أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

ما هو دور القارئ في تشكيل توجّه الكاتب الروائي نحو بناء رواياته وإقامة تقنياتها على أسس مُقنعة، ويمكنها أن تجتذب من يُقبل على قراءة هذه الرواية المفترضة او تلك التي، علما أن فكرتها ما زالت تدور في ذهن صاحبها أو مَن ينوي كتابتها وإخراجها للناس؟.. للإجابة على هذا السؤال المُحيّر والاشكالي كما سنلاحظ، وضعت الكاتبة الامريكية نانسي كريس كتابها التحفيزي" تقنيات كتابة الرواية"، مُركزةً على إرشاد مَن يود أن يكتب رواية ناجحة وتلقى القبول الشديد لدى قطاعات واسعة من القراء، ومَن يعلم ربّما تلقى مثل هكذا قبول لدى أعضاء لجنة منح جائزة من تلك الجوائز التي يسيل عند ذكرها الكثير من اللعاب.

قبل الدخول في عالم هذا الكتاب الارشادي المثير لا بُدّ لنا من تلمّس الطريقة الناجعة لقراءته، وعادة ما تكمن هذه الطريقة في عنوان الكتاب أي كتاب او في عنوانه الجانبي. العنوان الجانبي لهذا الكتاب يُخبرنا قبل الخوض في قراءته بأنه انما يقدّم تقنيات وتمارين لابتكار شخصيات دينامية ووجهات نظر ناجحة.

ما إن ندخل إلى حرم الكتاب قارئين متمعّنين، حتى نُفاجأ بعنوان مقدمته وهو "ماذا يريد القارئ"، وهذا يعني أنه على الكاتب أن يضع القارئ نُصب عينيه، عندما يُقبل على التخطيط لكتابة رواية أولًا والشروع في كتابتها ثانيًا، للإجابة على هذا السؤال ترى الكاتبة أنه من الطبيعي أن تكون هناك رغبة عارمة لدي مَن يُود أن يكتب الرواية، في إقناع جميع الناس أو القراء، بان يقرأوا روايته، وتضيف غير أن هذه الرغبة غير منطقية، كون القراء يختلفون فيما بينهم، فماذا يفعل الكاتب في مثل هكذا وضع، أن يكتب لإقناع قطاع معين من القراء؟.. هذا الأقرب الى الواقع والمنطق، هكذا نرى أن تحديد القارئ المُفترض يساهم كثيرًا في كتابة الرواية. تقول الكاتبة ضاربة مثلًا على ما تقصده:" إن المرأة التي تختار (قراءة) قصة رومانسية مثلًا إنما تُريد أشياء معينة من الشخصيات في الكتاب(الرواية)، الذي اشترته، ومعرفتك (تقصد الكاتب)، بهذه التوقّعات تُساعدك في ابتكار الشخصيات التي ترغب تلك القارئة – أو قارئ اللغز أو الخيال العلمي-(الرواية) قضاء اربعمائة صفحة معها".

لكن كيف يختار الكاتب الروائي العتيد شخصيات روايته؟.. تُجيب المؤلفة انه توجد هناك العديد من الطرائق، منها أن تختارها من الواقع اليومي المعيش المحيط بك، أو من الخيال أو من أي مصدر آخر متاح.. الأصدقاء مثلًا. بعد اختيار الروائي شخصيات روايته ماذا يُفترض به أن يفعل؟. تُجيب الكاتبة عليه أن يختار الشخصية المركزية التي يُريد أن يروي على لسانها ومن وجهة نظرها.

الآن وقد بات أمر شخصيات الرواية واضحًا وتمّ بالتالي تحديد من ستكون منها الشخصية المركزية، ماذا سيفعل الكاتب الروائي؟.. ها هو الوقت المناسب للبدء في الكتابة، وهنا ترى الكاتبة أن الشخصيات تنقسم إلى نوعين الشخصية المُتفاعلة أو النامية، وفي المقابل الشخصية الثابتة، والفرق بين هذين النوعين هو ان الشخصية المتفاعلة تتغير وتتبدّل وفق تفاعلها مع ما تحتويه الرواية وتقدمه من أحداث، في حين أن الشخصية الثابتة تبقى كما وصفها الكاتب، منذ بداية كتابة الرواية حتى نهايتها او الانتهاء منها. وهنا ينبُق السؤال أي من هذين النوعين أفضل؟ وتُجيب الكاتبة ان لكلّ منهما وضعيته وكينونته، وليس بإمكاننا أن نقول إن هذا النوع أفضل من ذاك.

فيما يتعلّق بهدين النوعين من الشخصيات الروائية، المتفاعلة والثابتة، حسب تعبير الكاتبة، والنامية والمسطحة، كما يرى أ.م فورستر في كتابه المشهور " اركان القصة"، تختلف الآراء وتتضارب، وأعتقد أنه لكلّ من أصحاب الآراء المتضاربة هذه حُجتُه واجتهاده، فمّن يرى ما تراه المؤلفة نانسي كريس، كما أرى، إنما يعتمد على القُدرات الإبداعية التي يتمتّع بها الكاتب وفي قدرته على عرضه أو ابتكاره الروائي المتخيّل، أما مَن يرى خلاف هذا الرأي فإنه يقيم رؤيته هذه على الديناميكية الداخلية للعمل الروائي بغضّ الطرف عن كاتبه، بمعنى أنه يتعامل مع الكتابة الروائية تفنيًا، احترافيًا ومهنيًا.

بعد تحديدها شخصيات الرواية أولًا وشخصيتها المركزية ثانيًا، تؤكد الكاتبة أن نمو وتطوّر الحَبكة الروائية (التصاعد المنطقي للأحداث - ن- ظ)، يتعمد أول ما يعتمد على الشخصية الروائية، فهي عمادُ الحَبكة الروائية وهي التي تحددّها وتُوجّه مسارَها، وذلك وفق رؤيتها ورأيها.. صورتِها وتصوّرها للواقع، فإذا كانت الشخصية إيجابية تطوّرت الحُبكةُ في هذا الاتجاه، وإذا كانت في المقابل، سلبية تطوّرت بهذا الاتجاه أيضًا.

لقد توصّلنا حاليًا إلى حالة مِنَ الوضوح، فقد فرغنا مِن تحديد الشخصيات، وتمكّنا مِن اختيار الشخصية المرّكزية مِن بينها، كما اتضح لنا دور الشخصيات في تطوّر الحَبكة الروائية، فماذا علينا أن نفعل.. إظهارًا وعرضًا للشخصّيات الروائية؟، إن ما يُطلب منّا هو أن نضعها في مسرح يكشف عن تصرفاتها وسلوكياتها، أما في وصفنا لهذه الشخصيات، فمن المفترض أن نصفها ضمن الاسترجاعات الكتابية أو ما شابه، كما يُفضّل أن نصف كلًّا ِمن الشخصيات، خاصة المركزية، عبرَ عينيّ شخصية أخرى من شخصيات الرواية.

هكذا بات واضحًا أن انتهاج التعبير المنطقة الداخلي للرواية، يُعتبرُ مِن أهم التقنيات، بل التقنية الأساسية لكتابتها. بالعودة إلى اهتمام الكاتبة بالشخصية الروائية، كما يتصوّرها قارئ الرواية المُحتمل، تُنهي المؤلفةُ كتابها بالقول: إن" أكبر مساعدة تُقدمّها لنفسك ككاتب، هي اعتبار الرواية قصة الشخصيات، وليست قصتك الخاصة".

***

ناجي ظاهر

....................

* مؤلفة الكتاب نانسي كريس، كاتبة من مواليد ولاية بوفالو الامريكية عام 1948 ابتدأت الكتابة عام 1976، وهي مؤلفة العديد من روايات الخيال العلمي، وقد فازت بأكثر من جائزة لقاء كتاباتها الروائية.

 

هل يعيش الفيلسوف المفكر أفكاره التي يدعو إليها فيما يبثه من أفكار واراء في كتاباته، كتبه ومحاضراته، أم أنه يعيش نوعًا من الحماقات الإنسانية غير عابئ بالفرق ما بين أفكاره وممارساته الحياتية؟. الدراسات المتعمّقة لما كتبه أصدقاء ومقرّبون من عدد وفير من فلاسفة العصر الحديث تحديدا، تقول إن هؤلاء الفلاسفة عاشوا الأفكار والمُثل العليا في كتاباتهم وفي افكارهم، لكنهم لم يحيوها في الحياة اليومية، التي عاشوها لحظةً إثر لحظة، ساعة تلو ساعة ويوما بعد يوم.

انطلاقا من هكذا رؤية، ظهر منذ فترة تُقّدر بالعشرات من السنين، عدد من الكتب التي كتبها مثقفون من ذوي القدرات المُميّزة عن هذه الناقضات التي اتصفت بها حيوات العديدين من الفلاسفة، بين ما دعوا اليه وبين ما عاشوه وعايشوه من احداث وممارسات يومية. وقد سبق وكتبنا مقالة عن ثلاثة من هذه الكتب تحت عنوان فضائح العصر في ثلاثة كتب، وها نحن نكتب عن كتاب رابع، هو كتاب (جنون الفلاسفة) تأليف الكاتبين نايجل رودجرز وميل ثومبتون.

صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية عام 2005 وترجمه إلى العربية متيم الضايع وصدر عن دار الحوار السورية عام 2015. هذا العام أعيدت طباعته بصورة مقلّصة في بلادنا وبإمكان الاخوة المهتمين الحصول على نسخة منه من هذه المكتبة او تلك. يتعرض فيه مؤلفاه الى ثمانية من فلاسفة العصر الحديث، معرفين هذه الفلسفة انها منذ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت حتى أيامنا الراهنة، وواضعين لكلّ من هؤلاء الفلاسفة عنوانا يدُل على ما قام به ونفّذه من حماقات في حياته، تتعارض ما دعا إليه من أفكار، مما يُقرّبه ويدنيه من الجنون، وينزع عنه صفة القداسة التي يبرع الكثيرون مِن القُرّاء العصريين، في اصباغها على هؤلاء الفلاسفة وغيرهم.

الفلاسفة الثمانية الذين يتعرّض لهم المؤلفان في كتابهما الطريف هذا، هم: جان جاك روسو وعنوان ما كتباه عنه الفيلسوف كضحية، آرثر شوبنهاور- المُخلّص البغيض، فردريك نيتشة السوبرمان السمج، بيرتراند راسل- رياضيات السلوك الإنساني، لودفيج فيتنجشتاين- الغضب والزهد، مارتن هايدجر- الساحر، المفترس، الفلاح، النازي، جان بول سارتر- الطغيان الفكري وسوء النية، وميشال فوكو- الجنون، الجنس والعقوبة.

هذه العناوين تحكي الكثير فيما يتعلّق بهؤلاء الفلاسفة والمفكرين، خاصة بحماقاتهم وتناقضاتهم بين القول الفكري والمعيشة اليومية، فواضح انهما يأخذان على هايدجر مثلا تماهيه مع الحكم النازي في بلاده، وواضح انهما يأخذان على فيتنجشتاين تكبّره وتنمره المُسيء على طلابه والمحيطين به، وأكثر من هذا انهما يأخذان على سارتر سوء نيته تجاه صديقة عمره ورفيقته حتى يومه الأخير، الكاتبة المفكّرة الوجودية سيمون دي بوفوار، صاحبة الكتاب الشهير عن " الجنس الاخر"، وخياناته لها بمحاولات، لا يهم ما إذا حالفها النجاح أو باءت بالفشل في إقامة علاقات جنسية مع تلميذاتها وصديقاتها، أما برتراند راسل الذي كتب عن الحب والزواج والحياة السعيدة بواقع الفي كلمة يوميا، فقد طلّق ثلاثًا من زوجاته، واقام علاقات مع نساء الآخرين، بمعنى انه كان زير نساء، لا يوفّر زوجة قريب أو بعيد. وأما الفيلسوف والمفكر الفرنسي الكبير ميشال فوكو صاحب كتاب تاريخ الجنون، فقد عاش حياةَ انسان مثلي تقوده غريزته الملتهبة من حضن مثلي إلى آخر.. حتى الاحتراق!!

ما يكشفه هذا الكتاب عن التناقضات المشينة بين القول والفكر لدى مَن يتحدّث عنهم الكتاب ويتناولهم بالدراسة، لا يتوقّف عند مثالبهم، وإنما هو يقدّم لهم، عبر دراسات شبه كاملة عن حيواتهم وعطاءاتهم الفكرية غير المنكورة، بل المؤكدة في تاريخ الفلسفة الحديثة، اما الهدف من الإشارات الى التناقضات، المشار اليها بين الاقوال والافعال، فإنها تهدف إلى عدد من الأمور، منها وربما أهمها عدم تقديس الأشخاص، وجعلهم رموزا وطواطم لا تخطئ، فلكلّ منّا نحن بني البشر، اخطاؤه التي أشار اليها السيد المسيح بمقولته الخالدة، من كان منكم بلا حطيئة فليرمها بحجر، وبقية القصة معروفة. ومما يريد ان يشير إليه مؤلفا الكتاب، كما يذكران في ثتاياه وصفحاته، هو التفريق بين حماقة من تحدّثا عنهما في كتابيهما، وبين تصرفاتهما السيئة، يقولان:" المهم اننا قاومنا اغواء كبيرا للتفريق بعناية ما بين حماقة التصرف السيء والسخافات الاجتماعية العادية، تفريق كهذا يكون ذا صلة فقط في التقييم الأخلاقي للتصرف، في حين ان اهتمامنا هو مُجرّد تقديم حماقات الحكماء، كي لا تقدس ذكراهم بشكل مُحرج". واضيف كي لا يتم التعامل معهم على اعتبار انهم إلهة لا تخطئ، وليسوا بشرًا.

***

ناجي ظاهر

.......................

*عن مؤلّفي الكتاب: نايجل رودجرز- كاتب ومؤرخ بريطاني وضع أحد عشر كتابًا في السيرة الذاتية، منها كتاب عن تشرشل وآخر عن هتلر، وهو صاحب كتاب عن " الغندور: طاووس أم لغز". ميل ثومبتون- مؤلف أكثر من عشرين كتابًا في الفلسفة والأديان، منها كتاب عن فن العيش وإخر عن القراءة السهلة للفيلسوف. ته

 

اتصف عصرنا الحديث بالعديد من الصفات فقد اختلف عن سابقيه اختلافًا كبيرًا جراء ما شهده من تسارع في التحولات والتبدلات، وفي حين كان الإيقاع الزمني بطيئا نوعا ما في الازمان والعصور السابقة، شهد عصرنا هذا تسارعا عير مسبوق في التطورات والتبدلات، وبإمكان مَن يود الاطلاع على ايقاعات هذه التسارعات، مراجعة صفحة من كتاب التفكير العلمي للكاتب المفكر العربي المصري الهام فؤاد زكريا، أرجو أن أتمكن من إرفاقها بهذه المقالة. لقد اثار ما شهده عصرنا من تطورات وتبدلات هامة وعامة، الكثير من الكُتّاب العرب أيضًا، واذكر في هذا السياق ان احد كُتّاب مجلة المجلة المصرية، وصف عصرنا بانه عصر اللامعقول، كون ما كان غير معقول في العصر السابق بات معقولا في عصرنا. هذا على المستوى العام للعصر، فماذا عن المستوى الخاص؟.. ماذا عن رجالات عصرنا، ماذا عن اعلامييه وماذا عن وسائل اتصاله الاجتماعية وما سجّلته مِن تغيّرات وتبدّلات وصلت حد الفضائح، والاستغلال العبثي وغير المبرر، واكاد أقول الجنوني من الانسان لأخيه المدعو.. انسانا؟

فيما يلي سأتعرض باختصار شديد الى ثلاثة كتب صدرت في العقود الماضي القليلة، وسجلت منذ صدورها حتى هذه الأيام، اهتماما ثقافيا عامًا ومتزايدًا، فقرأها الناس في بقاع واسعة من العالم، علما أنها تُرجمت إلى العشرات من اللغات، بما فيها لغتنا العربية، وصدرت طبعات منها في هذه البلاد او تلك، كما اعيد طبع بعض منها في بلادنا خاصة الكتاب الثالث الذي سأتعرض له بكثير من الاهتمام كونه سلّط الضوء على أعمق أعماق ما يعيشه الناس في عصرنا من تغريرات وأنظمة اقل ما يقال فيها إنها تستهدف التفاهة وتكرسها، لمن يعرف خبثا ولمن لا يعرف تبسيطا يصل حد السذاجة. فيما يلي أقوم بتقديم أهم ما أشار إليه أحد الكتب الثلاثة الملمح اليها، وذلك ضمن منهجية تهدف لاطلاع الأخ القارئ على الكتاب عنوانه، اهم ما ورد فيه وما ميّزه، ومَن يعلم قد يحفز ما أقدمه تاليًا على قراءة هذه الكتب او بعضًا منها عملا بالقول الكريم زدني علما.

المثقفون - تأليف بول جونسون- الكشف عن الوجه الآخر لمثقفي العصر

صدر هذا الكتاب في طبعته الإنجليزية الأولى عام 1989، وصدرت طبعته العربية الأولى، بترجمة الكاتب المصري المثقف طلعت الشايب عام 1997. وكانت مجلة اخبار الادب المصرية قد نشرت في حينها عددًا من فصوله، واطلع عليها قراء الصحيفة، وكاتب هذه السطور واحد منهم. الكتاب يُقدّم فحصًا مُدقّقًا وموسّعًا لأبرز مثقفي عصرنا، معتمدا في معلوماته هذه على مصادر كتبها مقرّبون منهم، من الأصدقاء وأبناء العائلة. نقرأ في صفحات الكتاب مثلا عن ماركس - نباح اللعنات الكبرى، ذلك المفكر الذي كتب عن الرأسمالية واستغلالها لأبناء الطبقة العاملة وعن حقوق العمال، ويُفاجأ قارئ الكتاب بأن ماركس لم يزر في حياته مصنعا ليتعرّف عن قرب على أحوال أبناء الطبقة العاملة. كما نقرأ فيه عن جان جاك روسو الذي احتقر الثروة في كتاباته وعاش حياة انسان جشع محب للمال. وعن جان بول سارتر الذي كان يخون خدينته ومحبوبته الفيلسوفة الوجودية سيمون دي بوفار ويستغلها في اغوائه تلميذاتها. اما الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل ذلك الداعي الأخلاقي الكبير فقد كان زئر نساء لا يوفر احداهن من غاراته. واما هنريك ابسن نصير المرأة في كتاباته ومسرحياته، فقد امتهن كرامتها في حياته، وفي الكتاب صورة أخرى للوجه الحقيقي للكاتب الألماني الانساني في مسرحياته، هذا الكاتب كان يستغل ما يتلقّاه من رسائل حبيباته لإدخالها في كتاباته!

المثقفون المزيفون- تاليف باسكال بونيفاس- كيف يصنع الاعلام خبراء في الكذب والتغرير بالناس

مؤلف الكتاب مفكر سياسي من أبرز المحللين الإستراتيجيين الفرنسيين وهو حاصل على دكتوراة في القانون الدولي العام. من مؤلفاته: فهم العالم (2010) ولماذا كلّ هذه الكراهية؟ (2010) ونحو الحرب العالمية الرابعة (2009) وهو كتاب ينتقد فيها أطروحة صدام الحضارات لصامويل هينتنغتون، وقد صدرت طبعته الأولى سنة 2005 وكتاب من يجرؤ على نقد إسرائيل؟ وغيرها من المؤلفات الهادفة. يفضح بونيفاس في كتابه هذا- "المثقفون المزيفون"- كيف يصنع الإعلام خبراء في الكذب، وإستحواذ فئة من الصحافيين والمعلقين والمثقفين مِنْ عديمي الضمير على الفضاء الإعلامي والثقافي الفرنسي، وقلّبهم الحقائق بهدف توجيه الرأي العام نحو قناعات أيديولوجية أُحادية البُعد، خاصةً برنار هنري ليفي اليهودي. الأصل" وجماعته.يؤكد بونيفاس في مقدمة الكتاب، الذي رفضت نشره أربع عشرة دار نشر من كبريات دور النشر الفرنسية، أن فكرة فضح المثقفين المزيفين، أو المرتزقة كما يسميهم، قد راودته منذ فترة طويلة مواكِبةً لمواقفهم المخزية التي تدمّر الديمقراطية وتُهدد الإعلام.

 كما يؤكد أنّ عدم النزاهة الفكرية لها اليوم نجومها في فرنسا، وهم يحظون بالتكريس الإعلامي ويشتركون في تغذيةٍ قدرٍ كبير من الخوف غير العقلاني من خطرٍ إسلامي مزعومٍ يُمثّل عدواً مشتركاً للعالم الحُرّ، أو تبرير غزو بلدٍ ما وتدميره كما حصل في العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل، أو كما يمكن أن يحصل الآن في بلداننا العربية الرازحة في ربيعها الأسود تحت ذرائع أسلحة كيميائية أو انتهاكات حقوق إنسان أو تطهيريات عرقية.

نظام التفاهة- تأليف الان دونو- التفاهة تبسط سبطتها على كل ارجاء العالم

مؤلف الكتاب فيلسوف كندي. محاضر في علم الاجتماع يعمل في جامعة كيبك. صدر كتابه هذا بالفرنسية عام 2015. يعرض فيه فكرة مُفادُها أننا نعيش فترة مختلفة عن فترات التاريخ البشري السابقة، حيث السلطة بعيدة عن يد من يستطيع التميز في القيادة، ومبسوطة في يد التافهين باختلاف درجاتهم ومستوياتهم. لقد تطوّر الأمر حتى صار يكتسح جميع المجالات، وصارت التفاهة نظاما يُحتفى به، واستطاع التافهون أن يبنوا عالما جديدا يقتل الإبداع والتميّز، ويشرّع التفاهة والتخلف، كما يجعل الخروج عن النظم التقليدية خطأ غير مقبول، مهما كانت الدوافع، وحتى لو كانت نتيجة التجديد حسنة وجيدة. مما قيل عن الكتاب: انه كرس صاحبه، آلان دونو، واحدًا من أهم المفكرين الكنديين الذين لم يسبق للعالم الناطق بالإنجليزية أن سمع بهم من قبل.. لقد وضعت الكتابة الجريئة دونو في قلب خارطة الجدل في كندا. بل في العالم أجمع.

***

ناجي ظاهر

 

اتخذ من الادب، شعرًا أولًا، نثرًا ثانيًا، مسرحًا، رواية وسيرة ذاتية ثالثًا، رسالة آمن بها منذ يفاعته الأولى، ولم يتردّد في دفع الثمن المُتطلّب، من ملاحقة ومطاردة، سجن وإقامة جبرية، بل دفع هذا كله وأكثر، مؤمنًا بأن على الانسان حين يحيق به وباهله العسف والظُلم، لا بد له من أن يردّه وبكل قوة، ورغم انه كان يعرف امكانياته وحدوده فعلًا وقوًلا، إلا أنه تمرّد على ذاته، ومضى منتصب القامة يمشي، في كفّه قَصفةُ زيتونٍ وعلى كتفه نعشه. وقد كان في هذا اشبه ما يكون بالشاعر العربي القديم دعبل الخزاعي الذي قال إنه حمل صليبه خمسين عامًا متحدّيًا كلَّ مَن يمسه بسوء، أو يدوس له على طرف.

الشاعر الصديق الراحل سميح القاسم ( 1939- 19-8-2014)، الذي نحيي ذكرى عقد ونيف من الزمان على رحيله، وقد صادفت هذه الذكرى أمس الثلاثاء، التاسع عشر من آب الجاري، باعثة فينا نحن أحباءه واصدقاءه ومقدّري شخصيته وابداعه الادبي عامة والشعري خاصة، هذا الشاعر الذي حظي بالكثير من الألقاب، منها شاعر العروبة، وشاعر القومية العربية، وطائر الرعد، عاش حياته متكرّسًا لرسالته الانسانية والوطنية معتمدًا على موهبة جزلة، معطاءة، وروح تعرف ما للكلمة من قوة وأثر، سواء كانت مكتوبة او مقولة/ مُنشدةً، فأعطى الكثير وقوبل بالوفير من الاحترام والتقدير، فحصل على العديد من الجوائز، العربية والعالمية وبإمكان مَن يُريد الاطلاع عليها، بإمكانه ان يفعل عبر محرّك البحث الالكتروني العالمي جوجل.

ربطت كاتب هذه السطور بالشاعر سميح القاسم علاقة ابتدأت وهو فتى غضّ الاهاب، يتلقّى علومه على مقاعد الدراسة، وكان ذلك عام 1968، عندما أرسل قصة قصيرة حمّلها عنوانَ الكلمة الأخيرة، إلى مجلة الجديد وفوجئ بنشرها في الشهر الذي أرسلها فيه ذاته، وعندما علم أن الشاعر سميح القاسم هو مُحرّر تلك المجلة، التي كانت تعتبر الأهم في بلادنا، سعى للقاء به، وكان سميح القاسم حينها في التاسعة والعشرين من عمره، سميح استقبله في غرفته الصغيرة المتواضعة، التي كانت تقوم آنذاك في احد بيوتات حي النسناس في مدينة حيفا، مشيدًا بموهبته الصاعدة ومشجّعًا إياه رغم صعر سنه، على المُضيّ في طريق الكتابة والابداع. وقد لمس منذ اللحظات الاولى لذاك اللقاء أمرين يُميّزان الشاعر المُحرّر، أحدهما دماثة الخُلق وطيب المعشر، والآخر الثقافة العميقة والمركزة، وقد رافقه منذ ذلك الحين في معظم الأماكن التي انتقل للعمل فيها، رافقه في صحيفة الاتحاد، وفي مؤسسة الفنون الشعبية، التي أقامها مع آخرين، بهدف دعم الحراك الثقافي والفني في البلاد، كما رافقه عندما أسس بالتعاون مع الكاتب اميل حبيبي منشورات عربسك، وعندما انتقل إلى الناصرة للعمل مُحرّرًا لصحيفة كل العرب، أخذ بالتردّد على الصحيفة برفقة الأصدقاء منهم الصديق المشترك الشاعر سيمون عيلوطي، الكاتب المرحوم عيسى لوباني والشاعر نمر سعدي. في كلّ هذه التنقلات تعاملنا معا، كتابة ونشرا. وكنت أتأكد أولًا بأول مما لمسته من صفات حميدة اتصف بها شاعرُنا المُبدع.

انطلاقًا مِن مَعرفة وثيقة بالشاعر سميح القاسم، بإمكاني تسجيل الملاحظات التالية، معتبرًا إياها شهادة من انسان عايشه وعرفه عن قُرب.

* الشاعر: كتب سميح القاسم العشرات من المجموعات الشعرية، علمًا أن مؤلفاته وقعت في ثلاثة وسبعين كتابُا وطبعت في سبعة مُجلّدات، وقد تميّز شاعرُنا عن الكثيرين مِن الشعراء في بلادنا خاصة، بأنه أخذ قضية الادب والشعر بكل جدّية، وتعامل معها على اعتبار انها قدر ومُبرِّر وجود، فكنت تراه دائم التطوير لعمله الشعري، وها هو لا يُصدر مجموعةً شعريةً جديدةً إلا ليُضيف إلى سابقتها، فهو شاعرٌ دائم التجدُّد، وقد أقام هذا كله على معرفة عميقة بالشعر العربي القديم، وبإمكاني القول إنه كان من أبرع مَن تعاملوا مع الاوزان الشعرية، إذ كان مُتمكّنًا فيها تمكنًا رصينًا، وأشهد أنه عادة ما كان يُقطّع القصيدة حرفًا.. حرفًا وبيتًا بيتًا، أما عمله في قصيدته فقد كان يمرُّ بمرحلتين إحداهما الكتابة الأولى، والأخرى النظر والمعاينة لكلّ واحد من جوانبها، إلى هذا كان شاعرُنا رُغم معرفته هذه بالأوزان والبحور الشعرية العربية، يُميّز بين النظم والابداع، او الخلق الفني، أو الإغراب، كما عند الناقد العربي الخالد عبد القاهر الجرجاني، صاحب دلائل الاعجاز واسرار البلاغة أولًا، ومثلما عند الناقد العظيم حازم القرطاجني صاحب الكتاب الفاتن منهاج الادباء وسراج البلغاء ثانيًا. فالقصيدة لدى شاعرنا عبارة عن عالم له قوانينه ودينامياته الداخلية المؤسسة على الوجدان أولًا والفكر ثانيًا والخيال ثالثًا والأسلوب رابعًا. بناء على هذا يُمكننا القول إن قصيدة شاعرنا تدُل عليه، فهو صاحب أسلوب خاص ليس من المُستحسن مقارنته بسواه، وإذا كانت لا بُدّ مِن المقارنة فبينه وبين ذاته. كان شاعرُنا دائمَ الاطّلاع على أسرار شعرنا العربي القديم وخفاياه، فهو مؤمنٌ تمام الايمان أن معرفة الذات يُفترض أن تكون أولًا، بعدها نتعرّف على الآخر، لذا تراه يتأثر بشعر الحماسة ويكرّس له بعضًا مِن نتاجه الإبداعي، وفي الآن ذاته لا يفوتُه الاطلاعُ على نماذجَ من الشعر الأجنبي، وذلك ضمن محاولة إثرائية، وتوسيعًا للدائرة الإنسانية التي شغفته وشعلت باله طوال أيام حياته بنهاراتها ولياليها. كلّ هذا يدفعُنا للقول إن سميح القاسم تأطر كشاعر مقاومة، لكن حان الوقت بعد عقد من الزمان على رحيله المؤسي، ان نخرجه من هذه الدائرة الضيّقة، ولعلنا لا نبتعد عن الموضوع إذا ما إذا ما أشرنا إلى بعض من قصيده للإشارة إلى أفقه الإنساني الجزل، وربّما يكفي أن نشير في هذا السياق إلى قصيدة عن لوركا، لنرى إلى أي مبدع كان. أما مسالة الانشاد الشعري، وهو أحد مظاهر شعرنا العربي القديم، لنتذكر سوق عكاظ وما كان يُنشد فيه من أشعار، فهي تقول لنا إن سميح القاسم انشد الشعر في الناصرة وفي عمان، دمشق والقاهرة فأبدع، مسجّلًا ذاته مًنشدًا متفرّدًا وذا شخصية إنشادية قلّما تكررت. بإمكان مَن يشُك في هذا أن يستمع إلى إنشاده او إلقائه قصيدتَه الغاضبة الفاتنة التي تهيب بأبناء شعبه مناشدة إياهم بأن يتقدموا، فكلُ نار فوقكم جهنم.

* الناثر: كما ذكرنا آنفًا، كتب سميح القاسم المقالةَ السياسية، الرواية السيرة الذاتية والمسرحية الشعرية. فيما يلي نتناول كلًّا من هذه الأنواع الأدبية، ببعض الكلمات، ففي مجال كتابة المقالات نُشير بكثير من الحنين إلى الماضي، إلى مقالات شاعرنا التي كان ينشرُها تباعًا في صحيفة الاتحاد الحيفاوية، تحت عنوان مِن فمكَ أدينك، فقد ابتكر في هذه المقالات طريقة خاصة، لا تعتمد على الهجوم على الآخر/ المحتل، بقدر ما تحاول أن تقرأ عقليته بعقلية أخرى واعية، تعرف كيف تقرأ وتدرك ما لزلّات اللسان من مخاطر في التعبير عمّا في النفوس من مشاعر وضغائن. أما عندما انتقل للعمل رئيسًا لتحرير صحيفة كل العرب، وكانت آخر الصحف التي عمل فيها، فقد كتب مقالة افتتاحية أسبوعية، وعادة ما كان يختتمها، بشعاع ليزر، مُسدّد، لاذع وكاشف، حدّ الفضيحة، حتى ان بعضًا مِن الكتّاب لجأ إلى تقليده، لكن هيهات له أن يتمكّن، فهناك فرقٌ شاسع واسع بين الأصل والنسخة. فيما يتعلّق بكتابة شاعرنا الرواية والسيرة الذاتية، هو لم يبتعد كثيرًا عن تجربته الذاتية، وعادة ما اغترف مِن هذه التجربة مُقدّمًا ما اغترفه بقالب فنيّ، موشى بشعرية شفّافة، وواصفًا واقعًا عاشه وعايشه عن قراب مع تحويرات تتمثّل في إعادة صياغة هذا الواقع من وُجهة نظر مُرهفة ورؤية خاصة ومميّزة. في هذا المجال نُشير الى روايتيه او حكايتيه كما وصفهما، الصورة الأخيرة في الالبوم الأخير وإلى الجحيم أيها الليلك. وأما في المسرح فقد ترجم سميح مسرحية من ابداع الألماني برتولد برخت وله مسرحية عنوانها قرقاش، وهو للحقيقة وسّع وأضاف في أعماله المسرحية هذه، ما يدُل تمام الدلالة على أنه أراد أن يكون صاحب رسالة، شاملة، لا تتنازل عن كينونتها الإنسانية السياسية المتكاملة، وتحاول أن تقدّمها بأفضل إطار ممكن. بقي أن أشير الرسائل بين شطري البرتقالة، بين سميح القاسم ومحمود درويش، التي صدرت بعد نشرها منجمة في صحيفة الاتحاد، في كتاب حمل العنوان ذاته، وفي هذا السياق أسجّل ملاحظتين إحداهما انني كنت شاهدًا على نشر هاته الرسائل، اذ كنت أعمل مُساعدًا لمحرّر الاتحاد الادبي آنذاك الكاتب الصديق محمد على طه، وللتاريخ أذكر أنه هو مَن اطلق عليها عنوان رسائل بين شقي البرتقالة، أما الملاحظة الاخرى فهي أنه بإمكان مَن يقرأ هاته الرسائل، أن يرى وربّما يلمس لمس العين والفكر، أنه إنما يقف أمام عالمين وتجربتين مختلفتين، لكلٍّ منهما رائحته، نكهته ولونه الخاص به.

في المجمل، بإمكاني القول إن شاعرّنا سميح القاسم، كان صاحب رسالة وإنه توسّل بكلّ ما ملكت يده، ايصالها إلى عناوينها الحقيقية، لهذا استحق أن يكتب عنه الشُعراء في ذكراه العاشرة، ومنهم عناد جابر، ناظم حسون وعبد الرحمن حوراني. أما الصديقة سهاد كبها فقد اجزلت العطاء، بمبادرتها المباركة إقامة معرض يُقدّم فيه مَن يريد من الفنانين التشكيليين لوحة تصوّر شاعرنا الكبير، أو تصوِّر جانبًا خاصًا، او معينًا من مجالات اهتماماته، ومنها غرامُه الدائم بالولّاعات، وجمعه إياها طوال أيام حياته.

***

ناجي ظاهر

 

أود التأكيد بدايةً أننا عندما نفتح صفحة قصيدة النثر في أدبنا العربي الحديث، وفي أدينا المحلي خاصة، إنما نفتح واحدة من أصعب صفحات هذا الادب، فقد اتاحت قصيدة النثر المجال واسعًا امام كلّ من تمنّى أن يحظى بلقب شاعر، دون أي مؤهلات ودون أي إمكانيات ثقافية، عادة ما بتطلبها الادب عامة والشعر خاصة، ودون أي معرفة بفن القول، فراح مَن يعرف ومن لا يعرف، يكتب ما يعنّ على باله من تُرّهات وكلام فارغ بل يُسمن ولا يُغني، واصفًا ما يكتبه بأنه شعر وواصفًا نفسه بصفة الشاعر، الامر الذي دفع بالكثيرين مِن مُحبي الشعر والادب عامة، وكاتب هذه السطور واحد منهم، للانصراف عن قراءة الشعر، لما يُقدّمه "رواد" قصيدة النثر من كلام مُنفر، لا يُرضي سوى من يكتبه وآخرين ممن لا معرفة لهم بالشعر والادب عامة، لقد اساءت قصيدة النثر إلى الشعر، صارفةً مُحبيه عنه وعن ابوابه المُستباحة للجميع وفي طليعتهم مَن لا علم لهم بفن القول الشعر.. ولو بالحدّ الادنى.

هكذا بقي ما قرأناه واطّلعنا عليه من قصيدة النثر، مُجرّد تهويمات في فراغ لا حدود له، وكلام يناطح ذاته ولا يُخاطب الذائقة الأدبية العامة، إلا في حدود ضيّقة جدًا كما سلف، وهو ما دفعنا للعودة إلى النظر في الأسباب والمسببات الكامنة وراء هذا الانصراف عن الشعر وعن متابعته وقراءته مِن قبل الكثيرين، حدّ أن الناشرين، شرعوا في رفض طباعة المجموعات الشعرية، شاملين ضمن رفضهم هذا كلّ ما يُقترح عليهم للطباعة في كتاب، حتى لو كان من الشعر الجميل. هناك بالطبع العديد من الأسباب والمسببات لانصراف الكثيرين عن قراءة الشعر، غير تُرّهات قصيدة النثر وتابعتها قصيدة الهايكو. من أسباب هذا الانصراف هيمنة النوع الادبي الروائي على الساحتين العربية والأجنبية، واقتصار الجوائز على الرواية، لكن هذا ليس موضوعنا حاليا، لذا نتجاوز عنه عائدين إلى موضوعنا.. 

كما لكلّ ظاهرة تتعلّق بالأدب طرفان، أحدهما ذاتي والآخر موضوعي، كما ترى اخي القارئ، من المؤكد ان الانصراف عن قراءة الشعر، في صميمه قصيدة النثر، لا يشذ عن هذه القاعدة، ممثلة في العاملين الذاتي والموضوعي، بما انه ليس بإمكاننا معالجة الجانب الموضوعي، ممثلا بالقراء أولًا والناشرين والأوضاع العامة ثانيا، فإننا سنقصر حديثنا فيما يلي على العامل الذاتي في هذه القضية، قضية قصيدة النثر، الشائكة والشائقة في الآن ذاته. فما هو وضع هذه القصيدة، ما هو موقعها من الابداع الادبي عامة، ولماذا أدت دورًا هدامًا، أرى انه دفع الكثيرين او ساهم في دفعهم للتخفي والابتعاد عن قراءة الشعر. فيما يلي أقدّم اجتهادي الخاص في هذه المشكلة العويصة.

* تعتبر قصيدة النثر، قصيدة غريبة في ادبنا العربي الحديث، وقد يفاجأ البعض إذا ما قلنا له إن وضعها هذا في الآداب الأجنبية، لا يختلف عن وضعها في ادبنا، ذلك انها ما زالت هنا وهناك، شأنها شأن موسيقى الجاز، غريبة وتبحث لها عن مكان بين غيرها من الأنواع الأدبية، ومع استثناءات قليلة ذكرنا منها الشاعر الإنجليزي والت ويتمان صاحب أوراق العشب، وعدد قليل من الشعراء، بهذه اللغة او تلك، فإنه لا يوجد شعراء حقيقيون يكتبون هذه القصيدة، يزيد في هذه المعضلة تعقيدًا، أن ما نقرأه من النماذج التي تُكتب وتُنشر من هذا النوع الشعري، لا يوجد له أي أساس أو أصل في تراثنا العربي القديم، وهو ما يعني أنه غريب وهجين على هذا التراث، فماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن قصيدة النثر ما هي الا بضاعة مستوردة، وليست أصيلة، وهنا قد يقول معترض، ولماذا نحرم أنفسنا ونمنعها من التأثر بثقافات اخرى، خاصة وأن العالم بات هذه الفترة أقل من قرية صغيرة، ربما عرفة صغيرة. فنرد عليه قائلين، إن ما تقوله صحيح إلى حدّ بعيد، لكن ألا تلاحظ معي أنه يوجد في العالم تعدديات ثقافية وأن كلًا مِن الثقافات العالمية تحاول أن تُحافظ على خصوصيتها في داخل الكلّ العالمي/ او العولمة؟.. ثم أليس مِن المُثير أن ما نقراه مُترجمًا من الشعر الأجنبي عادة ما يتفوّق على ما نقرأه من قصيدة النثر العربية؟.. أما فيما يتعلّق بقصيدة الهايكو** الأخت القريبة من قصيدة النثر، فإنها نوع شعري ياباني، تدفق إلى الساحة الأدبية الشعرية العربية بعد صدور كتاب ضمّ نماذج من الهايكو الياباني***، فاندفع مَن يعرف ومَن لا يعرف يكتب هذا النوع من الشعر، متناسيًا، في الاغلب عن جهل، أن لهذا النوع الشعري في لغته قواعد واسس، وكاتبًا فيه تُرّهات ما أنزل الله بها من سلطان، وكأنما تُراثنا العربي القديم، قد خلا مما يُمكننا أن نطوره، نضيف اليه ونقدمه من كتابات أدبية.

* يدّعي كتاب قصيدة النثر أنهم إنما يُريدون التجديد، وأن الاستسلام إلى طريقة واحدة ووحيدة في التعبير الشعري، يدُل في أبسط ما يدُل عليه، على محدودية تكاد تصل حدّ المُحاصرة الأدبية، وسؤالنا إلى هؤلاء هو: ألا توجد قيود وحدود وأسس لكلّ إنتاج أدبي في أي من اللغات؟.. ثم وهذا هو السؤال الأولى بالطرح، إذا أردت أن تُجدّد يا أخي، ألا يُفترض فيك أن تعرف ما تجدد فيه وتضيف إليه؟.. وهل انقلب مؤشر التجديد إلى مُجرّد اعتراضات لا معنى لها ولا مذاق، إن التجديد أيها السادة يحتاج الى معرفة مُتعمّقة لما نجدّد فيه وما نضيف إليه، وهنا اذكركم، بأن التجديد الذي أحدثته الموشحات الاندلسية في الشعر العربي، تطلّبت من أصحابها ان يكونوا على معرفة بالشعر العربي القديم، وهكذا ولد الموشح ابنا حقيقيًا وجديرًا للشعر العربي وليس مسخا هجينًا، كل ما يتطلّبه هو قِلةُ المعرفة ورصف الكلمات إلى جانب بعضها بعضًا وكفى الله المؤمنين شرّ القتال. لقد ذكرت في هذا السياق، في مقال سابق، أن كلّ من عرفتهم مِن أعلام قصيدة النثر، في بلادنا وفي الخارج، إنما توجّهوا إلى قصيدة النثر عن جهل وفلة معرفة، وأنا للحقيقة لم أكن أتحداهم ، وانما كنت اشير إلى ما هو أهم من التحدي، كنت أشير إلى أهمية أن يكون الإنتاج الادبي، شعرًا كان أو نثرًا، وليدًا حقيقيًا لثقافة ومعرفة، أما أن يكون الإنتاج الادبي، أيا كان نوعه، ناتجًا عن جهل وقلة معرفة، لا بالتراث ولا بالثقافة، فهذا ما لا يقبله الذوق السليم والعقل الفهيم. رحم الله زمانًا كان فيه مَن يُريد أن يكون شاعرًا أن يتبحّر في دنيا التراث والثقافة، حتى عُرف أن الشعراء هُم مَن يُجدّدون شباب اللغة واسسها، وهو ما جعلهم مراجع يُعتدّ بها وبما بدر عنها من قول رزين ومكين.

* الآن نصل إلى لُبّ الموضوع في مناقشتنا أسباب انصراف الناس عن قراءة الشعر، لا ريب في أن مُجمل الأسباب الواردة آنفًا، في مقدمتها السببان السابقان، كلّ هذه الأسباب أدت إلى تجرّؤ مَن يعرف ومَن لا يعرف إلى صعود سُلّم الشعر الصعب والطويل، وفق تعبير الشاعر العربي القديم الحُطيئة، هكذا شرع كلّ مَن وقع في مشكلة غرامية، أو اجتماعية أو أي نوع من المشاكل الكثيرة التي نعيشها جميعًا، في التوجّه إلى دفاتره وأقلامه، أو حاسوبه، والاخذ في تدبيج الكلام، غير آخذ في الحسبان ـن هناك من سيقرأه، ومن ينتظر كلمة مُعبرة ومؤثرة، وتقوم على أساس متين من المعرفة، التراثية والثقافية. وعندما يفرغ هذا المتوجه من كتابته، يسارع إلى نشرها في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي او المواقع الالكترونية، أو يجمعها في دفتر أو صفحة الكترونية، ويُرسل بها إلى ناشر ما، فلا يكون من هذا إلا أن يرفض نشرها، عندها يلح "الشاعر" على الناشر، طالبا منه طباعة مجموعته تلك، واعدًا إياه بأن يدفع له مُقابل الطباعة، وعادة ما يكون مبلغًا ضئيلًا نسبيًا، فالطباعة الديجتالية، الرقمية، سهّلت امر الطباعة، وخفّضت بالتالي مقابلها إلى أقل القليل، عندها بستجيب الناشر للشاعر ويقوم بطباعة مجموعته تلك. فماذا يفعل الشاعر الغضّ الطري وقد وجد بين يديه مئة أو مئتي نسخة من كتابه، أو مجموعته الشعرية النثرية؟.. ها هو يفعل ما يفعله الكثيرون في هذه الفترة، إنه يُبادر بالتعاون مع هذه الجهة أو تلك، مِن الجهات الأدبية وما أكثرها، وما أكثر اشغالها، إلى إقامة أمسية أدبية، يدعو ‘ليها مَن يَعرف تمام المعرفة، أنهم سيكيلون له كلّ ما أراده ورجاه من مديح وثناء، وفي نهاية الأمسية يوزّع مجموعته المطبوعة في كتاب على الحاضرين. أما البقية فقد باتت واضحة، كلٌّ مِنَ الحاضرين يأخذ نسحته مِن المجموعة الجديدة، وعادة ما يتركها على أحد المقاعد القليلة المنتشرة في القاعة، أو يأخذها إلى بيته حيث يقذف بها في مكان قصي، لعلمه أنها لن تضيف إليه جديدًا ولن تثيره.

موجز القول، ان هذا كلّه، من الأسباب التي تقف وراء كتابة قصيدة النثر، تُنفّر القارئ المُحبّ للشعر وتجعله من كارهيه والمنصرفين عنه وعن أصحابه البعيدين عن كلّ ما هو معرفة، تراث وثقافة.. ما اصعب هذا. الا يحق لنا بعد هذا كله أن نضع عنوانًا لمقالتنا هذه، كما ورد أعلاه؟.. بلى نعتقد.

***

ناجي ظاهر

......................

*الطامة في أحد تفسيراتها الداهية.

** الهايكو هو نوع من الشعر الياباني يتألف من بيات واحد فقط، وهو مكون من سبعة عشر مقطعًا صوتيًا – باليابانية- ويُكتب عادة في ثلاثة أسطر- خمسة ثم خمسة.

*** صدر كتاب الهايكو هذا قبل نحو ربع القرن ضمن سلسلة الكتب الكويتية الدورية الرائعة "ابداعات عالمية".

 

في التاسع عشر من آب مرت ذكرى استشهاد الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا حينها كانت إسبانيا تشتعل بنار الحرب الأهلية، ففي إحدى صباحات شهر آب الشديد الحرارة تم أُعدامه على يد القوات الموالية للدكتاتور (فرانكو) كان ذلك في عام ١٩٣٦ حيث امتزج دم لوركا بعرقه.

بإعدامه انطفأ آخر مصباح قمر غجري في سماء إسبانيا حيث غنّاه القمر لحظة استشهاده لقد سكت اخر عندليب اندلسي يصفه معاصروه أنه كان شابا هادئا لا تفارقه الابتسامة حتى في أحلك الظروف.

هكذا كان شهيد غرناطة الذي وُلد فيها عام ١٨٨9، شاعرا ومسرحيا ورساما وعازف بيانو ومؤلفا موسيقيا، يعده البعض من أهم شعراء القرن العشرين. كان لوركا ثوريا جمهوريا النزعة لهذا قتل على يد الفاشست وكان استشهاده قد دفع بشهرته الى الامام.

لم يتزوج ولكنه كان في قلبه العديد من النساء ممن يعملن معه في المسرح، يدهشه قصر الحمراء بغرناطة فينظر إليه بدهشة الشاعر العبقري.

تخرج لوركا من جامعة غرناطة وكان متأثرا تأثرا بالغا بالشعر العربي الأندلسي حتى ظن كثير من النقاد والمؤرخين بأنه من أصل عربي أو ربما كان عربيا من جهة الوالد فقط.

كان في رسومه متأثرا بالفنان (بيكاسو) ١٨٨١ – ١٩٧٣، ومن أصدقائه الرسام سلفادور دالي وقد أنجز لوركا الكثير من اللوحات سمي بشاعر الغجر لأنه كان محبا لأعمالهم الشعبية التي كانوا يمارسونها في غرناطة، وكشاعر رومانسي كان القمر بالنسبة له مكان ساميه بالنسبة له وقد سماه البعض بشاعر القمر.

وتتمثل أعماله الأدبية بكتاب نثري سماه (انطباعات ومشاهد) ١٩1٨ ويعد (كتاب الأشعار) ١٩٢١ أولى دواوينه الشعرية تلاه ديوان (أناشيد) ١٩٢٧، وديوان ثالث (أغاني غجرية) ١٩٢٨ اما اشهر مسرحياته فهي مسرحية (عرس الدم) ١٩٣٤.

وله ديوان شعري آخر اسمه (ديوان التماريت) ١٩٢9 وكان واضحا في هذا الديوان تأثره بالشعر العربي.

لم يهرب ولم يدخل الخوف إلى قلبه عندما دخل الفاشيون غرفته فلم يجدوا فيها غير أوراق فيها قصائده، كانت التهمة الموجهة إليه (أنه اساء بقلمه اكثر مما اساء اخرون  بمسدساتهم) اقتاد الجنود المسلحون لوركا إلى منطقة (فينزار) وأعدموه رميا بالرصاص فجر يوم ١٩ /آب / ١٩٣٦.

رثاه العديد من شعراء العرب والأجانب، رثاه الشاعر بدر شاكر السياب شاعر النخيل والأنهار ورثاه من شعراء العرب محمود درويش شاعر الزيتون والبرتقال بقصائد رائعة عبّر فيها هؤلاء الشعراء عن حبهم وإعجابهم بشاعر القمر (لوركا). قال شاعرنا السياب في قصيدته المسماة (غارسيا لوركا):

في قلبه تنور

النار فيه تطعم الجياع

و الماء من جحيمه يفور

طوفانه يطهر الأرض من الشرور

و مقلتاه تنسجان من لظى شراع

تجمعان من مغازل المطر

خيوطه ومن عيون تقدح الشرر

و من ثدي الأمهات ساعة الرضاع

و من مدى تسيل مها لذة الثمر

ومن مدى للقابلات تقطع السرر

ومن مدى الغزاة وهي تمضغ الشعاع

شراعة الندي كالقمر

شراعه القوي كالحجر

شراعه السريع مثل لمحة البصر

شراعه الأخضر كالربيع

الأحمر الخضيب من نجيع

كأنه زورق طفل مزق الكتاب

يملا مما فيه بالزوارق النهر

كأنه شراع كولمبس في العباب

كأنه القدر

وهذه قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش بعنوان (لوركا) وهي رباعية رائعة:

عفو زهر الدم يا لوركا وشمس في يديك

و صليب يرتدي نار قصيدة

أجمل الفرسان في الليل يحجون إليك

بشهيد وشهيدة

هكذا الشاعر زلزال وإعصار مياه

و رياح ان زار

يهمس الشارع للشارع قد مرت خطاه

فتطاير ياحجر

هكذا الشاعر موسيقى وترتيل صلاة

و نسيم إن همس

يأخذ الحسناء في لين إليه

و له الأقمار عش إن جلس

عازف الجيتار في الليل يجوب الطرقات

و يغني في الخفاء

و بأشعارك يا لوركا يلم الصدقات

من عيون البؤساء

نسي النسيان أن يمشي على ضوء دمك

فاكتست بالدم أزهار القمر

أنبل الأسياف حرف من فمك

عن أناشيد الغجر.

المجد والخلود للشاعر الذي كانت حياته لغزا ومماته لغزا.

***

غريب دوحي

 

ايهما افضل، الرواية متشعبة الاحداث متعددة الابعاد، / أم الرواية المُركّزة المُكثفة ذات الاحداث القليلة لكن المُعمقة؟.. سؤال شغل العديدين من الكتاب والقراء على حدّ سواء، ما جعل هؤلاء وأولئك ينقسمون إلى قسمين، أحدهما يأخذ بهذا الرأي والآخر يأخذ بالرأي الآخر، بناء على هذا انقسم القراء إلى قسمين أو مجموعتين، احداهما تميل إلى رواية الاكشن والاثارة متعدّدة الاحداث، والأخرى تفضّل الرواية قليلة الاحداث مُركّزتها وذات القدرة الخاصة على الغوص في مجاهل النفس البشرية ومتاهاتها المُركّبة المعقدة.

بما أن هذا السؤال احتوى ما احتواه من خلافات بين الكتاب أولًا والقراء ثانيًا، فإنه لا بُدّ لنا من العودة إلى التساؤل الخالد عن الماهية، وهي هنا ماهية وجوهر الكتابة الروائية، فماذا يُريد الروائي حين يُقدم على كتابة الرواية؟.. وهل هو يريد ان يوصل رسالة ما تشغله وتحيّر باله؟.. هل تشعُّب الاحداث هو ما يُثير الكاتب وقارئ الرواية بصورة عامة؟.. فيما يلي نطرح رأيين متخالفين ومتعارضين، ونقدّم على كلّ منهما مثالًا شائًعا منتشرًا ومقبولًا، مُردفين هذين الرأيين براي اخر يتوسّطهما. بعد ذلك نتوصل الى نتيجة، نأمل ان تكون منوّرة ومُرضية للجميع كتابا وقراء.

ممن يأخذ بالرأي القائل بأهمية الاحداث المتشعّبة المتعدّدة والمثيرة، بإمكاننا الإشارة إلى قراء الروايات البوليسية، لكلّ من مؤلفيها مثالًا لا حصرًا كونان دويل، او اجاثا كريستي، او جورج سيمنون، ومَن إليهم مِن كُتّاب الرواية البوليسية.. فهؤلاء القُراء ينتشرون في شتى بقاع العالم، ويفرضون وجودهم الثقيل في إقبالهم على قراءة الروايات المذكورة، حدّ أن ما يُوزع من هذه الروايات يتجاوز في اعداده الآلاف والملايين من النُسخ!.. ويُذكر في هذا السياق أن هناك كُتّابًا من ذوي الوزن الثقيل، أمثال الفيلسوف الفرنسي الوجودي البارز جان بول سارتر كان من قراء هذه الروايات، وقد لا نبتعد كثيرًا في تبيان مواقف أصحاب هذا الرأي إذا ما أشرنا إلى العديد من الروايات العالمية البارزة والمقروءة في شتى اصقاع العالم، مثل الحرب والسلام للكاتب الروسي ليو تولستوي، او رواية فاتنة الرجال للكاتب الأمريكي جون شتاينبك، تنتمي إلى هذا النوع، متعدد الاحداث متشعبها، كما سبقت الإشارة. فالأولى تتحدث عن الاحتلال الفرنسي للبلاد الروسية، والثانية تتحدث عن القراصنة ومغامراتهم البحرية المتعددة والمثيرة.

في المقابل لهذا الرأي هناك مَن يرى خلافًا لهذا الرأي، فيذهب إلى أن التغلغل في أعماق النفس البشرية والتسلّل إلى متاهاتها بعيدة الاغوار، هُم المحقون. من هؤلاء نشير إلى قُرّاء الروايات الحديثة التي تمّ اعتبارها منذ صدورها قبل نحو المائة عام، مثل رواية يوليسيس للكاتب الايرلندي جيمس جويس، او رواية البحث عن الزمن الضائع للكاتب الفرنسي مارسيل بروست، الذي اعتبره العشرات من النقاد والدارسين الادبيين، علامة فارقة في تاريخ الرواية، فهاتان الروايتان اللتان تُعتبران مِن العلامات الفارقة في تاريخ الرواية الحديثة، رواية القرن العشرين تحديدًا، وكلٌّ منهما تحتوي القليل من الاحداث الخارجية/ الاكشن، بل إن رواية يوليسيس تدور احداثها في يوم واحد، 24 ساعة فقط، علما أنها رواية ضخمة تقع في مجلدين اثنين.

بين هذا الرأي وذاك وُجد رأي آخر، يمكن اعتباره وسطيًا، هو رأي العديد من الكاتب والباحثين الادبيين، ينتصب واقفا في مقدمتهم الإنجليزي ليون إيدل، الذي ضمّنه كتابه الفاتن عن" القصة السيكولوجية"، مؤلف هذا الكتاب يرى، بكثير من الحق، أن الادب ما هو إلا تجربة إنسانية يصوّرها صاحبها الكاتب ويعبّر عنها في رواية قد تكون ذات أحداث متشعّبة مثل رواية الحرب والسلام المذكورة آنفًا، أو قد تكون رواية تيار الوعي، مثل رواية عوليس المشار إليها سابقًا. فماذا أراد صاحب هذا الرأي أن يقول؟.. يُجيب هو عن هذا السؤال قائلًا ما مُفاده، إن رواية الحرب والسلام، مثلًا، تختلف عن سواها من العشرات والآلاف من الروايات التي كتبها جنود مُضمّنين إياها ذكرياتهم بكلّ ما حفلت به من أحداث بانها لم تشمل التجارب الروائية المتعمقة والرائية لعمق الحياة والحرب مثل رواية الحرب والسلام. ويذكّر هذا الرأي برأي آخر هو رأي الفيلسوف والمنظر الادبي الاغريقي العظيم أرسطو طاليس في كتابه الخالد عن" الشعر". فهو يرى أن الكتابة الأدبية بعامّة إنما تسعى إلى نقل تجربة مُتعمّقة ووُجهة نظر حسّاسة متخيّلة ومُميّزة في عرض صاحبها لها، بمعنى أن الكاتب المُبدع إنما يصوّر ويجسّد فيما يُنتجه من أعمال أدبية ما هو مُحتمل الوقوع وليس ما سبق وحدث!

إلى ماذا يُمكننا أن نَخلُصَ مِن هذه الآراء المتضاربة، المتفارقة، تباعدًا وتقاربًا؟.. يُمكننا أن نَخلص إلى الرأي التالي، ممثّلًا في عدد من النفاط، هي:

*ان العمل الروائي، قد يكون قليل الاحداث وقد يكون في المقابل مُتعدّدها، غير أنه لا هذا الرأي يحسم النفاش بين المختلفين، وإنما يحسمه العُمق في تناول التجربة الإنسانية المتخيّلة والنامية وفق حَبكة أحسن صائغها نسج أطرافها، وقدّمها إلينا نحن القراء، على طبق من عُمق في التناول ودقة في العرض، وهو ما يؤدي بالتالي إلى إحداث ما يرمي إليه كاتب الرواية من تأثير وأثر في نفوس قُرّائه. علمًا أن هناك نقادًا يتحفّظون على رواية الاكشن/ أو البوليسية ويخرجونها بالتالي من دائرة الاعمال الأدبية رفيعة المستوى.

* ومن هذه النقاط المُميّزة للعمل الادبي الإبداعي الروائي، أن الرواية ليست موضوعًا فحسب وإنما هي صياغة في الأساس، بدليل أن الموضوع قد يكون واسعًا، كبيرًا وشاغلًا للجميع، وعندما يُقبل على كتاباته وعرضه في رواية كاتبان، يُمكننا ملاحظة أن أحدهما أبدع أيما ابداع، وأن جظ الابداع لم يُحالف الآخر. ويُذكّر هذا بما تردّد لدى نقادنا العرب القدماء، مثل ابي عثمان ابن بحر الجاحظ، عندما قال كلامًا مفاده أن المعاني مُلقاة على قارعة الطريق، غير ان المبدع الحقيقي، هو الذي يتمكّن من تقديم صياغة مترابطة متماسكة لها.

* ومن هذه النقاط التي تُرسخ مفهوم الرواية لدى كُتّابها وقرائها على حدٍّ سواء، هو التغلغل إلى أعماق النفس البشرية، وذلك عبر تصوير التجربة المتخيلة، ومحتملة الوقوع، سواء كانت مُتعدّدة الاحداث ومُتشعبتها، أو كانت مَحدودة الاحداث مُتعمّقتها، فلكل من هذين النوعين من الروايات قراؤهما، علمًا أن قُرّاء الرواية الحديثة باتوا، كما تدُل التجارب، أقرب إلى الرواية النفسية، قليلة الاحداث لكن عميقتها، في التجربة والعرض، بدليل أن الروايتين المذكورتين آنفا، أقصد روايتي يوليسيس والبحث عن الزمن الضائع، باتتا منذ صدورهما في القرن العشرين المنصرم للتوّ، روايتي القرن والحداثة الأدبية في الآن ذاته.

***

ناجي ظاهر

اعتُبر الكاتب الأمريكي ارنست هيمنجواي (21 تموز1889/ 2 تموز1961). منذ سنوات بعيدة، في حياته وبعد مغادرته عالمنا بإرادته، واحدًا من أبرز الكتاب المبدعين باللغة الإنجليزية، وقد اتخذت روايته القصيرة "الشيخ والبحر"، منذ صدورها الأول موقعًا خاصًا في نتاجه الادبي، قليل العدد (7 روايات و6 مجموعات قصصية وكتابان نثريان)، وفير الأهمية والعمق الإبداعي. ويكفي أن نقول إن هذه الرواية القصيرة خوّلت صاحبها بعد ثلاث سنوات من صدورها، للحصول على الجائزة الأدبية الأولى في العالم وأعني بها جائزة نوبل الفرع الادبي، كما يكفي ان نقول إن طلّاب المدارس الثانوية في بلادنا دأبوا على قراءة هذه الرواية التي تُقدّم صورة لصراع الانسان مع الطبيعة منذ سنوات بعيدة.

لهذا كله ولغيره، سنتحدث فيما يلي عن هذه الرواية، محاولين الإجابة عن سؤال طالما اقلق الكثيرين في الفترة الجارية خاصة، وهو كيف كتب هيمنجواي روايته العظيمة هذه.

كان ذلك في عام 1950، عندما كان هيمنجواي يفكر فيما يودّ ان يكتب، في الفترة الراهنة، فقد سبق له وأن كتب وأصدر العديد من الروايات اللافتة في مقدمتها "وداعا للسلاح"، التي تتمحور احداثها حول الحرب الاهلية في اسبانيا، تلك الحرب التي شارك فيها همنجواي ذاته كمناضل أراد ان تتجاوز نضالاته حدود بلاده، زد على هذا كان يفكر في إرضاء ضيفين عزيزين (احدهما رجل من هوليوود والأخر ضابط من واشنطن)، حلا عليه في بيته، الجميل "فينكا فيجيا"، الواقع قرب هافانا، والذي يبعد عن سان فرانسسكو دي باولا بمئتي متر او أكثر.                      

وبينما هو يفكر في هذا وذاك، طرأت على باله فكرة طالما راودته كتابتها ولم ينفذها لسبب ما قد يتعلق بالضيوف الكثيرين الذين يتردّدون عليه زوارا في هذا الوقت او ذاك، المهم ان هذه الفكرة ألحت عليه بشكل لا يحتمل التأجيل أكثر، الامر الذي دفعه باختصار، لأن يتوجّه إلى زوجته ورفيقة دربه ماري، طالبًا منها كتابة لافتة، قلّما كتبتها ونصبتها في مدخل بيتهما، تلك اللافتة تضمنت بناء على طلب هيمنجواي جملة مفادها "يمنع الدخول دون موعد".. وكان ان وصلت الرسالة الى أولئك الضيفين وكل منهما غال وعزيز، فاستأذنا وانصرفا رغم علمهما برغبة الكاتب المشهور صديقهما المقرّب في بقائهما. اما هيمنجواي فقد دخل إلى غُرفته الخاصة، مشغله، وتناول أحد أقلام الرصاص كعادته في الكتابة، وراح يكتب بصعوبة أولًا، غير انه انطلق خلال اتضاح الفكرة الرئيسية وتحدّدها في وُجهة.. اخذت تتضح رويدًا رويدًا، يكتب بسرعة كبيرة، جاريًا وراء الاحداث التي راحت تتتالى وتترى واحدة تلو الأخرى، لاحةً عليه في كتابتها. وها هو يتصادق، ملتصقا ببطل روايته/ سانتياغو، البالغ من العمر عتيًا/ الثمانين عاما او نحوها، لكن المُحبّ للصيد والبحر، والطفل مانويل الذي رافقه دائما ولم يرافقه.. هذه المرة، نتيجة الحاح ذويه ، بل ها هو يتمكّن من تصويره بدقة تجلّ عن الوصف، وها هي الرواية تصل إلى احدى ذراها الشامخة العالية، وذلك بمشهد مواجهة بطل الرواية، العجوز او الشيخ، لسمكة قرش، ضخمة وهنا يندمج هيمنجواي في الحدث او الوصف، حدّ أن القارئ، أنا مثلا، يندمج بمتابعة احداث تلك المواجهة بكلّ ما ضمته من تفاصيل، وكأنما هو يراها، لا سيما عندما تستشيط تلك السمكة محاولة الإفلات من قبضة صيادها المُدرّبة المكينة، ويتوقّف القارئ طويلًا ومديًدا عند جُملةٍ يُطلقُها ذلك الصياد الهُمام هاتفًا بصيده المتمرّد العنيف :" انت تستطيعين ان تهزميني لكن لا يمكنك القضاء عليّ"، هكذا تشتد المعركة بين الصياد العجوز وصيده الضخم، وتنتهي المعركة بانتصار العجوز/ الانسان في معركته مع اعتى الكائنات البحرية، سمكة القرش الضخمة، ومسجلًا انتصارًا بشريًا عليها، أو على الطبيعة كما رأى بعض نقاد هذه الرواية وقرائها المتماهين معها ومع ما طرحته. ومع هذا كلّه، تنتهي الرواية بأن يجرّ صيادُنا العجوز ذو القوة غير العادية، إلى جانب قاربه تلك السمكة، لكن ما يحدث أن ما ينزف منها من دماء يستدعى بقية الأسماك للإقبال على التهام كلّ ما اكتنزت به من لحوم شهية، الامر الذي لا يُبقي لصائدها المقدام سوى هيكلها العظمى.. وهذا ما يتبينه عند وصوله الشاطئ الذي انطلق منه.

كتب هيمنجواي في الأسبوع الأول حوالي ثلاثة الاف كلمة، من أصل حوالي الثلاثين ألف كلمة (الرواية بترجمتها العربية التي قام بها ونفذها منير البعلبكي وقعت في 136 صفحة)، وتابع فيما بعد في كتابته واصفًا لنا، نحن القراء، المشهد الروائي المعيش، وكأنما نحن نراه ولا نقرأه فحسب. بعد انتهاء هيمنجواي من كتابة النسخة الأولى على عجل بقلم الرصاص كما سلف، قام بقراءتها كعادته بعد الانتهاء من أي رواية سبق له وأن كتبها، وبعد مراجعته المشدّدة هذه، قام بطباعتها كلمة كلمة، جُملة جُملة وفقرة فقرة، الامر الذي مكّنه من أن يقرّبها من الكمال.

بعد عام من كتابة هيمنجواي روايته هذه، أرسلها إلى ناشره، فقام هذا بطباعتها، وقبل أن تصدر كان القراء قد حجزوا 15 ألف نسخة منها، وبإمكاننا القول، نقلا عن مصادر أخرى موثوقة، أن الرواية سجّلت نفسها منذ البدايات الأولى لصدورها واحدة من أفضل الروايات الامريكية الصادرة آنذاك، أما الذروة التي بلغتها هذه الرواية فقد كانت عام 1954، أي بعد صدورها بعامين، وذلك بتخويلها صاحبها الحصول على الجائزة الأدبية الكبرى في العالم، جائزة نوبل للأدب.

أثار ما أحرزته هذه الرواية من نجاح الكثيرين، فزعمت صحيفة كوبية، تدعى "اكسلسيور"، ان هيمنجواي "سرق"، فكرتها من صياد كوبي عجوز في الثامنة والستين من العمر، يدعى ميغيل راميرز، رواها له، الامر الذي استفز صاحب الرواية واغضبه، فتوجه نحو بلدة ذلك العجوز الكوبي، وبيده مسجل، وعندما وقف قُبالته، راح يوجّه إليه السؤال تلو السؤال، فقام ذلك العجوز بالردّ عليه، وكانت نتيجة تلك المقابلة بين كاتب الرواية وبطلها المزعوم، تبرئة كاتبها.

***

ناجي ظاهر

يقال إن الصدى انعكاس لما نهمس وننطق به، يرد إلينا بما تحدثنا به أنفسنا ونقوله، وقد يعلو أثره ويقوى بعلو الصوت ووضوح النبرة. لكن ماذا عن ذلك الصوت الذي لا يسمعه أحد غيرنا؟ الصوت الكامن في أعماقنا، الذي يحاورنا ونحاوره، ويعيش فينا ويتنفس من هوائنا، وينتنسم من عبيرنا ويتشرب مشاعرنا وأفكارنا.

ذلك الصوت الداخلي هو الصدى الحقيقي لما نفكر به وما نشعر به في دواخلنا. وهو على الدوام رفيقنا في رحلة الحياة بحلوها ومرها، يوجهنا أو يخذلنا، يدفعنا للأمام أو يثقل خطواتنا للخلف.

الإنسان مخير بين أن يجعل صوته الداخلي حراً، واثقاً، إيجابياً، يتغذى على قيمه ويستمد طاقته من همته ونشاطه؛ أو أن يتركه ضعيفاً ساكناً، لا يعرف سوى بث الإحباط واليأس. الصوت الإيجابي يحول الحلم إلى هدف، والهدف إلى حقيقة، ويختصر المسافات، ويرى في نقص المهارات فرصة للتعلم والنمو. أما الصوت السلبي فيحول العوائق إلى جدران، ويجعل من كل محاولة بداية للفشل، حتى تذبل طاقته وتخور قواه، فيتحول إلى عبء على نفسه وعلى من حوله.

تجارب عملية من العمل والحياة

في بيئات العمل، نرى أثر الصوت الداخلي بوضوح. في إحدى الشركات، كان هناك موظفان التحقا في نفس الوقت معاً. الأول واجه التحديات بنظرة إيجابية، واعتبر كل خطأ أو خطوة يخطوها فرصة للنمو والتعلم، وطلب الملاحظات لتطوير نفسه والإرتقاء بها. خلال عامين، تمت ترقيته إلى منصب قيادي لأنه كان يرى في المشكلات مهام قابلة للحل والنهوض به. أما الثاني، فكان يفسر أي توجيه على أنه انتقاد وتدمير لشخصيته ومهنته، ويقابل التحديات بالعناد والتأجيل أو الرفض، ويشعر دوماً بالاضطهاد وأنه ضحية من يتعاملون معه، فبقي في مكانه جامداً كجمود الصخر دون تقدم أو تطور.

وفي الحياة الشخصية والاجتماعية، قد نجد أمثلة لأشخاص فقدوا مصدر رزقهم فجأة وتعرضوا للظلم والجور. فالبعض استسلم لشعور العجز والنقص في داخله، بينما اختار آخرون أن يستمعوا لصوتهم الداخلي الإيجابي، فنهضوا من جديد وفضوا الغبار من عليهم، ينظرون للأمام دون أن يتحسروا أو يحبطوا مما حصل لهم، فبدأوا أعمال بسيطة لو رأها المرء لاستخف بها وأدار ظهره لها، تطور وضعهم وعملهم فساروا في التخطيط لمشاريع صغيرة وتعلموا مهارات جديدة تنفعهم في أعمالهم، فتحولت الأزمة إلى أمل وضوء مشرق ونقطة انطلاق نحو مسار أفضل.

حتى في مجال ممارسة الألعاب الرياضية، يلعب الصوت الداخلي دوراً حاسماً في الفوز والتتويج. فاللاعب الذي يركز على الفوز ويحافظ على تحفيز نفسه بكلمات إيجابية، ينال ما يفكر به وتهمس له كلماته، حتى لو تأخرت نتائجه، بصبره وجهده واستمرارية سعيه وكده، ينال فرصة أكبر للعودة وتحقيق الانتصار الذي يحلم به واقعاً مملوساً، مقارنة بمن يترك الإحباط واليأس والشعور بالفشل والتراجع يتسلل لنفسيته فيدمر ما بقي منها ويفتت قواها وقوتها.

الخلاصة

الصوت الداخلي ليس فكرة عابرة أو جامحة، بل هو محرك أو مثبط لكل قرار نتخذه، وأحد العوامل الخفية التي تحدد مسار حياتنا. صيانته وتغذيته بما هو نافع ضرورة ومنطلق مهم لا رفاهية أو تضييع للأوقات. اجعل صوتك الداخلي ضوءاً ونبراساً يعلو بكل ما تملكه من طاقات متدفقة تسهم في جلب النفع والخير لك، ويحمل في نبراته بناء الأمل والتفاؤل، ويزرع فيك الإصرار والعزيمة. فالحياة لها رجالها ونساؤها الذين يمضون بصوتهم الجياش، يتركون صدى وبصمة وأثرًاً لا يزول.

***

د. أكرم عثمان

 14/8/2025

كان شكل الشعر الغرناطي يشبه الخزفيات ذات الطابع الواحد لدى معاصريهم المدجنين من الحرفيين، فنجد في هذا الشكل الواحد يتكرر في نموذج واحد الى ما لا نهاية. إن المذهب التأسيسي الغرناطي المحافظ قام بعملية بعث وإحياء لأشكال إجتماعية ثقافية قديمة بصورة قوية، من المؤكد أنها لم تكن تملك تمتلك النموذج أو المثال، وهكذا تحول الشاعر البلاطي الذي كلف بالتغني بأمجاد السلطة، تحول إلى موظف يراعي كل الاصول، وهناك عدد من الوزارات كل مسؤولياتها أن تحرر الرسائل الرسمية للسلطان الغرناطي وهي تكتب في أوراق حمراء، وهو اللون المتخذ كشعار لإمراء قصر الحمراء .

وهنا يجب أن نشير إلى أن طريقة أو مذهب هؤلاء الشعراء الموظفين- أن هناك دائما بحث مستمر عن شكل لطيف وممتع يمكن تطبيقه في المناسبات المختلفة شأن القوانين الادارية ذات الصيغة الموحدة، وقد سبق وأشرت إلى أن مذهبهم هو مذهب طائفة الحرفيين، الذي كان يسعى إلى المادة الرقيقة للغة العربية بإشراف شيخ أو معلم كان يصحح ويهذب ويزخرف العمل لدى المتعلمين المبتدئين ويقوم يقراءة كتبه الخاصه التي ألفها وخصصها لتكون صالحة للاستشهاد بها في الاوقات الرسمية أو في الاحتفالات. ومن هنا تشابه أسلوب الشعراء الذين كانوا يعملون في خدمة القصر (قصر الحمراء)، ومن هنا جاء الخلط واللبس في إثبات القصائد المنقوشة لمؤلف بعينه، هذه النصوص هي نتاج هؤلاء الشعراء الذين جمعتهم الوظيفة المشتركة كما جمعتهم علاقة المعلمين بالمتعلمين أو الاساتذة بالتلاميذ.

إن أول شاعر موظف من الناحية التاريخية هو إبن الحكيم الرندي(1261-1309) الذي لم يحفظ من شعره نماذج كثيرة، ذلك لأنه فضلا عن كونه رئيسا لقلم أو قسم الكتابة بقصر الحمراء، كان رئيسا للوزراء ووصل إلى أن أستولى على السلطة الملكية، مع ما كان تتوجه به إليه من قصائد رسمية، ليس هناك مايمنع أن تكون القصائد المكتوبة على المدخل الرئيسي، هي قصائد من تأليفه. كان من حسن حظه بقيام تلميذه إبن الجياب الغرناطي (1261-1348) الذي كان رئيسا لقلم الكتابة طيلة خمسين عاما في خدمة السلاطين بالقيام بحفظ شعره أو ديوانه.

أما إبن زمرك( 1333-1393) الذي كان تلميذا لابن الخطيب، الذي كان بدوره تلميذا لابن الجياب، فعندما كان يعمل كشاعر رسمي في البلاط، لديه مسحة شعرية أكثر علوا ورقيا- لانه في تصوري كان أفضل الشعراء الغرناطيين الثلاثة الذين عملوا كموظفين في القرن الرابع عشر.

أما إبن الخطيب تلميذ إبن الجياب وأستاذ ابن زمرك، فقد كان أكثر الثلاثة تحذلقا، ربما يرجع ذلك إلى قدرته على جمع كل ألوان المعرفة، فقد كان كاتبا أصيلا أستطاع في إسلوب يتسم بالصعوبة أن يتعامل مع أكثر الموضوعات المتباينة.ونشير من بين قصائده المدحية، قصيدته اللامية التي يقال أنها كتبت على جدران قصر الحمراء، والتي ألفها بمناسبة عودة محمد الخامس إلى العرش.

 وفي النهاية، رغم إنشغال الشعراء الموظفون في غرناطة بأعمالهم الادارية، فإنهم حافظوا على حضورهم الادبي ‘ فجعلوا من الشعر وسيلة للتعبير عن مشاعرهم وتجاربهم الحياتية والمهنية وأمتزج في نتاجهم الادبي الحس الابداعي مع الخبره اليومية، فأنعكس في قصائدهم طابع يجمع بين الرسمي والوجداني، مما أغنى المشهد الثقافي الغرناطي وخلد أثرهم في تاريخ الادب الاندلسي.

***

رنا فخري جاسم

كلية اللغات/ جامعة بغداد

صنع الله لم يكن يكتب ليرضي الآخرين أو السلطة، فقد كان يكتب كما يختبر المبحرُ صلابةَ الريح في مواجهة كل زمانٍ آتٍ. لم يكن يهادن المعنى ولا يتصالح مع الصمت، بل يترك الكلمات تتقدّم أمامه ككشافات صغيرة في ممر طويل. والذين يكتبون بهذه الطريقة لا يرحلون فعلًا، إنهم فقط يبدّلون العنوان: من صفحة الأرض إلى مكتبة الغيب، وهناك، بين رفوف لا تراها العين، يتركون لنا الكتب كإحداثيات للعثور عليهم، كأنهم يخفون أرواحهم بين السطور بانتظار قارئ يفتح الباب.

 حاولت وأحاول أن أنعيه، لكني وجدت النعي أضيق من حياته، والكلمات أقل من قامته.

وهكذا، لم تكن رواياته سوى انعكاسٍ لذلك النهج: كتابة تواجه، وتكشف، وتعيد ترتيب الأسئلة قبل الإجابات. كتب اللجنة وكأنه يضع مرآة أمام مؤسسة كاملة، مرآة تصرّ على أن تُظهر خلفية المشهد لا واجهته؛ وكتب ذات ليضع حياة امرأة في مواجهة بلد بأسره، بكل ما فيه من تاريخ، وشوارع، وملامح عابرة على شاشة الأخبار؛ وكتب شرف ليكشف أن السجن الحقيقي ليس خلف القضبان فقط، وإنما يختبئ في عقل السلطة وأخلاقها، في نبرة الأوامر أكثر مما في صرير الأبواب الحديدية.

ثم، في لحظة من لحظات الحقيقة النادرة، تلك اللحظات التي تختبر الفرق بين المثقف العضوي والمثقف التائب، رفض جائزة الدولة أمام وزيرها، وحوّل الاحتفال إلى محاكمة علنية للشرعية الزائفة، وكأنه يضيف فصلًا جديدًا إلى رواياته، فصلًا بلا ورق، كُتب في الوجوه المندهشة والقلوب التي انتفضت في القاعة.

إن رحيل صنع الله إبراهيم ليس غيابًا بقدر ما هو إعادة توزيع لحضوره: بعضه يبقى في الذاكرة الشخصية، في حكاية أو لقاء أو جملة عابرة، وبعضه يستقر في النصوص التي نعرفها عن ظهر قلب، وبعضه يظل في السؤال الذي يطرحه علينا بعد رحيله: هل نحن على قدر ما نقرأ؟

***

إبراهيم برسي

 

احتلت فرنسا الجزائر عام 1830م ثم توغلت في المدن الداخلية الا أن صدته المقاومة سرعان ما ضهرت عام 1831م بقيادة عبد القادر الجزائري وقد أصدرت سلطات الاحتلال قوانين جائرة فانتزعت الأراضي الزراعية من يد أصحابها ثم أصدرت قانون جعل الجزائر جزء من فرنسا وقتلت آلاف الجزائريين الامر الذي دفع المقاومة الى اعلان (جبهة التحرير الوطنية الجزائرية)عام 1954م وقيام الثورة حتى نالت الجزائر استقلالها عام 1962م بعد نضال طويل وتضحيات بلغت المليون شهيد اضطر الرئيس الفرنسي (ديغول) الى عقد أتفاقية (ايفيان) ومنح الجزائر استقلالها وبذلك تم تشكيل حكومة جزائرية وطنية.

مفدي زكريا..شاعر الثورة

يقال: انه لكل ثورة شاعر او خطيب يكون ناطقا باسمها ولسانها المعبر عن أهدافها ووسيلة اعلامها. فكان(مايكوفسكي) شاعر الثورة الروسية لعام 1917م و(محمد مهدي البصير)شاعر ثورة العشرين العراقية، و(الجواهري) شاعر ثورة 14 تموز في العراق و(ميرابو) خطيب الثورة الفرنسية 1789م و(مفدي زكريا) شاعر الثورة الجزائرية ... ولد في مدينة (تومرت)عام 1913م ودرس هي مدارسها ثم انتهى الى جامعة الزيتونة في تونس ومنها بدأ نشاطه الأدبي في الصحف والمجلات الجزائرية والمصرية واللبنانية ثم انضم الى جبهة التحرير الوطني الجزائرية واخذ يدعو الى النضال والفداء فدخل السجن خمس مرات وعذب حتى مزقت السياط جلده وفي سجنه اخذ يكتب الأناشيد الوطنية التي كتب بعضها بدمه وأرسلها الى الثوار وقد جمع شعره بعد ذلك في ديوان (اللهب المقدس) الذي اعتبر ديوان الثورة الجزائرية الذي ار فيه بطولاتها الأسطورية .. ومن الجدير بالذكر ان ابنه قد ترك دراسته في الكلية والتحق بالثوار وقد ارسل رسالة الى ابيه يزف فيها بشرى التحاقه بصفوف جيش التحرير وكان عمره (18)عاما فاجابه والده بقصيده يحثه فيها على النضال والفداء من اجل تحرير بلاده واستقلالها ، وأخيرا تمكت مفدي من الهرب من السجن وغادر الى تونس حيث توفي فيها يوم 17 / 8 /1977م

النشيد الوطني للثورة الجزائرية

نظم مفدي عدة قصائد وطنية وهو في سجنه من ابرزها النشيد الوطني الذي اتخذته الحكومة نشيدا وطنيا وقد نظمه عام 1955م بعنوان (اشهدوا) وقام بتلحينه الفنان المصري محمد فوزي وهذا مقطع منه:

قسما بالنازلات الماحقات 

 والدماء الزاكيات الرافقات

*

والبنود اللامعات الخافقات

في الجبال الشامخات الشاهقات

*

نحن ثرنا فحياة اوممات

وعقدنا العزم ان تحيا الجزائر

فشهدوا

* المناضلة جميلة بوحيرد الثورة الجزائرية .

شاركت المرأة الجزائرية في الثورة في المدن والأرياف وقد بلغ عددهن اعداد كبيرة ومن ابرزهن : جملة بوحيرد ، زهرة ظريف، سامية بخضاري وغيرهن ... في عام ١٩٥٧ م اصيبت جميلة برصاصة في كتفها عندما كانت تحمل رسائل إلى قادة جبهة التحرير نقلت على أثرها إلى المستشفى وقد تعرضت أثناء العلاج إلى انواع التعذيب حيث صرحت قائلة (.. لقد تحملت التعذيب طوال ثلاثة ايام بالكهرباء فقد وضعت اقطاب كهربائية في موضع العفة مني وفي فتحتي انفي وفي اذني وفمي وتحت ابطي وفي نهاية نهدي الاثنين اللذين ما يبرحان محروقين وعلى فخذي وقد دام هذا التعذيب طوال الليل حتى كان يغمى علي وادخل في بحران الهنديان ..)

وكان الهدف من وراء هذا التغريب هو اجبارها على الاعتراف بمكان بعض قادة جبهة التحرير الا انها لم تعترف بشيئ وقد وكلت عائلة جميلة المحامي (جاك فيرجيس) للدفاع عنها الا ان المحكمة الفرنسية اتهمتها بتهمة اخرى وهي انها كانت تحمل القنابل إلى المقاومة فحكمت عليها المحكمة بالاعدام مما اثار الرأي العام في فرنسة نفسها ضد هذا القرار بالإضافة الى الجهود المحامي الذي كان له الفضل الاكبر في الافراج عن جميلة بو حيرد بعد ان مرت بمأساة وتحملت انواع التغريب من قبل رجال المظلات الفرنسيين. وكان عمرها انا ذاك لا يزيد على (٢٢) عامًا، في عام ١٩٦٢ تزوجت من الرجل الذي انقذها محاميها (جاك فيرجيس).

***

غريب دوحي

 

تحوّل منذ سنوات بعيدة إلى كاتب روائي يُشار إليه بالبنان، ويصلح أن يكون نموذجًا يمضي آخرون في أثره وعلى خطاه، فقد خلّف انتاجا روائيا رياديا في مجاله، ما فرض كتابة العشرات وربما المئات من الكتب والاطاريح الجامعية عنه وعن نتاجه الروائي الغزير من ناحية، وما أدى من ناحية أخرى إلى تحويل العديد من رواياته، او معظمها بالأحرى، إلى أفلام سينمائية شاهدها، إضافة الى مثقفي الامة بسطاؤها وأميوها أيضًا. وقد عاش عمرًا مديدًا مكّنه من بناء عالمه الروائي المتكامل وفي مركزه الحارة العربية المصرية، والتاريخ المصري بشقيه الفرعوني القديم والمصري الجديد. ابداعاته هذه خوّلته لأن يكون أول كاتب روائي عربي يحصل على جائزة نوبل الأدبية لعام 1988، ورغم أن الكثيرين عزوا فوزه بهذه الجائرة ألى تأييده لاتفاقية كامب ديفيد، بين مصر وإسرائيل، فإن أحدا لم يشكك في قيمته وقيمة عطائه الروائي الريادي في ادبنا العربي المعاصر.

كل هذا الحضور الطاغي للكاتب الروائي نجيب محفوظ (11 كانون الأول 1911- 30 آب 2006)، وجّه إليه الأنظار وجعل من تجربته في الكتابة الروائية، هدفًا تتطلع إليه وإلى ما حفل به من اسرار، وإلى معرفة مكنوناته وخفاياه، فما هي الارهاصات الأولى التي أحاطت بحياته؟.. بماذا اتصفت حياته مع الكتابة الروائية، ما هي الدوافع التي حركت شُعلة الابداع في داخله. بل كيف كتب وما هي طقوس الكتابة التي اتبعها ومارسها؟

الكاتب الراحل جمال الغيطاني، صاحب الرواية الشهيرة الزيني بركات، أحد مُرافقي كاتبنا ومحبيه الكبار، وضع عام 1980 كتابًا حواريًا معه أطلق عليه عنوانا دالّا هو نجيب محفوظ يتذكر، وقد وجّه إليه فيه العديد.. العديد من الأسئلة التي دارت حول حياته ودوافعه الأولية للسلوك في طريق الكتابة الروائية، إضافة الى الكثير من الأسئلة حول العملية الإبداعية لديه. وقد صدرت الطبعة الثالثة من هذا الكتاب مُرفقة بمقدمة توافق على كلّ ما ورد في الكتاب، وكأنما هي من كتابة محفوظ ذاته، عام 1987. هذا الكتاب لفت نظر الكاتب الدكتور عزت قرني، فأقبل على قراءة الطبعة المذكورة من هذا الكتاب، وقرر ان يركّز ما ورد فيه من معلومات تتعلّق بحياة محفوظ مع الكتابة والابداع، مركّزًا على العملية الإبداعية، بكلّ ما حفلت به من طقوس، بعضها سبق وعُرف عن محفوظ وبعضها الآخر يكشف في الكتاب أول مرّة، كما قرر ان يصدر ما سجله في دراسة، في كتاب خاص أطلق عليه عنوانا دالا هو فعل الابداع الفني عند نجيب محفوظ.

يتحدّث مؤلف هذا الكتاب في قسمه الأول عن حياة محفوظ مع الابداع الروائي الفني، وعما اكتنفها واحاط بها من ملابسات، ويتحدّث في القسم الثاني من كتابه عن الفعل الإبداعي الفني الروائي، الذي مارسه محفوظ أولًا ومكّنه بالتالي مِن المُضي في طريق الكتابة الطويل الصعب والممتد. يُشير الكاتب عزت قرني، مستعينًا بما ردّ به نجيب محفوظ على محاوره جمال الغيطاني حينًا وعلى تعليقات الغيطاني/ مُحرّر الكتاب، حينًا آخر. من أجل تقديم صورة كاملة أو قريبة من الكمال، نحاول فيما يلي أن نقدّم صورةً موجزة جدًا لمحفوظ، دوافعه، تكوينه وممارسته العمل الابداع، محاولين قدر الإمكان استخلاص الدرس من هذه التجربة الرائدة فعلًا وقولًا.

*كانت نشأة نجيب محفوظ في طفولته في حي الجمالية نسبة الى بدر الدين جمال امير الجيوش والقائد المشهور في العصر الفاطمى وباني اهم اسوار القاهرة. في طفولته انتقلت عائلته للإقامة في حي العباسية، غير أنه بقي مرتبطًا إلى أخريات كتابته الأدبية بحي الجمالية، بل إن محفوظًا يطلق تصريحًا طريفًا، مُفاده انه كلّما أعياه العثور على الموضوع المناسب للكتابة الروائية، كان يتذكّر ذلك الحي أو يسير فيه لتنثال عليه الذكريات والمواضيع، وهذا لا يعني ان ذاك كان مصدره الأول والوحيد، فقد تعددت مصادره في الكتابة الروائية وقد استمد مصادره هذه من اماكن عاش او سار فيها ووضع اسماءها عناوين لعدد من رواياته أيضا، ومن قراءاته واحداث حياته استمد الثلاثية والكرنك مثلا، في حين استمد بعضها مما قرأه واطلع عليه من وسائل الاعلام، اللص والكلاب مثلا.

فيما يتعلّق بالبدايات الأولى، نقرأ في الكتاب، أن محفوظًا نشأ في طفولته الأولى في أجواء وطنية ملتهبة، ثورة عام 1919، وانه تشرب من هذه الأجواء وتأثر بها، لا سيما وأن والديه كانا متحمسين ومتشجعين لحزب الوفد الوطني بقيادة الشخصية الوطنية المعروفة سعد زعلول، الامر الذي ساهم في بلورة الحس الوطني لدى محفوظ وادى الى تعلقه الشديد بالتاريخ المصري، ودفعه بالتالي إلى افتتاح حياته الأدبية بكتابة ثلاث روايات تعترف مادتها من التاريخ الفرعوني وهي: كفاح طيبة، رادوبيس وعبث الاقدار، وكان محفوظ قد خطط لكتابة العديد من الروايات المماثلة لهذه، إلا أن ظروفا خاصة دفعته لكتابة الروايات الواقعية ومنها زقاق المدق، خان الخليلي والثلاثية الروائية بين القصرين، قصر الشوق والسكرية، وما إليها من الروايات.

كتاب الفعل الإبداعي عند نجيب محفوظ يتوقّف مُطوّلًا عند موضوع عنوانه، متطرّقًا إلى عدد من جوانبها وخطوطها العامة، التي تكشف عن اسرار العملية الإبداعية الفنية لدى محفوظ كما رواها للغيطاني، في مقدمتها التهيئة، الوقت وتنفيذ الكتابة ذاتها وما بعدها. فيما يلي نتوسّع قليلا بكلٍّ من هذه النقاط أو الاسرار.

*يعتبر نجيب محفوظ نفسه قارئا نهما، علما انه لم يكن في بيته ابان طفولته سوي رواية(تأسيسية) واحدة هي رواية حديث عيسي بن هشام لمحمد المويلحي، ويرى محفوظ في عملية القراءة امرا لا بُدّ منه وفي غاية الضرورة للكاتب، فتراه متنقلًا بين المكتبات باحثًا عن كلّ ما هو جديد وجادّ من الإصدارات الحديثة، ويُقبل على قراءة كلّ ما يقوم باقتنائه من هذه الكتب، وقد قرأ محفوظ، كما يرد في الكتاب، الكثير والغزير من الابداعات الأجنبية، كما أنه يقرأ باللغة الإنجليزية أيضًا، ويتقن الفرنسية، ويذكر الكتاب أن محفوظًا قرأ أمهات الروايات الحديثة للعشرات من الكتاب الروس أمثال تولستوي ودستويفسكي، وقرأ للفرنسيين أمثال اميل زولا ومارسيل بروست، كما قرا للانجليز أمثال الايرلندي جيمس جويس، والامريكي ارنست همنجواي ( لم يحبب لهذا الأخير الا رواية واحدة هي الشيخ والبحر). هذا بصورة عامة أما بصورة خاصة فإن محفوظًا يكثّف قراءاته بعد فروغه من الكتابة اليومية. هذه الكتابة التي تتواصل في العادة مدة سبعة أشهر من العام، جراء اصابته بمرض السكري. التهيئة للكتابة بهذا تعتبر طقسًا هامًا ولا بدّ منه في ممارسة محفوظ للكتابة الروائية.

*منذ سنوات بعيدة، ومنذ البدايات الأولى، في الخامسة والعشرين من عمره، عندما قرّر محفوظ ان تكون الكتابة الروائية حرفته ومحور حياته، أدرك أنه لا بُدّ له مِن أن يقوم بتنظيم وقته، وتقسيمه بصورة صارمة، فوقت للوظيفة في وزارة الأوقاف، ووقت للمقهى، وهو أحد مصادر الاستلهام لدى محفوظ، إضافة الى وقت للراحة، يوم الخميس، وآخر للعائلة/ يوم الجمعة، وبقيّة الأيام ابتداءً من الساعة الخامسة مساء حتى الثامنة، للكتابة والإنتاج الكتابي، الروائي تحديدًا. هكذا يُلاحظ أن محفوظًا حريص على تقسيم وقته، من أجل إنجاز ما يريد انجاه من كتابات روائية. هذه الكتابة تتمّ بشكل يومي، مع التركيز الشديد على دينامية التطور الحتمي الداخلي لأحداث الرواية، أما كيف تتواصل الكتابة، فإن محفوظًا يقوم بمعايشة شخصيات روايته الذين عادة ما يتمّ استقاؤهم من الواقع، بيد أنهم يتحوّلون في الرواية إلى شخوص آخرين غير أولئك الذين سبق وعرفهم الكاتب كما يقول، إلى هذا هو يقوم بمعايشة أحداث الرواية، فتراه منقطعا خلال فترات طويلة نسبيًا، بهذه المعايشة، الامر الذي يُمكّنه من مواصلة الكتابة بيسر اقل.

*عندما يفرغ محفوظ من كتابة روايته، بعد أشهر أو سنوات، هو كتب الثلاثية خلال سنوات، في حين كتب الحرافيش في سنة، علمًا انه فكر فيها سنة تحضيرية، يقوم بتبييض الرواية مُعيدًا النظر فيها وفيما خرجت عليه، ويحتاج بعد ذلك إلى وقت كي يراجعها وكي يُعدها للنشر. كتابته للرواية بهذا تستغرق منه في العادة وقتًا ليس قصيرًا، وما يهمه أولًا وقبل كلّ شيء أن يكون راضيًا عما سجّله فيها من مواقف واحداث، يقودها ويكوّنها التخييل الفني الروائي، أكاد أقول التوالدي، وان يكون مناسبًا لكاتب يريد ان يقدم أفضل ما لديه لقارئ يتوقّع منه الكثير.

***

ناجي ظاهر

(لقد أقبلت عليها كما تُقبل البطة على الماء، ولم تنقطع قط دهشتي من أنني أصبحت كاتبا)... سومرست موم

لقيت الرواية الأولى للأديب والمسرحي البريطاني سومرست موم (ليزا فتاة لامبث)، نجاحا كبيرا دفعه للتخلي عن مهنة الطب والتفرغ للكتابة. فوجئ الناس بإزميل ينحت الطبيعة البشرية بدقة هائلة؛ ففي الرواية يقدم موم للقارئ شخصية فتاة مفعمة بالطموح والحياة، ورافضة لبيئة الحرمان التي كانت سمة أحياء لندن الفقيرة آنذاك. غير أن الرغبة في تعويض الإحساس بفقدان الأب ستدفع فاتنة الحي إلى التعلق برجل متزوج يكبرها سنا، لتنتهي الأحداث بوفاة ليزا، بينما الأم الجشعة تعدّ ببرود نقود التأمين.

تفرّغ سومرست موم للكتابة التي قال بأنه بدأها كأمر طبيعي مألوف لا انفكاك عنه، تماما كالبطة التي لا انفكاك لها عن الماء. وفي سيرته التي تُرجمت إلى العربية تحت عنوان (عصارة الأيام)، لم يكتف موم بسرد تجربته الحياتية والصعاب التي اعترضت مسيرته الأدبية، وإنما برع كذلك في عرض نقائصه ككاتب، وملاحظاته على أساليب الكتابة لدى أسلافه ومعاصريه على حد السواء.

إن الإنسان العادي هو الذي على الكاتب أن يعالجه، فهو يحكي ذاته ولا يجد سببا لاصطناع شخصية أخرى. لذا كانت ذخيرة موم دوما هي عامة الناس، أولئك المغمورون الذين يظهرون على حقيقتهم، ولا يخفون تصرفاتهم الشاذة لأنه لم يخطر لهم أنها كذلك. فالعادي إذن، يقول موم، هو ميدان الكاتب الأخصب؛ يُمدّه بمادة لا تنضب بسبب ما فيه من جدة وتفرد وتنوع لا حد له. 

لا يخفي موم احتجاجه على الكتابة المنمقة والمثقلة بالتطريز والعبارات المحشوة. ويلقي بالمسؤولية على المؤثرات الشرقية التي تضمنتها توراة الملك جيمس، والتي أساءت للسان الإنجليزي البسيط والصادق، حيث تنافس الكُتاب في تقليد أسلوب كلام الأنبياء العبرانيين. كل ذلك التكلف كان يُخفي برأيه شخصيات مرهقة، وأسلوبا يعاني من فقر الدم. وحين يُجري تشريحا لما خطه قلمه في حداثة سنه، يجزم بأنه مدين في نجاح أعماله إلى تلك القدرة الطبيعية على الوضوح والتأثير، من خلال الدقة المتناهية في استخدام المفردات. طبعا أغنى موم رأسماله الأصلي باكتساب عشرات النماذج التي برع في التمييز بين خصائصها في الكتابة، والنفاذ من خلال الكتابة إلى عمق شخصية الكاتب وطريقته في الملاحظة.

أُعجب سومرست موم بنثر الأديب الإنجليزي جون درايدن، وصرّح أن النثر لم يُكتب قبله بمثل تلك الروعة. ولكي يخرج من دائرة الانطباع إلى الدراسة الدقيقة، فقد لخص ببراعة سمات أسلوب درايدن لتحديد خصائص النقلة التي أحدثها في الكتابة آنذاك. يقول موم:

" لقد أينع درايدن في لحظة هانئة. وكانت تسري في عظامه الجمل الجهيرة، والصنعة الهائلة من لغة العصر اليعقوبي، ولكنه فضل النعومة الراقية المرهفة التي ورثها عن الفرنسيين. أحال اللغة إلى أداة لا تلائم التعبير عن الموضوعات الجدية فحسب، بل تستطيع أن تسجل الخواطر الخفية العابرة؛ وبذلك كان رائد فن الأسلوب الموشى (Rococo). وإذا ذكّرنا سويفت بقناة فرنسية، فإن درايدن أشبه بنهر إنجليزي يتلوى في طريقه حول التلال وبين القرى الوادعة، وهو مغرق في الصمت عندما ينبسط في مجراه، ومسرع في تدفقه حين توعر طريقه."

لتبدع كتابة جيدة ومتألقة، ينبغي لأسلوبك أن يرتكز على ثلاث دعامات، وهي بحسب موم، أسلم مستوى من الكتابة سمحت به نقائصه الطبيعية.

أول دعامة هي الوضوح، فلا يجوز للكاتب أن يغلف معانيه بالغموض، أو يضفي سحرا على العبارة يحول بينها وبين أن تكون واضحة لدى القارئ. إن الكلمة بنت الفهم الدقيق للطبيعة البشرية، ولا حجة لأنصار الغموض من الُكتاب، لأنه يتسلل إلى الكتابة إما تحت وطأة الفكرة المشوشة التي تتكون أثناء عملية الكتابة لا قبلها، وإما لهزالة الأفكار التي يحاول الكاتب إضفاء هالة عليها. وقد ينشأ كذلك بسبب النزعة الارستقراطية التي تحمل الكاتب على أن يُغلف معانيه بالغموض كي لا تستطيع العامة المشاركة فيها.

وأما الدعامة الثانية فهي البساطة التي تمتحن قدرة الكاتب على إخفاء الجهد الذي بذله أثناء الكتابة. ينبغي للعبارة الفخمة والمفعمة بالارتباطات الشعرية أن تكون ناتجة عن إلهام معين، بمعنى آخر، فإن الكلمة التي لها طغيانها بكل تأكيد، إنما وُجدت من أجل معناها، وإذا لم يُلق الكاتب بالا إلى المعاني فكأنه لم يكتب شيئا.

تتطلب البساطة جهدا قاسيا، وهي تحتاج إلى الذوق أكثر من القوة، وإلى الإلهام أكثر من العظمة. إن النثر الجيد، يقول موم، ينبغي أن يشبه حديث الناس ذوي التربية الحسنة.

والدعامة الأخيرة هي الجرس، أي الموسيقى الخاصة بالنثر والتي بدونها لا يكون الأداء كاملا، وهي تنفي عن البساطة احتمال الجفاف، وتفترض أن يكون مزاج الكاتب أرهف من مزاج قرائه، فيتفطن للرتابة التي يمكن أن تسببها إيقاعات معينة في كتاباته.

أصرّ موم على أن يكون كتابه خلاصة تجاربه في الكتابة بعيدا عن أية صيغ وعظية. ولك أن تتعجب من صراحته البسيطة وغير المتكلفة، وهو ينتقد مساره في عالم الكتابة، أشد مما قد يفعل أي ناقد به! فالرجل الذي طرق مبكرا أبواب الشهرة والمجد، يفصح للقارئ عن أخطائه وعيوبه، والنقائص التي شابت أسلوبه في الكتابة، كأنه يُفشي بأسراره لصديق مقرب ويتوقع منه الكتمان. ففي جمل قصيرة ومفعمة بالحيوية، يسطر موم اعترافات ليس لها مثيل في تجارب الكُتاب الآخرين وسيرهم، بابتسامة ساخرة، وإنكار للحدود الوهمية التي يختلقونها حرصا منهم على معبد الفن الجميل وسدنته.

ألم يكتب يوما مستنكرا: لا عذر لفنان يتعالى على الناس، وإنه لأحمق إن ظن أن ما لديه من معرفة أخطر مما لديهم؟!

***

حميد بن خيبش

كما قيل عمّن شابهه من الكتاب والادباء، خاصة من جانب الشهرة والانتشار، هو كاتب ملأ الدنيا وشغل الناس، واقام علاقات أدبية وطيدة مع أبناء الأجيال الشابة والكاتبات الطالعات من النساء، تمثّلت في العشرات والمئات وربّما الآلاف من المقالات التي حفلت بها العشرات من الصحف، في زمن الصحف، وفي المواقع الإلكترونية في الزمن الراهن. كتب الكثير.. الكثير، ومع هذا وذاك لم يُصدر في حياته كتابًا واحدًا مكتفيًا بما يسّرته له مقالاته من محبة وتقدير مَن كتب عنهم ومَن تفاعل معهم.

شاكر فريد حسن من مواليد بلدة مصمص في المثلث، عام 1960 وتوفي فيها قبل عامين، عام 2022، عن عمر ناهز الستين عامًا فقط، تعرّفت عليه بداية عندما كان في العاشرة من عمره، وكان ذلك عندما كنت في زيارة لأخيه غير الشقيق، الكاتب والشاعر المترجم الراحل نواف عبد حسن، وتمّت هذه المعرفة بعد ان رفع صوته طالبا رؤيتي، والالتقاء بي، فصدّه مضيفي/ اخوه، طالبًا منه أن يغور مِن وجهه، ومتوجّهًا لي بقوله هذا أخي الصغير.. إنه يريد أن يكون كاتبًا. كلهم يريدون أن يكونوا كتابًا وشعراء، يقصد جميع أولاد تلك الفتر، أوائل السبعينيات، عندها طلبت منه أن يهدأ قليلًا وان يشجّع أخاه، قائلًا له يبدو أن الديك الفصيح من البيضة بيصيح، وأعتقد أن اخاك يطلب منك ان تشجّعه.. فلا تحبطه. عندما خرجت مُغادرًا بيت مُضيفي، رأيت أخاه الصغير شاكر، فلوّحت له بيدي مشجعًا ومحبذًا. بعدها التقيت به في العشرين.. وبعدها في الثلاثين من عمره، اما لقاءاتي التالية به فقد تمّت حينًا عبر هذه المادة الأدبية التي ينشرها في هذه الصحيفة أو تلك المجلة. في السنوات العشرين الأخيرة نشط شاكر فريد حسن مُصعّدًا في نشاطه المتّقد منذ بداياته الأولى، فراح يكتب المقال تلو المقال، وذكر أصدقاء مقربون منه، انه كان يكتب في اليوم الواحد ثلاثة او أربعة مقالات، اما الصحف الورقية فقد رحّبت به، خاصة صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية، التي عمل مراسلا لها خلال فترة قصيرة من الزمن.

لم ينقطع شاكر فريد حسن عن الكتابة والنشر خلال ما يُعادل نصف عمره الأخير الا ليعاود هذا الفعل المحمود، وقد غطّت كتاباتُه قطاعات واسعة من الكتاب والكاتبات الطالعات، حتى انه بات بإمكانك أن تسأل عمّن لم يكتب عنه، بدلا من السؤال التقليدي وهو عمّن كتب، فقد كتب عن كلّ مَن أرسل إليه مجموعة شعرية او قصصية او حتى رواية. لم يُهمل أي هدية أدبية تلقاها واضعًا، كما ذكر في أحد مقالاته، نُصبَ عينيه أن يكتب عن كلّ كتاب تجشّم صاحبُه عناءَ إرسالهِ وإهدائه بالتالي إياه.

عليه، يُحسب له أنه قام بتشجيع العشرات، وربّما المئات عبر كتابته عنهم، والترويج لكتاباتهم، وقد لاقت كتاباتُه هذه الاستحسان لدى معظم مَن كتب عنهم، إذا لم يكن كلّهم، وتجلّى عرفان هؤلاء وشكرهم له، في عشرات ردود الفعل التي تلت رحيله المبكّر والمفاجئ للكثيرين، وبدا ضمن ردود الفعل هذه، التأثر والحزن الشديدان، لفقدانهم مُساندًا، داعما ومعاضدا من طراز مرغوب به ومُحبّب، بل إن عددًا مِن هؤلاء، قام بنعيه والتأريخ لحياته، وأعقب ذلك بما كتبه عنه من تقريظ وثناء.

غلبت على كتابات شاكر فريد حسن، عدة صفات منها: المقالة الصحفية المُحبّذة والمشجّعة، الكتابة المؤدلجة، والشكل غير الثابت للنوع الكتابي. فيما يتعلّق بالشكل غير الثابت، نقول إن كتابته تراوحت فيما بين المقالة القصيرة والطويلة بصورة نسبية، بل إنها لم تعدُ كونها تعليقًا مطولًا على مقالة تمّ نشرها في إحدى وسائل الاتصال الاجتماعي، ولعلّ هذا يقودنا إلى السرعة الشديدة في الكتابة، إذ يبدو منه أن صاحب تلك الكتابات كن يكتب بسرعة وكأنما هو في سباق مع الزمن، وللحقيقة لم تخلُ كتابات شاكر فريد حسن، بصورة عامو، من الأخطاء النحوية والصرفية التي كان بإمكان أيّ محرّر مسؤول تصويبها، وهو ما لم يفعله محررو المواقع الالكترونية، ربّما لأنهم كانوا يقرؤون المواد المقترحة للنشر بسرعة كبيرة، وربّما لأي سبب آخر يتعلّق بنظرتهم الى اللغة، او عدم معرفتهم، او سُرعتهم في النشر، شأنهم في ذلك شأن صاحب المادة المُرسلة، دون ان تتم مراجعتها جيدًا. أما فيما يتعلّق بالكتابة المؤدلجة فاننا نقول إن شاكر فريد حسن كان مُقرّبًا نَفسه إلى الفكر اليساري، لهذا رأيناه يستثني، عن قصدٍ أو غير قصد، معرفةٍ أو عدم معرفة، البعدَ الفنيّ لما يقوم بالكتابة عنه مِن نتاج أدبيّ، فهو يشير بهذا الصدد، إلى الكاتب وما يتّصف به مِن توجّه يساريّ أو وطنيّ، كما يشير إلى المضمون الكتابي، ولا يتطرّق إلى الجانب الفنّي إلا في القليل النادر، وهو ما جعلنا نقول أنه لم يكن يتطرّق إلى الجوانب الفنية فيما يقوم بالكتابة عنه. هل أثّر عاملُ السرعة في الكتابة والنشر في مثل هكذا توجّه؟ ربّما.. لكن لا اجزم. فيما يتعلّق بالمقالة الصحفية المُحبّذة والمشجّعةِ، المشجعةِ فقط، أعتقد أن كاتبّنا حذا بتوجّههِ هذا حذو الكُتّاب والباحثين الذين ظهروا في رُبع القرن الأخير، سواء في العالم العربي بصورة عامة، او في بلادنا بصورة خاصة، فقد دأب أولئك وهؤلاء، بصورة عامة، على الكتابة المُشجّعة والمُحبّذة، تلك الكتابة التي يُمكنُها أن تقبل رفع أسهم عطاء العمل المكتوب او المنقود، أو صاحبه للدقة، في حال رغبة مَن يكتب، وفي المقابل خفض هذه الأسهم إلى اسفل الدرجات في حال رغبة الكاتب، وبما أن مَن يكتبون في عالمنا العربي، وفي بلادنا خاصة، ومنهم كاتبنا شاكر فريد حسن، يريدون المُحافظة على العلاقات الشخصية فيما بينهم وبين مَن يكتبون عنهم، فقد رأينا هؤلاء يرفعون مِن أسهم أي عمل ادبي يقومون بالكتابة عنه، وأقول لمن لا يُقنعه هذا الكلام، راقب ما يُكتب ويقال، خاصة في امسياتنا الأدبية والثقافية عامة، وراقب مدى ما يرد فيها من مديح، ثناء وتقريظ مبالغ فيهما. شاكر فريد حسن بهذا، عرف ما هو المطلوب، فراح يُقدّمه للجميع على أطباق من ابتسامات وافراح.

ماذا يقول هذا، أعتقد أنه يقول، في أبسط ما يقوله، إننا نعيشُ فترةً خاصةً لها ملامحُها الغامضة وغير الواضحة، وإن وسائل الاتصال الاجتماعي، لعبت دورها في هذا الاتجاه، فاستبعدت الناقد، كما يرى  الاكاديمي البريطاني رونان ماكدونلد في كتابه عن" موت الناقد"، وقرّبت اللايك والكومنت، وبين ذاك وذا، أفسحت المجال لكلام المُجاملات فيما بين الناس، كتابًا ومكتوبًا عنهم، وقد تمّ هذا كله في متاهة التطور الكمّي الذي نعيشه هذه الفترة، الذي اكاد اجزم انه سيمضي في فترة قد تطول وقد تقصر، سيولّي، وسوف يُعيد إلى الانسان وابداعاته الحقيقية وزنَهما الجدير بهما، قد يحدث هذا برفقة الذكاء الاصطناعي وربّما بدونه، ليتحوّل ما نشهده مِن تحوّل كمي إلى تطوّر كيفيّ، بالضبط كما حدث في كلّ تطور حقيقي وجدير.

لقد انصرف الكُتّاب في الفترة المُضبّبة-من ضباب، الجارية عن النقد الادبي، بمعناه العلمي السابق، ذلك النقد الذي يُقيّم العمل المنقود مُضيئًا إياه مِنَ الداخل، على اعتبار أن الناقد هو قارئ القارئ كما يقول الدكتور المُفكّر المبدع زكي نجيب محمود، في إحدى مقدماته لمجلة الفكر المعاصر، التي كان يرأس تحريرها وكانت تصدر في السبعينيات. نعم لقد انصرف هؤلاء عن هذا المفهوم الراقي والعميق للكتابة عامة والنقد خاصة، ومضوا في الطريق السهل، طريق المديح والثناء الذي يرغب به الجميع ويحبّونه، بالضبط مثلما يرغب الناس عامة والكتّاب خاصة. توضيحا ودلالاة على ما أقوله، أوجّه السؤال التالي: كم مِن القراء يقبلون على قراءة المقالات المدائحية المتلفّعة بضباب العلمية والمنهجية، وكم منهم يُقبلون على قراءة المقالات الجادة؟.. في رأيي واعتقادي أن عددَ قراء مَن ذكرتهم أولًا يفوق، بما لا ُيحدّد أو يُقاس من ذكرتهم فيما بعد من أصحاب الكتابات الجادة.

بالعودة إلى كاتبنا المرحوم شاكر فريد حسن، أقول باختصار شديد، إنه أفاد ادبنا، في المدى القريب، وذلك بتشجيعه مَن يحتاج إلى التشجيع والاشادة، أما فيما يتعلّق بالمستقبل فلنترك الزمن يقول كلمته، وقد أوحيت بها في السطور السابقة، ويُمكننا حاليًا ونحن نستذكر كاتبًا كان له كبير الأثر في حياتنا الادبية والثقافية، أن نكتفي بالنظر إلى النصف المليء من الكوب.. أقصد التشجيع والتحبيذ.

***

ناجي ظاهر

نصوص صديقي الشاعر شوقي مسلماني شبكة هائلة من الرؤى والأفكار والإحالات تحيد بالقارئ عن حياده وتتشعّب لتشمل، إلى الشِعر، بوّابات معرفيّة تاريخيّة، سياسيّة، فلكيّة، فيزيائيّة.

وأنا كأكاديمي دارس للفيزياء في العراق وللأدب العام والأدب المقارن في المانيا أجد بإمتياز شعراً كثيراً في تنوّع إبداعه يثبت وحدة المعارف في النظريّة النسبيّة، الميكانيك الكمّي، نشوء الكون.. بالإضافة إلى معادلات آينشتاين وماكس بلانك وشرودنجر وهايزنبرج ورذرفورد ومَن جاء بعدهم ممّن تعمّدوا خيالاً أقرب ما يكون الى الخيال الشعري.

وهذا ما كان يحثّنا لنسأل أستاذ الميكانيك الكمّي في السنة الدراسية الثالثة والرابعة عن معنى مصطلح "دالّة الموجة" Wavefunction التي ترد في معادلات شرودنغر بصيغتها الرياضيّة في التفاضل والتكامل، وكان الأستاذ يؤكّد أن: "الأمر تقصر دونه الكلمات إذا تحتاج للخيال".

ونصوص الشاعر مسلماني هي من هذا العالم في إمتداده الكوني واللانهائيّ بعيداً من ضيق أفق الانسان إذا تحجّر.

***

د. كريم الأسدي

.....................

في ما يلي بعض ممّا قرأت من إبداعه في صحيفة المثقّف الأستراليّة، وبعض الصحف والمجلاّت العربيّة:1816 shoqi

1 ـ

الوقوف

على قدمين

يحتاج إلى رأس.

2 ـ

ترتيبُ حياة

صناعةٌ عمياء.

3 ـ

الكسوفُ والخسوفُ

أخيراً إلى مظاهر فِرجة.

4 ـ

الدرسُ لا ينتهي،

وكم سنحتاج للحظّ.

الحظُّ السيّىء ثلثاه الإهمال،

والمجنون يقول إنّه العاقل.

5 ـ

كلّما

ماتَ طفلٌ فينا

اتّسعتْ صحراء.

6 ـ

هذا الفضاء

فوضى إلى أقصى نقطة

تجعلني أجزم أنّي لو لي يد

لأقتربتُ على نحوٍ أرقّ، أشفّ.

*

ما حاجتنا

لأحزمةِ الصخور،

لأي حاجة تولد شموس،

تولد كواكب، أقمار،

وتموت نجومٌ اختناقاً أو إنفجاراً

ومعها عوالم لا عدّ ولا حصر لها،

جاهدتْ لتكون ذرّةً ذرّةً،

ولبلايين السنين،

كأنّ كلّ هذه العمارات الهائلة،

المضيئة، المظلمة، المبصرة، المغمِّضة،

الواقفة، القاعدة، الماسيّة، الذهبيّة،

الفضيّة، الحجريّة، المائيّة، الغازيّة،

لكي تغرق ممزّقةً في الثقبِ الأسود،

الذي عنده يتجمّد حتى الوقت.

*

وما سبقَ

هو أقلّ من رأس إبرة

في مجرّتنا ـ دربِ اللبّان

التي هي واحدة

من بين أكثر من 200 ألف مليون مجرّة،

ومجرّتُنا ذات المئتي بليون شمس

وترليون كوكب وقمر

وسُحب لا تنتهي من الصخور والحجران

هي مجرّد ربّما طفل يحبو

بالنسبة لأجسامِ زميلاتها ـ الديناصورات.

*

وبالمناسبة،

مشت الديناصورات على الأرض

قبل 65 مليون سنة،

كان بعضها بطول 10 طوابق.

*

ولكنّه الكون

الذي كلّه فوضى،

ولكنّها الفيزياء، الكيمياء، ما تشاء،

في جبروتِ وعظمةِ المادّةِ الساخرةِ الخالدة.

7 ـ

لا يعلمُ المعوجَّ فيهِ

من يجهل حقيقةَ ذاتِهِ.

8 ـ

هذا الإنفجار

خارج إرادةِ الناس

إنّه نتاجُ يأسِهم.

9 ـ

ميْت

في كلِّ غائب.

10 ـ

ذاهلة

حواسُّ الميْت.

11 ـ

السؤال

هو إذا المِحرقة

تعني أنْ يُحرق شعبٌ آخر؟.

12 ـ

دمٌ كثيرٌ يُسفك

تحت عينِ الشمسِ الغاضبة

من أجلِ حيّزِ ثلج.

13ـ

قال عالِمٌ جليلٌ

أنّه بإكتشافاته،

إنّما ليعرفَ

كيف يعمل عقلُ إلهه.

*

لم يعثر عليه في السماء

وأكّد لذاتِه أنّه موجودٌ في رأسه

ولكن في أيّة خليّة؟.

*

اخترع

خوذةً الكترونيّةً

وسمّاها "خوذة الله"،

لمعرفة الخليّة المعنيّة،

لمعرفة تركيبها الكيميائي

وآليّة عملِها الفيزيائي.

14 ـ

من يصرّ على خريطةٍ مثقوبة

سيضلّ أكثر إلى الثقبِ الأسود.

15 ـ

مِنْ

سُوءِ حظِّ المثاليّة

أنّ الفيزياء

ماديّة.

16 ـ

سترى

بعقلِك الصاحي

ما لا تراهُ بعينيك الآن.

ستضحك أو ستبكي.

الفراغُ كثير.

17 ـ

الأرضُ تدور

والمغزلُ يدور.

***

فوزي عبدالله.. وموعد سخيّ مع المطر

ابتدأت علاقتي بالشاعر فوزي جريس عبدالله (1988-1942)، ابن بلدة المغار الذي اقام جُلّ حياته في الناصرة، وكوّن فيها عائلة ما زالت تقيم فيها، بعد رحيله عن عالمنا، في السبعينيات الاولى وتواصلت حتى ايامه الاخيرة في الحياة. ابتدأت هذه العلاقة بعد ان اصدر مجموعته الشعرية الاولى "موعد مع المطر"، وقد اثارني ما كتبه عنها صديقه في حينها الشاعر توفيق زياد، وما كتبه عنها ايضًا الصديق الكاتب اسبير عبود، فقررت ان اتعرّف عليه، واذكر انني قمت يومها بكتابة مقالة قصيرة عنه نشرتها صحيفة "القدس"، الامر الذي اثاره وكان أن جمعتنا جلسة في مقهى ابو ماهر القريب من عين العذراء، تعرّف فيها كلٌ منا على الآخر لتبدأ صداقة تدوم حتى رحيله قبل سبعة وثلاثين عاما.

كتب فوزي عبدالله واصدر خلال حياته القصيرة نسبيًا العديد من المجموعات الشعرية والدراسات الادبية، كما اسس مجلة "المواكب" التي انتقلت ادارة تحريرها بعد رحيله المبكر إلى الشاعر الصديق جمال قعوار، كما بادر لإقامة العديد من المؤتمرات وشارك في الحياة السياسية وكان رجلًا ثائرًا، اطلق عليه اصدقاؤه صفة البلدوزر لما اتصف به من نشاط فائق وسرعة حركة. وقد اتصف ما كتبه فوزي من اشعار بالحماسية متتبعا خطى شعراء الحماسة العربية ومقتفيًا آثاراهم ولم يكتب، فيما اعلم شعرًا نثريًا او قصيدة النثر، واذا فعل فإنما قام بهذا ضمن حيّز محدود جدًا، ذلك انه كان مطلعًا على التراث العربي القديم ومتشبعًا بقيمه وجمالياته المعروفة. مؤلفات فوزي هي: "موعد مع المطر" - الناصرة 1966، و"الطيور المهاجرة" - الناصرة 1973، و"الفارس يترجّل" - الناصرة 1974، و"شدوا الخطى" - الناصرة 1974، و"قصائد عن الخروج والعودة" - الناصرة 1987، و"قراءة في سفر التكوين"- الناصرة 1988، وله قصائد نشرتها الصحف والمجلات في فترته، خاصة مجلة "المواكب".

اما في الدراسة الادبية فقد كانت له اجتهادات ملموسة ويُذكر انه الف كتابًا عن الرومانسية في الشعر العربي، كما كتب سلسلة هامة جدًا من المقالات النقدية، حاول فيها ان يؤسس لحركة نقدية منهجية، وقد نشر بعضًا منها في صحيفة "الصنارة"، علمًا انه كان احد المساهمين في شركة اصدارها، اما مجلة "المواكب" الدورية التي كانت تصدر كل شهرين مرة، فاذكر انه اختار اسمها من عنوان قصيدة جبران خليل جبران التي حملت نفس الاسم وغنت ابياتًا منها السيدة فيروز. وكان فوزي حريصًا كل الحرص على ان تُشدّد مجلته هذه على نشر الابداعات المحلية، خلافًا لمجلة "الجديد" الثقافية الشهرية التي كانت تنشر الادب المحلي والعربي وحتى المترجم من لغات اخرى، وقد اعتمد في تحديده هذا للمواكب على منطق اننا يفترض ان نخدم حركتنا الادبية اولًا وان نقدم افضل نماذجها إلى القراء العرب في كل مكان ثانيًا. اما مبادراته في اقامة المؤتمرات الثقافية فقد تنوعت وتعددت واعتقد انها تركت آثارًا لا يمكن تجاهلها في حياتنا الثقافية، ومما اذكره له بكثير من المحبة انه اتاح لي المشاركة الفعالة في مؤتمرين احدهما عن الاغنية العربية والآخر عن الشعر العربي.

بالعودة الى مجلة المواكب ومؤسسها فوزي جريس عبدالله ، اذكر قصة تستحق ان تروى. كان ذلك في اواسط الثمانيات، وكنت حتى تلك الفترة قد عملت بصورة متقطعة على امل ان اتفرغ للكتابة والابداع جريًا على طريقة الكاتب العربي المصري عباس محمود العقاد، الذي عاش متفرغًا للكتابة، اذكر حينها ان نقاشًا دار بيننا، فوزي وانا، يمكنني ان الخصه على النحو التالي:

قال لي فوزي: اعتقد ان الوقت حان لأن تعمل.. لا يوجد كُتاب متفرغون في عالمنا العربي.. حتى نجيب محفوظ عمل في وظيفة.. دع الكتابةَ هواية تمارسها في الليالي. واجعل النُهر للعمل والعيش. الآن قد تجد من يشغلك.. غدًا عندما تكبر لن يشغلك احد.. الحق حالك.. اسمع مني.

اعترف ان ما قاله لي فوزي اثر في قليلًا، فسألته واين اعمل. يومها اقترح علي ان اعمل في صحيفة يمون عليها، إلا انني رفضت بادعاءات اثبتت الايام هشاشتها، عندها اقترح عليّ ان اعمل إلى جانبه في مجلته " المواكب"، فوافقت وابتدأت العمل معه والى جانبه في مكاتب المجلة التي كانت تقوم في بيت مستأجر يقع في منطقة حي الميدان في الناصرة. وقد عملت معه حتى ايامه الاخيرة، واذكر انني عندما دخلت عليه لأودعه، اسوة بآخرين من اصدقائه ومحبيه، في بيته القائم في حارة الزهر، سألني وسط ابتسامة غامضة عمًا اذا جئت اودعه. فنزلت من عيني دمعة حارة. فما كان منه الا ان ربّت على كتفي قائلًا هذه هي الحياة نولد ونموت. لا تحزن يا صديقي.

رحم الله فوزي فقد كان محدثًا لبقا طليّ المنطق، يميل الى رواية النكتة، ويحسن التعامل مع الاخصام كما مع الاصدقاء، كما كان خطيبًا مفوها يحسن الخطابة في المجالس الخاصة والعامة، وقد رافقته في العديد من الجولات لجمع الاشتراكات لمجلة المواكب، وشهدت عن قرب كيف كان يقنع الحاضرين بأهمية ان نكون معًا وان نؤسس لثقافة حقيقية تبتعد عن ثقافة القطيع وتحترم المبدع الحقيقي، ومما اذكره في هذا السياق، صرخته الخطابية المدوّية في مبنى سينما ديانا في الناصرة، احتجاجًا على اخراج السلطات الحاكمة الحركة التقدمية عن القانون وهي: تعريّ ايتها الديموقراطية الاسرائيلية لنرى بشاعتك المغطاة بأوراق التين.

جمال قعوار.. وغبار السفر

كان الشاعر جمال قعوار (19 كانون الاول 1930 - 24 حزيران 2013)، واحدًا من اقرب المقرّبين إلى فوزي جريس عبدالله، لهذا ما ان رحل فوزي عن عالمنا وهو في اوج شبابه وعطائه، حتى كان من الطبيعي ان يتولى جمال امر تحرير المجلة وكل ما يتعلق بها من ادارة، وذلك من اجل الاستمرار ومواصلة المشوار الصعب. وكان اول ما فعله جمال هو انه نقل مكاتب المجلة إلى محالٍّ تقوم في بيته القائم في حي الامريكان، كما كان من الطبيعي ان تنتقل هيئة التحرير للعمل معه وإلى جانبه، وقد كنت اتردد على مكتب "المواكب"، في اصدارها التواصلي الثاني في بيت جمال، بصورة عامة، كل اسبوع مرة فكان يستقبلني بابتسامة لم تفارق محيّاه حتى ايامه الاخيرة في الحياة. مرفقًا اياها بحفنة من الاخبار اليومية وفنجانًا مليئا بالقهوة العربية الاصيلة. وكان يعجبني في جمال تواضعه العلمي الآسر، ومما اذكره عنه انه كان كلّما استمع إلى كلمة استعصى عليه فهمها، يتوجه الى رفيقه الدائم القاموس المنجد ليبحث عن الكلمة حتى يعثر على معناها الدقيق، كما حدث مع كلمة "العلوج"، التي وصف بها وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف، ابان الحرب الثلاثينية على بلاده العراق الاجانب بهذه الصفة. وهنا اود ان اوضح معلومة خاطئة منتشرة عن اطروحة الدكتوراه التي اعدها جمال وحصل لقاءها على الاجازة، فقد اعتقد الكثيرون انها في اعراب القران، بمعنى ان جمالا اعرب القرآن الا ان الأطروحة دارت حول ما بحثته الدراسات التي اعدها اصحابها عن اعراب القران الكريم.. وشتان ما بين فهم هذا البعض وبين الواقع.

كتب جمال في جُلّ ما اصدره في حياته، القصيدة العربية التقليدية، ويذكر كاتب هذه السطور انه تعلّم خلال دراسته الابتدائية قصيدته "جنى الحصاد" لجمال، تلك القصيدة التي كانت مدرجة ضمن المنهاج التعليمي، في كتاب "سنابل من حقول الادب"، كما كتب جمال القصة والرواية، والقصة للأطفال لا سيما مع زميله الكاتب الصديق محمود عباسي اطال الله في عمره ، اضافة الى الاناشيد المدرسية بالاشتراك مع صديقه الشاعر المرحوم جورج نجيب خليل، ويُذكر له وهو ما عرفته عن قرب، أنه كتب المئات من الابيات الشعرية التي زين بها اهالٍ من الناصرة مكاتيب دعوات لأعراس ابنائهم واحبائهم، بالضبط كما كاتب المئات من الابيات الشعرية التي نقشها اهالٍ على اضرحة ابنائهم واعزائهم الراحلين. وقد كتبت مقالًا ضافيًا عن كتابة جمال قعوار وأصدقائه للأطفال، نشرته في غير هذا المكان.

اصدر جمال في الشعر عددًا وفيرًا من المجموعات، وكان اولها "سلمى" واغنيات من الجليل" صدرت الاولى عام 1956 والثانية عام 1958، وكان آخرها " في مواسم الضياع" صدرت عام 2002، وجمع جمال مختارات منتقاة من اشعاره في كتاب ضخم اطلق عليه عنوانًا وداعيًا هو " قصائد من مشيرة العشق"، صدر عام 2000.

عام 1973 وقع حادثٌ عنصري ضد جمال قعوار فدفعه للخروج عن طوره، وقد تمثل هذا الحادث في توجيه طالبة جامعية له صفة " عرفي ملوخلاج- عربي قذر"، فما كان منه إلا أن توجه إلى اوراقه واقلامه يبثها لواعج المه وحزنه، ولم تنته تلك الليلة إلا بعد ان فرغ من كتابة مجموعته الشعرية النثرية الوحيدة وهي "غبار السفر"، ومما يذكر عن هذه المجموعة أن صاحبها كتبها نثرًا إلا انها لم تختلف كثيرًا عمّا كتبه من شعر عربي وفق البحور العربية الخليلية المعروفة.

لقد اجريت اكثر من مقابلة مع جمال، والطريف انني كنت اوجه إليه الاسئلة مكتوبة وكان يفاجئني، بعد ساعات بإجابات مفعّلة – من تفعيلة، تنتهج اسلوب شعر التفعيلة، كان جمال من اكثر من عرفتهم من اصدقاء، معرفة باللغة والبحور الشعرية، وكان في المقابل انسانًا متواضعًا لا يدعي ولا يتكبر.

ومما اذكره عنه في هذه المناسبة، انه خصص العديد من اعداد مجلة "المواكب"، خلال تحريره لها، لتكريم كتاب وشعراء من بلادنا، وكان لكاتب هذه السطور أحد هذه الاعداد التكريمية ونشر فيه جمال عددًا من الدراسات عنه، اضافة إلى عدد من كتاباته القصصية، وعندما اقترحت هيئة تحرير المجلة تكريم جمال وقع اختياره على كاتب هذه السطور ليقوم بإعداد العدد وتحريره. وهناك طرفة لافتة وقعت خلال اعدادي هذا العدد من مجلة "المواكب"، تقول تفاصيلها اني توجهت اكثر من مرة إلي صديق عمر جمال قعوار وصديقي ايضًا الكاتب الشاعر المرحوم طه محمد علي ليكتب كلمة عن جمال، وعندما كاد وقت اصدار العدد يأزف دون ان يلبي طه طلبنا، توجهت اليه في بيته القائم في حي بئر الامير، ليُملي عليّ ما اراد كتابته.. وهكذا كان، وقد اعترف طه في كلمته هذه انه كان يستفز جمالًا في نقاشاته معه الخاصة باللغة العربية ليتعلم منه.

***

ناجي ظاهر

هناك مشاهد عابرة تمضي أمام أعيننا كما تمضي الغيوم في السماء، لكن بعضها يتوقف في القلب كأنه وُجد ليقيم فيه. مشاهد لا تقاس بضخامتها، بل بقدرتها على أن تهزّ في أعماقنا أوتارًا خفية، فتوقظ أسئلة قديمة عن الإنسان، وعن ذلك الخيط السري الذي يربطه بأرضه وسمائه، وباليد الخفية التي تصوغ ملامحه حين تتبدل البيئات وتتغير الظروف. من ومضة كهذه، تبدأ الحكاية…

ثمة لحظات في العمر لا تأتي صاخبة. بل تتسلل على أطراف أصابعها. توقظ في القلب أسئلة بحجم الكون. لحظات صغيرة، لكنها كالنقطة على سطح ماء راكد، ما تلبث أن ترسم دوائر متسعة في بحر الفكر.

قبل أيام، كنت أعود من سوق في أستراليا. الشمس تزين الأفق بخاتم من نور. وفجأة، وقع بصري على شاب عربي الملامح، يبتعد عن سيارته بخطوات محسوبة نحو صندوق قمامة بعيد. كان يحمل أكياسًا صغيرة، كأنها أمانة يريد ردّها إلى مكانها الصحيح. مشهد بسيط. لكنه اخترقني كشعاع من نور. أكان سيفعل هذا لو كان في بلده الأم؟

عندها همس في ذاكرتي صوت علي الوردي: "لو غيّرنا ظروف الناس لتغيرت أخلاقهم". رأيت الإنسان كشجرة. لا يحدد طيب ثمرها سوى التربة التي تغرس فيها. ذلك الشاب لم يبدّل قلبه بين ليلة وضحاها. لكن الأرض التي وطأها غيّرت ماء جذوره. في موطنه القديم، ربما ضاقت مساحات النظام. وجفّت ينابيع المرافق. وخفت صوت الثقافة التي تحرس الجمال. فكانت الأفعال على صورة المكان.

أما هنا، حيث القانون كالنهر الجاري. والمرافق كالغصون الممدودة. والنظام كهواء نقي يملأ الرئتين. صار الفعل النبيل امتدادًا طبيعيًا للمشهد العام. وأدركت أن الإنسان مرآة محيطه. وأنه، كما يقول باندورا، يتعلّم كيف يكون من خلال العيون التي تحدق فيه، والأيدي التي تحاكيه. حتى يصبح ما يراه جزءًا مما هو عليه.

ثم اتسعت الرؤية. رأيت الأمر يتجاوز الفرد إلى الجماعات. ورأيت أستراليا أشبه بحديقة عظيمة. غرست فيها شتلات من أمم متباعدة. بعضها جاء يحمل بين أوراقه غبار خصومات الماضي. لكنها هنا أورقت بسلام واحد. وشربت من ماء مشترك. حتى بدا كأن جذورها جميعًا تنبع من نبع واحد.

 سألت نفسي: ما الذي جعل العداء يتحلل هنا، ويظل متحجرًا هناك؟ أجابتني الأرض: لأنني هنا ظللتهم بعدل القانون. وأطعمتهم من ثقافة تحتفي بالاختلاف كأنه لون في لوحة. لا شق في جدار. وحين يكون القانون مظلة واحدة. والتنوع طيف نور واحد. تزهر القلوب بما تعجز عن إنباته أرض الصراع.

 ثم تذكرت… هذه المعجزة ليست وقفًا على أرض بعينها. بل هي بذرة يمكن أن تزرع في أي تربة، إن نُزعت منها شوك الطائفية، وسُقيت بماء المساواة. العراق، على سبيل المثال، يمكنه أن يزهر إذا صار القانون سيد الجميع، والهوية الجامعة سقفًا يأوي تحته الجميع بلا تمييز.

لكن الأمر يحتاج إلى يقظة المثقفين. إلى جرأة الإعلام. إلى منابر الفكر. عيون ترصد ليل الخطاب المسموم. رياح تنثر غبار التعصب. وينابيع تُسقي القلوب من ماء الوطن الواحد. حتى يعود الناس يشعرون أن الوطن ليس رقعة على خريطة، بل روحًا تسكن أرواحهم.

 وطافت بخاطري حكاية أستاذ أسترالي: منذ خمسين عامًا، حين فرضت الحكومة ارتداء حزام الأمان، استقبل الناس القرار كحجر في مجرى حياتهم. حاولوا دفعه جانبًا. لكن الزمن صقله حتى صار جزءًا من طبيعة الطريق. وتكرر المشهد في زمن كورونا، حين أقامت القوانين جدران الحظر. ارتفعت الأصوات بالرفض. ثم ما لبث أن صار الالتزام بالخروج للضرورة عادةً يسكنها الرضا. بعد أن اكتشف الناس أن الأمن نعمة تليق بالتضحية.

وهنا أشرق في ذهني صوت وليام جيمس: "ما نكرره بأيدينا، ينقش نفسه في أرواحنا، حتى يغدو عادة لا تحتاج إلى أمر ولا نهي". فهمت أن القوانين شرارة البداية. لكن القناعة هي النار التي تبقى متقدة في القلب. وما يُصنع اليوم بسطوة النظام، قد يصبح غدًا طبعًا يسري في الدم. كما يسري الدفء في عروق شجرة تحت شمس الشتاء.

***

حميد علي القحطاني

ليحيى السماوي

مدخل: جرح الغياب ونزف الفقد المتواصل

يفتتح ديوان "شاهدة قبر من رخام الكلمات" على وقع صرخة وجدانية عميقة، جرح طال أمده يزيد على خمسة وعشرين عاما من الغربة القسرية التي اقتلعت الشاعر من جذوره. يعود السماوي بعد طول غياب إلى عراق تاهت فيه بقايا الأمان، ليجد أمه قد رحلت عن عالم الأحياء، تاركة وراءها فراغا لا يشغله سوى مرارة الذاكرة. يقول في الإهداء: " إلى روح الطيبة أمي وقد غفت إغفاءتها الأخيرة قبل أن أقول لها تصبحين على جنة " ص٥

هذا الفقد الذي لم يُسوَ، لم يتحول إلى ذكريات تلين القلب، بل بقي حجرا ثقيلا يحفر في النفس نزفا، يتردد صداه في أرجاء الديوان ككل. عين الشاعر لا تغلق على ألمها، بل تظل مشرعة على وطن مسلوب وأم حنونة غابت بلا وداع.

جدلية الأم والوطن: عباءة الحزن وانكسار الوطن

تتحول الأم في عمق النصوص إلى رمز وطنٍ مكسورة صورته، وطن لم يجد حاضنه الآمن، تماما كما فقد الشاعر حاضنته الأولى:

" كيف أغفو؟

سواد الليل يذكّرني بعباءتها السوداء

وبياض النهار يذكّرني بالكفن ..

يا للحياة من تابوتٍ مفتوح!

أشعر أحيانا أن الحيَّ

ميتٌ يتنفّس

والميتَ حيٌّ

لا يتنفس " ص١١

"عباءتها السوداء ليست مجرد رمز حداد، بل علم يتهادى فوق خرائب الوطن، يوشح وجوهنا بالألم والخذلان.">> العباءة التي هي الستر والدفء، تصبح رمزية لقهر الوطن واحتضانه الجريح. هنا تتداخل جراح الأم والفقد الشخصي مع جراح الوطن السياسي، في مفارقة لاذعة بين الغياب والحضور، الموت والاغتيال الرمزي للذاكرة الجمعية.

الذات المهشمة: بين طفولة لا تكبر وشباب متعب

يقدم السماوي في نصوصه ذاتا ممزقة تمشي على حافة زمنين متقاطعين:

" قبل فراقها

كنت حيًّا محكومًا بالموت ..

بعد فراقها

صرتُ ميتًا

محكومًا بالحياة " ص٨

هذا التشبيه يصور الطفولة والكبر في تداخل، يمثل طباقا مركبا بين البراءة المثقلة والنضج المتعب، يعكس الصراع النفسي العميق لدى الشاعر الذي لم يستطع التخلص من وطأة الحزن المتواصل فيصرخ  مستغيثًا :

" أغيثوني

أريد أوراقًا من ماء

لأكتبَ كلماتٍ

من جمر " ص ٢٣

لغة الصور والتجربة الحسية: استعارات مشبعة بالوجد

لا تنفصل صور السماوي البلاغية عن الواقع الحسي، بل تنبع من وجدان متألم ينبض بالحياة والحنين، كما في قوله:

"دفء أمومتها وليس حطب موقدنا الطيني:

 أذاب جليد الوحشة في شتاءات

عمري " ص٢٤

هنا تتحول الأم إلى طاقة حية، تعادل الحطب في أهميته للدفء والحياة، لكنها تفوقه في إنقاذ الذات من جليد الوحدة والوحشة التي تكمن في الشتاء الروحي؛ استعارة تنضح بحضور عاطفي أمومي لا يعوض.

التكرار كطقس إيقاعي: ترانيم الحزن والتذكار

يركز الشاعر على تكرار كلمات مفتاحية مثل (الأم، الوطن، القبر) ليخلق جرسا موسيقيا في النصوص:

"الأم... الطيبة... الوطن... القبر... الأم... الطيبة... الوطن... القبر..."

التكرار لا يعيد فقط المعنى، بل يشكل إيقاعا يستحضر الوجدان، كأنه أهازيج تأبينية ترفع راية الحزن والحنين في آن واحد.

التناص الروحي والثقافي: الأثر الديني والذاكرة الشعبية

ينسج السماوي تناصا ذا أبعاد روحية ودينية في نصوصه:

" لم تكن أنانيةً يومًا

فلماذا ذهبت إلى الجنة وحدها

وتركتني

في جحيم الحياة ؟" ص٢٢

تأتي مفردات قرآنية بعذوبة إنسانية بعيدة عن الخطابة، مما يضع النص في تواصل مع ذاكرة إيمانية تعمق تجربة الحزن لتتصل بالكون والوجود. كما تتسلل رموز الثقافة الشعبية العراقية مثل التنور وخبز العباس والنواعير، فتمنح النص بعدا لذاكرة شعبية تحيل الخاص إلى عام، والوجدان إلى ذاكرة جماعية:

" آخر أمانيها:

أن أكون

مَن يُغمض أجفانَ قبرها ..

*

آخر أمنياتي:

أنْ تُغمِض بيديها أجفاني ..

كلانا فشل

في تحقيق أمنية

متواضعة " ص١٣

تقنية الحذف والفراغات التأويلية: لغة الصمت المتحدث

يستخدم السماوي تقنية الحذف الموجعة حين يترك جملا معلقة:

" لست سكرانًا ..

فلماذا نظرتم إليَّ بازدراء

حين سقطتُ على الرصيف؟

من منكم

لا ينزلق متدحرجًا

حين تتعثر قدماه بورقة

أو بقطرة ماء

إذا كان يحمل الوطن على ظهره

وعلى رأسه

تابوت أمه ؟" ص١٦

يتوقف عمدا، محولا الفراغ إلى مساحة مفتوحة أمام القارئ، ليصبح الصمت لغة أبلغ من الكلام، يعكس عمق الحزن وتعقيدات التواصل مع الغياب:

" وحده فأس الموت

يقتلع الأشجار من جذورها

بضربة واحدة " ص ٧

نبرة التهكم والسخرية المرة: الظل على الحزن

في مزيج مؤلم بين الحزن والهزل، يقول الشاعر:

"حين مات أبي ترك لي فاتورة كهرباء ..

حين مات ولدي

ترك لي بدلة العيد الذي

لم يعشه ..

أمي؟

تركت لي عباءتها ..

سأتخذ منها سجّادة للصلاة ..

أما أنا

فسأترك لأطفالي

قائمة طويلة

بأمنياتي التي

لم تتحقق ..

منها مثلا:

أن يكون لي وطن آمن

وقبر " ص٢٤

 فتركت لي عباءتها."

تعكس العبارة قسوة الحياة والموت، وحالة الشاعر بين فقد الأحبة وعبء الحياة، فتمنح النص بعدا إنسانيا يمكن أن يلامس أي قارئ.

الخلاصة: نحت رخام الذاكرة وشهادة الوجدان

يرسم يحيى السماوي في هذا الديوان لوحة شعرية مأساوية تنحت من رخام الكلمات قبرا لا يموت، محافظا على ذاكرة شخصية ووطنية تغلغلت في الأعماق. يربط العمل الشعري ما بين فقد الأم كجذر روحي، والوطن كغربة مؤلمة، والذات الممزقة بين زمني الحنين والاغتراب.

 لغة الديوان شاعرية، غير متكلفة، تتدفق مع نبض التجربة الصادقة، بلغة استعارات وكنايات تعكس أعمق طبقات الحزن والحنين.

يصلح هذا النص لأن يقرأ كتأبين للأمهات جميعا، ومرآة لوجع المنفى العربي، وشهادة أدبية على أن الرخام الحقيقي ليس ما يوضع على القبور، بل ما ينحت من الكلمات في قلوب القراء.

***

بقلم الأستاذة: ليلى بوشمامة / المغرب

احببت القصص الشعبية والحكايات منذ بداية تفتح مداركي الاولى، وكان ذلك بعد ان اقام الاهل في بيت مستأجر، قام في الحي الشرقي من مدينة الناصرة، وكان من حسن حظي او من محاسن الصدف، ان يقوم هذا البيت قريبًا من بيت مدير البوسطة/ دائرة البريد في المدينة ابي توفيق، فهد الملا، ومن غرفة شقيقته كفيفة البصر مبصرة القلب السيدة قادرية، وكنا نناديها تحببًا وتدللًا جريًا على ما فعل محيطون بها " آدو". هذه السيدة كانت تأتي الينا في ليالي الشتاء الطويلة وتشرع في رواية حكاياتها الرائعة، لاستمع اليها انا الطفل الصغير بانبهار فاق انبهار جميع ابناء عائلتي، حتى انه تغلغل في لحمي وعظامي وبات فيهما. حكايات هذه السيدة ايقظت في داخل مارد الطموح، فشرعت بالتفكير في رواية الحكايات مثلما كانت تفعل، وقد بالغت في تفكيري هذا حتى انني بت اتمنّى لو ان الله يمكنني من تحريك فمي كما تحرك هي فمها مرسلة الابتسامة تلو الاخرى، كلما شعرت انها قدمت لنا الحركة المشوقة المثيرة في هذه القصة او تلك، واذكر انني كنت آنذاك اقلد السيدة " آدو"، فاجمع ابناء الحارة ممن هم اصغر مني في العادة او من مجايلي. اروي لهم حكاية السيدة المحترمة تلك واطلب منهم ان يقوم كل منهم بأداء ما اقترحه عليه او ما يختاره من ادوار ابطال ما ارويه من قصص. هذا الحب للقصص والحكايات كبر معي يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة، وواضح انه فتح ابواب الامل والطموح امامي فمضيت سائرًا فيها متنقلًا من فترة إلى اخرى ومن مرحلة الى سواها، فمن كتب المبدع العظيم كامل كيلاني للأطفال إلى كتب الف ليلة وليلة (الكتاب الاهم في حياتي)، ومن مؤلفات عباس محمود العقاد الى كتب طه حسين، وها انذا اموت حبًا في مؤلفات ابراهيم عبد القادر المازني ومصطفى صادق الرافعي، بل ها هي تأتي فترة اكتشف فيها الروايات الاجنبية المترجمة إلى اللغة العربية ضمن سلسلة "كتاب الجيب" و"روايات عالمية" اللتين كانتا تصدران ابان تلك الفترة في القطر العربي المصري. ابتدأت الكتابة وانا على مقاعد الدراسة الاولى، وكان من حسن حظي ان يعلمني اثنان من محبي اللغة العربية ومن ذوي العلاقة بمجلة "اليوم لأولادنا" التي كانت تصدر في تلك الفترة. هذان المعلمان اعجبا ببعضٍ من كتاباتي فقاما بنشرها في تلك المجلة. في اواسط الستينيات ابتدأت الكتابة متلمسًا طريقي، وكان ان ارسلت احدى قصصي الى برنامج ادبي اذاعي كان يحرره في حينها الكاتب عرفان ابو حمد، ويساعده فيه الشاعر جمال قعوار، فقام بنشرها، ولم يكتف بهذا وانما ارسل الي مكافاة مالية افرحت قلبي وشددت من عزيمتي في المضي في الطريق ذاته. بعدها نشرت لي صحف مثل "اليوم" وبعدها "الانباء" فـ "المرصاد" شيئا من كتاباتي. عام 68 تجرأت وارسلت قصة كتبتها عن امي ومدينتي الناصرة وعن مدى محبتي لهما. وضعت لها عنوان "الكلمة الاخيرة" وارسلتها الى اهم مجلة ادبية كانت تصدر في تلك الفترة وهي مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية، وقد فوجئت في نهاية الشهر بقصتي منشورة في المجلة، فشعرت انني تحولت من قارئ لتلك المجلة الى كاتب فيها، كما شعرت انني اصبحت كاتبًا وانني وضعت خطوتي الحقيقية الاولى على طريق الادب الطويل، وهو ما دفعني لزيارة مكاتب المجلة الكائنة في وادي النسناس القائم في مدينة حيفا، للتعرف على محرر المجلة الشاعر سميح القاسم الذي سيفتح لي الابواب كلها وسوف يصبح من اعز الاصدقاء، حتى ايامه الاخيرة في الحياة.

هذا عن شخصيتي في تلكم الايام، اما عن الشخصيات الاخرى التي التقيت بأصحابها وربطتني بهم علاقة مودة ومحبة، حتى ايامهم الاخيرة في الحياة، خاصة من ابناء الجيل الماضي، فإنني اواصل الكتابة فيما يلي عن شخصيات وذكريات.

طه محمد علي.. القصة وقصيدة النثر

كنت تعرفت على اسمه من خلال نتفٍ له او عنه نشرت في صحيفة "اليوم"، وكان اسمه بالنسبة لي واحدًا من الاسماء الادبية البارزة في مدينتي، وكان طه محمد علي (1931- 2011)

في حينها قد نشر، في مجلة "لقاء" العربية العبرية قصته "قناني فارغة"، فاخذ مكانه اللائق به بين كتاب القصة القصيرة في بلادنا، اضاف الى أهميته هذه انه التقى بالكاتب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين زيارته مدينتي الناصرة في اواخر السبعينيات، وان وسائل الاعلام آنذاك اشارت الى ذلك اللقاء. بعد تردد طويل قمت بزيارة طه، وفوجئت باستقباله الباسم لي، اذ كنت متوقعًا ان يستهين بي على اعتبار انه كان رجلًا مكتمل الرجولة وكاتبًا معروفًا وانا ما زلت اضع خطواتي الاول على مدارج الحياة والابداع الادبي. ترحيب طه، تواضعه وابتسامته الذكية الدائمة، كل هذا شجعني على زيارتي له والتردد عليه كلما سنحت الفرصة. علاقتي اليومية به تواصلت حوالي العشرين عاما. وقد التقيت في دكانه الصغير المتواضع بمعظم كتاب وادباء بلادنا خاصة الناصرة. من معرفتي المديدة هذه بطه اسجل ما يلي. فقد كانت بدايته مع القصة، وكان متأثرًا بما قراءه من قصص للكاتب الفرنسي ذائع الصيت جي دي موباسان، واذكر انه كان معجبًا جدًا بقصة "العُقد" التي تحدثت عن مفارقات الحياة، وتفكير كل انسان بما يخصه متناسيًا احيانًا انه ليس واقعيًا وانه ربما يكون في واد ومن يظنه خصمًا في واد اخر. واذكر في هذا السياق انه اشار إلى هذا الكاتب قائلًا انه تأثر به كثيرًا. من الادباء والشعراء الذين كانوا يترددون على دكان طه لبيع الاثريات والتذكاريات اشير بقوة الى الشاعرين جمال قعوار وقريبه ميشيل حداد، وكان طه كما قال لي اكثر من مرة يحاول الاستفادة من معارف جمال قعوار الادبية واللغوية، اما علاقته بميشيل حداد فقد قامت في البداية على محبة مشتركة منهما للقصيدة النثرية لدى كتابها خاصة محمد الماغوط، صاحب المجموعة الشعرية المشهورة في تلك الايام "غرفة بملايين الجدران"، لقد اخذ طه بيد ميشيل حداد، حتى انه كتب له مقدمة مجموعته الشعرية الاولى "الدرج المؤدي الى اغوارنا"، وامتدح فيها هذا الضرب من الشعر معتبرًا اياه اغناءً واضافة حقيقية إلى شعرنا العربي الحديث. محبة طه هذه لمحمد الماغوط كانت تتجلى تقريبًا في كل جلسة او حديث، وكان يتمنى ان يكتي قصيدة في مستوى قصيدة الماغوط، وقد ابتدأ في كتابة هذا النوع من الشعر بعد بلوغه الخمسين من عمره، وكانت قصيدته النثرية "شرخ في الجمجمة"، واحدة من اوائل كتاباته ولاقت للحقيقة حفاوة من القراء واصحاب الجرائد والمجلات، بل انها نشرت في اكثر من صحيفة ومجلة في الداخل والخارج، الامر الذي شجع طه على المضي في كتابة هذا النوع من الشعر (النثري)، بل حفزه على نشر مجوعته الشعرية الاولى وهي "القصيدة الرابعة"، بعدها كتب طه ونشر الكثير من الشعر النثري، برزت من بينها قصيدته عن موكله الصفوري البسيط الذي كان سيدعو بحارة الانتربرايز لتناول اللبنة والبيض المقلي لو انه رآهم والتقى بهم. غير ان طه عاد إلى هذه الشخصية، بعد ان حصل تقارب بينه وبين الحزب الشيوعي الاسرائيلي، ليكتب قصيدة اخرى تتحدث عن الشخصية الصفورية البسيطة ذاتها وعن تفجيرها للبحارة ذاتهم. الامر الذي اثار حفيظة صديق طه المقرب الكاتب الشاعر احمد حسين فأشار الى هذا التناقض في الموقف، وفق المصلحة، وكتب مقالة نارية انتقد فيها طه واذكر انه نشرها في حينها في مجلة "المواكب" الادبية، التي سأعمل محررًا فيها فيما بعد. كان طه باختصار شخصية بسيطة متواضعة وكان ذرب اللسان دمث الخلق وامتاز بالسخرية اللاذعة في حياته وكتابته، حتى انني اجبت مَن اجرى مقابلة معي عنه ىساخرًا بعد رحيله قائلًا: ان طه كان اكبر من شعره وانه كان ساخرًا كبيرًا ولو استمع الى الان وانا اتحدث عنه بعد موته لتساءل هل انا مت حقا؟

ادمون شحادة.. ادب وطموح

افتتح ادمون شحادة (1933-2017) مكتبته التي اطلق عليها اسم "المكتبة الحديثة" تيمنًا واملًا في اوائل السبعينيات، وكنت قبل افتتاحه مكتبته هذه قد عرفته عبر ما كتبه من مقالات عديدة عن العروض المسرحية في مجلة "المرصاد" التي رحبت بي دونا عن غيرها كاتبًا، فكنت اقرأ ما يكتبه وينشره واشعر بأهمية ان اتعرف عليه وان ابتني معه علاقة صداقة ادبية تشبه تلك العلاقات التي عرفت واشتهرت في عالم الادب عربيًا وعالميًا، لهذا ما ان افتتح ادمون مكتبته الحديثة هذه حتى كنت من اوائل المترددين الزائرين لها، وقد اكتشفت منذ زيارتي الاولى له في مكتبته، انه لم يكن اقل مني رغبة في ابتناء تلك العلاقة، لهذا سرعان ما توطدت الاواصر بيننا وقد استمرت حتى بعد ان اضطره المرض ملازمة بيته وتوكيله ابنته امر ادارتها. من معرفتي المديدة لادمون، كنت اكتشف يومًا اثر يوم ذلك الطموح الذي ميزه وجعله يحقق حلمًا راوده – كما قال لي- اكثر من عشرين عامًا، وقضى بان يترك مهنة النجارة التي عمل فيها مدة عقدين من الزمن، ليتفرغ لإدارة مكتبة يلتقي فيها بمن احب واراد من الكتاب والشعراء. في مكتبة ادمون تعرفت على مبدعين من مختلف المشارب والاعمار، وقد كتبت عن هؤلاء في غير هذه الصفحات. وكان ادمون محبًا للأدب، كتب الاغنية والقصيدة النثرية متأثرا بميشيل حداد وبعده بطه، كما كتاب المسرحية، القصة والرواية، وحتى المقالة الادبية، واذكر انه كان ميالًا لكتابة المسرحية، واصدر فيها عددًا وفيرًا منها البيت الصاخب، وهناك حكاية طريفة تتعلق بعلاقتنا المشتركة احب ان ارويها. مفادها ان ادمون اخبرني في اواسط الثمانينيات انه يريد ان يكتب مسرحية تتحدث عن بير زيت وعن احدث تدور رحاها في الضفة الغربية المحتلة، الا انه حائر بين نوعية كتابتها فهل يكتبها مسرحية ام رواية. عندها سالته عما يشعر به فذكر انه يفضل ان يكتبها رواية، هكذا ولدت روايته "الطريق الى بير زيت"، وقد ذكر ادموني تحبيذي كتابتها رواية في اكثر من مناسبة ولقاء ادبي، ما زاد في تقديري له. كان ادمون خِلافًا للكثيرين في مقدمتهم طه محمد علي، يحاول الكتابة في كل الانواع الادبية، ولم يركز على نوع محدد، الامر الذي اثر على استقبال القراء لكتاباته المتعددة المتنوعة، علما انه كان انسانًا جديًا، ويحب الادب واهله، وهو ما قلته عنه في اكثر من كتابة ومحاضرة.

ميشيل حداد.. رائد قصيدة النثر في بلادنا (1)

عمل ميشيل حداد (1919 - 1996)، معلمًا للرسم والموسيقى، وكان محبًا للأدب والصحافة، لهذا كان من اوائل من سعوا لتأسيس مجلة ادبية اجتماعية في البلاد هي مجلة "المجتمع"، التي سأعمل فيما بعد محررًا فيها الى جانبه، وقد حرص ميشيل على ابتناء علاقات جيدة بوسائل الاعلام خاصة الصحف والمجلات، فكان يشجع كل من يطرق به فيأخذ بيده وينشر له في مجلته او في مجلات اخرى. بل انه سعى ايضا للقاء بكل من علم عنه انه محب للأدب والفن وحاول التعاون معه وتشجيعه اما في النشر عبر صحيفة او مجلة وحتى في كتاب مشترك مع آخرين. تعرفت إلى ميشيل في دكان طه محمد علي للتذكاريات الكائن في شارع الكازانوفا، وقد ربطتني به علاقة محبة ومودة منذ اللحظات الاولى للقاء، اذ كان اجتماعيًا يتصف بدماثة الخلق. ونقاوة اللسان، وكان ميشيل كما عرفته جيدًا يمتلك اذنًا موسيقية رهيبة إلا انه لم يدرس اوزان الشعر العربي المعروفة الامر الذي حرمه من كتابة الشعر، لهذا على ما اعتقد، ما ان اكتشف مجلة "شعر" اللبنانية واصحابها من شعراء قصيدة النثر، يوسف الخال خاصة، حتى دب عليهم وحاول ان يبتني معهم علاقات ادبية، بل انهم نشروا بعضًا من كتاباته في مجلتهم كما اخبرني. علاقة ميشيل بطه دفعته منذ بداية تعرفه على مجلة شعر لإجراء الاحاديث المطولة حول هذه القصيدة وكان ميشيل يستمد طاقته وقوته على الاستمرار من طه، فقد اقتنع هذا الاخير بهذا النوع الوافد من الشعر ورأى فيه مساحة طيبة لتطوير القصيدة العربية، وهو ايضًا لم يكن يعرف الاوزان الشعرية العربية القديمة، لهذا يبدو ان شيطان الشعر قد ابتسم له، مقنعًا اياه انه بإمكانه ان ينتمي الى ملكوته الخاص، وبعد تردد مديد اقبل طه على كتابة قصيدة النثر، وهكذا شد احد الشاعرين من عضد الآخر، وتوقف الاثنان في خندق واحد، صديقين محاربين.. مدافعين عن قصيدة النثر. ومناديين بأهميتها في تطوير شعرنا العربي وانتقال به من الثابت المقيت الى المتحول المنشود، وفق تعبير ادونيس- على احمد سعيد، صاحب كتاب "الثابت والمتحول"، وقد اختلفنا في نقاط تتعلق بهذا النوع من الشعر واتفقنا، ودخل النقاش ذات عام الكاتب الناقد نبيه القاسم فوجّه سؤالًا بسيطًا وواضحًا لطه، وضمنا لميشيل، لماذا لا تسمي ما تكتبه نثرًا جميلًا؟ لقد فتحت كتابة قصيدة النثر لدى ميشيل اولًا وطه ثانيًا ابواب النقاشات واسعة.. وقد امتدت فترات طويلة من الزمن دون ان تتوقف او تصل الى نتيجة.. الامر الذي دفع الكثيرين وانا منهم الى استعارة عنوان مسرحية الكاتب المسرحي الايطالي المبدع بيراندلو وهو " لكل شيخ طريقة".

***

ناجي ظاهر

 

لا أذكر تفاصيل الأمسيات التي أعقبت صدور "ما بعد المركزية الأوروبية" إلا كأحلام ملونة بالحماس. كان الكتاب حدثاً ثقافياً استثنائياً، كأنه عيد لم نتوقعه. في مقاه وسط القاهرة وبين أروقة دار الأوبرا، كان المثقفون المصريون يتهادون النسخ كهدايا ثمينة، وكأنهم يقولون: "هذا ما كنا ننتظره". لم يكن مجرد كتاب، بل كان تمرداً على الزمن الراكد، إعلاناً أن التاريخ لا يروى من فوق منصات الإمبراطوريات، بل من زوايا المقاهي حيث يجلس المهمشون ليحكوا حكاياتهم. 

الصديق إبراهيم فتحي، الناقد والمترجم الراحل، كان يضحك في إحدى الندوات وهو يقول: "هذا الكتاب سيفتح جبهات جديدة.. لن تسلموا من أسئلته!". كأنه كان يعرف أن الأفكار ستتسرب كالنار في الهشيم. في القاهرة، حيث المثقفون اعتادوا أن يطعموا بالفكر الغربي جاهزاً، جاء جران ليقلب المعادلة: "أنتم لستم تلاميذ، بل شركاء في كتابة التاريخ". كانت هذه الجملة وحدها كافية لتشتعل القاعة بالتصفيق، وكأننا نسمعها لأول مرة. 

الفرح الذي خلفه الكتاب لم يكن فرحاً ساذجاً، بل فرح أشبه بصحوة. صحوة من سبات فرضته علينا أكذوبة "المركز والهامش". لسنوات، كنا نقرأ التاريخ وكأننا ننظر إلى مرآة مشوهة، فجاء جران ليكسر المرآة، ويرينا أن العالم مرايا متعددة، كل منها يعكس وجهاً مختلفاً للحقيقة. في ندوات المجلس الأعلىللثقافة بالأوبرا، كان النقاش يدور كرقصة صوفية: أسئلة عن دور المثقف العضوي، عن كيف نصنع وعياً لا يكرر خطاب السلطة، عن جرامشي الذي صار فجأة "مصرياً" في سياقنا المحلي. 

الأمر الأكثر إبهاراً كان اللغة. كيف لكتاب نظري أن يتحول إلى حديث الشارع؟ لأن جران لم يكتب عن "الشعوب" ككائنات مجردة، بل عن لحظة التقاء المثقف بالفلاح، والعامل بالشاعر، وكيف أن الثورة الثقافية تبدأ حين يتوقف "الهامش" عن انتظار التعليمات من "المركز". في مصر، حيث الثقافة الشعبية تنبض بحيوية تتفوق أحياناً على الثقافة الرسمية، وجد الكتاب تربة خصبة. الشباب الذين شاركوا في الندوات كانوا يصرخون: "هذا ما نعيشه!". 

الترجمة، بروحها العربية المصرية، دور المحول الكهربائي. إبراهيم فتحي وعاطف أحمد ومحمود ماجد لم ينقلوا الكلمات، بل أنعشوا روح النص. جملة مثل "الثورة الثقافية هي انتفاضة الوعي ضد الاستلاب" صارت تردد في أروقة جامعة القاهرة كما تردد الأغاني الثورية. كأن المترجمين كانوا يعرفون أنهم لا يترجمون كتاباً، بل يزرعون بذوراً ستزهر لاحقاً في حركات فنية وأدبية. 

اليوم، حين أعود إلى الكتاب، أتذكر تلك الليالي المليئة بـ"قهقهات" النقاش ورائحة الورق الجديد. كان بيتر جران، بلهجته المصرية الطريفة، يقول: "التاريخ ليس متحفاً، بل ساحة معركة". وكأنه كان يعلمنا أن نكتب تاريخنا بأيدينا، لا أن نستعير سرديات الآخرين. الكتاب لم يغير طريقة تفكيرنا فحسب، بل أعطانا جرأة أن نضحك في وجه الوصاية الثقافية، أن نقول لأوروبا: "شكراً، لكننا لسنا بحاجة إلى مرآتكم بعد الآن". 

الآن، وقد صارت "ما بعد المركزية الأوروبية" جزءاً من ذاكرة جيل، أتساءل: ألم تكن تلك الفترة بذرة للربيع الثقافي العربي الذي تلاه؟ ربما. لكن الأكيد أن الكتب الحقيقية لا تنتهي عند غلافها، بل تستمر كصدى يحرك الأسئلة. والصدى الأجمل أنه لم يعد صمتاً.

 مهرجان شعبي..

كانت المفاجأة أن يصبح الكتاب الفكري "حدثا شعبيا". لم نعتد أن تلامس النظريات الماركسية حرارة الشارع المصري بهذا الوهج، لكن "ما بعد المركزية الأوروبية" اخترق القواعد ببراعة؛ فالمثقفون في مصر، الذين طالما تنازعتهم هويات بين شرقية وغربية، وجدوا في هذا الكتاب خريطة للخروج من المتاهة. لم يكن سردًا تاريخيا، بل كان دليلًا عمليا لاستعادة الكرامة: كرامة السرد، وكرامة الوعي، وكرامة أن تكون "هامشًا" يرفض أن يختزل إلى رقم في معادلة المركز. 

الفرح الذي لا يشبه سواه كان فرحًا بالتحرر من "أبوة" الغرب الفكرية. تذكرت كلمات جران في إحدى الندوات حين قال: "التاريخ ليس إرثا تحصيه الشعوب، بل هو ذاكرة حية تنتج مقاومة كل يوم". كانت كلماته كالماء في صحراء؛ فالمثقفون المصريون، الذين عانوا من عقدة التابع والمقلد، بدأوا فجأة يكتبون مقالات تبدأ بعبارة: "كما يقول بيتر جران..."، وكأنهم وجدوا أخيرًا سلاحًا نظريا ضد الاستلاب. 

اللافت أن الكتاب لم يناقش فقط في الجامعات، بل تسلل إلى حلقات مقهى البستان، وإلى جلسات الفنانين في أتيليه القاهرة، وحتى إلى "الواي فاي" المجاني في المولات. كان الشباب يتساءلون: "هل يعني هذا أننا لسنا متخلفين، بل نكتب تاريخنا بطريقة مختلفة؟". السؤال نفسه كان ثورة صغيرة، لأن الثقافة المصرية ظلت لقرون تعيش تحت وهم أن التقدم يسير في خط مستقيم من أثينا إلى باريس، وأن عليها أن تنتظر دورها في ذيل الركب! 

إبراهيم فتحي، بابتسامته الواسعة، كان يحرص أن يقول في كل ندوة: "هذا الكتاب ليس ترجمة، بل هو استعادة لأصواتنا المدفونة". كان الرجل يعرف أن الكلمات التي نقلها من الإنجليزية إلى العربية تحمل في طياتها روحًا مصرية خالصة؛ فجرامشي، بتركيزه على "المثقف العضوي" و"الهيمنة الثقافية"، لم يكن بعيدًا عن واقع عاشه المصريون: فلاحو صعيد مصر الذين يحولون الأرض إلى قصيدة، وعمال المحلة الذين ينتجون وعيًا ثوريا بين آلات الغزل، وحتى "الفلاحات" في الأسواق الشعبية اللاتي يبتكرن فلسفة خاصة للبقاء. 

الكتاب، بفضل الترجمة الحية، جعلنا نرى أنفسنا في مرآة جديدة. لم نعد ذلك "الآخر" الذي يدرسه الغرب في أطالسِه، بل صرنا فاعلين في التاريخ. حتى النقاشات التي اشتعلت حوله كانت جزءًا من رسالته: ففي ندوة بمكتبة الإسكندرية، وقف شاب يسأل: "إذا كانت أوروبا مجرد مركز وهمي، فلماذا لا نكون نحن المركز الجديد؟". رد عليه مثقفٌ مخضرم: "الكتاب لا يدعوك لاستبدال مركز بآخر، بل لتحطيم فكرةِ المركز نفسها!". كانت تلك الإجابة جوهر الثورة: أن نعيش في عالم لا يقاس بالمسافات من عاصمة إلى أخرى، بل بالمساحات التي نصنعها بيننا كبشر. 

اليوم، وأنا أتصفح نسختي البالية من الكتاب، أتذكر كيف كان الوعي يولد كل يوم في تلك الفترة. لم نكن نقرأ فصولًا، بل كنا نعيشها. جران لم يأت إلينا بنظرية جاهزة، بل أشعل نارًا في كل سؤال كنا نخاف أن نطرحه: ماذا لو كانت النهضة العربية لم تفشل، بل اختلفت طريقتها عن النهضة الأوروبية؟ ماذا لو كان "التخلف" مجرد خرافة اخترعها المركز ليبرر هيمنته؟ ماذا لو كنا، نحن المصريين، قد اخترعنا ماركسية خاصة بنا دون أن ندري؟ 

الكتاب علمنا أن الثقافة أقوى من المدفع. وأن الهزيمة الحقيقية ليست في الاحتلال، بل في أن تصدق أنك لا تستحق أن تكتب تاريخك. الآن، وبعد سنوات، لم يعد السؤال: "هل تغلبنا على المركزية الأوروبية؟"، بل صرنا نسأل: "كم مركزًا جديدًا سنصنع قبل أن تنتهي الحياة؟".

***

د. عبد السلام فاروق

 

(تجريبٌ في السّرد)

1- مَمَرَّاتُ الْغُول

يَحْمَدُ التُّرَابُ لِفَوْضَى الْقَذِيفَةِ صَمْتَهَا الْأَرْعَنَ، وفِي تَفَاصِيلِ الْهَزِيمَة يَخْتَفْي الْقَمَرُ... يَرْحَلُ الْقَبْرُ فِي مَمرّاتِ الْمَرَايَا الْهَرِمَةِ، مِثْلَ أَصَابِعَ تُنَكِّسُ رَايَاتِهَا الْعَائِدَةِ مِنْ سَاحَاتِ الْعَوْمِ النَّاشِفِ... وفِي شُرُوخِ الْوَصَايَا  مِنْ شَيْخٍ لَا يَمْلِكُ مِنَ الْحِكْمَةِ إِلّا ظِلَّهَا، خَطّتْ يَدُهُ الْارْتِعَاشَ الْمُتَبَقِّيَ فِي نُدُوبِ الْجَسَدِ الْعَبَثِيّ، مُؤَرَّخاً عَلَى رُقْعَةِ الشّطَرَنْجِ، مُرَبَّعَاتٍ بَلِيدَةٍ وَبَيَادِقَ يُحَرِّكُهَا غُولٌ، مِلْءُ فَمِهِ ضَحْكَاتٌ هِسْتِيرِيّة.

2 -  وَهْمُ الدِّيمُقْراطِيّة

مِنْ تَوابِيتِ أَصَابِعِنَا يسِيلُ الْوَثَنُ شَكْلاً طَرِيَّ الْعَدْلِ وَسِيمَ السَّوْسِ يَقْبِضُ عَلى تَلابِيبِ الْفِتْنَةِ يَصُوغُهَا بَوْساً رَقِيقاً عَلَى وَجْنَاتِ الرُّمْحِ الْمَكِينِ، فِي لُعْبَةٍ شَقْراءَ تتَدَثَّرُ فِي فَسَاتِينَ شَتَّى أَبْلَغَ مِنْ حَتَّى فِي سِبَاقِ الْغَايَاتِ وَرَصْفِ النِّهَايَات... هَكذا تَمْتَشِقُ هَذهِ الْغَانِيَةُ سَيْفَ الْحَرِيرِ بِكَفٍّ أَبْغَى مِنْ حَاضِرٍ وأَنْكَى مِنْ ضَبَاب، تُزَوِّجُ النَّارَ للسُّنْبُلَة فِي أَعْرَاسِ الْمَقَاصِلِ الذَّهَبِيّةِ، فَتَدُوخُ الرَّقْصَاتُ بَيْنَ شَطْحٍ ونَطْحٍ ورَشْحٍ لِمَسَامَّ  ذَائِبَةٍ فِي رُؤُوسٍ مُكْتَنِزَةِ الْأَشْدَاقِ، بَهْكَنَةِ الْأَقْفِيَةِ، لَا تُفَرِّقُ فِي أَبْجَدِياتِ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِيمِ بَيْنَ سَاسَ يَسُوسُ سَوْساً وبَيْنَ سَاسَ يَسُوسُ دَوْساً.

3 - عَطَشُ الْقِيثَارَة

تَخْرُجُ مِنْ مَنافِي الْمَلَكُوتِ مُبَجَّلَةً تَتَأَبَّطُ دِفْئاً أَنِيقاً، يَنْفُخُ فِي جَسَدِهَا الْمَرْمَرِ مَعْزُوفَةَ الذُّهُولِ بِأَنَامِلَ قُدَّتْ مِنْ قِيثَارَتَيْنِ، واحِدَةٌ تُصَلّي هَسْهَسَاتِ اللّيْلِ عَلى وَتَرالْبَدْءِ قَبْلَ أَنْ تُولَدَ الْمَرَايَا، وقَبْلَ أَنْ تَتَعَرَّى الْأَشْجَارُ مِنْ رَغْبَةِ الْمَاءِ... وأُخْرَى تَشْدُو الْبَاقِياتِ عَلَى وَتَرِ الْخِتَامِ، امْتِدَاداً لِأَقْمِصَةِ الزَّنَابِقِ، يُخْرِجُهَا الرَّقْصُ الْبَاطِنُ مِنْ مَكْرِ الْأَنَامِلِ الرَّقِيقَةِ، إِلَى رَاحَاتِ الْأَعْرَاسِ الْبَهِيجَةِ، كَيْ تُشْعِلَ فِيهَا امْرَأَةُ الْمَلَكُوتِ عَطَشَ الْأَرْضِ لِنَبِيذِ الصَّهِيلِ.

4 - لَيْسَ عَلَى الدِّينِ وَصِيّ

ذَاكَ الْمَعْبَدُ الْجَاثِمُ عَلَى صَدْرِ الْمَعْنَى، عَلى رَأْسِهِ حَارِسٌ قَدَّتْهُ الْحِجَارَةُ مِنْ غَيْبُوبَةٍ، فِي يَدِهِ شُعْلَةُ رَاهِبٍ غَاضِبٍ، لَيْسَ لَهُ حَدِيقَةٌ، ولَا يَبْتَسِمُ فِي وَجْهِ السِّنْدِيَانَةِ... يَرْتَحِلُ الزَّمَنُ فِي كَفَّيْهِ طِيناً صَامِتاً فِي غِشَاوَاتِ اللُّهَاثِ الْمُدَجَّجِ بِالسَّوَادِ الْبِدَائِيّ، وَيَرْقُبُ الْعَصَافِيرَ فِي عُيُونٍ مِنْ رَهَبٍ، تَتَزَمَّلُ فِي عَبَاءَاتِ الصَّهْدِ الْوَاقِفِ دَوْماً عَلى تَفَاصِيلِ الْوَجَعِ، تَسْرِقُ مِنْهُ احْتِمَالَ الْبَرْدِ وَتَسْرِقُ بَعْضَ النَّارِ مِنْ آلِهَةِ الضَّيَاعَ، كَيْ تَشْحَذَ بِهَا أَلْسِنَةَ الْوَقْتِ الْمُتَغَوِّلِ... ذَاكَ الْمَعْبَدُ الْجَاثِمُ عَلَى صَدْرِ الْمَعْنَى، فِي خُلَاصَةِ الْخَطْوِ، حَارِسٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحُبِّ.

5 - نَوارِسُ هَارِبة

صار أعمى، هَذا الْحِبْرُ، وصِرْتُ جَاسُوساً عَلى أَرْوِقَةِ الْقَراطِيسِ، أَشْرَبُ وَجْهَ النَّهَارِ فِي قَنادِيلِ الْغَرابَة، وَأُنَشِّفُ دَمْعَ الْأُغْنِياتِ بِمَنادِيلَ مَزَّقَها اللّيْلُ فِي مَنَافِضِهِ الْبَاكِيَةِ عَلى تِبْغٍ رَتَّقَتْ ثُقُوبَهُ أَبْوابٌ مُقْفَلَةٌ عَلَى أَحْداقِ الْنَّرْجِسِ... يُشَكِّلُنِي هَذا الْخَارِجُ مِنْ دَمِي عَدَماً رَاقِياً، تَغْرَقُ كَفُّهُ فِي بُحَيْراتِ النِّسْيَانِ، وتَبْحَثُ صَلَفاً عَنْ تِيجَانٍ فِي قِيعَانِ الْمَسَاءَاتِ الرَّمَادِيَّة... هَكَذا ارْتَجَلَتْ حِكْمَةُ الْوَرَقِ الْهَارِبِ مِنْ الضَّوْءِ شَكْلَ النَّوَارِسِ الْمُخْتَبِئَة فِي رَغْوَةِ الْمَوْجِ هُرُوباً مِنْ بَطْشِ الْحِبْرِ إِذَا أَبْصَر.

6 - جَبَلٌ أَطْلَسُ

فِي الْبَدءِ، كَانَ الْجَبَلُ طِفْلاً غَضَّ الْبَانِ، تَشْتَهِي حُمْرَةَ وَجْنَتَيْهِ وُعُولُ الْحَجَرِ الضَّارِيَةِ، وَتَمْشَطُ انْسِيابَ خُصْلَاتِ لَيْلِهِ أَمِيرَاتُ الْجِنِّ الْعَارِيَة. لَكِنَّهُ ذَاتَ خُرُوجٍ، اِنْفَلَتَ مِنْ قَبْضَةِ الْحَلِيبِ، وقَضَمَ مِنْ شَجَرِ الْحُلُمِ، فَفَقَأَ عُيُونَ الْأَنْهَار، ثُمَّ انْدَسَّ الصَّبِيُّ فِي سِلَالِ الْعِنَبِ وأَزْهَارِ اللِّيلْيَا، وَسَافَرَ فِي حِضْنِ النُّجَيْمَاتِ، يُشَيِّعُهُ قَوْسُ قُزَحَ فِي تَراتِيلَ سِرِّيَّةٍ، حتَّى أَصَابَ مَوْطِنَ الْمَصَبَّاتِ اللَّزِجَةِ فِي دُخَانِ الْمَنَافِضِ الْمَيِّتَةِ... وفِي الْخِتَامِ نَزَلَ الْجَبَلُ الطِّفْلُ عَارِياً يَحْمِلُ فِي يُمْنَاهُ حُلُماً مُنْكَسِراً، وفِي يُسْرَاهُ كَوَابِيسَ شَيَّدَتْهَا عَلَى جَبِينِهِ كَفُّ غَلِيظَةٌ تُتْقِنُ فَنَّ الْوَأْدِ كَمَا تُتْقِنُ فَنَّ الْعَزَاء.

7 -  مَدَارِجُ السَّالِكِين

غُبَارٌ يَغْسِلُ صَمْتَ الشًّرفَاتِ مِنْ صَهِيلِ الْغَيْمِ... يَغُضُّ الطَّرْفَ عَنْ هَذِي الْغَمَامَةِ الْهَارِبَةِ فِي اشْتِعَالَاتِ الْخَرِيف، كَيْ تَعْجِنَ سِلَالَنَا الْفَارِغَةَ مِنَ رَحِيقِ الْوَقْتِ رَغِيفاً مَحْنِياً،  لَا يَطِيرُ إِلَى تَتْوِيجِ الشَّمْسِ، مَعْصُوبَ الرُّوحِ، يَفْتَرِشُ السَّاحَاتِ الْمَجْرُوحَةِ، يَدْعُو قَصَائِدَهُ إِلَى النَّزِيفِ فِي حَنَاجِرَ أُسْطُورِيَة، تَتَّسِعُ لِشَغَفِ الْأرْضِ فِي صَرْخَاتِهَا الْبَعِيدَةِ، تُفَّاحاً مَجْنُوناً، يَضْحَكُ مِنْ شَوَارِعِ الخَسَارَة... فَمَنْ يُرَمِّمُ مَا تَبَقَّى مِنْ جِدَارَاتِ الطّيْشِ الْأَعْوَرِ فِي مَدَارِجِ السَّالِكِين؟

8 – مَرايَا شَقْرَاء

مطرٌ غَرِيبٌ وَافِدٌ، يَسِيرُ الْهُوَيْنَى، يَدْفَعُ أَرْوَاحَ الْيَاسَمِينِ إِلَى الْعَرَاءِ فِي شَهوَاتِ الْعُرْسِ، فِي قَرَارِ النَّارِ أنْ تُزَوِّجَ مَدِيحَ السُّنْبُلَةِ إِلَى رَغْبَةِ الثَّلْجِ الْمُسْتَوْرَدِ فِي عُلَبِ اْلبَرِيقِ الْأَشْقَر، فَـتَنْبَجِسُ بَينَ الْفَخِذَيْنِ حَبَّاتُ قَمْحٍ  بِلا شَفتينْ، بِلا سَاقَيْنِ، بِلا نَهْدَيْنِ... غَـزالاتٍ عَطَّلَتْ رَكْضَهَا الْبَرِّيَّ فِي أَرْوِقَةِ الْمَرَايَا الْمُحَدَّبَةِ، وفِي صَقِيلِ صَمْتِهَا تُقِيمُ دُمىً خَائِفَةُ مِنْ وَمِيضِ التُّرابِ الْأَسْمَرِ، أنْ يَكْشِفَ عَنْ عَوْرَاتِ هَذا الْمَزِيجِ الدَّائِخِ، فَـتَعُودَ الْخُطْواتُ إلَى قَرَارِ الْغُرابِ مَنْسُوخاً فِي دَمِ الْحَمَام.

9 – مَوّالُ الشَّمْسِ

فِينَا يَخُطُّ الذِّئْبِ بَعْضَ عُوَاءٍ لِهَذا الْجَسَدِ الْبَرِّيّ، خَطّاً مُجَعَّدَ الْفِتْنَة، وَخَطّاً يَغْسِلُ وَجْهَ الْخَبَلِ بِماءِ النَّشِيد، وخَطّاً ثَالِثاً، يَحْمِلُ تَوَابِيتَ الشَّمْسِ الْخارِجَةِ مِنْ بَطْنِ الْأَلْوانِ الْقُزَحِيَّة، صَنَعَها الْمَغيبُ فِي غَفْلَةٍ مِنْ رَقابَةِ الْقَوْسِ، طَحَنَتْهُ اسْتِعاراتُ الشُّعَراءِ فِي وَهْمِ الْقَصيدَة دَقيقاً يَتيماً... فَمَنْ يُغْري هَذا الذِّئْبَ بِالانْزِياحِ الْمُؤَقَّتِ عَنْ ظَهْرِ الْفَريسَةِ حَتَّى تَسْرِقَ مِنْ وَرْدَةِ الصَّباحِ، أَنْفاسَها الْمُعَلَّقَةِ؟ ومَنْ يُقْنِعُ الْجَسَدَ الْبَرِّيّ بِصِناعَةِ الْهُدْنَةِ بَيْنَ الْخُطُوطِ الثَّلاثَةِ، نِكايَةً بِالْعُواءِ الْأَسْوَد؟ ومَنْ يَغْسِلُ وَجْهَ الشَّمْسِ مِنْ حُزْنِ التَّوابيت...؟

10 - ثَعالِبُ الْوَقْتِ الْعابِرِ

رَأَيْتُ الْعَبَثَ، ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْر، ثَعالِبُ الْوَقْتِ الْعابِرِ، فَاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قَدَمَي... ولَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة، فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ، فَسَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ. فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أَسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَةِ، فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً، ووَجَدْتُ بَقايا مَخالِبَ ونُتْفاتٍ مِنْ زَغَبٍ... وَحُشاشَةً مِنْ روح.

***

نورالدين حنيف أبوشامة\المغرب

يرى البعض أن العمل التشكيلي هو تسجيل أمين للواقع بكل تفاصيله ويراه البعض الآخر كشفا للعلاقات الجمالية الموجودة في الطبيعة وهو لعبة تشكيلية تستند لتلك العلاقات عبر كل ما يميزها من عمليات التحوير والتبسيط والتأليف وتتحرر من خلال تعاقب عمليات الاضافة والحذف والهدم والبناء كما يعتبر البعض أن تفريغ الشحنة الانفعالية هو المهمة الأساسية والجوهرية للعمل التشكيلي وهو مرآة تعكس الحالة المزجية ويعتبر البعض أن العمل التشكيلي مرآة للروح ولعوالم الذات

خلال إحدى مهامي الاتحادية على قلتها والتي كنت أتحينها وخلال زيارة وظيفية لفرع حمص.. كانت الفرصة مواتية لتعارف عن قرب ما بيني وبين فنان تكونت انطباعاتي السابقة عنه من خلال اتصالات هاتفية ورسائل صوتية وشيفرات صمتية امتدت كما شعاع ألفة وشوق للقاء ما بين روحين.. هي ذاته الطيبة تفوح في لكنة مفرداته وحكايا الأنثى في لوحاته تلك الحاضرة دوما في غالبية المحافل التشكيلية... وحق لي وله خلال هذا اللقاء وبعده أن أرصد ذاك الامتداد الطبيعي والتصاعدي للتعبيرية الواقعية وللوحة البورتريه..ثم أرتب حروفي مستهدفا تجربة هي الأكثر استحقاقا وتمثيلا لما قصدته ولمن قصدته وهو الأكثر تمثيلا للتعبيرية الواقعية إنه الفنان أميل فرحة وها هو ذا يؤكد أحقيته في أن يكون الاستمرار والخلف للسلف وللتعبيرية الواقعية الممتدة في جذورها المحلية لسابقه في تقصي الآلام لؤي كيالي.1793 hasan

أميل فرحة واحدٌ من الفنانين الذين أتقنوا فن البورترية إنما عبر تلك الصياغة التي تختزل نبضه الحارّ أكثر مما تحاكي تفاصيل الشكل.. فهو يختزل الألم الشفاف والنبيل في ملامح أنثى تتكرر هي ذاتها في معظم أعماله.. ولهذا التكرار قصة وحكاية.. تتجاور أنثاه مع مفرداتٍ أخرى خادمة يجمعهما منطقٌ جماليٌّ له دلالاتٌه الرمزيّة في ذاته وهو يصبّ في خدمة الفكرة الإنسانية والحسية وفق تطلعاته.

تسيطر الرماديات والترابيات الشاحبة وهو يتماهى معها مؤكّداً على ذاك الانتقال الشفاف للون وطيفه ما بين ظلمة أخف وطأة وسطوع خجول ، وهو في آتون لعبة الفن لا يسترسل كثيراً في عمليات التحوير ويحافظ دوما على المسمّيات في مكانها فم أو عين.. أنف.. مؤكداً على واقعيته التي يعتبرها أو يعتقد أنها أكثر قدرة على ملامسة الذوق العام.

أما القيمة الفنية في أعماله فتكمن في قدرته على عكس ذاك الألم الشفاف والنبيل عبر سيماء الوجه (قلق حزن خوف حلم) وعبر شاعرية الحركة الحانية للجسد والأكف ودلالاتها وأيضاً عبر رمزية المرأة في لوحاته وإسقاطاتها فهي كانت ولازالت ترمز للوطن والفنان كان ولايزال يعبر عن هواجسه من خلالها وأنا لا أسيس الفن هنا والفنان عموما أكبر من الانتماء لفريق هو ينتمي للإنسانية والأنسان

في الختام استكمل ما بدأت به المقال لأشير لرأيي ورؤيتي المسايرة للمفهومين فبقدر حاجتنا للارتقاء ومواكبة الحدائة نحتاج أيضاً لمسايرة ذوق العامة لنستطيع الارتقاء به وهنا يصير البحث عن الحلقات المفقودة ووصلها ضرورة ملحة للناقد وذلك كي يتحقق التواصل مع الشريحة المجتمعية الأكبر والمنتظرة والمتوقفة في هذا المكان وفي هذا المكان تحديدا يصير للفن دوره الأكثر تأثيرا والأقدر على إيصال رسائله للعامة

***

حسين صقور

ضمن انجازات السينما العالمية انها تبنت القضايا المصيرية للمرأة وقامت بإبراز دورها ومساهمتها الفعالة في حياة الشعوب ونهضتها، فعبر تاريخها الطويل حرصت السينما من خلال العديد من الافلام على انصاف المرأة وتقديمها في انماط ايجابية مختلفة ومنها شخصية المرأة المناضلة وكفاحها الدؤوب من أجل التحرر وذلك من خلال اظهار مشاركتها الفاعلة في حركات المقاومة المناهضة للإمبرياليّة وللأنظمة الاستبدادية، ومن بين الافلام المهمة التي تندرج تحت هذا التوصيف فيلم (THE SLEEPING VOICE الصوت الهامد) انتاج اسباني 2011 المأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه للكاتبة " دولتشي تشاكون "، فهذا الفيلم يسلط الضوء على الحقبة السوداء التي عاشتها حركة اليسار في اسبانيا تحت ظل حكم الجنرال فرانكو الذي حكم نهاية الحرب الأهلية الاسبانية بين عامي ( 1936 ــ 1939 ) بعد دعم من المانيا النازية وايطاليا الفاشية حيث شهد عام 1940 تعرض الاشتراكيين والشيوعيين المناصرين للجمهورية الى أوسع حملة مطاردة واعتقالات طالت شرائح عدة ومنها المرأة الاسبانية المناضلة التي واجهت ابشع انواع التعذيب والانتهاكات في سجون فرانكو، ويجسد هذا الفيلم قصة اختين قطعت الحرب اوصال العلاقة بينهما، الاخت الصغرى تعيش حياة عادية بينما الكبرى (هورتينسيا) مناضلة منخرطة في اعمال المقاومة لحكم الجنرال فرانكو التي ينتهي بها الطريق الى قضاء حكم الاعدام وهي حامل بطفل من زوجها المناضل الهارب من قوات الجيش الذي يحكم البلاد بقبضة حديدية، وابرز المشاهد المؤثرة التي تقوم عليها فكرة الفيلم هو مشهد خروج الرضيعة حية من السجن الذي ولدت فيه الى فضاء الحرية بعد اعدام امها وهو مشهد يشير الى بقاء الفكر حيا رغم محاولات الجلاد قمعه وتغييبه، كما يشير هذا المشهد الى ان هذا الكائن هو امتداد لفكر الأم التي استطاعت بصمودها الأسطوري ان ترعب جلاديها عندما لم تهادن ولم تتنازل عن مبادئها وبالتالي لم تخضع لنظام مستبد فقد واجهت الموت بكل جرأة وشجاعة .

فيلم (الصوت الهامد) يقدم درسا في الصمود ويؤكد حقيقة ان موت المناضل لا يعني موت قضيته، فقد علمتنا تجارب التاريخ ان الأفكار لا تموت بموت اصحابها انما هي كالصفات الوراثية تنتقل من روح الى أخرى.

***

ثامر الحاج امين

(لا يعنيني أن أكتب لك خبرا أيها القارئُ المحترم، أخبرك فيه أن فلانا كفر بالمدينة فعلّقت المدينةُ رأسه على بوابتها الرئيسية. ويعنيني أن أدلف بك في متاهات الحكي حتى يدور رأسك ألف مرة قبل أن يعلقوه على بوّابة المعنى... نون حاء)

كَانْ يَا مَا كَان، فِي زَمَنِ الهيولى: خُرَافَةٌ تشبه رجلا، والرّجُل بِدونِ أَصَابِع. وفِي مَشِيئَةِ الْكِتَابَةِ انْحَنَى قَلَمُهُ، التقطَ هَبّةَ رِيحٍ صَرْصَر، ثمّ قرر أن يكون...

نَبَتَتْ فِي رَاحَتَيْهِ أَشْجار. الواحدةُ منها أَكْبَرُ مِنْ قَامَتِهِ الصّغِيرَة. وَلَمّا رَامَ صَهْوَةَ الرّيح، كَبُرَتْ حُرُوفُ جَسَدِهِ، فَكانَ الّذِي كَان.

كانَ أن تحركَتْ في المدى، أغْنِيّاتٌ تَلِيقُ بِالرمل. مدّ الرجلُ يداً إلى بعضِ الموسيقى معجونَةً في قبضة الرّيح. وأقسمتِ الريحُ أن تُلقيَ بكبرياءِ الريشِ بينَ الأقْنِعة والْأَغاني. فما وجد الرجل طرباً، ووجد الْينابيع، ترْسمُ لِلْخُيولِ أَنفاسَها الْمُقَطّعة في ارْتِعاشِ الْماءِ. خانَ الرمل حوافرَ الريحِ، فانسدلَ من قلبِها حَنينٌ.

نحتَ الحنينُ عيونَ الرجلِ في عَيْنِ النّشيد، ورمى بالمديحِ في قلبِ الأغنية، تُرَصّع صُدورَ الْهَواءِ بِنَياشينِ الكلماتِ حينَ الكلماتُ تخرجُ بيضاءَ مثل كفِّ نبيّ...

أَخْرَج الرجلُ يده. وَجَدها بيْضاءَ أيضاً. لَم تَغْمِسَ أصابعها في انْحِناءِ الْأَقْنِعَة. كانتْ مجرّد أغنيات، لكنّ الماءَ سالَ منها خَطْواً يَنْهَمِرُ، يتدلّى شبقاً عارِفاً بشوارعِ الجسد، يمدّ إلى الرغبة جناحاً وإلى الموت أجنحة. يَعْرِفُ الْورْدَةَ منْ صُراخِها وَاخْتِلاجَ الْغُصْنِ منْ تَفاصِيلِ الشّهْقَة.

نزل الْماءُ ثانِيّةً يُرَوّضُ أعْراسَ الْأكْمامِ مثلَ خَوْفٍ وَسِيم. يَشْرَبُ الْجَسَدَ فِي بَهْوِ الْاِشْتِهاء تحت ظلّ شجرةٍ مفردة يحيطُ بها العراءُ مُدثّراً باخْتِلاسِ النظر إلى زوايا عشقٍ لا يكترثُ للتراب ولا للعجاج تنفخهُ ريحٌ غيورة.

و قبل الأمس، خرجَ الرجل من المدينةِ نَدِيماً فَاتِناً. كانَ يحملُ رأسهُ قبلَ أن تحمله بوابةُ المدينة... لم تضْرِمِ الْمُدامُ وَلَعاً في نسغِهِ المترنّح. بل رنّحَتْهُ فكرةٌ. طرّزَ بها عُقْمَ الأرواحِ العاقرةِ في بني جلدتِه. واشتبك في صدرهِ نداءان: واحِدٌ لثوبهِ الأبيض النقيّ، لم يتدثّر بغيره لفاقةٍ زاهدة، وثانٍ لقلبِهِ الذي باعهُ للندامى يتلونَ كتاباً كفرَ به سلطانُ المدينة. ولمّا كانَ الّذي كان،  غمسَ حبرهُ في قضبان الزنزانة، ثمّ فرّ عبْرَ قلبِ مُرِيدٍ من حاشيةِ المالكين لقرار العتمات. كان يمارس توريةً أملاها الرجل ذاتَ مجلسٍ داخل فتوى تقوم على سيمياء المقاصد قبل وسمِ الأحكام.

و لأول مرة سيسمي الحكيُ هذا الرجلَ وهو طليقٌ مثل جوادٍ أدركَ بعبقرية حاسّة شمّه عطر الرمل.

أبوريحانة لا يأبهُ لرائحة الانطفاء، ولا لدَم الْعُذُوبَة، ينزّ من خَنَاجِرِ الصّهِيلِ، وصَهواتِ رَدِيمِ الْعويل.

بالأمسِ البريقِ القريبِ  لمعَ جَسَدهُ عندما دفنَ شبقهُ فِي أرْمِدَةِ الْمَشْهَد. وهاهو اليوم يمتلك جسداً يشبه طائراً يشبه غيمة. في خوافيه يرقد يقين الماء. وفي قوادمِهِ تنامُ تفّاحة...

يركب أبوريحانة فرسا نزحتْ من دم غزالة، تحب الموسيقى وتركضُ مثل قصيدة. أهداها إياهُ شيخٌ علم أن سيرته انقطعت عن فعل الكتابة. قال له في فراش احتضاره:

انظر يا بنيّ إلى تلك الشجرة حيث مربط الفرس. قال: نظرت. قال: فما أنت واجد؟ قال: شجرتيْن.

الله... الله... الله... لا أجدر بالفرس أحد غيرك. هي لك يا ولدي... ثم ودّع.

ساق أبوريحانة الفرس خلفه بغير رسن. كانت تتبعه مثل ظله. لا تحيد عن خطوط طوله وعرضه كأنها مصنوعةٌ منه.

و ذاتَ مجلس سأله صاحبه الثريّ إن كانت الفرس التي في ملكه للبيع.  أحسّ أبوريحانة بالقصيدة تخرج من جنبيه كأنها السفود الحامي من قلب الصوف. لم يحدث أن التقاه بعدها أو صادفه. الفرسُ كَائِنٌ طَرِيٌّ يَسْتَلْقِي عَلى جَسَدِ تُفّاحَة. الفرس جَنّةٌ لِفَراشاتٍ لا تَتَدَثّرُ بِالْمَعاطِف... اِنْتَهى .

رحل أبوريحانة فِي قلب الفرس. ثم عاد وفي حوزته علم من الكتاب. تعلّم كثيرا. تعلّم أن الأنثى قَارُورَة. تعلّم أيضاً أن يستقبلَ القضمَ قبل أن يشْرَبَ مِنْ عَيْنِ النّار.

قال الراوي: لم هذا التغميضُ والله فسح باللغة عوالم الناس والأشياء؟ سمع أبوريحانة هذا الحكي فرامَ إلى شجرة والتحف الظلَّ ثم تغطّي ببعضه. نامَ قبل أن تأكل الرواية بقية الثمر في جرابه. وقبل أن تشرب بقية عطشه المسكوبِ في شرايينه. ثم فرّ في نومته إلى جوف الفرس.

 سمع المستمعون في مجلس الرواية أن أبا ريحانة همسَ قبل أن ينام قائلا: لا تَنْشُروا خَبَرَ مَوْتِي.

***

نورالدين حنيف أبوشامة

في العلاقات، كي لا نُنسى، لسنا بحاجة لأن نكون استثنائيين. يكفي أن نمرّ بصدق، بنوايا طيبة، وببساطة عميقة. حينها، يبقى أثرنا، ولا نُنسى.

علّمتني الزراعة أن أنظر جيدًا إلى التربة قبل أن أغرس فيها بذوري الثمينة. فالبذور التي أرجو منها شجرًا وزهرًا وثمرًا، تستحق أن تُمنح أرضًا تُعنى بها، كما أعتني بها أنا.

ليست كل تربة صالحة. فبعضها تغمره الأملاح، سبخة، حتى زراعة الشعير أو الجت فيه تُعد هدرًا للطاقة والموارد. وإصلاحها مكلف... وأنا في غنى عن خسارات لا مردّ لها. وهناك تربة أخرى، تبدو جيدة في ظاهرها، لكنها تخفي أعماقًا مريضة. ألقي فيها البذور، فلا ينبت منها إلا القليل. وما ينبت، يكون هزيلًا، بطيء النمو، مرهقًا في رعايته.

تربة تعاني من أمراض خفية، وإصلاحها يستنزف الوقت والعمر، رغم مظهرها اللامع. أما التربة الخصبة… فهي التي تحتضن البذور بمحبة، وتنبتها بعنفوان، وتمنح في مواسمها أطيب الثمر.

وهكذا هم الناس... في داخل كل إنسان تربة: عقلٌ وقلبٌ ونفسٌ تحمل خصائصها الخاصة. لا تتعجّل بإلقاء بذورك، ولا تهدر مواردك دون تمعّن. اختبر التربة ببذور بسيطة أولًا، وتأمل كيف تنمو… فما لا ينبت، لا يُجبر على النماء. وما ينمو بضعف، لا يستحق عمرك.

فلا تستثمر في شخصٍ لا يرى ولا يقدّر استثمارك فيه، لأنك لن تجني سوى الشوك، وهدرٍ واستنزافٍ لطاقتك. وحتى إن لم تُثمر التجربة، لا تندم أبدًا…

ما دمت قد مررت بها بنية حسنة، وبقلب صادق، وببساطة محبة. فالدنيا تُذوّقنا الحلو والمر، وتختبرنا بالتناقضات. وكيف لنا أن ننضج إن لم نتذوق طعم الفقد؟ لا نمو مجاني... ولا نضج بلا ثمن.

***

حميدة القحطاني

 

أين أنت؟

قمرٌ نادى حشود الزمن، واستغاث الجرح يشكو من وحوش البشر، جاءنا الليل بهمٍّ وبرعب، يصنع الأموات جند من فصيل الخطر، لا ترانا عند موت، لا نريد ما تريد، فالظلام صار ضوءً، والحياة دون ضوء، والضياء لا ضياء، فاطلق الرصاص وامضي، أنت مجهول، أنت معلوم، أنت موت جاء يسعى، نحو قوم بلباس القدر.

ألف أنت كل يوم، في بلاد النذر، ألف أنت كل ليل أخذوه، يدفعوه، يضربوه، يثقبوه، يطردوه، يأمروه، ثم يركض، قلبه قلب الطريد، روحه روح الوعيد، يطلقوا النار عليه، يصرخوا أنت القتيل، يستحموا بالدماء، يستعينوا بالغباء، يغفلوا كل نداء، يغضبوا رب السماء، ويطوفوا بين أبناء العناء، مثل رب يتمادى بالرياء، مثل جمع يتبارى بالشقاء، صارت الأموات من حسن العطاء، صارت الأموات من طقس النقاء، في بحيرات التراخي والهلاك، في مسارات التلاحي والفناء، أطفئوا الأنوار وامشوا بالعماء المنتظر.

لا رجاء، لا رجاء، قالها "لوركا"، بصوت الإمتحان، أخذوه ذات ليل، فرق الموت تصول، لا تريد مَن يقول، بكلام الحب شيئا، دينها دين الدماء، نهجها نهج البلاء، إستلذت بقتيل يجعل النور وباء، فرق الموت تصول، مثل شيطان المآسي، في جحيمات الضياع، تشرب الشر بكأس، من جلود وجماجم، تستبيح الحي ليلا، تحمل الشر كدين، وتصلي في جموع الخائفين، أيها الذئب الأمين، تأكل الحمل السجين، وتغني بعواءٍ فوق أشلاء الطعين.

أين أنت؟

تبحث الأيام عن بعض الحنين، تسأل الأقمار عن معنى الأنين، والزمان مثل حفار المآسي، في بطون الجائعين، والحياة دمعة تشكو الحزين، والنساء كسبايا الغائرين، وزعوا فيء المخازي، واحصدوا زرع النجاس، واطعموا الناس الوطين، خربوا عش الرجاء.

بشر صار كطين، مثل رقم، مثل شيء، مثل حمال السنين، لا حياة، بل تعازي ودموع وأنين، وانطلاق نحو ذباح الحنين، كل عشق يستحم بدماء العاشقين، كل حب يتعاطى الموت خمرا بأكف الضائعين، كل أحلام جدودي محض طين، كل أصوات الزمان لا تعين، فالكتاب لا كتاب، والسلام لا سلام، والزمان دون عقل، فجر المسعور أفعال الضغين، أطلق السجان أوجاع السجين، وبنى العصفور عشا فوق أشلاء البنات و البنين، طير شر صار خفاقا ويعلو في بلاد الآثمين، طير حب يستغيث من غراب يحتسي صبحا دماءً، وكثيرا من لحوم البائسين، للغراب كل صبح، وجبة فوق أجفان الرصيف، جثثا كم يشتهيها طائر الجرم المبين.

أين أنت؟

يصنع الموت عجيبا، ينحر الموت جنينا، صار للموت جنودا، وجموعا تحسب الموت كدين، تتغذى بالدماء والدموع، تتربى فوق أشلاء الضحايا، تحتسي خمر المنايا، لذةٌ تنمو وتغدو قوةً، يدمن القتال في أفعالها، دون ذنب، دون معنى، يخرجوا نحو المآسي، يزرعوا الخوف بقلب، يدفنوا كل مفيد، يزرعوا سم الأفاعي، في صدور الجائعين، يطعموا الناس دماءً، يسكبوا زيت التلاحي، فوق أهوال الصراع، ينثروا كل المعاصي، يلبسوها ثوب دين، يرفعوها لسماء، مالها فيها رجاء، كيف صار كل شيء، مثل ريح في هياج العاصفات، قالت الأحزان تبكي، ظالم هذا البشر، كافر هذا البشر، قد طغى فيها فسادَ وابتكر.

أين أنت؟

تحت أقدام الشجر، قرب ساق، ترتدي بعض الثرى، قرب نجم، بين أكوام الورى، تشرب الماء دماءً ودموعا، كيف للقلب يجوع لضياء، وشراب من رحيق المنتهى، كيف للروح يكون مثل طيرٍ في براثين الأذى، يأكل الطير طيورا، يقتل الإنسان أحلام البشر، يأكل الإنسان أسماك الظنون والرياء والترائي والنفاق في بحيرات الخطر، ويسير كملاك بين جمع، نحو حتف في مدارات القدر، برر الإنسان شأوا شائنا دوما ويبغي ما نظر، يسكب الخير بكأس من عظام وجلود عندما صاد البشر، يحسب الخير كشرٍ، يتداعي نحو همٍّ من ترابٍ، فيه بغضاء التلاحي وشرور المحتضر، بشر صار بباء غير ما يدعو السفر، ليس هذا، ليس ذاك فنداء الأرض قتال البشر، ووحوش الكون تستعدي البشر، إنه الخوف الرهيب، كوكب تاه بكون

رعبه رعب عجيب، يتلهى بدماء ودموع، وغذاء من لحوم في متاهات الخدر.

أين أنت؟

أنت أرض، أنت كون، أنت صوت هز أعماق الوتر، أنت قطر ذاب في قلب الشجر، أنت أحلام تنامت بين حبات المطر، أنت سيل من عروش الفيض يجري مثل شلال القدر، أنت محمول بقلب من ضياء الكون من نسل الظفر، أنت بحر فيه ماء، فيه أحياء تنادي يا إلهي

لسجين الماء لا يحلو المفر، أنت معجون بطين، أنت منثور بريح، أنت في خمر الوجود

فوق أكوان السهر، أنت سلاف الرحيق، أنت جذر يمنح الأشجار روحا، يطعم الأوراق أنقى ما تريد من طعام، ثم تربو لسموق، تشتهي ضوء القمر، أنت فنجان الأماني، أنت أوهام الرجاء، أنت صرخات الأمل، أنت أنت، دون أنت سوف تبقى كضياء، نورها نور النجوم، تتبارى كي تزيح ظلمة فاقت سوادا إستعر.

أين أنت؟

قاتل دون التراب، عاش مهموما يعاني من عذاب فاق أوجاع الجحيم، مات حيا حينما أردى وجودا لا يموت، قاتل مقتول قتل، غادر محكومَ غدر، جائر في بؤس جور، فالقتيل برصاص أو بسيف، قاتل يرغو بسوءٍ، مات فيها، ومضى يرثي زمانا، ووجودا بين أشلاء الضمير، يحسب الموت حياة، والحياة مثل موت أو تزيد، يشتهي نار السعير، يرتضي موتا عنيفا، كيف يخلو من عذاب فاق أهوال العذاب، كيف يشكو لزمان، قد تخطاه بجرح ينزف الروح صديدا، ويئن مثل مطعون الحنايا والهواء كل ما يدري يريد، ذلك الكف يلوم، أصبع يبكي حياة، كيف صار الكف حفار الوعيد، كيف صار الجسم قبرا لنفوس القاتلين، كيف أنت صرت مقبورا بجسم وتنادي مَن يعين، إنها حمراء تأتي، أنت مسجور بذات، والسجير أنت فيها، واللهيب والدخان، والرماد لن يكون، بل سعير سوف يبقى يتولاه السعير.

أين أنت؟

إنها حمى الشرور ومسيئات النفوس، تأمر الذات بسوءٍ، تشتهي طعم الحقير، تركب الأشجان تمضي بين قطعان الحمير، فترى فيها كلابا وذئابا وأسودا وصقورا ووحوشا، من جنون الوحش يحدوها الكثير، صرت حملا مأكولا بين أنياب الضحايا، فالوحوش لا وحوش بل تراها في صراع التائهين، يا حبيب الانتهاء، وملاذ الابتداء وصراط الاعتلاء، ومدير الفيض في كون الضياء، أنت لا تسعى إليها، إنها جاءت كطيف، ارتأت فيك مناها، ثم غابت، ذلك الوحش يراها، قد سعت نحو عُلاها، ما لها ميناء حب، ما لها في البحر شأن، فتراها قد تدانت

من عيون الوجد أو فوق ثراها.

أين أنت؟

حالمٌ قبل الصباح بليالٍ من نجوم تائهاتٍ في مجرات الخراب، ضوؤها ضوء حزين، نورها دمع هطيل، لونها لون الأماني، في بلاد من مياه ودماء ودموع، يشتهيها النفط كي يغلي السعير، يشرب الأشلاء بئر ينفث الأوجاع بترولا ونارا، إن أنف الأرض بئر يحتسي الناس ويلقي من عصير الناس أنواع الوقود، نحن نفط، نحن طين، وبنا الأرض تدور، دون نفط لا تدور، دون موت لا تدور دون قتل لا تدور، وكذا نحن ندور في مدارات الثبور، نستعين في خطانا بالمعاني والنذور، نحسب سفك الدماء مثل قربان السرور، كلنا وهم يطوف في حجيرات الجهول، علمنا علم قليل، جهلنا جهل وفير، رأينا رأي صغير، مالنا بد ولكن هكذا تمضي الحياة، والجراح مثل أبواب الضياء، الدماء لونها لون المياه، والسماء ما بدت فيها نجوم، صار مقتول الطغاة نجمة ألغت نجوما لامعات بالفضاء، فغدا الليل صباحا دون فجر، ألغت الأحقاد أطياف الوفاء

فامطري أجساد خلق ماء روح فوق رمل اللاهبات بسخاء، غابت الأجسام في جحر التناهي ومضى صوت الحياة، يتغنى بعطاء الأنبياء، أزلي، أبدي، رغم أوجاع البرايا سوف يبقى

شعلة فيها رجاء!!

***

***

د. صادق السامرائي

.......................

*هذه الكلمات مكتوبة بتأريخ 18\10\2006 في المكان الذي يُذكر أن الشاعر الإسباني لوركا قد قتلوه فيه، وما بين الأشجار التي يُقال ربما قد دفن قربها، وعند شجرةٍ شهدت ما فعله الجناة بصوت الحب والحرية والحياة، وقد ذكرني بها أخ عزيز وأوتار عوده تسامرنا، وطلب مني إعادة نشرها!!

"سبحان خالق نفسي كيف لذتها

فيما النفوس تراه غاية الألم"

كُتب الكثير عن الشاعر المتنبي الذي طغى على ساحة الأدب العربي منذ تألقه وإلى يومنا هذا، ففيما نكتبه نذكر أبياتا من قصائده، التي نتفاعل معها كمنبع للبلاغة والإبداع الشعري الألمعي الأصيل. والعديد من أبياته تعادل عشرات وربما مئات القصائد التي قيلت بعده. فهو شاعر إخترق القرون وإنتصر على الزمن، فصرعه بكلماته الخالدة.

كان الرجل مغامرا يطارد حلما عصيا، فقرر تجسيده بالشعر، ليطلق مآرب نفسه فيه، ويكون مملكته وعرشه وكرسي وجوده الإنساني المنير، الذي لا يعادله كرسي أو مملكة أرضية، لأنه يصنع الخلود ويشيّد جنان الأبدية وأكوان السرمدية.

وهكذا أمضى عمره في تفاعلات متوهجة مع واقعه ورموز القوة والإقتدار فيه، فلم يعرف الهدوء والسكينة، كأن أيامه تستعر أينما حلّ أو نزل.

"أمط عنك تشبيهي بما وكأنه

فما أحد فوقي ولا أحد مثلي"

وعاش المتنبي حيا بيننا، لأنه قال ما فينا بوضوح وشجاعة وتقنية فنية متميزة.

وفي قصائده تتجلى صراعاته مع ذاته وواقعه، ومحاولاته للوصول إلى أهدافه النرجسية، ذات الرؤى الذاتية الكبرى.

وربما أمعن في حب ذاته ورؤيتها كما هي في خياله وأعماقه البعيدة، لدرجة أنه فاق في تقييم نفسه واقع حاله وحقيقة أيامه ومقاساته.

فكان منفصلا عن وجوده في واقع الحياة الذي يواجهه، ومنطلقا في فضاء خياله الرحيب، وفي قصائده يشير إلى نكران ما هو عليه ويقترب مما يراه عن نفسه ودوره وقيمته وحكمته وعقله.

" سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا

بأني خير مَن تسعى به قدم

*

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي مَن به صمم"

وقبل أن يغامر في رحلته التي كان واضحا بأنه سينتهي فيها، توفرت لديه المعلومات والأخبار التي تشير عليه أن يعدل عن طريق وجهته لأنه سيلاقي حتفه حتما، لوجود الاستعدادات للقضاء عليه .

لكنه أنكر ما وصفوه له بدقة وحذروه من عواقبه بشدة، وإتبع نداءات ذاته وصوت خياله، وإنقطاعه عن واقعه ونكرانه لمجريات الأمور والأحداث فيه.

ففي رواية ما جرى قبل شروعه برحلة الختام جاء ما يلي:

" وكان أبو الطيب قد مر بأبي نصر محمد الحلبي فأطلعه على حقيقة الأمر، وما ينويه فاتك من الشر له ونصحه بأن يصحب معه مَن يستأنس به في الطريق، فلم يزدد إلا أنفة وعنادا وأبى أن يصحب معه أحدا قائلا: أنا والجراز في عنقي، فما بي حاجة لمؤنس.

ثم قال: والله لا أرضى أن يتحدث الناس بأنني سرت في خفارة غير سيفي.

فحذره أبو النصر كثيرا فما كان منه إلا أن أجاب: أبنجو الطير تخوّفني ومن عبيد العصا تخاف عليّ؟!!

والله لو أن محضرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون لخمس، وقد نظروا الماء كبطون الحيات، ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده، معاذ الله أن أشغل فكري بهم لحظة عين!! فقال له أبو نصر: قل إنشاءالله.

فقال: هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيا ولا تستجلب آتيا.

ثم ركب وسار فلقيه فاتك في الطريق فقتله." (ديوان المتنبي، دار الجيل بيروت)

لقد عاش المتنبي خمسين سنة (915-965 م)، يمدح ويهجو، وفي الحالتين كان شعره مؤثرا ومدويا، وبقدر ما تجزل مدائحه العطايا عليه، فهجائياته تثير الضغينة والعداء.

"وفي قصة مقتله يُحكى أنه قال قصيدة هجا بها ضبة بن يزيد العيني، وكانت والدة ضبة شقيقة فاتك إبن أبي جهل الأسدي، فلما بلغته القصيدة أخذ الغضب منه كل مأخذ وأضمر السوء لأبي الطيب.

ولما بلغه مغادرة المتنبي لبلاد فارس وعلم بإجتيازه بجبل دير العاقول تتبع أثره، فاقتتلوا حتى قتل المتنبي مع ولده محسّد وغلامه مفلح على مقربة من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد في السابع والعشرين من أيلول عام تسعمائة وخمسة وستين ميلادية." (نفس المصدر)

والقصيدة التي قتلته عنوانها " أنصف القوم ضبه" ومطلعها:

ما أنصف القوم ضبه وأمه لطرطبه.

وكلمة طرطبة تعني المرأة العظيمة الثديين أو المسترخية الثديين.

وقد تبدو عيبا وعورة في زمانها، وتثير شكوكا عن معرفة ذلك، لأنه من خصوصيات المرأة التي لا يعرفها إلا أفراد عائلتها المقربين، ولهذا إشتد غيظ أخيها وقرر أن يقتله.

وعند قراءة القصة وتحليلها وما جرى قبل قتله بوقت قصير، يتبين أن السلوك كان أقرب إلى الانتحار، لأنه ألقى بنفسه في قبضة المتربصين له من غير إستعداد كافي، وإنما إمعانا بالفتك بالذات، وكأنه يريد أن يعاقب نفسه وينتقم منها، ويتخلص من ثقل الحياة وأوزارها.

وهو ينأى بكل ما فيه عن واقعه ويتفاعل مع فضاء خياله وهيامه النرجسي العظيم، فأصابه ما أصابه، ولما إستيقظ أدركته نهايته المريرة، فكأنه كتب شعرا عجز عن كتابته بالكلمات فكتبه بدمه وروحه، وبرأسه الذي تدحرج فوق التراب.

و"إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا...ألا تفارقهم فالراحلون هم"

***

د. صادق السامرائي

كانت لفتة طيبة من إحدى صديقات الطفولة لحضور "عزومة" على الغداء تجمعنا من بعد زمن المدرسة والامتحانات، كل الذكريات اجتمعت في مكان واحد وبنفس الشغف، سلامات وأحضان وأجواء من الألفة وربما العبث الذي كنا بحاجة إليه بعدما وقعنا في فخ المسؤوليات.

وبعد الترحيب بنا في منزلها المختنق بروائح مما لذ وطاب، وقع اختياري على مقعد بجانب صديقة لي من أيام "ابتدائي"، ومن هُنا تبدأ قصة أغرب من الخيال!

حين شعرت أن روح ما تتفحصني بنظراتها بشيء من الدهشة والسعادة، عينها على "نورا" رغم الزحام والصخب من حولنا، لم تلتفت لأي مخلوق، أنا فحسب، وهو ما زاد من توتري لدرجة أني كدت أسحب جسدي وأرحل بهدوء، ولكنها سرعان ما اقتربت مني كما لو أنها تحاصرني قبل تنفيذ خطة الهروب، وبالفعل، التصقت بي من الجانب الآخر، لأقع أنا في الوسط، بين ملامح أعرفها وأخرى مجهولة الهوية!

لقد فهمت من تلك النظرة أن لها هدف واضح.. أنا ولا شيء غيري!

فما العمل وأنا مهددة من المجهول؟!

قلبت الوجوه التي أعرفها في ذاكرتي، فهل هي منهم؟

كل الإجابات رفضت الاعتراف بها، إنها لا تنطبق على دائرة معارفي لا من قريب ولا بعيد، لا لون البشرة ولا الطول ولا الوزن، ليست في عالمي من الأساس، فمن تكون تلك الجميلة الغامضة؟!

ورغم الخوف الذي شل حركتي وقتها، طلبت من إحداهن تبديل الكراسي بسرعة، لتفعل هي الأخرى أسرع مني!

كانت مطاردة سينمائية مضحكة ومملة!

حاولت أن أتجاهلها وأنغمس في "نميمة" البنات، ولا جدوى من المحاولة.. أنا تحت المراقبة، وإنه لأمر مزعج أن تحاصرك روح لا تعرفها!

بدأت أشعر بحرارة جسدها يقترب أكثر، تصببت عرقاً وتجمدت حواسي، فلم أستطع حتى الصراخ في وجهها بأن تبتعد عني وللأبد.. كل العلامات لا تُبشر بالخير، وأنا حتماً مستهدفة من عصابات الخطف ومافيا السرقة.

تسرب القلق إلى أعماقي بجرعات أعلى، دمي يغلي ومليون سؤال وسؤال يفترس عقلي، تساءلت حينها بصوت خفي يمتزج بالندم: لمَ خرجت من بيتي هذا الصباح؟!

آه يا متهورة!

ها أنا أحارب سلبيات الانسلاخ من عزلتي مجدداً!

قررت أخيراً أن ألتقطت أنفاسي وأواجهها بلا تردد، وقبل أن أسألها عن مبررات ذلك الفيلم الهندي، باغتتني هي بالصدمة!

سألتني عن أخباري، عن سفري لدولة عربية فجأة، وعن أسباب انقطاع رسائلي عنها، لقد لمست في كلماتها لهفة صادقة، ولكن ما أثار حيرتي أنها كانت تناديني بغير اسمي بين الكلمة والكلمة!

تركتها تنطق بما في جوفها من عتاب وحنين واستفهامات لم أجد لها إجابة ولو من باب جبر الخواطر، وبعد أن هدأت العاصفة، أكدت لها بأنه مجرد سوء تفاهم:

"لست هي، فرصة سعيدة."

اصفر وجهها، ارتبكت بشدة، وأصرت أني هي وهي أنا..

رسمة العين والضحكة ورفعة الحاجب وحتى الانفعال، اشتعلت حيرتي أكثر بما قالته لي عن تفاصيل شخصية جداً جعلتني عاجزة عن التصرف!

يا ذاكرتي..

هل سافرت لتلك الدولة أو حتى فكرت فيها؟!

هل سبق وغيرت اسمي؟!

أم أنه برنامج مقالب رمضان وأنا أول ضحاياه؟!

ذاكرتي قوية، ولكنها ليست مُدربة على تسجيل أحداث من وحي خيال المؤلف وحده!

أو ربما مررت بتلك الأيام دون وعي مني!

انفصام مثلاً؟!

ولكن كيف ومتى وأنا أقضي ليلي ونهاري بغرفتي المغلقة بالضبة والمفتاح؟!

لقد حاولت في الحياة كثيراً، وهي أول محاولة للدفاع عن وجودي لهذه الدرجة، أُقسم أني "نورا" حتى لو تمنيت أن أتحرر منها في أوقات الألم، ولكني اخترتها في النهاية!

"لست هي!!"

نطقتها بحزم هذه المرة، ربما تفقد الأمل وتتركني وشأني، وليرتاح ضميري للمرة الأخيرة، طلبت منها أي إثبات يخرج بنا من المأزق، فلا الوقت ولا المكان يسمح بتلك الصراعات الوجودية!

الغريب أنها وافقت على الطلب دون تفكير، وبعد لحظات أخرجت صورة من هاتفها للفتاة، أو أنا؟!

يبدو أنها أنا!!

هالاتي السوداء، الفراغات بين الأسنان، الرموش الكثيفة.. ولكني استطعت التعرف عليها بعدما استعدت توازني، فلم تنجذب لها روحي، وهي النقطة الفاصلة في الخلاف.

استسلمت بطلة القصة أمام الواقع، واعتذرت لي على وقتي وتعكير مزاجي في سهرة لن تُعوض بسهولة.

مسكينة!

كيف لها أن تجد اختلافاً بيننا لم أجده أنا؟!

إنني وحتى اللحظة لا أعرف من أكون حقاً!

أنا من تكتب إليكم، أم تلك في استديو الهاتف؟!

وهُنا فهمت المعنى..

حين تُصادفك في جسد آخر، ستدفع نصف عُمرك لحماية وجودك، لكي تعلنها بصوت يهز العالم: "أنا هو أنا!"

أدركت كذلك أن للإنسان أبعاد أخرى، فقد يصارع أحدهم الأرق على ضوء القمر، ونسخته هُناك تحتفل بذكرى زواجها، وغيرها تقاتل المرض، وأخرى ماتت!

ولحُسن الحظ ستجد أن شبيهك لا ينتمي إليك إلا في ظاهره فقط، أنت إنسان مستقل بذاته، له إحساسه وفكره الخاص، وهو أيضاً..

ببساطة.. أنتما خطان متوازيان.. لا يلتقيان.

لن أنكر أني اضطربت بعد إدراك حقيقة "يخلق من الشبه أربعين"، صحيح أني سمعت عنها مراراً من "حواديت" الأجداد، ولكن الأمر اختلف بعد أن عشتها بنفسي، وسرعان ما سعدت بها!

الآن اطمأنت روحي بأن الدنيا لن تحكم على وجودي بالإعدام طالما أن هُناك ملامح تنبض بي حتى وإن ابتلعني العدم، وكلما نالت الدنيا مني، خرجت أرواح من تحت الأرض تقتص لي منها.. وهو كل المطلوب.

"ممكن رقم تليفونك؟"

كانت آخر كلماتي لها قبل أن ينفض المجلس، وأنا الآن صديقتها الجديدة، بدلاً من نسختي الضائعة!

***

بقلم: نورا حنفي - كاتبة مصرية

عُرف عن الجاحظ، اديب العربية ومثقفها الكبير، انه فُطر على الميل الى القراءة والكتابة، وان الكتاب ملك عليه كلّ اهتمامه، حتى انه لم يكن يكتفي بقراءة ما يقع تحت يده من كتب وانما كان يكتري/ يستأجر، دكان احد الوراقين/ نساخي الكتب، ليقرأ فيها ما لذّ وطاب من الكتب، وقد احبّ الجاحظ الكتاب وتعلّق به، ما دفع الكاتب المُعجمى العربي الكبير ياقوت الرومي الحموي صاحب معجم الادباء وهو من معاصري الجاحظ ان يقول عنه:" لم أر قطُّ ولا سمعت من أحبَّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنَّه لم يقع بيده كتاب قَطُّ إلا استوفى قراءته كائنًا ما كان ولا عَجَبَ إذ ذاك في أن يُفْرِد الصَّفحات الطِّوال مرَّات عدَّة في كتبه، للحديث عن فوائد الكتب وفضائلها ومحاسنها. والحقُّ أنَّه كان أشبه بآلة مصوِّرةٍ، فليس هناك شيءٌ يقرأه إلا ويرتسم في ذهنه، ويظلُّ في ذاكرته آمادًا متطاولة."

أَبُو عُثْمَان عَمْرُو بْن بَحْر بْن مَحْبُوب بْن فَزَارَة اَللَّيْثِي اَلْكِنَانِي اَلْبَصْرِي المعروف بِالْجَاحِظ 159) هـ-255 هـ(لجحوظ وبروز في عينيه، أديب عربي كان من كبار أئمة الأدب في العصر العباسي. ولد في البصرة وتوفي فيها، وقد ولد في عائلة فقيرة متواضعة الحال، ويبدو ان محبته التي وصلت حدّ التتيم بالكتاب، قد حولته الى اسطورة لقارئ جاد أولا وكاتب مفلّق ثانيًا، وقد رُويت عنه قصص وحكايات تُشبه الكذب لما ضمته من مبالغات، لا ريب في انها احتوت في داخلها شيئا من الحقيقة، كما حدث مع شخصيات أخرى عرفها ادبنا العربي القديم مثل الحسن ابن هاني ابي نواس، ونصر الدين جوخة الملقب بجحا، فقد الصق الناس ماضيا وما زالوا يفعلون حاضرًا، كلّ ما تعلق بالمجون بالأول وكل ما تعلق بالفكاهة والضحك بالثاني.

بالعودة الى الجاحظ، يُروي عنه انه تعلّق بالكتاب وهوى قراءته له، منذ بدايات تفتح وعيه الأول وفكّه المبكّر للحرف، حتى أنه عادة ما كان ينزوي بكلّ ورقة وكتاب منكبًّا على غرام عمره، قراءة وتأملا، وفي حين كان ميله هذا للقراءة يثير اهتمام البعض، فقد كان يدفع البعض الآخر لاستفزازه فلعله يستيقظ من غفلته مع الكتاب، كما كانوا يرون، وفي هذا السياق يروي عنه الدكتور أحمد كمال زكي في كتاب له طريف عنه، حكاية مُفادها انه عندما كان في نحو العاشرة من عمره طلب من والدته ان تأتي اليه بالطعام، فما كان منها إلا أن أتت إليه بوعاء ملأته بالأوراق والكتب، وذلك ضمن محاولة استفزازية منها إلى لفته انه ليس بالكتب وحدها يحيا الانسان، فماذا فعل الجاحظ؟.. أرسل نظرة الى الفضاء البعيد، وغضّ الطرف عن امه، تناول واحدًا من الكتب المُقدّمة إليه، وراح يقرأ فيه منعزلًا عّما حوله وغائصًا في بحور كلمات ذلك الكتاب وفضاءاتها الرحيبة.

لم يكن الكتاب، كما تذكر مصادر عديدة، يفارق يديّ الجاحظ الا ليعود اليها، بلهفة مشتاق ومحبّة عاشق، فكان يُقبل على قراءته إقبال العاشق المُدنف على محبوبته وحليلة قلبه وروحه. وهكذا امضى الجاحظ سحابة عُمره متنقلًا بين كتاب آخر، ما ان ينتهي من قراءة كتاب حتى يتناول آخر ليواصل القراءة، وكأنما العالم كلّه تحوّل الى كتاب لا بُدّ له من قراءته، قبل ان تأتي اللحظات الأخيرة، لحظات الفراق والابتعاد عن ذلك المحبوب العزيز الغالي.. الكتاب.

أمضي الجاحظ جُلّ اوقاته بين أمرين شغلا حياته وملآها بكل ما هو مُسلٍّ ومُفيد، أحدهما القراءة والآخر الكتابة ويُخيّل لي أنه كان يعتبر نفسه قارئًا أولًا وكاتبًا ثانيًا، وذلك للعيد من الأسباب، التي يمكن لكلّ منا، ان يتكهّن بها وان يعرفها بالمُعاينة والحدس، منها معرفته أنه يوجد في داخل كل قارئ جادّ، كما يشهد تاريخ الادب عبر العصور، كاتب جاد، ومنها أيضًا انه لا يمكن للإنسان الكاتب ان يكتب في فراغ، وأنه بالتالي استمرار الى أفكار وثقافات لا بُدّ له من معرفتها عبر الاطلاع عليها كي يتمكن من ان يكون جزءا خلاقا ومبدعا فيها.

رفع الجاحظ لواء الكتاب قارئًا وكاتبًا، طوال أيامه، ومما يُقال عنه انه خرج من بيته ذات صباح مُشرق ومضى في طريقه متكئا على عصاه وجارًّا قدميه بصعوبة، ساعيًا الى دكان أحد اصدقائه الورّاقين، وعندما دخل الدكان رحبّ به صاحبه، وهيأ له كل ما تتطلّبه القراءة من راحة في المجلس وهدوء في الجو، وأغلق عليه باب دكانه، مودّعًا إياه وقائلًا له إنه سيعود في ساعة متأخرة من النهار لانشغال لا بُدّ له من تنفيذه. ما إن مضى ذلك الوراق غائبا في طريقه، حتى انكبّ الجاحظ، على الكتب يَعُبّ مِن مناهلها كلّ ما لذ وطاب من أفكار ومعلومات، متفكّرًا متمعّنًا ومتأملًا، ومسجلا ملاحظاته على قُصاصة ورق مُختصرا أكبر الأفكار وأكثر المعلومات غرابة واثارة فيها، ومضى الوقت في تنقّله بين كتاب وآخر وورقة واختها، إلى أن أخذ منه النعاس مأخذًا شديدًا، متكئًا على مجموعة من الكتب، واسلم عينيه للنوم، وكانت تلك نومته الأخيرة..

عندما عاد صاحب الدكان في المساء، فتح بابها بيدين حانيتين ومُقدّرتين لضيفه القارئ الأسطوري، وعندما دخل فوجئ بمشهد ستتحدث عنه الأجيال فيما بعد، لقد وجد ضيفه وقد غمرته الكتب ولم تظهر منه الا يداه وقد اطبقتا على كتاب يتحدّث عن تاريخ العرب وامجادهم العظيمة. أزال الرجل/ الورّاق الكتب من على جسد قارئه ومحبوبه الكاتب المبدع في كل المجالات الذي بات معروفا في اقاصي الدنا وادانيها، ازالها بكلّ رقة ومحبّة لضيفه الكريم، وعندما اتي اليه بكوب ملئ بالماء ومدّ يده إليه به. فوجئ بأن ضيفه لا يستجيب له، عندها فهم انه غرق في بجور الاسرار النهائية، وأنه لن يرى ضيفه بعد اليوم، الا عبر صفحات مؤلفاته الرائعة، مثل كتبه البيان والتبيين، الحيوان، والبخلاء.

هكذا انتهت حياة الجاحظ بالضبط كما ابتدأت برفقة الكتب، وفي دكاكين الوراقين، لتواصل صفحات حياته ومؤلفاته، أمام كلّ مُحبّي الادب الثقافة والعلوم في مختلف العصور التالية، وليتحوّل الجاحظ بعد ذلك وربّما قبله الى اسطورة تُروى ضمنها القصص وتُنسج الحكايات. صحيح ان ما رُوي عن جاحظنا، فيما يتعلّق بمحبته الغامرة للكتاب، قد شابه الكثير من المبالغات، وربّما كانت شطحاتنا المتخيّلة في حديثنا عنه فيما سبق، واحدة من هذه الشطحات، ونحن لا نشك فيما تعلق بهذه الشخصية الخالدة قد شابه شيء كثير من الخيال والتنسيب، غير اننا نؤكد مع هذا كلّه ان التجارب علّمتنا انه لا يوجد دخان بدون نار، وان ما رُوي عن كرامات الجاحظ في مجالي القراءة أولًا والكتابة ثانيًا، قد يكون كذبًا، لكنه كذب اصدق من الواقع، شانه في هذا شان الإنتاج الادبي العظيم في مختلف العصور وفي شتى اصقاع العالم.

***

ناجي ظاهر

 

"على قلق كان الريح تحتي/ المتنبي"

سجّل نفسه منذ بداياته الأولى في اواسط الستينيات واوائل السبعينيات واحدًا من ابرز الكتاب الروائيين في فلسطين، وكانت كل رواية حديدة له تزيد في رصيده الادبي الروائي وتضيف إليه ما هو متوقّع ومرتهن بما سبقه من اعمال وشت منذ العمل الأول انه سيعطي الكثير وسوف يتقدّم بالرواية الفلسطينية خطوة أخرى متقدمة، عن كل ما سبق او وازاها من الخطوات الملكية الواثقة والمتأكدة من سدادها وكينونتها ذات الطابع الخاص والمميّز.

يحيى حسن عبد الله يخلف (11 نوفمبر/ تشرين الاول 1944)، فيما بعد يحيى يخلف، كما عرّفته موسوعة ويكبيديا، كاتب وروائي فلسطيني. ولد في طبريا لأسرة من بلدة سمخ الواقعة على الضفة الجنوبية لبحيرة طبريا في فلسطين، عام 1944. هُجّرت أسرته إلى الأردن بعد عام النكبة، وعاش هناك في مدينة إربد ودرس في مدارسها. يحمل دبلوم المعلمين وليسانس آداب من جامعة بيروت العربية. عمل في التدريس والصحافة، ونشر قصصه الأولى في مجلة الأفق الجديد التي كانت تصدر في مدينة القدس، في منتصف الستينيات من القرن الماضي، ثم بدأ ينشر في مجلة الآداب البيروتية، وله نحو 19 عملاً أدبيًّا ما بين القصصي، الروائي، وأدب الطفل، وقد صدر له خلال فترة عطائه الادبي، منذ بدايتها الأولى حتى هذه الأيام، عدد من الروايات، كانت اولاها "نجران تحت الصفر"، وهي رواية قصيرة، عام 1977، وأعيدت طباعتها، فيما بعد بقليل، ضمن منشورات صلاح الدين التي نشطت ابان تلك الفترة في القدس، تلا هذه الرواية عدد من الروايات منها تلك المرأة الوردة 1980، نشيد الحياة 1983، بحيرة وراء الريح 1990، ماء السماء 2008، وراكب الريح 2015، وهي الرواية التي سأتوقف عندها، كونها مثلت ذروة سامقة في ابداعه الروائي المتألق، اما روايته الأخيرة، كما ورد في ويكبيديا، فقد حملت عنوان اليد الدافئة وصدرت عام 2018.

بدا يحي يخلف منذ روايتيه الاوليين القصيرتين، نجران تحت الصقر وتلك المرأة الوردة، كاتبا واعدا ومبشّرًا بميلاد رواية فلسطينية ذات قيم أدبية رفيعة وحضور حقيقي، مُستحق وجدير بان تكون له زاوية خاصة ومميزة في ديوان الرواية العربية عامة، ورغم انه كان في بداياته تلك متأثرًا شديد التأثر بالإنتاج الروائي للكاتب الروسي البارز مكسيم جوركي، لا سيما في روايته تلك المرأة الوردة، الا انه ما لبث ان استقل بشخصيته الخاصة وبصمَتهِ المُميّزة، التي طبعت ما وضعه من انتاج روائي بطابع من العمق والتخييل الروائي القائم على رؤية متعمقة ومدركة لكل ما هو جميل، رائع ومُبشّر في الحياة.

روايته قبل الأخيرة، راكب الريح، حصدت بعد صدورها بعام واحد عام 2016، جائزة كتارا العربية ذات القيمة والتميّز، اما روايته الأخيرة اليد الدافئة، فقد تمّ ترشيحُها بعد صدورها بقليل، لجائزة الشيخ زايد الأدبية ذات القيمة التي لا تقل عن قيمة جائزة كتارا.

تعودُ رواية راكب الريح بقارئها إلى فترة الحكم العثماني على بلادنا، القرن الثامن عشر، وتحكي قصة شاب من مدينة يافا الفلسطينية، يُدعى يوسف، (هل يذكّر هذا الاسم باسم النبي يوسف)، هذا الشاب يتّصف بقوة غير عادية وتصفه الرواية بأنه بارع في الخط والرسم، وبعد ان يُضحي بطلًا شعبيًا يُشار إليه بالبنان، يُطلِق عليه الناس لقب راكب الريح، وذلك جراء ما يتميّز به من جرأة وشجاعة، في معاركة ما يواجهه من احداث، عقبات ومصاعب جسام. تستعرض راكب الريح المآثر التي نفذها ذلك الشاب، ولا تنسى الإشارة الى تأثيره المباشر على المجتمع المحيط به. اما في تقديمها صورة حيّة ومتخيّلة لمدينة يافا، عروس البحر، فانه يقرّب الرواية من الواقعية التاريخية، رُغم ما حفلت به الرواية من خيال شاطح، مبدع وخلّاق. 

توضح أي قراءة، مهما كانت متسرعة وعلى عجل، ان صاحبها تأثر أيّما تأثر بالملحمة الشعبية الخالدة الف ليلة وليلة، فبطل الرواية يصول ويجول في عالم الخيال، كما يجول الطائر الخُرافي ذي الجناح الملوّن الجميل في آفاق الخيال الواسعة مترامية الأطراف، فبطل الرواية يلتقي في بداياتها الأولى، خلال معاركته للبحر المحاذي لمدينته/ يافا، بالحوت وجهًا لوجه، غير ان الحوت، كما تقول لنا ما تلي من احداث الرواية، يولّي تاركًا إياه لبطولاته وشطاراته الشعبية، التي تذكّر بما كان يقوم به الشطّار والعيارون (لنتذكر روايات الشطار- البيكارسك)، وما يعيشونه مِن قصص وحكايات تكاد تفوق ما يصنعه الخيال، ويتوقف القارئ، وقد توقّفت شخصيا، عند قيام علاقة مُحبة وداعمة ليوسف في تحقيق أهدافه ومراميه، اقول توقفت عند امرين احدهما مرافقة القرينة ليوسف في تنقّلاته وترحّلاته المستمرة الدائمة، ما يمنحه قوة فوق قوة، ويبّرر بالتالي بطولاته، والامر الاخر مصادقته لغزال يُمكنه عند الضرورة ومواجهة الخطر الداهم، من ركوب الريح وتحقيق ما كاد ان يكون مستحيلا، علمًا أن يوسف يقوم بإنقاذ ذلك الغزال من بين انياب حيوان شرس ومفترس اوشك على التهامه دون أي رحمة.

الرواية باختصار تذكّر بألف ليلة وليلة وتحكي لقارئها الذكي، قصةَ تأثر بنّاء بالتراث الادبي الشعبي، خاصة العربي، ويدل تأثرها هذا في عُمقه بما لا يدع مجالًا للشك، على قدرة فائقة في استلهام التراث بصورة مبدعة خلاقة، وعلى وعي يدُل في ابسط ما يدل عليه، على اننا انما نقف في راكب الريح امام رواية متخيّلة، تكاد تكون تاريخية، وتهدف اول ما تهدف، واخر ما تهدف اليه أيضا، الى ما هدفت اليه الروايات التاريخية الكبيرة، عند والتر سكوت مثلا، ممثلا في قراءة الماضي وكأنما هو الحاضر من ناحية، ومن ناحية أخرى، الى التذكير بان ما حدث في الماضي، ينبغي ان يتكرّر لا سيما فيما يتعلق بالبطولات الهاجعة في الأعماق الشعبية الكامنة.

***

ناجي ظاهر

 

يشهد سوق الكتاب حاليا تراجعا ملحوظا في حجم مبيعاته وتسويقه وذلك بسبب التحولات الكبيرة والتكنولوجيا المتطورة التي أفضت الى ظهور الكتاب الالكتروني والمنصات الرقمية والتي أثرّت بشكل واضح على عزوف قطاع كبير من القراء على شراء الكتاب، كما ان حال الكتاب والى سنوات قريبة مختلفا عما عليه اليوم، فالكتاب في السابق كان محميا من آفة التزوير والقرصنة وكذللك حقوق المؤلفين هي الاخرى محمية من الانتهاك بموجب مواثيق موقعة من قبل دور النشر على عكس ما نراه اليوم من الفوضى وغياب المعايير في النشر والسطو على الملكية الفكرية، كما كان الكتاب يتمتع بأهمية وضرورة لدى القارئ وتتنافس دور النشر على اصدار الكتاب الاكثر رصانة والأجدر بالقراءة وهذا التوجه لا ينحصر في الساحة المحلية فحسب انما يتجلى بشكل واضح في الساحة العالمية، ففي كتابه الممتع (ماركيز.. لن أموت أبدا) يحكي مؤلفه " كونرادو زولواجا " عن الظروف التي كتب فيها ماركيز رواياته والظروف التي رافقته في رحلته لنشرها والمعوقات التي واجهته وتحديدا عند نشر روايته (مئة عام من العزلة) حيث يذكر كونرادو ان دار النشر التي قامت بنشر الرواية المذكورة أخبرت ماركيز ان الطبعة الأولى من الرواية سوف تكون في حدود ثمانمئة الف نسخة مما اثار تعجب ماركيز باعتبار الكتاب الجديد يحتاج الى معرفة بالكاتب في حين هو ما زال في بداية مشواره الأدبي، فجاء تعليقه: " أليس هذا كثيرا للغاية؟ " فأكدت له الدار انها ستبيع هذه النسخ في غضون عام، ولكن المفاجأة ان كل نسخ الرواية بيعت في اول  خمسة عشر يوما، وهناك شائعات في عالم النشر تذكر بأنه بعد أربعة اعوام من نشرها بيع منها ما يزيد على الخمسين مليون نسخة في الأربعين لغة التي صدرت بها، وهذا الاقبال و التهافت على اقتناء كتب ماركيز ليس بالأمر الغريب والمحصور في بيئة الكاتب التي تتكلم بلغته والقريبة من أجواء رواياته انما دول عديدة  شهدت هذا الاقبال على كتب ماركيز ومن بينها العراق، فأنا اتذكر في العام 1986 وهي السنة التي شهدت وصول روايته (الحب في زمن الكوليرا) الى مكتبات العراق كنت انتظرــ مع جمهرة واسعة من القراء ــ ساعات عند باب معرض بغداد الدولي الذي احتضن معرض الكتاب لتلك السنة من أجل الفوز بنسخة من تلك الرواية،  وعندما فشلتُ في المرة الاولى من الفوز بنسخة لسرعة نفادها من الجناح المخصص لبيعها لجأت الى الكلام الناعم والرجاء من الفتاة الحسناء المشرفة على الجناح ان تحجز لي نسخة وفعلا عدت في اليوم التالي وسلمتني الكتاب مع ابتسامة انستني بها مرارة ثمنه الباهض في حينه .

***

ثامر الحاج امين

يغلب على معظم حوارات ومذكرات الأدباء سؤالُ الكتابة، وهاجس الكشف عن عادات وطقوس، يعتمدها الروائي في حواره مع الكون بقوانينه الاجتماعية والتاريخية لإبداع نص مكتوب. لكن يظل سؤال القراءة غائبا، قلما يهتم المُحاوِر أو الروائي نفسه بالحديث عنه، وكشف مسارِبِه التي أفضت لاحقا إلى الامتلاء ثم الكتابة. والسبب أن الروائي هو بالمُحصلة إنسان تحكمه ظروف اجتماعية وسياسية قد تساعد، أولا تساعد، على تكوين عادة قرائية لها خصوصيتها.

كيف يقرأ الروائي؟

وما هي العادات التي كونها منذ طفولته في علاقته بالكتب والمكتبات؟

وماهي خصائص الزمان والمكان التي يعتبرها الأنسب للقراءة؟

إنها أسئلة تراودنا حين يتملكنا الانبهار أمام روائع أدبية كمئة عام من العزلة، ومدن الملح، والطبل والصفيح، وروايات نجيب محفوظ ورضوى عاشور وصنع الله إبراهيم وغيرها؛ من باب الفضول أولا، ثم لتتبع الخطوات القرائية التي قادت إلى إبداع من هذا القبيل.

أن أقرأ هو أن أخلق الصيغة السينمائية العقلية الخاصة بي من نص ما، يقول أورهان باموق الروائي التركي الحائز على نوبل 2006، لابد للإنسان أن يمنح خياله الخاص فرصة القيام بدوره. وما يجعل القراءة شديدة الإمتاع بالنسبة له هو الوعي بالذات، أي أن هناك جزءا من عقولنا يجب أن يقاوم الاستغراق الكامل في النص. هذا هو السبب في أن باموق يحمل معه الكتب كما لو كانت تمائم تجلب السعادة، ليقرأ أينما ذهب، ويفتح الكتاب كلما شعر بالملل ليسترد هدوءه وتقديره لنفسه ككاتب.

غير أن المتعة عند نجيب محفوظ تحولت إلى نَهمٍ حاد لم يخفف منه سوى إصابته بمرض السكري. فكان يقرأ أكثر من كتاب في وقت واحد، ولا يعيد قراءة كتاب إلا إذا كان عملا عزيزا على نفسه كالحرب والسلام لتولستوي، والبحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست.

ويدين محفوظ بشغفه القرائي للشيخ مصطفى عبد الرازق قائلا: "هو الذي علمنا أن نقرأ ونحن نقطع الطريق مشاة، بين بيتنا والجامع الأزهر في كل مطلع صباح قرابة ساعة، وفي مساء كل يوم كذلك".

ولا يكفي تمرير العين والعقل ببطء ليحصل المرء على متعة القراءة، بل ينبغي الشعور بالألفة مع محتوى الكتاب لبلوغ حالة من التواصل الفكري مع المؤلف. كتبت الروائية الأمريكية سوزان سونتاغ الملاحظة التالية بعد قراءة يوميات أندريه جِيد :" أنهيت قراءة هذا الكتاب في الساعة الثانية والنصف صباحا، في نفس اليوم الذي اقتنيته فيه. كان يجب أن أقرأ ببطء أكثر، ويجب إعادة قراءته مرات عدة. أنا وجيد وصلنا إلى المشاركة الفكرية التامة.. لأني لا أقرأ هذا الكتاب فقط بل أبدعه بنفسي أيضا."

والسر في البحث عن الألفة أن البراعة الفنية في بعض الكتب تترك انطباعا قويا يجذبك لأن تواصل القراءة لساعات طويلة.

بالمقابل تحتج فيرجينيا وولف على أية نصيحة يسديها شخص لآخر حول ماذا أو كيف نقرأ. كل ما عليك فعله هو أن تتبع حواسك وتستخدم عقلك من غير الحاجة لسلطة خارجية. أقحِم نفسك أكثر في عالم القراءة دون خطة مسبقة، وانتظر ريثما يستقر غبارها وتهدأ التساؤلات وتضارب الأفكار. بعدها فجأة وبدون إرادة منك، سينكشف الجانب المظلم من العقل لتبدأ بتمرين طاقاتك المبدعة.

ويبدي الروائي السوداني أمير تاج السر حساسية من هذه المسألة، على اعتبار أن المرء مهما كبر وتمدد في القراءة الإبداعية أو غير الإبداعية، لا يمكنه تحمل مسؤولية توجيه الآخرين إلى نهجه في القراءة. فقد يبدو الروائي المخضرم مؤهلا للإشراف على ورشة لتعليم الكتابة، والقاص المهم على ورش للقصص القصيرة، لكن من ذا الذي سيشرف على ورشة لتعليم الناس قراءة الكتب؟

إن الحالة المثالية برأي وليام فولكنر، الروائي الأمريكي الحائز على نوبل 1949، هي أن تجلس إلى طاولة مزدحمة بالكتب وتقرأ. لذا حرص على الاستيقاظ في الرابعة صباحا، والجلوس لساعات عديدة إلى طاولة أهدتها له والدته. ولما ضايقه الصحفيون والمعجبون، بعد نيله للجائزة العالمية، اضطر لبناء جدار عال حول منزله ليواصل القراءة والكتابة معلنا:

"سأستمر على هذه الحال إلى نهاية عمري؛ وأتمنى أن أتلاشى من حياة الآخرين، وأُحذَف من التاريخ من دون أثر ما عدا كتبي!".

وقد تفضي بك الحالة المثالية إلى أن تصبح سارق معرفة، تطيل الوقوف أمام المكتبات لتنفق ما في جيبك مقابل الكتب؛ وتحقق بعضا من حلم ظل يراود الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا: بناء دار مفتوحة ترتب على رفوفها التي لا تنتهي كتبك، وتدعو الجميع للقراءة والكتابة!

وحين يطرأ على جسمك الوهن واعتلال الصحة، وتبحث عن أعذار لترك مكتبتك فريسة للغبار والعناكب والنسيان، يدعوك مارسيل بروست أو ألكسندر دوما الأب لتجريب عادة القراءة على فراش المرض، أو ممددا على الأرض وتحتك وسائد عديدة. من يدري، فقد تلهمك القراءة على هذا النحو إبداعَ عملٍ شبيه ب"البحث عن الزمن الضائع" أو "غادة الكاميليا"!

على الضفة الأخرى من الكتاب، يُحذر الروائي الأمريكي هنري ميللر قراءه من الغرق في الكتب، لأن كل ما يبدو فيها حيويا وهاما ليس إلا مثقال ذرة من تجربة الحياة المباشرة. وسواء كان المرء يسعى خلف المعرفة أو المتعة، فعليه أن يتوجه إلى المنبع.. إلى الحياة نفسها.

ولأن إغراء القراءة لا يقاوَم، ومن شأنها أن تُبقي الكتاب حيا، عبر التوصية المُحبة التي يقدمها قارئ لآخر؛ يهب ميللر قراءه هذه النصيحة النفيسة:" عندما تصادف كتابا ترغب في قراءته، أو تعتقد أنك يجب أن تقرأه، دعه وشأنه بضعة أيام. ولكن فكّر فيه بأشدّ ما يمكنك من تركيز. دع العنوان واسم الكاتب يدوران في عقلك. فكر ماذا كان يمكن أن تكتب لو أتيحت لك الفرصة. اسأل نفسك بجدية إذا كان ضروريا أن تضيف هذا العمل إلى مخزونك من المعرفة أو إلى ذخيرتك من المتعة.. حينئذ إذا وجدت أنه لابد لك أن تقرأ الكتاب، فانتبه بأي فطنة استثنائية تتعامل معه!"

ولعل أجمل نصيحة تلخص سعيك لمحاكاة عادات القراءة عند الأدباء هي مقولة الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير:" لا تقرأ مثل الأطفال، من أجل المتعة، ولا مثل الطموحين، بغرض التعلم. لا، اقرأ كي تعيش!

***

حميد بن خيبش

هما بالفعل القارئان، فقد اشتهرا وارتبط كل منهما في فترة خاصة من عمره بالآخر، وكان لكل منهما فلسفته المتأثرة بالأخرى. نقول انهما القارئان مع ال التعريف، كونهما عُرفا بحبّهما الغامر للكتب وأمضى كل منهما سحابة عمره مرافقا لها، ورائيا فيها وفي قراءتها نشاطا إنسانيا لا بد منه لان تكتمل إنسانية الانسان ولأن يجدّد شبابه ويجعل من الحياة رحلة ممعتة مسلية ومفيدة.

المقصود بهذين القارئين، كما لا يغيب عمّن أحبّ الكتاب ورافقه متزاملًا معه، هما الكاتبان الارجنتينان، جورج لويس بورخس، والبرتو مانغويل، وقد ارتبط اسما هذين الكاتبين، بحيث انه بات من المُستغرب والمستهجن أن يُذكر أحدهما دون ان يذكر الآخر، اما سبب هذا كله فانه يعود إلى كون كل منهما اعتبر نفسه منذ البداية قارئا أكثر منه كاتبا، وان كلا منهما قدّم صورةً يمكن اعتبارها موئلا للرؤية التي تميز القارئ المعاصر.

بين هذين الكاتبين ربطت علاقة.. ابتدأت مصادفة، غير أنها تواصلت قصدًا، وقد تمّ اللقاء الأول بينهما في مكتبة بجماليون، وكان بورخس في حينها في الخامسة والستين من عمره، في حين كان مانجويل في السادسة والعشرين، وكان يعمل حينها امينا للمكتبة الوطنية في العاصمة الأرجنتينية بوينس ايرس، وهو المنصب ذاته الذي سيتولّاه فيما بعد روبرت مانجويل. أعجب بورخس في ذلك اللقاء بمانجويل الشاب القارئ المحب للكتاب، فاقترح عليه ان يقوم بزيارته لقراءة ما أراد ان يطلع عليه من مؤلفات، هكذا تمّت الزيارت الأولى لتتواصل مدة أربعة أعوام من 1964 حتى 68، بواقع ثلاث او اربع زيارات أسبوعية، يستمتع الاثنان فيها بما بالقراءة المشتركة، ويغرقان في البحر المحبب لكل منهما.. بحر الكتاب ولجُجه المبهرة الساحرة. عندما كان مانغويل يعود إلى بيته كان اهل البيت يقترحون عليه ان يسجل يومياته او مذكراته مع بورخس، غير ان مانجويل كان يعيش مع بورخس بكل ما في روحه من محبة للكتاب، وقد وثق مانجويل هذه اللقاءات في كتاب حمّله عنوان " مع بورخس"، وبإمكان من يود قراءة هذا الكتاب والاطلاع على ما أورده فيه مانجويل عن بورخس ان يقرأه بالعديد من اللغات التي تمت ترجمته اليها. الترجمة العربية لهذا الكتاب تمت بهمة المترجم العربي المبدع صالح علماني وصدرت قبل سنوات عن دار المدى العراقية السورية المتألقة.

القراءة للمتعة

بالعودة الى بورخس قارئا، يمكننا القول إنه رأى في الكتاب مصدرا مركزيا للمتعة والفائدة، وعادة ما كان بورخس يشطح في العوالم الرحيبة التي يرتادها مَن يقرأ لهم من الكتاب، أمثال الكاتب الاسباني سرفانتس في روايته الخالدة دون كيخوته، ويتجول مُقلعًا في افاقها، وكان يُفضّل قراءة الروايات البوليسية، علما أنه عُرف بنظرته الثاقبة وذاكرته الحية وغير العادية، ومما يذكر عن بورخس انه اطلع على افضل ما انتجبته البشرية من كتب، وانه توقف عند الكتاب العربي العظيم الف ليلة وليلة وتأثر به ايما تأثر، وكان بورخس كما عُرف عنه أيضًا، لا يصبر على كتاب مملّ او يدخل السام اليه، فيلقي به بعيدا ويبحث فيما يتلو من وقت عن كتاب آخر يُدخل البهجة إلى روحة والمتعة الى حياته. وكان بورخس يعتبر نفسه قارئًا أكثر منه كاتبًا، ويُخيّل لي أنه رُغم اصابته بالعمى التدريجي في أواخر العشرينيات حتى الثلاثينيات من عمره، الا انه اصرّ على مواصلة القراءة، فبعد ان بلغت جدته وقارئته الكريمة التسعين من عمرها، ها هو يلتقي بمانجويل، قارئه الذي سيمثل استمرارًا عمليًا له في رحلته العظيمة مع الكتاب، وسوف يُكرّس جانبًا مركزيا في حياته لتحفيز الناس في العالم على القراءة ناقلًا رغبته في الكتاب عبر عدوى رائعة الى الكثيرين في مختلف ربوع العالم واصقاعه.

قراءة واحدة لا تكفي

اما فيما يتعلّق بهذا الأخير، مانجويل، فقد اعتبر القراءة النافذة الأجلّ للإطلال منها على العالم السري الخفي للروح الإنسانية الشاملة، واعتبر ان إعادة قراءة الكتب الجادة، وبذل ما تحتاج إليه من مجهود، مهمة مقدسة تُغني وتُثري كل من يتصادق مع الكتاب، ووفق رؤيته هذه يمكننا القول إن مانجويل اعتبر الكتاب صديقا متجددا ودائم الحيوية فنحن في كل مرحلة من مراحل الحياة يمكننا ان نكتشف العميق والفاتن من الكتب، غير اننا قد نجد انفسنا في فترات تالية من العمر وقد شدتنا رغبة عارمة لان نعود لقراءة هذا الكتاب او ذاك مما سبق وقرأناه في الماضي. ذلك ان مفهومنا للكتاب وما يتضمنه قابل للتغير والاكتشاف المتجدد أيضا. تناغما مع بورخس، قام مانجول باعتبار القراءة رسالة إنسانية يُفترض فيه نقلها الى الاخرين من اخوانه في البشرية، وقام من اجل تنفيذ مهمته هذه بوضع العديد من المؤلفات التي تحضّ على القراءة وتساهم في تفكيك شفراتها المشجّعة على ممارستها. من الكتب التي وضعها مانجويل عن القراءة نشير الى كتابيه تاريخ القراءة ومكتبة اخر الليل، وقد تمت ترجمة هذين الكتابين الى العديد من اللغات من بينها لغتنا العربية. مع كل ما تقدم ورغمه يرى مانجويل أنه لا توجد مفاتيح سحرية لممارسة القراءة ذلك انه كما يرى توجد هناك لكل قارئ راغب طريقة خاصة تعتبر أفضل من كل ما عداها للقراءة.

هكذا نلاحظ ان هذين القارئين المعروفين في مختلف انحاء العالم، قدّما بحياتهما، كلّ على حدة وبُعد، نموذجًا يمكن احتذاؤه او الاستفادة من تجربته ورؤيته للقراءة على اعتبار انها نشاط إنساني لا بدّ منه استعدًادا وتمهيدًا لان تكتمل إنسانية الواحد منا ولان تندمج روحه في الكل الإنساني الشامل.

***

ناجي ظاهر

الأدب في زمن الدم والخذلان

إنّ ما يجري الآن حولنا، بل ما يتفجّر أحيانًا تحت أقدامنا من مآسٍ وحروب ومجازر، يعيد إلى أذهاننا ذلك النداء الأخلاقي العميق الذي أطلقه الشاعر الألماني برتولت برخت، حين عبّر عن رغبته في الكتابة عن العشاق، والطيور، وغروب الشمس، لكنه لم يستطع، لأن الدم الجاري في الشوارع جعله يشعر بالخجل من أي كتابة لا تشهد على الجريمة، ولا تُصغي لأنين الضحايا.

هكذا تضعنا الكارثة وجهاً لوجه أمام مسؤولية الكلمة. فحين يصبح العالم غارقاً في العنف، يصبح الصمتُ عن القتل تواطؤاً، وتتحول الكتابة إلى محكمة أخلاقية: إمّا أن تكون شهادة حقيقية على الألم الإنساني، أو تكون محاولة للهرب من مرآة الواقع نحو وهم الجمال المعزول. وبهذا المعنى، لا يمكن للكاتب ـ في خضم الخراب ـ أن يُعفى من سؤال الانتماء الأخلاقي، لأن الكلمة إما أن تكون خنجراً في خاصرة الجلاد أو ضماداً على جراح الضحايا.

يقول سارتر في كتابه الأدب هو الحرية: "الكاتب مسؤول عن عصره، ومهمته أن يُحرّض، أن يكشف، أن يشهد"، وهذا ما يجعل الأدب أكثر من فن، بل شراكة وجودية في المعاناة الجماعية. فحين تنفجر البيوت على رؤوس الأطفال، لا يحق للشاعر أن يكتب عن الزهور ما لم يزرعها في المقابر أولاً.

كذلك رأى إدوارد سعيد أنّ "المثقف الحقيقي هو من يختار أن يكون في موقع المساءلة والرفض"، وهو من يتجاوز البلاغة إلى الفعل النقدي، ومن يرفض أن يكون صوتاً في جوقة الحاكم أو صدىً لصوت المنتصر.

إنّ ما تشهده الجغرافيا العربية ـ من فلسطين المشتعلة إلى العراق المجزّأ، ومن السودان النازف إلى سوريا المتعبة ـ لم يعد مجرد مادة إخبارية، بل صار اختباراً لكل ضمير حر. فكلّ قصيدة تُكتب، وكل مقال يُنشر، وكل كلمة تُقال، تُصبح فعلاً أخلاقيًّا يُحدّد الموقع الحقيقي لصاحبه: أهو مع القتيل، أم مع صمت القاتل؟

ولعلّ المفارقة التي أشار إليها ثيودور أدورنو حين قال: "إن كتابة الشعر بعد أوشفيتز أمر همجي"، لم تكن رفضاً للأدب بعد المجازر، بل دعوةً لتغيير وظيفة الأدب. فالشعر الذي لا يُسائل البُنى القاتلة، ولا يهتك القناع عن الوحشية المغلّفة بالشعارات، لا يختلف عن الصمت. والأدب الذي لا يُقلق السائد، ولا يُحرّض على التفكير، يفقد جوهره بوصفه فعلاً إنسانياً يُقاوم النسيان.

لقد حاول البعض، باسم "الفن للفن"، أن يعزل الجمال عن الأخلاق، وأن يجعل من الأدب ساحة ترفٍ روحيّ، لا منبرَ مقاومة. لكن حتى أرسطو، الذي وضع الجمال في صلب التجربة التراجيدية، ربط الشعر بالتطهير، أي بالتحريض على الوعي والشفاء من الوهم.

في هذا السياق، لا بدّ أن نتذكر تحذير فريديك نيتشه من "الشعر الذي ينام على الأرائك"، على حدّ تعبيره، لأن الألم البشري لا يليق به إلا القلق الإبداعي، لا الترف اللغوي. إن ما يكتبه المبدع في زمن المذبحة لا يجوز أن يكون معزولاً عن صرخة، أو منفصلاً عن سياق.

إنّ الخجل الذي عبّر عنه برخت ليس ضعفاً، بل هو ذروة الحس الإنساني: إنه صوت الضمير حين يرفض تحويل القتل إلى خلفية تجميلية، أو معادلة سياسية. إنه خجل الكلمة من أن تصبح تواطؤاً. خجل القصيدة من أن تغني بينما يموت طفل تحت الأنقاض. خجل الثقافة من أن تكون ملاذاً للهرب من جحيم الواقع.

فليست الكتابة في زمن الدم ترفاً، بل هي خيار حاسم بين أن نكون "شهوداً على المجزرة" أو "سماسرة للزخرفة".

وإذا كانت الطيور ما زالت تحلق، والشمس ما تزال تغرب، فإن دم الضحايا يظل أقوى من كل تشبيه، وأسبق من كل مجاز. لأن اللغة حين لا تكون في صفّ الحياة، تتحوّل إلى قناعٍ للموت.

- خاتمة:

ليست القصيدة بيتاً من الورق، بل هي بيتٌ يأوي إليه المظلوم.

وليست الرواية لحظة هروب، بل وثيقة اتهام. وليس الكاتب خبير أساليب، بل شاهدٌ يُستدعى إلى محكمة الوجود. وحين تخجل الكلمات من الجمال، فذلك لأن الدم فضح كلّ ما هو مزيف.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

أحلام السبعينات من القرن الماضي تتسم بحب متوهج لعمل كبير وجدنا أنفسنا فيه نحن مجموعة من الشباب، يجرفنا التفاؤل والحيوية، لا مجال فيه للحزن والاحساس بالكآبة، ومن دون شعور بلحظة (الصدمة) القادمة. كنا مستغرقين بسر العمل والتغلب على المصاعب، نكتشف معاني جديدة رحبة في أداء رعيل من الصحفيين والمثقفين والسياسيين بظل وارف ينتشر في موقعين، يطلّ أحدهما على شارع السعدون قريباً من سينما بابل، يتسع أمامه في الصوب الآخر شارع يؤدي إلى فضاء أبي نواس المزدان بالخضرة والماء والمقاهي والناس إلى ساعات متأخرة من الليل. هذا الموقع تشغله جريدة " طريق الشعب" التي عاودت الصدور العلني في 17 أيلول 1973.

أمّا الموقع الثاني فهو (مطبعة الرواد)، في الشارع المقابل للقصر الأبيض، بعيداً عن الزحام وضجيج السيارات والمارة، لا توحي أشجار الكالبتوس التي تظللها من جهة اليمين والمساحات الخضراء أمامها سوى مشاعر القلق والخوف والترقب، فنحن على بعد خطوات من مديرية الأمن العامة، التي (استقبلت) في زنزاناتها بعد سنوات معدودة (رفاق الأمس الحلفاء) ليتعرضوا فيها إلى الموت بجرعات السم والتعذيب بكل صنوفه. كانت أبنية الأمن تبدو لنا مظلمة معتمة كسواد شاغليها، ورعب أقبيتها السرية، إن مجرد التفكير بهذه (الجورة) كان يسمم حياتنا.

في هذا المكان شيّد أحد رواد الصحافة العراقية (جوزيف ملكون) مبنى لجريدته " الأخبار" التي صدرت في العهد الملكي، ثم واصلت الصدور بعد اسقاطه، كان المبنى مصمماً بطراز معماري وظيفي، جديد آنذاك.

لقد شهدت الجريدة والمطبعة جمعاً لا نظير في الصحافة العراقية، ووجد بعض هذا الجمع شهرة منحته التفوق والامتياز في سنوات لاحقة. لست بصدد الحديث عن هذه التجربة بكل تفاصيلها وأسمائها، فقد سبقني زملاء كثيرون في الكتابة عنها، كما انني تناولتها في مناسبات عدّة، كتبت عن ذاك الجيل الصاخب والمتحمس، عن مفاتيح الأحلام حيناً، وعن الأوهام حيناً آخر. عن التجربة بومضاتها العابرة، وبمضمونها وجوهرها الإنساني.

هذه المرة يقتضي الموقف الأخلاقي ضرورة الكتابة عن أولئك (الشغيلة) الذين يقفون في الظل، وفاءً لهم، وللنكهة الخاصة في تجربة كل واحد منهم، لكنهم متشابهون، انهم جميعاَ لا يملكون وقتاً للشكوى، لم يتناولهم الرواة، ولم يكتب عنهم الشعراء. أحدهم كان (أبو شمخي) حارس المطبعة، هذه كنيته، وحدها كانت تحيلنا إلى الشموخ، لكن لا أحد في ذلك الزمان تجرأ على المزاح معه، وسأله عن اسمه الحقيقي، ربما هو اسمه الحزبي.

أبو شمخي فلاح قدم من ريف الكوت، باعتقاد ان الكاتب شمران الياسري (أبو كاطع) اختاره لهذه المهمة، بعد أن أقنعه ترك مهنة الفلاحة والتوجه إلى العاصمة لأن الحزب يحتاجه لمهمة يصعب على ابن المدينة القيام بها، كان أبو شمخي رجلاً أمياً، لم يدخل المدرسة، ولم يتعلم القراءة والكتابة، لكنه تشبّع بتعاليم الحزب وحفظ عن ظهر قلب ما كان يسمعه في الاجتماعات السرية، وما يردده مسؤوله الحزبي: البرجوازية (غذرة)، الاقطاع (غذر)! الحزب ملح الخبز.

كان أبو شمخي يقف كل ليلة عند باب المطبعة، صامتاً كأنه حجر، مثل شجرة سدر نبتت في أرض عطشى، صامدة بالرغم من الجفاف، كان نحيل الجذع، سمرته لا تشبه غبار المدينة، بل تشبه طين نهر الدجيل، عيناه غائرتان تنوءان بحمل تعب قديم. يقف أبو شمخي في الباب الرئيس للمطبعة كما يقف على باب مقام مقدّس، عليه تقع مهمة عظمى: حراسة (الحلم) بما يملكه من صبر وثبات. تتدلى من كتفه بندقيته الكلاشنكوف وهي تلمع تحت ضوء المصابيح الخافتة، يرتدي زيّه القروي بعقال يميز أهل الكوت، بيشماغ يطوي أطرافة بعناية فائقة، كأنما يتهيأ لمعركة. دشداشته تلتصق بجسده النحيف، يدخّن بشراهة، سيجارة تلو الأخرى، يقرصها بين شفتيه وينفث دخانها بتنهيدة طويلة..

حين يطل القادم من آخر الزقاق، يضع يده على الزناد، ينظر بعين واحدة نصف مطمئنة، نصف متوجسة، وعلى الرغم من ضآلة جسده كان صوته غليظاً أجش: تفضل رفيق! منو أنت؟

ـ أنا فلان.

ـ نعم، أنت فلان، أعرفك، لكن سمّعني (سر الليل).

حصل هذا أكثر من مرة مع العاملين في المطبعة أو الجريدة.  حصل مع رئيس التحرير عبد الرزاق الصافي نفسه حين طلب منه أبو شمخي التوقف عند الباب ريثما يتأكد انه لم ينس (سر الليل)، كان الصافي يضحك بصمت ينتظر الإذن منه بالدخول!

ـ دقيقة رفيق، شنهي السالفة؟ هيه فالتوه !

دخل ابو شمخي إلى استعلامات المطبعة، ثم عاد ليسمح للرفيق بالدخول!

حقيقة الأمر لا وجود لوهم اسمه (سر الليل) في مؤسسة كانت ضاجّة بالحركة ليل نهار، مفتوحة للعاملين والزائرين. كان وهماً ابتدعه أبو شمخي خلق هذا الوهم لنفسه، معتقداً أن مطبعة صغيرة قادرة أن تهزّ عرشاً كاملاً، وبندقيته القديمة الصدئة كافية لردع من يتجرأ لاقتحام المبنى حتى وإن حصل في ساعة غادرة. نصّب نفسه وصياً على المطبعة ومن فيها، كان يظن أنه وحده المؤتمن على حياة العمال والعاملين فيها، وهكذا صار سر الليل عندهم نكتة ناعمة يتداولونها.

ابو شمخي كان حارساً للمعنى، وسطراً لا يمحى من تجربة عنفوان العمل وايقاعها الخاص. هو وأمثاله في المطبعة والجريدة لا يليق بهم النسيان، ولا ينصفهم إلا الحرف النظيف المضمّخ بالصدق.

أين أنت يا أبا شمخي؟ أي قفر هذا الذي ابتلع ظلك، وأية ريح عصفت بك؟ بعد أن سقطت الرايات التي رفعتها بيد متشققة من حرث الأرض، أتذكرك بوجهك النحيل، وجبهتك العالية، وعينيك اللتين كانتا تبرقان كلما جرى الحديث عن الاشتراكية القادمة من (شاخة 8) في ريف الدجيلة، كأنها آيات يقين لا تقبل الجدل. لكن الغد لم يأت يا أبا شمخي، بل جاء الخراب، وانهارت الشعارات!

هل نجوت بنفسك؟ أم دفعت ثمن إيمانك، كما يدفع الحالمون الثمن حين توقظهم مطارق الخيبة؟

سلام عليك يا أبا شمخي أينما كنت روحاً أم جسداً، ها نحن من بعدك، ما زلنا نرتّق الخيبات بخيوط الذكرى، نم بطمأنينة أيها الفلاح الحالم. تركت وراءك حقلاً ظل عطشاناً لوقع خطاك.

***

د. جمال العتابي

تمهيد: التعريف بالشاعر بدر شاكر السياب

يُعدّ بدر شاكر السياب (1926–1964) أحد أبرز رواد حركة الشعر الحر في الأدب العربي الحديث. وُلد في قرية جيكور بمحافظة البصرة في العراق، وعُرف بشعره الثائر على الشكل التقليدي للقصيدة العربية، حيث دمج بين الحداثة الفنية والهموم السياسية والوجدانية. امتاز شعره باستخدام الرموز والأساطير والتعبير عن أوجاع الذات والإنسان العربي. تُعدّ قصيدته "أنشودة المطر" (1954) من أبرز أعماله، وتجمع بين الرمزية الغنية واللغة الموسيقية، وتُعدّ مرآة لآلامه الشخصية وآلام وطنه.

أولًا: التماسك اللفظي في "أنشودة المطر"

1. التكرار

يُكثر السياب من تكرار كلمة "مطر":

"مطر... مطر... مطر..."

(أنشودة المطر، ص: 26)

هذا التكرار لا يُستخدم فقط لتأكيد الكلمة، بل يُشكّل نغمة صوتية داخلية تُشبه وقع قطرات المطر، وتُضفي على النص بُعدًا موسيقيًا وتجريديًا. كما يُوظف المطر رمزًا متعدّد الأبعاد: للألم، للتجدد، وللخلاص.

2. الضمائر

يتنقل السياب بين ضمائر المتكلم والمخاطب والغائب، مما يعكس الانقسام بين الذاتي والجمعي:

"أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟"

(أنشودة المطر، ص: 27)

تُظهر هذه الضمائر تفاعل الشاعر مع "الآخر" (المرأة، الوطن، الذات المزدوجة)، وتعكس تجربة وجدانية شاملة.

3. الروابط النحوية

كثافة استخدام أدوات الربط مثل: "و"، "أو"، "لكن"، "إذا"، "حين" تُمنح القصيدة تماسكًا لغويًا واضحًا:

"وفي العراق جوعُ

وينثر الغلالَ فيه موسمُ الحصادِ..."

(أنشودة المطر، ص: 28)

تُساعد هذه الروابط في تنظيم الأفكار وتوجيه السياقات الشعورية داخل النص.

ثانيًا: سمات المعنى في القصيدة

1. التجربة الوجودية

تعكس القصيدة معاناة الشاعر النفسية والوجودية من خلال صورة المطر التي لا ترمز للخصوبة فحسب، بل للغربة والانكسار:

"كأنَّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام

بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عام

فلم يجدْها – ثم حين لجَّ في السؤال

قالوا له: 'بعد غدٍ تعود'..."

(أنشودة المطر، ص: 27)

الطفل هنا صورة للإنسان العراقي الفاقد للحنان والأمن، والمطر يبعث هذا الإحساس بالأمل الزائف.

2. البنية الرمزية

يرتكز النص على عدد من الرموز المركزية:

المطر: رمز مركب يحمل دلالات الحياة، الموت، الثورة، الخلاص.

العينان، الطفل، الأم: رموز للبراءة، الحنين، والرغبة في الطمأنينة.

المزاريب، الضوء، القبور: رموز للامتداد بين الحياة والموت.

3. التحولات الدلالية

يتميز النص بحركته بين المستويات الشعورية والدلالية:

من الذات إلى الجماعة: من حزن الشاعر إلى جوع العراق.

من الماضي إلى الحاضر: عبر استدعاء الذاكرة والرموز الطفولية.

من اليأس إلى الرجاء: رغم الحزن، يظل المطر إشارة للبعث والخصب.

"أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟"

(أنشودة المطر، ص: 27)

ثالثًا: جماليات المعنى

1. الصور الشعرية الحسية

يُبدع السياب في تشكيل صور شعرية مشهدية نابضة، ذات بُعد بصري وسمعي:

"تكاد، حين تبسم، تنبثق البروق

ويهطل المطر..."

(أنشودة المطر، ص: 26)

تمتزج صورة المرأة بالطبيعة، وتُصبح جزءًا من نظام كوني شعري شامل.

2. الإيقاع الداخلي والخارجي

القصيدة مكتوبة على بحر الكامل بتفعيلات حرة، مما يتيح للشاعر حرية تعبير موسيقية تتناسب مع انهمار المطر:

"وفي العراق جوعُ...

وينثر الغلالَ فيه موسمُ الحصادِ..."

(أنشودة المطر، ص: 28)

الإيقاع يتماهى مع الحالة النفسية والسياسية والاجتماعية التي يُصورها النص.

3. المفارقة الشعرية

يُبرز السياب مفارقات شعورية عميقة:

الجمال وسط الحزن.

النور في قلب الظلمة.

الحياة التي تولد من صُلب الموت:

"والموت، والميلاد، والظلام، والضياء

فكيف ننسى؟!"

(أنشودة المطر، ص: 28)

هذه المفارقة تُمثل جوهر الوعي الوجودي في القصيدة.

خاتمة

في "أنشودة المطر"، يصل بدر شاكر السياب إلى ذروة الإبداع الشعري من خلال تماسك لغوي محكم يعتمد على التكرار، التنويع في الضمائر، والروابط النحوية، إلى جانب ثراء دلالي وجمالي عميق. لقد جعل من المطر معادلًا موضوعيًا يعكس حالة العراق والإنسان العربي عمومًا في صراعه بين اليأس والرجاء، الموت والميلاد، الظلمة والنور. هذه القصيدة تمثل لحظة تحول مفصلية في الشعر العربي الحديث، من حيث المضمون والشكل والرمزية.

***

ربى رباعي - الأردن

.......................

المصادر والمراجع

1. السياب، بدر شاكر. أنشودة المطر. دار العودة، بيروت، 1968.

2. عز الدين، كمال. الرمز في الشعر العربي الحديث. دار الفكر العربي، 1995.

3. جبرا، إبراهيم جبرا. الشعر العراقي الحديث: دراسة وتحليل. منشورات وزارة الثقافة العراقية، 1971.

4. العلوي، عبد العزيز. "أنشودة المطر والسياب والحداثة"، مجلة الآداب، العدد 4، 2005.

5. أدونيس. زمن الشعر. دار العودة، بيروت، 1972.

احلّق الان بأجنحة الذاكرة عائدا الى أيام خالية ماضية، من أواخر الثمانينات والتسعينيات وحتى ما بعدها، لأتذكر كم مارت حياتنا بالثقافة والكتب، وكم أحب الناس في تلك الفترة المباركة الكتاب واخباره، واقبلوا على قراءته واقتنائه اما ليقرأوه هم واما ليضعوه في بيوتهم لعل واحدا من أهالي البيوت يهتدي اليه في لحظة ملل فيروق له، وليدخل بالتالي الى ملكوت الكتاب قارئا نهما ومحبا مدنفا بالكتاب. كانت المكتبات في تلك الفترة قليلة في مدينتي الناصرة وكانت الأنظار تتركز على مكتبة تقوم في مركز البلدة، هي مكتبة الصديق سمير الصفدي، وكان القراء يتوافدون اليها زرافات ووحدانا، وكان ان لفت نظري في تلك الفترة عدد من القراء النهمين، الذين كانوا يتردّدون على المكتبة، في فترتيها، الفترة الأولى بإدارة الصديق المذكور، بعدها بادرة نجله عامر، وقد برز من أولئك القراء عدد ما زلت احتفظ بذكريات دافئة لكل منهم. فيما يلي اعود الى أولئك القراء النهمين، متحدثا عنهم ومذكرا بهم، ضمن محاولة لاستفزاز من احبوا الكتاب وما زالوا لمزيد من المحبة واستفزازا لآخرين لعلهم يواصلون ما ابتدأ به أولئك وما خلفوه وراءهم من اثر يشبه اثر الفراشة الذي لا يُرى.. ذلك الأثر الذي لا يزول، وفق تعبير الشاعر.

قارئ الكتب من كفر كما

ابتدأت علاقتي به عيانًا فطالما التقت عينا كل منا، متسائلة عن هذا الكتاب او ذاك وطالما رأيته يحمل سلته الزرقاء المصنوع من مادة النايلون، مرتفقا إياها بيده، وواضعا بها ما تيسّر له من الكتب. عرفت فيما بعد أنه من عائلة ابرك الشركسية المقيمة في بلدة كفر كما، وقد اكبرت فيه زياراته الى الناصرة وتجشمه متاعب السفر ليشتري هذا الكتاب او ذاك، مما سمع عنه أو قرأ عن صدوره. كان ذلك الرجل دائم الابتسامة، لهذا كان من السهل عليك ان تتحدث اليه وان تتبادل معه الأحاديث عن الكتب، موطن المحبة المشترك بينكما. رويدا رويدا نشأت بيننا علاقة تأسست في بنيتها التحتية على الكتاب، وكان عندما يُعييه الحصول على كتاب أحب قراءته، يتوجّه الي سائلا اياي، حدث هذا مع أكثر من كتاب، واذكر انه أراد ان يحصل على كتاب/ رواية، عنوانها الام الثانية تأليف حكيم تيونوف ترجمة وديع بشكور، تتحدث عن الوطن الشركسي العريق، وانني اخبرته ان الكتاب بحوزتي، فهزّ رأسه وهو يقول لقد تمنيت أن اقرأ هذا الكتاب، وانبعث من عينيه شعاع غريب رأبت فيه واحدة من اجلى صور الوطن. لم اعطه ذلك الكتاب ولم أعره إياه لأنه على ما بدا خجل ان يطلبه مني، وربما كان ذلك لسبب لا ادريه، لكن ما ادريه انني أتمنى لو ان الزمان يعود وأقدم له هذا الكتاب هدية عزيزة غالية تشبه السماء والأرض والوطن عامة. وحدث في موقف آخر انه أحب الحصول على كتاب الهلال عن رامبو وملارميه، وهما شاعران فرنسيان عظيمان، امتلأت حياتهما الاسرار الغريبة والمثيرة، كان هذا الكتاب من تأليف الكاتب المصري رمسيس يونان، شقيق الكاتب المشهور جدا لويس عوض، وقد صدر ضمن سلسلة كتب الهلال الشهرية التي كانت تصل الى بلادنا بانتظام تقريبا. أيضا تكرر المواقف السابق. وبقي ذلك القارئ النهم يتردّد على ناصرتي ومكتباتها، الى ان اختفى وانقطعت أخباره، وقد سألت أصدقاء لي يهمهم امر الثقافة والادب عنه وعن اخباره، غير انني لم اخرج بطائل فلتطب ذكراه.

عامل البريد.. العاشق المتيم بالكتاب

هذا أيضا كنت ما إن ادخل الى المكتبة حتى اراه يتحدّث الى مديرها حول هذا الكتاب او ذاك، وعندما كان يشعر أنه بإمكانه الحصول على بُغيته من الكتب، كانت الابتسامة تفترش محياه الوضاح، اما عندما يشعر أنه لن يحصل على مُراده فقد كان يواصل الامل ويقول: أعرف أن الحصول على هذا الكتاب، وعادة ما كان في موضوع الفلسفة، الدين، او الادب والسياسية، صعب.. غير انني أريدك أن تبذل كلّ مجهود لإحضاره لي. كان ذلك القارئ النهم يدعى سمير بشوتي، وقد أمضي سحابة عمره عاملا في مصلحة البريد، الفرع الرئيسي في بلدتي، ولم يتزوج، كما علمت، وبقي أعزب حتى الأيام الأخيرة من حياته. كان سمير دمث الخلق لطيف المعشر، وقد حدث أكثر من مرة ان دار الحديث بيننا عن الكتب واذكر ان الحديث بيننا دار ذات لقاء لنا في المكتبة حول كتاب الهلال الشهري وكنت معنيا بكلّ ما يصل الى بلادنا من هذا الكتاب، وذكرت امامه انني أتمنى ان احصل على أحد الكتب الصادرة ضمن تلك السلسلة فسألني أي الكتب تعني. فأخبرته انه عبارة عن رواية عنوانها هذه المرأة لي للكاتب الفرنسي جورج سيمنون الذي ناف عدد رواياته على الأربع مائة. واسترسلت في التحدث عن هذه الرواية منوها انها اهلت صاحبها للترشح ضمن قائمة مرشحي الحصول على جائزة نوبل العالمية في مجال الادب. يومها استوقفني بإشارة كريمة من يده وقال لي إن الرواية التي يدور الحديث عنها موجودة لديه وانه سيقوم بإهدائها لي عربون محبة وآصرة عشق مشترك. وبالفعل قام هذا القارئ الكريم في الوقت المحدد بإهدائي ذلك الكتاب. ويمضي الوقت. وتتعاقب السنوات وتجري مياه غزيرة في نهر الحياة لاستمع الى خبر رحيل هذا الانسان/ القارئ الرائع، ولتتحوّل مكتبته العامرة هدية لبعض من الأصدقاء ولمؤسسة كشفية، وتشاء الظروف ان اقتني عددًا كبيرًا منها.. على اعتبار انها من قارئ عشق الكتاب وأحبه وقدّم بحياته وعشقه هذا صورة لإنسان قارئ يمكن ان تكون قدوة ومثالا يُسار في طريقه ويهتدى بعشقه للكتاب.

الرجل الغريب الغامض من حارة الروم

عندما اقمت مع افراد عائلتي في حي الصفافرة القائم غربي الناصرة، واعتبر احدى ضواحي المدينة العامرة باهلها من مهجري قرية صفورية القريبة من الناصرة، كنت كثيرًا ما أتوجّه إلى الناصرة سيرًا على القدمين، وكنت ارى هناك خلال طلوعي "طلعة حارة الروم - انهلة"، او نزولي لها، شخصا طويل القامة رفيعها، وكان يلفت نظري فيه انه يضع في جيب بنطلونه الخلفية صحيفة تمّ طيها بصورة تظهرها وقد اختفى ثلثها في جيبه وبرز ثلثاها خارجه. وعندما حاولت التحدّث إليه، رحّب بي أيما ترحيب، غير انه بقي منطويا على نفسه وصحيفته تلك، في تلك الفترة كنت أرى إليه متردّدًا يوميًا على مكتبة الصفدي، يشتري منها الصحف. يطويها ويضعها في جيبه الخلفي ويمضي. عرفت في تلك الفترة انه يقيم وحيدا في غرفة صغيرة تقوم في أحد اركان حارة الروم، وانه يدعى إبراهيم زيود. للحقيقة اعتقدت انه كان يقرأ الصف فقط، أسوة بآخرين من أبناء بلدتي، قد اتي على ذكرهم فيما يلي، غير ان ما تبيّن فيما بعد، انه شرع بعد ان رحبت به صحيفة الانباء، في اخريات ايامها، واخذت تنشر له المقال تلو المقال، واكاد أقول بصورة يومية، انه قارئ نهم ليس للصحف وانما للكتب أيضا، فقد كان يكتب في السياسة، المجتمع والادب، وبقي يكتب وينشر بغزارة، إلى أن توقّفت الصحيفة عن الصدور، بعدها رأيته عن قرب وعن بعد، وبقي يبتعد إلى أن اختفى وانقطعت اخباره. ولم أعد اراه لا في حارة الروم ولا في غيرها، فقد ولّى مخلفًا وراءه ظلا لقارئ مجيد أحب الصحفية وقرأ الكتاب في غرفته الصغيرة الوحيدة.. ومضى.

إذا كان لي من رغبة إضافية في العودة الى تلك الفترة، فقد تمثلت هذه الرغبة في الإشارة الى عدد من قراء الصحف باللغات الثلاث العربية العبرية والانجليزية، وقد لفت نظري عدد من الأشخاص، الذين كنت اراهم يوميا تقريبا، يقبلون على مكتبة الصفدي، لجمع عدد كبير من الصحف.. دفع ثمنها والمُضي بها، اذكر من هؤلاء: احمد جبيلي، أبا فيصل، ومحمود أبو عطا الحاج، وقد علمت فيما بعد ان هذا الأخير قارئ نهم ومحبّ مُتيّم بالكتاب، فقمت بإجراء مقابلة معه، نشرت ضمن زاوية كنت احرّرها واكتبها أسبوعيا وتنشر في صحيفة الصنارة النصراوية.

***

ناجي ظاهر

٢٤‏/٠٨‏/٢٠٢٤

 

اسمحوا لي أن أطلق اليوم صرخة جديدة من صرخات أوجاعي وكما اعتدت مع كل نوبة فكرية تطيح بي، لعلي أطمئن قليلًا، ولكم مطلق الحرية في الحكم على كلماتي..

أتساءل الآن، وبعد تلك المشاهد والأرواح التي اختبرت صبري على هذه الأرض، هل إحساسي صار يحتضر؟!

لن أخفي عليكم أسراري، لقد عشت بمرارة وأنا أبحث عن إجابة لسؤالي، أتغافل يوم، وأغضب وأواجه أيام، أغرق بالتفاصيل ليلًا، وفي الصباح لا أهتم إن رأيتني أنزف كل مشاعري دفعة واحدة، هكذا سارت الأمور، حتى اللحظة الفاصلة التي أعادتني لصراعي مع الألم مجددًا!

الحقيقة أنها لم تكن بحجم البشاعة التي وصفتها بها للتو، ولكن وقعها على روحي لم يقل عن معنى المأساة، بل وأكثر حتى!

إنها كلمة واحدة التي وضعتني أمام مُفترق طرق..

أعترف بأنها كانت مُغلفة بالمزاح وحس النكتة بطبيعة حال المصري الأصيل، ولكن نكتة عن نكتة تفرق، فلم تكن على مستوى الكوميديا المطلوب بالنسبة لي، إنها وبلا مبالغة المعنى الحرفي لــ "دس السم في العسل" وبمثابة طلقات شيطانية تستهدفني أنا بالذات!

تلك الكلمة التي نطقها أحدهم تعبيرًا منه عن مدى "شطارتي" في إنجاز عمل ما، ولن أنكر أني أتقنه بالفعل، وهو ما أشعل لهيب الحقد بداخله وطرح الكثير من التساؤلات عني في قرارة نفسه..

ما السر في مهارتها العالية؟

مبدعة؟

ملتزمة؟

ذكية؟

ربما، ولكن ليس لدرجة خطف الأضواء من الجميع!

لمَ هي دون غيرها؟

لمَ لا يكون أنا مثلًا؟

الكل يثني عليها.. الكل يمدح فيها.. آه يا محظوظة!!

كل هذا وأكثر سمعت غليانه في أعماقه السوداوية التي كنت أحسبها تنبض ببراءة الأطفال.. كنت!

لم أعرف بحق.. ما المشكلة وراء إبداعي؟!

هل هذه جريمتي الآن؟!

أرجو أن لا أُحاسب على موهبتي في الدنيا!

إنه وبلا شك لمصلحة البشرية كلها، أن أبرع في زاوية خاصة بي، وهو في زاوية أخرى وهكذا، لنتفق في النهاية ونكتمل باختلافنا، ولكن الإنسان لا يعجبه العجب، أو بمعنى أدق، "الأنا" عنده فوق الإنسانيات!

الاشكالية الآن ليست في تلك النكتة السخيفة على اجتهادي المبرر تمامًا، فما أزعجني هو رد الفعل وليس الفعل، أنا من أزعجني!

في ظروف عادية جدًا، يكون الرد السليم عليه بمزيج من التوبيخ والغلظة في التعامل، لكي لا يُكرر ألفاظه السامة أو يكسر الخطوط الحمراء معي على الأقل، تلك العملية التي نُعرفها بــ "التلقيح" كما في أبجدية الشباب، ولكنه هُنا مشروع مئة بالمئة، أي أنني أقف عند تلك اللحظة بعينها وأقتص منه بكلمات تحفظ كرامتي، حتى ولو وصلت بي الشجاعة أن أصعقه بسؤال الجولة الختامية من الصراع بيننا: "وانت مالك؟!"

أعتقد أن التصرف الطبيعي أمام الحقد وأصحابه أن نضربهم ضربة لغوية عنيفة تخرسهم، ومن ثم نعود لإبهارهم بالنجاح مرة أخرى، وهي ضربة في مقتل بالطبع، ولكني لم أفعل ذلك، لقد اكتفيت بابتسامة خفيفة ونظرة باردة وكلمة شكر فحسب!

كنت في بداية تعاملاتي مع البشر، أعرف متى أتحكم في انفعالي، ومتى "أقلب الطرابيزة" فوق رأس الجميع بلا تردد، وذلك بناءً على مكانتهم في قلبي، أو للخروج من جدال عقيم يضيع معه وقتي وصحتي، كنت كثيرًا ما أتفنن في مبارزتهم على الورق بفلسفتي، ومنهم من أشتبك معهم وجهًا لوجه دون أن تهتز لي شعرة، إنه أسلوبي حتى وقت قريب، ولكن ثمة تغيير طرأ على تكويني لا أفهمه، وهو ما يربكني وبشدة!

فهل أنا ضحية صدمة ما أفقدتني النطق؟

هل هي مرحلة متقدمة من النضج؟

هل رغبتي في العتاب تحللت؟

هل مرضت بـ اللامبالاة المزمنة؟

أم أنني غاضبة من الحياة للحد الذي يجبرني على الصمت؟!

لنضع النقط على الحروف الآن..

أنا اليوم لا أطمع في أي رفاهيات دنيوية، وإنما كل ما أريده أن أضع يدي على سبب صلابتي غير المعهودة، أو ربما أنا متماسكة لدرجة تثير غيظي!

ربما سنصل في السطور الأخيرة إلى إجابة واضحة.. ولكن دعوني الآن أصف لكم شعوري ببساطة وبلا تفلسف..

أشعر أن روحي على "وضع الطيران"، إنه ملاذنا من مكالمات ورسائل مملة، وهكذا أنا، صحيح أني بينكم، ولكني أشعر بهدوء غريب يكاد يقتلني، أسمعكم جيدًا، أستقبل حروفكم وأنصهر فيها، بينما أنا في مكان ما خارج الجغرافيا، على الهامش الآمن، ربما لم أتأقلم على الوضع بعد، ولكن فيه نجاتي.

إليكم باختصار ما أعيشه حتى اللحظة..

حين أشرع في رد الطعنة من باب دفع الأذية عني، أتنازل عن تلطيخ يدي بدماء ملوثة، وأخرج بشرف من أرض المعركة.. ليس ضعفًا مني، بل هي أعلى مراتب الشرف كما قرأتم.

"واحد.. اثنان.. ثلاثة.. هيا يا نورا.. انطقيها.. لكِ مكافئة لذيذة إن فعلتيها".. ولا حياة لمن تُنادي!

لقد أصبحت أتجاهل الأذى والثرثرة وكل الهراء الذي لا يُفيد، حتى الانتقام لحقي، من قال ومن فعل ومن يُخطط لهدمي، تركته لرب العالمين..

أدركت أنه سباق زائل، ولحُسن حظي أنني أدركت الحقيقة قبل فوات الأوان.

يا إنسان، ما دُمت تتنفس في هذه الدنيا، عليك أن تتساءل..

من يضرب ضربته قبل الآخر؟

من يُسدد السهم في صدر أخيه أولًا؟

ومن يدفع الثمن وحده؟

كلها استفهامات بطعم الخيبة، وأحمد الله أني من سأل وأجاب، لذا، لم أعد أكترث بالنظرات والهمسات والظنون، فإن الوجه القبيح لعالمنا في توحش مستمر، وأنا في النهاية لا أملك سوى الخير بداخلي، أخشى على هذا القلب أن يقع في الوحل، وأسعى دائمًا لحفظ نبضه والنور فيه من أنياب الظلم والظلام.

أنا على يقين تام بأني وإن دخلت الحرب مع أي مخلوق، فلن أعود منها كما كنت، أبدًا، سأقع ضحية المشاحنات والعداوات وفساد العلاقات، وكلما نظرت إلى الجروح التي خلفتها تلك الحرب على نفسي وعقلي وإيماني، لن أحترم إرادتي التي استسلمت للقسوة في غمضة عين بعدما أحسنت تربيتها في عالم مُختل كهذا.

فماذا عن الانسحاب النبيل؟

لقد انسحبت بكامل قواي النفسية والعقلية والإنسانية، بعيدًا عن مُستنقع القيل والقال، حتى وإن وجدت الجاني يحتفل بفعلته، فلن أنشغل به وبأوهامه تلك، لقد تمكن مني، صحيح، ليس لسواد لسانه أو نواياه القاتلة، وإنما لنسختي الجديدة التي ترفض ذلك العبث البشري من جذوره.. رحبوا بها.

أنا وإن تغيرت، يكفيني أني رأيت الحقيقة، نعم، أرى اليوم أكثر من أي وقت مضى، لقد نجوت بنفسي من بئر الشرور وتقلب الأهواء، وهي أعظم انتصاراتي لو تعلمون.

"من ذوقك".. هكذا انتصرت على جحيم النفوس و"وجع الدماغ"!.

***

بقلم: نورا حنفي - كاتبة مصرية

دهشة التعلم الأولى، دهشة اكتشاف عالم جديد من أنقى اللحظات الإنسانية، شعور بالخوف والفرح البريء مع إحساس خفي بأن الحياة ستبدأ من هنا، من لحظة تصفح الكتاب، حيث تبدأ الأسئلة عن الحروف والصور ورائحة الورق في صفحات كراسات الصفوف الأولى للدراسة الابتدائية،  من بينها مطبوع لا يشبه سواه: (الأطلس العراقي) بألوانه الزاهية وطباعته المحكمة الأنيقة، وإن أسعفتني الذاكرة، أنه مطبوع في أرقى المطابع الهولندية، عنوان الغلاف بخط الرقعة الجميل على شكل قوس، أشرف على إعداده أساتذة متخصصون في الجغرافية، نجم الاطرقچي وأحمد المهنا. كان الأطلس بوابة إلى عوالم بعيدة.. إلى أسماء تشبه الطلاسم، أرددها كتعاويذ مقدّسة، كلما أتصفح أوراقه يخيل إليّ أني أطوف العالم وحدي، صرت أرى في الخرائط أرواحاً لا خطوطاً صماء، كل خريطة كانت تحمل وجهاً مستتراً، استدرجها إلى خيالي، كلغزٍ مرسوم على الورق. كانت نافذتي الاولى نحو المجهول، لا أعرف (كراچي) وعواصم الدنيا، لكنني أحدّق فيها كلما تصفحت الأطلس، لا أعرف ماذا وراء جبال زاگروس، فألمسها بطرف أصبعي، فأشعر أنها تعرفني. كبرتُ وكبرت معي دهشتي بالألوان، لازمني الشغف بالأمكنة، وتأمل الخرائط وأشكال التقسيمات الحدودية، فتحول، كلما تقدمت السنين إلى منهج وتوجّه ودراسة لعلم الجغرافية في المراحل الجامعية الأولى، كانت محصّلتها، كتابان عن الأمكنة: (داخل المكان ..المكان روح ومعنى) و ( ضفاف المدن). يومها لم أقرأ قصة الحكّاء الأرجنتيني لويس بورخيس "امبراطورية الخرائط" بوصفها مفارقة ساخرة، وحكاية فلسفية تشير إلى عبثية المبالغة في التفاصيل.

أدركت لاحقاً أن خرائط الدول نتاج تاريخي وجغرافي وسياسي، تمنح الدول - أية دولة - حدودها وشكلها المختلف مع البلدان الأخرى، هذا الشكل يثير أسئلة عديدة، من بينها: هل توجد خرائط بلدان جميلة وأخرى مشوّهة؟ هل لها امتدادات غريبة أو نتوءات؟ بعض الأشكال تبدو أنيقة، متوازنة، متناغمة، في حين أن خرائط دول أخرى توصف بأنها مشوشة، غير متناسقة، أو مجزأة.

الحقيقة المؤكدة هي أن كل الحدود، لم ترسمها أيادي الشعوب، بل صنعتها إرادات استعمارية على وفق ما تشاء، على وفق مصالحها وقوة نفوذها، هي لا تعبّر على الأغلب عن الواقع الإثني أو الثقافي والاجتماعيّ بشكل دقيق، بل كانت سبباً وراء العديد من الصراعات والحروب الطويلة بين البلدان. في ظل ظروف معقدة واتفاقات ومؤامرات دولية لم تأخذ بنظر الاعتبار مصالح الشعوب. بينما تحمل الخريطة أبعادًا جمالية وثقافية ومعرفية بعيداً عن وظيفتها السياسية، يجعلها أكثر من مجرد أداة ترسيم، أو وسيلة لتحديد الأماكن وتراتبيتها، بل هي طريقة لرؤية العالم، العلاقات بين الأشياء، المساحات، فضلاً عن جمالياتها الخطية والهندسية وإشاراتها الرمزية.

هذه العناصر مجتمعة تجعل منها عملاً بصرياً، هناك من ينظر إليها كوسيلة لتأمل فكرة المكان والانتماء، وتصبح رمزاً للوحدة، تعلّق في الساحات والمكاتب وجدران المدارس، ويلجأ المصممون بإفراط إلى توظيفها كعنصر أساس في تصميم ( لوغوات)، الدوائر الرسمية والمنظمات والمؤسسات، ما يفقد قيمتها الجمالية والرمزية.

ثمة حوار نفسي وثقافي تخلقه الخريطة، وندوب تاريخية تعبّر عن تمزقات داخلية: إثنية، اجتماعية، ثقافية، سياسيّة، الخرائط ليست صامتة، كل خريطة تقول شيئاً: تلمّح، تهمس، تصرخ أحياناً، تبدو على الورق أكثر من خطوط مرسومة، هي أبعد من ذلك : مخلوقات، أجساد، هياكل، نرى وجوهاً من دون ملامح، وملامح بلا هوية. هذه التأويلات الرمزية لشكل الخرائط هي في جوهرها قراءة مجازية أكثر من ملاحظة جغرافية موضوعية. بعض الخرائط تشبه الطير، خريطة الصين تبدو كامرأة حبلى، وثالثة مثل سيف مكسور، أو دودة شريطية، أو كف ترتجف، خريطة العراق تثير شعوراً بالاتزان، جسد متناسق يخترقه نهران يتحدثان عن تاريخ وحضارات ودماء سالت على ضفافهما، وممالك انطوت.

ايران في خريطتها تذكرك ب (سنام) جمل تضخم خارج حدود المألوف، برأس قط يراقب بعيون نصف مغمضة، مستعد للوثوب، تركيا بخريطتها المستطيلة وامتدادها العرضي يوحي باسترخاء المحتل المتغطرس ، داخلها يخفي أشياءً متعرجة، خريطة سوريا جميلة متوازنة، لا نتوء نشاز فيها، سوى إبهام ممتد نحو الشمال، لكن الجمال فيها مهدد، خرائط دول عربية (مصر، ليبيا، الجزائر) تبدو كأشكال هندسية وخطوط مستقيمة، مرسومة بمسطرة على عَجٓل، لبنان صغيرة نحيلة، تشبه سبابة تشير إلى البحر، ليس بمقدورها صد العواصف والأمواج، بالكاد تُرى وسط العالم بنظر الجغرافيا، وفي عيون التاريخ لبنان أكبر من حجمها ألف مرة، لكنه لا يستطيع ان يوسع رقعته، بل مزّقه الغزاة وعبثوا في أمنه. خريطة فلسطين أكثر الخرائط تمثيلاً في الرسم، وظفها الفنانون كعنصر بصري مشحون بالعاطفة والاحتجاج، الشكل: إمرأة مقطوعة الرأس، تدير ظهرها إلى العرب والجسد متكىء على خط وهمي مستقيم، وجهته نحو الساحل، يقول عن نفسه: لست مثالياً لكنني حقيقة مجروحة في مواجهة التقسيم والتسويات المرحلية. الخرائط لغة صامتة لكنها تبوح بالكثير، وللبلدان لغة حوار مع خرائطها. قدر بعضها أن تكون أشبه بشريط ممدود على الأرض (تشيلي في امريكا اللاتينية، ارتيريا في أفريقيا)، وأخرى تزحف بدل أن تمشي، إيطاليا تشبه حذاءً بكعب عال يخوض مياه البحر المتوسط، الصومال ذراع تمتد، أو منقار نسر، الأردن تبدو كقبضة سلاح موجه نحو الشرق، وخارطة الهند كضرع بقرة حلوب يتدلّى نحو المحيط.

هنا في هذا التشبيه تتداخل المعاني بين الشكل الجغرافي. والواقع الإجتماعي والاقتصادي. لا يمكن لهذا التشبيهات بالطبع ان تستثمر كصور بلاغية تعكس توتراً أو موقفاً معيناً. وفي جغرافيا الأقدار لا تتساوى البلدان، ثمة من تشهق بالماء، تهبط على شواطئها السفن بلا استئذان، وأخرى محاصرة تسعى للنجاة من اليابسة، لا باب ولا كوّة صغيرة نحو الفضاء وأفق البحار. قدر البلدان أن تتناثر جزراً في المحيطات كالأحلام، منها ما يكتفي بعزلته أو ينام. ومنها ما يعاد رسمه كلّما شاء الأقوياء.

***

د. جمال العتابي

 

في المثقف اليوم