أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

حين تلتقي ثقافتان في حديث بلا رتوش

الليل كان طويلًا، والريح تصرخ في الشوارع الخالية، تدفع المطر بعنف كأنه سوط يجلد الأرض. السماء مكفهرة، والبحر يزمجر غاضبًا، كأنه يريد التهام اليابسة. في هذا المشهد الشتوي القارس، جلستُ مع إليزابيث في مقهى صغير يطل على بحر الشمال، حيث الدفء الوحيد كان في فنجان القهوة، وفي الحوار الذي لم يكن مجرد كلمات، بل رحلة بين الشرق والغرب، بين ثقافتين تفصلهما العادات، لكن تجمعهما الإنسانية.

كانت إليزابيث تكبرني بخمسة عشر عامًا، امرأة أوروبية في منتصف الستينيات، ما زالت تبحث عن الحب بطريقتها، وفق ثقافة ترى أن المشاعر لا يجب أن تُقيّد، وأن التجربة أهم من الالتزام. أما أنا، القادم من الشرق، فقد نشأت على فكرة أن الحب ليس تجربة قابلة للتبديل، بل التزام روحي، رحلة طويلة لا يبددها الزمن. اختلافاتنا كانت جذرية، لكنها جعلت الحوار أكثر صدقًا، لا جدالًا عقيمًا، بل نقاشًا منفتحًا، تحكمه الرغبة في الفهم لا في الانتصار.

الحب بين التجربة والالتزام

إليزابيث (تكتب على هاتفها، ثم تترك الترجمة الفورية تتحدث بالعربية): الحب في ثقافتي تجربة متجددة، يمكن أن نقع في الحب مرات عديدة، أن نعيد اكتشاف أنفسنا في كل مرة. أما أنتم، فتجعلونه قيدًا أبديًا، كأن من يحب مرة لا يستطيع أن يحب مجددًا. ألا ترى أن هذا قاسٍ؟

أنا (أكتب ردي في الهاتف، فتخرج الترجمة بالألمانية بصوت آلي): الحب عندنا ليس قيدًا، بل التزام. أن تختار شخصًا واحدًا رغم كل التغيرات، رغم الزمن، رغم المغريات، هذا هو جوهر الحرية الحقيقية. الحب ليس تجربة تتكرر، بل نهر واحد، إما أن تغرق فيه، أو أن تعبره إلى الضفة الأخرى.

إليزابيث (تنظر إليّ طويلًا، ثم تكتب ردها): لكن ماذا لو جف النهر؟ ماذا لو لم يعد الحب كافيًا؟

أنا (أبتسم وأكتب): الحب الحقيقي لا يجف، لأنه ليس مجرد شعور، بل التزام روحي. الشهوة تجف، الرغبة تذبل، لكن الحب الصادق يبقى حتى لو خمدت النيران الأولى. كما قال النبي يحيى المعمدان: "أنا صارخ في البرية، جئت لأرجعكم إلى شريعة موسى." فالدين، مثل الحب، ليس مجرد قوانين، بل ناموس يحفظنا من الضياع وسط الغرائز العابرة.

إليزابيث (تتنهد، تنظر من النافذة إلى البحر الهائج، ثم تكتب): ربما أنتم في الشرق تحبون بطريقة أصعب، لكنها تبدو أكثر صدقًا.

حين يكون الحوار جسرًا بين العقول والقلوب

كان هذا أجمل تسجيل طبيعي لحوار بين ثقافتين، بلا أي تكلف أو تصنع. لم يكن هناك منتصر أو مهزوم، فقط رجل وامرأة من عالمين مختلفين، التقيا في ليلة شتاء عاصفة، وتحدثا بقلبيهما، بلا حواجز، بلا أقنعة.

في بلادي، أحنُّ إلى الماضي القريب، إلى زمن الحوار والثقافة والفهم والمعرفة. إلى أيامٍ كان فيها اختلاف الآراء لا يعني العداء، وكان الحديث الصادق جسرًا بين القلوب لا سيفًا يفصل بينها. الدنيا قصيرة، والعمر أقصر، وما زلنا نحلم أن يصبح الحوار ثقافة نعيشها في كل مجالاتنا، أن نقبل النقاش حتى في أزماتنا الحياتية، أن نفهم قبل أن نحكم، أن نصغي قبل أن نرفض.

هذه الليلة، على بحر الشمال، كانت لحظة نادرة من الصدق، لحظة أدركتُ فيها أن الفهم أهم من الاتفاق، وأن الحوار الحقيقي ليس محاولة لإقناع الآخر، بل محاولة لرؤيته كما هو، دون رتوش.

***

محمد سعد عبد اللطيف – من يوميات كاتب في بلاد الجن والملائكة

 

عرف عن العصر الذي سبق الاسلام بانه عصر المعلقات او الملاحم الشعرية التي تتغنى بالحروب والابطال وقد برع الاغريق فيها مثل الالياذه والاوديسا لشاعرهم هوميروس الذي عاش في القرن التاسع قبل الميلاد.

ولقد كان العرب في جزيرتهم شعبا من الشعراء وكان الشعر ينبض في حياتهم اليومية وكانت اشعارهم تمتزج فيها عناصر القوة والفخر بالقبيلة كما كانت فيها الحكمة والغزل ولخمر والوصف واشياء اخرى.

ومع ظهور الاسلام خفت حدة الافتخار والانتساب القبلي وحل محلها الولاء للدين الجديد فتقوقع الشعر في زاوية ضيقة وما ان حل العصر الاموي حتى اصبحت صورة الدين باهته بحيث استطاع شعراء ذلك العصر تجاوزها فاصبح الشعر شعرا سياسيا اكثر منه شعرا غزليا او وصفيا باستثناء بعض شعراء الغزل العذري مثل جميل بثينة وكثير عزة ومجنون ليلى.

وفي العصر العباسي ظهر فطاحل الشعراء الذين كانت قصائدهم تنضح حكمة وروعة وكانت تشكل موقفا حياتيا افرزته الظروف المعتمة القاسية التي كان يمر بها المجتمع العربي الاسلامي في ظل دولة متداعية يتلاعب بمقدراتها الفرس والاتراك مما ولد صراعات سياسية واقتصادية نتج عنها انتقاضات وثورات اجتماعية مثل القرامطة والزنج هزت كيان الدولة والمجتمع وتسبب في الحطاط حضاري مريع وفي ظل هذه الاجواء المدلهمة كان شعراء كالمتنبي وابو العلاء المصري وغيرهم يمثلون الشموس التي تضيئ تلك العتمة التي المت بالشعوب الاسلامية وانحطاط الفكر فيها وكان شعراء العصر العباسي بحق مرآة عكست الواقع المزري للمجتمع العربي فعبروا عنه وصوروه بأبرع الصورة فكانت قصائد رائعة بطعم المعلقات.

وهذا ما نريده من شعرائنا اليوم ان يكتبوا قصائد قوية يتغنى بها الشعب العراقي في مناسباته لتغسل قطرات دموعنا الكبيرة والتي هي بحجم ماستنا الكبيرة.

نحن بحاجة الى المعلقات جديدة بشرط ان تشكل موقفا حياتيا يقف الى جانب الحقيقة بعيدا عن نوازع العنصرية والطائفية والقبلية لقد اخترت سبعة مقاطع لسبعة شعراء من عصور مختلفة لأهمية موضوعاتها من جهة ولمساسها بحياتنا ومشاكلنا الحاضرة من جهة اخرى وهذه الابيات.

مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً

فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ

*

وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما

غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح

*

فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا

وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ

هذه الابيات قالها الشاعر ابن الصيفي وهو سعد بن محمد بن سعد صيفي التميمي الملقب بـ(حيص بيص) 492 – 574م والمعروف ايضا بشهاب الدين وشاعر اهل البيت وهو شاعر عاش في العصر العباسي له ديوان مطبوع.

أَرى كُلَّ حَيٍّ هالِكاً وَابنَ هالِكٍ

وَذا نَسَبٍ في الهالِكينَ عَريقِ

*

فَقُل لِقَريبِ الدارِ إِنَّكَ ظاعِنٌ

إِلى مَنزِلٍ نائي المَحَلِّ سَحيقِ

*

إِذا امتَحَنَ الدُنيا لَبيبٌ تَكَشَّفَت

لَهُ عَن عَدوٍّ في ثِيابِ صَديقِ

قالها الشاعر ابو نؤاس 757-814م وهو من كبار ادباء العصر العباسي، لقب بشاعر الخمرة، عاش في العصر الذهبي للخلاقة قربة الرشيد وجعله الامين شاعره، اسرف في الخمرة وللهو وتاب في اواخر ايامه، له ديوان مطبوع اجود اشعاره في الخمريات.

فُؤادٌ ما تُسَلّيهِ المُدامُ

وعُمْرٌ مثلُ ما تَهَبُ اللِّئام

*

ودَهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ

وإنْ كانتْ لهمْ جُثَثٌ ضِخام

*

أرانِبُ غَيرَ أنّهُمُ مُلُوكٌ

مُفَتَّحَةٌ عُيُونُهُمُ نِيَامُ

هذه الابيان قالها ابو الطيب المتنبي 915 -965م، عاش في عصر الحطاط الدولة العباسية، عاصر سيف الدولة الحمداني امير حلب واسرف في مدحة ومدح كافور الاخشيدي في مصر ابتغاء حصوله على الامارة، كان متكبرا شجاعا شديد الطموح محبا للمغامرات افضل اشعاره في المحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، قتل في النعمانية في طريق عودة من فارس الى بغداد.

يعيب الناس كلهم الزمانا

وما لزماننا عيب سوانا

*

نعيب زماننا والعيب فينا

ولو نطق الزمان اذن هجانا

*

ذئاب كلنا فى زى ناس

فسبحان الذى فيه برانا

*

يعاف الذئب يأكل لحم ذئب   

ويأكل بعضنا بعضا عيانا

قالها شاعر عباسي يسمى (ابن لنكك) وهو شاعر بصري يحسب من الشعراء الماجنين او الخلعاء، وهو محمد بن محمد بن جعفر ابو الحسن المعروف بابن لنكك البصري، كان صدر ادباء البصرة في زمانه ولعله اراد ان يكون من فحول الشعراء لولا بروز شعراء اخرين وفي مقدمتهم ابو الطيب المتنبي.

***

ابو العلاء المصري 973-1057م شاعر مفكر، عاش معتزلا متزهدا متبرما بالدينا والناس، سمي رهين المحبسين لفقده بصره ولزومه البيت ثم انه لم يتزوج ولم يتقرب الى النساء لذلك غلب على شعره أتشاءم وآلكابه قال في قصيدة له يذم الزمان ويفتخر بنفسه:

ألا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعل

عَفافٌ وإقْدامٌ وحَزْمٌ ونائِل

*

تُعَدّ ذُنوبي عندَ قَوْمٍ كثيرَةً

ولا ذَنْبَ لي إلاّ العُلى والفواضِل

*

وقد سارَ ذكْري في البلادِ فمَن لهمْ

بإِخفاءِ شمسٍ ضَوْؤها مُتكامل

*

وإنــي وإن كــنتُ الأخـيرَ زمانـه ُ

لآت ٍبمــا لــم تـّسْــتطعه الأوائـلُ

*

فيــا مـوتُ زُرْ، إنَّ الحيـاة َذميمـة ٌ

ويـا نفسُ، جـِـدِّي، إن دهـرَك ِهازلُ

***

غريب دوحي

"رب صدفة خير من ألف ميعاد"

"محطة لشخصين " فلم روسي من حقبة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، القصة بعرض كوميدي يلتقي فيه حبيبان فقط في محطة قطار ولترات متكررة. كنت مع إخواني ندرس نحن الثلاث في جامعات بوخارست في الحقبة الاشتراكية قبل اكثر من أربعون عاما خلت وعلى حساب الوالد الشخصي وتلك كانت من الأمور الصعبة جدا لان الدولة العراقية كانت ترفض ان تستمر في دراستي العالية والعودة إلى الالتحاق باتون الحرب التي كانت دائرة مع الجارة ايران. وكان الله في عون المرحوم الوالد الذي تحملنا في تلك الأيام دون ان نمد يدنا لأحد ونحتاج .

كنت طالب الدكتوراه الوحيد الذي لم أغير موضوع رسالتي للدكتوراه واستمرت في البحث حول العراق فيما توجه العديد من الطلبة تغير عناوين أطروحاتهم إلى مواضيع عامة تفاديا من شحه المعلومات العلمية وصعوبة الحصول عليها من عراق تلك الأيام. نظرية الصدفة غير رياضية ولا يمكن حسابها كرقم رياضي ولا يمكنً كذلكً برهان صحتها ولكنها احتمالية ووقعوها قد يغير مجرى حياتنا.

الصفة ليست اختيارية بل تاتي بشكل غير مدروس ومخطط كنت قبل سنوات في زيارة الى تركيا لألتقي بإخوتي وقررنا الذهاب الى مدينة قونيا العاصمة التاريخية لسلاجقة الروم لزيارة مرقد الشاعر المتصوف مولانا جلال الدين الرومي البلخي وبعد الزيارة تجولنا في الساحة الملحقة بالمرقد واذا بزوجتي تخبرني بانها رأت احدى المعارف الساكنين في مدينة سويدية ولم نلتقي بهم بعقد من الزمان. تعجبنا لهذه المصادفة الغريبة حقا. يقول المثل التركي: "

يلتقي الجبال فكيف بالبشر" 

الصدفة تجمع قلوب البشر ولها تاثير سحري على مسار حياتنا ومن محاسن الصدف في حياتي في لقائي لام أولادي قبل اكثر من اربع عقود. كنت لا ازال ادرس في الجامعة في تركيا حينً قرر بعض من أصدقاء السفر الى رومانيا في نهاية العطلة الصيفية وطبعا وافقت على فكرتهم واستقبلنا قطار الشرق باتجاه بلغاريا ثم انتقلنا الى قطار اخر متجه الى بوخارست عاصمة رومانيا الاشتراكية آنذاك وكانت تكنى ب "باريس " اوربا الشرقية وكانت كذلك من نظافة وعمران شبيه بتلك البنايات في باريس وحتى قوس النصر وحياة باربسية تراه في رواد المقاهي واكل كل اللذيذ من المعجنات والأكلات ناهيك عن كونها كانت رخيصة جدا لحامل العملة الصعبة من الدولارات.

بعد جهد جهيد تمكنا من ايجاد مكان سكن اصحابنا في احدى مجمعات القسم الداخلي للطلبة حيث قضينا ليلتنا الاولى في بيت احد طلاب كلية الطب واسمه "جالاك " الذي كان كريما معنا واوانا تلك الليلة جزاه الله خيرا ولنلتقي بعدها بالعديد من الأصدقاء. ونحن جالسون في غرفة صديقي العزيز احمد وزوجته الرومانية دانا فاذا بالباب يفتح وخلفها كانت شابه شبيه تماما ب دانا اي اختها التوئم رحبت بنا بسرعة واختفت بعد ثوان. بعد ثماني سنوات وانا احضر لرسالة الدكتوراه في بوخارست شهدت فتاة صغيرة في العمر تصطحب طفلا صغيرا معها عرفت اسمها فيما بعد "سيلفيا " وقد انجبت الطفل من احد الطلبة العرب ولا ادري ان كان اردنيا أم سوريا وعلى الأكثر اسمه "عدنان " يدرس في الجامعة في احدى مدن رومانيا كانت تسير وتنظر الينا وسط العاصمة عند الحديقة الملحقة بأكاديمية المعمارية مقابل المسرح الوطني (البناء القديم) والذي جدد لاحقا . لكني كعادتي لمً اهتم بهاً مثلما اهتمام اخي الدكتور الذي كان برفقتي المهم انه تواعد معها كي يلتقيان عند المساء واقترحت ان تاتي مع احدى صديقاتها.

لم اكن انوي المجيئ الى المدينة ذلك المساء لاننا كنا نسكن في حي "دروموالتابرى " على اطراف المدينة حيث كنا نستأجر شقة سكنية بالعملة الصعبة. مخلص الكلام رجعت مع اخي في المساء والى نفس المكان وجلست على احدى المصطبات دون ان ارفق اخي الى مكان اللقاء. جاء اخي من بعيد بمعية فتاتين وعرفت احداها من ملامحها وتقدمت وقلت لها كيف انت دانا وكيف هو صحة احمد.

تعجبت الفتاة وقالت "دانا " هي أختي التوأم كيف تعرفها. بعد ان تبادلنا أطراف الحديث ذهبنا معا لمشاهدة فلم "محطة لاثنين " الذي ذكرته في بداية مقالي هذا. طبعا عرفتم انها زوجتي ام شيرين ولا تزال دانا واحمد يعيشان معا في كندا ومنذ اكثر من خمس عقود.

الصدفة تلعب دورا أساسيا في تغير مجرى حياتنا أحيانا وقد وصلنا اليوم إلى عائلة تضم اكثر من أربعون شخصا نعيش جميعا في مملكة السويد بحرية وأمان.

***

د. توفيق رفيق التونجي - الأندلس

 ٢٠٢٥

... لم تكن حكايتي مع صانعة الذكريات عابرة باللحظة، وانتهى الكشف بصياغة أسماء المسكنات المُبنجة، بل كانت تتمسك برفق السلوك، ومعاندة في مجالستي، وتتبع مستويات وضعيتي الذاتية بغاية اكتساب ولو أجزاء متقطعة من ذكريات ذاكرتي. في يوم ما، وأنا أسبح تفكيرا بعمق فجوات حياتي، كانت صانعة الذكريات تُراقبني عن كثب. تلمح تغيرات قسمات وجهي الجارية، وحركاتي الذاتية المتموجة بالأناة. نَظرتْ في عيني وقالت: يا صديقي، هذا هو اليوم الذي سيتغير عالمك إلى الأبد!!! كانت حقيقة مفزعة، وخلتها تُمارس تذويب جليد السؤال واقتناصي عند الجواب الماكر، ولكنها كانت صارمة في تتبع مصفوفة حياتي الغائبة والحاضرة.

كنت خائفا من فضح كل أسراري ما خفي منها وما ظهر. كنت أعرف أن الذكريات لا تقيم فينا بل تُغلفنا بالتفتح، وتنال منَّا حَمولات من الإكراه، وأسفار أوزار الماضي. في جلستها الدانية من هامة رأسي المائل للخلف فوق سرير غير مريح بالتمام، كانت صانعة الذكريات تشد على جبهة رأسي بمسح العرق المتدفق في عز فصل البرد القارس. كانت تنظر إلي باستحياء ممَّا قد يفضح تخمينات ترسبات الماضي، لكني بحق كنت واثقا من أمري، فلعمري مارست الظلم ولا التعدي ولا نهب الأرزاق.

لم أشعر البتة أن صانعة الذكريات تتلاعب بمشاعري الداخلية بالتنويم. لم أفطن أنها تلعب على إخراج تفكيري الباطني من علبة الصندوق آمنا مطمئنا. لم أكن أقدر على مجاراة سياسة الرفض والتراجع وراء. فقد امتلكتني بسحرها كليا، وفتحت أقفال بوابات من أسراري. حينها شعرت أنها استدعت ذكرياتي الغائبة، كانت تنشد لازمة متقطعة بلحن من فيروز اللبنانية " أعطني الناي وغَنِّ، فالغنا سرُّ الوجود، وأنينُ النَّاي يبقى بعدَ أن يفنى الوجود..."

قالت: لا تخف يا صاحبي الجميع منَّا ارتكب أخطاء متعددة!!! كنت أعرف أنها تستسهل علي استرجاع ذكرياتي الموحلة في الألم والوجع والمتناقضات. أمدتني بفنجان شفاف من عطر بن، باتت رائحته قهوته تسكن الغرفة بنسمات مطيعة لارتشافها، وبزيادة سكر لدمغتها المرَّة. آه يا صديقي ...يا من أبكي معه عن تلك الذكريات المحزنة التي تختزنها بالتَّكفُّفِ، وتحجر دمع المقلة... يا من أتعاطف معه طواعية، وبلا مقدمات، ولن أقدر على نشر غسيل ذكرياتك كليا، فإن فعلت ستستلم للموت السريع يا صديقي العزيز.

بصدق يا صديقي، الناس تهرول نحو ما يريدون تصديقه بلا تكلف المعرفة السبقية، لكنهم يرفضون تلك الذكريات التي قد تصل إليهم فجأة ومشتتة الأطراف، وقد تطوح بهم يا صديقي  أرضا بلا حركة، مثل فاقد الوعي الفجائي من كفاف نسبة السكر في الدم. كل ذكرياتك يا صديقي محفوفة بالمخاطر والانتكاسات. كل ذكريات حلمك يا صديقي تسربت منك يوما وأنت في غفلة عن أمرك نائما، وفي الصبح كان الفجع المطيح بك في مستنقع الزمن الماضي. اليوم يا صاحبي، لدينا خيارات بسيطة وخفيفة لنفض الغبار عنها، وإعادة ترميمها ببقايا ملامح سعادة كانت حاضرة، فكل رايات الثوريين المشاكسين قد ترفع أمانيك عند الاسترجاع، ولن تماثل تلك الأضرحة الوهمية التي لا تسمن ولا تغني عن غفران ولا تداوي من مَسِّ جن الأرض السفلية.

كنت عارفا بالتأكيد أن فحصها الدقيق يسير وفق أنماط المقاييس الحيوية الحديثة، من خلال مساءلتي السلوكية والمادية، من خلال الكشف عن بيانات ومخزون بصمة ذكرياتي الحصينة والمتمركزة بالتخزين. كانت كل إيماءات صانعة الذكريات التمويهية، تحدد سلوكا لفك حصار جنود ذاكرتي (الشداد الغلاظ)، وفتح قفل تراكمات حياتي الماضية المتنوعة بين الفرح والوجع والمتنافرات.

كان مخاوفي تزداد حيطة، ولكني في قرار نفسي كنت أريد التخلص بشكل عام عن أجزاء منها، كانت تدمي يومياتي، وتُفحم ممرات حياتي الباقية في علم الغيب. كانت صانعة الذكريات تبحث في أغراض ذكرياتي على تحديد نوعية هويتي، ولما لا المصادقة بنمط المقاييس الحيوية عليها كأمر جديد يريح مشاعري من كل متاعب هَمِّ الحياة.

كنت مطمئن العقل والمشاعر، وبأن بيانات ذاكرتي لن تسرق، مادامت صانعة الذكريات تقوم على تحصين وتنقيح شفرات ذاكرتي بالحيطة والاستباقية. ابتسمتْ لأول مرة من تلك الرقابة الاستبدادية التي أخزن بها ذكرياتي، وقالت: أحسنت الظن فلن أخذلك يا صديقي بالمرة ...

(يتبع)

***

محسن الأكرمين

 

إلى محمد ايت لعميم صديقا وإنسانا

يتمعن الناظر فيما سيؤول إليه حاله، لو افتقد روح ذاكرته؟ كيف يحيا، وكيف يدرأ عن عزلته شح الطلع ومكانة الارتقاء؟ . والأعجب أن الذاكرة لا تفوق نباهة، ولا استذكاء، نبش لهيبها وإرواءه بما تجبل النفس على التحبيب والإفراغ النوسطالجي، وما نستحضره اليوم في هذه اللحظة الجميلة، ونحن بإزاء تكريم صديقنا سي محمد ايت لعميم، هو جزء من هذا التصور، حيث نعمد جميعنا إلى تحريك قٍدر الذاكرة وتفييئها، لنعيد إثارة الأحاسيس الثاوية فينا، مندسين تحت لفيف شجرها المفتون بأسرار الصداقة ومحبة الكتابة والحرص على استمرار ولعنا بالثقافة وشجونها، كما أحلامنا وطموحاتنا.

لا أذكر شيئا من معين هذه المسيرة الطويلة، من رفقتي بالمكرم، منذ ما يقرب الثلاثين سنة ونيف، إلا وأذكر ما يملأ بؤبؤ تاريخ من علاقة آسرة بالثقافة والكتاب. ولا أذكر ايت لعميم، إلا وأذكر صورته متأبطا كتابا أو ملتحفا رواية أو مكتشفا قولة في معبر الفكر وسداد الكلٍم. والأغلب أنني أذهب إليه مشمرا بهاجس الاستماع وتلقي الجديد أكثر من أي شيء آخر. وهو إذ يفطن إلى ذلك، لا يحجب عني البتة، رؤيته كمستبصر حكيم، يتقرب بما يقول لوجه المعطي، ضاربا بالأمثال ومتعللا بيواقيت المنثور في كل بقاع الإبداع، يمخر عباب المسك، كأنه يروي الأحجار الصماء من يبوسة الوهن وانفراط التأمل.

وإذ أتذكر يوما ونحن ذاهبان مشيا لملاقاة خوان غويتوسولو بداية تسعينيات القرن الماضي، أرخي بطول سمعي وبصري متوثبا، كي ألقٍف ما تعج به سنارته، على مفرق شغف الرجل وانتباته الجديد على أرض جامع الفنا، يحكي لي ايت لعميم عن سرديات صاحب ثلاثية "السيرك" (1957) و"أعياد" (1958) و"الاستفاقة من السَّكرة"(1958)، عاشق اللغة العربية الحالم بـ"سرفانتيس"، وكيف كان يتباهى بهويته المراكشية وعشقه الأبدي لدروبها وحوارييها وناسها البسطاء وتراثها المعماري الخالد.

يتوق ايت لعميم دوما ، إلى مخالفة أقرانه من التراجمة والنقاد والباحثين، في البحث المضني عن انوجاد استثنائي يليق بقيمة الأدب وجواهره المتفردة. ولا يجد مانعا من ارتقاء هذا الاختيار الصعب، شرط أن تكون جودة المأمول أوفر نفعا وتنفعا، من أن يطاله هدر أو هشاشة. فهو مستبد بعوالم الشعريات، ذهنية كانت أو نظمية، يلحقها طوق الجمال والجلال، دون افتراق أو انتحال. فيروم معظما أبي الطيب المتنبي، الذي خصه بمكانة مرموقة في بحثه الأكاديمي لنيل الدكتوراه. وهو مبتل بقصيدة النثر وحصادها السيروري الدؤوب على طول مرمى الجدل الذي حاصرها منذ ثمانينيات القرن الماضي، ودليلنا هذا الكتاب الذي نتناول جزءا مما كسبت يداه.1078 ghalman

وهو مبهور بتاريخ المخطوط وتحقيقاته، لم يأل جهدا في الحفاظ على تراث قدوته الأول والده الفقيه طيب الله ثرا، ويزاحم كل طيب وثرى لبيب فيما يهجع إليه فؤاده ويندى. كما أنه قارئ متمكن في شؤون الفكر والأدب والفلسفة، ولا يجد أي رفض لطبيعة تكوينه وتوجهه في قياس النصوص المتقدة، أن يعول على آليات خطابات البلاغة والنقد وعلوم النحو والصرف والعلوم المجاورة لها، حتى إنك لتحن إلى طفولتك وشبابك عند استذكار فضاءات المسيد والمدرسة والجامعة، عندما كنا نتسابق لحفظ القرآن وأحاديث الرسول ومعلقات شعراء الجاهلية وغير ذلك...

هذه بعض من نثارات ما صادته ذاكرتي، كتبت بعضها في مذكرات تنتظر فرصة للخروج، وهي على وفرة أمواهها، تعترك في صدور البوح، وتتعالق في مفارز الاستيقاظ...

وهنا أتمثل قول الشاعر:

سلام على تلك الدفاتر إن لي ..

إليها غراماً فوق كل غرام

سلام عليها إن حييت وإن أمت..

فهذا وداع والدموع دوامي

 وما للجاحظ الصنديد على ذلك ببخيل، وهو الذي ترك ملحمته الحيوانية مفتونة بالكتابة والانكتاب، إذ يقول:

"من لم تكن نفقته التي تخرج على الكتب ألذ عنده من إنفاق عشاق القيان لم يبلغ في العلم مبلغاً رضياً".

***

د. مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

...................................

* مقدمة لعنوان قراءة بمناسبة الاحتفاء بكتابات الناقد والباحث د محمد ايت لعميم، التي نظمت بكلية اللغة العربية بمراكش يوم السبت 15 فبراير 2025

ما زلت أكتب بخط يدي، أصرّ على القلم الأسود، وأمام عينيّ.. حزمة أوراق تنتظر أن أستهلكها دون خوفٍ من نقصانها. أكتب شطراً واحداً أحياناً، بيتين أو سطرين أحياناً أخرى.. لا فرق.

2.

أكتب القصيدة كمن يخوض معركة مع الزمن.. أخطّ الكلمات

وأتساءل: هل ما أفعله رجعية؟.. هل صرت أنا ذاك الشاعر الذي تخطاه العصر؟

3.

لكنني لا أطمئن إلى القصائد التي تكتبها الشاشات، ولا أؤمن بالشعر الذي يولد من دون أن يلامس اليد، ولا يحمل ندوب الورق.

4.

إن الشعر عندي ملمس الحبر على الصفحة رائحة الورق، والحيرة التي تسبق كل بيت.

5.

قد يقولون عني رجعياً، لكنني أفضّل أن أكون رجعياً يحمل قلمه الأسود على أن أكون شاعراً بلا أثر، بلا هوية وبلا وجع.

6.

فالشعر قبل أن يكون كلمات هو طقس.. طقس الكتابة الذي لا ينتمي إلى زمن.. بل ينتمي إلى الروح.

***

د. جاسم الخالدي

جسد مهمل على الكانفاس، الألوان تتهامس في الزاوية العليا من اللوحة، أتساءل عن التبرير المناسب لرقص الالوان فوق جسدي وانا مرمي على الكانفاس. هل يمكنني ان أجد تعبيرا واحدا يبرر رقص الألوان على جسدي؟، بالرغم من تداخل الألوان بشكل متناغم وجميل، وتعبيرات توحي بالحيوية والحركة، لكني اجدها كأنها تتباهي بوجودها على جسدي ...!،هل من دلالة...؟ تتفاعل الألوان وهي ترقص على جسدي ينسكب بعضها على الكانفاس، هذه اشارة إلى سلاسة الحركة وتداخل الألوان وعناق حميمي، انه تعبير جميل ومؤثر! يعكس التفاعل والتوافق بين جسدي والألوان، مما يضفي بعدًا عاطفيًا إلى تكامل جسدي مع الكانفاس، يمكن أن يوحي أيضًا الى الانسجام والراحة، كما ترتاح الأجساد في قبورها، حين تكون إضافة رائعة لقائمة الموتى. التوافق والتناغم بين الألوان يشير إلى التوازن الجميل بين ألوان التراب والوان الجسد المستريح على كانفاس اللوحة في مقبرة العشاق، رغم موتي ارصد كيف تتفاعل الألوان مع بعضها وهي تعبر على جسدي بانسيابية غريبة ،تتداخل بسلاسة وتشير إلى الجميل بين الألوان واللامع، احيانا بلون داكن واحيانا مطفأ، يغلب عليه الحزن العميق يضيف له شعورا بالوحدة والحنين بإحساسً من الضياع، وكأنه غيمة من الحزن تحيط بي تعكس صراعا داخليا، تتناغم لتخلق شعورًا بالثقل والركود، تبرز في خلفية اللوحة الوان رمادية داكنة ،تعزز الإحساس بالوحدة والانعزال ،هنا تظهر كيف أن كل لون داكن يعكس جزءًا من مشاعر الحزن المعقد، تتجلى في بعض الزوايا، ولكنها سرعان ما تخفت لتعود إلى حالة من السكون والوحدة . الألوان عناصر فنية تنقل المشاعر والأحاسيس، إذا رقصت بمهارة في اللوحة، ستعكس تجارب إنسانية عميقة، لذا ساكتشف كيف يمكن للألوان ان تتراقص على لوحة الكانفاس، وكيف يعبّر عن الحزن والوحدة من خلال رقص جسد ممزق. الألوان في اللوحة ترقص بحركةً ديناميكيةً، تتداخل الألوان الداكنة مع الفاتحة لتشكل تباينًا عاليا يضيء طرفا ويذوب في الطرف الاخر في تبادل أدوار متناغم وضياع جسدي. هذا التداخل يثيره صراع داخلي، حيث تتفاعل الألوان بشكل يشبه الرقص، يعكس انفعالات النفس المتشظية. الألوان الباردة تبرر الشعور بالحزن، بينما تضفي لمسات من الألوان الدافئة مساحة من الأمل المفقود، يمثله الجسد الممزق رمزًا للتشتت والفقد. تعكس التجاعيد والخطوط العميقة في جسدي التجارب المؤلمة التي مررت بها وحفرت عميقا، تضيف بعدا للشعور بالوحدة. تعكس الألوان المظلمة المحيطة بجسدي كيف يمكن أن تكون الوحدة مؤلمة وقاتمة. رغم وجود الألوان المحيطة التي ترمز إلى الحياة خارجها، وهي تمثل حيوية الحياة وتنوع التجارب، مشاعر مختلفة، مثل الفرح، الحزن، والقلق، والتعقيد العاطفي للإنسان تشير إلى الفوضى وعدم الاستقرار في الحياة. التجارب المؤلمة أو التغيرات المفاجئة ترمز إلى حركة الحياة، مما يعكس التفاعل الاجتماعي والتواصل وتعبر عن الصراعات الداخلية والتناقضات التي تمثل بين ما نحن عليه وما نريد أن نكون، تتلاشى مع مرور الزمن وتذوب المشاعر وتتوالى الاندحارات، تعطي انطباعا عن كيف يمكن أن تتغير التجربة الإنسانية مع كل لحظة، الطبيعة غير الثابتة للواقع، حيث كل تجربة يمكن أن تؤدي إلى إعادة تشكيل مكونات اللون كي يعبر عن الحرية والتميز الذاتي. الاصفر يرمز إلى التحرر من القيود الاجتماعية والنفسية، والرمادي يمكن أن يمثل القيود التي نواجهها، سواء كانت داخلية أو خارجية، والتي تمنعنا من تحقيق كامل إمكانياتنا، كلها ترقص فوق جسدي. اشعر بالجمال والفن، في كيفية التعبير الحركي لجسدي وهو يتلوى على الكانفاس وكيف يكون وسيلة للتواصل وسيلة للتعبير مشاعري العميقة التي تعكس الفوضى والصراع، رقص الألوان يبرز التوتر بين الجمال والفوضى في الحياة. تجمعها مسافة كانها الهاوية بين الفن والفلسفة، مما لا يوفر مساحة للتفكير في كيفية تأثير التجارب الإنسانية على الوجود. الرقص يمكن أن يمثل التشظيات في تجربة الذاكرة بعد الطرق على انية الخراب، يعكس تعقيد الذاكرة البشرية وطبيعتها المتغيرة. وكيف يمكن للذكريات أن تتفتت أو تتشقق، في تفاصيل الكانفاس، على الرغم من التعبير عن فقدان التفاصيل أو عدم وضوح، فان بعض الأحداث هي تشظيات تشير إلى كيفية تداخل الالام مع بعضها، مما يؤدي إلى صعوبة تمييز ما هو حقيقي وما هو خيال. الذكريات ليست ثابتة، نعم تتغير بمرور الوقت. يمكن أن تؤدي الألوان المتناثرة بعفوية إلى إعادة تشكيل أو إعادة تفسير الذكريات القديمة، تمثل صورا للأحداث بشكل مجزأ بدلاً من سردها بشكل متسلسل، مما يعكس طبيعة الذاكرة اللونية، كيف يمكن أن تستحضر مشاعر قوية عند ومضة لون؟، مثل الحزن أو الفرح، مما يجعل الذاكرة تجربة عاطفية معقدة، يمكن أن تمثل كل قطعة متشظية جانبًا من جوانب التجربة، مما يعكس عمق الذاكرة وتأثيرها على شعور الفقدان. عندما تتلاشى الذكريات أو عندما تصبح غير متاحة، اللون الأبيض يعبر عن الحنين(الطفولة) إلى ما كان ويشير إلى كيف يمكن أن تظل بعض الذكريات غير مكتملة أو مشوشة بلون ابيض شاحب يعكس شعورا بالعجز عن استعادة الماضي بالكامل. كل شخص لديه ذكرياته الخاصة التي يمكن أن تكون مختلفة تمامًا عن الآخرين، كما كل لون له شخصيته وهويته، تعكس التجارب الفردية للألوان، ويمكن أن تجمع التشظيات مثل الأحداث التاريخية أو الثقافية لتشكل ذاكرة لونية جماعية، كي يتم تذكرها بشكل مختلف. بين الألوان تشير التشظيات إلى الجهود المبذولة لاستعادة الذكريات المفقودة أو الممزقة، تعكس قدرة الإنسان على إعادة بناء هويته من خلال ذكرياته، وتعبر عن كيف يمكن أن يتم إعادة تقييم الذكريات مع مرور الزمن، مما يؤدي إلى فهم جديد للتجارب السابقة من خلال هذه الأبعاد، يمكن أن تعكس التشظيات تجربة الذاكرة بشكل عميق ومعقد، مما يوفر مساحة للتأمل في كيفية تأثير الذكريات على فهمنا للذات. في الفن هناك العديد من التقنيات التي تُستخدم لتمثيل التشظيات، كل منها يمكن أن يعكس تجارب الذاكرة ومكوناتها المؤلمة المتعددة. اذ تعتبر اللوحة الفنية وسيلة تعبير قوية عن المشاعر والأفكار، تعكس واقع الحياة من زوايا متعددة. في هذا السياق، تبرز اللوحة المتشظية وسيلة فريدة لنقل الأحاسيس والتجارب اليومية من خلال الألوان والحركات، تتسم اللوحات المتشظية بتفاصيل غنية وألوان نابضة بالحياة، مما يمنحها طابعاً حيوياً ويؤهلها للرقص على جسدي. تمثل الألوان في هذه اللوحات مشاعر مختلفة، فالأحمر يعكس الحب أو الغضب، بينما الأزرق يرمز للهدوء أو الحزن. من خلال دمج هذه الألوان، تنشأ حركات لونية ترقص على سطح الكانفاس، تعكس ديناميكية الحياة من خلال تصوير مشاهد دوران الجسد على اللوحة، الالوان مثل الأطفال وهم يلعبون حين تتجول العائلات في الحدائق، تتجلى فيهم لحظات السعادة والمرح، تجسد التفاعل الإنساني وتبرز جمال اللحظات البسيطة. الألوان ترقص لتعبر عن الطاقة والحيوية، مما يجعل الفنان يشعر وكأنه جزء من هذا العالم الحالم، مع ذلك، يمكن أن تطرح اللوحات المتشظية تساؤلات حول الفوضى في الحياة المعاصرة. هل تعكس هذه الألوان حالة من الفوضى الداخلية؟ أم أنها تعبر عن التفاؤل والأمل؟ هنا يفتح هذا النقاش مجالاً للتأمل في كيفية تأثير الألوان على حياتنا اليومية، على مشاعرنا، في النهاية اللوحات المتشظية، تجسيد للواقع الحياتي من خلال الحركات كأنه يرقص بحرية فوق جسدي. تعكس هذه الرقصات ليس فقط اللحظات السعيدة، بل أيضًا الفوضى والتعقيد الذي يعيشه الإنسان. من هنا نكتشف أن الفن ليس مجرد تمثيل للواقع، بل هي الواقع، لوني، وكلمة الرقص توحي بحركة ديناميكية وحيوية الألوان وفكرة الوجود، حيث يُظهر البحث عن المعنى ان ليس له معنى في عالم غير مُعطاء، والرقص على الكانفاس يمكن أن يُمثل تعبيرًا عن الحرية الفردية، حتى في ظروف الإهمال.

***

غالب المسعودي

وانا أتعدى السبعين ذاكرتي لا تسعفني دوما. أصبحت كذاكرة تلك السمكة اليابانية الحمراء والتي وضعت في إناء زجاجي على الطاولة تدور فيها وتدور فرحة. توضع في إناء بجنب مواد غذائية أخرى تبدّا كلها بحرف السين في اللغة الفارسية في مناسبة عزيزة على شعوب الشرق حين يبداً الربيع وتزدهر الزهور وتخضر أغصان الشجر وتتفتح براعمها إنها يوم نوروز المجيد.

لكن اليوم الأربعاء. أتذكر تقريبا كل شيء. لكني أردت ان أتذكر ما فعلته البارحة الثلاثاء.

هاتفت زوجتي وقالت:

 لقد تحدثنا صباحا

فقلت لها أنا لا أتذكر.

 عدت احسب الساعات إلى الوراء مجرد خواء فإذا بها كورقة بيضاء دون اي فعالية او نشاط لا أتذكر حتى الفطور اما وجبة أ لغذاء فأنا متأكد انه كان فاصوليا خضراء وربما ذهبت الىً خارجً البيت لشرب قهوتي المفضلة عند "بار لوقا" في مركز مدينة برج الطاحونة الأندلسية هذا المصيف البديع والواقع على ضفاف ساحل الشمس على آلبحر الأبيض المتوسط.

 راجعت أوراق البنك علني أجد إذا كنت قد اشتريت شيء ما. أنها بيضاء لم أتبضع لم التقي باي صديق. تامل إني لا أتذكر متى بدأ المساء لكني من الغريب ان أتذكر باني شاهدت فلما عن "كونان البربر " للمثل ارنولد شفاتنزنيكر القسم الأول والثاني ثم نمت.

حلمت ربما لست متأكدا حتى من ذلك فاذا بي  اقف أمام مرآة صغيرة كالكرستال ذو إطار ذهبي صورتي تنعكس منها صافية جدا.

 لازلت لا أتذكر ما حصل البارحة. لا اعرف أحدا في هذا المكان. اجلس وحيدا في غرفتي الصغيرة أأسال الجدران عن البارحة ربما يتذكر ما حصل بين جدرانها الأربعة. كانت جارتي تحدثني عن أشياء لا افهمها ولأنها طرشا لا تسمع إلا القليل، لا أحاورها إلا لفترة ثواني لتختفي وبسرعه في شقتها. اما الجارة الأخرى فهي متمارضة على الدوام تتذكرني حين تفكر بحاجتها لبعض المال كذاك البنك الواقع عند طرف ساحة الشمس وأنا بدوري لا أتذكر لا أتذكر جيراني الآخرون في هذه العمارة يتغيرون دوما إنها تحتوى على اكثر من ستمائة شقة كيف لي ان اعرفهم جميعا اسلمً عليهم دوما بعضهم ينظرون الي بتعجب ويتركون المكان. إلا صاحبي ذو البشرة السمراء بواب العمارة "البني" وهذا اسمه هذا الإفريقي الخجول. أتحدث معه كل يوم. يقول لي أنت مثل أبي وافرح لنعته لي ب "أبي".

لا زلت لا أتذكر ما حصل البارحة الثلاثاء. كأن احدهم مسح ذاكرتي. تصور ان لا أتذكر حتى الفطور ربما لم افطر في ذلك الصباح واكتفيت بحبة من التمر العراقي وجوز جاء من هورمان.

 هل أهاتف صديقي الأيرلندي "النبيل" ربما يعرف شيئا عن يوم البارحة لأننا نلتقي تقريبا يوميا لكنه تعدى الثمانون وربما لا يتذكرني هو الأخر او بالأحرى يجب ان اذهب الىً صاحب الحانة ، لوقا لإسالة انً كنت قد شربت القهوة البارحة اه نسيت ان والداه يديران الحانة وقد تعديا الثمانون ربما سوف يتساءلون من أكون أنا بنفسي ، الان، اه نسيت ربما التقيت بأحدهم او مررت من أمام محلات شارع القديس ميخائيل المزدحم وسلمت هي علي من تكون يا ترى؟ من؟ سأسال البقال المغربي فؤاد لعلي اشتريت منه بعض الفاكهة او الجزار جمال ولم لا ربما يعرف زميلي محمد التقي به في المدرسة يحدثني عن أيام زمان لا ينسى طبعا يجمل الحوار بكلمات فرنسية والإسبانية ونغمة امازيغية قادمة من الأطلسي عبر البحار أتساءل مرة أخرى كي أتذكر يجب ان يكون هناك حادثة تربطني بها وبالمكان او الأشخاص. لكن ذاكرتي أفرغت لا أتذكر الثلاثاء. مسحت كما تمسح ذاكرة الكومبيوتر. أتوه واقول لكم معترفا متأسف، اعتذر منكم جميعا ببساطة شديدة لا أتذكر الثلاثاء هل كنت نائما؟ ربما كنت فاقد الوعي وصحا الآن. انظر إلى الرزنامة المعلقة على الحائط إنها مؤرخة 3025.

 أتساءل الآن بعد كل هذا البحث عن "الزمان" أترى مر دهر من الزمان ولا زلت ابحث عن ذاك الثلاثاء.

***

 د. توفيق رفيق التونچي الأندلس

 2025

.......................

* الصورة للرسام الاسباني سلفادور دالي.

 

غير بعيد عن الموعد العالمي المخصص للاحتفال بالحب، لن أتحدث عن طرق الاحتفال أوعن ماهية الحب ولا الحب الافتراضي أو الواقعي، لكن بالمقابل سأتساءل عن تمثل المغاربة للحب، وكيف هو حال لغة الهوى لديهم؟ وهل يمتلكون القدرة على التعبير عن حبهم؟.

غالبا ما نصادف أفكارا وا تصنيفات تجعل من الدارجة المغربية، ومفرداتها عاجزة ولا ترقى لمستوى التعبير عن الحب، لكن ببحث بسيط جدا في المعجم اللغوي المغربي، نجد أنه مليء بمفردات مرتبطة بالحب الجد معبرة، فهناك أكثر من مرادف له وكمثال: بضاض، الزعطة، العطفة، البغو، الربطة، الهوا، " و"ثايري" بالأمازيغية الخ.

وإن كان العالم بأسره قد جعل من القلب رمزا للحب، فالمغاربة أضافوا عضوا آخر ألا وهو الكبد، والذي يقابله باللغة الأمازيغية "تاسا".

ناهيك عن الذاكرة الشعبية المغربية سواء بالدارجة أو الأمازيغية، والتي تزخر بقصص وحكايات وأساطير غرامية، دون نسيان بصمة الفن المغربي بمختلف تلاوينه وتركيبته وثراءه البادخ، بدءا بالأشعار و"تاموايت" الأمازيغية التي تنبض وتتنفس حبا، ومرورا بالملحون هذا اللون التراثي المكتنز، وصولا إلى العيطة نداء القلب والتاريخ العريق، هذه الأخيرة التي تضم في ثناياها تيمات متعددة ومن بينها تيمة الحب.

مما يجعلنا أمام غنى ثقافي وفني ولغوي أيضا، يدحض معه كل فرضية تفيد أن المغربي لا يعرف للحب طريق أو لسان، مما يطرح معه التساؤل حول مكمن الخلل وهو ما يحيلنا مباشرة على التربية والتي تعاني ثغرات عدة.

كيف يمكن للإنسان أن يحب؟ ويعبر عن ذلك إذا كان يعاني من مركبات نقص، تجعله غير قادر حتى على حب نفسه والتصالح مع ذاته، هو بالأساس نقص على المستوى العاطفي وغياب الثقة في النفس، وانعدام الاهتمام، ضعف الشخصية، الخجل ...

فالحب قبل أن يكون إحساسا هو ثقافة أسرية ومجتمعية، قلما نسمع عبارات الحب والود بين الآباء وأبنائهم أو بين الزوج والزوجة أو حتى تلك المتبادلة وبين الأصدقاء والإخوة... فلكي تشيع هاته الثقافة يجب أن تنطلق من أساس مهيأ لإعطاء الحب واستقباله.

 فلا زال العديد من الناس يخلطون بين الحب والإعجاب والانجذاب الجنسي، وهذا يعتبر مشكل بحد ذاته.

وكثر هم من يظنون أن الإبتسامة والإحترام وتشابه الإختيارات، وتقديم الخدمات أو المساعدة من الطرف الآخر، حبا وهذا راجع للشح والعطش العاطفي الذي يعانيه الإنسان منذ طفولته، ويظهر مع المدة على شكل خيبات وحرمان وسوء تقدير وفهم، فيحيلنا على اضطراب العواطف والتيه وهشاشة شعورية مترسبة.

دون أن ننسى أن هناك من يستنقص من الرجل إزاء بوحه أو تعبيره عن الحب علنا وقد يطلق عليه لقب "عنيبة " وهو من المصطلحات المستجدة على دارجتنا المغربية، أما بخصوص المرأة فتقرر عدم الإقدام على الخطوة، حفاظا على كرامتها ومكانتها وإلا سميت ب " المدلولة"، قد يكون هذا راجع للإبتذال والالتباس الحاصل على مستوى العلاقات وهو موضوع آخرذو شجون، فيحق لنا هنا التساؤل المشروع، ألم يمكنا التطورو الانفتاح الحاصل من إبتداع طرق تعبيرية تشبهنا وتلائم ثقافتنا وهويتنا وتراعي خصوصيتنا؟

وسبب التساؤل راجع لموجة التقليد الأعمى أو عقدة الآخر، حتى صرنا نستعير طباع وثقافة ولغة غيرنا لنعبر عن مشاعر تخصنا.

وفي خضم الحديث دائما عن أزمة التعبير عن الوله، فقد استطاع العديد الخروج منها، وكان البديل من خلال التعبير بالافعال والمواقف والاهتمام أكثر من الأقوال، مثلا كإلقاء أسئلة ملمحة غير مصرحة من قبيل : هل أنت حزين؟ ما بال ملامحك متغيرة؟ كل جيدا، إلبس معطفك، ألديك مصروف؟ وقد يظهرها البعض من خلال التنازل عن نصيب المحب من الحلوى أو قطعة اللحم لمحبوبه على غرار أجدادنا، هي في الظاهر حركات ومواقف وأسئلة روتينية وتبدو سطحية لكنها تحمل من الحب والود الشيء العميق.

ليظهر جليا أن المشكل ليس في اللغة بل في تقنيات غرس ثقافة التعبير عن الحب وهي من الحقوق المهدورة اجتماعيا لأنها تكتسب، فإذا كانت الأسرة عاجزة عن نشر هذه الثقافة، والمدرسة تلغيها من مقرراتها والمجتمع يدينها، فلا تنتظر كائنا كان أن يحب بشكل سليم لوحده إلا من رحم ربي، فهناك من ينهل من الروايات وآخر يستعين بالأفلام والسلسلات والكثير يستفيد من تجارب الغير، وآخرون يقصدون السوشيال ميديا والبقية انصرفوا عن الحب وما جاوره.

***

احيزون سميرة

أخصائية إجتماعية ومدونة

التعريب: الأستاذة سهام حمودة (تونس)

***

الوحدة مكان صحي لتربية الروح، لكن هذا لا يعني أن تكون وحيدًا ومنعزلًا. إن إنشاء أو البحث عن عالم للعزلة هو اختيار شخصي، لذا يجب أن تكون حذرًا عند انتقاء الأفكار التي ستؤثث بها هذا العالم⸳

يمكن العثور على العزلة دون الحاجة إلى السفر إلى مكان ناء. فأنا مثلاً أحب أن أنعزل عن الناس بالذهاب إلى البرية، أو بالوصول إلى قمة صخرة مستدقة أو جبل، أو بالإبحار بالقارب على طول مجرى نهر بعيد. فهذه الأماكن تمنحني السكينة والإلهام، كما يكشف لي الصمت عن أشياء كثيرة، وتعلو همسات المخلوقات فوق صوت الريح⸳

أعتقد أن الهروب مهم لتنمية الروح، وفي عالم الوحدة يمكن أن تجد هذا الهروب. يختار البعض المشي، بينما يجده البعض الآخر في سياراتهم، وذلك بقيادتها لمسافات طويلة. حتى أن البعض يستطيعون إيجاده في غرفة مزدحمة بالناس، من خلال الانغماس في الاستماع إلى الموسيقى باستخدام سماعات الأذن. ومع ذلك، تنضج العزلة كخبرة فريدة يمر بها الفرد. فهذا الملاذ يصبح جزءًا من الروح التي تصبو إلى أن تكون في ذلك المكان، لتحرر نفسها وتتأمل في صيرورة كل شيء⸳

ستكون الأفكار في هذا المكان أكثر نقاءً ودقة، مما يقلل الفوضى التي كانت تثيرها في العقل، فلا يعود هناك تصادم بينها، وهو ما كان يسبب التشويش. بدلاً من ذلك، تتكون الأفكار بحرية، مما يتيح التعرف عليها وتسجيلها. عندئذٍ يصبح العقل التحليلي حرًا لتحليل ووزن الأفكار العميقة، في حين يصبح العقل المبدع حرًا لرؤية الجمال. أما الروح، فتصبح جزءًا من هذه العملية، لكنها تظل مختبئة في الهاوية، لا تعلن عن وجودها إلا عند الانعزال عن الناس⸳

جد مكانًا لحرمك واحرسه جيدًا، وتعرف على طاقته المقدسة، كما تعرّف على عالم الوحدة⸳

***

....................

* المصدر: تعرّف على الفلك

أدمن في قلبي السؤال، كيف يجتمع الاثنان معاً، الوردُ والنفطْ، الشيخ ذو الألف جاريةٍ.. والديمقراطية

السياط والسيوف وحاملوها.. والحفاة

رغيف الخبز الساخن.. والدولار

دين محمد في أفغانستان وإيران والبيت الأبيض

سيف علي ورامسفلد ورزمة أوراق خضراء

حدثني أيها الدهر المقيت

كيف تفيض الأرض التي تملؤها الدماء الطازجة…بالجرذان

كيف تمشي طيور الحب…مشية غربان

كيف لرحيق الجوري أن ينقلب لرائحة الجثث في كل مكان

كيف كتبوا على راية بوش لا الله إلا الله وصلوا تحتها

كيف لسيف عربي في المبغى والبغي يلمع نصله…وعند الحق في الغمد أو في قلبي ينام...

كيف …لماذا …كيف…وأين....

إلهي لقد خلقوا منك الجلاد…وماتوا على كتبٍ منسوخة …مشهورين

إلهي…ليس هناك إمام صادق في القرن العشرين.

إلا الكأس ...

أطفئ فيه وحدتي

أوضأ فيه الروح

وأضئ قناديلي.

***

كريم شنشل/ الدنمرك

 

حدثني ذو شيبةٍ بهيَّةٍ فقالَ بلسانِ ذاتٍ هيَ في شأنِ الحياةِ كانت خبيرة:

أرأيتَكَ قومَكَ فإنَّهم مالوا فقالوا كلمةَ مجَّةً سمجةً وبالخَرَاب نذيرة، قالوا: "إنَّ البنتَ في دارِ أبيها أميرة، وفي بيتِ بعلها أسيرة". وتلكَ لَعمري كلمةُ هَوجاءُ عوجاءُ عرجاء وبالإعتبارِ غيرُ جديرة. أفَنسيَ القومُ أنَّها تقضي معشارَ عُمُرِها في دلالِ أبيها وبدلائِلهِ مستَنيرة، بينما تمضي في تسعةِ أعشاره في ظلالِ زوجها وبنزيرِ سعيهِ راضية، وبغزير عيشهِ مُتنعمةٌ غيرُ مُستطيرة، أم تناسوا أنَّها فسيلةُ، والفسيلةُ لا تؤتي أكُلها إن لم تنفصمْ عن نخلتِها الكبيرة. أم لعلَّهم تغافَلوا أنَّها ما خُلِقتَ إلّا لتكون سكناً لهُ، ولهُ وحدهُ بالودادِ سَميرة. أم تَجاهَلوا أن لا عيشَاً هنيَّاَ لها بتمامٍ في مقاديره، وألا مَصيرَ لها إلّا معَ زوجِها وحيثما يكونُ مصيره. وهكذا فلقَ الخَلّاقُ ﷻ الفسائِلَ، وهكذا شَرَّعَ في فرقانهِ أطوارَهنَّ بكلماتٍ تاماتٍ جليةٍ ويسيرة.

أجَبتُ ذا الشيبةِ المتحدثِ بنَبَرَاتٍ حصينةٍ رصينةٍ وبنَظَرَاتٍ بصيرة:

بيدَ أنّي أظنُّ أنَّ قولَ الناسِ: "عندَ أبيها أميرة، وعند بعلها أسيرة"، هي عبارةُ حقٍّ وللإمتعاضِ غيرُ مثيرة، ذاكَ أنها عبارةٌ ما جاءَت عن ضوضاءَ ومتاعبَ كثيرة، بل إثرَ غوغاءَ ومصائبَ خطيرة؟

فرَمقني ذو الشيبةِ بإستياءٍ وكادَ يسحبُ من تحتي حَصيره، وشعرتُ حينَئذٍ أنّي كنتُ بين يديهِ كمثلِ تائهٍ هائمٍ ضاعَ منهُ بعيره، ثمَّ ردَّ عليَّ بقولٍ غليظٍ مزمجرٍ مُترَعٌ بزفيره:

أوَقلتَ: "ما جاءَ قولُهم من متاعبَ بل بعدَ مصائبَ خطيرة". إذاً، فاسمعْ وخذْ مني جذوةً قد تنفعُكَ في فهمِ الحقِّ ومعرفةِ معاييره، الحقِّ الذي نبذهُ الناسُ وكرهوا سُبُلَهُ، ومقتوا منه حتّى تباشيره: إنَّ المصائبَ لا تكونُ إلّا حيثُما يكونُ الباطلُ مُلوِّحاً بدنايره، وترى الناسَ لاهثينَ بدناءةٍ خلفَ دراهمِهِ وتصاويره، ومهرولينَ ببذاءةٍ وراءَ رفثِهِ وسائرينَ أينما سارَ مسيره، وناكثينَ أصيلَ إرثِ الكتابِ وهدى تعابيره، ونبيلِ كلمِ النبوَّةِ وشذا عبيره، وحانثينَ بجميل حرثِ الآباءِ وأزاهيره، ثمَّ تراهمُ مِن بعدُ أن تأتيَ إبنتُهمُ إليهمُ مكاومةً أسيرة، تراهمُ بسذاجةٍ يُوَلوِلونَ: "أنَّها عندَ أبيها أميرة، وعند بعلها أسيرة"، والحقَّ أقولُ؛ "أنَّ بنتَ الإسلامِ كانت في ديارِ أبيها أميرةً لكنها سفيرةٌ، وتكونُ في مملكةِ زوجها أميرةٌ مُكَرَّمَةٌ قريرة".

فرَدَدتُ على ذي الشيبةِ بخجلٍ وبكلماتٍ صغيرةٍ وقصيرة:

" أقرُّ أنها تمكثُ في دار أبيها كما تمكثُ السَّفيرة، بيدَ أننا اليومَ نحيا في دهرٍ عِوَجٍ قد بتَّكَ مُثلَهُ وهَتكَ ضميرَه، ومحالٌ أن نُصيِّرَها في كلا الدَّارينِ سفيرةً ثمَّ أميرة، فهل الى ذلكَ من سبيلٍ يا ذا شيبةٍ في شؤونِ الحياةِ خبيرة"؟

فردَّتِ الشَّيبةُ عليَّ بكلمةٍ جليةٍ وجهيرة؛

"الأمرُ يسيرٌ، وما عليكَ من واجبٍ ألا يا أيها الوالدُ للسَّفيرة، إلَا إنتخابَ النَّسبِ الزكيِّ لأبنتِكَ لتكونَ عندهُ أميرة، لأنَّ الأصلَ غلّابٌ مَهما حاوَلتَ إصلاحَهُ وتعميره. وإذاً، فالقرارُ الأهمُّ هو بيدِكَ أنتَ يا وليُّ السَّفيرة، وليسَ بأياديَ أبي الزوجِ ولا الزوج ولا حتّى بيدِ إبنتِك السَّفيرة. عليكَ وحدكَ يقعُ نجاحُ عشِّ حياتِها، وبيدكَ وحدكَ وحسبُ تدميره، شَرطَ أن تعيَ وتَفهمَ معانيَ" الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ" فهماً عن هدىً وبصيرة، ثمَّ لتعلمَ ثمَّ لتقرِّرَ أن؛

"خذوها طيِّبَةً مباركة، وأنعمْ بكم من قومٍ وأكرمْ بها من مصاهرة بالإحترامِ جديرة"، أو أن تعتذرَمنهمُ؛

"التمسُ منكمُ العذرَ، وليركبْ كلُّ امرئٍ منكمُ بعيره، وأتمنى لكم مصاهرةً مع عشائرَ طيِّبةٍ سوانا كثيرة".

وختاماً، لكَ أن تُدركَ يا واليَ السفيرة، أنَّهُ: ما على وليِّ المريضِ من واجبٍ إلّا اختيارِ الطبيبِ الفهيمِ النقيِّ ضميره، لكيلا يكونَ مريضهُ "فأرَ تجاربَ" بينَ أياديَ أشباهِ الأطباءَ، وساعتئذٍ يقعدُ الوليُّ ومعهُ المريض وبمجاجةٍ يوَلوِلانِ على سريره:

"إنَّ البنتَ في دارِ أبيها أميرة، وفي بيتِ بعلها أسيرة".

(المقالةُ مهداةٌ الى "ع" و"هـ". مع أزكى التهاني).

***

علي الجناني

يعيش النظام!.. تقرأ العنوان فتعتقد أنه كتاب يمجد النظام. كتاب لا يحبه من لا يحب السياسة مثلي. وبعد تردد قصير جداً، تقرر أن أكتشف ما فيه. فعنوانه يشي بما فيه: السياسة... كم أكره السياسة! لكن أؤكد لك، أيها القارئ، بعد قراءتي للكتاب أنه قرار أحمق كنت سأتخذه لو لم أكن مترجمة هذا الكتاب. فمن عاداتي السيئة، وأنا قارئة نهمة، أن أختار الكتاب من عنوانه أو من غلافه، فأي متعة أدبية كنت سأفوتها على نفسي لو لم أقرأ هذا الكتاب؟

أعددت كوبًا من القهوة التركية اللذيذة وأحضرت كعكًا كثيرًا، ثم استقبلت وجهة القراءة... في الحقيقة، لم أعرف أين ذهب كل الكعك الذي أحضرته أو متى أنهيت شرب قهوتي، فلقد انغمست عقلًا وروحًا وجسدًا في القصة الأولى من الكتاب، ثم الثانية، فالثالثة. يا الله، لقد وقعت في حب "يعيش النظام" هذا!

كنت قد قرأت رواية "الحقيقة" للأديب اللبناني محمد إقبال حرب، ونلت من قراءتها الفائدة والمتعة. وما لاحظته عند استكشاف عالم "يعيش النظام" هو أن الكاتب لم يستعمل نفس القلم الذي كتب به رواية "الحقيقة" رغم أن كلا الكتابين يحملان نفس الروح الثورية. فهي حكايات ثورية تعري جسد الحياة المتعفن، وإن بدت حكايات تقطر واقعية، وهو ما يبقي شعور الملل بعيدًا عن القارئ. إذ هي طعنة في قلب الإبداع إذا أعاد الكاتب نفسه في كل كتاب يكتبه.

كما تجدر الإشارة إلى أن المواضيع التي طرحها دكتور محمد إقبال حرب قيمة وحساسة، متغلغلة في الوجود الإنساني. هي مواضيع لا يمتلك جميع الكتاب الشجاعة لإماطة التراب عنها، ومع ذلك فقد تناولها بأسلوب جريء شيق، فيه أحيانًا من السخرية اللاذعة التي تدفعك إلى الضحك والتدبر في آن واحد. أذكر على سبيل المثال قصتي "المزاد" و"عذراء إلى الأبد"، فرغم أن القصتين تكشفان ما يحدث خلف خيام التنظيمات الإرهابية في جهادها الدموي باسم الدين، إلا أنك لن تستطيع منع نفسك من الضحك. فالأسلوب في رسم الشخصيات وتعبيرها عن أفكارها ومشاعرها بالكلمات طريف جدًا.

نعم، عند قراءة "يعيش النظام"، ستستمتع وستتعلم وستتدبر وستخاف وستدمع عيناك... مشاعر شتى قوية ستجتاحك. ومن القصص التي أثرت في نفسي قصة سمير، ذلك الكاتب الذي تحول إلى كلب آدمي في سجون النظام... في الحقيقة، وأنا أترجم القصة، لم أستطع أن أكمل ما تبقى منها من أجزاء. تركتها جانبًا لبضع أيام قبل أن أعود لأنهي مهمتي، فرسم المعاناة في السجون العربية كان مخيفًا جدًا، وما حدث في صيدنايا بسوريا نقل تلك القصة حرفيًا.

أحيانًا أتساءل كيف يستطيع الكاتب أن يتنبأ بأحداث لم تقع بعد أو أحداث مخفية أم أن بصيرته لا تشبه بصيرة الآخرين. وإن سألتني عن قصتي المفضلة، فسأخبرك بأنني أحببت كل القصص جدا وأحببت قصة "قرابين التخمة" جدا. بعد أن تقرأ الكتاب ستفهم ما أقصد، فكل القصص في "يعيش النظام" جميلة تنهمر من النهر المعرفي الثري للكاتب. هناك في الكتاب كل شيء من كل شيء، هو كتاب بعيد كل البعد عن السطحية الفكرية والفراغ الثقافي، كتاب ستفتخر لأنه يزين مكتبتك... المجد للكتابة!

***

سهام حمودة

 

"أدركت أنني كنت أرى أشياءً ستختفي سريعًا، كنت أحس بذلك؛ بعد خمس سنوات فقط لم أعد قادرا على التقاط تلك الصور".

المصور الفنان فرانسيسكو كاتالا روكا  فالس، تاراغونا، من مواليد  19 اذار، مارس 1922 - برشلونة، ووفاه الاجل  5 مارس  1998 "وضوح الرؤية" تحت هذا العنوانً نزور اليوم معرضا لهذا  للمصور الإسباني ومع مرور مائة عام على ولادته والذي يعتبر واحد من اهم الشخصيات الرئيسية في مجال التصوير الوثائقي الإنساني في إسبانيا للفترة ما بعد الحرب؛ يعتبر كذلكً أب الجيل الذي جدد اللغة الفوتوغرافية ومرجع للأجيال القادمة. العرض يشمل مئات الصور التي التقطها هذا المصور المبدع. العرض يمكن مشاهدته على قاعة مركز المعارض في مدينة ابن المدينة الساحلية البديعة الجمال والواقعة على ساحل الشمس في الأندلس.1018 Roca

 كان المصور روكا على دراية بالتصوير الفني الطليعي والاتجاهات التجريبية التي سبقت الحرب الإسبانية الأهلية، وكان مهتمًا بالبحث عن لغة جمالية معبرة يهيمن فيها الشكل على المحتوى، واختار في فترة ما بعد الحرب التصوير الفوتوغرافي الوثائقي الإنساني الذي من شأنه أن يأخذ في الاعتبار المحتوى، ويعكس الواقع الذي أحاط به فوق أي تجربة فنية. أسلوبه الذي ترسخ جذوره في الخمسينيات، يتميز برؤيته الخاصة التي تتجلى في التعامل مع وضع الكاميرا بصورة دقيقة كي يتجنب المواجهة المباشرة، واستخدام الزوايا العالية والمنخفضة، وإتقان الضوء والظل والنور، والبحث عن التوازن وإدخال الديناميكية، وكذلك في حبه الكبير وتعاطفه مع ما يصوره بالاسود والأبيض الذي يعتبر ملكا متوجا عليه. وقد أدى ذلك إلى توثيق أعمال بارزة مثل تلك التي أنجزها في العاصمة مدريد ومسقط رأسه في مدينة برشلونة، وقد نشر كتابين عام 1954. 1019 Roca

نجد في صوره توثيقا للحياة للمدينة وإنسانها، وثقافتها، وتقاليدها، وشخصياتها، وأساليب حياتها، ومصاعبها، وأحلامها أيضًا؛ ديناميكية تخبرنا عن التغيرات المتسارعة التي طرأت على وطنه وعبر الزمن على الاقتصاد والهندسة المعمارية لبلد بدأ يتعافى ببطء من ويلات الحرب الأهلية. وهكذا نجد صوراً تظهر فيها وسائل النقل مثل العربات والعربات والبغال، مع الحافلات ذات الطابقين والسيارات الفاخرة؛ الباعة الجوالون، صبية، ماسحو الأحذية، تجار الخردة، والأشخاص المتهورين الذين يستعرضون أجسامهم أو يستحمون على الشواطئ؛ كما نرى الفقر في الأحياء الفقيرة مع ثراء التصميمات الداخلية لبعض المنازل والبرجوازية الأنيقة التي تذهب إلى المدرسة الثانوية؛ صخب وضجيج بعض الشوارع مع الفراغ والوحدة في شوارع أخرى. 1020 Roca

يعد المصور روكا من أبرز المؤيدين والمبتكرين في مجال اهتمامه وممارسته للتصوير الفوتوغرافي الملون. التقط أول صورة ملونة في مستشفى كلينيك في برشلونة خلال تعاونه مع عالم الطب الشرعي سالا فاسكيز، في عام 1941، باستخدام إجراء ثلاثي الألوان للفنون التصوير. في عام 1958، بدأ باستخدام الشرائح الملونة، وفي عام 1965، بدأ البحث في مجال الألوان في مختبره، وهو العام نفسه الذي بدأ فيه المصور الأمريكي ويليام إيجليستون استخدام الفيلم السلبي الملون. منذ عام 1973 ركز عمله وأبحاثه على التصوير الفوتوغرافي الملون، والذي يعتبره لغة جديدة وشكلاً ضروريًا وطبيعيًا.

 المعرض سفر عبر التاريخ والإنسان في مملكة إسبانيا جديرة بالزيارة والتأمل.1021 Roca

 أعماله الفنية:

خلال مسيرته المهنية، قام كاتالا روكا بإخراج عدد كبير من الأفلام الوثائقية. ومن بين أفلامه، فيلم La ciudad condal en otoño (1951)، الذي حاز على جائزتين في Premi Ciutat de Barcelona، الأولى في فئة الفيلم والثانية في فئة التصوير الفوتوغرافي، وPiedras vivas (1952)، وهو فيلم وثائقي عن Sagrada Familia حاز على جائزة Ciutat de Barcelona Film والجائزة الأولى في مهرجان أنكونا السينمائي بإيطاليا. كما قام أيضًا بإخراج سلسلة من الأفلام الوثائقية السياحية لبرنامج التعرف على إسبانيا (1966) على التلفزيون الإسباني. بتكليف من مالك المعرض إيمي مايخت، قام بإخراج الفيلم الوثائقي Miró-Artigas. 1970. سيراميك الجدران وميرو-أوساكا، 1970. الرسم على الجدران. هذه جدارية عملاقة رسمها ميرو وأرتيجاس لمعرض أوساكا الدولي عام 1970. كما رسم ميرو أيضًا لوحة 73. Toiles brulées (1973)، التي تدور حول خيبة أمل الفنان في سلسلة من اللوحات المحروقة.

***

د. توفيق رفيق التونچي

رحلة يجلجل بها القلب ليرسم واحة الخشوع معطرة بنداء تلك الجوارح

تهتف الدموع تتنفس راحلة العناء الأكبر وهي تتجاوز لحظات الصبر والمشقة، تتجرد الروح من ثياب عنائها الدنيوي، لعلها تغتسل برداء المتطهرين، تطوف سبعة أشواط تحلق بعيدا صوب رحم عمقها الكوني، فهنالك في البيت العتيق تهتف الجموع، يسقط الكبرياء في بحر العبودية، بينما تتجرد الذات من نوازعها بحثا عن حقيقة سموها الأزلي، وهي تخوض منازلة التحدي، إجلالا وتكريما لمعنى الله. 

ففي المكان المقدس ذاته، يرتدي الموت كفن الحياة ليسري بهذه الروح كما ضياء (التائبين، الشاكين، الخائفين، الذاكرين، الشاكرين، العارفين، المحبين المعتصمين، المفتقرين، المتوسلين المريدين، الراغبين، المطيعين، الراجين الزاهدين) ليرسم خرائط هذا الوجود بطريقة أخرى، فالعالم عبر هذه المساحات الشاسعة يجتمع في بقعة اسمها مكة، ليثبت علاقة العابد بالمعبود. وهنالك في ذات المكان تنحني الذات تسيح في فضائها الملائكي، بينما نداء لبيك يفترش رائحة الأرض، حيث بين الصفا والمروة يتنفس الإنسان رائحة الجنة بعد أن يصبح الكبير الأكبر الأعظم وليس غيره كل ما يشغل هذا الإنسان.

***

عقيل العبود

......................

* إشارة إلى المناجاة الخمس عشر للإمام زين العابدين.

 

من اقوال بابلو بيكاسو الشهيرة عن الأثر الذي من أجله تنجز الجداريات او اللوحات، الاصيلة وذات القيمة العالية، بمضامينها، وجمالياتها، وابداعها الفني غير المصطنع كلوحات غرنيكا، و مذبحة كوريا، والمرأة الباكية، وتحديدا غرنيكا التي تشكل بمجمل تفاصيلها منطوق بيان سياسي انساني متمرد على حقائق الامر الواقع، يقول بيكاسو: " اللوحة ليست مصنوعة لتزيين الشقق انها سلاح هجومي ودفاعي ضد العدو .."   .

بعد القصف الالماني والايطالي، النازي والفاشي، لمدينة غرنيكا الواقعة في اقليم الباسك الاسباني كدعم منهما للجبهة القومية الاسبانية، بقيادة فرانكو اثناء اشتعال الحرب الاهلية 1937 بالضد من التحالف الشعبي الجمهوري، ووقوع ضحايا مدنيين كثر نتيجة القصف، باشر بابلو بيكاسو وهو في باريس، في مشروع رسم جداريته الشهيرة،غرنيكا، لتكون شاهدا محرضا، على فضاعات تلك الحرب الشرسة والممولة اوروبيا وتحديدا من ثلاثي "هتلر وموسوليني وسالازار، ديكتاتور البرتغال "  لقبر التطلع الحر لطيف واسع من فئات وطبقات المجتمع الاسباني .

تفاصيل عن غرنيكا الجدارية:

استغرق العمل في اللوحة 35 يوما، واعتمد بيكاسو في تنفيذها على اسلوب، هو خليط متجانس من المدرستين التكعيبية والسريالية، بمواد الزيت الخافت اللمعة، على قماش من الكتان، بطول ثلاث امتا رونصف، وعرض سبعة امتار وثمانون سنتمترا، اما الالوان فكانت الازرق الداكن والاسود والابيض .

يتكثف مشهد الجدارية داخل جدران غرفة هي عالم بلدة غرنيكا، على يسارها يقف ثور واسع العينين فوق أمرأة حزينة تحمل بين ذراعيها طفلا ميتا، وفي وسط الغرفة حصانا متألما مع فجوة كبيرة في جانبه وكأنه طعن برمح، وتحته جندي ميت ويده اليمنى مقطوعة وهي قابضة على سيف محطم، ويظهر اعلى الحصان من الجهة اليمنى امرأة خائفة تراقب المشهد من خلال نافذة وفي يدها مصباح مضاء باللهب، والالسنة خناجر تصرخ ..

مجلس الامن ومنسوجة غرنيكا المسترجعة!

الجدارية الاصلية موجودة في مركز الملكة صوفيا الوطني للفنون في مدريد، وقد تنقل عرضها في اغلب متاحف اوروبا منذ انجازها عام 1937 .

في عام 1955 اوصى الملياردير نيلسون روكلفر بنسج سجادة كنسخة عن لوحة غرنيكا ثم اعارها عام 1984 للامم المتحدة لتعلق في مدخل صالة مجلس الامن لتكون حاضرة في قرارات حفظ الامن والسلام العالمي، وبعد ذلك قررت عائلة روكلفر استرجعت السجادة 2021، وقد ساد المنظمة الدولية شعور بالفقدان، عبر عنه الكثير من المهتمين بواقعها وبمستقبل دورها!

***

جمال محمد تقي

 

عندما ينقضي زمن زَهَرُ الرَّبيع، ننتظر بتفاؤل رياحين الفصل القادم بأمل حلم متجدد، وللتو يبدأ عندنا المستقبل وافدا ممتدا ومتدفقا بلا انحصار. قد يلعب البعض لعبة من نوعية الحيوية (الرياضية)، ويزيد من مداومة النقر على أوتار كسب الصراع بين الماضي، وزمن الحاضر الوافد من المستقبل ومن غياهب الغيب الصامت بلا استراق للسمع. الكل مِنَّا يوسع متمنياته حتى النهاية المستحبة، ويُمني نفسه موتا بدون ألم، ولا اعتلال بالمعاناة والامتداد، والغاية هذه جزء من تفكير الرَّفاه (الذهني) الذي يحمل رمزية الإبقاء على بسمة الملمح الوجودي حاضرة، وبلا وجع يؤلم الفرحة، ويصيب الجسد بالكرب.

علاوة على ذلك، فرحلة العمر المسترسلة، نبحث فيها بالكشف عن مفاتن، ومُكنونات السعادة (المعيارية) ولو في حدها الأدنى. نبحث عن الوعي بسلم العمر الذي نرتقب (تجربة) أن تكون أدراجه سلسة الترقي وتصاعدية بالشكل المريح. فالعيش في حظوة السعادة بداية فقط، وقد تماثل نهايتها سارق اللحظات المتعة من المشكلات باحتساب (درجة الصفر على المقياس)، فلا أحد منَّا يتردد في تجديد حقينة أجزاء عمره من الفرح المليح، والبحث عن بسمة طيعة، وفكر يُسعد ولا يبكي.

فإذا كان العمر يمضي بسرعة، والحياة شحيحة في عطاياها الممتدة والمانحة، فلنمض بهمة قامة الوقفة، ونستخلص ولو جزء ميسرا من قشدة عيش الحياة بالسعادة الوفرة غير الاستهلاكية (بالهلك)، ولما لا تمتيع النفس بفضل العيش ما بعد النهاية (الإيمان بالروحانيات). نعم، أعمارنا بداياتها وحتى نهايتها في علم الغيب الرباني، ونحن نعيش بين معقوفتين تتميز بالموت والولادة والتي حتما لن تتكرر بتاتا مرتين.

فالمنع غير الوجوبي جزء من أقساط نيل السعادة، يحضر معنا جميعا، ويتوزع ما بين الجسدي والذهني والاجتماعي، و بتردد التسامي أكثر لما هو في المنهج الروحي. آخر السلبيات بالذكر، تلك الممرات العديدة التي عندها يمتلكنا الوجع، وتتقطع الأنفاس بالألم، ونضيق بحثا عن بوابات استعارة قياس السعادة المفتقدة باللزوم والمداومة. هي ذي الحياة التي علمتنا أن الولادة بكاء لأجل الحياة، وموت النهاية حتمي بدمع العيون احتسابا للفقد، فمن له بداية تكون له النهاية، بوضع نقطة والرجوع إلى السطر!!!

 من الاستعصاء على الفهم المنطقي، التفكير بالتطابقات غير الصحية ولا السليمة. التفكير في المتناقضات التي تصنع فوضى الردم لكل القطوف الدانية من غصون ثقافة السعادة (السمات المميزة). هنا يتحصل الجميع على علامات الإبهام، ونجد أن الحياة ليست رحلة سباق نحو ممرات الموت الآمن، بل هي رحلة عمر تتوازى مع قياس نقاط العمر الممتد في خط مستقيم أم متموج بين عيش السعادة بالموازاة مع فواصل الألم، وبوابات الانشطار الرديف للألم والوجع.

ومن هذا يكون استعراض التوازن قد أوشك على النهاية، وفهمنا للسعادة (النسبية) ليس نهائيا أو تاما، ولن يتبقى لدينا من أمل غير تجسير السلوكيات المستدامة والخبرات الفعلية نحو ممرات القطب الإيجابي، والمتمثل في رؤية السعادة (الرفاه الذهني/ الازدهار)، والنأي بالبعد الممكن عن الأقطاب السالبة (الكرب الذهني/ المعاناة) المتمكنة من الاعتلال وفقد الصحة الذهنية.

***

محسن الأكرمين

تحتضن الدورة الخامسة لمهرجان بابل لسينما الأنيميشن يوميّ 26- 27 /2 / 2025 أحد عشر فيلمًا تحريكيًا عراقيًا إضافة إلى 41 فيلمًا تمثل 14 دولة وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والأرجنتين، وهولندا، وجنوب أفريقيا، وإيران، ومصر، والمملكة العربية السعودية، والجزائر، وعُمان، واليمن، وتونس، وفلسطين والسودان. يقتصر هذا المقال المُقتضَب على مناقشة فيلم واحد فقط وهو "النزيل 086 "  سيناريو وإخراج شمس التميمي، رسم وتحريك أنَس الموسوي، ومدتهُ 3 دقائق و 15 ثانية لا غير. فهو أشبه بقصيدة الومضة أو اللحظة التنويرية ذات النَفَس البرقي المتقشِّف الذي يقول كل شيء في مدة زمنية قصيرة تراهن على تكثيف الحدث، وتخليص الشخصية من كل ما يُثقل كاهلها من أحمال وترهلات فائضة عن الحاجة. وكلمة "النزيل" تعني "السجين" تحديدًا الذي يحاول أن يهرب من درجات الحرارة العالية جدًا في زنزانته الصغيرة المُلتهبة، والأهمّ من ذلك أنه يعيش في السجن المُحكم بعقلية العبد الأسير لا الإنسان الحُر الطليق. فهل يستطيع هذا العبد المُكبّل أن يتحرر من سجنه الذهني قبل أن يتنفس هواء الحُرية النقي؟976 shams

لا تنطوي قصة هذا الفيلم على أي غموض أو إبهام، فالسيناريو مُتقَن إلى حدٍ كبير تُصوِّر فيه السينارست سجنًا كبيرًا مُحصنًا ترتفع فيه أبراج المراقبة العالية كما تحيطه منطقة جبلية قاحلة لا حياة فيها. وفي قلب هذا السجن المُحصّن ثمة نزيل يتفصّد عرقًا بسبب ارتفاع درجة الحرارة وثمة قطرة عرق واحدة تسقط على الأرض فتتبخر في الحال. ولترسيخ فكرة السجن وزرعها في ذاكرة المتلقّي تُرينا المخرجة الفتحة الضيّقة التي يُدخِل منها حرّاس السجن الطعامَ إلى النزلاء، وهي في الأعم الأغلب وجبة شحيحة لا تتجاوز صحن طعام صغير وكوب شاي، وثمة شوكة بلاستيكية يمكن أن يستعملها السجين كأداة حفر لتحطيم جدار السجن حتى وإن كان مُحصنًا بهذه الأداة الرمزية التي تُحيل إلى قوة الإرادة والإصرار على فتح كوّة في الجدار.977 shams

رسمت السينارست بهذه الدقائق الثلاث صورة مجسّمة لمكان السجن وشحنته بالدلالة العميقة حينما لصق السجين على جدار الزنزانة صورًا لبوسترات أفلام مهمة من بينها "المُبيد" لجيمس كاميرون،  وبوستر "الخلاص من شاوشانك" لفرانك دارابونت، وثمة صور وملصقات لفنانات مشهورات لكن ما يهمنا في فيلم "النزيل 086" هو التعالق مع فكرة الهروب التي جسّدها المخرج فرانك دارابونت في فيلم "الخلاص من شاوشانك" ونجحت المخرجة العراقية شمس التميمي في "التناص" مع معطيات الفيلم الأمريكي والإفادة من عناصر القوة فيه وتسخيرها لمصلحة فيلمها الذي يحلم فيه البطل بأشياء كثيرة من بينها الهروب، والحرية، والأمل بحياة كريمة وسعيدة. وقبل التفكير بهذه المعطيات الثلاثة كان يفكر ويحلم بالتبريد والهواء المُنعش الذي يأتيه من مكيّف الهواء المتخيل. لا شكّ في أنّ "النزيل 086" يُعيد إلى أذهان المتلقّين أحداث شخصية المصرفي آندي دوفرين المتهم بقتل زوجته وعشيقها في أربعينيات القرن العشرين حيث زُجّ به في سجن شاوشانك الخيالي المعروف بدرجة حرارته العالية جدًا. ومع أنّ آندي محكوم بالسجن المؤبد لكن بصيص الأمل بالنجاة لم يفارقه أبدًا وقد نال إعجاب السجناء الآخرين بسبب أخلاقه العالية وإرادته التي لا تُكسر.978 shams

جدير ذكره أنّ المخرجة شمس التميمي هي خرّيجة كلية الفنون الجميلة، قسم الإخراج. أنجزت عددًا من الأفلام من بينها "المفقود" الذي يتمحور على امرأة فقدت زوجها في الحرب، فبقيت بينَ بين، فلا هي أرملة، ولا هي على ذمة رجل موجود على أرض الواقع. و "خط وردي" الذي يدور حول زواج القاصرات. و "النزيل 086" هو فيلمها التحريكي الثالث. وتستعد لإنجاز فيلم أنيميشن رابع للكبار عن "قضايا المرأة".

***

عدنان حسين أحمد

 تعني سياحة المستحاثات (المتحجرات أو الأحافير – فوسيلس) قيام الأشخاص بزيارة أماكن ومناطق تواجد وانتشار المستحاثات في الطبيعة (ضفاف الأنهار، الجبال، الصحارى، وسط الثلوج، حول البراكين، المضايق الجبلية، البحيرات الضحلة، وديان الأنهر الجافة، الكهوف... الخ) أو المتاحف المعنية بحفظها وعرضها حيوانية كانت أو نباتية أو بشرية (هوموسابيانس، هومواريكتوس، الإنسان المنتصب – الإنسان الماهر، استرالوبيتك، فلورنس.. من الاسلاف) مثل متاحف المستحاثات (المتاحف الباليونتوجية) (متحف مونت سان جيورجيو في سويسرا، متحف أورورا للمستحاثات بولاية نورث كارولينا الامريكية، متحف المستحاثات في اسينوف غراد في بلغاريا) ومتاحف التاريخ الطبيعي (المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، متحف التاريخ الطبيعي البريطاني، متحف براوز فالي للتاريخ الطبيعي في تكساس) والمتاحف الجيولوجية (متحف سيدجويك لعلوم الأرض في كامبرديج، متحف لابورت للجيولوجيا في المملكة المتحدة). وقد أولت الجهات المعنية في العديد من الدول الكثير من الاهتمام باكتشاف وحفظ وعرض المستحاثات العائدة إلى حقب تاريخية وجيولوجية قديمة قد تمتد لملايين الأعوام من أجل التعريف بتراثها العلمي ولخدمة البحث العلمي ولتصبح مغريات سياحية فعالة (مجذبات سياحية)، تجذب السياح من شتى بلدان العالم (عظام، قواقع، طحالب، قشور البيض، روث، أضراس، مرجانيات، مخالب، دروع السلحفاة، بذور، بقايا شجر، ثمار، نواة... الخ). ومن المناطق الزاخرة بالمستحاثات: محمية الغابة المتحجرة بالمعادي في مصر ومدينة ارفود الصحراوية في جنوب شرق المغرب وتطاوين في اقصى الجنوب الشرقي من تونس وتندوف في الجزائر. وميسو ومضيق اولدواي الجبلي باثيوبيا وعفار في شمالها الشرقي، وحاقل وعين عمورة ومجولا في لبنان والشوبك في جنوب الأردن. ومحمية اواش بدولة جنوب افريقيا وبحيرات نهر المازون في شمال شرق البيرو وغرغشتي في رومانيا وهضاب سولايك وغوتيبي في تركيا وبغ بروك بالقرب من فريهولد في نيوجيرسي وبيورس ستيت بارك في ماريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية.

*** 

بنيامين يوخنا دانيال 

سألت، ما النهر ياجدي، أطرق هنيهة وقال، هو ذاكرة الأرض التي تنساب، خيطٌ شفيف من الحكايات التي لا تنتهي. هو المرآة التي تعكس أحلام الجبال، وتُعيد صياغة الكلمات التي همس بها الزمن في أذن الصخر. النهر ليس مجرد ماء، إنه نبض، عروق ممتدة في جسد الأرض، تحمل معها أسرار الطين، وآثار الأقدام التي مشَت ذات يومٍ بحثًا عن الخلاص.

هو العبور الذي لا يكتمل، حافةٌ بين البداية والنهاية. عند كل منعطفٍ، يكتب قصيدةً جديدة، مشوهة أحيانًا، كاملةً أحيانًا أخرى، لكنه لا يتوقف عن السرد. ينقل الحصى كرسائل غامضة، يحفر أخاديد كعلامات في جسد الأرض، ويجر وراءه صرخاتٍ مكتومة لسنواتٍ ضاعت في الضباب.

هو الشاهد على اللامرئي، حامل القصص التي لا يستطيع الزمن محوها. الماء فيه، شفافيته، ليست إلا وهمًا، حجابًا رقيقًا يخفي تحته تاريخًا من الصراع، من الحب، من الخيبات والانتصارات الصغيرة. هو الطفولة التي تنساب بين أصابعنا قبل أن نفقدها، والحياة التي تتسرّب من أيدينا ونحن نحاول أن نمسكها.

هو الرحلة. كل نقطة ماءٍ فيه كانت جزءًا من محيط، ثم غيمة، ثم دمعة، ثم ندىً على وردة، قبل أن تصير جزءًا من هذا التيار الجارف. يحمل في أعماقه ذاكرة التحوّل، درسًا في الفقد والعودة، في البداية التي تتولد من كل نهاية.

هو الصمت. هو حديث الطمي، وصخب الأمواج الصغيرة التي لا يسمعها سوى من يجلس على ضفافه متأملًا، وهناك في العمق، يتكرر صدى أغنياتٍ قديمة، ألحان خجولة اختبأت في مجرى الماء، حيث ما تبقى من أرواحٍ قديمةٍ عبرت، من حيواتٍ لم تكتمل، من أحلامٍ جُرفت في الطريق.

لكنه أيضًا متمرد. لا يسير في طريقٍ واحد. يلتف حول الصعاب، يخلق لنفسه منفذًا حيث لا منفذ، يتحدى الجمود بصبرٍ عنيد. ينكسر، لكنه لا يتوقف. يتراجع خطوة، ليعود بألف خطوة. في فيضانه، يُعلن أنه قادر على الهدم مثلما هو قادر على البناء.

هو، نحن، ونحن هو. كل قطرة فيه هي فكرةٌ كانت تبحث عن مسار، وكل تيارٍ هو عاطفةٌ كانت تبحث عن متنفس. نحمل فينا نفس التيارات، نفس الالتواءات، نفس الغضب الهادئ الذي ينهار على ضفافه. النهر، مثلنا، ليس له شكلٌ واحد، ليس له لونٌ واحد، ليس له صوتٌ واحد. لكنه في النهاية، دائمًا، يمضي.

***

مجيدة محمدي - شاعرة

 

مَا هِيَ اَلْحُرِّيَّةُ اَلْمَالِيَّةُ.. وَمَا هِيَ أَسْرَارُهَا..؟

في خاتمة كتابة "أسرار الحرية المالية" يحدد رجل الأعمال العصامي الناجح علاء الخزرجي سلالم العمل والنجاح، بخمس درجات متتابعة، تأتي كالتالي:

(قرّرْ، خطّطْ، نفّذ، أصبر، تنجح).

هذا الكتاب الذي أطلّ على قارئه بـ 216 صفحة من القطع الوسط، تناول باسلوب سلس ومشوق خطوات إدارة الأعمال من الصفر حتى الثراء. وكان من العلامات المضيئة للوفاء أن يدون المؤلف إهداءه للكتاب بالشكل التالي:

(إلى والدي الذي علّمني العمل بصدق. إلى والدتي التي علمتني العطاء. إلى كلّ من لا يريد أن يبقى أجيرًا).

يستهل المؤلف كتابه بمدخل يحمل عنوان "لماذا هذ الكتاب؟"، ويجب على السؤال بقوله إنه أثناء تجواله ولقاءاته المتكررة مع الأهل والأصدقاء، ومع بعض من تجمعه المصادفة بهم، غالبًا ما كان يتعرض إلى سؤال عن كيفية استطاعته النجاح من الصفر.968 freedom

ويشير إلى انه كان يحاول قدر الإمكان تقديم نصيحة، أو عدة نصائح بحسب ما يسعفه به وقت اللقاء مع الآخر. ولكنه عندما ينتهي اللقاء يتذكر أشياءً مهمة، كان عليه أن يذكرها، كانت قد غابت عن ذهنه في وقتها، وهي نافعة للآخرين من أجل البدء في أعمالهم، أو تطويرها.

ثم ينتقل إلى ذكر كيف انه كان في أحد الأيام ذاهبًا لشراء مجموعة من قطع الأراضي لغرض الاستثمار، من تاجر يعمل في تهيئة الأراضي وتقسيمها وبيعها، فتفاجأ بأن هذا التاجر هو أحد سائقي التاكسي الذين كان يستأجرهم في جولاته عند السفر، وعبّر له التاجر الشاب عن مدى استفادته من نصائحه في شحذ همته، وبدء مشروعه التجاري، ونجاحه.

وإذ يؤكد المؤلف أنه يحب أن يعيش النجاح، وأن يراه لدى الآخرين أيضًا، نجده قد قرر الإسراع بإخراج هذا الكتاب، الذي كان يكتب فقراته منذ عدة سنوات، لتكون كلماته هدية من شخص عصامي إلى كل من يريد أن يكون عصاميًا وناجحًا ويعيش حريته المالية، ولكل من يريد أن يختصر الطريق ولا يقع في الأخطاء التي يقع فيها الآخرون أثناء ممارستهم للأعمال.

هذا الكتاب موجه في أطره العامة إلى الشباب الطموحين، وإلى محبي حكايات الأمل والعمل والجد والمثابرة والعصامية والنجاح.

وهو كتابٌ غنيّ وثرٌ لا يفيه حقه الإيجاز والتركيز، بل انه كتاب يستحق أن يقرأ كاملاً من الغلاف إلى الغلاف.

***

خالد الحلِّي

ملبورن - أستراليا

 

معمودية الثلج آخر اللوحات المفقود لدافينشي نص يهدف إلى مقاربة ثقافية وفنية ودينية بين الشرق والغرب، في محاولة إدارة مصالحة حضارية، فاخترت للخوض في هذا الحوار البوابة الفنّية، على أساس أن الفن مرتبط بالعفوية والصدق، مقارنة بالتقارير السياسية التي عادة ما تكون متحيّزة وأحيانا متواطئة، وفي الكثير من الأحيان أنانية وظالمة.

الرواية انطلقت أساسا من فكرة كاريكاتيرية، حين وضعت تحت رأسي - ذات ليلة - كتاب المناظر لأبن الهيثم وتغطّيت بلوحات دافينشي، ثم رحت أفكر في مفهوم (المنظور وعلاقته بالفن)، فوجدت نفسي أنشّط حوارا بين دافينشي وابن الهيثم، وحتى أُقَوِّل دافينشي من خلال لوحاته كان من الضروري أن أفكر بعقله، وكذلك فعلت في توظيف ابن الهيثم وما له صلة بالمنظور والعلاقة التي تربطه بالأطروحات الهندسية الفنية، وأحيانا أمزج بين العقلين لأصنع محاكاة كونية زاخرة بالمعارف والفنون، مستثمرا في ذلك الخطابات الفنية التي تنطوي عليها لوحات دافينشي، ومن جهة أخرى حاجتها إلى مفهوم المنظور ونظرياته لابن الهيثم، كتلازم فنّي مرتبط بالحالة الفنية التي تجمع بين ابن الهيثم ودافينشي في نظرية كل منهما.

لتجد الرواية نفسَها تقارب بين الدين والفن والمعرفة، وعين القصد حوار الأديان من خلال الثقافات التي توحّد بينها القاعدة الفنية العامة (الفائدة واللذة والجمال) كمبتغيات روحية مشتركة بين الشعوب.

اختارت الرواية لأحداثها متحف اللوفر ومدينة فلورنسا على وجه أخص، وأزمنة ذات علاقة تاريخية بما تطرحه الرواية من المعاني، ورصيف فلورنسا كأهم رمزية للتواضع والبساطة، حيث انطلقت منه أفكار نبيلة وأعمال فنية راقية.

 وفي الرواية شؤون أخرى لا يمكن حصرها في ملخص هذه الأسطر.

***

عبد الباقي قربوعة

 

عندما يكون النزوح فعل مقاومة

حين ينكسر صمت الأرض، تتشقق مساماتها كأنها تئن حزنًا وأسًى تحت وطأة خشخشة أقدام العابرين. يلفهم صمت يشبه فحيحًا خافتًا، كأنه صوت الأرض تروي حكايات قديمة عن رحيل لم يتوقف قط. تُصبح خطوات العابرين كأنها جسرًا بين ما لا يمكن قوله وما لا يمكن نسيانه وسط إيقاع الهروب. في كل لحظة تتحرك فيها الجموع الوجلة، يندفع الزمن للخلف، كأنه يعيد صياغة أوجاع ماضية.

الأرض، القاسية والساكنة، تبدو كمرآة للحيرة التي تملأ عيونهم. كأن كل خطوة تفتح نافذة إلى فراغ لا نهاية له. يمضون وكأن الأرض تبتلع أثرهم، الواحد تلو الآخر. خطواتهم ليست فقط عبورًا مهولًا؛ إنها بصمات على جسد الصمت، علامات على الخراب الذي لا يُرى. ولكن تكاد تذوب فيه كل روح تخطو، كأن المسافة نفسها تبتلعهم بصمت.

تلك الأقدام، التي لا تعرف السكون، تحمل داخلها سؤالًا لا ينتهي: هل نحن من يسير، أم أن الأرض هي التي تقودنا إلى حيث لا نعلم؟ في كل نبضة، تنكسر لحظة جديدة. وفي كل خطوة، يُعيدون ترتيب فراغ العالم، كأنهم يحاولون منح المعنى لشيء لا معنى له. يمضون، وليس لهم حتى ترف الوقوف. تحت أقدامهم، بدت القسوة نفسها وكأنها تحاول احتضان خطواتهم. كل خطوة كانت تُثقل الأرض بذاكرة متكسرة، كأنها تناجي تلك الخطوات ألا تتركها وحدها في صمتها الموجع. صمت يشبه عزاءً معلقًا بين الفناء والخلود.

كل خطوة كانت حوارًا صامتًا مع التراب، كأنها تحمل إيقاع الخوف الذي يتسرب من صدورهم مع كل نبضة. زمن فقد اتجاهاته، يدور حول نفسه كدوامة تبتلع كل ضوء، وتترك فقط آثار الغياب على وجه الأرض. زمن لا يملك سوى صدى نفسه، يدور في دائرة أبدية، بلا بداية ولا نهاية، ليحملهم معه كذاكرة لا تكتمل. خطواتهم تحمل وقعًا يشبه أنينًا مكتومًا، صوتًا يتجاوز الصمت لكنه لا يجرؤ على أن يكون صراخًا. لم يكن هناك سوى وجيف الخُطى على التراب، لكنه متخم بذاكرة مثقلة بالأسى والمرارات. كأنه يضيق بالروايات الحزينة: بيت أطفأته النار، شجرة أحنتها الرياح، وأسماء غابت في العدم. كأن تلك الخطوات تخط على الأرض ما لا تستطيع الصرخات أن ترويه، بينما تواجه حضورها العاري وسط فراغ لا حدود له. عيون النساء، متجمدة كأنها نوافذ مفتوحة على عوالم تهدمت.

عيون الرجال، مثقلة بالعار والصمت، تهرب من كل نظرة، كأنها تخشى انكسارها الأخير. لم يبقَ لهم سوى الصمت كدرع هش يحمي آخر ما تبقى من أرواحهم. لم يكن سؤالهم:

“كيف تعيش بعد أن تُسلب منك وسائل الدفاع عن ذاتك؟”

بل:

“كيف تبقى إنسانًا عندما تُجبر على أن تكون شاهدًا على تحطيم كل ما تحب؟”

الأطفال، كانت عيونهم تسأل دون أن تنطق، كأنها مرايا صغيرة تعكس خوفًا غريبًا يسكن قلوبهم. كانوا بين مطرٍ قارس يحفر في وجوههم خرائط من البؤس، وشمسٍ لاهبة تُلهب أكتافهم، ورياحٍ باردة تُذكّرهم بعبء الحياة التي لا تهدأ. كل موسم كان يغزو أجسادهم كأنه عدو جديد، يزيد أثقالهم ويترك في أرواحهم ندوبًا لا تلتئم. خطواتهم المسرعة الواهية تطبع على الأرض ما تعجز اللغة عن وصفه. إنها ليست مجرد سير، بل احتجاج صامت ضد العبث. وكل نبضة من وقع أقدامهم تخترق القلوب، كأنها تنقل صرخة مكتومة لكل من يستطيع أن يشعر. بين حين وآخر، كانت الريح تنقل رمادًا عالقًا بذاكرة الأرض. كأنها رسائل شبحية تُذكرهم بما ضاع، أو ربما تسخر من محاولاتهم المستميتة لحمل بقايا ما كانوا عليه. وفي الخلف، بعيدًا عن وقع أقدامهم المُرهفة المرهقة، كانت الأحذية الخشنة تضرب الأرض كأنها جائحة بلا ملامح. تُعلن قدومها فتترك الارض تنزف صمتًا تحت وطأتها.

خطوات الجنود لم تكن مجرد حركة همجية غاشمة؛ كانت تجسيدًا للقسوة العمياء التي تجعل الأرض تنزف كل صوت. كل خطوة من خطواتهم كانت صفعة تُخبر النازحين بأن العالم لم يعد يتسع للحياة والسلام معًا. وأن الإنسانية حين تفقد روحها، تصبح آلة هدم بلا رحمة، تُعيد تشكيل الأرض وفق قوانين القسوة.

الطريق الذي ابتلع النازحين لم يكن مجرد مسار، بل أفق متصل بالصمت.

يشهد دون أن ينطق، كأنه دفتر الزمن يسجل خطواتهم كدموع تُخطُّ على ذاكرة الأرض.

النزوح، في عمقه، لم يكن انتقالًا، بل كان مواجهة مع فراغ يحاصر كل شيء.

اختبارًا للروح حين لا تجد مكانًا إلا في المجهول.

النساء اللواتي يمضين في صمت يشبه الصراخ المكتوم، عيونهن تطارد صورًا من زمن لم يعد موجودًا.

يحملن في خطواتهن أعباء لا تُحمل: أرواح تم اغتصابها قبل الأجساد، وذاكرة تتحول إلى شوكة كلما حاولن نسيانها، وسؤال كاللعنة:

كيف أصبحت الأجساد ساحات حرب؟ وكيف صار الخنوع فعل مقاومة؟

الأطفال، ظلالًا صغيرة تتشبث بالأيدي المرتجفة.

خطواتهم ليست خطى، بل ارتعاشات ترسم على التراب أثقالًا لا تطابق أعمارهم.

كل نظرة منهم كانت تسرق الضوء من السماء، كأنهم يسألون:

“لماذا لم تعد السماء تحمينا وأين هو الإله؟”

تنهيدة خفية تسللت من صدر امرأة تحمل طفلها، كأنها تُخرج ألمًا عالقًا في حنجرتها.

تلك التنهيدة لم تكن مجرد صوت؛ كانت نافذة صغيرة على روح ترفض أن تغرق في الألم.

والدمعة التي انحدرت من عينها، لم تكن مألوفة، بل بدت كنداء خافت للسماء.

تفيض ببطء كأنها تقول:

“أنا هنا، رغم كل شيء، فأين أنت؟”

وتستمر القافلة في سيرها بخطوات لها طموح الهرولة.

استمرارهم لم يكن مجرد انتقال، بل كان فعل بقاء يُثقل كل خطوة.

كان احتجاجًا على العدم، ورغبة صامتة في ألا يُبتلعوا في ظلام النسيان.

النهاية ليست في السقوط، بل في التخلي عن القدرة على الوقوف مرة أخرى.

كما أنها ليست في الفناء، بل في الانطفاء الداخلي الذي يُسكت صوت الروح.

كان النازحون يمضون كأنهم يحملون العالم فوق أكتافهم، لا ليتحدوه، بل ليقولوا له:

نحن هنا، نحن جزء منك، ولن نختفي.

إنهم يعلمون، أن كل خطوة للنجاة ليست بالضرورة وعدًا بالوصول، بل هي فعل الإصرار على الاستمرار.

إنها إعلانٌ بأن الحياة، مهما قست، تظل تستحق أن تُعاش.

وأن الأمل، حتى حين يبدو سرابًا، هو ما يجعل العابرين أكثر من مجرد ظل على الأرض.

كل خطوة كانت تمضي بهم أبعد عن الماضي وأقرب إلى اللا يقين، لكنها أيضًا كانت تترك أثرًا على التراب.

كأنها توقيع أخير على عقد مع الحياة:

رغم الجراح، رغم الفقد، نحن باقون، ليس كأجساد فقط، بل كأحلام تمشي على الأرض.

***

إبراهيم برسي

١٥/يونيو ٢٠٢٤

تعبر عن هوية ولغة وتاريخ ومصيرك واحد

تحتفل شعوب عالمنا المغاربي بعيد رأس السنه 13 يناير من كل عام حيث تعد مناسبة ذات خصوصية واهمية كبيرة حيث يُحتفل بها بشكل تقليدي في مناطق مختلفة من مدن المغرب وتونس والجزائر وليبيا وغيرها وهي تمثل جزءًا من الهوية الثقافية والتاريخية للعديد من الأسر المغربية والتونسية والجزائريه والليبية وووووالخ وتحمل معها رمزية قوية تتعلق بالموروث الثقافي والزراعي والاجتماعي للمجتمع الأمازيغي في هذه الدول .

وتتنوع مظاهر الاحتفال برأس السنة الأمازيغية باختلاف المناطق في الدول المغاربية كلها، حيث يحرص المواطنون عامةً والأمازيغ خاصةً على إحياء هذه المناسبة من خلال تنظيم الولائم العائلية، وتناول الأطعمة التقليدية، ومشاركة مظاهر الفرح مع بعضهم. فهذه المناسبة ليست مجرد احتفال عابر، بل هي فرصة للتأكيد على تمسك شعوبنا المغاربية بهويتهم الثقافية واعتزازهم بتاريخهم ولغتهم وهويتهم الامازيغية العريق كهويه ولغة وتاريخ، وكذلك للتعبير عن التضامن الاجتماعي والتآزر بين أفراد المجتمع المغاربي الواحد.

حيث تؤكد كتب التاريخ على حقيقة احتفال الأمازيغ برأس السنه 13 يناير، وهذه الحقيقة تبلورت بشكل قوي في التقاليد التي يمارسها المجتمع الأمازيغي، لكن وجود هذا الاحتفال هو حقيقة تاريخيه ممتده عبر العصور، وهو التاريخ الذي يؤكد وجود مجتمع متجانس بين الثقافة والهوية والحضارة العريقة ، في مضاهاة الحضارات ألاخرى، فكل العوامل والاسباب التي حاولت طمسها والقضاء عليها، لكن بأت بالفشل الذريع بقدر ما قوتها على الاستمرارية والديمومه التي يمكن للقارىء ملاحضتها ، وبخصوص هذا الاحتفال، نتأكد من أن الأمازيغية حقيقة تاريخية، موجودة في اعماق التاريخ والازمان .

كما أن من المعروف أن الهوية الأمازيغية مترتبطة بأسس  وهي الأرض والإنسان واللغة ، فالأرض الأمازيغية تشكل محور اهتمام الانسان الأمازيغي أينما كان هذا الإنسان تنطلق من خلالها حريته كأنسان بكل اشكالها وهي التي يسعى جاهدا من أجلها، ثم إن معنى كلمة أمازيغي تعني إنسان حر، أما اللغة فهي الأمازيغية، والتي تحتوي على كلماتها ومعانيها وقواعدها، كل ذلك يجعل من الحضارة الأمازيغية حضارة عريقة ممتدة في التاريخ، هكذا نتأكد من وجود حضارة أمازيغية تملك من المقومات ما يجعلها تقاوم خطر الانقراض لقرون، وها هي الآن تناضل من أجل نهضة تناسب الأمجاد.

نهنى ونبارك لكل شعوب عالمنا المغاربي بعيد الامازيغ المجيد رأس السنه 13يناير .

كل عام وهم وشعوبهم بخير وسلام.

***

د. فارس قائد الحداد - صحافي وحقوقي يمني

 

القبح ليس نقيضًا للجمال، بل هو وجهه الآخر الذي يختبئ في هسيس الظلال، حيث يولد الضوء من شقوقه المجهولة.

هو شقيقه الذي نسج من ذات الطينة، لكنه اختار أن يترك الخضرة جانبًا ليروي حكاية أخرى.

هو سردية لا تصفق لها الأغصان الغضة، ولا تحتفي بها الزهور المشرقة، لكنها سردية تهمس بما لا يُقال.

هناك، بين الأغصان اليابسة التي تحمل وطأة الفناء، وفي هسهسة الرياح التي تعبر دون وعد، يزهر الجمال همسًا.

هل رأيت الفراشات وهي تتراقص فوق خراب الأغصان؟

نسيم الجناح لا يحتاج خضرة ليحمل موسيقى الحياة، ولا همس الجناح يشترط اكتمال الأغصان ليخبرنا أن الجمال لا يُصنع من البهرج.

ضوء التنسيب المشرق الذي يتسلل من بين الأغصان الجافة لا يزيف الحقيقة، بل يكشفها.

القبح، في عمقه، هو تأويل آخر للجمال، فصلٌ ناقص من حكاية الكون، لكنه يحمل الحقيقة أكثر من سذاجة الزهور المتفتحة التي تخنق نفسها بالاكتمال.

القبح لا يصرخ، بل يهمس.

هو الهسيس الذي يمر عبر حطام الأغصان، الحفيف الذي لا ينسجم مع لحن المألوف، لكنه يحمل صمودًا صامتًا.

الجمال لا يزهر دائمًا في النضارة، بل أحيانًا في الأغصان التي انكسرت لكنها لم تسقط.

هناك، في فجوات الزمن التي تتركها الطبيعة بلا اكتمال، تكمن الحقيقة: حتى الموت أخضر، إذا أصغيت إليه بما يكفي.

وماذا عن الظلال؟

تلك التي تراقص الضوء وتتمايل معه في حوار لا ينتهي؟

الجمال يكمن في الظلال التي تمنح الضوء بُعده الآخر.

الظل ليس نقيضًا للضوء، بل شريكه الذي يعيد تعريف الأشياء، كما يُعيد الجفاف تعريف الخضرة.

أو كما قال كونديرا: الجمال ليس في ما يُرى، بل في ما يُحجب، في الفراغ الذي يتركه الظل لتملؤه العين بالخيال.

في الظلال يسكن الجمال البعيد عن الصخب، جمال يزهر في صمت ويكشف نفسه لأولئك الذين يرون ما وراء الضوء.

الأغصان التي تخنقها الخضرة لا تفهم سر الجفاف.

إنها تعتقد أن الحياة زهوٌ دائم، لكنها تجهل أن الجمال يزهر في الرماد كما يزهر في التراب.

حين يسقط الضوء على الأغصان الميتة، يكشف تأويلًا جديدًا: الجمال ليس في اكتمال الصورة، بل في هشاشتها.

هو في الرمزية التي تتسرب بين الشقوق، في الحكاية التي ترويها الريح وهي تعبر دون أن تنتظر تصفيقًا.

الجمال هو كأس ممتلئة حتى الحافة، لكنه ليس بالخمر الذي يسكر في لحظة، بل رشفة تتسلل إلى الوعي ببطء، تفتح أبواب الحقيقة وتجعلها أشبه بنشوة لا تنطفئ.

القبح هو الكأس التي نظنها فارغة، لكنها مليئة بالاحتمالات.

الضوء الذي يخترق الزجاج لا يَعد بالكمال، لكنه يعكس الحياة وهي تلمع في هشاشتها، في تأرجحها المستمر بين الكمال والانكسار.

حين تنزع الطبيعة زينتها وتبقى العظام العارية للأغصان، تبدأ في كتابة شعرها الأكثر صدقًا.

الهسيس الذي يلف هذا العراء ليس إلا موسيقى البدء، لحظة الخلق الأولى التي تنكرها الخضرة لكنها تحتضنها الحياة.

نسيم الجناح حين يمر على القبح لا يبحث عن عطر، بل عن حقيقته المتأرجحة بين الحي والميت.

الجمال ليس في الزهور المشرقة وحدها، ولا في الأغصان الغضة التي تنحني لتمدح الريح.

إنه يسكن القبح كما يسكن النضارة، يعيش في الظل كما يعيش في الضوء، ويتمايل بينهما كفراشة ثملة، لا تعرف حدود الرقص ولا تتوقف عن اختراق الخواء.

الجمال، في نهاية المطاف، لا يطلب الكمال، بل يعترف بهسيس الحياة وهمسها، بأن القبح ليس ضدًا للجمال، بل هو الجمال وقد نزع عن نفسه كل بهرج، وبقي خالصًا، كأسًا من الحقيقة التي لا تنتهي.

***

إبراهيم برسي

20 يناير 2025

في مشغل خياطة الحي، وفي لحظة تأمل مسهب، أدركت أن المقص ليس مجرد أداة، بل هو كائنٌ حدّي، يعيش على الحواف، بين ما كان وما سيكون. إنه يد القدر الحادة، يقتحم مساحات القماش الهادئة دون أستئذان، يقصّها بحدٍّ بارد، وكأنه يمارس طقسًا مقدّسًا من التفكيك والخلق.

والقماش، في استسلامه المهيب، يفتح صدره للمقص، يتقبّل ضرباته كعاشقٍ يخضع لمعشوقٍ جائر، لأنه يدرك أن الألم هنا ليس إلا طريقًا إلى التجلّي.

كالحياة، مساحة شاسعة من الاحتمالات. بدايته بيضاء، خامة عذراء تنتظر قصصها، وحين يأتي المقص، يحدث الانشقاق الأول، الجرح ليس صدفة، إنه لحظة مفصلية، كأنما الزمن نفسه إنحنى ليحدث شرخًا في الاستمرارية. فيستحيل الجرح هو أول علامات التغيير، والألم هو النذير الخفي للخلق !

لكن المقص لا يملك قلبًا. لا يلتفت إلى صرخات القماش المكبوتة ولا يهتم بالأنين الصامت. هو القدر حين يقرر، أن  يقطع مساراتنا دون إنذار، حين يبدّل خرائطنا ويرسم طرقًا جديدة لم نكن نراها. لكنه في قسوته هذه، يُعيد ترتيب الحكاية، يُحوّل القماش من امتدادٍ عشوائي إلى كيانٍ جديد. كما القدر لا يسألنا عن رغباتنا، فإن المقص لا يسأل القماش عن شكله المفضل.

لكن، هنا يكمن السحر. الجرح الذي يخلقه المقص، هو ذاته الذي يُطلق إمكانيات القماش. وما كان مجرد مساحة بلا شكل يصبح ثوبًا، قطعة فريدة، قصة بصرية تُروى في كل خيطٍ فيها. لندرك ان الجرح هو نقطة البداية، وليس النهاية. فالمقص، رغم قسوته، هو الحرفي الذي يعيد صياغة العالم، يخلق من الفوضى نظامًا، ومن الامتداد معنى.

والقماش، رغم إستسلامه الظاهري، ليس ضعيفًا. إنه يحتضن ضربات المقص كمن يتماهى مع قدَره، يحوّل الجراح إلى هوية، إلى حوافٍ تُبرز جماله المخفي، هو  يعلم أن كل قطعٍ هو شهادة على تحوّله، على عبوره من المجهول إلى المعروف، من الإمكان إلى التحقّق.

وقصاصاته. تلك الأشلاء التي تبدو هامشية، تحمل بقايا القصة. إنها الأجزاء التي يتركها القدر وراءه، كذكرياتٍ مُبعثرة، كإمكانياتٍ لم تكتمل. أحيانًا، تُجمع تلك القصاصات من جديد، تُنسج من أطرافها حكايات جديدة، كأنها بقايا حياة أخرى تُولد من رماد ما ....

وتعلمنا أن المقص والقماش، هما نحن والعالم. علاقتنا بالقدر ليست إلا مواجهة مستمرة بين الجرح والإبداع، بين القسوة والخَلق، بين الألم والتحوّل. نحن، مثل القماش، نُجرَح، نُقطَع، لكننا أيضًا يعاد تشكيلنا، نصبح أثوابًا جديدة، نرتدي حكاياتنا بفخرٍ أو بمرارة، لكننا دائمًا، في كل شقٍ وكل خيط، نصبح أكثر اكتمالًا مما كنّا.

***

مجيدة محمدي

خاطرة

 

للنخيل عندي منزلة وهوى، يضرب بجذوره في عمري، ويبسط ظلال سعفه على أيامي، خاصة نخيل (بستان جويسم) الذي يمنح طبيعة ضفاف الغراف عند مدينة (الغازية) رسوخاً وأبدية. النخلة فيه، فرعها في الهواء، منطلقة، محددة، لا تميل مع الهوى، لا تنحني للأعاصير، سامقة كأنها إشارة التوحيد، منها استوحوا شكل المسلات فقدسوها، عدّوها شجرة الفردوس، وفي سفر التكوين هي شجرة المعرفة، وذكر النخل وثمره في نقوش ومدونات بابل وسمر، الملك سليمان نقشها على خاتمه، وحفرها الاغريق على نقدهم. وأرفع تكريم، انها الشجرة التي أوت إليها السيدة العذراء في مخاضها، وهزّتها فتساقط عليها رطباً جنيا.

لم أكن أعرف هذا كله في طفولتي، لكني كنت أعرف رائحة التبغ في ملابس أبي، وأعرف رائحة الخبز الأبدية في عباءة أمي، عندما كنت أمضي أقرأ في قراءة الصف الأول " زير... زيران.. قرد.. قردان.. قدري دقّ بابنا" كلما تهادى الغراف جنوباً كانت كانت تزداد كثافة النخيل، تقصر المسافات بين أشجاره، يقترب.. يقترب حتى يكاد السعف يلامس الماء، وعن الأفق خط متصل منها، رشيق، باسق أنثوي المشهد، للسعف حضور راقصات رشيقات قادمات من أزمنة سحيقة البعد، كنت دائماً أحلق إلى النخيل، أطبع حضورها في ذاكرتي الأولى.

لا شيء في النخلة يذهب هدراً، النخلة لا تعرف الهباء، لا تجعل من خدّها للإنسان مداساً، ومن قلبها الجمّار له طعاماً وشراباً سائغاً ومشعاً، يطلق روحه كالحمامات من أبراجها، ومن جسدها مأوى وملبساً ومعبراً وناراً ووقوداً ودفئاً، ومن أطرافها أدوات، مفردات توشي بفيء الزخارف المكللة بالضوء الباهر.

ياخذني الحنين الى الناعور، في طرفيه خشبتا نخيل، هذا الخشب يمكث في الماء، حتى إذا كرّت السنون، وركضت الأيام في إثر الأيام، عدت الى موقع الناعور فلم أجد في الزيارة الأولى إلا بقايا، أما الساقية فبدت لي حفرة بلا عمق، يكاد الردم أن يسويها بالأرض، اما ما افتقدته فرائحة خشب النخيل المبتّل بالماء، وعبير الطين، وصرير الناعور، في زيارة تالية لم أجد لكل هذا أثراً، احتزت بقايا النخل من الرؤوس، النخل يموت كالانسان حين يذبح من النحر،  امتد الحجر والاسمنت على ما تبقى من حيطان طينية يسندها أنين الرغبة الأبدية.

ترى هل تصرخ النخلة عند الذبح؟

يقولون: إذا دقّ أحدهم مسماراً في جذعها تبكي وتذرف دمعاً مالحاً، ويقولون انها تستغيث، حينما تمتد الحبال حول عنقها لتشنقها، يمتد عنقها من فزع، تتنفس ناراً تجتاح أوردتها، النهر حزين له صدى منحاز لها، والجلاد يضحك من وهم ويركلها.

هل صحيح القول " قاطع النخلة عمره قصير"؟ بينما لساقي النخلة سبعون حسنة!

صوت (جويسم) يرنّ في أذني، فيسمعه القلب.. يأتي إلي يعاتبني:

نسيتَ حكاياك؟ لماذا تركت البستان وحيداً؟

لم يكن بعدُ لاسمي معنى في هذا البستان، كنت أعرف النخلات واحدة. واحدة. أسلك طريقي بين مئات المتشابه منهن، المتجاور، المتساوي في الطول، لكني أذكر واحدة بعينها، كانت تنبثق من الأرض بميل ثم تصعد في الهواء.  تعال عند نخلات (الديري)، كان أبي يضع حفنات منه في أكياس ويهديها إلى الأقربين. ما أنا إلا ثمرة من ثمار هذا النخل الذي لا أعرف مصيره الآن، لو نجحت في الوصول الى نخلة واحدة باقية منه، لسعيت وان كانت في أقصى الارض وجثوت عند ترابها.

تخطفنا رغبة في البكاء! تذرفنا دمعة من هديل اليمامات في سيرة الوجع الخالدة. تجرفنا صبوة لزيارة (السيد ظاهر) عند الفجر في ليلة المحية ونحن نردح:

يا نايمين الليل يا كفارة

انتم شبعتم نوم واحنه سهارة

قلت : أثرتَ جراحي، وأججت جمر عذابي، وتسألني :كنت منشغلاً في سواي.

الأرض طواها العطش يا (جويسم)، فمن أيما نبع تعشوشب القفار؟ من أيما سماء يهطل غيم؟ مدائن الطين الخراب تيبست وجفّ ريقها، لا مفرّ لها إلا أن تموت ميتة معجّلة، بلا قراءة أو بسملة، كما أراد صناع الموت.

الجلادون يستدرجون النخيل فيقطعون جذوره ليسرقوا سعفه، ثم ينحروه من أعلى الرقاب!.

***

جمال العتّابي

تميز الأستاذ الدكتور أزهر السماك بأكاديمية صارمة ومهنية عالية.. في تدريسه لطلاب الدراسات الأولية والعليا في مادة الموارد الاقتصادية واقتصاديات النفط.. في كلية الادارة والاقتصاد بجامعة الموصل.. حيث كان منهجيا في إلقاء المحاضرات والمناقشات والندوات.. ويرفض الكلام الإنشائي العام.. الخالي من المؤشرات الكمية، والإحصاءات الدقيقة، ومعاملات الارتباط..

وتجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أنه كان حريصا على تنبيه طلابه دائماً، إلى توخي العلمية والمنهجية في التحصيل والكتابة والبحوث والمقالات.. حيث لا زال طلابه يتذكرون عرضه لموضوع الريع في مادة اقتصاديات النفط، وكيف اشبعها عرضا وحوارا وأمثلة.. لترسيخها في أذهان طلابه يوم درسهم المادة.. في كلية الادارة والاقتصاد بجامعة الموصل في اواخر سبعينات القرن الماضي.. وكذلك الحال بالنسبة لاقتصاديات ومعايير التوطن الصناعي وتقييم المشروعات.. والوفورات الخارجية للمشروعات الصناعية..

لقد خرج اجيالا مهنية كفوءة.. حيث تمكن الكثير ممن تخرجوا على طرائقيات منهجيته يوم ذاك.. من نشر مقالات وبحوث علمية رصينة في مجلات شهيرة.. مثل النفط والتمية.. وغرفة تجارة الموصل.. ومجلة الصناعة.. ومجلة الجامعة.. وغيرها.. في حين تبوأ الكثير منهم، مواقع وظيفية مهمة، بكفاءة وجدارة..

وهكذا ظل الأستاذ الدكتور أزهر السماك مبعث اعتزاز، ومحط تقدير، واجلال كل طلابه.. على ما بذله معهم يوم ذاك، من جهود مخلصة وجادة ، في تكوين مهاراتهم العالية، ومهنيتهم الأكاديمية ، فكانوا جيلاً من الكفاءات العلمية الرصينة، التي احتلت مكانة متميزة، في مختلف المجالات، التي عملوا فيها، في الحياة العملية.

***

نايف عبوش

تلويحة محبة واعتزازا للقرّاء الأعزاء... هذه بعض الخلاصات الفكرية التي مرّت عليّ من خلال قراءاتي الاخيرة أحببت أن أعرضها عليكم؛ ويقيني انها قد تروق للبعض وقد يأنف منها آخرون لكنها من وجهة نظري ألحظها مقنعة وسديدة وتكاد تكون من الاقوال المأثورة التي تتداولها الألسن.

1 - الوطن ليس بقعة ارض بل هو جمع من القلوب البشرية التي تبحث عن قاسم مشترك تتحسسه وتنعم به.

2— نسقط ونهوي بهذه الحياة لاننا نولي الامور الكبيرة للصغار والامور الصغيرة للكبار.

3— لا احد ينتصر لمظلوم إلاّ ما ندرَ جدا وكثيرا ما يستجاب للظالم أمره. وما نراه من تضامن وتصريح وأقوال مفتعلة ليس الاّ نرجسية ثورية تنزّ ماءً آسنا دون دفق ينابيع تروي ظمأً.

4— التاريخ هو قراءتنا ورؤيانا له؛ فمن اراد الخير وجده ومن اراد الشر وجده ايضا.

5— زواج الدين من السياسية لا شرعي أصلا؛ سينتج عنهما ولادات مشوهة من نسل السفاح فلا تعقدوا قرانا بينهما ايها الشهود فتكونوا شهود زور.

6— واظفارهم في كل امر نواشبٌ ... واظفارنا عن كل امر تقلّم.

7— الشعر لغة راقصة / بول فاليري

8— كثيرا ما يُغني حذَرٌ من قدَرٍ فيميله جانبا.

9— كذب من يقول انه يرمي عصفورين بحجرٍ واحد فمن يطارد عصفورين يفقدهما حتما.

10— يصدأ عقلك حين تنام وتأنس مع الدهماء، حتما ستكون عفنا عائما في ماء ساكن.

11— الشمس تشرق ايضا في الاوحال والنفايات لكنها لا تنجس بل تترك أثرا من التعقيم فيها.

12— ان معاداة الكتّاب والمفكرين ليست من صفات اولي الالباب وقديما أغنت كتبهم عن الكتائب ففي سواد مدادهم حمرة الدم وبياض النعم.

13— لأن تقود الناس لابد ان تمشي وراءهم في بعض الاحيان مرغما.

14— قد لا تكتفي الثورات بالأبطال العاديين كي تتحقق، غالبا ما تحتاج الثورة الى صلابة أناس مصنوعين من فولاذ عقلاً وعضلاً.

15— الدنيا غنيمة صالحة للحمقى الشرهين للمال والسلطة.

16— ومن ملك البلاد بغير سعيّ ---- يهون عليه تسليم البلادِ.

17— شر الزمان ما اجتمع فيه فساد الراعي والرعية.

18— سلام على كفرٍ يوحّد بيننا – واهلا وسهلا بعده بجهنمِ.

19— أموت في قبر مهجور خير من ان أحيا في ارض تنكر أحياءها الأفاضل.

20— كثيرا ما يأسف المحب من زمان يسرٍ أورث قبضا وزمان انسٍ أورث وحشة.

21— قد كان لي مشربٌ يصفو برؤيتكم --- فكدّرته يد الايام حين صفا.

22— ما ابعد المنى وما اقرب التمني.

23 – ما قيل عن القصيدة

 القصيدة هي عرس العقل / بول فاليري

 القصيدة هي تهشيم العقل / اندريه بروتون

القصيدة هي اتحاد المألوف مع الغامض

القصيدة صرخة الشاعر المهموم في كون اخرس وعابث

24— فيا لك بحرٌ لم اجد فيك مشربا --- وان كان غيري واجد فيك مسبحا.

***

جواد غلوم

 

الآن بين أصابع الصمت وابتذال المواقف. أقف عند ناصية الشارع الرمادي، أمارس لعبة مخاتلة غير مأمونة العواقب مع عقلي، هي حيرة بين قرارات العقل -المبنية على المنهج العلمي واتباع خطوات وضع الفرضيات ثم تجريبها والوصول إلى حلول مقبولة- وهوى النفس المحكوم بالعاطفة والحدس الذي يدفع إلى التسليم بالأمر الواقع.

ولأن الاختيار صعب فليس أمامي سوى الدخول في حوار مع العقل، علنِي أصل معه لتقاطع يرضيه وتقبله جوارحي ويستحسنه وجداني.

***

محمد محضار

يغفو الحنين على شاطئ الأمل.. ويهدأ الحلم بين رموش العاشقين.. اسهر وحيدة.. استرجع ذكريات القرية، و التنور.. وعبق ألليلك الفواح من تلك القرية الدافئة يوقظ براعم النرجس الغافية في نبض قلبي.. وتبرق عيناي دمعاً، ولوعةً.. تداعب زخات المطر الناعمة شفاه الأرض.. فتزدهر أحلام القرنفل وتفوح رائحة التراب عطرا سحري فواحا..لا عطر يشبه عطر التراب الممزوج بحبات المطر كما عطر بلادي.. حفيف أشجار التفاح من تلك البساتين يهامس ذاكرتي.. فيزيد صباحي عذوبة و أملا.. وترتشف أمسياتي منه دفئاً لطيفاً..

كم يغويني شذى الياسمين ويؤرقني حنينا إلى جلسات الصباح في ظل محبة أمي نشرب القهوة في حديقتها السعيدة معا على أنغام زقزقة جوقة عصافير الحرية، والحان فيروز الملائكية.. وتتساقط بتلات الياسمين فوق رؤوسنا كرذاذ الثلج اللؤلؤي.. وكأن تلك البتلات هدايا ربانيه من عظمة الخالق.. تذكرنا في محبته وكرمه وعطائه الامحدود.. وكأنها أيضا رسائل سماوية تحثنا على التغيير والأمل.. تمد غربتي شوقا..و دفئا.. وإصراراً على الاستمرار في الصعود حيث شمس وطني..

كم أتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء كي أعود طفلة أهرول، وأدور فرحة في بساتين التفاح.. أقضم ساندويتش الزعتر (السعتر) اللذيذ وأختبئ في كوخ جدتي أشرب الشاي, واستمع إلى قرقعة الشتاء على ظهر توتة كوخ الزيتون كأنها أجمل سيمفونية تعزفها الطبيعة الخلابة.. ما ادفأ كوخك يا جدتي!! وكم أشعر بالامان الحقيقي فيه.. فمهما ارتفعت ناطحات السحاب لا تضاهي ارتفاع المحبة، والصدق في سحر كوخك وقلبك العظيم.. هو كوخ المحبة يختصر حنان الكون في جدرانه الطينية، وتاريخ الحب في بساطته السحرية.. ويحصر معاني الحكمة  في خيوط القنب المزركشة بفراشات الأمل التي تزين بساط الشتاء المتواضع الذي حاكته يداك الصامدتان بصبر، وأناة.. أقبل أناملك جدتي التي أضافت للمحبة معنى آخر.. ولوناً سحرياً مميزاً..

تأخذني ذكريات المودة الحميمة وهي تلوح لي من بعيد.. من غابر الزمان.. وسهرات كبس حبات الزيتون حول مدافئ تشرين في موسم القطاف.. لها متعة خاصة.. وما أجمل ذلك التكور الودي حول صينية الطعام القشية المزخرفة، أنا وإخوتي، ونحن نتناول كِسفَه.. كما تتكور كتاكيت الدجاجة حول أمها.. و نعيش لحظات الألم والفرح معا.. متلاحمون.. كما أسراب الإوز..

حتى أن تسلل الشمس إلى غرفتي، كان له رونقاً آخر.. وترنيمة خاصة.. لم أرَ لحناً أعذب من نشيد وطني.. ولا بسمة تشبه الفرح المشرق من شمس وطني.

يتأجج الشوق بين شرايين كلما احمرّت عناقيد الكرز على شفاه الربيع.. ولم تستطع ثلوج الغربة المتجمدة أن تطفئه.. و تختلج دقات قلبي عشقاً, وحباً, وشوقاً لوطني، كلما عانق زهر المشمش روح نيسان بلهفة المتيم الولهان.. ويسمو عطر الحنين شفافا في سماء الخلود كلما قبّل الندى شقائق النعمان.. تُحيي روح أدونيس ربيع بلادي.. الذي لايضاهيه ربيع في جماله.. وفي شهر نيسان تتبختر قرية "الأمل" مزهوة بثوبها البنفسجي وبأكمام الزنبق..

ما أردت الرحيل يوما، لكنه قدري.. وفي الوداع اختنقت أنفاسي، وتلاشت أحاسيسي, كنت أتمنى أن امتزج مع التراب.. لكنها رسالتي المحتومة.. صار صمت غربتي  ينزف: تشرداً، حنيناً، ، ووحدة . أريد العودة إلى وطني.. فأين أنا من وطني؟؟.

من يسألني عن مدى علاقتي بوطني كأنه يسألني عن مدى علاقتي بروحي.. فالروح لا تفهم بالمسافات، والأرقام، بل تحلق عاليا في سماء الحرية تنشر المحبة في كل مكان.. إحساسها بالغربة مؤلم.. حارق.. خانق.. وتتقطع إربا.. مشردة.. لقد بعثرتها الرياح العاتية.. كإحساس عاشق متيم بعيد عن حبيبته التوأم.. يتلظى بنار الشوق الملتهب.. ولا تُخمد ناره إلا بأنفاس روحه التوأم.. إحساس كما عطش الأرض المحتلة لماء الحرية يرويها..نصر ومجد

هناك روحي منذ الأزل.. وتحلق عاليا للأبد.. أتنفس هواء وطني وعطره من عبق الياسمين. الحب وطني.. وأنا وطني.. والحب والوطن وحدة في قلبي لا تتجزأ.. والمحبة وطن الجميع.. فيا ليتني أغفو بين أكمام الزنبق في بلادي.

***

خاطرة: سلوى فرح - كندا

بعد رحلة طويلة، أو جولة على ضفاف بحيرة، أو مقتل امرأة على شاطئ مهجور، يصرخ الكاتب: أريد أن أكتب!

على الفور يضطرب عقله ويرتعش جسده وتأخذ الحقائق التافهة مكانًا مهمًّا في ذاكرته، وتبدأ تجارب الماضي ومخاوف المستقبل في إلقاء كلّ ثقلها على حياته اليومية.

فيا أيها المبدعون!

ادخلوا إلى جنتكم واحتضنوا السعادة!

لكن لو كان الأب بجماليون بيننا، لكان قد طرح نفس السؤال على هذا الجمع الجميل: لماذا كتبتم ما كتبتم؟

أما أنا، فقد عدتُ إلى الوادي عدّة مرات لدفع كرتي الورقية نحو قمّة لم أتمكّن من الإقامة فيها. لم أتوهّم يومًا أنني سيزيف؛ فهو قد وصل إلى هناك منذ فترة طويلة، وهو الآن يستريح وقد أتمّ عمله الفني، ويراقب النمل الذي يتسلق الأوليمب.

مرّة أخرى كرّرت المحاولة؛ ولكن هذه المرة من أجل السيد ن.

سيكون من السهل القول، وفقًا للصيغة المعروفة، أن أي تشابه بين السيد ن. وأشخاص حقيقيين أو عاشوا من قبل، ليس سوى ثمرة خيال المؤلف. لكن السيد ن. قد وجد بالفعل، وتنبؤنا لا يمتّ إلى الهلوسة بصلة. إنّه مصير الآلاف من الناس الذين، كل يوم، يكونون ضحايا الغباء القاتل. كلّ يوم تتكسّر آلاف الأرواح وتنحني الأجساد، وتُقيّد المصائر بالخوف البغيض، وتستسلم لرهبة أن تكون الضحية التالية.

أخاف من الفراغ الذي يخفي الرعب.

أخاف من الحشود المشبوهة.

أخاف من صرير قضبان المترو.

أخاف من الحنين إلى الوطن.

أخاف من هسيس الأوراق في الغابة.

أخاف من كتابة هذا الكتاب.

أخاف من عدم قدرتي على الكتابة مرّة أخرى. أخاف.

وهذه ليست أفضل الأسباب للعيش.

الخوف هو أثقل الأعباء على البشر. فهو يرمي بهم في شكّ غير محدّد وتوجّس غير واضح. إنّه ملاذ البراءة أمام قوى الشرّ وملجأ المُعدمين أمام قسوة جلاديهم. إنّه الجرثومة التي تأكل الذاكرة وتعيق التذكّر.

"نحن نعيش في الخوف ولذلك فنحن لا نعيش" كما قال بوذا.

إذا صادفتُ بجماليون سأقول له: إنّ الإنسان بدون ذاكرة عارٌ على جميع البشر.

ماذا سيبقى من ذاكرة السيد ن. بعد عشرين عامًا من ليلة كلّ الرعب؟

هل يحقّ للإنسان أن ينسى؟

وإذا نسي الضربات التي آلمته، وإذا نسي الشرّ الذي شلّ حَرَكته، وإذا نسي حقده ومرارته، وإذا نسي كل شيء، هل يحقّ له أن ينسى أن جسده قد وُجد وأن صرخاتِ الفرح والغضب قد خرجت من أمعائه، وأن قوى الحبّ والكراهية قد انبثقت من لحمه، وأن أحلامه الناصعة وكوابيسه البشعة قد تفتّقت من أعصابه؟

يا بيغماليون!

يا أب كلّ الأحلام!

ماذا ستطلب من أفورديت في عام 2022؟

ستُقتل غالاتي، وسيُداس جسدها بألف ليلة.

- لكن طينها سيكون قد تسرّب إلى اللحم، وسيتغلغل في العظام. يكفي أن تستنشق راحة اليد: سيظل عطرها عابقا، وشذاها يضوع إلى الأبد.

 في نسخة أخرى من أسطورة بجماليون، يقع الملك الأسطوري في حبّ جسده، فيعتني به لدرجة أنه صار يسيطر عليه، بل صار يستطيع أن يفرض عليه الأحلام، ويعذّبه بالأوجاع، ويرفعه عن الأرض، ويبقيه مستيقظاً لعدة أيام أو يجعله يغرق في نوم عميق لليال طويلة. في قصره نصب مائة مرآة عملاقة، كل واحدة منها قادرة على عكس فكرة أو حركة مختلفة. في ذات اللحظة يمكنه أن يرفع يده اليسرى وأن ينزلها، أن ينظر إلى الأمام وأن يرى ما خلفه، وأن يفكّر في زوجته ويتذكر عشيقته.

توسّل بجماليون إلى آلهة الأوليمب لكي تخلق له شبيهاً كي يتمكّن من لَمْسه وشمّ رائحته وإخضاعه لأوامره، فاستجابت أفروديت، الإلهة الجميلة والأنيقة، لطلبه، وخلقت من إحدى صوره جسداً حياً شبيهاً كاملاً له.

عاش بجماليون والشبيه سنوات عديدة في سعادة، مثل جميع الملوك! خاضا حروباً على حصانين واستخدما سيفين وغرّرا بملوك الأرض.

ذات يوم، عاد أحدهما سكراناً إلى قصره فاكتشف شبيهه الآخر في الفراش مع زوجته، فتملّكه الغضب، وطعن بيجماليون في ظهره.

لن يعرف أحد من قُتل منهما، حتى أفروديت نفسها لم تكن لتستطيع تمييزهما.

منذ ذلك الحين، يهيم بجماليون حول الأرض بحثاً عن دليل يخبره ما إذا كان هو الأصل أم النسخة، ويتأمل في عمله الذي دمّره. وعندما يكون بالقرب من الأوليمب، يطرح دائماً نفس السؤال على جميع هؤلاء المبدعين الذين يحملون أعمالهم تحت آباطهم: لماذا خلقتم هذا؟ لماذا اخترعتم ذاك؟

عندما تهاجم خفافيش الظلام فريستها، تنقضّ على رأسها، وتخترق جمجمتها، لتستخرج المناطق التي تحتوي على الذاكرة والخيال، وتزرع بدلاً منها شريحة مبرمجة للنسيان والخوف؛ ثم تسكب لعابها على وجه الضحية وتحلّق في الهواء وهي تقهقه شامتة.

يا بجماليون !

لقد كتبتُ هذا النصّ لتفكيك تلك الشريحة، لكي يستعيد الجسد المتألّم أحاسيسه، لكي تظلّ الذاكرة خالدةً، لكي تنبثق الموسيقى من اللقاح، لكي لا ينام السيد ن. بسلام، لكي تموت "الخفافيش" من الغيرة!

يا أيتها الخفافيش!

عملاقة أو قزمة!

لم أعد أحتمل ارتداء قناع السيد ن.

أكرهكم كما سيكرهكم.

أحتقركم كما سيحتقركم.

كم أشعر بالعار منكم.

أنتم، في ثيابكم السوداء، وفي أزيائكم الحمراء، أو في تونياتكم البيضاء!

لن تكسروا أبداً حلمي.

لقد صنعته من عذاباتي ووحدتي، وشكّلته من قلقِي وهشاشتي، لكي أرتقي إلى المكانة التي تستحقها الإنسانية.

كان لدي ألف سبب لأكره، ولكنني أحببت.

كان لدي ألف عذر لأستقيل، ولكنني تفتّحت.

لكنني سأكره إلى الأبد شراستكم ضد الأبرياء. سألعن حقدكم وظلامكم وأعلن حبي لنفسي التي لم تحبّوها أبداً.

الحب سيكون سلاحي الوحيد لأقول لكم:

أُكرهكم!

الحب وعي سيتجاوز كلّ الأزمنة، دون أن يسقط تحت نيران رماحكم.

***

محمد نجيب بوجناح - تونس

........................

* من خاتمة رواية "الخوف"، بالفرنسية، للمؤلّف. ترجمة المؤلّف.

(تضم القائمة هان كانج وإيزابيلا حماد وأليس نوتلي وآخرين)

بقلم: ديانا أرتيريان

ترجمة: د.محمد عبد الحليم غنيم

***

تقول نيلا، بطلة رواية الفتاة الطيبة الصاخبة للكاتبة أريا أبر: "هؤلاء الناس. وجودي كله، مختصر بدقة في صفة واحدة تُظهر كل شيء. وُلدت نيلا في برلين، "داخل قلبها العشوائي، كجرذ صغير بعيون واسعة، في الأشهر التي تلت إعادة التوحيد." كما تُظهر هذه الاقتباسات، فإن نيلا ذكية للغاية ولا شك أنها تتمتع بخفة ظل لا تُقاوَم.

ومع ذلك، فهي ممزقة بالكراهية الذاتية. فوالداها، المنتميان إلى البرجوازية الصغيرة في كابول والمُدربان كطبيبين، فرا من الحرب السوفيتية-الأفغانية على أمل حياة أفضل في أوروبا. لكن بدلاً من ذلك، وُضعا في عالم يُعرَّف إلى حد كبير بالعنصرية، والعنف، والإذلال، والعمل المتواضع—واقع يومي لكنه ليس أقل إذلالاً لكثير من الذين يعيشون في مثل ظروفهما."

تنشأ نيلا وسط قلق خاص بالحياة في ألمانيا بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث عرّفها السكان البيض بأنها غريبة مسلمة: "هؤلاء الناس". تتعلم نيلا بسرعة اختلاق أصول عائلية أخرى كدرع واقٍ. تقول عن نفسها وعن أطفال آخرين مثلها: "تعلمنا أن نحتقر أنفسنا بدقة".

تتمثل آمال والدي نيلا لها في أن تكون متعلمة، مطّلعة، "متحررة"—ولكنها في الوقت ذاته مقيدة بأعرافهما الاجتماعية التي تُعرّف إلى حد كبير بقلقهما على نقائها والحفاظ على سمعتهما الطيبة. تقاوم نيلا ذلك بكل قوتها. وفي نهاية المطاف، تكتب آبر: "لقد سمحت للعالم السفلي البراق و المدمر في برلين أن يغرس أنيابه في جسدي".

في سن التاسعة عشرة، تُغرق نيلا لياليها في تعاطي المخدرات داخل نادي برجهاين (المعروف بـ"البانكر")، حيث تقع في دائرة من البوهيميين الفنيين الذين يرفضون التقاليد والرأسمالية عبر موسيقى التكنو، والمخدرات، والفن، والمعرفة. ومع ذلك، تشعر بالاغتراب عن هذه المجموعة، بالنظر إلى حياتها في مبنى يسكنه غالبًا لاجئون ومهاجرون فقراء، تجوب ممراته أشباح النازيين الجدد.

لكن اللقاء الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لنيلا في "البانكر" هو مارلو، اسمه الذي يغمز إلى أسطورة فاوست. كاتب أمريكي شهير، يكبرها بما يقارب عقدين، يخوض مع نيلا محادثات فلسفية عميقة حول الفن والحياة، وسط سحب لا تنتهي من دخان السجائر وجرعات من المنشطات. يستخدم مارلو الجماليات كمبرر لتصرفاته وفي الوقت نفسه كوسيلة لتجنب التأمل الذاتي العميق، يحمل وشومًا كثيرة كإعلان لرفضه "الانصياع" لكنه يخفيها بسهولة في الحفلات الراقية.

يعذب مارلو نيلا في البداية بتأجيل رغبتها المتأججة (قبل أن يشرع في تعذيبها بشكل أكثر وضوحًا)، ويعاملها بتعالٍ بسبب قلة خبرتها، ولكنه في الوقت نفسه يخبرها بأنها مميزة. بهذا المعنى، يُجسّد مارلو كابوس والديها (وكابوس القارئ أيضًا!). في إحدى المرات، عندما كانت نيلا أصغر سنًا، كان والدها، الملتاع لحمايتها، يرغب في إرسالها بعيدًا للدراسة. لكن والدتها عارضت بشدة، وهمست قائلة: "العالم يكسر الفتيات في كل مكان. لقد فات الأوان." ويبدو من المستحيل إنكار حقيقة هذا التصريح.

أشعر أن هذه الأوصاف تقدم السرد بشكل منظم، رغم أن آبر تتقن اللعب على كسر التسلسل الزمني. ننتقل بين حياة نيلا مع مارلو والمخدرات والتصوير والأدب خارج جدران شقة عائلتها الخانقة، وبين ذكريات العائلة، وغرفة طفولتها، والنظرات التي تلاحقها في كل مكان.

بينما يجعل هذا التوتر (ولغة آبر المتألقة) القراءة مشوقة، فإنه في رواية الفتاة الطيبة يؤدي دورًا أكبر. إذ يبرز الطرق التي ينقسم بها عالم نيلا إلى نصفين، ويجسد رعبها الواضح من احتمال تلاشي الحاجز الفاصل بينهما. وهو أمر ملموس للغاية.

في قائمة الكتب التي تنوي قراءتها، تقول أبير،

لقد انتقلت للتو إلى مكان جديد ومعي حقيبة كتب واحدة فقط، لذا فإن منضدة السرير الخاصة بي تعمل أيضًا كمكتبتي لبضعة أسابيع. كتابي الخاص، للأسف، جزء من هذه المجموعة لأنني مضطرة لإعادة قراءته الآن—لقد ترجمته إلى الألمانية وحذفت كل ذكرياتي عن كلماتي الخاصة من ذهني؛ والآن أعيد دخوله استعدادًا للنشر.

لكن في الغالب، كنت أقرأ الكثير من كتب التاريخ والكتب غير الروائية كجزء من بحثي لمشروعي القادم، لذا تقريبًا كل شيء آخر، باستثناء بعض العناوين القليلة، يتعلق بذلك الغرض. وبالطبع، يجب أن أقول إن المجلد الثاني من كتاب ماركس دائمًا ما يتجاوز فهمي بتلك المعادلات... لكنني أحتاج إلى بعض منه للبحث، وربما يكون أفضل كتاب قبل النوم من حيث قدرته على مساعدتي على النوم.

هان كانج، نحن لا نفترق (ترجمة إي ياوون وبيج أنياه موريس)

فازت هان كانج مؤخرًا بجائزة نوبل في الأدب، كما رفضت عقد مؤتمر صحفي احتفالي بسبب "الحروب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا، وإسرائيل وفلسطين، حيث يتم الإبلاغ عن الوفيات يوميًا." وقالت إيلين ماتسون من الأكاديمية السويدية عن رواية نحن لا نفترق:

"يخلق الثلج مساحة يمكن أن يلتقي فيها الأحياء مع الأموات، وأولئك العائمين بينهما الذين لم يقرروا بعد إلى أي فئة ينتمون. تدور أحداث الرواية بأكملها داخل عاصفة ثلجية، حيث تنساب الذات السردية عبر طبقات الزمن أثناء تجميع ذكرياتها، متفاعلة مع ظلال الموتى ومتعلّمة من معرفتهم—لأنه في النهاية يتعلق الأمر دائمًا بالمعرفة والسعي وراء الحقيقة، مهما كانت لا تُطاق... النسيان ليس أبدًا الهدف."

إيزابيلا حماد، التعرف على الغريب: عن فلسطين والسرد

أشعر بالارتياح لفرصة اقتباس حماد من مقابلتها مع ديفيد نايمون في برنامج بين الأغلفة، حيث أن الحلقة صدرت بعد مساهمتها في هذه الزاوية. في حديثها عن التعرف على الغريب، قالت حماد عن الإبادة الجماعية في فلسطين وأماكن أخرى:

أعتقد أنه من المفيد التحدث عن الإنكار كظاهرة، ليس فقط فيما يتعلق بفلسطين، بل أيضًا فيما يخص هياكل الإمبراطوريات والتواريخ المتعلقة بالإبادة الجماعية التي لم يتم الاعتراف بها. على سبيل المثال، ارتكبت ألمانيا أكثر من إبادة جماعية واحدة. وماذا عن ناميبيا؟ هذه الحقائق لم تُعترف بها في محكمة العدل الدولية، ولم يُقدّم تعويض أو محاسبة.

هناك إنكار مستمر لهذه التواريخ، وهذه الحقائق بدأت تظهر أخيرًا إلى السطح. نحن نرى فقط طرف الجبل الجليدي، بينما هناك كتلة ضخمة تحت السطح. لا عجب أن الناس في حالة إنكار، لأن مواجهة هذه الحقيقة تعني مواجهة العديد من الأمور التي تشكل حياتهم ومجتمعاتهم. وهذا أمر مخيف حقًا.

أليس نوتلي، هبوط أليت

باستخدام كتاب "البطل ذو الألف وجه" لجوزيف كامبل بالإضافة إلى قصص إينانا وغيرها كخارطة، كتبت نوتلي هذه القصيدة الملحمية المدهشة والغريبة ذات الطابع الصوفي والأسطوري. أليت، امرأة تعيش في عالم بائس، يُقدَّر لها أن تركب المترو بلا نهاية، الذي يديره "الطاغية". في يوم من الأيام، يُكلفها غريب باستخدام قوتها لقتل شرير العالم الذي تعيش فيه.

كتبت نوتلي القصيدة في أعقاب وفاة شقيقها. فقد توفي بسبب جرعة زائدة من المخدرات بعد عقد من خدمته في الحرب الأمريكية الفيتنامية، حيث أُجبر على ارتكاب أعمال عنف مروعة وخرج منها مصابًا بصدمة نفسية عميقة. وفي محاضرتها عن أليت بعنوان "الملحمة "الأنثوية"، تقول نوتلي:

فجأة، وجدت نفسي، وأكثر مني، وزوجة أخي وأمي، عُرضة للاستغلال والتشويه من قِبَل قوى تنتج الملاحم، ولم يكن لنا أي رأي في الأمر، ولم يكن لنا قط، والأسوأ من ذلك أننا لم يكن لنا أي قصة. لم نتحرك. لم نخض حرباً. ومن المؤكد أننا لم نكن "في البلاط" (بالمعنى الملكي)، ولم نكن مشاركين في هياكل السلطة الحكومية، ولم تكن لدينا أصوات تشارك في المناقشات السياسية العامة. لقد عانينا، ولكن دون مسار.

كارل ماركس، رأس المال: الجزء الثاني

لا أعرف ما إذا كنت سأقدم رؤية جديدة أو معلومات إضافية حول ماركس أو هذه النصوص، لكنني سعيد بأن أقتبس من الخيالات الموضوعية لسلافوي جيجيك عن الجزء الثاني من هذا العمل الحيوي: "رأس المال، الجزء الأول يعبر عن المصفوفة المجردة والعالمية (المفهوم) لرأس المال؛ أما رأس المال، الجزء الثاني فينتقل إلى الخصوصية، إلى الحياة الفعلية لرأس المال بكل تعقيداتها الطارئة."

ويتابع جيجيك:

هناك سمتان حاسمتان هنا، وهما وجهان لعملة واحدة. فمن ناحية، ينتقل ماركس من البنية النظرية الصرفة لإعادة إنتاج رأس المال (الموصوفة في المجلد الأول) إلى الواقع، حيث تنطوي إعادة إنتاج رأس المال على فجوات زمنية، وأوقات ميتة، وما إلى ذلك. وهناك أوقات ميتة تقاطع إعادة الإنتاج السلس، والسبب النهائي لهذه الأوقات الميتة هو أننا لا نتعامل مع دورة إنتاجية واحدة، بل مع تشابك دوائر متعددة من إعادة الإنتاج التي لا يتم تنسيقها بشكل كامل أبدًا.

في مراجعتها لرواية إلياس خوري باب الشمس في صحيفة نيويورك تايمز عام 2006، تبدأ لورين آدامز قائلة: "بالنسبة للأمريكيين... لم يتحرك الاهتمام بالأدب العربي، حتى بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في 1988، بعيدًا عن علي بابا والسندباد." ومن المحبط أنه من الصعب تحديد ما إذا كان هذا قد تغير في ما يقارب العشرين عامًا منذ إعلانها.

تستكمل آدامز:

[في حين] يستكشف راوي خوري الحرمان الفلسطيني والقسوة الإسرائيلية، فإن هذه ليست رواية متوقعة مليئة باليأس والاتهام... لقد كانت هناك روايات قوية عن الفلسطينيين ومن تأليف فلسطينيين، لكن قِلة من الناس هم الذين سلطوا الضوء على الأساطير والحكايات والشائعات التي تروجها إسرائيل والعرب بمثل هذا القدر من التعاطف والتمييز. وفي ترجمة همفري ديفيز الشعرية البسيطة، تُعَد رواية بوابة الشمس رواية غنية وواقعية بشكل مهيب، وهي تحفة فنية حقيقية.

غسان كنفاني، لويس بريوني (محرر)، تحرير حمدي (محرر)، كتابات سياسية مختارة

"بالنسبة لكنفاني، كانت المقاومة جوهر كل ما كتبه، فضلاً عن الحياة التي عاشها كمفكر ثوري ناضل من أجل تحرير فلسطين بقلمه"، كما كتبت بيناي بليند في مراجعتها لصحيفة ذا بالستاين كرونيكل.

إن الكتاب مرتب وفقاً لموضوعات بارزة في عمل الكاتب – كنفاني ووسائل الإعلام، وبناء الجبهة الماركسية اللينينية، والقومية العربية والاشتراكية، على سبيل المثال لا الحصر... إن هذه المجموعة من كتابات كنفاني توفر مادة لا تقدر بثمن للتعليم السياسي. ومع تزايد القمع ضد الفلسطينيين في الشتات وأنصارهم، من المهم معرفة هذا التاريخ. حينها فقط يمكن بناء دفاع قوي ضد أولئك الذين يعتزمون إسكات التنظيم في جميع أنحاء فلسطين إلى الأبد.

إلين براينت فوجت، فن التركيب: إيقاع الفكر، إيقاع الأغنية

يعد كتاب فوجت فن التركيب جزءًا من سلسلة فن الفن التي تنشرها دار جراي وولف، حيث يتأمل المؤلفون في الممارسات الفنية، وتشمل السلسلة أيضًا كتاب فن الموت: كتابة القصة الأخيرة لإدويدج دانتيكات وفن المراجعة لبطرس هو دافيز. يكتب مايكل موريس عن عمل فوجت في بلوشيرز،

من خلال تسليط الضوء على الأنماط النحوية الشائعة وترتيبها الموسيقي، واستكشاف كيفية تفاعل الخطوط الشعرية مع الجمل، وتوضيح كيف يمكن للعبارات أن توازن أو تقوض المقياس، وتسترخي أو تدفع الوتيرة، وتسجل السرد المتكشف، يكشف فويجت عن تضاريس مفصلة للموسيقى والمعنى المترابطين... تسمح مخاوف فويجت الأكبر مع التطور الشعري من الينابيع البنيوية بمجموعة متنوعة من الجماليات حيث يسبح الشعراء مع، وضد، وداخل التيارات النحوية للغة الإنجليزية.

جون بيرجر، "احتفظ بكل شيء عزيزًا: تقارير عن البقاء والمقاومة"

من خلال كتابه طرق الرؤية، بدا أن بيرجر قد غيّر الحوار الجمالي من خلال تحدي التقاليد الغربية في الجماليات (ونشكره على تقديمه مفهوم "النظرة الذكورية"، حتى وإن كان قد تم تنفيذه لآلاف السنين). تقول نصوص الغلاف لكتاب بيرجر احتفظ بكل شيء عزيزًا:

" احتفظ بكل شيء عزيزًا" هو تأمل قوي في المقاومة السياسية والبحث العالمي عن العدالة. من "الحرب على الإرهاب" إلى المقاومة في رام الله والتشرد المأساوي في الشرق الأوسط، يستعرض بيرجر دور الفن كأداة للمقاومة السياسية.

بأسلوب حيوي وعاطفي، يُعد احتفظ بكل شيء عزيزًا تأملًا عميقًا في أقصى حدود السلوك البشري واليأس الكامن وراءه. من خلال استعراض الوضع في أفغانستان وفلسطين والعراق، يوجه بيرجر هجومًا قويًا على الفقر وفقدان الحرية في جوهر هذه المعاناة غير الضرورية. تقدم هذه المقالات تأملات حول السياسة في صميم التعبير الفني وفي مركز الوجود البشري ذاته.

إليزابيث جولد، بول فيتزجيرالد، التاريخ الخفي: القصة غير المروية لأفغانستان

كتبت Publishers Weekly في مراجعتها المميزة لعام 2008 لكتاب التاريخ الخفي:

"يقدم الصحفيان فيتزجيرالد وجولد عملاً شاقاً في إزالة الضباب وكشف الفشل الأمريكي في أفغانستان في هذا الكتاب العميق البحث، المقنع الحجة، والمهم للغاية. يظهر المؤلفان كيف أن أفعال الولايات المتحدة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأخطاء السابقة — وكيف أن السياسة الأمريكية وضعت الأفغان والأمريكيين في خطر شديد.

كانت أفغانستان، التي تقع عند مفترق طرق ثقافي، مؤهلة لتكون "حاجزًا هشًا" بين الإمبراطوريات المتنافسة. إن إنشاء بريطانيا عام 1947 للحدود التعسفية وغير القابلة للدفاع بين أفغانستان وباكستان الجديدة "من وجهة نظر أفغانية... كان دائمًا المشكلة ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بشكل خاص، لم يول صناع السياسات الأميركيون اهتمامًا كبيرًا لمخاوف الأفغان، مفضلين حشر أفغانستان المتخيلة في نماذج القوة الأميركية.

إريك بينيت، ورش الإمبراطورية: ستيجنر، إنغلي، وكتابة الإبداع الأمريكية خلال الحرب الباردة

"في كتابه ورش العمل، يظهر بينيت كيف أن الهيمنة الجمالية لورشة الكتابة في أيوا، التي كان يديرها بول إنغلي، وبرنامج الكتابة الإبداعية في جامعة ستانفورد، الذي كان يديره والاس ستيجنر، كانا منتجين محددين لمكانهما وزمانهما: الولايات المتحدة في الخمسينيات من القرن العشرين"، كما كتبت ريبيكا ويفر في كتابها "تاكسي المطر".

لم تكن هذه البرامج مُمولة ومدعومة فقط من قبل سياسات ووكالات حكومية مختلفة (مثل قانون الجنود القدامى "GI Bill"، ووكالة المخابرات المركزية "CIA"، ومنظمة اليونسكو "UNESCO")، بل أيضاً من قبل مؤسسات خاصة (وأبرزها مؤسسة روكفلر). … في حين أن الكثيرين وصفوا هيمنة أيوا وتألقها بكلمات مثل "طبيعية" و"جودة"، يجادل بينيت بأن نوع الكتابة الذي تم تقديره في أيوا (وفي البرامج التي أنشأها خريجوها) نشأ من أهداف ورغبات محددة، بالإضافة إلى "طموحات ومخاوف غريبة" مرتبطة بالحرب الباردة.

وعندما توافقت تلك الأهداف مع أهداف حكومية أو خيرية، حظيت بتمويل جيد للغاية.

***

.......................

* وُلدت آريا أبر ونشأت في ألمانيا، وتعيش حاليًا في الولايات المتحدة. أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى أضرار جسيمة التي حازت على جائزة Prairie Schooner للشعر وجائزة Whiting Award. كانت زميلة في برنامج Wallace Stegner بجامعة ستانفورد، وهي الآن طالبة دراسات عليا بجامعة جنوب كاليفورنيا. ظهرت أعمالها في مجلات أدبية مرموقة مثل النيويوركر والجمهورية الجديدة ومجلة ييل وجرانتا وغيرها. رغم نشأتها متحدثة بالفارسية والألمانية، تكتب آريا بالإنجليزية كلغتها الثالثة. صدرت منذ أيام قليلة روايتها الأولى: فتاة طيبة عام 2025 عن دار هوغارث في الولايات المتحدة ودار بلومزبري في المملكة المتحدة، وستُترجم إلى الألمانية، الإيطالية، الإسبانية، البرتغالية، السويدية، واليابانية. تشغل منصب محررة للشعر في مجلة أميوليت ومحررة مشاركة في مجلة ييل، كما تعمل أستاذة مساعدة في الكتابة الإبداعية بجامعة فيرمونت. تقسم وقتها بين ولايتي فيرمونت وبروكلين. (اقرا مقتطفا من روايتها فتاة طيبة من ترجمتنا على موقع المثقف)

https://almothaqaf.org/translations/979382

الكاتبة: ديانا أرتيريان / Diana Arterian: شاعرة وناقدة ومترجمة أمريكية، من المنتظر صدور مجموعتها الشعرية: أجريبينا الصغرى (منشورات جامعة نورث وسترن، 2025). أما كتابها الأول، العب دور الوحش: سيتش (منشورات 1913)، فقد حظي بمراجعة متميزة في مجلة: Publishers Weekly وكان من اختيارات محرري مؤسسة الشعر. كما قامت ديانا بتحرير الأنطولوجيا المشتركة بين الهوامش: الكتابة النقدية والشعرية حول الجماليات (ريكوشيه). وهي محررة شعر في منشورات نويمي. تكتب ديانا عمود طاولة الليل المشروحة في ليت هاب، وقد نُشر شعرها، ونصوصها غير الخيالية، ونقدها، وترجماتها المشتركة، وحواراتها في بومب، وبروكلين ريل، ومراجعة جورجيا، ومراجعة الكتب في لوس أنجلوس، وإن بي آر، ومراجعة كتب نيويورك تايمز، وموقع مؤسسة الشعر، وغيرها. تعيش ديانا أرتيريان في لوس أنجلوس.

مدخل ركيز: هنالك معارف آتية من حصص التعلم، وهنالك كفايات مهراتية ادماجية تتوسط المدرسة والمحيط الاجتماعي، وهنالك التنمية الذاتية المعرفية، ولكن هنالك ما هو أهم وهي التجارب الحياتية الموضوعاتية...

للكتابة طُعمٌ مُرٌّ لا يَلوي قَبضا على حلاوة، إلا عند تذوق ألم مِدادِ حروف حُزن مُرَّة. فعند تفجير كلمات الصمت سواء في السر، وكذا في العلن، تسيلُ كُلُّ دموع التَّاريخ المتراكمة بالعبث والفوضى المروِّعة لحياتنا الفردية والجماعية. لكل مِنَّا حكايات في عمره الزمني، حكايات تحمل بالقلة القليلة نسائم عطر مريح، وتتوشح مرات عديدة بوشاح الوجع والألم الصارخ بين متناقضات الولادة والموت. وقد تحمل الحكايات توهج دخان الحرائق النفسية والذاتية، ويبقى الرماد المتهالك يتسيد وقوفا عند ملامسة أي حرف من حروف العلة التي تحمل شِدَّةَ الرسم في الكتابة.

حين نُفتش في الملفات الساكنة بالخمول في ممرات حياتنا الدانية، وعند مُقْتضى سد قضائي إلزامي وافتراضي بعلامة (قف)، يترجل الخوف عنَّا مشيا ومعاندة، وتنكشف أوراق القضايا اللاصقة بالذكريات الماضية بالإفراج الاحتياطي، و لما لا تمطيط الإقامة الجبرية في قفص عذاب الضمير (الأنا العلوية).

 كل مِنَّا يُمارس رسم حائط مبكى المريح، وسجن الأسرار في ذاكرة علوية مُقفلة، وتكليف حراس أمن شداد غلاظ  كي لا تنكشف المُخزنات بالتعرية والفضح، والتقاسم المريح بالنميمة. بصدق القول: فكل زمن الورد والشوك في ممرات حياتنا تغدوا مشفرة المداخل والمخارج، ولا نقدر على ممارسة حرية (أنا هكذا ... هي ذي حياتي)!!

حقيقة لا مفر منها بالذكر الاحتياطي، ولن نتزايد برهة عليها بالتسويف والتملص، فحتى دخان حرائق الماضي يبقى ينبض فينا بمتناقضات الحب والموت، وتصير الذكريات جزء من ماضينا، عندها أقول: (من لا حاضر له لا ماضي عنده، وبمتوالية ادفع لا مستقبل له بتاتا !!!)، و هذا ما ألفنا تسميته (الجيل الذهبي) الذي يبيت يلعب بأبخرة التفاخر وتمجيد الأسياد !!! من تم هي خُدعة (الجيل الذهبي) التي نعيشها ضمن لُعبة (العبْ وكُولِ)!!! وقد شربنا من مرارتها حرق ذواتنا في مفاتن عطر كنا نحن العبيد عنده لا الأسياد.

مَنْ مِنَّا يوما، لم تنل منه المعاول الناسفات أجزاء من حياته ووضعيته الاعتبارية والاجتماعية بالهدم والتنكيل. مَنْ مِنَّا، حين يفيق من غفوة نوم متقطع، يجد نفسه قد أضاع حلمه في سرير حرير مشلول، ومملوك لساحرات الأماني العويصة. مَنْ مِنَّا، لم يُجرب تَنْكيس رأسه في الرمال أمام ضغط هَمِّ الحياة، وبات يبحث عن السلم الذي يُعرف عند المنهج السيميائي بأنه: (فترة بين حربين). مَنْ مِنَّا، اغتسل بأشهى الخمور، وتطهر بالغطس، بعدها تناول وجبة من مصل مصاصي الدماء، وبات من جيل (الحَدِيدِ المَصَدِّي)!! مَنْ مِنَّا، أضاع مركبة الحياة الحجرية، وبات يتعلق خلف شاحنة حديثة، يشيخ معها العمر بالذبح وبلا دموع نازفة، وبدون عودة ممكنة!!

قد تكون المعاول السخافات تُفتن المتناحرين على نحر الحياة، وهذا هو الخطر حين صاروا عددا غير متناهي الحساب، ويمارسون التنظير المعياري والتوجيه السلوكي للقيم. من المتعب عند الكتابة أن نُعانق الغمام مثل قطن جُرح ينزف دما. من المتعب الأكيد أن هواء التغيير يتعرى أمامنا جميعا بمحسنات الحداثة (البعدية)، ولا نقدر نحن أن نخرج من تفكير الصندوق، ومن الظل الرمادي المريح (ناموا ولا تستيقظوا)....

***

محسن الأكرمين

لآلاء تتشوق للإشراق، تبرق في جوف الأوجاع، تنهض من بطن الجرح، تتحدى قهرا مطمورا في القاع. فيض الروح والجنان، نبض الوجد والزمان، ملحمة الصيرورة في قلب الأزل، ورحلة الذات في أعماق الأبد، نار و ماء وتراب و سماء، تتنامى في الفضاء.

أهزوجة كونية، وصرخة أرضية، ورقصة روح عارية، على مسارح الأكوان الصافية.

بحر لا تشبهه البحار، وصوت يسافر في الأنوار، وقوة جذب لعروش البدايات، وتمام الخطوات في درب الأخطار.

أنشودة النقاء، والبهاء، ومسلة الرؤى في قلوب الذرات، وأحلام النداء.

تحليق دائب، في آفاق اللامنتهى، وتوحد لذيذ، في دياجير الضوء المتناهي.

طاقة خلق، وفعل مجد، وأهزوجة إبداع، وملحمة تفاعل الأحياء مع الأحياء،

وتزاوج الأشياء مع الأشياء

محض ابتداء أو فناء، يجذبنا نحو النهايات، يخرجنا من قيود البدايات، يدفعنا بعيدا

في مدار الأمنيات.

يلهمنا معاني الحب السامي، ويطعمنا من شهد العناء والتجلي، ويسقينا من سلاف الأشواق والأمل.

أقوى من الجنون، وأعتى من رياح صرصر يكون، يصنع الحياة، ويلهم النبات،

النداء الكامن في قلب البذرات، يدفعها دوما، لامتزاجات الانبثاق، في التربة والماء،

يجعلها تتفجر، بطاقات السموق والعلاء، يمنحها حب الصيرورة والعطاء.

العشق الفياض في قلب الذرات، يتحدى قيد التراب، ويمنح الفضاء الأرضي لونا أخضر،

ويملأ الأفواه بالأثمار، ويجعل الأطيار تغرد بألحان المجد الرباني، وتسبّح لخالق الطير والنبات.

يحضر فينا، يقبّل وجه الشمس، يحتضن الضياء، ويصلي في محراب،  الصيرورات المطلق.

لهيب يتحدى الظلام، ويقتل الخمول، ويوقظ الغفاة، من سكرة الضياع والذبول، وهو كون المتعة، وانفجار اللذة، وفيضان الروح، على ضفاف الوجود العطشى، للأمل والحب واللقاء.

فجر الأنوار الروحية، ومعبد الآهات الإمعانية، ومدينة النقاء الإيمانية، ومعلمنا في مدرسة

الصيرورة الإيقانية.

العشق، يتوطننا، يسكن فينا، يحركنا، يسقينا من شوق الكون، يدثرنا بنار الفجر، يهدينا   آلات الأمر، يجعلنا أطيارا، في قلب الطير.

العشق لا يسألنا، يأتينا ممتطيا، حصان الأجوبة السرمدية، حاملا أزاهير المجد العلوية، ينثر فوق رؤوسنا، عطورا من ماء الحرية، يأخذنا لنجمة، تتهادى سكرى بالحب، قرب الكواكب الدرية.

العشق جواب الأسئلة، المعتقة في أحضان الأجيال البشرية.

عرش الفقراء والجائعين، وتاج البائسين، وجنة اليائسين، وجهنم الحاقدين.

إكليل على رؤوس المحبين، وحلم من أحلام الأنبياء والمرسلين

.

كون وأرض، مكان وزمان، منطلق ومنتهى، ورسالة تخترق الأزمان، وتعبر الأجيال، وتسافر إلى حيث موطن الخلود الأكبر.

رؤية ما بعد الرؤية، وكلام ما بعد الكلام، وفكرة ما بعد الأفكار، وصرخة لا تسمعها الآذان،

بل تعيها الأفئدة، وحواس الإنسان المتحرر من قيد الأرض النمامة.

حب الحب، نبض النبض، جرح القلب، نور العين، يحمينا من أخطار الحقد، ينجينا من أكدار العمر، يهدينا نبضا من نور، يأتينا بالخير الأوفر.

العشق أن تطوف في أودية الوجدان، وتكون موجة في مياه النُهران، وتلامس قلب الشطآن، وتستشعر لذة الضفاف، عندما تقبلها الأمواج، ويتسرب الماء، في عروق الذرات والأشجان.

إدمان المطلق، وفيه تتجلى آلهة الذوبان، في أكوان الإنسان، وفي أنوار الرحمان.

طوفان روحي، وهياج يقيني، وإمعان في الإمعان.

يختزن أشواق الصخور، لقطرة ماء تسقيها، فتطلق ما فيها من أكوان.

ملحمة تفاعل الأحياء والأشياء، على صخرة نائية، من خوفها ورعبها، تدور لكي تصاب بالغثيان، فتنقطع عن الإحساس، بدياجير المجهول السحيقة، صخرة عجيبة ، أسمها أرضنا الحبيبة، نعشقها حتى نتفتت، ونكون هباءً كونيا منثورا، فدعها تدور، إن استفاقت من دوراتها ستنفجر من شدة الرعب المكنون، وستلقي بما تحمل في كف اللامعلوم، فهل ستستيقظ؟

صخرة لا تشبه الصخور، وهل للأرض عاشق مخبول، يريدها ولا يرغب بمن عليها، لا جواب، ولكن العشق لا يغور.

العشق، مأوى الأحلام، بيت الأيام، وقلب الكون الخلاق، ينبض في صمت، يصنع مجد الأشياء، في بحر الكل الخلاق.

سر مكنون، بالطيف المدفون، في أحلام الجرح، في برق الروح، ينطلق كالنسر الخفاق

من علياء المجد، يبحث عن معنى ما يعني.

رقصة ذرات الوجد، في أحزمة الضوء، المنشوبة في صدر الفجر، يتغذى من نور يسري، في أحشاء الأنات، يبحث عن مأوى، يسأل عن معنى الإطلاق.

مصباح في أروقة المنى، في رياض الهوى، فوق خيمة التماهي في قطار الصاعدين

إلى عين الأنوار القدسية.

ولولا العشق لغابت الأحياء والأشياء!!

***

د-صادق السامرائي

21\11\2006

يعد الشاعر" كزار حنتوش 1945 ــ 2006" صوتا شعرياً مميزاً ونمطا متفردا في الساحة الشعرية العراقية، لما تمتعت به قصيدته من مزايا تعذر على العديد من الشعراء مجاراتها ومحاولة تقليد لغتها وبساطتها وعمقها الأمر الذي جعل منها بصمة خاصة به، ورغم الكثير الذي كُتب وقيل في تجربته الشعرية لكن الضوء لم يسلط بشكل كافِ على  امكانياته العالية في كتابة المقالة الساخرة التي ظهر عليها في مقالاته الصحفية التي نشرها في جريدة الديوانية بعمود حمل عنوان (حنتوشيات) والذي رصد فيه جملة من المتغيرات التي شهدتها الساحة العراقية بعد التغيير في عام 2003 حيث ظهر كزار في تلك المقالات ناقدا بارعا ولاذعا لبعض افرازات الوضع الجديد، كما أظهرت قدرته على صياغة حوادث شخصية عابرة في مقالات وجد فيها القارئ المتعة ورصانة الاسلوب دون السقوط في فخ الاسفاف وكشفت ايضا عن قدرة الشاعر على تطويع المفردة  في مجال الكتابة الصحفية بذات المستوى الذي عليه في نصوصه الشعرية ، وفي عام 2007 وعلى هامش احياء الذكرى الاولى لرحيله قمت على عجل بإعداد المتيسر من تلك المقالات واصدارها في كراس حمل عنوان (حنتوشيات) تم توزيع نسخ محدودة منه في تلك المناسبة على أمل اعداده بشكل كامل الا ان هذا الأمر لم يتحقق لأسباب خارجة عن ارادتي .

واكراما لذكراه الثامنة عشر التي مرّت في التاسع والعشرين من شهر كانون اول الماضي ننشر واحدة من مقالاته الصحفية التي تجمع السخرية اللاذعة بدقة وجمال الوصف وهي تمثل جانبا من عطائه الابداعي وقيمة أدبية لا تقل أهمية عن منجزه الشعري .

***

ثامر الحاج امين

.........................

حراميان ورعان

بقلم: كزار حنتوش

شاء لي حظي العاثر ان ادخل في نقاش أدبي مع شاعر يعتبر ان (جواد جومة)* هو اعظم شاعر في العراق، وان (مظفر النواب) لا يرقى الى مرتبة (بوي) لهذا الشاعر العظيم، وانصرم الوقت سريعاً وادركني الليل وعندما نظرت الى ساعة المقهى الحائطية وجدت انها التاسعة والنصف ليلاً، معنى هذا انني سوف لن اجد سائق تكسي يوصلني الى (حي الاسكان)* حتى لو كان السائق هو (جميس بوند)، ارغمت الشاعر المتأخر معي دفع اثمان اقداح الشاي وعاقبته بأن اقترضت منه 10000 دينار وقررت عدم ردها اليه حتى لو كانت لدي اموال قارون، قررت قطع المسافة الطويلة مشيا " متوكلا على الله، وقرأت تحسبا للمفاجئات آية الكرسي " وفاجئني صوت هزيم الرعد: حجي اوكف. توقفت، وحالا برز لي من عطفة جانبية شخصان لا يكشفهما حتى ليزر الامريكان، وابرزا مسدسيهما " سلّم.. سلّم "، فرفعت ذراعي حتى وصلت الى نجمة القطب وقلت لهما وقد الجمني الرعب: ما الذي تريدانه ايها الصديقان؟، فلكزني اسمن واحد فيهما بمسدسه على ضلعي الايسر، لأنني يساري ربما، مالك او حياتك فهششت وبهشت في وجهيهما على طريقة مثل اخواننا المصريين (قالوا للحرامي احلف. قال جاك الفرج) وقد رسمت ارق ابتسامة على وجهي، ابتسامة كانت يمكن ان تهدى للمرحومة (ديانا). لا املك شيئا قلت باستهتار عندما لمحت انف زجاجة عرق يطل من جيب احد هذين الصنديدين قلت وقد بلغ بي اليأس والعطش مبلغا لو دخل فيه محي الدين بن عربي لتخلى عن الصوفية. قلت عطشان والله عطشان ما عندي لا دينار ولا ديناران، انا انسان غلبان مما حدا بالسمين الورع الى اخراج قنينته الافرنجية التي ما رأيت مثلها طيلة حياتي انا الذي يطلق العراق من شماله وجنوبه لقب السكير العربيد، نعم لقد فعلها الشهم وقدّم لي الفودكا الالمانية وبأسرع من هات ولا. كنت قد كرعت القنينة كاملة، فطردت مع تلك الكرعة الشهيرة الخوف والاثم، وكل مافيا (صقلية). وسرعان ما ركبني شيطان الشعر فانشدت بيتا لابد انه قد وصل الى أذان مؤذن الجامع، واساتذة الديكة متناغما معي بلحن رائع. اسقوني يا ثقاتي.. ان في موتي حياتي

فرمى اللص السمين مسدسه لبركة صغيرة واجهش صديقه النحيف الصغير بالبكاء باختصار انتظرنا بصبر ايوب انتهاء الاذان وبعدها لعبت بنا الاقداح شاطي باطي، وعندما صحوت في الثانية عشر ظهراً وجدت بجيبي الايمن عشرة الأف دينار وفي الايسر بطل فودكا مع ورقة صغيرة تقول: ارجوك.. ان لا تسلك بعد الآن هذا الشارع والا فسوف ننظم الى طائفة الشحاذين والمتسولين، ارفق بنا من فضلك يامن الله لا يسلطك على حرامي مسلم .

***

.....................

* جواد جومة / شاعر شعبي من الديوانية

* حي في اطراف مدينة الديوانية سكن فيه الشاعر

 

ندخل عوالم الفنانة التي هامت باللون والرسم منذ طفولة ما زالت تقيم فيها حيث الفن عندها حالات تذكر جمالي تجاه القبيح والمربك والساقط في أكوان بمتغيراتها المدوية تسعى لتشييء الكائن وجعله مقيما في أزماته ومتروكا مثل متحف مهجور.

الفن حمال معان راقية ومجمل حالات ومكمن أحلام عالية تجاه الضجيج والانهيار.. انها لعبة الفن يستعيد معها الفنان شعرية الفكرة وهي تنبثق من الأمكنة في بهائها النادر.

المكان هنا معتبر ونعني الجمال والحلم حيث الخطى الأولى والتلوين البريء والبدايات.. المكان مكانة.. نعني جربة.

هي حكاية فنانة بدأت الرحلة الفنية من جربة وتعددت بعد ذلك أمكنتها وجهات الهامها لتتعدد ألوانها وأعمالها الفنية تعدد حالات حلمها وأحاسيسها.908 aziza albajei

الفنانة التشكيلية عزيزة بحر الباجي نهلت من المكان كذاكرة وحياة وبرمزية ضاربة في الزمن.. من جربة انطلقت لتتعدد معارضها ومشاركاتها الفنية والجمالية.. لوحاتها توزعت على تلوينات شتى بين المشاهد والامكنة والبورتريه والطبيعة الميتة وغيرها.. تنظر في اللوحات لتسافر في المشاهد الأخاذة منها عطور الحالات الجربية في الشارع والسوق واللباس التقليدي وصولا الالوجه المنتصف الحالة والنظر ووجه الطفلة غزالة الطافح بالبهجة العارمة حيث اللون عنوان براءة وحلم في تناسق جمالي دال على التشبع بالموضوع والمشهدية العميقة.

هامت عزيزة بفنون الرسم لترى العالم علبة تلوين ومتنت صلتها في كل ذلك عبر الفنانين الايطالي ديماتشيو والجزائري أحمد بلاب والتونسي طارق الفخفاخ وهي التي تخصصت في دراستها في العلوم القانونية.. مضت مع الفن التشكيلي تحمل جربة في القلب وما به تزخر من سحر وبهاء جمالي نادر تستنطق حالاتها ووجدانها وتاريخها العريق بتعدد ثقافاته والحضارات العابرة به وصولا الى جربة الآن وهنا.909 aziza albajei

جربة هذه الفاتنة.. وأنت تمضي اليها.. تشعر بشيء من السحر ينتابك بحيث يصعب أن تغفل للحظة عن القول بالعذوبة والدهشة والحنين تجاه ما تراه العين.. وأما النظر هنا فهو بعين القلب.. لا بعين الوجه.. هي الأرض التي تأنقت عبر العصور.. من الحقب التي مرت بها تعلمت فن الجمال.. كيف لا وهي المحفوفة بالماء.. الأزرق سرها الدفين.. القباب عناوينها.. والمنازل المثقلة بالحكايا.. وهل ثمة حكايات باذخة المتعة غير تلك التي عرفتها الأرض القديمة قدم ناسها..

من الفينيقيين والبونيقيين والنوميديين والرومانيين والبيزنطيين.. إلى الفتح الإسلامي..  كانت جهة للراحة وللعناق الرومانسي بين الأرض والبحر.. جربة.. المكان والمكانة.. تمضي اذن مع الجادة فترى البسمة على وجوه الاطفال عنده تقترب من مدرسة سيدي ياتي.. هي البراءة المأخوذة من موسيقى البحر الفاتن والتربة الناعمة.. تجلس في الفضاء الانيق المحلى بالمرقوم وبالادوات التقليدية الجربية حيث الشاب الحالم العائد من أرض الامارات وقد شذب المكان وزينه دون خروج عن جماليات المكان الوفيرة.. تجلس وتحتسي القهوة وترسل نظرك بعيدا لترى جواهر الأشياء وعناوينها البارزة بعيدا عن هموم العولمة ورياحها الملوثة.. والقاحلة.. وبلغة أخرى تذهب مع الاصل.. أصل العناصر والتفاصيل..910 aziza albajei

اذكر الآن ألوان وأحوال وأشجان جربة.. منها ملأت الفنانة عزيزة بحر الباجي خزان ذاكرتها ودأبها اللوني وعشقها للرسم.. فنانة حملت شيئا من روح وعطر وأنفاس جربة حيث ألق التواريخ وجمال المشاهد بين سماء وأرض وبحر وأهل في تناسق مفتوح على الهدوء والموسيقى الخافتة..

تنوعت أعمالها وعناوينها ونذكر منها غزالة والنسوة ومشهد السوق وعم سعيد وقلالة وقهوة الشجرة بميدون والتغمبيزة والزكار والطبال والتراث وللا حضرية والانتظارو القرنيط وشاطئ الجزيرة والقافلة والبطيخ وغيرها..

الفنانة عزيزة بحر الباجي تعمل على مواضيع أخرى وبنفس متجدد وتو ترى في الفن واحة سلام وحوار في حس انساني بليغ وتحلم بمعرض دولي باليونسكو مثلا فيه لوحات تختزل مكونات التراث الجربي من لباس وعادات وتقاليد ولباس ومشاهد وفق رسالة من فنانة للعالم تقول بالحوار والتعايش والتسامح تحت عنوان الفن بما هو ابداع انساني.

هذا وتعد الفنانة بحر لمعرض بالعاصمة يجمع عددا من لوحاتها وفيه حيز من تجربتها الفنية التي تواصلها الآن بكثير من العشق والشغف والحلم فالفن بالنسبة اليها متنفس وابداع ومجال للابتكار والمحافظة على الجميل فينا وتثمين التاريخ الجميل والتراث والاعتزاز بالشخصية والهوية في هذا العالم المعولم. هي تعمل في مجالات فنها وتعد لمعرضها الشخصي القادم مع هذا العام الثقافي الجديد 2025.

***

شمس الدين العوني

 

ما معنى أن تقلم أظافرك؟ أن تسقط أجزاء منك، كأنك تمارس فعل التخلي عن خناجرك الصغيرة. أليس ذلك التخلي ضربًا من الزهد؟ أو ربما هزيمة معلنة، إشارة إلى أن القوة ليست سوى وهم مؤقت، وأن الأظافر، مهما طالت، ستقع في النهاية كما يقع كل شيء آخر في دوامة النسيان ، في المقاهي، في غرف النوم، في اللحظات التي لا تخبرنا بشيء سوى أننا نعيش، تخرج الأظافر كأشياء هامشية. تنمو في صمت، كما تنمو الغابات المنسية، تنتظر اللحظة التي تُستخدم فيها لتسجيل التفاصيل. لكن هل تسجل الأظافر الأوجاع فقط؟ أم أنها تلتقط أيضًا ملمس الحب حين يتسلل من بين الأصابع؟

إنهم  يطيلون أظافرهم كنوع من التحدي، كبناء أسوار من عاج حول هشاشتهم، مع انهم، في النهاية، يواجهون الحقيقة ذاتها ، الأظافر ليست سوى امتداد للجسد، أداة، ظلال، نصل مؤقت. وفي لحظة ما، تُرمى كقلامة، تُنسى على أطراف المرايا، في ركن الحمام، دون أن يلاحظها أحد، وكأنها اعتراف صامت بأننا لا نحتاج إلى كل هذا الحفر، إلى كل هذا الخدش، وأن العالم، في غيابه الدائم، لا يلتفت إلى أي أثر.

فأيها العابر بأظافرك المجهدة، احفر ما شئت في صخور المعنى، اترك شروخًا على وجه هذا الليل، لكن لا تنسَ أن ما تحفره الآن، قد يكون هو ما يسقط منك غدًا، كما تسقط الأظافر نفسها، إلى ظلال الماضي الذي لا يعود.

***

خاطرة: مجيدة محمدي

 

بين يدي الآن نسخة من (ودق المرافئ) رواية موسى الحوري، بطبعتها الأولى، هدية سخصية من لدنه لي، وصلتني ظهر اليوم الأحد ١٢ /١ /٢٠٢٥.. صحبة الدكتور أسامة الضاحي..

رواية ودق المرافئ .. للأديب المبدع الدكتور موسى الحوري، صادرة بطبعتها الأولى، عن اتحاد الأدباء والكتاب في صلاح الدين، وهي من منشورات مهرجان صلاح الدين الشعري الثاني لعام ٢٠٢٤.

تعكس الرواية بكل مرموزاتها الشخصية، معاناة إبن ريف الديرة، الذي واجه بإصرار وعزيمة، كل قساوة ظروف الحياة، التي عاشها كادحا ودارسا في نفس الوقت، حتى نجح في تحقيق طموحه في التحصيل العلمي العالي، بالحصول على الدكتوراه في اللغة العربية تخصص الأدب الحديث، رغم كل إرهاصات ظروف تلك الفتزة، التي عاش تداعيات معاناتها، بكل تفاصيل صعوباتها، وماساويتها، الاجتماعية والاقتصادية..

وهو بهذه الرواية، يستعيد حبك صفحات تلك الفترة الحرجة، بأسلوب روائي سردي إبداعي ممتع، إذ استطاع ببلاغته واقتداره الأدبي، التقاط الصور والمشاهد البليغة، التي طبعت حياة ابن ريف تلك الفترة العصيبة من أعماق واقعه .. وهو يتأمل منزله الجنوبي، الذي يقطن شرق بيت أهله، وحارات قرى ريف ديرته، والنياسم المؤدية إليها، ليعكسها سردا روائيا في غاية البلاغة، وكأنك تعيش تلك الأحداث الآن ،حيث تكتض ذاكرته بكل تلك الصور، التي استوطنت أعماق وجدانه ، فظلت عصية على النسيان، رغم مرور عشرات السنين..

ولعل القارئ الكريم بابحاره في عمق هذه الرواية، وحسه المرهف ،وحصافة ذائقته الأدبية، سيعيش لحظات ممتعة، مع تصفحه لها، وقراءة نصوصها الساحرة.. ليخرج بالمزيد من القناعات، والايحاءات التي سيستلهمها، من واقع تفاعله الوجداني مع معطيات أحداثها.

***

نايف عبوش

نحن كائنات حية وحركية وقودها المشاعر ومكبحها عقل واع ومدبر وماهر غياراتها بالمجمل تشاركية.. فإن كان الحدس موجهاً فهو وليد إلحاح معند للذاكرة حتى وإن استعصى القبض على أسبابه.. والمشاعر حين تطفو وتطوف لابد لها من طريقة للخروج.. وسائل التعبير كثيرة فبكم طريق وطريقة يمكننا أن نعبر عن الحزن والقهر والألم الداخلي..

 يمكن أن يكون القتل طريقاً وطريقة للتعبير عن مشاعر الغضب المحقونة والنتيجة هنا كارثية هدامة عمياء (قاتل ومقتول).. ولكن حين نتقن تهذيب المشاعر واستثمارها وحين تترافق تلك المشاعر مع الجمال داخلي نعيش جمال الحالة ونستثمرها في فعل إبداعي رسم..موسيقى.. شعر.. وغيرها الأمثلة الحياتية حول كيفية استثمار وترويض المشاعر كثيرة.. (معاناة فان كوخ المجبولة بمشاعر القهر والظلم.. تفجرت عبر أسلوب خاص شرع الأبواب للتعبيرية.. وبالمقابل نجد تلك المشاعر المحقونة لأكبر طاغية عرفه التاريخ (أ ود و ل ف.. هـ ت ل ر) توجهت لغزو العالم حين لم تجد لها طريقاً للقبول في أكاديمية الفنون) الطفولة المستلبة المعاناة القسوة القهر هي تجارب حياتية حاضرة دوماً في صور الذاكرة وربما تشابهت الأسباب والمسببات واختلفت النتائج.. وهذا مرده لِكَمِّ الجمال الداخلي جمال الروح

 الجمال الداخلي هو جدار طاقي يحمينا من شرور أنفسنا وشرور العالم من حولنا وهو يوجهنا لتفريغ الشحنات الإنفعالية عبر أعمال إبداعية وأنشطة إنسانية بناءة886 hussein

 و في مضمار التشكيل أقول:

العمل التشكيلي الذي يستوفي شروطه هو ذاك الذي يحقق التوافق ما بين قيمه التعبيرية والجمالية فلا وجود لقيمة فيه بعيداً عن الأخرى ولا يمكن أن يرقى ذاك العمل لمستوى الإبداع إن لم يستوفي جميع مقوماته.. والقيم التي ينبض بها هي قيم مترابطة وغير مستقلة و مرتبطة بالفكرة التي يود الفنان إيصالها وهي تتأكد من خلال عدة محاور فهنا تتجلى عبر رحلة الخط المتواصل والمتقطع وعبر إيقاعه المتبدل والأشكال المتوالدة عنه وكمِّ ما تحققه من دهشة وغرابة وهناك يصير التأكيد على القيم اللونية المتناغمة والشفافة أو الكتيمة الصاخبة أو الهادئة والحارة أو الباردة بكل ما تحمله من دلالات تعبيرية ونفسية وحسية وعبر سعيها العفوي أو المقصود لتحقيق التوازنات على كافة الصعد وفي أعمال أخرى نجد التركيز على عجينة اللون والملمس والسطح والنسيج الخاص و التكنيك الخاص

في مخاض اللوحة المتوالدة عن ذات مسافرة ما بين عالمين داخلي وخارجي نرى الفنان يحلل ويبسط ويحور ويلغي ويعيد البناء والتشكيل بخطوط منبثقة عن ذاته لنجدها تميل للعفوية والتلقائية حينا وللرصانة المدروسة حينا آخر والفنان يسعى دوماً هنا لتحقيق تلك العلاقة التوافقية بين جميع محاور العمل خط لون سطح تكنيك تكوين شكل والتي تتحقق من خلالها وحدة العمل وتماسكه

تلك التوافقية تحقق النضج والنضج هو المفتاح الأساسي والأولي لتصنيف العمل ضمن سلم الإبداع وهو القادر على محاكاة مشاعر المتلقي والإرتقاء بذائقته من خلال ذات موغلة في أناها هي ذات الفنان المتعطشة للكشف والاكتشاف ف كل ما حولها من قصص حياتية تدخل مختبراتها لتعجن وتطهى بكل ما جبلت عليه تلك الذات من خصوصية وفرادة ثم لتخرج بنكهة مختلفة تشبه الفنان ولا أحد سواه.

***

الفينيق حسين صقور

في المثقف اليوم