجوي عن الأرض؟

ج: حوالي 45 ميلًا.

س: ماذا يمكنك أن تقول عن الهواء؟

ج: يصبح أرقَّ أو أقل كثافة كلما ابتعد عن الأرض.

س: عندما يتبخر الماء، أين يذهب؟

ج: يرتفع إلى الهواء.

س: كيف يمكن للماء أن يرتفع إلى الهواء؟

ج: يتحول إلى بخار، وحينها يصبح أخف من الهواء.

س: عندما ترتفع الأبخرة وتتكاثف، ماذا يُطلق عليها؟

ج: الغيوم.

– من "الدرس التاسع عشر" في كتاب دليل جيمس مونتيث في الجغرافيا، المصحوب بالتاريخ وعلم الفلك (الطبعة المنقحة، 1868).

كتاب بني اللون، تملؤه البقع البنية وعلامات التآكل، وقد تهالك غلافه الجلدي حتى كاد يختفي. ربما استخدمه معلم، وربما تناقله بعض الطلاب. يشير الغلاف الخلفي إلى أنه جزء من السلسلة الجغرافية الوطنية، ويؤكد أن "هذه الكتب استُخدمت بنجاح كبير في مدارس كل ولاية في الاتحاد، وتزداد شعبيتها باستمرار."

إذا تأملت أي صفحة من هذا الكتاب بما فيه الكفاية—لنقل، الرسم الخشبي الصغير في الصفحة التاسعة والثلاثين، حيث تظهر سفينة شاهقة، وحوت ضخم، ورجال يتطايرون من قاربهم الضيق ليعلقوا فوق الأمواج، مع تعليق توضيحي: صيد الحيتان في البحار الشمالية—صائدو الحيتان في ماساتشوستس—مخاطر صيد الحيتان—جبال الجليد—فإن عالماً بأكمله ينفتح أمامك. تظهر شخصيات، وتلوح في الأفق حكايات لم تُروَ بعد.

كيف يحدث ذلك، لي ولغيري من الكُتّاب، هو ما أنوي الحديث عنه هنا. ليس تاريخ كاتب واحد (أنا)، بل بعض التأملات حول كيف ولماذا قد يحوّل أي كاتب (بما في ذلك أنا) شذرات من التاريخ، مثل ذلك الكتاب البني المهترئ، إلى عمل روائي.

غالبًا ما أكتب روايات تدور أحداثها في أزمنة وأماكن غير زماني ومكاني: روايات تستند إلى حقائق، تُشكّلها القصة والشخصيات. ويرجع ذلك جزئيًا إلى اهتمامي العلمي بالتاريخ والعلوم، دون امتلاك المثابرة والمهارات الفكرية اللازمة لممارستهما أكاديميًا؛ فقد التحقت لفترة وجيزة ببرنامج الدراسات العليا، أولًا في علم الحيوان ثم في التاريخ، لكنني شعرت سريعًا بالرهبة من حجم العمل المطلوب، وخيبة الأمل من أساليب البحث التي لم تروق لي.

يرجع ذلك إلى حد ما إلى طبيعتي الشخصية؛ لا أحب الكتابة عن نفسي. ورغم أن هناك كتبًا رائعة ألّفها كُتّاب استندوا بالكامل إلى تجاربهم الشخصية، إلا أن روايتي الأولى، التي تناولت قصصًا عائلية، جعلتني أدرك أن هذا ليس طريقي. إذن، أين يمكنني أن أبحث عن مادة للكتابة؟

لا أحب الكتابة عن نفسي. ورغم أن هناك كتبًا رائعة ألّفها كُتّاب استندوا بالكامل إلى تجاربهم الشخصية، إلا أن روايتي الأولى، التي تناولت قصصًا عائلية، جعلتني أدرك أن هذا ليس طريقي. إذن، أين يمكنني أن أبحث عن مادة للكتابة؟

في الربيع الماضي، راقبتُ طائر الـ فيبي وهو يحاول بناء عش على حافة ضيقة لا تتجاوز نصف بوصة فوق بابي الأمامي. في البداية، لم نلحظ أنا وزوجي سوى لطخة من الطين فوق الحافة وبقايا نباتات رطبة متناثرة على الشرفة. تخلصتُ من تلك البقايا مرتين.

وأخيرًا أدركنا أن طائرًا (عرفنا لاحقًا من صوته أنه فيبي) كان يجلب خيوط الطحالب والأشنيات، محاولًا لصقها بالبصاق والطين على مساحة صغيرة جدًا لا يمكنها حمل العش. عندما قام زوجي بتثبيت قطعة صغيرة من الخشب الرقيق على الحافة، ظهر في اليوم التالي عش متين من الطين، مبطّن بخيوط من العشب والطحالب والشعر والوبر والريش. ولم يمضِ وقت طويل حتى فقست فيه ثلاثة أفراخ.

لم يكن أي جزء من هذا المشهد، أو مما قرأته لفهم ما كان يحدث، ليبدو لي كمادة واعدة لكتابة الرواية عندما كنت صغيرة. لكنه أصبح كذلك لاحقًا—وهو التغيير الأكبر في مسيرتي الكتابية.

على مدى رواياتي الأولى، تعلمت أن أمدّ يدي إلى الخارج، إلى ذلك الثراء الهائل للعالم، وأيضًا إلى الخلف، نحو الماضي الذي يكمن تحت حاضرنا. ولحسن الحظ، فإن مواد التاريخ والفن والعلوم والطب وعالم الطبيعة—وهي أكثر الأشياء التي تثير اهتمامي—لا تنتهي، تمامًا كأكوام الكتب والوثائق المبعثرة في المكتبات المستعملة، والأقبية، والأرشيفات، وكل مكان. مثلًا، "دليل مونتيث للجغرافيا"، الذي أهداني إياه صديق عزيز، أو ذلك الكتاب الذي يحمل عنوانًا رائعًا، "أشكال الماء في السحب والأنهار والجليد والأنهار الجليدية"، والذي سقط عرضا من رف مكتبة بينما كنت أمد يدي لالتقاط شيء آخر، ثم أصبح لاحقًا مصدر إلهام لرواية.

ومع ذلك، حتى عندما تعمقت أكثر في الماضي وبدأت، مع حمى السفينة، في كتابة قصص تدور أحداثها بالكامل في أزمنة وأماكن لم أعشها، لم أفكر في نفسي ككاتبة "روايات تاريخية". كان هذا التصنيف، بالنسبة لي، مرتبطًا بتلك المجلدات الضخمة التي كنت أقرأها في صغري، منغمسة في حبكات درامية جامحة بينما كنت مقتنعة أيضًا بأنني أتعلم بعض التاريخ.

في صيف عامي الثالث عشر، كنت بحاجة ماسة إلى ذلك الهروب. إذ وجدت نفسي، بسبب سوء تصرفي وتغير أوضاع عائلتي، محبوسة في غرفة معتمة في منزل غير مألوف، أنتظر بدء دراستي الثانوية في مدينة جديدة، وليس لدي ما أفعله سوى القراءة.

لم تكن عائلتي من محبي القراءة، لكن لا بد أن ملاك المنزل السابقين كانوا كذلك،أى محبون للقراءة؛ إذ تركوا وراءهم مجموعة متنوعة من الكتب، معظمها روايات، وكثير منها من إصدارات "نادي كتاب الشهر" أو "النادي الأدبي". والأغرب، حين أنظر إلى الأمر الآن، أكتشف أن معظمها كان من الروايات التاريخية. من المحتمل أنني قرأتُها جميعًا.

على سبيل المثال، "ميلا 18" (1961) لليون أوريس، التي شكلت لعقود مصدر معرفتي شبه الوحيد عن انتفاضة جيتو وارسو، و**"الخروج"** (1958) له، التي تناولت تأسيس دولة إسرائيل، وبقيت لفترة طويلة مرجعي الأساسي حول هذا الموضوع. كذلك قرأت رواية "العذاب والنشوة" (1961) لإيرفينج ستون، عن مايكل أنجلو، ورواية "شغف الحياة" (1934) عن فان جوخ. وقرأت رواية "الأرض الطيبة" (1931) لبيرل باك، عن الحياة في قرية صينية؛ ورواية "كاثرين" (1954) لأنيا سيتون، التي استعرضت قصة عشيقة جون جونت، والتي كانت أيضًا شقيقة زوجة جيفري تشوسر. وغير ذلك الكثير من الروايات التي التهمتها بشغف.

ومع ذلك كان الكثير منها مجرد حشو لا قيمة له، لكن بعضها لم يكن كذلك—من بينها "كريستين لافرانسداتر" (1920-1922) لسيغريد أوندست، التي جسّدت الحياة في النرويج خلال العصور الوسطى. ومع ذلك، لست واثقة أنني كنت قادرة آنذاك على التمييز بين الجيد والرديء. ما أنا متأكدة منه هو أنني لم أدرك وقتها التحيزات السياسية، والانحيازات الثقافية، والأحكام المسبقة التي كنت أستوعبها دون وعي. لاحقًا، كان عليّ أن أتخلص من الكثير مما ظننته مسلّمات.

لكن ذلك الانغماس المبكر لا بد أنه منحني إحساسًا بإمكانية كتابة الرواية في سياقات تاريخية، حتى لو لم يوفر لي النماذج التي سأحتاجها بشدة بعد عقود. ربما ساعدني أيضًا في إدراك ما لا أرغب في كتابته؟ في أوائل تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأتُ لأول مرة في كتابة الروايات التي تدور أحداثها في الماضي، لم أكن أجد الكثير من الأمثلة على ما يمكن أن أسميه، لعدم وجود مصطلح أفضل، "الرواية التاريخية الأدبية."

في الغالب، وجدت أكوامًا من الكتب المشابهة لتلك التي عثرت عليها على الرفوف ذات اللون الأخضر الباهت—روايات ضخمة مليئة بالأحداث تدور حول الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الأهلية الأمريكية، والثورة الفرنسية، وحروب أخرى—ممتزجة مع دراما تاريخية وروايات رومانسية. لم يكن أي منها يوحي بما كنت أتوق إلى كتابته.

ارشدني الأصدقاء في النهاية إلى بعض المصادر الملهمة. كان من بينها بالطبع رواية "محبوبة" (1987) لتوني موريسون، إلى جانب مجموعة من الأعمال البريطانية مثل "ببغاء فلوبير" (1984) لجوليان بارنز، و**"فنان من العالم العائم"** (1986) لكازو إيشيغورو، و**"بداية الربيع"** (1988) و**"بوابة الملائكة"** (1990) لبينيلوب فيتزجيرالد، و**"التجدد"** (1991) لبات باركر، و**"الامتلاك"** (1990) لإيه. إس. بيات.

أذهلتني رواية "مذكرات هادريان" (1951) للكاتبة الفرنسية مارغريت يورسنار، وكذلك "حياة متخيلة" (1978) و**"تذكر بابل"** (1993) للأسترالي ديفيد مالوف. أما رواية "في جلد أسد" (1987) للكندي مايكل أونداتجي، فقد قادتني إلى "من بحيرة الحبر: قصص كندية" (1990)، وهي مجموعة قصصية اختارها أونداتجي، تضم حكايات تدور أحداثها في الماضي، كتبها أليستير ماكلاود، وأليس مونرو، ومارغريت أتوود، وتيموثي فيندلي، وغيرهم ممن لم أكن أعرفهم آنذاك. ومن هناك، وجدت نفسي أغوص أكثر في عوالم هؤلاء الكتّاب، حتى وصلت إلى المنارة التي أضاءت لي الطريق: "أسرار معلنة" (1994) لأليس مونرو.

وهكذا، بدأتُ مساري المتواضع، الذي—بعد ثلاثين عامًا—تداخل مع العديد من المسارات الأخرى ليشكّل نسيجًا ثريًا. باتت الروايات الرائعة التي تدور أحداثها في الماضي وفيرة اليوم؛ أعمال تختلف تمامًا، في الغاية والأسلوب، عن تلك التي كانت تملأ الرفوف ذات اللون الأخضر اليشمي.

وتلك عينة صغيرة من أرفف مكتبتي: رواية "الحريق العظيم" لشيرلي هازارد (2003)، و"العالم المعروف" لإدوارد بي جونز (2003)، و"السيد" لكولم توبين (2004)، و"دع العالم العظيم يدور" لكولم ماكان (2009)، و"بوذا في العلية" لجولي أوتسوكا (2011)، و"صائدو الثلوج" لبول يون (2013)، و"صيف القطب الشمالي" لديمون جالجوت (2014)، و"أولاد النيكل" لكولسون وايتهايد (2019)، و"ماتريكس" للورين جروف (2021)، و"كتاب الإوزة"  لييون لي. (2022).بالطبع  يمكنك عمل قائمة مختلفة ومتألقة بنفس القدر في غضون لحظات.

لماذا لا نشك في أنه إذا كان كل جيل يحتاج إلى إعادة كتابة التاريخ، فإننا نحتاج أيضًا إلى إعادة تصور خيالنا التاريخي؟

في عام 2023 وحده، كان بإمكانك التنقل بين رؤى "الخداع" لزيدي سميث، التي تدور أحداثها في إنجلترا وجامايكا في القرن التاسع عشر، و**"دعونا ننحدر"** لجيسمين وارد، التي تجري في جنوب الولايات المتحدة قبل الحرب الأهلية، و**"بيت الأبواب"** لتان توان إنغ، التي تدور في ماليزيا خلال عشرينيات القرن الماضي، و**"الصفح"** لأليس مكديرموت، التي تجري أحداثها في سايغون خلال حرب فيتنام—وليمة أدبية كان من الصعب تخيلها قبل بضعة عقود.

في مقالها المنشور في نيويوركر بعنوان "عن قتل تشارلز ديكنز"، كتبت زيدي سميث—وهي ناقدة بارعة بقدر ما هي روائية—أنها لطالما لم تحب الروايات التاريخية، واعترفت بأنها احتفظت لفترة طويلة بتحيز ضد هذا النوع الأدبي يعود إلى أيام دراستها، حيث كانت وزملاؤها يميلون إلى اعتبار الروايات التاريخية "محافظة جماليًا وسياسيًا بحكم التعريف". لكن لاحقًا، وبعد أن تأثرت بعدد من الأعمال العبقرية (بما في ذلك "مذكرات أدريان" التي أدهشتني شخصيًا)، أدركت أن الرواية التاريخية توفر إمكانيات غنية لمنظورات جديدة، وأنها يمكن أن تفعل أكثر من مجرد محاكاة شكلية لعصرها.

لماذا لا نفترض أنه إذا كانت كل حقبة بحاجة إلى إعادة كتابة التاريخ، فإننا أيضًا بحاجة إلى إعادة تصور رواياتنا التاريخية؟ فهناك أصوات منسية، ووثائق مفقودة أو مدمرة أو متجاهلة، وتجارب كاملة لم يتم تناولها، وشعوب وثقافات أُسيء تمثيلها أو لم تمثَّل على الإطلاق—كل هذا يشكّل مادة خصبة للكتابة والاستكشاف! وأمامنا العديد من الطرق للقيام بذلك. إن تقديم رؤية جديدة للماضي يمكن أن يكون جديدًا بقدر أكثر اللوحات الأدبية حداثة—ويمكن أن يكون راديكاليًا بنفس الدرجة من حيث النية، والشكل، واللغة، مما يحفز التفكير في جميع أشكال السرد التي تتعمق في مادة الماضي.

***

......................

* مقتطف من كتاب الغبار والضوء: حول فن الحقيقة في الخيال. 2025 لأندريا باريت.

الكاتبة: أندريا باريت / Andrea Barrett مؤلفة كتاب "حمى السفن" الحائز على جائزة الكتاب الوطني، بالإضافة إلى روايات "رحلة حريش البحر"، "خدم الخريطة"، "التاريخ الطبيعي"، وغيرها من الأعمال الأدبية. كما أنها مؤلفة كتاب "الغبار والنور: حول فن الحقائق في الخيال".حصلت باريت على زمالة ماك آرثر، وجائزة غوغنهايم، وجائزة الأدب من الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، وزمالة من المؤسسة الوطنية للفنون (NEA)، وجائزة ريا للقصة القصيرة، كما كانت مرشحة لجائزة بوليتزر. تعيش في جبال أديرونداك.

حين نرتاح للسفر بين الأزمنة، فإننا نُكسر حواجز كثيرة من ذات ذواتنا المنغلقة داخل تفكير علبة الصندوق، والمتطفلة على الحاضر بالتوجس والحيطة، وقد نصبح مثل صائدي الأشباح الليلية، ومتصيدي أحاجي الأعاجيب في تلك الغابة اليتيمة !!! من شر السفر بين الأزمنة، والذي لا زال يَلْطمني بقوة الحركة والفزع، حين أصبح الماضي يُمثل ثُقبا أسودا متحجرا، ويتجلى أمامي في مشيتي المتأنية بالخوف كالشبح الماكر المتخفي، وكلما اقتربت منه أكثر كنت أُحس بأنه يسحق روحي بكل فظاظة ومُتعة.

في يوم ما، قررت اللَّعب مع الماضي باختراقه عبر آلة العودة بين الأزمنة الخلفية. في الأول شدتني الفكرة ونشوة اللعبة علوا، وقُلت لأكسر كل الصور الورقية العالقة بذهني، وأرمي بها أرضا لكي تعمل على تجسير معرفة حاضري، والذي ينتسب للماضي أكثر من الحاضر والمسقبل. في تلك الفكرة كانت المخاطرة بينة، لأن أزمنة الماضي الحي، لازالت يمارس الرقابة على احتضار الروح بالتمام، وينتظر مني رميه بقسط من الرحمة والعفو، وفي كل خطوة لي بالتراجع نحو ساعات وأيام وسنين من الماضي البعيد بالعد التراكمي الكمي، كنت أفقد حاضري العقلاني، وأحس باليقين بأنه  لم يولد بعد.

كانت تجربة شاقة في سفري بين الأزمنة المتحركة بالتموج، والتقلبات العمرية والأحداث، وقد شقت قلبي بالألم والوجع، وانفطرت دموعي غزارة من شدة رؤية حقيقة مسكوت عن ذكرها في ذاكرتي من الماضي، والتي كانت تُماثل المعرفة اليقينية. وجدت ذاتي منفصلة ومنقطعة عن التعامل مع واقع الحقيقة العقلانية، حيث بُدا رماني سفري الحدسي بين رقعة شطرنج الأزمنة المتنافرة، والتي زادت من استفحال أزمتي بالتعقيد لا بالحلول الممكنة.

أول خطوة في سفري عبر زمن الظل الخفي، وفي حجرة مفتوحة للعموم تُماثل أضرحة أولياء الله الصالحين، عثرت على شاهد أسماء قبور الفلاسفة القدماء والجدد، وقد كتب عليها: "الحجر الفلسفي يتحصن بتميمة وتعويذة ثورية، وكل من يقرؤها أو يلامسها يصاب بلعنة العقل واللاتعق !!!"  أفزعتني الكتابة الذهبية البارزة من كل قبور فلاسفة العقل، إلا شاهد قبر الفيلسوف أفلاطون حين طفت على مرقده المتواري، قرأت في أطرافه العلوية :" ذكرني بأن فمي وقلمي الثرثار في الفلسفة ! وبيانات العقل والمنطق ! وكشف الحقيقة ! وتعلم إبداء الرأي ! وطرح السؤال ! لم يدمر المعرفة من بعدي عند البشرية التي لا تقرأ ... "

هروبي من السؤال أفزع المعلم سقراط رائد مذهب التفكير الأخلاقي، وكأني لا أعرف شيئا من التفكير النقدي. حينها رماني بتعليق مستفز للتحفيز، حتى أنِّي لم أُدرك مغزاه إلا بعد خروجي من زمن سفري بين الأزمنة، حيث نبهني بالقول: "لا تجديف في الفراغ، فأنت لا تعرف حتى من تكنْ؟ هروبك أمامي بالفوضى والغضب يصنفك من المشائين ... دع الذي يريد أن يحرِّك العالم، أن يحرِّك نفسه أوّلا... انظر باليقين في داخلك..." لحظتها، كان كل السمك يتعفن في رأسي بوضوح وتمييز، وباتت الحقيقة تسير بالولاء من الماضي وتعمل على بناء وخلق سلسة تواصل طيعة مع الحاضر والمستقبل.

في قلب سفري بين الأزمنة تذكرت رواية "دفنا الماضي" للمغربي عبد الكريم غلاب، حينها توجست خيرا في الحاضر والمستقبل، وقُدرة على إدارة الصراع الثنائي العالق بين الحاضر والماضي. أدركت أن سفري بين الأزمنة، لم يكن نهارا مستنيرا بالعقلانية والحقيقة التناظرية، بل كان بوشاح الليل الحالك الذي يُغيب الحقيقة، وكأني "أبو الليل" خرج يتصيد ضحاياه والتي بالطبع هي ذاتي لا غيري.

آه في سفري الأعرج !!! لم أكن أرغب البتة في السيطرة المطلقة على معرفة الماضي بالاطلاع وكشف المستورات، بل كنت أبتغي فقط الحصول على تعويذة من الحقيقة العقلية لتبطل كل تعويذات الحاضر العالقة في التفاهة والسخافة. كنت أبحث عن العيش تحت الضوء المستنير بعيدا عن الظلمة وظل الأشباح. وفي مشارف رجوعي نحو الحاضر، كان القمر المستنير ينير ظلي كليا، والذي بدا يسكن من خلفي ويبدو حتى منفطر الروح  بالسحق ...

***

محسن الأكرمين

صفحة من تاريخ ثائر

واحدة من افضال السينما انها قدمت سيرة عدد كبير من الشخصيات التي لعبت دورا مؤثرا في تاريخنا البعيد والقريب وكان من بينها شخصية الثائر والمناضل الشيوعي " ارنستو تشي جيفارا " ، حيث حظيت سيرته بعشرات الأعمال الوثائقية والروائية التي جسدت قصة نضاله ضد الأنظمة الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية والذي أصبح النموذج الثوري في عدد من دول العالم وايقونة للنضال والتمرد ، فبعد سنتين مقتله في 9 اكتوبر 1967 التفتت السينما الى قصة كفاح جيفارا حيث وجدت فيها مادة جديرة بالعمل السينمائي فكان اول فيلم تناول شخصيته وانتجته شركة فوكس للأفلام عام 1969 هو فيلم (تشي) الذي ادى فيه الممثل عمر الشريف شخصية الثائر جيفارا مرورا بأفلام اخرى تفاوتت في المستوى الفني وانتهاء بفيلم  (يوميات دراجة نارية)  انتاج امريكي ارجنتيني  2004 المستمدة مادته من مذكرات " جيفاارا " الشخصية الذي يحكي فيها قصة الرحلة المجنونة والشاقة التي قام بها عام 1952 ــ قبل انخراطه في العمل الثوري ــ وجاب فيها دول امريكا اللاتينية على دراجة نارية برفقة صديقه عالم الكيمياء البيرتو غرانادو وكان حينها طالب طب يبلغ من العمر 23 عامًا ، حيث تمثل هذه الرحلة انعطافه كبيرة في حياة جيفارا ففيها تشكلت بدايات وعيه الانساني والثوري من خلال اطلاعه على معاناة الطبقات الفقيرة والمسحوقة واكتشافه ان العالم مليء بالظلم ومنذ تلك اللحظة واثناء هذه الرحلة يأخذ دوره الانساني في التخفيف عن معاناتهم حيث يباشر عمله طبيبا لمعالجة مرضى الجذام في احدى مستشفيات بيرو التي تستضيفه كواحدة من محطات جولته التاريخية والتي منها تنطلق صرخته انه من الان لا يؤمن بالحدود بين دول امريكا اللاتينية .

 (يوميات دراجة نارية) فيلم ممتع حاز على عدد كبير من الجوائز ومن بينها جائزة لجنة التحكيم لمهرجان كان السينمائي السابع والخمسين، كما نال استحسان النقاد حيث جاء في اجماع لهم  ان (فيلم "مذكرات دراجة نارية"  مؤثر وعميق في سرده للتجارب التكوينية التي حوّلت إرنستو تشي" جيفارا إلى  ثوري مشهور) وهو ما نراه اليوم حيث لا تزال شخصيته التاريخية تحظى بالاحترام والتبجيل عند الشعوب التواقة للحرية .

***

ثامر الحاج امين

من الشعراء الشباب الذين برزوا في السنوات الأخيرة و تركوا بصمتهم الشعرية هو الشاعر عبد القادر بوشامة ابن ولاية تسمسيلت، ما فتئ هذا الشاعر المتالق العاشق للقصيدة العمودية والمنافح عنها يخوض المعارك من أجلها  و كثيرا ما فتح نقاشات و أثار جدلا برفضه لقصيدة النثر فهو يرى الشعر شعر والنثر نثر وهناك مسافة بينهما ولكل فن ميزاته و خصائصه...

قصائد الشاعر القدير عبد القادر بوشامة تتجلى فيها الصور الفنية البديعة فهو يرسم بالكلمات ويعبر عن أحاسيسه الملتهبة بلغة شاعرية شفافة مضمخة بعطر التجربة الشعورية التي تختلف حسب الحالة النفسية للشاعر

قد تأخذ هذه التجربة حالة صوفية روحية ففي قصيدة " كأنه هو البحر " نجد. هذا القانوس الروحي فكلمات " جبة، الرؤى، الصوء، اسجد، خلواني، القباب ، المعراج "..مما يدل على ارتواء الشاعر من التراث الإسلامي ومن قراءات عميقة لتاريخ التصوف وقصة الخلاج ظاهرة في هذه القصيدة العميقة..

يقول في هذه القصية وهو متجه إل البحر "كأنه هو.. البحر"، ولكنه ليس البحر الذي نعرفه بل هو بحر الشاعر الذي يلبسه رؤاه و أحاسيسه ويبث له أشجان القلب المعنى المسكون بالفقد والرحيل والسفر ...

"للبحر هدأته ولي أمواجي

متخفيا في جبة الحلاج

*

أسري بما تسع الجراح قصائدا

ملح الرؤى وأغيب في الأدراج

*

يا بحر كنت الضوء أسجد حاضرا

في الغيب رغم مشانق الحجاج

*

وأطوف ما صمت المساء ورهبة

بيضاء بين عمائم الحجاج

*

وأنا بإسم الله أنثر خلوتي

بين القباب لرحلة المعراج

*

وأنا و روح البحر كنا واحدا

نتلو المدائح أول الأفواج

*

قبل الوصول احمل إليك وصيتي

فيها و فيها عزة المحتاج "

اما في قصيدة "اعتراف" تتلبس الشاعر حالة نفسية أخرى حالة العاشق الولهان الذي تمزقه الاوجاع ويتعبه صد الحبيب الذي لا يأبه بزفرات النفس ومواجع الذات يقول:

"عانقت نبض الآه من لذاتى

ورميته إسما في حنايا الذات

كم تهت في دنياه حلما كلما

ناجيته أنقصت من يقضاتى

ورميتني نايا أزيد به غبار

الهم والأوجاع في سنواتى

القلب أعيته التى جفت دمى

عبثا لتحيى زلتى آهاتى

*

من عادتى أن أستمد مواجعى

من أعجب الرؤيا وقرب مماتى

من عادتي يصغى الهواء لحكمتى

فأرى تنهده انحنى لصفاتى

من عادتي زمن المساء يلمنى

وردا لينثرني على أناتى

والآن من وجع القصيدة أرتمى

أعجوبة في نكهة الحلمات

سيري عروسا فوق جسر أناملى

والتف ليلا حول صمت رفاتى"

إننا أمام تجربة شعرية متفردة مع ديوانين من الشعر آخره ديوان " اناشيد للموت والاتثى" وحصور إبداعي فاعل يرسم الشاعر عبد القادر بوشامة طريقه نحو مستقبل شعري متألق وبخطوات طموحة لا تعرف المستحيل يعانق القصيدة الحلم ااموشحة بصدق التجربة وبعمق المعنى..

***

الكاتب : شدري معمر علي

 

كان مؤمنًا شديدَ الايمان بأن الفكرة ينبغي أن تتحوّل إلى فعلٍ نُمارسه على أرض الواقع، وإلا فقدت الفكرة وجودها وكينونتها، وتحوّلت إلى ثرثرة تشبه نقيق الضفادع، لا تغني ولا تحمي من جوع، لهذا رفع لواء الأفكار اليسارية التقدمية وطبّقها في واقعه غير عابئ بما إذا كانت الظروف مواتية أو غير مواتية، وحاملًا الُسلم بالعرض، وهو ما جعله يُعتقل حينًا وتُفرض عليه الإقامة الجبرية حبنًا آخر، بل هو ما كاد يودي بحياته شنقًا..، أما في الحالة الأولى وما يتعلّق بالإقامة الجبرية، فقد كان ذلك، عندما فرضت عليه السلطات الإسرائيلية، في الستينيات وما بعدها بقليل، الإقامة الجبرية التي تقضي بلزومه بيته جُلّ ساعات النهار، لا يُغادره إلا ضمن منطقة محددة وفي ساعات قليلة، وأما فيما يتعلّق باعتقاله واقترابه من حبل المشنقة، فقد كان ذلك عندما تحمّس للبقاء الجمعي في البلاد بعد قيام إسرائيل، وآمن بما آمن به حزبه الشيوعي، بقرار تقسيم البلاد، حينها اتهمه جيشُ الإنقاذ بالخيانة العُظمى، وكاد يقوده إلى منصة الشنق، غير أن انسحاب هذا الجيش أدى لإنقاذه ليواصل بالتالي رحلته مع النضال بالقول والفعل أيضًا. لقد جسّد بهذا كلّه صورة لمثقف من بلادي، حمل سلمه على كتفه، كما فعل دعبل الخزاعي، ومضى في طريق الحقّ الذي استرشد بنوره وامن بهديه.

ربطتني بالكاتب المناضل، الشخصية الوطنية المرموقة حنا إبراهيم الياس، فيما بعد حنا إبراهيم، (1927-15-10-2020)، علاقة ودّية وأدبية منذ سنوات السبعينيات الأولى حتى نهايات حياته، وقد جمعتنا معًا العديد من الأماكن والمواقع، الامسيات والندوات، السياسية والأدبية، وكنت أرى إليه بقامته المُنتصبة، ووقفته العسكرية، شخصية مميزة قولًا وفعًلا، وكان أكثر ما لفتني فيه إيمانه العميق يما يقوله ويفعله، فهو يدعو إلى الحرية، العدل والمساوة، لهذا يرفض حين يُلحُّ أهالي قريته أن يواصل رئاسته لمجلس بلدته البعنة، مرة أخرى بالتزكية، بعد أن فاز بذلك المنصب في انتخابات عادية مُمثّلًا لحزبه الشيوعي، وها هو يوافق على تزويج ابنته لمن احبته وأرادته، رغم أنه من طائفة أخرى، بل ها هو يقنع قريبًا له بأن يفعل مثلما فعل هو، وطالما فاخر أمامي وأمام آخرين، بأنه حين ضاقت به سُبل العيش، خلال ثلاث عشرة سنة، من عام 1948 حتى 1951، عملَ في وُرش.. منها الزراعية ومنها الحجرية، نسبة للحجر، وقد كان يرفع رأسه معتزًّا، كما كان يقول، بأنه عمل حجًارا واتقن لغة الحجارة.

حنا إبراهيم يهذا كلّه وغيره كثير، جسد صورةً لمثقف مُناضل من طراز رفيع، وقد كان طوال الوقت مُستعدًا لدفع الثمن المطلوب لقاء مواقفه، ومما يُذكر في هذا السياق، أنه فُصل من حزبه الشيوعي عام 1989، على خلفية تصريحات تحذيرية وهادفة أطاقها في مهرجان جماهيري أقيم في عرابة البطوف، قبل فصله هذا بنصف عقد من الزمان، وحتى عندما انتقل فيما بعد، للانخراط في صفوق الحزب الديموقراطي العربي بقيادة عضو الكنيست، في حينها عبد الوهاب دراوشة، بقي مؤمنًا بالمبادئ الشيوعية، كما بقي مُصرًّا على أن تطبيق هذه المبادئ لم يتمّ كما يُفترض، وهو ما تبيّن فيما بعد أنه الحق والصدق، علمًا ان هذا التصريح أو مثله هو الذي أفضى إلى إقصائه مِن بين صفوف حزبه الشيوعي، وبإمكاني القول إنه بقي حتى يومه الأخير في الحياة مؤمنًا بمبادئه الشيوعية وفلسفتها الإنسانية.. فقد كنا معا.

إلى هذا كان حنا إبراهيم، يؤمن بأن الادب وسيلة وليس غاية، وسيلة لتثوير الجماهير وحضّها على التحرُّك والفعل، وقد أنتج وكتب في هذا الإطار كُلًا مِن: الشعر، القصة، الرواية، والسيرة الذاتية، إضافة الى المقالة السياسية الاجتماعية والأدبية. لقد أصدر حنا إبراهيم خلال عمره المديد، عاش 93 عامًا، أربعة عشر كتابًا توزّعت على الأنواع الأدبية المذكورة، غير أنه لم يحظَ إلا ببعض الاهتمامات البحثية الجامعية، فيما خلّفه مِن تُراث أدبي، لا سيّما في السيرة الذاتية التي أبلى فيها بلاءٍ حسنًا كما يقال، وقدّم ما يستحق العيش طويلًا. لذا أجد مِن واجبي وأنا أعيد ذكره إلى الاذهان، بعد حوالي الأربعة أعوام من رحيله، أن أقدم مدخلًا مُعتمًدا على رؤية خاصة ومتابعة حثيثة لإنتاجه الادبي، إنني أكتب هذا وأدعو في الوقت ذاته مَن يُمكنه ويود أن يقوم بإجراء دراسة أو اكثر حول هذا الكاتب الوطني الإنساني السياسي، إنصافًا وأثباتًا لإنتاج يستحق أن نلتفت إليه ونهتم به. من ناحيتي كما أسلفت، سأقدم هذه المدخل لانتاجه الادبي، في شتى مجالاته وانواعه الكتابية.

الشعر: كتب حنا إبراهيم في الشعر مجموعتين، حرص على أن يُضمّن عنوانيهما اسم المكان الذي عاش فيه وناضل منطلقًا منه وهو الشاغور وأهله، (انظر قائمة مؤلفاته في ذيل هذه المقالة)، وقد اتصف ما أنتجه حنا إبراهيم بأنه شعرٌ عموديٌّ كلاسيكي، ويدُل على أن صاحبه درس الاوزان الشعرية وأتقن استعمالها، كما أن القوافي جاءت في شعره  مُنسابةً لا افتعال ولا إقسار، ما أضفى على قصيدته نغمة مُحبّبة، بيد أن هذه القصيدة اتصفت بأمرين، غير مُحببين لدي نقاد الادب والشعر خاصة، أحداهما تمثّل في قصيدة المُناسبة، التي تُكتب وتنتهي بانتهاء المناسبة، إلا إذا توفر لها شاعر متمكّن يُمكنه أن يرفعها إلى مستوى قوليّ رفيع، كما فعل المتنبي وأحمد شوقي والجواهري، والامر الآخر هو تلك التقريرية والمُباشرة التي يمجُّها الذوق الشعري الرفيع، وعادة ما تكون مُحبّبة لدي جمهور مستمعيها، الذي يعرف الشاعر مسبقًا أنه ينتظر ما يُحفّزه على الفعل وما يدفعه إلى المواجهة.

القصة: كتب حنا إبراهيم ثلاث مجموعات قصصية، وبإمكان مَن يطّلع على عناوينها (انظر ذيل هذه المقالة)، أن يشمّ فيها رائجة الازهار البرية وأن يرى إلى الغربة في الوطن، ورائحة الوطن أيضًا، فماذا يقولُ لنا هذا؟ انه يقول ويؤكد بصريح العبارة ما سبق وصرح به كاتب هذه القصص، وهو أنه أراد أن يكتب الادب المُجنِّد للناس، وأنه اعتبر الادب وسيلةً وليس غاية، هذا من ناحية أما من ناحية أخرى، فقد كتب حنا إبراهيم القصة الواقعية، لكن التابعة للفترة التي كُتبت فيها، ففي تلك الفترة كان العشرات مِنَ الكتّاب، في طليعتهم الكاتب السوري الشهير سعيد حورانية، صاحب مجموعة شتاء قاس آخر، يؤمنون بأن القصة الواقعية، ‘نما تنقل الواقع مُرفقًا بشيء مِن الرتوش، بمعنى أن الكاتب يُفترض به أن يلتزم بنقل الواقع نقلًا قريبًا من النقل الفوتوغرافي، وهو ما دفع بعض النقاد العرب إلى أن يُميّزوا بين الواقع اليومي المعيش وبين الواقع الفني، هائبين بالكتاب من واقعيي تلك الفترة، بأن يخلقوا الأجواء الفنيّة المبنيّة على رؤية خاصة ومتخيّلة للقصة. مرةً أخرى نُلاحظ أن كاتبنا لم يَحد عن رؤيته للأدب على اعتبار أنه وسيلة نضالية وليس غاية تُقصد لذاتها وتقدّم خدمةً تغييريه-مِن تغيير-، تهدف إلى خلق إنسان أكثر وعيًا وأكثر إنسانية لكن دون تقصُّد، وبتلقائية مَن يُسلّي ويفيد في نفس الوقت.

الرواية: لحنا إبراهيم ثلاث روايات، لم تحظَ للأسف، فيما نعلم بالطبع، بالاهتمام اللائق، في رواياته هذه، كما يُشتمّ من عناوينها أيضًا، يواصل كاتبُنا إيمانه الراسخ بكون الادب وسيلة وليس غاية، وممّا يُلاحظُ على رواياته هذه، أنها تقوم بنفس ما قامت به انتاجاته الشعرية والقصصية، لا سيّما فيما يتعلّق بفتح باب الامل، الذي لا بُدّ من فتحه كي يدخل النور المُنعش والمُنّور إلى البت وكي يُدبّ فيه الحركة والحياة والرغبة بالتالي في التحرك والتغيير. وبإمكاننا القول إن كاتبنا انتهج في كاتباته الروائية، الخلفيات الاجتماعية السياسية، التي عاشها مازجًا إياها برؤية متفائلة، تستمدّ كينونتها وقوّتها من المادية التاريخية التي آمنت بالإرادة الإنسانية والتغيير الحتمي.

السيرة الذاتية: كان عام 1996 عامًا مباركًا في حياة الكاتب حنا إبراهيم، فقد حالفه الحظّ مدعومًا بإرادة جبّارة عرفناها عن قُرب، وأنتج وكتب ونشر أيضًا في هذا العام الجزأين الأول والثاني من سيرته الذاتية، وبإمكان مَن ينظُر في عنوان الجزء الأول خاصة من هذه السيرة، مُلاحظة أن صاحبها قلب المثل او القول الاتهامي الُمكذِّب وهو "شاب تغرّب وشيخ ذهبت أجياله"، إلى مثل إنقاذي مُفادُه والحالةُ هذه، القول بأننا إنما نقرأ لشاب لم يتغرّب وبقي في بلاده، وهو ما يعني أننا إنما سنقرأ سيرةً حافلةً بالبوح في المشاعر والشفافية في القول، وأن كاتبها سيوافينا بكلّ ما لديه بصدق وعمق، قد يصلان حد الصدمة أولًا، والرفض لما حدث في ماضي صاحبها ثانيًا. لقد كتب حنا إبراهيم سيرةً ذاتية ارتقت بهِ وبإنتاجه إلى مستويات عليين، في الادب والكتابة الابداعية، مستوىً لا يقلّ أهمية وعمقا عمّا كتبه من سيرة ذاتية كلٌّ من: طه حسين في الأيام، وما كتبه جبرا إبراهيم جبرا في البئر الأولى وشارع الاميرات، بل ما كتبه كاتبنا الجميل الراحل حنا أبو حنا في سيرته الذاتية الموسومة بعنوان ظل الغيمة. لذا أهيب بدارسين مُجدّين ودور نشر مُهتمة أن تتعامل مع هذه السيرة التي تكفي لإدخال صاحبها في عُمق ديوان النثر الفلسطيني، وتخليده أيضًا.

***

ناجي ظاهر

من كتاب شخصيات في الذاكرة الماثل للطباعة.

.........................

مؤلفات حنا إبراهيم:

- صوت من الشاغور (شعر) 1981.

- نشيد للناس (شعر) 1992.

- صرخة في واد (مختارات من أشعاره) 2007.

- أزهار برية. (قصص)1972.

- ريحة الوطن. (قصص) 2979.

- الغربة في الوطن. (قصص) 1980.

- أزهار برية. (مجلد لمجموعاته القصصية) 2000.

- أوجاع البلاد المقدسة. (رواية) 1997.

- 1موسى الفلسطيني. (رواية) 1998.

- عصفورة من المغرب. (رواية).

- ذكريات شاب لم يتغرب. (سيرة ذاتية) 1996.

- شجرة المعرفة. (سيرة ذاتية) 1996.

سجل حياته حافلة بالنجوم المضيئة، في دروب النضال السياسي والفكري، بجهد متواصل وعناد ثوري بلا كلل، هذا المناضل الاصيل، لم ترعبه أساليب نهج الإرهاب الفكري والبطش النظام الديكتاتوري البعثي، نجا من الاعتقال والسجن، واختار طريق الهجرة الى بلدان عديدة كطاقة علمية وفكرية مرموقة، فالشهيد هو خريج كلية الآداب في جامعة بغداد متخصص في القسم الانكليزي، ارتبطت حياته بالنضال السياسي والفكري، متواصل بجهد لا يعرف الوهن والتعب، لا ينحني هامته للارهاب الفكري والسياسي، ولم تثبط عزيمته الثورية في نهج الترهيب والترغيب، مما اكتسب مكانة مرموقة في الوسط الثقافي والفكري، وانخرط في مجال الإعلام والصحافة العربية التي تصدر في لندن، مثل جريدة الحياة. مجلة الوسط. المجلة الفصلية المواقف. وأكد حضوره الدائم في المجلة الشهرية (الثقافة الجديدة) الصادرة عن الحزب الشيوعي العراقي، لسنوات طويلة، برفدها بالمقالات الفكرية الهادفة والرصينة. وقف بقوة في معارضة حكم صدام حسين الديكتاتوري، وفضحه في الاوساط العالمية، ان انخراطه في مجال الفكر التنويري الاصيل، جعله هدفاً للاغتيال من الجماعات المتطرفة الارهابية، التي تمارس اسلوب الارهاب والعنف الدموي، والتي تتخذ زوراً الدين الاسلامي والشريعة الاسلامية، التي هي ضد الاغتيال، وقتل نفس بريئة بغير حق. كما جاء في القرآن الكريم في سورة المائدة، التي تنص (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32).)  وللشهيد عدة مؤلفات في مجال الفكر التنويري الحر، وفي مجال الأدب والفن الاصيل، يمكن تلخيص هذه الكتب القيمة والثمينة:

 1 - الكتاب الأول: تأملات في الشأن العراقي.

2 - الكتاب الثاني: قراءات في الفكر العربي والإسلامي.

3 - الكتاب الثالث جاء بعنوان: الفلسفة مفترق الطرق.

4 - الكتاب الرابع: في الرواية والشعر والفن.

5 - الكتاب الخامس: رسائل وأمكنة.

حتى أصبح من الرموز العراقية المتألقة في سماء الفكر التنويري الحر والأدب والفن العراقي.. وبعد سقوط نظام صدام حسين البغيض، رجع الى العراق، واحتل موقع مستشار وزارة الثقافة، لكي يواصل مشواره في دروب النضال الفكري والسياسي، في إحياء الفكر والادب العراقي، الذي يناصر الإنسان في كفاحه من أجل السلام والحرية والخبز، ومن اجل مستقبل افضل للعراق والعراقيين، لذلك كان هدفاً مرصوداً للقتل والاغتيال، وهذا ما يفسر الحقد الدفين في اغتياله بسبع رصاصات من كواتم الصوت، في اليوم المشؤوم في 23 آب عام 2008. ولكن مع الاسف تقاعس الجهات الرسمية الامنية والقضائية، في كشف اعلان التحقيقات، وتقديم القتلة المجرمين الى القانون والعدالة، مازالت طي الكتمان والغموض، ان هذا التأخير يشجع هذه الجماعات الإرهابية والسلفية على الاستمرار في نهجها الدموي، في فكرها الضيق لا تعرف سوى لغة القتل وكواتم الصوت، في الإيغال في اغتيال رموز الفكر والأدب والقائمة الطويلة من الاغتيالات التي حدثت وسوف تحدث بعد ذلك، إذا استمرت الحكومة والقضاء في نهج التجاهل والاهمال وغض الطرف، إن عدم تحرك هذه الجهات المسؤولة عن مصير الناس والبلاد، هي خيانة بمسؤولياتها، ان لا يمكن عدم إعلان نتائج  التحقيقات ان يبرر بأية ذريعة وحجة، باعتبار الشهيد مسؤول حكومي، وقامة فكرية بارزة، ولا يمكن رمي نتائج التحقيقات في سلة المهملات، اليوم مطالبة الحكومة والجهات القضائية ان تعلن نتائج التحقيقات، وإلا يدخل من باب السكوت من الرضى وخيانة المسؤولية. وترك الرموز العراقية المرموقة، هدفاً سهلاً للقتل والاغتيال والخطف كما يحدث الآن في العراق.... الى متى يستمر هذا الطريق الخطير ؟ بعدم حماية الفكر والأدب العراقي الأصيل؟ بعدم حماية الانسان العراقي ؟، ليس من باب الأخلاق ان يكونوا الاسماء البارزة في الفكر والادب في عطائتها الوطنية هدفاً مشروعاً لكواتم الصوت من المجرمين القتلة.

المجد والخلود للشهيد الفكر والأدب كامل شياع.

والخزي والعار للمجرمين القتلة، والى كل من يتستر عليهم، لكي يبقى القتلة احراراً، بعيدين عن القانون والعدالة، كأن هؤلاء القتلة فوق القانون والقضاء العراقي.

***

جمعة عبد الله

اختلف المؤرخون وعامة الناس في شأن (جابر بن حيان) وليس غريباً ان تختلف الناس في امر العظماء من رجال العلم والفكر والادب والسياسة، فالفترة الطويلة التي عاشها جابر والتي امتدت الى اكثر من ثمانين عاماً او كما قيل بلغت تسعين عاماً كانت عبارة عن محطات علمية نهل منها الغرب الشيء الكثير في العصور الوسطى وخاصة في ميدان الكيمياء التي اطلق عليها علماء الغرب لقب (علم جابر)

المحطة الاولى:- مولده ونشأته:

اختلف المؤرخون في مكان ولادته فمنهم من قال انه ولد في مدينة طوس بخراسان فهو خراساني الاصل كوفي المنشأ وقيل انه خراساني الأصل بغدادي المنشأ، اما مولده فقيل انه ولد عام ١٢٠ هجرية الموافق ٧٣٣ ميلادية . ومنهم من ذكر انه ولد عام ٧٢١ ميلادية وأن والده قتل على يد الأمويين لأنه كان مناصراً للدعوة العباسية وقد عاصر جابر الخليفة الرشيد ثم الامين والمأمون وقد كان على اتصال بالبرامكة .

المحطة الثانية: انتماء جابر بن حيان

لقد اختلفت فيه الاقوال وتباينت نيه الآراء: فالمتصوفة يعتبرونه احدهم ولقب (بالصوفي) وزعم الفلاسفة انه فيلسوف لأنه الف كتبات في الفلسفة، واهل الصناعة قالوا انه منهم لكونه اشتغل بصياغة الذهب، أما الشيعة فيرون انه من الشيعة وقد تتلمذ على يد الامام جعفر الصادق، وينفرد الدكتور عبد العزيز نوار في مقال له نشر في مجلة الهلال المصرية لشهر نوفمبر العام ١٩٦٥ بان (جابر كان من الصائبة أوانه تأثر بالصائبة وعرف افلاطون عنى طريقهم ..) اما الفيلسوف والطبيب (الرازي) (فيسمي جابر بأسم الاستاذ)

المحلة الثالثة: محاولة جابر (صنع) إنسان. لقد اسهب الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه (من تاريخ الالحاد في الاسلام) في هذه المسألة فذكر (.. وثمت ناحيه لها اكبر قيمة من الناحية الحضارية ومن الناحية الانسانية ونعني بها مسئلة (التكوين الصناعي) أي نخلق بالصناعة انواع من الكائنات تنتمي إلى الممالك الطبيعية الثلاث وخصوصاً المملكة الحيوانية..) ص ٢٢٦

ويستطرد قائلاً (... فاذا كان في وسع الكيمياء ان تستنبط مواد جديدة بتركيب الاجسام فلم لا تقوم بإنتاج النبات والحيوان بل وبخلق الانسان الصناعي ..) ص ٢٢٧.

ان فكرة تكوين انسان بالصناعة فكرة درسها علماء النهضة الأوربية وقد سبقهم فيها جابر بن حيان في نظرية سماها نظرية (الميزان) التي يقصد بها القوانين الكمية العددية التي تحكم كل شيء في الوجود الا ان جابر لم يتوصل الى نتائج حاسمة في زمانه واستمر هذا الموضوع كموضوع دراسة وبحث وتنظير حتى العصر الحديث وظهور كتاب (اصل الانواع) للعالم الانكليزي دارون في عام ١٨٥٩م الذي اكد فيه ان الكائنات من اصل واحد فأصبحت نظرية التطور التي جاء بها (دارون) بمثابة النجم الهادي لكافة الدراسات في علم الحياة .

المحطة الرابعة: جابر يمهد الطريق لإنتاج القنبلة الذرية.

هذه العبارة لم يقلها احد بل هي مجرد استنتاج لبعض العلماء المعاصرين الذين اخذوها من مؤلفات جابر في الكيمياء ذلك لأنه كان يعتمد على التجارب وقال (ان التجربة كمال العلم) كما انه اول من اشار الى قوة الربط الذرية التي كانت الاساس لعملية تفجير طاقة الذرة كقوله (في كل ذرة قوة لو امكن تحريرها لا حرقت بغداد) وقوله (ان جزء اصغر من المادة هو الذرة يحتوي على طاقة كثيفة يمكن ان تتجزأ وان الطاقة التي تنطلق من عملية التجزئة يمكن أن تقلب بغداد عاليها سافلها)

هذه العبارة التي وردت في مؤلفات جابر استنتج منها بعض العلماء المعاصرين انه كان له دور في فهم وتفسير بعض المفاهيم التي أدت إلى تطور القنبلة الذرية لاحقاً.

ومن المعروف أن أول من انتج القنبلة الذرية هو الامريكي (جولیوس روبرت اوبنهامر) خلال الحرب العالمية الثانية وقد استخدمتها الولايات المتحدة الامريكية ضد اليابان في عهد الرئيس الامريكي (ترومان) في قصف مدينتي (هيروشيما) و(نا كازاكي) وادت الى قتل الآلاف من اليابانيين واجبرت اليابان على الاستسلام .

***

غريب دوحي ناصر

 

تعتبر السينما واحدة من الفنون المهمة التي لم تهدف الى تحقيق المتعة للمشاهد فحسب انما ذهبت الى أبعد من ذلك، فهي فن متعدد الأهداف واداة مؤثرة في النهوض بالوعي والذائقة، ودورها لا يقل اهمية عن الكتاب والمسرح والصحافة في نشر الثقافة وتوجيه الجمهور صوب القضايا المصيرية حيث واكبت السينما أهم التحولات الاجتماعية والسياسية والمحن التي مرت بها الشعوب فكانت لها مواقف لنصرة المظلومين والوقوف الى جانب حركات التحرر في العالم حيث قدمت أفلاما مهمة عديدة تناولت احداثا سياسية لعبت دورا في مصائر الشعوب ، كما سلطت الضوء على مشكلات معقدة من بينها مشكلة الفقر والاضطهاد السياسي ومشكلة التطهير العرقي وجرائم الابادة البشرية، ويعد فيلم (فندق رواندا) ــ  انتاج ايطالي 2004 ــ من بين الافلام التي تصدت لجريمة التطهير العرقي حيث تناول الفيلم مشكلة الحرب الأهلية التي عاشتها جمهورية " رواندا " الافريقية في  منتصف تسعينيات القرن الماضي وتحديدا في الفترة من نيسان الى تموز 1994  التي شهدت حربا أهلية مروعة وصلت في وحشيتها الى مستوى الابادة الجماعية، فقد سقط خلال 100 يوم من عمر هذه الحرب ما يقارب 800 الف انسان غالبيتهم من المدنيين والاطفال الأبرياء الذين عادة ما يكونون ضحايا الحروب الطائفية والعرقية اضافة الى الدمار الهائل في البنى التحية الذي خلفتها هذه الحرب .

وفيلم (فندق رواندا) الذي تم ادراجه ضمن قائمة العشرة الأوائل للعديد من النقاد لعام  2004 كما رشح لجائزة الاوسكار لافضل ممثل (دون شيدل)، مأخوذ عن قصة حقيقية تناولت جانبا من هذه الحرب والصراع الدموي الذي قام بين الحكومة التي تشكل قبيلة الهوتو اغلبيتها الساحقة وذراعها الميليشيات المتطرفة وبين المعارضة التي تمثلها قبيلة التوتسي، ويكشف الفيلم وحشية الميليشيات في القتل والابادة العرقية كما يكشف حجم فسادها المتمثل بالرشاوى التي تفرضها على من يريد الفرار من قبضتها، كما يستعرض الفيلم جانبا من الصور الانسانية المضيئة في عتمة هذا الصراع فـ " بول " ــ مدير فندق رواندا ــ  الشخصية الرئيسية في الفيلم رغم انه من الهوتو فلا يتردد في انقاذ العديد من التوتسي المطاردين من قبل الميليشيات من خلال ايوائه مجموعة تضم أكثر من 1000 لاجيء، يحاولون الاختباء في الفندق خوفاً من بطش ميليشيا الهوتو وقتلهم جميعاً، وكذلك التضحية التي جسدتها موقف الفتاة عضو بعثة الامم المتحدة التي خاطرت بحياتها من اجل انقاذ الاطفال المحاصرين في ملجأ الايتام، كما ان الفيلم يجبر المشاهد على التعاطف مع ضحايا المذبحة التي تعرضت لها قبيلة التوتسي خصوصا في مشهد النداء المفجع لفتاة وهي تصرخ وتعد بالانسلاخ من انتمائها  (أرجوكم لا تدعهم يقتلونني. أعدكم أنني لن أكون توتسيًا بعد الآن) وكذلك في مشهد الطريق المظلم المرصوف بألاف الجثث من ضحيا التوتسي الذين لقوا حتفهم على ايدي ميليشيات الهوتو .

ينتهي الفيلم بمغادرة بول وزوجته تاتيانا والأطفال واللاجئين، الذين تمكنوا من البقاء على قيد الحياة في الفندق برفقة الأمم المتحدة إلى مخيم للاجئين وذلك بعد رشوة الجنرال بيزيمونغو، كما يشير الفيلم في شريط النهاية الى ان مرتكبي المجازر وزعماء الميليشيات الذين تورطوا بسفك الدماء قد أحيلوا الى محكمة جرائم الابادة الجماعية في الأمم المتحدة ولاقوا احكاما بالسجن المؤبد جراء ما اقترفوه من جرائم بحق الانسانية وهذه النهاية لا تخلوا من رسالة تحذير لكل الذين تورطوا بمثل هذه الجرائم في بلدان اخرى .

***

ثامر الحاج امين

تعرّفت عليه، أول مرّة، وقرأت له وأنا لمّا أزل في الصف الخامس أو السادس، كان ذلك عندما طلب مني بائع فلافل كنت مولعا بفلافله، أن أقترب منه ليفاجئني بكتاب دون غلاف قائلا ما مُفاده، اقرأ هذا الكتاب. أعرف أنك تُحبّ الكتب. انا مُتأكد من أنه سيعجبك. حملت الكتاب وطرت به إلى بيتنا في الحي الشرقي من مدينة الناصرة، ورحت اقرأ مُقلّبًا صفحاته برغبة هائلة ودهشة نادرة، كنت مُعجبًا بما أطالعه في ذلك الكتاب، مِن نقد لاذع لهذا الوزير العربي القديم أو ذاك، أما ما أعجبني في العُمق، فهو أن ذلك الكتاب سمّى الأشياء بأسمائها وكان صريحًا ومكشوفًا إلى اقصى ما يُمكن أن يصل إليه الكلام من الانكشاف والصراحة. وكان السؤال الذي أقلقني هو مَن هو مؤلف ذلك الكتاب؟، فانا أريد أن أتعرّف إليه وإلى بقية مؤلفاته اذا كانت له مثل تلك المؤلفات. لم يطل تساؤلي هذا، بعد أيام وضعت الكتاب في حقيبتي المدرسية وعندما حان وقت درس التاريخ، وقفت في مدخل غرفة الدرس انتظر مُدرّس التاريخ الأستاذ محمود كناعنة، فقد كنت أعرف أنه قارئ مُطّلع ونهم، وأنه سيعرف من هو مؤلف ذلك الكتاب.. بل ما هو عُنوانه.. تناول المُعلّم الكتاب مِن يدي.. قلب صفحاته وقدم لي الإجابة الوافية الشافية لكلّ ما أقلقني وأثار حُبّ استطلاعي، فيما يتعلّق بالكتاب ممزق الغلاف. قال هذا كتاب مثالب الوزيرين، أما مؤلفه فهو أبو حيان التوحيدي.

وتمضي الأيام، الشهور والسنين، ليبقى ذلك الاسم يرنّ في أذني، وكنت كلّما أعدت قراءته شعرت وكأنني اقرأه المرة الأولى. وكانت مؤلفات أبي حيّان التوحيدي وكلّ ما يتعلّق به، وُجهتي أنّى ترحّلت وتنقّلت، بعد عام النكبة الكبرى 67، انفتحتنا قليلًا على مناطق عربية، في طليعتها الضفة الغربية ، وكنت قد شببت عن الطوف قليلًا، وشرعت في شراء الكتب والمجلات من بسطة، كان يمتلكها شخصان من مدينتي، هما هاني السفاريني وعزيز أبو سنّة، طيّب الله ذكرهما، وكان كتاب " أبو حيان التوحيدي- أديب الفلاسفة وفيلسوف الادباء"، تأليف الدكتور فؤاد زكريا، من أوائل الكتب التي حصلت عليها آنذاك، بعدها أخذت أتردّد على المكتبة الحديثة لصاحبها الصديق الكاتب المرحوم ادمون شحادة، وكنت دائمَ الالحاح عليه في أن يُحضرَ لي مؤلفات أبي حيّان التوحيدي، خاصة كتابه " الامتاع والمؤانسة"، وبقيتُ أسأله فترةً ليست قصيرة مِن الزمن، إلى أن جاء اليوم الذي قدّم إلي فيه الكتاب الاخاذ، الساحر الضخم، الذي طالما قرعت رأسه وأقلقت راحته بطلبي إياه منه. في فترات تالية حصلت مِن هذه المكتبة أو تلك على كتب أبي حيّان فها أنذا أحصل على كتابهِ الآسر عن الصداقة والصديق، وبعده أحصل على كتاب المُقابسات، والاشارات الإلهية، والرسالة البغدادية، كما أحصل على كتابه الضخم البصائر والذخائر، وقد ضممتُ هذه الكتب وغيرها من مؤلفاته العزيزة الغالية، إلى مكتبتي البيتية، وهي ما زالت هناك، تنتظرني وانتظرها.

إضافة إلى ما تقدّم أحببت في أبي حيّان ثقافته الموسوعية الواسعة، تلك المعلومات التي عبّر عنها في كتابه الامتاع والمؤانسة، فأنا في كلّ واحدة من المسامرات التي ضمّها الكتاب أجد نفسي أمام وجبة أدبية ثقاقية وافية وكافية، أما لغته فهي قريبة من قلبي وعفلي، وتؤكد ما قيل عنه وقرأته فيما بعد وعن رصانة أسلوبه الادبي الذي أعاد إلى النثر العربي رونقه بعد أن شهد شيئًا من الترهل، وبعث الحياة في تلك الرصانة التي عُرف بها أديبا العربية الأكبران أبو عثمان ابن بحر الجاحظ وعبد الله ابن المُقفّع.

في فترات تالية لاحظت إلى تلك الشاعرية المتدفّقة في أسلوبه المُميّز، لا سيّما في كتابه الإشارات الإلهية، فهو يكتب في هذا الكتاب، ما يشبه قصيدة النثر، ويكاد الكلام فيه يطير بجناحين من تصوف ومشاعر سيالة متدفقة، تدُل فيما تدل على محبة غامرة بالتعبير الادبي الرصين وبالروح الشفافة المتشوّفة لكلّ ما هو رقيق وجميل في الحياة. عندما قرأت هذا الكتاب، بتحقيق الكاتب المفكر العربي المصري عبد الرحمن بدوي، شعرتُ أن ما ضمّنه إياه أبو حيان التوحيدي، يمكن اعتباره عابرًا للازمان وأنه كتب في القرن الرابع الهجري في الواقع غير انه مناسب للقراءة في كل العصور، وفي عصرنا الحالي بالتحديد، هل كان أبو حيان حداثيا الى ذلك الحد؟، هذا ما اعتقدت به وما أزال، لا سيّما وفق تعريف مُحرّر مجلة "شعر" الشاعر اللبناني يوسف الخال، عندما عرّف الحداثة بأنها مُلامسة الشاعر المبدع عامة للحسّ العصري، وأذكر في هذا السياق أن يوسف الخال، رفع مفهومَه للحداثة إلى مستوى عالٍ، عندما رأى فيه مفهومًا يتخطى الازمان ويُعبُر القرون، وهو ما يعني، وفق ما كتب، أننا قد نرى في شاعر عاش قبل ألف سنة وأكثر شاعرًا حداثيًا.. وأكثر حداثة من شعراء يعيشون بين ظهرانينا!!..

بهذا المفهوم تعاملت مع ما خلّفه أبو حيان التوحيدي من تراث أدبيّ ثمين، وطالما تذكّرت وأنا اقرأ ما ينشره الكثيرون مُدّعين أنه قصيدة النثر، ما كتبه أبو حيان في اشاراته الإلهية، ذلك الكتاب التصوفي، مُجنّح الكلمات، طائر العبارات، فرأيت الفرق بين العبث والجد، أو بين الهزل والجد وفق تعبير الجاحظ. في ذيل هذه المقالة سأنشر قطعة او قطعتين من هذا الكتاب مرتّبًا إياهما ترتيبًا شعريًا لإثارة مَن يحب أن يستثار.

أمر آخر جذبني إلى هذا الكاتب الذي أطلِق عليه لقب جاحظ القرن الرابع الهجري، ولمن لا يعرف، يُعتبر هذا القرن من أزهى فترات النثر الادبي العربي والادب العربي عامة. وما زاد في اعجابي به وتقديري لإبداعه الادبي، هو حساسيته وثقافته الموسوعية، كما ذكرت آنفًا، أمّا فيما يتعلّق بثقافته هذه، فيمكنني القول في إنها تمثّلت في فيض من المعلومات التي تمكّن صاحبُها مِن عرضِها بأبهي شكل وأروع صورة، وأما حساسيته، فهي ذلك الشعور بالأنفة والاعتزاز بالنفس، رغم ضيق ذات اليد الذي عاشه حتى أيامه الأخيرة في الحياة، ومما يُذكر في هذا المجال أنه عاش غريبًا ووصف الغربة في أشد أنواعها قسوة، بأنها إنما تكون في الوطن وبين الاهل، عندما لا يفهمنا هؤلاء متعمّدين قاصدين.

كلّ هذا التقدير والاحترام لهذا الكاتب، دفعني في أواخر السبعينيات (عام 1979 تحديدًا)، لأن أكتب مجموعة شعريةً كاملةً وضعتُ لها عُنوانًا يخصّه هو " قصائد إلى أبي حيان التوحيدي". وقد صدرت هذه المجموعة بالاشتراك فيما بين دار المشرق وجامعة حيفا، وأذكر أنني خاطبت نفسيني الشبيهة بنفسية أبي حيّان التوحيدي، في اكثر مِن وُجهةٍ وناحية، منها النقمة على واقع مكروه ومرّ، وغُربة المثقف في وطنه وبين أهله، ليعيش أقسى أنواع الغربة واشدّها وقعًا على النفس المُعذّبة، أقول خاطبته قائلّا: ضع يدكّ على خدِك أو فارحل أن الليلَ طويل.

***

ناجي ظاهر

.........................

*ذيل أو حاشية. نموذجان من نثر أبي حيّان التوحيدي منتزعان ومرتّبان بطريقة قصيدة النثر، أقدمهما فيما يلي:

* يا هذا أين أنت عن غريبٍ طالت غربته في وطنه،

وقلَّ حظّه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟

قد عَلاهُ الشُّحوب وهو في كِنّْ،

وغلبه الحُزن حتى صار كأنه شِنّ.

إن نَطَقَ نطق حزنانَ منقطعاً، وإن سَكَتَ سكت حيرانَ مرتدعاً.

وإن قَرُبَ قربَ خاضعاً، وإن بَعُدَ بعدَ خاشعاً،

وإن ظَهَرَ ظهرَ ذليلاً، وإن توارى عليلاً،

وإن طَلَبَ طلبَ واليأسُ غالبٌ عليه، وإن أمسَكَ أمسك والبلاءُ قاصدٌ إليه.

وإن أصبَحَ أصبح حائل اللون من وساوس الفكر،

وإن أمسَى أمسى مُنْتَهَبَ السرِّ من هَواتِكْ السّتْر؛

وإن قالَ قال هائباً، وإن سكتَ سكتَ خائباً؛

* يا هذا!

دعْ سكران الهوى حتى يتهادى في سكره،

ودع مقلّد الحال حتى يتمادى في نكره،

ودع مدبّر الخلق حتى يوصف بذكره.

ودع المحتاج حتى يموت على حاجته،

والمريض حتى يتناهى في دنفه،

والتلف حتّى يفضي إلى تلفه.

عندما تجاوز ابو حيان التوحيدي التسعين عاما من العمر، قام بإحراق كتبه، مُعلّلًا فعله هذا بقوله.

* ثم اعلم، علّمكَ الله الخير، أنّ هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته، فأما ما كان سرّاً فلم أجِد له من يتحلّى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية، فلم أصب من يحرص عليه طالباً، على أنّي جمعت أكثرها للناس، ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم ولمدّ الجاه عندهم فحرمت ذلك كلّه، ولا شكّ في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي، وربطه بأمري، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجّة عليّ لا لي، وممّا شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه، أنّي فقدت ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشقّ عليّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنّسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفّحوها، ويتراءون نقضي وعيبي من أجلها فإن قلت: ولم تسمهم بسوء الظن، وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم.

*لحُسن الحظ نجا مُعظم النتاج الادبي لأبي حيّان مِن الحرق.

النص أعلاه منقول عن معجم الادباء لياقوت الرومي الحموي.

*في الرسمة المرفقة أدناه. أبو حيان التوحيدي كما تخيّله الفنان

بكامل فتنتها جلست أمامي، تنظر إلي بغنج ودلال..

تتمَنَّع مرة، وتمنحني أسرارها مرات..

في حضرتها يحلو الكلام، لكن مزاجها المتقلب يسد منافذه فتصبح هلامية عصية على القبض، تصم آذانها وتشيح بوجهها العامر بالفتنة عني فينحبس القول في صدري، ويتجمد الحبر بين أناملي، وتعلو جسدي حمى إلى البرودة أقرب.

أفرش لها البياض، تخطو فوقه كملاك شفاف رهيف وقور كالحقيقة، تنشر أرديتها وعيونها لا تفارق عيوني وملمسها لا يفارق أناملي، فتنساب رهيفة، قوية، غاضبة.

يدي في يدها من أول الخطو إلى آخر الكلام. وأرتاح حين تغمض جفونها مطمئنة تتمدد مبتعدة وقد أخَذَتْ معها شيئا مني حبي، ودمي.

الليليات..

«ليليات»، حكيٌ ينفتح على الذات راسما لخطوطها مسارات تنسج الواقع بالخيال والحلم باليقظة والفلسفة بالأدب، بالشعر.

«ليليات»، حكيٌ ينحت كلماته من رحم لغة شفافة تصنع صورا تشد القارئ كأنها السحر.

«ليليات»، حكيٌ يبعث الدفء في الحروف، في الكلمات يُشعلها، في اللغة يسافر بها عبر مساراتها تتفتق من يد صانع خيوطا من ذهب تُطَرِّزُ الواقع شعرا مرة، تاريخا مرات، سيرةً وحوارات مرّات أخرى.

تطل علينا الليليات تحيك أسرار الليل تحيله بياضا يشع بجمال الحكي السلس والهادئ، فالليل بداية الحكي والنهار نهايته، وبين الليل والنهار والبداية والنهاية يغوص النص في فضاءات وشخوص تزيد الحكي جمالا ولذة وتُعَمِّق سر البوح وتفتح أبواب الكلام.

هكذا أطل الكاتب الدكتور «عبد الاله بلقزيز» رساماً، ساحراً، نحّاتاً، «صنايْعي»، فيلسوفاً، أديباً، يُرصّع الكلام، يحرث الحكي خطوطا عميقاً لتنضج الأسرار، حكيٌ شجيٌّ يجمع بين دفتيه لغة آسرة تشد قارئها، تغوص به في عالم خاص جداً، يفتح مغاليق أسراره ببطء لتنفتح كاملة وعلى مصراعيها بريئة، هادئة، قوية، صادقة وصافية عبر زمن يتداخل، ينفرج، ينعرج، يستقيم. تشتد سلطته حسب أنماط الحكي الذي تعتمده الليليات لتجعل منه منارا يقطع بنا ومعنا خطواته نحو فضاءات لا يعرف خباياها إلا من خبر أسرارها وعاش عشقها لحظة بلحظة.

من رحم الكلمات تخرج الكلمات كالأسرار، تنفرج عن لذة تنبلج كفلق الصبح البَيِّنِ صفاؤه حين يقطع بنا، معنا الحكي مسافات لا نكاد نشعر بها، بل نشعر بلذَّتها تحملنا على جناح رهيف من زهر، تؤثث جوانبه صدق وسحر الكلمات.

«ليليات»، حيكت بلغة حالمة، قوية، موصلة، متدفِّقة كشلاّل، مشاكسة كليلٍ طويلِ هادئ، توقِفُ الزمن لتتخذ لها لبوسا يمتح سره من جمال الحكي الذي يسبر أغوار الذات والواقع والحقيقة التي تنصهر، كلها، آخذة من الشعر والسياسة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس تفاصيل تؤثث الليليات كتيمات قوية تتخذ لها فن السيرة الذاتية مرجعا لفن القول فاتحة أمام القارئ مغاليق الذات لينخرط في الحوار عبر الانصات والتأمل والتأثر الذي تفرضه اللغة الرصينة التي اعتمدها الحكي كأداة لفك رموز الأسرار.

بدايةُ الحكي..

بداية الحكي جاءت بأصابع تعرف كيف تختار لحن الوجود، أصابع خبرت سر الجمال كلمة ولحنا وإيقاعات. بداية الحكي عُزِفت على أوثار تنبعث منها ألحان الذكريات التي تتجدد دائما بتجدد العزف.

تنفتح الليليات على لحن قوي، حر يمتح جهوريته من أرض النضال والبطولات، من أرض التسامح والعطاء، إذ تنفتح على صوت الفنان مرسيل خليفة، كمقدمة، توحي بتناغم الأصوات والأحداث والفضاءات، كلحنٍ عذبٍ يمتح نغماته من أوثار قلب يحكي للماضي والآتي والمستثر في عالم الغيب عن أسرار فاضت بها الكلمة المشبعة بالحب والاحترام وتقاسم الأيام والليالي.

انفتاح الليالي على صوت الفنان الفلسطيني مرسيل خليفة يعني انفتاحها على العالم الفسيح، على جُرح الحكي الذي لا يكاد ينتهي ليبدا من جديد قويا صادقاً .

عندما يقدم الفنان العربي مرسيل خليفة لليليات فإنه يعزف لحنا خاصاً، لا يغني لليله فقط، بل للّيالي التي تمتح إيقاعاتها من ذكريات ولقاءات حميمية جمعته بالكاتب كأنه يعزف على عوده الذي يضمه إلى صدره ليخرج من قلبه ألحانا لا تمحوها الأيام بل تزيدها رسوخا في الذاكرة.

حين يحكي الفنان عن لقاءاته مع الكاتب، فإنه يحاول جمع شتات الذاكرة ليضع سمفونية تتناغم مقاطعها وتتآلف إيقاعاتها عبر حكي كأنه الغناء. بصوت خافت شجي تتلقفه الحواس بشغف ويُجبر الآذان أن ترهف سمعها لتعيش لحظات تشع بالحب والدفء..

بداية الحكي مفتتح لأغنية عذبة وُضعت بلحن شجي يتقاسمه الفنان والكاتب مع القارئ الذي، حين يُنصت، يقرأ، يَسْبَحُ في عوالم الجمال محمولا على جناح من كلمات تعرف مواقعها تاركة أثرها حين تمر منسابة مع النسيم، حين يمُر، يترك الاجساد والعقول مخمورة بفعل دغدغاته الحانية التي تبعث فيه الهدوء الراحة والاطمئنان.

مارسيل خليفة عزف مقدمته لحن ذكريات ولحن لقاءات جمعته بالكاتب، ذكريات صاغ لحنها كلمات أبدع في اختيارها كما يُبدع عادة حين يختار لحن أغانيه عن أم الدنيا فلسطين .

2 ـ مسالك الليليات..

الحكي في الليليات يتخذ له مسالك أربعة تتفرق تيماتها لتجتمع متآلفة تصنع ببراعة الكاتب، هذا الحكّاء المتمرّس، لوحة متراصة من الأحاسيس والحقائق والأسرار التي تقف بالمتلقي لتُمتعه، أمام لغة تمزج حين صناعتها بين الأدبي والفلسفي والواقعي والتخييلي، لغة تسير نحو ذروة اللذة التي ينشدها القارئ حين يندس بين السطور والكلمات ليفتح له مسلكا خاصا كالذي أفتحه أنا الآن أُدون فيه لحظات عشق قاطعا مسالك الليليات متتبعا لذة الحكي محاولا فك رموز الأسرار التي تتمنّع عن الظهور بين ثنايا الحكي اللذيذ.

التفسيرة.. مسلك أول..

الليل، الليل بداية التكوين، منه تبدأ مدارج النور إلى مسالك الحياة والوجود.

الليل خازن الأسرار والحكايا الملغزة.

الليل بداية الحكي ومنتهاه، أليس خريف العمر نهاية ومنتهى؟ وبين البداية والنهاية ينضج ويلذ حديث النهار الذي يزخر ببوح لا بداية له كأنه الزمن الأول، إذ «ليس للبداية تاريخ ميلاد»

الحكي في «ليليات»، يوقف الزمن لحظة ليترك المجال فسيحا أمام شجون الوحدة وقوتها. وشجون الطفولة وشقاوتها. الطفولة التي رصعت بخطاها منعرجات المدينة الحمراء .

الحكي في «ليليات» يمتطي صهوة الكلمات نحو البوح والشوق والتذكر، والوقوف على حافة مقامات البدايات والختام، مقامات الشك واليقين، مقامات الأنا والآخر .

صهيل الذاكرة.. مسلك ثان..

المرأة، سر الأسرار وخازنتها، كالليل في سكونه، في غموضه، في هدأته حين يرخي بظلاله على الكون مستمعا لسر اللقاءات الأولى، المحتشمة والغامضة، والتي تؤثث بسحرها فضاءات البوح والعشق، الفضاءات التي تنفتح صفحاتها لتنكتب عليها مغاليق الأسرار.

المرأة، سرٌّ لا يعطي مفاتيحه بنظرة، بل يُدخل العاشق في متاهات الغموض والشوق والأوهام.

كل سر مغامرة، تحدّ لا يسلم مفاتيحه إلا لمن خبر دهاليزه وسقط في شراكه عاشقا كان أو كاتبا أو حكّاءاً.

سفر التأوين.. مسلك ثالث..

بين السياسة والشعر يشتعل الحكي هادئا مطمئنا تاركا وراءه فتنة البوح والعشق تجوب دروب مدينة تزخر بالفضاءات التي رسمت مسارات من حياة الكاتب.

الرباط، تعبق بسر الخطوات التي رسمت هنا وهناك، كأن الخطو يحكي مزاراته متنقلا بين الدروب والأزقة تاركا بصماته التي حفظها الزمن لتسجلها الليليات حكاية حياة أو قطعة منها، حكاية تشكلت بداياتها حين كانت الكلمات الأولى شعرا، والحركات الأولى سياسة، والصيحات الأولى بدايات النضال داخل الكلية أو خلال جلسات الأصدقاء.

وكان الأمل رفيقا لهذه الكلمات والحركات والصيحات، الأمل الذي يصنع الغد، الأمل الذي يفتح أبواب الحلم واسعا على مصراعيه ليصبح عزيمة تدفع إلى تأكيد الذات عبر الكلمة التي يصنع منها أملا جديدا يوزعه بين الطلبة داخل مدرجات الكلية.

النهاية.. مسلك رابع..

خريف العمر يجرنا إلى النهاية، تلك سنة الحياة، لكل بداية نهاية، وليست كل نهاية موت. نهاية الحكي في ليليات ليست بداية الاستسلام ولكنها طرح السؤال وفتح حوار جريء وصادق مع الذات، ليس للمحاسبة، ولكن للوقوف أمام الكتاب الكبير المفتوح على البدايات لاستخلاص العبر التي رسمت كلمات ونضالا.

خريف العمر جلسات للتأمل، للنظر إلى الوراء دون توقف.

قد يسير بنا الزمن سريعا، لكن لحظات التأمل والحوار مع الذات تنشد الهدوء والتريث كما تنشد القوة والصبر لقول «من أنا ؟ من » كنت؟» وما الأثر الذي ترَكَتْهُ خطواتي وأنا أسير منذ بداية الخطو، الحكي؟

ليس سهلا أن يقف الإنسان أمام نفسه عاريا، صريحا، صادقا، سائلا ومتسائلا، وباب الخروج يلوح في الأفق، الخروج الذي يدفعك مرغما إلى دخول جديد.

لكل بداية نهاية، وليس للبداية تاريخ ميلاد.

تلك سنة الحياة، يبدأ الحكي مُتَّجها مُرْغماً نحو النهاية في بحث عن بداية جديدة، حاملا معه أسرارا أخرى قد تتضمنها عناوين جديدة نحن في انتظارها.

***

ذ. عبد المطلب عبد الهادي – المغرب

غشت/آب 2025

ما هو دور القارئ في تشكيل توجّه الكاتب الروائي نحو بناء رواياته وإقامة تقنياتها على أسس مُقنعة، ويمكنها أن تجتذب من يُقبل على قراءة هذه الرواية المفترضة او تلك التي، علما أن فكرتها ما زالت تدور في ذهن صاحبها أو مَن ينوي كتابتها وإخراجها للناس؟.. للإجابة على هذا السؤال المُحيّر والاشكالي كما سنلاحظ، وضعت الكاتبة الامريكية نانسي كريس كتابها التحفيزي" تقنيات كتابة الرواية"، مُركزةً على إرشاد مَن يود أن يكتب رواية ناجحة وتلقى القبول الشديد لدى قطاعات واسعة من القراء، ومَن يعلم ربّما تلقى مثل هكذا قبول لدى أعضاء لجنة منح جائزة من تلك الجوائز التي يسيل عند ذكرها الكثير من اللعاب.

قبل الدخول في عالم هذا الكتاب الارشادي المثير لا بُدّ لنا من تلمّس الطريقة الناجعة لقراءته، وعادة ما تكمن هذه الطريقة في عنوان الكتاب أي كتاب او في عنوانه الجانبي. العنوان الجانبي لهذا الكتاب يُخبرنا قبل الخوض في قراءته بأنه انما يقدّم تقنيات وتمارين لابتكار شخصيات دينامية ووجهات نظر ناجحة.

ما إن ندخل إلى حرم الكتاب قارئين متمعّنين، حتى نُفاجأ بعنوان مقدمته وهو "ماذا يريد القارئ"، وهذا يعني أنه على الكاتب أن يضع القارئ نُصب عينيه، عندما يُقبل على التخطيط لكتابة رواية أولًا والشروع في كتابتها ثانيًا، للإجابة على هذا السؤال ترى الكاتبة أنه من الطبيعي أن تكون هناك رغبة عارمة لدي مَن يُود أن يكتب الرواية، في إقناع جميع الناس أو القراء، بان يقرأوا روايته، وتضيف غير أن هذه الرغبة غير منطقية، كون القراء يختلفون فيما بينهم، فماذا يفعل الكاتب في مثل هكذا وضع، أن يكتب لإقناع قطاع معين من القراء؟.. هذا الأقرب الى الواقع والمنطق، هكذا نرى أن تحديد القارئ المُفترض يساهم كثيرًا في كتابة الرواية. تقول الكاتبة ضاربة مثلًا على ما تقصده:" إن المرأة التي تختار (قراءة) قصة رومانسية مثلًا إنما تُريد أشياء معينة من الشخصيات في الكتاب(الرواية)، الذي اشترته، ومعرفتك (تقصد الكاتب)، بهذه التوقّعات تُساعدك في ابتكار الشخصيات التي ترغب تلك القارئة – أو قارئ اللغز أو الخيال العلمي-(الرواية) قضاء اربعمائة صفحة معها".

لكن كيف يختار الكاتب الروائي العتيد شخصيات روايته؟.. تُجيب المؤلفة انه توجد هناك العديد من الطرائق، منها أن تختارها من الواقع اليومي المعيش المحيط بك، أو من الخيال أو من أي مصدر آخر متاح.. الأصدقاء مثلًا. بعد اختيار الروائي شخصيات روايته ماذا يُفترض به أن يفعل؟. تُجيب الكاتبة عليه أن يختار الشخصية المركزية التي يُريد أن يروي على لسانها ومن وجهة نظرها.

الآن وقد بات أمر شخصيات الرواية واضحًا وتمّ بالتالي تحديد من ستكون منها الشخصية المركزية، ماذا سيفعل الكاتب الروائي؟.. ها هو الوقت المناسب للبدء في الكتابة، وهنا ترى الكاتبة أن الشخصيات تنقسم إلى نوعين الشخصية المُتفاعلة أو النامية، وفي المقابل الشخصية الثابتة، والفرق بين هذين النوعين هو ان الشخصية المتفاعلة تتغير وتتبدّل وفق تفاعلها مع ما تحتويه الرواية وتقدمه من أحداث، في حين أن الشخصية الثابتة تبقى كما وصفها الكاتب، منذ بداية كتابة الرواية حتى نهايتها او الانتهاء منها. وهنا ينبُق السؤال أي من هذين النوعين أفضل؟ وتُجيب الكاتبة ان لكلّ منهما وضعيته وكينونته، وليس بإمكاننا أن نقول إن هذا النوع أفضل من ذاك.

فيما يتعلّق بهدين النوعين من الشخصيات الروائية، المتفاعلة والثابتة، حسب تعبير الكاتبة، والنامية والمسطحة، كما يرى أ.م فورستر في كتابه المشهور " اركان القصة"، تختلف الآراء وتتضارب، وأعتقد أنه لكلّ من أصحاب الآراء المتضاربة هذه حُجتُه واجتهاده، فمّن يرى ما تراه المؤلفة نانسي كريس، كما أرى، إنما يعتمد على القُدرات الإبداعية التي يتمتّع بها الكاتب وفي قدرته على عرضه أو ابتكاره الروائي المتخيّل، أما مَن يرى خلاف هذا الرأي فإنه يقيم رؤيته هذه على الديناميكية الداخلية للعمل الروائي بغضّ الطرف عن كاتبه، بمعنى أنه يتعامل مع الكتابة الروائية تفنيًا، احترافيًا ومهنيًا.

بعد تحديدها شخصيات الرواية أولًا وشخصيتها المركزية ثانيًا، تؤكد الكاتبة أن نمو وتطوّر الحَبكة الروائية (التصاعد المنطقي للأحداث - ن- ظ)، يتعمد أول ما يعتمد على الشخصية الروائية، فهي عمادُ الحَبكة الروائية وهي التي تحددّها وتُوجّه مسارَها، وذلك وفق رؤيتها ورأيها.. صورتِها وتصوّرها للواقع، فإذا كانت الشخصية إيجابية تطوّرت الحُبكةُ في هذا الاتجاه، وإذا كانت في المقابل، سلبية تطوّرت بهذا الاتجاه أيضًا.

لقد توصّلنا حاليًا إلى حالة مِنَ الوضوح، فقد فرغنا مِن تحديد الشخصيات، وتمكّنا مِن اختيار الشخصية المرّكزية مِن بينها، كما اتضح لنا دور الشخصيات في تطوّر الحَبكة الروائية، فماذا علينا أن نفعل.. إظهارًا وعرضًا للشخصّيات الروائية؟، إن ما يُطلب منّا هو أن نضعها في مسرح يكشف عن تصرفاتها وسلوكياتها، أما في وصفنا لهذه الشخصيات، فمن المفترض أن نصفها ضمن الاسترجاعات الكتابية أو ما شابه، كما يُفضّل أن نصف كلًّا ِمن الشخصيات، خاصة المركزية، عبرَ عينيّ شخصية أخرى من شخصيات الرواية.

هكذا بات واضحًا أن انتهاج التعبير المنطقة الداخلي للرواية، يُعتبرُ مِن أهم التقنيات، بل التقنية الأساسية لكتابتها. بالعودة إلى اهتمام الكاتبة بالشخصية الروائية، كما يتصوّرها قارئ الرواية المُحتمل، تُنهي المؤلفةُ كتابها بالقول: إن" أكبر مساعدة تُقدمّها لنفسك ككاتب، هي اعتبار الرواية قصة الشخصيات، وليست قصتك الخاصة".

***

ناجي ظاهر

....................

* مؤلفة الكتاب نانسي كريس، كاتبة من مواليد ولاية بوفالو الامريكية عام 1948 ابتدأت الكتابة عام 1976، وهي مؤلفة العديد من روايات الخيال العلمي، وقد فازت بأكثر من جائزة لقاء كتاباتها الروائية.

 

هل يعيش الفيلسوف المفكر أفكاره التي يدعو إليها فيما يبثه من أفكار واراء في كتاباته، كتبه ومحاضراته، أم أنه يعيش نوعًا من الحماقات الإنسانية غير عابئ بالفرق ما بين أفكاره وممارساته الحياتية؟. الدراسات المتعمّقة لما كتبه أصدقاء ومقرّبون من عدد وفير من فلاسفة العصر الحديث تحديدا، تقول إن هؤلاء الفلاسفة عاشوا الأفكار والمُثل العليا في كتاباتهم وفي افكارهم، لكنهم لم يحيوها في الحياة اليومية، التي عاشوها لحظةً إثر لحظة، ساعة تلو ساعة ويوما بعد يوم.

انطلاقا من هكذا رؤية، ظهر منذ فترة تُقّدر بالعشرات من السنين، عدد من الكتب التي كتبها مثقفون من ذوي القدرات المُميّزة عن هذه الناقضات التي اتصفت بها حيوات العديدين من الفلاسفة، بين ما دعوا اليه وبين ما عاشوه وعايشوه من احداث وممارسات يومية. وقد سبق وكتبنا مقالة عن ثلاثة من هذه الكتب تحت عنوان فضائح العصر في ثلاثة كتب، وها نحن نكتب عن كتاب رابع، هو كتاب (جنون الفلاسفة) تأليف الكاتبين نايجل رودجرز وميل ثومبتون.

صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية عام 2005 وترجمه إلى العربية متيم الضايع وصدر عن دار الحوار السورية عام 2015. هذا العام أعيدت طباعته بصورة مقلّصة في بلادنا وبإمكان الاخوة المهتمين الحصول على نسخة منه من هذه المكتبة او تلك. يتعرض فيه مؤلفاه الى ثمانية من فلاسفة العصر الحديث، معرفين هذه الفلسفة انها منذ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت حتى أيامنا الراهنة، وواضعين لكلّ من هؤلاء الفلاسفة عنوانا يدُل على ما قام به ونفّذه من حماقات في حياته، تتعارض ما دعا إليه من أفكار، مما يُقرّبه ويدنيه من الجنون، وينزع عنه صفة القداسة التي يبرع الكثيرون مِن القُرّاء العصريين، في اصباغها على هؤلاء الفلاسفة وغيرهم.

الفلاسفة الثمانية الذين يتعرّض لهم المؤلفان في كتابهما الطريف هذا، هم: جان جاك روسو وعنوان ما كتباه عنه الفيلسوف كضحية، آرثر شوبنهاور- المُخلّص البغيض، فردريك نيتشة السوبرمان السمج، بيرتراند راسل- رياضيات السلوك الإنساني، لودفيج فيتنجشتاين- الغضب والزهد، مارتن هايدجر- الساحر، المفترس، الفلاح، النازي، جان بول سارتر- الطغيان الفكري وسوء النية، وميشال فوكو- الجنون، الجنس والعقوبة.

هذه العناوين تحكي الكثير فيما يتعلّق بهؤلاء الفلاسفة والمفكرين، خاصة بحماقاتهم وتناقضاتهم بين القول الفكري والمعيشة اليومية، فواضح انهما يأخذان على هايدجر مثلا تماهيه مع الحكم النازي في بلاده، وواضح انهما يأخذان على فيتنجشتاين تكبّره وتنمره المُسيء على طلابه والمحيطين به، وأكثر من هذا انهما يأخذان على سارتر سوء نيته تجاه صديقة عمره ورفيقته حتى يومه الأخير، الكاتبة المفكّرة الوجودية سيمون دي بوفوار، صاحبة الكتاب الشهير عن " الجنس الاخر"، وخياناته لها بمحاولات، لا يهم ما إذا حالفها النجاح أو باءت بالفشل في إقامة علاقات جنسية مع تلميذاتها وصديقاتها، أما برتراند راسل الذي كتب عن الحب والزواج والحياة السعيدة بواقع الفي كلمة يوميا، فقد طلّق ثلاثًا من زوجاته، واقام علاقات مع نساء الآخرين، بمعنى انه كان زير نساء، لا يوفّر زوجة قريب أو بعيد. وأما الفيلسوف والمفكر الفرنسي الكبير ميشال فوكو صاحب كتاب تاريخ الجنون، فقد عاش حياةَ انسان مثلي تقوده غريزته الملتهبة من حضن مثلي إلى آخر.. حتى الاحتراق!!

ما يكشفه هذا الكتاب عن التناقضات المشينة بين القول والفكر لدى مَن يتحدّث عنهم الكتاب ويتناولهم بالدراسة، لا يتوقّف عند مثالبهم، وإنما هو يقدّم لهم، عبر دراسات شبه كاملة عن حيواتهم وعطاءاتهم الفكرية غير المنكورة، بل المؤكدة في تاريخ الفلسفة الحديثة، اما الهدف من الإشارات الى التناقضات، المشار اليها بين الاقوال والافعال، فإنها تهدف إلى عدد من الأمور، منها وربما أهمها عدم تقديس الأشخاص، وجعلهم رموزا وطواطم لا تخطئ، فلكلّ منّا نحن بني البشر، اخطاؤه التي أشار اليها السيد المسيح بمقولته الخالدة، من كان منكم بلا حطيئة فليرمها بحجر، وبقية القصة معروفة. ومما يريد ان يشير إليه مؤلفا الكتاب، كما يذكران في ثتاياه وصفحاته، هو التفريق بين حماقة من تحدّثا عنهما في كتابيهما، وبين تصرفاتهما السيئة، يقولان:" المهم اننا قاومنا اغواء كبيرا للتفريق بعناية ما بين حماقة التصرف السيء والسخافات الاجتماعية العادية، تفريق كهذا يكون ذا صلة فقط في التقييم الأخلاقي للتصرف، في حين ان اهتمامنا هو مُجرّد تقديم حماقات الحكماء، كي لا تقدس ذكراهم بشكل مُحرج". واضيف كي لا يتم التعامل معهم على اعتبار انهم إلهة لا تخطئ، وليسوا بشرًا.

***

ناجي ظاهر

.......................

*عن مؤلّفي الكتاب: نايجل رودجرز- كاتب ومؤرخ بريطاني وضع أحد عشر كتابًا في السيرة الذاتية، منها كتاب عن تشرشل وآخر عن هتلر، وهو صاحب كتاب عن " الغندور: طاووس أم لغز". ميل ثومبتون- مؤلف أكثر من عشرين كتابًا في الفلسفة والأديان، منها كتاب عن فن العيش وإخر عن القراءة السهلة للفيلسوف. ته

 

اتصف عصرنا الحديث بالعديد من الصفات فقد اختلف عن سابقيه اختلافًا كبيرًا جراء ما شهده من تسارع في التحولات والتبدلات، وفي حين كان الإيقاع الزمني بطيئا نوعا ما في الازمان والعصور السابقة، شهد عصرنا هذا تسارعا عير مسبوق في التطورات والتبدلات، وبإمكان مَن يود الاطلاع على ايقاعات هذه التسارعات، مراجعة صفحة من كتاب التفكير العلمي للكاتب المفكر العربي المصري الهام فؤاد زكريا، أرجو أن أتمكن من إرفاقها بهذه المقالة. لقد اثار ما شهده عصرنا من تطورات وتبدلات هامة وعامة، الكثير من الكُتّاب العرب أيضًا، واذكر في هذا السياق ان احد كُتّاب مجلة المجلة المصرية، وصف عصرنا بانه عصر اللامعقول، كون ما كان غير معقول في العصر السابق بات معقولا في عصرنا. هذا على المستوى العام للعصر، فماذا عن المستوى الخاص؟.. ماذا عن رجالات عصرنا، ماذا عن اعلامييه وماذا عن وسائل اتصاله الاجتماعية وما سجّلته مِن تغيّرات وتبدّلات وصلت حد الفضائح، والاستغلال العبثي وغير المبرر، واكاد أقول الجنوني من الانسان لأخيه المدعو.. انسانا؟

فيما يلي سأتعرض باختصار شديد الى ثلاثة كتب صدرت في العقود الماضي القليلة، وسجلت منذ صدورها حتى هذه الأيام، اهتماما ثقافيا عامًا ومتزايدًا، فقرأها الناس في بقاع واسعة من العالم، علما أنها تُرجمت إلى العشرات من اللغات، بما فيها لغتنا العربية، وصدرت طبعات منها في هذه البلاد او تلك، كما اعيد طبع بعض منها في بلادنا خاصة الكتاب الثالث الذي سأتعرض له بكثير من الاهتمام كونه سلّط الضوء على أعمق أعماق ما يعيشه الناس في عصرنا من تغريرات وأنظمة اقل ما يقال فيها إنها تستهدف التفاهة وتكرسها، لمن يعرف خبثا ولمن لا يعرف تبسيطا يصل حد السذاجة. فيما يلي أقوم بتقديم أهم ما أشار إليه أحد الكتب الثلاثة الملمح اليها، وذلك ضمن منهجية تهدف لاطلاع الأخ القارئ على الكتاب عنوانه، اهم ما ورد فيه وما ميّزه، ومَن يعلم قد يحفز ما أقدمه تاليًا على قراءة هذه الكتب او بعضًا منها عملا بالقول الكريم زدني علما.

المثقفون - تأليف بول جونسون- الكشف عن الوجه الآخر لمثقفي العصر

صدر هذا الكتاب في طبعته الإنجليزية الأولى عام 1989، وصدرت طبعته العربية الأولى، بترجمة الكاتب المصري المثقف طلعت الشايب عام 1997. وكانت مجلة اخبار الادب المصرية قد نشرت في حينها عددًا من فصوله، واطلع عليها قراء الصحيفة، وكاتب هذه السطور واحد منهم. الكتاب يُقدّم فحصًا مُدقّقًا وموسّعًا لأبرز مثقفي عصرنا، معتمدا في معلوماته هذه على مصادر كتبها مقرّبون منهم، من الأصدقاء وأبناء العائلة. نقرأ في صفحات الكتاب مثلا عن ماركس - نباح اللعنات الكبرى، ذلك المفكر الذي كتب عن الرأسمالية واستغلالها لأبناء الطبقة العاملة وعن حقوق العمال، ويُفاجأ قارئ الكتاب بأن ماركس لم يزر في حياته مصنعا ليتعرّف عن قرب على أحوال أبناء الطبقة العاملة. كما نقرأ فيه عن جان جاك روسو الذي احتقر الثروة في كتاباته وعاش حياة انسان جشع محب للمال. وعن جان بول سارتر الذي كان يخون خدينته ومحبوبته الفيلسوفة الوجودية سيمون دي بوفار ويستغلها في اغوائه تلميذاتها. اما الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل ذلك الداعي الأخلاقي الكبير فقد كان زئر نساء لا يوفر احداهن من غاراته. واما هنريك ابسن نصير المرأة في كتاباته ومسرحياته، فقد امتهن كرامتها في حياته، وفي الكتاب صورة أخرى للوجه الحقيقي للكاتب الألماني الانساني في مسرحياته، هذا الكاتب كان يستغل ما يتلقّاه من رسائل حبيباته لإدخالها في كتاباته!

المثقفون المزيفون- تاليف باسكال بونيفاس- كيف يصنع الاعلام خبراء في الكذب والتغرير بالناس

مؤلف الكتاب مفكر سياسي من أبرز المحللين الإستراتيجيين الفرنسيين وهو حاصل على دكتوراة في القانون الدولي العام. من مؤلفاته: فهم العالم (2010) ولماذا كلّ هذه الكراهية؟ (2010) ونحو الحرب العالمية الرابعة (2009) وهو كتاب ينتقد فيها أطروحة صدام الحضارات لصامويل هينتنغتون، وقد صدرت طبعته الأولى سنة 2005 وكتاب من يجرؤ على نقد إسرائيل؟ وغيرها من المؤلفات الهادفة. يفضح بونيفاس في كتابه هذا- "المثقفون المزيفون"- كيف يصنع الإعلام خبراء في الكذب، وإستحواذ فئة من الصحافيين والمعلقين والمثقفين مِنْ عديمي الضمير على الفضاء الإعلامي والثقافي الفرنسي، وقلّبهم الحقائق بهدف توجيه الرأي العام نحو قناعات أيديولوجية أُحادية البُعد، خاصةً برنار هنري ليفي اليهودي. الأصل" وجماعته.يؤكد بونيفاس في مقدمة الكتاب، الذي رفضت نشره أربع عشرة دار نشر من كبريات دور النشر الفرنسية، أن فكرة فضح المثقفين المزيفين، أو المرتزقة كما يسميهم، قد راودته منذ فترة طويلة مواكِبةً لمواقفهم المخزية التي تدمّر الديمقراطية وتُهدد الإعلام.

 كما يؤكد أنّ عدم النزاهة الفكرية لها اليوم نجومها في فرنسا، وهم يحظون بالتكريس الإعلامي ويشتركون في تغذيةٍ قدرٍ كبير من الخوف غير العقلاني من خطرٍ إسلامي مزعومٍ يُمثّل عدواً مشتركاً للعالم الحُرّ، أو تبرير غزو بلدٍ ما وتدميره كما حصل في العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل، أو كما يمكن أن يحصل الآن في بلداننا العربية الرازحة في ربيعها الأسود تحت ذرائع أسلحة كيميائية أو انتهاكات حقوق إنسان أو تطهيريات عرقية.

نظام التفاهة- تأليف الان دونو- التفاهة تبسط سبطتها على كل ارجاء العالم

مؤلف الكتاب فيلسوف كندي. محاضر في علم الاجتماع يعمل في جامعة كيبك. صدر كتابه هذا بالفرنسية عام 2015. يعرض فيه فكرة مُفادُها أننا نعيش فترة مختلفة عن فترات التاريخ البشري السابقة، حيث السلطة بعيدة عن يد من يستطيع التميز في القيادة، ومبسوطة في يد التافهين باختلاف درجاتهم ومستوياتهم. لقد تطوّر الأمر حتى صار يكتسح جميع المجالات، وصارت التفاهة نظاما يُحتفى به، واستطاع التافهون أن يبنوا عالما جديدا يقتل الإبداع والتميّز، ويشرّع التفاهة والتخلف، كما يجعل الخروج عن النظم التقليدية خطأ غير مقبول، مهما كانت الدوافع، وحتى لو كانت نتيجة التجديد حسنة وجيدة. مما قيل عن الكتاب: انه كرس صاحبه، آلان دونو، واحدًا من أهم المفكرين الكنديين الذين لم يسبق للعالم الناطق بالإنجليزية أن سمع بهم من قبل.. لقد وضعت الكتابة الجريئة دونو في قلب خارطة الجدل في كندا. بل في العالم أجمع.

***

ناجي ظاهر

 

اتخذ من الادب، شعرًا أولًا، نثرًا ثانيًا، مسرحًا، رواية وسيرة ذاتية ثالثًا، رسالة آمن بها منذ يفاعته الأولى، ولم يتردّد في دفع الثمن المُتطلّب، من ملاحقة ومطاردة، سجن وإقامة جبرية، بل دفع هذا كله وأكثر، مؤمنًا بأن على الانسان حين يحيق به وباهله العسف والظُلم، لا بد له من أن يردّه وبكل قوة، ورغم انه كان يعرف امكانياته وحدوده فعلًا وقوًلا، إلا أنه تمرّد على ذاته، ومضى منتصب القامة يمشي، في كفّه قَصفةُ زيتونٍ وعلى كتفه نعشه. وقد كان في هذا اشبه ما يكون بالشاعر العربي القديم دعبل الخزاعي الذي قال إنه حمل صليبه خمسين عامًا متحدّيًا كلَّ مَن يمسه بسوء، أو يدوس له على طرف.

الشاعر الصديق الراحل سميح القاسم ( 1939- 19-8-2014)، الذي نحيي ذكرى عقد ونيف من الزمان على رحيله، وقد صادفت هذه الذكرى أمس الثلاثاء، التاسع عشر من آب الجاري، باعثة فينا نحن أحباءه واصدقاءه ومقدّري شخصيته وابداعه الادبي عامة والشعري خاصة، هذا الشاعر الذي حظي بالكثير من الألقاب، منها شاعر العروبة، وشاعر القومية العربية، وطائر الرعد، عاش حياته متكرّسًا لرسالته الانسانية والوطنية معتمدًا على موهبة جزلة، معطاءة، وروح تعرف ما للكلمة من قوة وأثر، سواء كانت مكتوبة او مقولة/ مُنشدةً، فأعطى الكثير وقوبل بالوفير من الاحترام والتقدير، فحصل على العديد من الجوائز، العربية والعالمية وبإمكان مَن يُريد الاطلاع عليها، بإمكانه ان يفعل عبر محرّك البحث الالكتروني العالمي جوجل.

ربطت كاتب هذه السطور بالشاعر سميح القاسم علاقة ابتدأت وهو فتى غضّ الاهاب، يتلقّى علومه على مقاعد الدراسة، وكان ذلك عام 1968، عندما أرسل قصة قصيرة حمّلها عنوانَ الكلمة الأخيرة، إلى مجلة الجديد وفوجئ بنشرها في الشهر الذي أرسلها فيه ذاته، وعندما علم أن الشاعر سميح القاسم هو مُحرّر تلك المجلة، التي كانت تعتبر الأهم في بلادنا، سعى للقاء به، وكان سميح القاسم حينها في التاسعة والعشرين من عمره، سميح استقبله في غرفته الصغيرة المتواضعة، التي كانت تقوم آنذاك في احد بيوتات حي النسناس في مدينة حيفا، مشيدًا بموهبته الصاعدة ومشجّعًا إياه رغم صعر سنه، على المُضيّ في طريق الكتابة والابداع. وقد لمس منذ اللحظات الاولى لذاك اللقاء أمرين يُميّزان الشاعر المُحرّر، أحدهما دماثة الخُلق وطيب المعشر، والآخر الثقافة العميقة والمركزة، وقد رافقه منذ ذلك الحين في معظم الأماكن التي انتقل للعمل فيها، رافقه في صحيفة الاتحاد، وفي مؤسسة الفنون الشعبية، التي أقامها مع آخرين، بهدف دعم الحراك الثقافي والفني في البلاد، كما رافقه عندما أسس بالتعاون مع الكاتب اميل حبيبي منشورات عربسك، وعندما انتقل إلى الناصرة للعمل مُحرّرًا لصحيفة كل العرب، أخذ بالتردّد على الصحيفة برفقة الأصدقاء منهم الصديق المشترك الشاعر سيمون عيلوطي، الكاتب المرحوم عيسى لوباني والشاعر نمر سعدي. في كلّ هذه التنقلات تعاملنا معا، كتابة ونشرا. وكنت أتأكد أولًا بأول مما لمسته من صفات حميدة اتصف بها شاعرُنا المُبدع.

انطلاقًا مِن مَعرفة وثيقة بالشاعر سميح القاسم، بإمكاني تسجيل الملاحظات التالية، معتبرًا إياها شهادة من انسان عايشه وعرفه عن قُرب.

* الشاعر: كتب سميح القاسم العشرات من المجموعات الشعرية، علمًا أن مؤلفاته وقعت في ثلاثة وسبعين كتابُا وطبعت في سبعة مُجلّدات، وقد تميّز شاعرُنا عن الكثيرين مِن الشعراء في بلادنا خاصة، بأنه أخذ قضية الادب والشعر بكل جدّية، وتعامل معها على اعتبار انها قدر ومُبرِّر وجود، فكنت تراه دائم التطوير لعمله الشعري، وها هو لا يُصدر مجموعةً شعريةً جديدةً إلا ليُضيف إلى سابقتها، فهو شاعرٌ دائم التجدُّد، وقد أقام هذا كله على معرفة عميقة بالشعر العربي القديم، وبإمكاني القول إنه كان من أبرع مَن تعاملوا مع الاوزان الشعرية، إذ كان مُتمكّنًا فيها تمكنًا رصينًا، وأشهد أنه عادة ما كان يُقطّع القصيدة حرفًا.. حرفًا وبيتًا بيتًا، أما عمله في قصيدته فقد كان يمرُّ بمرحلتين إحداهما الكتابة الأولى، والأخرى النظر والمعاينة لكلّ واحد من جوانبها، إلى هذا كان شاعرُنا رُغم معرفته هذه بالأوزان والبحور الشعرية العربية، يُميّز بين النظم والابداع، او الخلق الفني، أو الإغراب، كما عند الناقد العربي الخالد عبد القاهر الجرجاني، صاحب دلائل الاعجاز واسرار البلاغة أولًا، ومثلما عند الناقد العظيم حازم القرطاجني صاحب الكتاب الفاتن منهاج الادباء وسراج البلغاء ثانيًا. فالقصيدة لدى شاعرنا عبارة عن عالم له قوانينه ودينامياته الداخلية المؤسسة على الوجدان أولًا والفكر ثانيًا والخيال ثالثًا والأسلوب رابعًا. بناء على هذا يُمكننا القول إن قصيدة شاعرنا تدُل عليه، فهو صاحب أسلوب خاص ليس من المُستحسن مقارنته بسواه، وإذا كانت لا بُدّ مِن المقارنة فبينه وبين ذاته. كان شاعرُنا دائمَ الاطّلاع على أسرار شعرنا العربي القديم وخفاياه، فهو مؤمنٌ تمام الايمان أن معرفة الذات يُفترض أن تكون أولًا، بعدها نتعرّف على الآخر، لذا تراه يتأثر بشعر الحماسة ويكرّس له بعضًا مِن نتاجه الإبداعي، وفي الآن ذاته لا يفوتُه الاطلاعُ على نماذجَ من الشعر الأجنبي، وذلك ضمن محاولة إثرائية، وتوسيعًا للدائرة الإنسانية التي شغفته وشعلت باله طوال أيام حياته بنهاراتها ولياليها. كلّ هذا يدفعُنا للقول إن سميح القاسم تأطر كشاعر مقاومة، لكن حان الوقت بعد عقد من الزمان على رحيله المؤسي، ان نخرجه من هذه الدائرة الضيّقة، ولعلنا لا نبتعد عن الموضوع إذا ما إذا ما أشرنا إلى بعض من قصيده للإشارة إلى أفقه الإنساني الجزل، وربّما يكفي أن نشير في هذا السياق إلى قصيدة عن لوركا، لنرى إلى أي مبدع كان. أما مسالة الانشاد الشعري، وهو أحد مظاهر شعرنا العربي القديم، لنتذكر سوق عكاظ وما كان يُنشد فيه من أشعار، فهي تقول لنا إن سميح القاسم انشد الشعر في الناصرة وفي عمان، دمشق والقاهرة فأبدع، مسجّلًا ذاته مًنشدًا متفرّدًا وذا شخصية إنشادية قلّما تكررت. بإمكان مَن يشُك في هذا أن يستمع إلى إنشاده او إلقائه قصيدتَه الغاضبة الفاتنة التي تهيب بأبناء شعبه مناشدة إياهم بأن يتقدموا، فكلُ نار فوقكم جهنم.

* الناثر: كما ذكرنا آنفًا، كتب سميح القاسم المقالةَ السياسية، الرواية السيرة الذاتية والمسرحية الشعرية. فيما يلي نتناول كلًّا من هذه الأنواع الأدبية، ببعض الكلمات، ففي مجال كتابة المقالات نُشير بكثير من الحنين إلى الماضي، إلى مقالات شاعرنا التي كان ينشرُها تباعًا في صحيفة الاتحاد الحيفاوية، تحت عنوان مِن فمكَ أدينك، فقد ابتكر في هذه المقالات طريقة خاصة، لا تعتمد على الهجوم على الآخر/ المحتل، بقدر ما تحاول أن تقرأ عقليته بعقلية أخرى واعية، تعرف كيف تقرأ وتدرك ما لزلّات اللسان من مخاطر في التعبير عمّا في النفوس من مشاعر وضغائن. أما عندما انتقل للعمل رئيسًا لتحرير صحيفة كل العرب، وكانت آخر الصحف التي عمل فيها، فقد كتب مقالة افتتاحية أسبوعية، وعادة ما كان يختتمها، بشعاع ليزر، مُسدّد، لاذع وكاشف، حدّ الفضيحة، حتى ان بعضًا مِن الكتّاب لجأ إلى تقليده، لكن هيهات له أن يتمكّن، فهناك فرقٌ شاسع واسع بين الأصل والنسخة. فيما يتعلّق بكتابة شاعرنا الرواية والسيرة الذاتية، هو لم يبتعد كثيرًا عن تجربته الذاتية، وعادة ما اغترف مِن هذه التجربة مُقدّمًا ما اغترفه بقالب فنيّ، موشى بشعرية شفّافة، وواصفًا واقعًا عاشه وعايشه عن قراب مع تحويرات تتمثّل في إعادة صياغة هذا الواقع من وُجهة نظر مُرهفة ورؤية خاصة ومميّزة. في هذا المجال نُشير الى روايتيه او حكايتيه كما وصفهما، الصورة الأخيرة في الالبوم الأخير وإلى الجحيم أيها الليلك. وأما في المسرح فقد ترجم سميح مسرحية من ابداع الألماني برتولد برخت وله مسرحية عنوانها قرقاش، وهو للحقيقة وسّع وأضاف في أعماله المسرحية هذه، ما يدُل تمام الدلالة على أنه أراد أن يكون صاحب رسالة، شاملة، لا تتنازل عن كينونتها الإنسانية السياسية المتكاملة، وتحاول أن تقدّمها بأفضل إطار ممكن. بقي أن أشير الرسائل بين شطري البرتقالة، بين سميح القاسم ومحمود درويش، التي صدرت بعد نشرها منجمة في صحيفة الاتحاد، في كتاب حمل العنوان ذاته، وفي هذا السياق أسجّل ملاحظتين إحداهما انني كنت شاهدًا على نشر هاته الرسائل، اذ كنت أعمل مُساعدًا لمحرّر الاتحاد الادبي آنذاك الكاتب الصديق محمد على طه، وللتاريخ أذكر أنه هو مَن اطلق عليها عنوان رسائل بين شقي البرتقالة، أما الملاحظة الاخرى فهي أنه بإمكان مَن يقرأ هاته الرسائل، أن يرى وربّما يلمس لمس العين والفكر، أنه إنما يقف أمام عالمين وتجربتين مختلفتين، لكلٍّ منهما رائحته، نكهته ولونه الخاص به.

في المجمل، بإمكاني القول إن شاعرّنا سميح القاسم، كان صاحب رسالة وإنه توسّل بكلّ ما ملكت يده، ايصالها إلى عناوينها الحقيقية، لهذا استحق أن يكتب عنه الشُعراء في ذكراه العاشرة، ومنهم عناد جابر، ناظم حسون وعبد الرحمن حوراني. أما الصديقة سهاد كبها فقد اجزلت العطاء، بمبادرتها المباركة إقامة معرض يُقدّم فيه مَن يريد من الفنانين التشكيليين لوحة تصوّر شاعرنا الكبير، أو تصوِّر جانبًا خاصًا، او معينًا من مجالات اهتماماته، ومنها غرامُه الدائم بالولّاعات، وجمعه إياها طوال أيام حياته.

***

ناجي ظاهر

 

أود التأكيد بدايةً أننا عندما نفتح صفحة قصيدة النثر في أدبنا العربي الحديث، وفي أدينا المحلي خاصة، إنما نفتح واحدة من أصعب صفحات هذا الادب، فقد اتاحت قصيدة النثر المجال واسعًا امام كلّ من تمنّى أن يحظى بلقب شاعر، دون أي مؤهلات ودون أي إمكانيات ثقافية، عادة ما بتطلبها الادب عامة والشعر خاصة، ودون أي معرفة بفن القول، فراح مَن يعرف ومن لا يعرف، يكتب ما يعنّ على باله من تُرّهات وكلام فارغ بل يُسمن ولا يُغني، واصفًا ما يكتبه بأنه شعر وواصفًا نفسه بصفة الشاعر، الامر الذي دفع بالكثيرين مِن مُحبي الشعر والادب عامة، وكاتب هذه السطور واحد منهم، للانصراف عن قراءة الشعر، لما يُقدّمه "رواد" قصيدة النثر من كلام مُنفر، لا يُرضي سوى من يكتبه وآخرين ممن لا معرفة لهم بالشعر والادب عامة، لقد اساءت قصيدة النثر إلى الشعر، صارفةً مُحبيه عنه وعن ابوابه المُستباحة للجميع وفي طليعتهم مَن لا علم لهم بفن القول الشعر.. ولو بالحدّ الادنى.

هكذا بقي ما قرأناه واطّلعنا عليه من قصيدة النثر، مُجرّد تهويمات في فراغ لا حدود له، وكلام يناطح ذاته ولا يُخاطب الذائقة الأدبية العامة، إلا في حدود ضيّقة جدًا كما سلف، وهو ما دفعنا للعودة إلى النظر في الأسباب والمسببات الكامنة وراء هذا الانصراف عن الشعر وعن متابعته وقراءته مِن قبل الكثيرين، حدّ أن الناشرين، شرعوا في رفض طباعة المجموعات الشعرية، شاملين ضمن رفضهم هذا كلّ ما يُقترح عليهم للطباعة في كتاب، حتى لو كان من الشعر الجميل. هناك بالطبع العديد من الأسباب والمسببات لانصراف الكثيرين عن قراءة الشعر، غير تُرّهات قصيدة النثر وتابعتها قصيدة الهايكو. من أسباب هذا الانصراف هيمنة النوع الادبي الروائي على الساحتين العربية والأجنبية، واقتصار الجوائز على الرواية، لكن هذا ليس موضوعنا حاليا، لذا نتجاوز عنه عائدين إلى موضوعنا.. 

كما لكلّ ظاهرة تتعلّق بالأدب طرفان، أحدهما ذاتي والآخر موضوعي، كما ترى اخي القارئ، من المؤكد ان الانصراف عن قراءة الشعر، في صميمه قصيدة النثر، لا يشذ عن هذه القاعدة، ممثلة في العاملين الذاتي والموضوعي، بما انه ليس بإمكاننا معالجة الجانب الموضوعي، ممثلا بالقراء أولًا والناشرين والأوضاع العامة ثانيا، فإننا سنقصر حديثنا فيما يلي على العامل الذاتي في هذه القضية، قضية قصيدة النثر، الشائكة والشائقة في الآن ذاته. فما هو وضع هذه القصيدة، ما هو موقعها من الابداع الادبي عامة، ولماذا أدت دورًا هدامًا، أرى انه دفع الكثيرين او ساهم في دفعهم للتخفي والابتعاد عن قراءة الشعر. فيما يلي أقدّم اجتهادي الخاص في هذه المشكلة العويصة.

* تعتبر قصيدة النثر، قصيدة غريبة في ادبنا العربي الحديث، وقد يفاجأ البعض إذا ما قلنا له إن وضعها هذا في الآداب الأجنبية، لا يختلف عن وضعها في ادبنا، ذلك انها ما زالت هنا وهناك، شأنها شأن موسيقى الجاز، غريبة وتبحث لها عن مكان بين غيرها من الأنواع الأدبية، ومع استثناءات قليلة ذكرنا منها الشاعر الإنجليزي والت ويتمان صاحب أوراق العشب، وعدد قليل من الشعراء، بهذه اللغة او تلك، فإنه لا يوجد شعراء حقيقيون يكتبون هذه القصيدة، يزيد في هذه المعضلة تعقيدًا، أن ما نقرأه من النماذج التي تُكتب وتُنشر من هذا النوع الشعري، لا يوجد له أي أساس أو أصل في تراثنا العربي القديم، وهو ما يعني أنه غريب وهجين على هذا التراث، فماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن قصيدة النثر ما هي الا بضاعة مستوردة، وليست أصيلة، وهنا قد يقول معترض، ولماذا نحرم أنفسنا ونمنعها من التأثر بثقافات اخرى، خاصة وأن العالم بات هذه الفترة أقل من قرية صغيرة، ربما عرفة صغيرة. فنرد عليه قائلين، إن ما تقوله صحيح إلى حدّ بعيد، لكن ألا تلاحظ معي أنه يوجد في العالم تعدديات ثقافية وأن كلًا مِن الثقافات العالمية تحاول أن تُحافظ على خصوصيتها في داخل الكلّ العالمي/ او العولمة؟.. ثم أليس مِن المُثير أن ما نقراه مُترجمًا من الشعر الأجنبي عادة ما يتفوّق على ما نقرأه من قصيدة النثر العربية؟.. أما فيما يتعلّق بقصيدة الهايكو** الأخت القريبة من قصيدة النثر، فإنها نوع شعري ياباني، تدفق إلى الساحة الأدبية الشعرية العربية بعد صدور كتاب ضمّ نماذج من الهايكو الياباني***، فاندفع مَن يعرف ومَن لا يعرف يكتب هذا النوع من الشعر، متناسيًا، في الاغلب عن جهل، أن لهذا النوع الشعري في لغته قواعد واسس، وكاتبًا فيه تُرّهات ما أنزل الله بها من سلطان، وكأنما تُراثنا العربي القديم، قد خلا مما يُمكننا أن نطوره، نضيف اليه ونقدمه من كتابات أدبية.

* يدّعي كتاب قصيدة النثر أنهم إنما يُريدون التجديد، وأن الاستسلام إلى طريقة واحدة ووحيدة في التعبير الشعري، يدُل في أبسط ما يدُل عليه، على محدودية تكاد تصل حدّ المُحاصرة الأدبية، وسؤالنا إلى هؤلاء هو: ألا توجد قيود وحدود وأسس لكلّ إنتاج أدبي في أي من اللغات؟.. ثم وهذا هو السؤال الأولى بالطرح، إذا أردت أن تُجدّد يا أخي، ألا يُفترض فيك أن تعرف ما تجدد فيه وتضيف إليه؟.. وهل انقلب مؤشر التجديد إلى مُجرّد اعتراضات لا معنى لها ولا مذاق، إن التجديد أيها السادة يحتاج الى معرفة مُتعمّقة لما نجدّد فيه وما نضيف إليه، وهنا اذكركم، بأن التجديد الذي أحدثته الموشحات الاندلسية في الشعر العربي، تطلّبت من أصحابها ان يكونوا على معرفة بالشعر العربي القديم، وهكذا ولد الموشح ابنا حقيقيًا وجديرًا للشعر العربي وليس مسخا هجينًا، كل ما يتطلّبه هو قِلةُ المعرفة ورصف الكلمات إلى جانب بعضها بعضًا وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. لقد ذكرت في هذا السياق، في مقال سابق، أن كلّ من عرفتهم مِن أعلام قصيدة النثر، في بلادنا وفي الخارج، إنما توجّهوا إلى قصيدة النثر عن جهل وفلة معرفة، وأنا للحقيقة لم أكن أتحداهم ، وانما كنت اشير إلى ما هو أهم من التحدي، كنت أشير إلى أهمية أن يكون الإنتاج الادبي، شعرًا كان أو نثرًا، وليدًا حقيقيًا لثقافة ومعرفة، أما أن يكون الإنتاج الادبي، أيا كان نوعه، ناتجًا عن جهل وقلة معرفة، لا بالتراث ولا بالثقافة، فهذا ما لا يقبله الذوق السليم والعقل الفهيم. رحم الله زمانًا كان فيه مَن يُريد أن يكون شاعرًا أن يتبحّر في دنيا التراث والثقافة، حتى عُرف أن الشعراء هُم مَن يُجدّدون شباب اللغة واسسها، وهو ما جعلهم مراجع يُعتدّ بها وبما بدر عنها من قول رزين ومكين.

* الآن نصل إلى لُبّ الموضوع في مناقشتنا أسباب انصراف الناس عن قراءة الشعر، لا ريب في أن مُجمل الأسباب الواردة آنفًا، في مقدمتها السببان السابقان، كلّ هذه الأسباب أدت إلى تجرّؤ مَن يعرف ومَن لا يعرف إلى صعود سُلّم الشعر الصعب والطويل، وفق تعبير الشاعر العربي القديم الحُطيئة، هكذا شرع كلّ مَن وقع في مشكلة غرامية، أو اجتماعية أو أي نوع من المشاكل الكثيرة التي نعيشها جميعًا، في التوجّه إلى دفاتره وأقلامه، أو حاسوبه، والاخذ في تدبيج الكلام، غير آخذ في الحسبان ـن هناك من سيقرأه، ومن ينتظر كلمة مُعبرة ومؤثرة، وتقوم على أساس متين من المعرفة، التراثية والثقافية. وعندما يفرغ هذا المتوجه من كتابته، يسارع إلى نشرها في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي او المواقع الالكترونية، أو يجمعها في دفتر أو صفحة الكترونية، ويُرسل بها إلى ناشر ما، فلا يكون من هذا إلا أن يرفض نشرها، عندها يلح "الشاعر" على الناشر، طالبا منه طباعة مجموعته تلك، واعدًا إياه بأن يدفع له مُقابل الطباعة، وعادة ما يكون مبلغًا ضئيلًا نسبيًا، فالطباعة الديجتالية، الرقمية، سهّلت امر الطباعة، وخفّضت بالتالي مقابلها إلى أقل القليل، عندها بستجيب الناشر للشاعر ويقوم بطباعة مجموعته تلك. فماذا يفعل الشاعر الغضّ الطري وقد وجد بين يديه مئة أو مئتي نسخة من كتابه، أو مجموعته الشعرية النثرية؟.. ها هو يفعل ما يفعله الكثيرون في هذه الفترة، إنه يُبادر بالتعاون مع هذه الجهة أو تلك، مِن الجهات الأدبية وما أكثرها، وما أكثر اشغالها، إلى إقامة أمسية أدبية، يدعو ‘ليها مَن يَعرف تمام المعرفة، أنهم سيكيلون له كلّ ما أراده ورجاه من مديح وثناء، وفي نهاية الأمسية يوزّع مجموعته المطبوعة في كتاب على الحاضرين. أما البقية فقد باتت واضحة، كلٌّ مِنَ الحاضرين يأخذ نسحته مِن المجموعة الجديدة، وعادة ما يتركها على أحد المقاعد القليلة المنتشرة في القاعة، أو يأخذها إلى بيته حيث يقذف بها في مكان قصي، لعلمه أنها لن تضيف إليه جديدًا ولن تثيره.

موجز القول، ان هذا كلّه، من الأسباب التي تقف وراء كتابة قصيدة النثر، تُنفّر القارئ المُحبّ للشعر وتجعله من كارهيه والمنصرفين عنه وعن أصحابه البعيدين عن كلّ ما هو معرفة، تراث وثقافة.. ما اصعب هذا. الا يحق لنا بعد هذا كله أن نضع عنوانًا لمقالتنا هذه، كما ورد أعلاه؟.. بلى نعتقد.

***

ناجي ظاهر

......................

*الطامة في أحد تفسيراتها الداهية.

** الهايكو هو نوع من الشعر الياباني يتألف من بيات واحد فقط، وهو مكون من سبعة عشر مقطعًا صوتيًا – باليابانية- ويُكتب عادة في ثلاثة أسطر- خمسة ثم خمسة.

*** صدر كتاب الهايكو هذا قبل نحو ربع القرن ضمن سلسلة الكتب الكويتية الدورية الرائعة "ابداعات عالمية".

 

في التاسع عشر من آب مرت ذكرى استشهاد الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا حينها كانت إسبانيا تشتعل بنار الحرب الأهلية، ففي إحدى صباحات شهر آب الشديد الحرارة تم أُعدامه على يد القوات الموالية للدكتاتور (فرانكو) كان ذلك في عام ١٩٣٦ حيث امتزج دم لوركا بعرقه.

بإعدامه انطفأ آخر مصباح قمر غجري في سماء إسبانيا حيث غنّاه القمر لحظة استشهاده لقد سكت اخر عندليب اندلسي يصفه معاصروه أنه كان شابا هادئا لا تفارقه الابتسامة حتى في أحلك الظروف.

هكذا كان شهيد غرناطة الذي وُلد فيها عام ١٨٨9، شاعرا ومسرحيا ورساما وعازف بيانو ومؤلفا موسيقيا، يعده البعض من أهم شعراء القرن العشرين. كان لوركا ثوريا جمهوريا النزعة لهذا قتل على يد الفاشست وكان استشهاده قد دفع بشهرته الى الامام.

لم يتزوج ولكنه كان في قلبه العديد من النساء ممن يعملن معه في المسرح، يدهشه قصر الحمراء بغرناطة فينظر إليه بدهشة الشاعر العبقري.

تخرج لوركا من جامعة غرناطة وكان متأثرا تأثرا بالغا بالشعر العربي الأندلسي حتى ظن كثير من النقاد والمؤرخين بأنه من أصل عربي أو ربما كان عربيا من جهة الوالد فقط.

كان في رسومه متأثرا بالفنان (بيكاسو) ١٨٨١ – ١٩٧٣، ومن أصدقائه الرسام سلفادور دالي وقد أنجز لوركا الكثير من اللوحات سمي بشاعر الغجر لأنه كان محبا لأعمالهم الشعبية التي كانوا يمارسونها في غرناطة، وكشاعر رومانسي كان القمر بالنسبة له مكان ساميه بالنسبة له وقد سماه البعض بشاعر القمر.

وتتمثل أعماله الأدبية بكتاب نثري سماه (انطباعات ومشاهد) ١٩1٨ ويعد (كتاب الأشعار) ١٩٢١ أولى دواوينه الشعرية تلاه ديوان (أناشيد) ١٩٢٧، وديوان ثالث (أغاني غجرية) ١٩٢٨ اما اشهر مسرحياته فهي مسرحية (عرس الدم) ١٩٣٤.

وله ديوان شعري آخر اسمه (ديوان التماريت) ١٩٢9 وكان واضحا في هذا الديوان تأثره بالشعر العربي.

لم يهرب ولم يدخل الخوف إلى قلبه عندما دخل الفاشيون غرفته فلم يجدوا فيها غير أوراق فيها قصائده، كانت التهمة الموجهة إليه (أنه اساء بقلمه اكثر مما اساء اخرون  بمسدساتهم) اقتاد الجنود المسلحون لوركا إلى منطقة (فينزار) وأعدموه رميا بالرصاص فجر يوم ١٩ /آب / ١٩٣٦.

رثاه العديد من شعراء العرب والأجانب، رثاه الشاعر بدر شاكر السياب شاعر النخيل والأنهار ورثاه من شعراء العرب محمود درويش شاعر الزيتون والبرتقال بقصائد رائعة عبّر فيها هؤلاء الشعراء عن حبهم وإعجابهم بشاعر القمر (لوركا). قال شاعرنا السياب في قصيدته المسماة (غارسيا لوركا):

في قلبه تنور

النار فيه تطعم الجياع

و الماء من جحيمه يفور

طوفانه يطهر الأرض من الشرور

و مقلتاه تنسجان من لظى شراع

تجمعان من مغازل المطر

خيوطه ومن عيون تقدح الشرر

و من ثدي الأمهات ساعة الرضاع

و من مدى تسيل مها لذة الثمر

ومن مدى للقابلات تقطع السرر

ومن مدى الغزاة وهي تمضغ الشعاع

شراعة الندي كالقمر

شراعه القوي كالحجر

شراعه السريع مثل لمحة البصر

شراعه الأخضر كالربيع

الأحمر الخضيب من نجيع

كأنه زورق طفل مزق الكتاب

يملا مما فيه بالزوارق النهر

كأنه شراع كولمبس في العباب

كأنه القدر

وهذه قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش بعنوان (لوركا) وهي رباعية رائعة:

عفو زهر الدم يا لوركا وشمس في يديك

و صليب يرتدي نار قصيدة

أجمل الفرسان في الليل يحجون إليك

بشهيد وشهيدة

هكذا الشاعر زلزال وإعصار مياه

و رياح ان زار

يهمس الشارع للشارع قد مرت خطاه

فتطاير ياحجر

هكذا الشاعر موسيقى وترتيل صلاة

و نسيم إن همس

يأخذ الحسناء في لين إليه

و له الأقمار عش إن جلس

عازف الجيتار في الليل يجوب الطرقات

و يغني في الخفاء

و بأشعارك يا لوركا يلم الصدقات

من عيون البؤساء

نسي النسيان أن يمشي على ضوء دمك

فاكتست بالدم أزهار القمر

أنبل الأسياف حرف من فمك

عن أناشيد الغجر.

المجد والخلود للشاعر الذي كانت حياته لغزا ومماته لغزا.

***

غريب دوحي

 

ايهما افضل، الرواية متشعبة الاحداث متعددة الابعاد، / أم الرواية المُركّزة المُكثفة ذات الاحداث القليلة لكن المُعمقة؟.. سؤال شغل العديدين من الكتاب والقراء على حدّ سواء، ما جعل هؤلاء وأولئك ينقسمون إلى قسمين، أحدهما يأخذ بهذا الرأي والآخر يأخذ بالرأي الآخر، بناء على هذا انقسم القراء إلى قسمين أو مجموعتين، احداهما تميل إلى رواية الاكشن والاثارة متعدّدة الاحداث، والأخرى تفضّل الرواية قليلة الاحداث مُركّزتها وذات القدرة الخاصة على الغوص في مجاهل النفس البشرية ومتاهاتها المُركّبة المعقدة.

بما أن هذا السؤال احتوى ما احتواه من خلافات بين الكتاب أولًا والقراء ثانيًا، فإنه لا بُدّ لنا من العودة إلى التساؤل الخالد عن الماهية، وهي هنا ماهية وجوهر الكتابة الروائية، فماذا يُريد الروائي حين يُقدم على كتابة الرواية؟.. وهل هو يريد ان يوصل رسالة ما تشغله وتحيّر باله؟.. هل تشعُّب الاحداث هو ما يُثير الكاتب وقارئ الرواية بصورة عامة؟.. فيما يلي نطرح رأيين متخالفين ومتعارضين، ونقدّم على كلّ منهما مثالًا شائًعا منتشرًا ومقبولًا، مُردفين هذين الرأيين براي اخر يتوسّطهما. بعد ذلك نتوصل الى نتيجة، نأمل ان تكون منوّرة ومُرضية للجميع كتابا وقراء.

ممن يأخذ بالرأي القائل بأهمية الاحداث المتشعّبة المتعدّدة والمثيرة، بإمكاننا الإشارة إلى قراء الروايات البوليسية، لكلّ من مؤلفيها مثالًا لا حصرًا كونان دويل، او اجاثا كريستي، او جورج سيمنون، ومَن إليهم مِن كُتّاب الرواية البوليسية.. فهؤلاء القُراء ينتشرون في شتى بقاع العالم، ويفرضون وجودهم الثقيل في إقبالهم على قراءة الروايات المذكورة، حدّ أن ما يُوزع من هذه الروايات يتجاوز في اعداده الآلاف والملايين من النُسخ!.. ويُذكر في هذا السياق أن هناك كُتّابًا من ذوي الوزن الثقيل، أمثال الفيلسوف الفرنسي الوجودي البارز جان بول سارتر كان من قراء هذه الروايات، وقد لا نبتعد كثيرًا في تبيان مواقف أصحاب هذا الرأي إذا ما أشرنا إلى العديد من الروايات العالمية البارزة والمقروءة في شتى اصقاع العالم، مثل الحرب والسلام للكاتب الروسي ليو تولستوي، او رواية فاتنة الرجال للكاتب الأمريكي جون شتاينبك، تنتمي إلى هذا النوع، متعدد الاحداث متشعبها، كما سبقت الإشارة. فالأولى تتحدث عن الاحتلال الفرنسي للبلاد الروسية، والثانية تتحدث عن القراصنة ومغامراتهم البحرية المتعددة والمثيرة.

في المقابل لهذا الرأي هناك مَن يرى خلافًا لهذا الرأي، فيذهب إلى أن التغلغل في أعماق النفس البشرية والتسلّل إلى متاهاتها بعيدة الاغوار، هُم المحقون. من هؤلاء نشير إلى قُرّاء الروايات الحديثة التي تمّ اعتبارها منذ صدورها قبل نحو المائة عام، مثل رواية يوليسيس للكاتب الايرلندي جيمس جويس، او رواية البحث عن الزمن الضائع للكاتب الفرنسي مارسيل بروست، الذي اعتبره العشرات من النقاد والدارسين الادبيين، علامة فارقة في تاريخ الرواية، فهاتان الروايتان اللتان تُعتبران مِن العلامات الفارقة في تاريخ الرواية الحديثة، رواية القرن العشرين تحديدًا، وكلٌّ منهما تحتوي القليل من الاحداث الخارجية/ الاكشن، بل إن رواية يوليسيس تدور احداثها في يوم واحد، 24 ساعة فقط، علما أنها رواية ضخمة تقع في مجلدين اثنين.

بين هذا الرأي وذاك وُجد رأي آخر، يمكن اعتباره وسطيًا، هو رأي العديد من الكاتب والباحثين الادبيين، ينتصب واقفا في مقدمتهم الإنجليزي ليون إيدل، الذي ضمّنه كتابه الفاتن عن" القصة السيكولوجية"، مؤلف هذا الكتاب يرى، بكثير من الحق، أن الادب ما هو إلا تجربة إنسانية يصوّرها صاحبها الكاتب ويعبّر عنها في رواية قد تكون ذات أحداث متشعّبة مثل رواية الحرب والسلام المذكورة آنفًا، أو قد تكون رواية تيار الوعي، مثل رواية عوليس المشار إليها سابقًا. فماذا أراد صاحب هذا الرأي أن يقول؟.. يُجيب هو عن هذا السؤال قائلًا ما مُفاده، إن رواية الحرب والسلام، مثلًا، تختلف عن سواها من العشرات والآلاف من الروايات التي كتبها جنود مُضمّنين إياها ذكرياتهم بكلّ ما حفلت به من أحداث بانها لم تشمل التجارب الروائية المتعمقة والرائية لعمق الحياة والحرب مثل رواية الحرب والسلام. ويذكّر هذا الرأي برأي آخر هو رأي الفيلسوف والمنظر الادبي الاغريقي العظيم أرسطو طاليس في كتابه الخالد عن" الشعر". فهو يرى أن الكتابة الأدبية بعامّة إنما تسعى إلى نقل تجربة مُتعمّقة ووُجهة نظر حسّاسة متخيّلة ومُميّزة في عرض صاحبها لها، بمعنى أن الكاتب المُبدع إنما يصوّر ويجسّد فيما يُنتجه من أعمال أدبية ما هو مُحتمل الوقوع وليس ما سبق وحدث!

إلى ماذا يُمكننا أن نَخلُصَ مِن هذه الآراء المتضاربة، المتفارقة، تباعدًا وتقاربًا؟.. يُمكننا أن نَخلص إلى الرأي التالي، ممثّلًا في عدد من النفاط، هي:

*ان العمل الروائي، قد يكون قليل الاحداث وقد يكون في المقابل مُتعدّدها، غير أنه لا هذا الرأي يحسم النفاش بين المختلفين، وإنما يحسمه العُمق في تناول التجربة الإنسانية المتخيّلة والنامية وفق حَبكة أحسن صائغها نسج أطرافها، وقدّمها إلينا نحن القراء، على طبق من عُمق في التناول ودقة في العرض، وهو ما يؤدي بالتالي إلى إحداث ما يرمي إليه كاتب الرواية من تأثير وأثر في نفوس قُرّائه. علمًا أن هناك نقادًا يتحفّظون على رواية الاكشن/ أو البوليسية ويخرجونها بالتالي من دائرة الاعمال الأدبية رفيعة المستوى.

* ومن هذه النقاط المُميّزة للعمل الادبي الإبداعي الروائي، أن الرواية ليست موضوعًا فحسب وإنما هي صياغة في الأساس، بدليل أن الموضوع قد يكون واسعًا، كبيرًا وشاغلًا للجميع، وعندما يُقبل على كتاباته وعرضه في رواية كاتبان، يُمكننا ملاحظة أن أحدهما أبدع أيما ابداع، وأن جظ الابداع لم يُحالف الآخر. ويُذكّر هذا بما تردّد لدى نقادنا العرب القدماء، مثل ابي عثمان ابن بحر الجاحظ، عندما قال كلامًا مفاده أن المعاني مُلقاة على قارعة الطريق، غير ان المبدع الحقيقي، هو الذي يتمكّن من تقديم صياغة مترابطة متماسكة لها.

* ومن هذه النقاط التي تُرسخ مفهوم الرواية لدى كُتّابها وقرائها على حدٍّ سواء، هو التغلغل إلى أعماق النفس البشرية، وذلك عبر تصوير التجربة المتخيلة، ومحتملة الوقوع، سواء كانت مُتعدّدة الاحداث ومُتشعبتها، أو كانت مَحدودة الاحداث مُتعمّقتها، فلكل من هذين النوعين من الروايات قراؤهما، علمًا أن قُرّاء الرواية الحديثة باتوا، كما تدُل التجارب، أقرب إلى الرواية النفسية، قليلة الاحداث لكن عميقتها، في التجربة والعرض، بدليل أن الروايتين المذكورتين آنفا، أقصد روايتي يوليسيس والبحث عن الزمن الضائع، باتتا منذ صدورهما في القرن العشرين المنصرم للتوّ، روايتي القرن والحداثة الأدبية في الآن ذاته.

***

ناجي ظاهر

اعتُبر الكاتب الأمريكي ارنست هيمنجواي (21 تموز1889/ 2 تموز1961). منذ سنوات بعيدة، في حياته وبعد مغادرته عالمنا بإرادته، واحدًا من أبرز الكتاب المبدعين باللغة الإنجليزية، وقد اتخذت روايته القصيرة "الشيخ والبحر"، منذ صدورها الأول موقعًا خاصًا في نتاجه الادبي، قليل العدد (7 روايات و6 مجموعات قصصية وكتابان نثريان)، وفير الأهمية والعمق الإبداعي. ويكفي أن نقول إن هذه الرواية القصيرة خوّلت صاحبها بعد ثلاث سنوات من صدورها، للحصول على الجائزة الأدبية الأولى في العالم وأعني بها جائزة نوبل الفرع الادبي، كما يكفي ان نقول إن طلّاب المدارس الثانوية في بلادنا دأبوا على قراءة هذه الرواية التي تُقدّم صورة لصراع الانسان مع الطبيعة منذ سنوات بعيدة.

لهذا كله ولغيره، سنتحدث فيما يلي عن هذه الرواية، محاولين الإجابة عن سؤال طالما اقلق الكثيرين في الفترة الجارية خاصة، وهو كيف كتب هيمنجواي روايته العظيمة هذه.

كان ذلك في عام 1950، عندما كان هيمنجواي يفكر فيما يودّ ان يكتب، في الفترة الراهنة، فقد سبق له وأن كتب وأصدر العديد من الروايات اللافتة في مقدمتها "وداعا للسلاح"، التي تتمحور احداثها حول الحرب الاهلية في اسبانيا، تلك الحرب التي شارك فيها همنجواي ذاته كمناضل أراد ان تتجاوز نضالاته حدود بلاده، زد على هذا كان يفكر في إرضاء ضيفين عزيزين (احدهما رجل من هوليوود والأخر ضابط من واشنطن)، حلا عليه في بيته، الجميل "فينكا فيجيا"، الواقع قرب هافانا، والذي يبعد عن سان فرانسسكو دي باولا بمئتي متر او أكثر.                      

وبينما هو يفكر في هذا وذاك، طرأت على باله فكرة طالما راودته كتابتها ولم ينفذها لسبب ما قد يتعلق بالضيوف الكثيرين الذين يتردّدون عليه زوارا في هذا الوقت او ذاك، المهم ان هذه الفكرة ألحت عليه بشكل لا يحتمل التأجيل أكثر، الامر الذي دفعه باختصار، لأن يتوجّه إلى زوجته ورفيقة دربه ماري، طالبًا منها كتابة لافتة، قلّما كتبتها ونصبتها في مدخل بيتهما، تلك اللافتة تضمنت بناء على طلب هيمنجواي جملة مفادها "يمنع الدخول دون موعد".. وكان ان وصلت الرسالة الى أولئك الضيفين وكل منهما غال وعزيز، فاستأذنا وانصرفا رغم علمهما برغبة الكاتب المشهور صديقهما المقرّب في بقائهما. اما هيمنجواي فقد دخل إلى غُرفته الخاصة، مشغله، وتناول أحد أقلام الرصاص كعادته في الكتابة، وراح يكتب بصعوبة أولًا، غير انه انطلق خلال اتضاح الفكرة الرئيسية وتحدّدها في وُجهة.. اخذت تتضح رويدًا رويدًا، يكتب بسرعة كبيرة، جاريًا وراء الاحداث التي راحت تتتالى وتترى واحدة تلو الأخرى، لاحةً عليه في كتابتها. وها هو يتصادق، ملتصقا ببطل روايته/ سانتياغو، البالغ من العمر عتيًا/ الثمانين عاما او نحوها، لكن المُحبّ للصيد والبحر، والطفل مانويل الذي رافقه دائما ولم يرافقه.. هذه المرة، نتيجة الحاح ذويه ، بل ها هو يتمكّن من تصويره بدقة تجلّ عن الوصف، وها هي الرواية تصل إلى احدى ذراها الشامخة العالية، وذلك بمشهد مواجهة بطل الرواية، العجوز او الشيخ، لسمكة قرش، ضخمة وهنا يندمج هيمنجواي في الحدث او الوصف، حدّ أن القارئ، أنا مثلا، يندمج بمتابعة احداث تلك المواجهة بكلّ ما ضمته من تفاصيل، وكأنما هو يراها، لا سيما عندما تستشيط تلك السمكة محاولة الإفلات من قبضة صيادها المُدرّبة المكينة، ويتوقّف القارئ طويلًا ومديًدا عند جُملةٍ يُطلقُها ذلك الصياد الهُمام هاتفًا بصيده المتمرّد العنيف :" انت تستطيعين ان تهزميني لكن لا يمكنك القضاء عليّ"، هكذا تشتد المعركة بين الصياد العجوز وصيده الضخم، وتنتهي المعركة بانتصار العجوز/ الانسان في معركته مع اعتى الكائنات البحرية، سمكة القرش الضخمة، ومسجلًا انتصارًا بشريًا عليها، أو على الطبيعة كما رأى بعض نقاد هذه الرواية وقرائها المتماهين معها ومع ما طرحته. ومع هذا كلّه، تنتهي الرواية بأن يجرّ صيادُنا العجوز ذو القوة غير العادية، إلى جانب قاربه تلك السمكة، لكن ما يحدث أن ما ينزف منها من دماء يستدعى بقية الأسماك للإقبال على التهام كلّ ما اكتنزت به من لحوم شهية، الامر الذي لا يُبقي لصائدها المقدام سوى هيكلها العظمى.. وهذا ما يتبينه عند وصوله الشاطئ الذي انطلق منه.

كتب هيمنجواي في الأسبوع الأول حوالي ثلاثة الاف كلمة، من أصل حوالي الثلاثين ألف كلمة (الرواية بترجمتها العربية التي قام بها ونفذها منير البعلبكي وقعت في 136 صفحة)، وتابع فيما بعد في كتابته واصفًا لنا، نحن القراء، المشهد الروائي المعيش، وكأنما نحن نراه ولا نقرأه فحسب. بعد انتهاء هيمنجواي من كتابة النسخة الأولى على عجل بقلم الرصاص كما سلف، قام بقراءتها كعادته بعد الانتهاء من أي رواية سبق له وأن كتبها، وبعد مراجعته المشدّدة هذه، قام بطباعتها كلمة كلمة، جُملة جُملة وفقرة فقرة، الامر الذي مكّنه من أن يقرّبها من الكمال.

بعد عام من كتابة هيمنجواي روايته هذه، أرسلها إلى ناشره، فقام هذا بطباعتها، وقبل أن تصدر كان القراء قد حجزوا 15 ألف نسخة منها، وبإمكاننا القول، نقلا عن مصادر أخرى موثوقة، أن الرواية سجّلت نفسها منذ البدايات الأولى لصدورها واحدة من أفضل الروايات الامريكية الصادرة آنذاك، أما الذروة التي بلغتها هذه الرواية فقد كانت عام 1954، أي بعد صدورها بعامين، وذلك بتخويلها صاحبها الحصول على الجائزة الأدبية الكبرى في العالم، جائزة نوبل للأدب.

أثار ما أحرزته هذه الرواية من نجاح الكثيرين، فزعمت صحيفة كوبية، تدعى "اكسلسيور"، ان هيمنجواي "سرق"، فكرتها من صياد كوبي عجوز في الثامنة والستين من العمر، يدعى ميغيل راميرز، رواها له، الامر الذي استفز صاحب الرواية واغضبه، فتوجه نحو بلدة ذلك العجوز الكوبي، وبيده مسجل، وعندما وقف قُبالته، راح يوجّه إليه السؤال تلو السؤال، فقام ذلك العجوز بالردّ عليه، وكانت نتيجة تلك المقابلة بين كاتب الرواية وبطلها المزعوم، تبرئة كاتبها.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم