أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

كتبت الأديبة صباح بشير: لست أدّعي رتبة الشّاعرة، ولكن.. لي مع القريض محاولات خفيّة وجدانيّة تبقى أسيرة مدوّناتي الخاصّة، لا تغادر سِربَها إلى النّشر، لذلك.. أبقي على هذه المحاولات الشّعريّة طيَّ الكتمان؛ إذ أجد روحي تستفيض في النّثر ببيانٍ أبهى، وعمق أرسخ، وما هذا التّقدير لنتاجي النّثريّ إلّا إيمان راسخ بما يخطّه يراعي، لا غرورا، بل ثقة فيما أودعه من معانٍ.

ومع اعترافي بأنّني لست شاعرة، فإنّني أهديكم هذه النّفحة من القوافي، الّتي لم تُكتَب إلّا بعد أن تجسّدت في روحي صدقا باذخا، وامتلاءً وجدانيّا خالصا، وإحساسا متأصّلا وشعورا مفعما.

هي نفحة لامست جوهر روحي، فاستحالت قرارا بالنّشر، وبكلّ رجاء، آمل أن تجد في قلوبكم مقاما لائقا، وأن تلامس ذائقتكم الرّفيعة.

"وداعٌ على رمالِ تشرين"

حُروفي ما تهنَّتْ من وصالٍ

وسهدي في الدُّجى خلٌّ سميرُ

أَقَمنَا اللَّيلَ وَالْأَفكَارُ تَقضِي

وَمَا وَافَى ضِيَا شَمسٍ بَشِيرُ

ولم يبرح خيالي عصف بُعْدٍ

وَفِي عَيْنَيَّ دَمعٌ يستجيرُ

وَلَم يلطِف بِقَولٍ مَن هَوَيْنا

عَلَى شَطٍّ شَجَا عِشْقٌ مَرِيرُ

وَظِلُّ الموجِ أرهقنا وداعًا

لِأَحْرُفِنَا، وَتِشْرِينٌ قَدِيرُ

بِصَدرِ الصَّبِّ ألْحانٌ تُرَوَّى

وفي نَبْضِ الهوى جمرٌ خَطِيرُ

لَقَدْ مَسَّت عُروقَ الرُّوح ذكْرى

لدى هبَّاتها قَلبِي أَسِيرُ

أنا كَلِمٌ أَجوبُ تُخومَ روحٍ

يُرَدِّدُ نبرَهُ سِرٌّ كَسِيرُ

يقيني وَحْدتي قدرٌ مُطاعٌ

وَإِنَّ الانسِحَابَ هُوَ المَصِيرُ.

مدخل عام لقراءة النصّ:

النص الذي بين أيدينا يُمثِّل تجربة وجدانية متأملة، تتقاطع فيها الذات الأنثوية مع فضاء الحنين والوداع، في تفاعل بين الشعر والنثر، وبين الوعي بالكتابة والوعي بالذات. تقول الكاتبة في مقدمتها إنها لا تدّعي الشعر، لكنها تكتب بدافع وجدانيّ صادق، وهذا الوعي المسبق بالكتابة يجعل النص منفتحًا على النقد الحديث من مداخل متعددة (التفكيكية، البنيوية، الأسلوبية، النسوية، الجمالية..)

من الناحية البنيويية، يُلاحظ في القصيدة:

البنية الإيقاعية: التزام الوزن والقافية يوحي بانضباط موسيقي يوازن بين الوجدان والانفعال. القافية الموحدة (ـيرُ) تمنح النص نغمة حزينة متكرّرة تتماشى مع موضوع الوداع والانكسار.

الإيقاع الداخلي (تكرار الأصوات الرخوة: س، ش، ر) يعمّق الإحساس بالحنين والانسياب.

المعجم الشعري: يتكوّن المعجم من حقول دلالية متجانسة: (الليل، البعد، الدمع، الشط، الموج، الوداع، تشرين)، وهي ألفاظ تلتقي جميعها في دائرة الحزن والانفصال والزمن الخريفي، أي زمن الأفول.

البنية الدلالية: القصيدة تنبني على ثنائية مركزية: الوصل/الانفصال، الحضور/الغياب، الأمل/القدر.

فـ"وداع تشرين" ليس مجرد وداع شخصي، بل هو رمز لمرحلة زمنية من الذبول الداخلي، تمامًا كما يرمز تشرين إلى الخريف وانتهاء دورة الحياة

من ناحية الأسلوب:

الضمير الغالب: ضمير المتكلم (أنا) يهيمن على النص: أنا كَلِمٌ أجوب تُخومَ روحٍ، مما يعزز طابع الاعتراف والانكشاف الوجداني.

التشخيص (التجسيد): تحويل المعاني المجردة إلى كائنات حية: الليل يقضي، الدمع يستجير، الذكرى تمسّ عروق الروح؛ وهي أساليب تُشيع الحركة في النص وتكسر جمود الصورة.

التركيب: الجمل متوازنة، يغلب عليها الطابع التقريري الشاعري، أي أن الكاتبة تمزج بين وضوح النثر وإيقاع الشعر، وهذا يعبّر عن المرحلة الانتقالية بين النثرية والشعرية التي أشارت إليها في مقدمتها.

من منظور التحليل النفسي، القصيدة تعكس صراعًا داخليًا بين الرغبة في التواصل والخوف من الانكشاف.

 الدموع والليل والوداع رموز لانطواء الذات: تكرار ألفاظ "الوحدة، الانسحاب، المصير" يوحي بحالة من القبول الحزين للقدر العاطفي، وكأن الذات وجدت راحة في التسليم للألم.

قراءة نسوية: الخطاب الشعري هنا أنثويّ بامتياز، ليس من جهة الجنس البيولوجي للكاتبة، بل من جهة حساسية التعبير وعمق الشعور.

تتبدّى الذات الأنثوية الواعية بذاتها حين تقول في المقدمة:

"أجد روحي تستفيض في النثر ببيانٍ أبهى، وعمق أرسخ."

فهي لا تستسلم لمعيار الذكورة الشعري التقليدي الذي يحصر الإبداع في القريض، بل تعلن استقلالها الأدبي واختيارها للنثر كفضاء حرّ.

في القصيدة، تتجلّى الأنوثة الواعية بالوجع، لا بوصفها ضعفًا، بل طاقة تعبيرية سامية: "بِصَدرِ الصَّبِّ ألحانٌ تُرَوَّى / وفي نَبض الهوى جمرٌ خطير."

 قراءة التفكيكية:

من منظور التفكيك، يمكن ملاحظة أن النص ينقض نفسه من داخله:

الكاتبة تقول إنها ليست شاعرة، لكنها تكتب شعرًا ناضجًا في إيقاعه وصوره، مما يخلق تناقضًا مقصودًا يكشف وعيًا بالكتابة بوصفها "تجربة لا تُعرّف".

مفردة الوداع لا تعني النهاية المطلقة، بل تولد في داخلها إمكانات العودة، إذ "تشرين" الخريفي هو ذاته الذي يسبق "كانون" الشتاء، أي لحظة التجدد.

 التقييم الجمالي: تتجلى في النص لغة راقية وصور طافحة بالوجدان، مع حضور واضح للصدق العاطفي الذي يغلب على أي تكلّف لفظي.

الكاتبة تملك حسًّا لغويًا راقيًا وإدراكًا فنيًا لجوهر الشعر حتى وهي تزعم العكس.

قصيدتها تجمع بين الشفافية الوجدانية والدقة الموسيقية، وتُترجم إحساسًا خريفيًا شاملاً يجعل الوداع رمزا لحياةٍ تتكرر فيها الدورات بين اللقاء والانفصال.

 خلاصة نقدية: قصيدة "وداع على رمال تشرين"، هي نصّ حداثيّ في روحه، وإن اتّخذ الشكل الكلاسيكي في الوزن والقافية؛ فهو يجسّد تجربة أنثوية متأملة، متصالحة مع الألم، واعية بالذات والكتابة.

إنه نصّ يكتب الشعر من موقع الوعي لا الادّعاء، ويُبرز كيف يمكن للحسّ النثري أن يتجلّى في بنية شعرية متينة، في تزاوج جميل بين الصدق والعذوبة.

شكرا للأديبة صباح بشير على كلّ هذا الجمال.

***

الكاتب المغربيّ مرياني عبد المجيد

قادتني قدماي بعد تردد طويل إلى مدينة طنجة. دخلتها دخول المنتصرين. استقبلتني بطلعتها البهية. كان صباحا ساخنا يلفظ نيرانه الصيفية الحارة كبركان انفجر للتو. مرت لحظات، فامتزج الحر بأجواء خريفية. ترى الأجساد تتمايل في كل الاتجاهات كأوراق الخريف اقتلعها جنون الرياح ورماها تواجه مصيرها..

كانت الرياح تتجول بالمدينة كسيد من أسياد الزمن القديم. ترتاح روحك لها وتطمئن نفسك إلى هدوءها غير المرئي أمام ضجيج السيارات والأصوات البشرية. همت مع نفسي وقذفت بها وسط المدينة القديمة التي تتنفس ذكريات أناس مروا من هنا. مشيت طويلا دون أن أشعر بالتعب. كنت أترك الحرية لخطواتي. دخلت إلى زقاق مليء بالزمن، كثير الحركة. ارتميت بين أحضان آخر، تنام على جنباته ذكريات الأمس القريب. خلتها تكلمني تلك الأزقة، تهمس لي أنا لوحدي، رغم حملها لأمواج بشرية مختلفة الأجناس والأعمار والألوان. همسها جعلني أعيش حالة فرح نادرة. سرقتني تلك الذكريات الحلوة. استوطن الليل الأزقة الحبلى بالأصوات والأجساد. رميت جسدي المتهالك بأول مقهى صادفتني. طلبت كاس شاي بالنعناع. اهتزت روحي من الداخل دون استئذان وارتسمت على شفتاي ابتسامة غير إرادية وحقيقية. أخذت أراقب ما يجري حولي وكأنني ولدت من جديد. لمحت عيناي صدفة إشارة تدل على أنني أجلس في مقهى بالسوق الداخل. هذا السوق الذي طالما عشته وتخيلته مع قصص "محمد شكري". كنت كالطفلة يوم العيد التي تتلقى هديتها لأول مرة. ارتسمت ابتسامة أكبر على شفتاي وكادت أن تتحول إلى قهقهات تجلجل سكون أهل المقهى. تداركت نفسي وخبأت ابتسامتي بيدي وشكرت "محمد شكري". طلبت كأسا آخر بالنعناع، تلذذت أكثر ومع كل رشفة، كنت أسافر مع ذيول رائحته إلى أعماق طنجة. جلست طويلا أحتسي الشاي وأهيم مع نفسي خارج إطار الزمن. الجلوس بين أحضان هذه المقهى بالذات له طعم آخر. كيف كان شعور الآخرين؟ كنت أتمنى أن أعرف. أهل طنجة من عشاق الليل الجميل. يحبون السمر مع مدينتهم ذات الزمن الجميل. رغما عني تركت المقهى وتركت السوق الداخل. قمت أتحسس طريقي بين الأزقة الضيقة التي عشقتها. الظلام في طنجة لا يخيف ولا يدعو الناس إلى العودة إلى أوكارهم، ليلهم به صفاء وهمس وإبداع وراحة للنفس. تعيش ليلك وكأنك خلقت له وخلق لك. ليل يحنو عليك ويجعلك تمضي أحلى أيامك بين أحضانه. كم كنت أعيش هذا الإحساس وأنا ألتهم كتب "محمد شكري". لما وطأت قدماي أرض المدينة، كأنني كنت أعرفها جيدا. أكيد كنت يوما ما هنا وعدت من جديد. كنت على وشك العودة، لولا سماعي لصوت أمواج البحر وهي تتعارك فيما بينها للوصول إلى الشاطئ. "حرام أن أنام في ليل طنجة وليلها بالسهر يحلو". همست إلى روحي التي كانت تنط من الفرح والبهجة ولا تسأل عن العودة. مشيت كثيرا وسط الجموع التي كانت تتزايد كلما التفت إلى الوراء. لا أرى سوى رؤوسا تتجاذب أطراف الحديث والشكوى. امتلأ صدري بهواء البحر العليل ومدني بطاقة لا توصف. كاد الفجر أن يحل علينا ضيفا من جديد، أسرعت الخطى، ورفضت النظر إلى الوراء حتى لا يحن قلبي وأضعف عند أول لمسة صباحية. خرجت منها خروج المنهزمين. كان طلوع الشمس على الأبواب، تزاحم آخر ذيول الليل، وتستعد للبزوغ. انسل جسدي بين أشعتها المترددة كرضيع يحبو. أخذت طريق العودة. رفضت التفكير. دماغي عند نقطة الصفر. صمدت طويلا حتى خانتني روحي واشتاقت إلى قهوة طنجة وشاي طنجة وأزقة طنجة وليلها الأبدي. أحببت هذه الخيانة التي سكنت جراحي وأمدت في عمري للقاء آخر.

*** 

 أمينة شرادي

ظلال خجولة، طائرات ورقية تلامس حافة الهاوية

في شقٍّ ضيِّق بين عمارتين، حيث يتجمّع الغبار وتهمس الريح بحكاياتٍ قديمة، تتسرّب ظلال خجولة من الحائط.

 تأتي في الصباحات متثاقلة، وعند المساء تراها كفراشاتٍ ملوّنة تبحث عن ضوء.

هي وجوهٌ صغيرة أيدٍ ترتجف، عيونٌ تلمع كالبلورات تتوقف وسط الرصيف لتطلب لقمة أو ابتسامة.

حواراتهم بسيطة: اسمهم قصير، جوابهم أنيق كبلسمٍ يهبط على جرحك فجأة.... وأنت في الطرق، تجد نفسك تتريّث، تصغي، تدهشك براءتهم قبل أن تبتلعها المدينة بصمتٍ قاتل.

وفي قلب المدينة، خلف صخب الأضواء ولوحات الإعلانات، فتح ثقبٌ أسودٌ له مقعدٌ من فراغ.

 لا صوت له إلا امتصاصٌ بطيء: الفضاء الذي يختفي فيه الأطفال، الوقت الذي يلتهم الفرص، الأمل الذي يتقلّص مع كل يوم بلا مأوى ولا مدرسة.

 هذا الثقب ليس مجرد فراغ طبيعي؛ هو منظومة ممتصة: إهمالٌ مؤسسي، سوقٌ يستغلّ الضعف، صمتٌ اجتماعي يجعل من البكاء أمراً عادياً وتبريراً لللامبالاة.

الظلال الخجولة تمرّ من الشقّ الضيق، تحاول أن تمرّر نفسها عبر مساحات صغيرة؛ لكنها تلامس محيط الثقب في كل مرة.

تبدأ بلطف: قطعة خبز، سؤال عن الطريق، ابتسامة تستعيرها من المارة، ثم شيئاً فشيئاً، يتوسّع الثقب، يلتهم طاقات الطفولة، ويحوّل البلورات إلى شظايا. 

ثم تتحول إلى آلةٍ ذات حوافٍ حادة دفاعاً أو هروباً تجرح من حولها من دون أن تريد.

نحن أمام تتابع نذير:

 الطفل الذي كان يغنّي كلمة واحدة يتعلم أن يصمت، ثم يتعلم كيف يسرق وقتك بالشفقة، بعدها كيف يصبح وقوداً لسوقٍ منظمٍ يربح من كسر الطفولة......

الطفل الذي كان يطير طائراً فوق الأرصفة كبلسمٍ يهبط، يتحول إلى ظلٍ يُبتلع.

أيُّ مدينةٍ هذه التي تسمح لثقبٍ أسودٍ أن ينمو في أحشائها حتى يصبح قادراً على ابتلاع وجوهٍ بريئة؟

الوقوف ضروري الآن ليس كرمزٍ بل كعملٍ مادي. أن نضمّر هذا الثقب الأسود يعني أن نملأه بما ينقذه: مأوى، تسجيلٌ مدرسي، رعاية صحية ونفسية، وسجلّات حقيقة تُؤمّن للطفل اسماً في المجتمع. أن نضيء الشقّ المتسلّل منه الظلال الصغيرة يعني أن نفتح مساحاتٍ أوسع من التعاطف المنظم، لا التعاطف العابر. أن نضع لصيغة الحوارات البسيطة التي نمتلكها مع الأطفال قيمةً — فلا تظل مجرد لحظةٍ عابرة في زحمة اليوم.

لنعد إلى هذا المشهد المرئي: الطائر الذي يطير ويحطُّ على كتفك وأنت تتحدّث مع طفلٍ في الرصيف. تلك اللحظة هي كلّها فرصة لالتقاط اسمه، لتقديم مساعدة فورية، لكن أيضاً لتسجيله في مدرسة متنقلة، لربطه بمنظمة محلية، لوضعه تحت شبكة حمايةٍ تعيد له حضوره بوصفه مواطناً قادراً على التعلم والنمو. إنّ غياب البيت والمدرسة ليس مجرد نقصٍ في مادة؛ هو نقصٌ في الزمن الذي يمنح الطفل القدرة على الحلم.

نقطة التحوّل تكمن في القرار: هل نريد مدينة تحوّل ظلالها إلى وقودٍ للثقب، أم مدينةً تحوّل الثقب إلى فراغٍ يُملأ بالدفء؟ يمكن للسياسات أن تكون قاطعة: تسجيل فوري للأطفال المشردين، مدارس متنقلة تعمل بمرونة، مراكز ليلية آمنة، برامج إدماج أسرية وإعادة تأهيل. والمجتمع المدني يمكن أن يكون شرياناً: حملات إحصاء ميداني، شبكات مساعدة محلية، مبادرات توظيف مدني تحفظ كرامة الأطفال بدل أن تستغلهم.

لا نملك ترف الانتظار. كل يوم يبتلع فيه الثقب أسود وجهاً بريئاً يسرق من المدينة مستقبلها. الاستجابة لا تحتاج فقط إلى مشاعرٍ فورية، بل إلى بناءٍ مؤسسي مستدام: قوانين تحمي، مدارس تُفتح بلا شروط تعجيزية، ومراكز تجعل من العائد إلى البيت احتمالاً حقيقيًا.

في نهاية المشهد، لا بد من سؤالٍ مباشر: هل نريد أن نكتب تاريخ مدينتنا كحكاية عن ظلالٍ خجولة استطاع الثقب الأسود أن يبتلعها، أم كسردٍ آخر عن أناسٍ قرروا أن يضيئوا الشق وأن يستعيدوا الطائرات الورقية الصغيرة التي كانت ترفرف فوق أرصفة.......

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

ماتزال جامعاتنا التونسية بمختلف كليات آدابها لا ذكر فيها للأدب الشعبي التونسي ضمن شهادة العربية والعجب أنها تولي الاهتمام والتمحيص والتدقيق في بيت من الشعر قاله أحد الأعراب في الربع الخالي أو أحد الإفرنج في حي من أحياء باريس ولا تهتم بوجدان الشعب الذي أنشأ تلك الجامعات والكليات بفضل تضحياته ونضالاته وبطولاته جيلا تلو جيل تلك التي نجد صداها في أغانيه وأمثاله وحكاياته وألغازه ونوادره وغيرها وتجري على ألسنتنا ضمن أحاديثنا اليومية لكن تلك الجامعات والكليات لم تعر اهتماما لهذا الرصيد الزاخر من الأدب فظل الأدب الشعبي على هامش الاهتمامات الأكاديمية وكي لا تلتبس الأمور أنا أعتبر أن اللغة العربية شاملة للفصيح منها وللدارج أيضا وهي تتواصل وتتطور حسب العصر والمكان ومناسبة القول وموضوع الكتابة ـ فالفصاحة فصاحات ـ كما قال أستاذنا محمد رشاد الحمزاوي .

اِنبرى منذ القرن العشرين جمهرة من الأدباء التونسيين للاهتمام بالأدب الشعبي نذكر منهم محمد عثمان الحشايشي في كتابه عن العادات والتقاليد التونسية والصادق الرزقي في كتابه عن الأغاني التونسية وكان للأديب محمد المرزوقي الاهتمام الأكبر بالشعر الشعبي وبغيره من المجالات الاجتماعية تاريخيا واجتماعيا ثم واصل نهجه الشاعر محي الدين خريف في دراسة الشعر الشعبي خاصة أما الأمثال فقد جمع الكثير منها الطاهر الخميري وسار على نهجه الهادي البالغ ومحمد المي وغيرهما وقد كتب بالعامية شعراء فطاحل في الفصحى منهم مصطفى خريف وجلال الدين النقاش فهذا يؤكد أنه لا تعارض بين العامية والفصحى فلكل مستوى من اللغة مجال ولكل من العامية والفصحى اِقتدار وبلاغة بل بينهما إيلاف وتداخل واِنسجام كما في سياق حوار القصة والرواية وفي كلمات الأغاني والمسرحيات والسيناريو .

من المهتمين بالأدب الشعبي الأستاذ الضاوي موسى الذي حقق ونشر لشعراء جهة - تطاوين - بالجنوب الشرقي التونسي منهم ضو لطرش والمحسن الجليدي وبورخيص الدغاري وعلي العرضاويوالأستاذ الضاوي موسى له إصدارات أخرى منها :- مجمع الأمثال الشعبية التونسية- قصائد من الذاكرة الشعبية- قصص الأمثال الشعبية التونسية-أسرار ترسيم الحدود التونسية الليبية- أضواء على الحركة اليوسفية بتطاوين- تراجم المبدعين في ولاية تطاوين- الجنوب التونسي- طرابلس الممنوعة وقد أصدر في الآونة الأخيرة تأليفا جديدا بعنوان - أغاني البُراش والرُباج - وهو كما ورد ضمن العنوان - مرآة تعكس الهوية الثقافية النسائية بمنطقة تطاوين -الكتاب ظهر في طبعة أنيقة واضحة السطور مع شكل الكلمات العامية وشرحها أحيانا وهذا ما جعل قراءة الأشعار الواردة فيه يسيرة وواضحة المعاني والأبعاد شعر - البراش - هو الذي تغنيه النساء وقد ذكر لنا الباحث الضاوي موسى تفاصيل الاستعداد لمناسبة هذا الغناء من الدعوة إليه إلى مواضيعة المتنوعة مستشهدا بمختارات منه وكذلك سار على هذا المنهج التوثيقي الدقيق مع شعر أو غناء الرباج فقد صار هذا الكتاب مصدرا زاخرا ومرجعا للاطلاع ولبحث مدونة الأدب الشعبي في الجنوب الشرقي التونسي خاصة فمن خلال مضمون الأغاني الواردة فيه يمكن دراسة الأحوال الاجتماعية والاقتصادية ناهيك عن النواحي النفسية بما فيها من معاناة وآمال وخيبات أيضا .

هذا الكتاب عمل توثيقي مهم وفيه بعض الإشارات إلى بعض العادات والوقائع النادرة مثل هروب الفتاة مع الشاب الذي رفضه فيعمد إلى الهروب بها وفي كثير من الأحيان بعلم أمها أو أحد الأقرباء ولكن لا يختلي بها وإنما يودعها لدى أحد الوجهاء أمانة حتى يتم التراضي مع أبيها وذويها وقد يكون الأمر حيلة من الوالدين للتخلص من خاطب قريب من العائلة. الكتاب ممتع حقا وهو إضافة متميزة لمكتبة الأدب الشعبي وفيه لمسة وفاء كما يبدو ذلك من ديباجة الإهداء.

***

سُوف عبيد

 

تفاجأت حينما انتهيت من الخمسين قصة، والتي شكلت قوام رواية (وادي الفراشات) لمؤلفها أزهر جرجيس، عندما وجدت ملاحظة في الصفحة 213 تقول: "النص نسج من الخيال، وأي تطابق أو تشابه في الأسماء والأحداث والأمكنة هو محض مصادفة غير مقصودة".

هكذا يقول المؤلف دفعة واحدة، في حين ظلَّ انغماسي شديداً وأنا أتابع أحداث الرواية، صغيرها وكبيرها، وهي تتحدث عن واقع عاشه الشعب العراقي، عندما كان العراقي يستيقظ كل صباح لا ليعيش، بل ليقاوم. يقاوم الجوع، والذل، والسوق السوداء، والدواء المفقود، والكهرباء المنطفئة، والماء الآسن. يقاوم خيبة وطنٍ صار فيه الحلم كماليات، وصار الرغيف هدفاً استراتيجياً.

في زمن الحصار، كانت الدينار يُعدّ بالأكياس لا بالقيم. وكان الموظف يُسحق من الصباح إلى المساء ليعود آخر الشهر بأجر لا يكفي لعلبة حليب مستورد، إن وُجدت. الكرامة كانت تُباع على الأرصفة، بالتقسيط، مقابل حفنة من الدولارات أو كيس طحين.

الناس كانت تبتكر طرق البقاء: تخبز من النخالة، وتغلي الشاي ثلاث مرات، وتخلط زيت السيارات بزيت الطهي، وتزرع النعناع في علب السمن الفارغة على الشرفات.

كان الدواء حلماً لا يأتي، والسرطان لا يُعالج، والأطفال يموتون في صمت، كأنهم أرقام في نشرةٍ أممية. الأم كانت تقايض خاتم زواجها بحليب لطفلها، والأب كان يهرب من نظرات صغاره حين يسألون: “ليش ما عدنا جبن"؟

ومع ذلك، وسط هذا الخراب، لم يمت العراقي. كان يضحك رغم الغصة، ويعزف على العود أغنية، ويكتب الشعر في دفتر باهت. كانت الحياة تمشي على عكازين، لكنها تمشي.

في بغداد، خلال سنوات الحصار القاسية في التسعينات، لم يكن غريباً أن ترى رجلاً خريج جامعة، بملامح مثقفة، عينان تترقرق فيهما خيبات كثيرة، يجلس خلف مقود سيارة تاكسي متهالكة تجوب شوارع المدينة المكتظة بالغبار والحواجز والأسى. هذا ما كان يفعله عزيز عواد بطل الرواية.

كان يؤرقه زيارة المقابر، حيث إليها ينتهي الجسد الذي أنهكه الزمن أو المرض أو الحرب، والتي يلفها الصمت، بيد انها تنطق لمن يحسن الإصغاء، وتشكّل أرشيفات للوجع. بينما مع تناسخ الأرواح تبدأ الرحلة من جديد.

كان عزيز، الذي قضى ثمانية عشر شهراً في الخدمة العسكرية بكركوك، والتي كانت إلزامية وتحولت إلى مصير مفتوح على كل الاحتمالات ويعود إلى بغداد ليعمل في أرشيف دائرة الفنون ثم يتركه لكون أن ما يتقاضاه منه شحيح جداً، يبدأ يومه سائقاً للتاكسي مع طلوع الشمس، لا لأن الزبائن يكثرون في الصباح، بل لأنه لا يستطيع النوم، فالهموم لا تترك له فسحة للراحة. يلبس قميصاً نظيفاً رغم اهترائه، ويحرص على تسريح شعره بدقة، كأنما يصرّ أن لا يخسر ما تبقى من كرامته. يركب سيارة خاله جبران القديمة، يدفعها بروحه قبل محركها، وينطلق بين الطرقات، يبحث عن رزق اليوم. وفي قصص كل زبون يرى انعكاساً لقصته أو ما تشبهها.

يحمل في سيارته كتاباً قديماً من مكتبة خاله جبران، ربما رواية أو كتاب في تخصصه، يقرؤه في لحظات الانتظار الطويلة عند محطات الوقود أو أمام المدارس. حين يسمع خطاباً حكومياً يتحدث عن صمود الشعب، يبتلع الغصة ويكتم ضحكة ساخرة. هو لا يريد الصمود، يريد فقط أن يعيش حياةً تليق بتعبه، بشهادته، بسنوات دراسته التي قضاها في أروقة الكلية على ضوء الشموع أحياناً.

كان أكثر ما يؤلم عزيز، هو عندما تركته زوجته تمارا لشظف العيش وفقدها طفلها البِكر سامر، ومن ثم فقد طفله سامر ثانية. وفيما كان هو لا يستطيع شراء حذاء جديد، أو علبة دواء لزوجته المريضة، كان يرفض أن يمدّ يده، أو أن يهاجر. ظل يقاوم بصمت، يقود التاكسي كما يقود قدره، بعينين مفتوحتين على المرارة، وبقلب يحلم بأن يتغير شيء.

وادي الفراشات رواية مكتوبة بلغة أنيقة، وفيها سردٌ مزدان بالكثير من عناصر التشويق، تشُّد القارئ ليتابع الأحداث الغزيرة، التي تأتيه الواحدة بعد الأخرى..

 وعندما أنتهت الرواية بصفحاتها ال 215، تمنيت أن لا تكون قد أنتهت. أردت أن أبقى مع عزيز وهو يقود سيارته في شوارع وأزقة بغداد، وقد ظل، بسيارته القديمة، جزءاً من ذاكرة المدينة، وحكاياتها الكثيرة التي لم تُكتب بعد.

***

جورج منصور

 

صاحب الظل الطويل والعيون السومرية

صوته يشبه هدير الفرات، مبحوحًا، مبلّلًا بنداءٍ قديم. لطالما كان ينادي الفراتية لتخبره بالوقت… كأنها الساعة التي يرى، والتي ينتظر منها أن تدله على بقايا الزمن الضائع.

يجلس قرب الباب، على ذلك الكرسي الذي بدا كأنه رجل كهل، هرم من ثقل ما حمله من صمت وذكريات، كأنه هو الآخر شاركنا أعمارنا، وحمل عنا ما لم نقدر على قوله.

أحيانًا يتوقف الزمن عن العد حين يثقل القلب بالانتظار، وهذا ما حدثنا عنه صاحب الظل الطويل، عن تلك اللحظات حين كان ينتظر عودة ابنه من ساحات القتال… والمفارقة أنه لم يعد ينتظر أحدًا بعد أن عاد ابنه في صندوقٍ محمول.

لم تعد الساعات تعنيه، كأن الزمن قد فقد معناه، وكأن طول الوقت أو قصره لم يعد يُحتمل، لأنه لم يعد هناك ما يملأ انتظاره.

لطالما تساءلت: أي فيزياء يحمل هذا الزمن؟

هل هناك قانون لم تكتشفه العلوم بعد؟

قانون تتحكم به الطاقات الخفية، السلبية منها والإيجابية، فيبطئ الزمن أو يسرّعه حسب ما نشعر به؟

ربما لم تكتمل الفيزياء بعد، لأنها لم تدرس بعد ذلك الزمن الذي تقيسه القلوب، لا الساعات.

ركضت الأحداث، ثم هدأت، ثم ركدت.. ركدت، كما لو أن الدنيا توقفت أخيرًا لتأخذ نفسًا عميقًا بعد كل ما مضى، لتسمح لنا بأن نلتقط لحظاتنا، ونهمس لأشباحنا القديمة:

ها نحن هنا، ما زلنا نحملك معنا..

ما زلنا نذكر..

ما زال الفرات يشهد علينا..

لا اعلم لماذا؟!

كلما فتحنا الصندوق، تسرّبت الذكريات كلحظات شجاعة وبطولة وألم دفين.. نستذكرها لا لنحزن فقط، بل لنفهم من كنّا، وكيف كنّا نعيش في زمن لا يشبه هذا الزمن..

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

تروي قصة الفتى النبيل للكاتبة البريطاني/ الامريكية فرنسيس هوجست بيرنت، حكاية فتى أمريكي، ينتقل للعيش في كنف جده النبيل البريطاني، وتوحي بأسلوب سلس وناعم، ما أحدثه ذلك الطفل الأمريكي، مِن تحوّلات إيجابية لدى كلّ مَن عرفه، ابتداءً من أصدقائه الفُقراء الامريكيين، انتهاءً بجدّه الايرل، أو النبيل البريطاني، الغنيّ الفظّ الغليظ القلب، الشحيح نوعًا ما، وما تركه ذلك التأثير، من سمات إيجابية، من الحفيد على الجدّ، وكأنما الكاتبة تُريد أن تقيّم العلاقة بين الثقافتين الامريكية والبريطانية، مائلة للأولى المُنفتحة، ومُنتقدةً الثانية المُحافظة أو المُغلقة الى حدٍّ ما، وذلك عبر أهمية التواصل بينهما.

مُؤلفة الرواية ولدت في إنجلترا واضطرها الفقر للهجرة مع أهلها إلى أمريكا، ولم تبدأ الكتابة للأطفال خاصة، إلا بعد أن ارتبطت برجل طبيب يدعى سوان بيرنت، كما ورد في تظهير الراية، وقد نُشرت روايتها هذه، مُسلسلة في مجلة تدعى سانت نيكولاس بين عامي 1885 و1886، ولم تصدر في كتاب إلا بعد سنتين من نشرها الأول، وقد بيع منها حوالي عشرة الاف نُسخة في الاسبوع الأول لصدورها.

لا غرو في هذا، فالروية تحكي قصةً مُثيرةً لطفل أمريكي في السابعة من عمره، ربّته أمّه على النُبل والأخلاق الحميدة، وطالما شجّعته قائلة له: تحلّ بالطيبة والشجاعة والعطف والصدق دومًا يا عزيزي، وعندئذ لن تؤذي أحدًا طوال حياتك، بل قد تُساعد الكثيرين ممن هم بحاجة للمُساعدة، هكذا قد تساهم في أن يضحي العالم الكبير أفضل مما هو عليه. هذا التوجّه مِن الام لابنها، يحفزه على فعل الخير، ويمنحه بالتالي نفسية ملأى بالبراءة والعفوية، ليس السذاجة بأية حال، الامر الذي يجعله أشبه ما يكون بنقطة ضوء في ليل المُحيطين به، في البداية في بيئته البريطانية الفقيرة، وفيما بعد في بيئة جدّه الأمريكي الفظ الغليظ.

تبدأ الرواية عندما يفد مُحامي جدّ الطفل سدريك، وهذا هو اسمه، ليخبر أمه الارملة، أن جدّه المريض يُريد أن يأخذه ليعيش معه وإلى جانبه، بغرض اعداده لإدارة ورثته الكبيرة مُستقبلًا، ويكون أن يُخبر هذا المحامي الولدة، أن الجدّ لا يستلطفها، وأنها لهذا، لن تقيم معه برفقة ابنها وإنما ستقيم في بيت آخر، يُهيئه لها الجد الغني، ويُقدّم المحامي مبلغًا مِن المال للطفل بناء على توجيه خاص من الجدّ، فلا يكون مِن الطفل.. سيدريك، إلا أن يقوم بتوزيع ذلك المبلغ على المحتاجين ممن هُم حوله، وبينهم امرأة فقيرة، وماسح احذية وصاحب بقالة. إنه يوزّع هذه المبلغ حينًا بالدعم وآخر عبر هدية.

الابن وامه ينتقلان إلى بريطانيا، وهناك يُفتن الجدّ رويدًا رويدًا بحفيده الطفل النبيل وبأخلاقه العالية الداعمة لكلّ محتاج ومظلوم، ويُفتن أكثر عندما يتوجّه الطفل إلى اليه، عبر رؤيته الإيجابية للجميع، فجدُّه كما يعرضه خلال مواجهته لهذه المشكلة أو تلك، يُسرّ بأن حفيده يحمل فكرةً إيجابية عنه، وهي عكس ما هو عليه في الواقع، ويستجيب بالتالي لتقديم كلّ ما يطلبه الحفيد، ضمنًا أو تصريحًا، وتتطوّر هذه العلاقة الرائعة، وذات الطلاوة أكثر فأكثر، لا سيّما عندما يطلب الطفل مِن جدّه.. المريض بالنُقرُس، أن يُرافقه في طلعاته للتنزه مُمتطيًا متن مُهر، فيستجيب الجد..  وهكذا يحدث تغيّر أكبر في حياته وفي واقعه المُنفّر للجميع، إنه والحالةُ هذه يكتشف قُدرة العطاء التي تُميّز الإنسان الإيجابي، وهو هنا حفيدُه البهي الرائع.. فيندفع معها..

التصرّفات الرائعة للطفل النبيل تُسهّل عليه كلّ ما يُريد ويودّ، ويكون أن يتعرّف الجدّ على الام، بعد أن تعرّفت عليها اخته وأحبتها للُطفها، رقّتها وانسانيتها الفيّاضة، التي انعكست إيجابيًا على ابنها سدريك الطفل النبيل، فلا يكون منه إلا أن يطلب منها أن تأتي للإقامة إلى جانب ابنها وجانبه في قصره الفاره، بيد أن هذا كلّه لا يدوم، كما يحدث في القصص والحكايات، وتأتي المُشكلة، على شكل امرأة أمريكية.. تدّعي أن ابنها هو الوريث الحقيقي، وليس الطفل سدريك، الامر الذي يُعقّد الأمور أكثر فأكثر، فلا يكون مِن الطفل إلا أن يكتب إلى أصدقائه مِن الفقراء ومحدودي الدخل الأمريكيين، مُخبرًا إياهم بأنه لن يكون اللورد المرتقب والمتوقّع، وهُنا يهُب اصدقاؤه، هبّة رجل واحد، غير ناسين كرمه، لطفه وانسانيته في تعامله معهم، ويكتشف ماسح الاحذية، الذي سبق للطفل سدرك أن ساعده ماليًا، أن تلك المرأة ما هي إلا مُدّعية ولا علاقة لها بالعائلة النبيلة، الامر الذي يُعيد الأمور إلى نصابِها الحقيقي، منتصرة للطفل النبيل.

الرواية بهذا، تُشير إلى العلاقة بين الشعبين البريطاني والامريكي، وقد عبّر عن هذا كلّه رئيس الوزراء البريطاني، في حينها وليم اورت غلادستون، قائلًا إنه سيكون لهذه الرواية أعظم الأثر، في إحداث تغيير حقيقي وجوهري، في المشاعر المُتبادلة بين الشعبين البريطاني والامريكي.

***

ناجي ظاهر

...........................

* قامت بترجمة الرواية إلى العربية الكاتبة بُثينة إبراهيم، وصدرت عام 2019 ضمن منشورات تكوين في دولة الكويت.

 

حيرتني الحياة بحدود ارتباك الملل ونحن نعيشها منفصلة عن حقيقة التفكير في علة وجودية الحياة بذاتها المتغيرة، فالخروج من الفردوس الرحب قد يكون أصعب من الدخول إلى جنة خلد الراحة.

حيرتني كل النهايات السعيدة، والتي تتقلد براعة في قصص الخيال حين لم تنته بعد بالحقيقة، ولن تنتهي بمساءلة الواقع. حيرني تفكير العدو المفترض/ الغائب في الزمن والمكان والذي يعرف رؤى المستقبل باستراق من سمع الذكاء الاصطناعي، ويصبح لا يخسر معركة الحاضر مهما كانت حدتها ومدتها!!

حيرني تفكير الإنسان الفطري والذي ينطلق من النهاية ليفكر في البدايات والتي باتت من الماضي السحيق، إنه بحق يشابه لعبة سقوط الحوت في مياه البحر اللَّجِّ.

حيرني القوم حين يقولون: امض بثقة نحو أحلامك!! لكن أحلام الكوابيس تُكسر العظام الهشة، وتشتت الاتجاهات وكل علامات التشوير نحو جودة الحياة والسعادة.

حيرتني دموعي حين تتهاوى على الأرض بلا ألم، وتسقي أشواك الماضي التي تستيقظ من غفوتها بالأنياب المفترسة، فتزيد دمعاتي بالفيض وبكاء قنابل الاستمطار.

حيرتني الأفراح البهية، والمصطنعة بابتسامات سمجة رقيقة، وقد باتت لا تفرحني وهي تحمل (ماكياجات) التردي والتفاهة والبذخ والترف، بل أضحت تضايقني وتقض مضجعي، فهل بات تفكري يثقلني بملازمة وجعي الداخلي.

حيرتني ضائقة نفسي وألمها المسترجع بتعداد الذكريات، والتي بات تلازمني من شدة فرطي ونكسي من أن الحياة تعيسة، ولا تستوجب المغامرة بالسباحة ضد التيار.

حيرتني تلك القضايا التي تزعجني بالفتنة وبالتصنع، وأنا أداوم مشاهدتها بالتأمل وحتى بالنقد الفاضح، وكأني كدت أمارس لعبة ببغاء قرصان بحري يردد (آمين) وهو ينعش ذاكرة فرط القسوة.

حيرتني آلامي حين أستكين إلى سماعها وهي تغرد لغة البؤس والتردي بين ماض وحاضر ومستقبل، وألازم مداواتها بمسكنات لحظية فتخبو وتنام بالشدة، ثم تستيقظ لتنغيص ما بقي من يومي وحياتي.

حيرتني الشعور بالبكاء والوجع، وأنا أمام لحظات من المتعة والسعادة، فأدفن رأسي بالغرس الرمزي في التراب لأستعيد ملمحي الأول وبلا غبار ردم من عنق النعامة!!

حيرتني حياتي كليا حين أصير يوما مكبلا وكسيح الحركة، وبلا أجنحة وافدة للفرار من سجنها الطوعي المفتوح الأبواب وبلا حراس أمن، لكني أفشل حين أقاوم اليأس بالقتل السلبي، حينها أنتفض عن واقع يسيطر على مشاعري واحتياجاتي بالهرب نحو ذاك المستقبل وما يخفيه من مطبات.

***

محسن الأكرمين

الشاعرة المبدعة أسمهان اليعقوبي من الأصوات الشعرية المتميزة، التي شكلت حضورا متوهجا، في الساحة الادبية المغاربية بشكل خاص، وفي الساحة العربية بشكل عام، حيث استطاعت أن تعبر عن مشاعرها الوجدانية بطريقة مؤثرة.

ففي قصيدتها (صمت المسافات)، تظهر تجليات وجدها في أبهى صورها، حيث يمتزج الصمت عندها، بالشوق الى النور، لترتضيه خليلا لها:

أسافر في صمت المسافات نغمة

وأشتاق نورا أرتضيه خليلا

وهي بهذا الإنثيال الوجداني المرهف، تتسامى فوق كل مرئيات قيود واقعها، لترسم سبيل رقيها في درب النجوم:

فيحملني نبض الرؤى

لأرسم في درب النّجوم سبيلا

وهكذا تتميز إنثيالات اليعقوبي بوجدانية عميقة الحس، وشعرية إبداعية متوهجة، وهي تعبر عن مشاعرها بكل صدق، وشفافية.

كما نجدها تتغنى في قصيدتها المذكورة، بذلك النزيل الذي استوطن اشواقها، حيث تقول:

سأعبر نحو النّور أحمل دهشتي

وفي بحر أشواقي أراك نزيلا

وهي إذ تعبر بذلك عن اصرارها في تجاوز كل قيود الحال، التي تعيق تحقيق احلامها، حيث ترمز إلى الأمل ومستقبل حلمها المشرق، ليصبح هديلا هادرا في ثغر صباحاتها المنبلجة.

وأسكب في أحلام نفسي نشيدها

فيصبح في ثغر الصّباح هديلا

و في عشقها الحرية والإنعتاق، اذ تعبر عن رفضها للقيود السائدة التي تقيّد انسيابية ابداعاتها، نجدها تتغنى بهما في قصيدتها المذكورة، رغم كل قساوة الظروف التي تحيط بحركتها، حيث تقول:

أمشي على جمرٍ، أذوب صبابة

أرتّب في صدر الحنين فصولا

وبهذه الاسلوبية المتألقة تعبر الاديبة المبدعة اليعقوبي، عن رغبتها في تجاوز القيود، التي تعيق تجلي وجدانياتها، حيث ترمز إلى ذوبان أعماقها الداخلية صبابة، وهي ترتب في صدر حنينها الفصول:

أمشي على جمرٍ، أذوب صبابة

أرتّب في صدر الحنين فصولا

ومن كل ما تقدم من معطيات، يمكن القول ان لغة اليعقوبي في التعبير عن وجدانياتها، ومشاعرها المرهفة، تتميز بالجمال، والتوهج، وهي تستخدم الصور الشعرية، والاستعارات الادبية بشكل متمكن حقا، في نظمها الرائع، حيث تقول:

فيسكنني صوت النّدى متهجّدا

ويكتبني في الحلم روحا جميلا

وفي حين ترمز الأماني إلى الأمل، فان المستقبل المشرق يرمز إلى الروح الجميلة، في تعبيرها عن مشاعرها الجياشة، وحسها المرهف، باستخدام الصور الشعرية، والاستعارات الإيحائية.

وتأتي تجليات الوجد في شعر أسمهان اليعقوبي، تعبيرا عن مشاعرها المرهفة، وآمالها المتطلعة، بطريقة مؤثرة وجذابة، وهي تجسد رغبتها في التحرر، والانعتاق من القيود الاجتماعية والثقافية، باستخدام لغة شاعرية رائعة وجميلة.

***

نايف عبوش

أن تكتب الذات سيرتها، يعني أن تفتح أبواب الذاكرة على مصراعيها، لا لتستسلم لما كان، بل لتعيد بناء المعنى من ركام التجربة. فالسيرة ليست مجرّد سجلٍّ لحياةٍ مضت، بل هي فعل وعيٍ بالوجود، وممارسة لتحرير الذاكرة من صمتها الطويل. إنها رحلة في المرايا المتقابلة، حيث تتواجه الذات مع نفسها، وتتحاور مع الآخر، وتعيد قراءة العالم من موقعها الخاص.

في الكتابة السيريّة، ينكشف الإنسان أمام ذاته أولًا، فيمتحن صدقه مع ماضيه، ويعيد النظر في جراحه وانتصاراته.. في هشاشاته وصلابته. حيث تتحول الكتابة إلى ممارسة للحرية، وإلى إعلانٍ رمزيٍّ عن حق الإنسان في أن يقول: هذا أنا كما اراني، وهذا تاريخي كما أراه.

الكتابة الذاتية بهذا المعنى ليست تمرينًا في السرد، بل فعل وجودٍ ومقاومة. فهي تضع الذاكرة في مواجهة النسيان، وتستحضر ما أرادت الأعراف طمسه، لتعيده إلى فضاء الضوء من خلال اللغة. وكل من يكتب ذاته، إنما يشارك الاخرين في كتابة الذاكرة الجمعية، لأن التجربة الفردية لا تنفصل عن سياقها الاجتماعي والثقافي. فحين تبوح امرأةٌ مثلاً بما اختزنته حياتها من ألمٍ ومقاومة، فإنها لا تروي حكايتها فحسب، بل تكتب أيضًا تاريخًا موازياً لزمنٍ حاول قمعها وتغييب صوتها.

في المجتمعات التي تثقلها التقاليد وتقيّد حرية البوح، تغدو السيرة الذاتية فعل تمرّدٍ رمزي، ومجالًا لمواجهةٍ صامتة بين الذات والنظام الأبوي. فالفعل الكتابي هنا تحرّرٌ من سلطة الصورة الجاهزة، ومن هيمنة الصمت المفروض.

والمرأة الكاتبة، حين تكتب سيرتها، فإنها تكتبها بمدادٍ من الوعي والجرأة؛ تفكّك الخطاب الذي صاغها كما يشاء، وتعيد بناء ذاتها بمعاييرها الخاصة، لا كما أرادها الآخرون. إن فعل الكتابة لديها ليس مجرّد سردٍ لتجربة شخصية، بل تفكيكٌ لبنية القهر، ومحاولةٌ لترميم الفوضى الداخلية في أفق معنى جديد للذات.

وقد أدركتُ كالكثير من الكاتبات العربيات هذا البعد التحرري في كتابة السيرة. ففدوى طوقان، في رحلة جبلية، رحلة صعبة، لم تكتب فقط سيرة امرأةٍ تبحث عن ذاتها، بل سيرة وطنٍ يحاول استعادة حريته. كان صوتها الشعري والمقاوم امتدادًا لذاكرتها التي رفضت الصمت. كتبت عن القهر الاجتماعي كما كتبت عن الاحتلال، فغدت سيرتها نصًا مزدوجًا للمقاومة: مقاومة القيد الداخلي ومقاومة الخارج الاستعماري. وقد أثار نصها جدلاً واسعًا بين الإعجاب والرفض، لكنه كرّسها رمزًا للبوح الذي يتحدى الرقابة، وللكلمة التي تتجاوز حدود "الحياء الاجتماعي" إلى أفق الحرية الإنسانية.

أما مي زيادة، فتمثل نموذجًا آخر لكتابة الذات بوصفها فعل وعيٍ فكريٍّ ومأساة إنسانية. لم تكتب سيرة مكتملة، لكنها تركت رسائل ومقالات شكّلت ملامح سيرتها الفكرية والوجدانية. كانت امرأةً في قلب المعركة بين الوعي الذكوري والأنوثة المفكّرة، صوتًا جريئًا في زمنٍ لم يكن يحتمل جرأة المرأة المثقفة. واجهت الوحدة والخذلان حين تراجع عنها من كان يحتفي بها، فصارت سيرتها، كما وردت في رسائلها إلى جبران، مرآةً لمأساة الفكر حين يُحاصَر بجدار المجتمع. لقد كُتبت سيرتها في الذاكرة الثقافية أكثر مما كُتبت على الورق، لتغدو شاهدًا على ثمن الوعي في زمنٍ يخاف من المرأة الواعية.

أما رضوى عاشور، فقد قدّمت في أثقل من رضوى مثالًا فريدًا للسيرة المقاومة. لم تكن سيرتها مجرّد استعادةٍ لحياتها الشخصية، بل مشروعًا للوعي الجمعي، تتقاطع فيه الذات مع الوطن، والأنوثة مع النضال السياسي. في كتابتها، تتجسد الذاكرة بوصفها مقاومةً للخذلان، وساحةً يتجاور فيها الألم الشخصي مع الحلم الجماعي. لم تكن تكتب لتتذكّر فقط، بل لتؤكد أن الكتابة نفسها فعل نضالٍ ضد الفناء. لقد أعادت تعريف السيرة الذاتية بوصفها نصًّا يواجه السلطة بالصدق، والمرض بالأمل، والموت بالكلمة.

وفي السياق ذاته، نجد غادة السمان تمثل الوجه العاطفي المتمرّد للسيرة الذاتية. كتاباتها في رسائل حب لم تكن مجرّد بوحٍ شخصي، بل تمرينٌ على حرية الروح في مواجهة القيود. كانت عاطفتها سلاحًا جماليًا، وموقفًا ضد النفاق الاجتماعي. تعرّضت لهجومٍ شديد من المحافظين الذين رأوا في كتابتها تجاوزًا "لحدود الأدب"، لكنها في الواقع كانت تمارس أكثر أشكال الصدق شجاعةً، إذ حوّلت تجربتها العاطفية إلى مرآةٍ للإنسان في لحظاته القصوى من الضعف والكرامة.

وإذا اتجهنا إلى التجارب الغربية، نجد فرجينيا وولف في غرفة تخص المرء وحده قد جعلت من الكتابة فعلًا فلسفيًا للتحرر الفكري. لم تكن سيرتها الذاتية بمعناها التقليدي، لكنها كانت إعلانًا صريحًا عن حق المرأة في أن تكتب وتفكر وتعيش بوعيها الخاص. كتبت عن معاناتها النفسية بوصفها جزءًا من عبقريتها، وعن الكتابة كفضاءٍ للخلاص من القهر الذكوري. ومع أنها وُوجهت في مجتمعها بالاستخفاف والتشكيك، فإن نصها أصبح حجر الأساس للوعي النسوي الحديث.

أما سيمون دي بوفوار، فقد حوّلت سيرتها في مذكرات فتاة مطيعة إلى مشروع فلسفي كامل، جعل من التجربة الفردية مادةً للتفكير الوجودي. في سردها لحياتها الأولى، واجهت السلطة الأبوية والدينية بوعيٍ نقديٍّ صارم، وأعلنت تمردها على كل ما يُقيّد حرية العقل والأنوثة. كانت سيرتها صدامًا فكريًا مع المجتمع الفرنسي المحافظ، لكنها غدت لاحقًا أيقونةً للمرأة التي تفكر وتكتب وتعيد تعريف ذاتها بالوعي لا بالتقليد.

إن هذه التجارب، على اختلاف بيئاتها، تكشف أن كتابة السيرة الذاتية النسوية كانت دائمًا فعلًا مزدوجًا: فعل بوحٍ ومقاومة، ووعيٍ وحرية. فالمجتمع كثيرًا ما يستقبل هذه الكتابات بمزيجٍ من الإعجاب والريبة. وحين تكون الكاتبة امرأة، يزداد التوجّس حدةً، لأن البوح الأنثوي يُنظر إليه بوصفه خروجًا عن النظام الرمزي للأبوة. يُحتفى بالكاتب الرجل على أنه جريء وصادق، فيما تُتّهم الكاتبة بأنها متهوّرة أو تبحث عن شهرة. غير أن ما يُعدّ "فضيحة" في زمنه، يتحوّل مع الزمن إلى شهادةٍ على الشجاعة الأدبية، وإلى وثيقةٍ إنسانية عن كسر الصمت.

لقد أثبتت السيرة الذاتية النسوية أن العاطفة ليست نقيض العقل، بل وجهه الأكثر حرارةً وصدقًا. فالعاطفة في هذا السياق ليست ضعفًا، بل طاقة إبداعية تُعيد للكتابة حرارتها الإنسانية، وتجعل من التجربة الشخصية مساحةً لتجلي الوعي الجمعي. والمرأة حين تكتب سيرتها، فإنها لا توثّق ماضيها فحسب، بل تُعيد تعريف البطولة والكرامة من منظورٍ داخليٍّ إنسانيٍّ عميق، يجعل من الصمود فعلًا بطوليًا، ومن الكتابة أداة للشفاء والمصالحة مع الذات.

إن السيرة الذاتية، في جوهرها، هي فعل وجوديٌّ وجماليٌّ يعيد للإنسان صوته ومكانه في العالم. هي مساحة مواجهة بين الذات والعالم، بين ما يُقال في العلن وما يُخفيه الصمت. وحين تكتبها امرأة، فإنها تتحول من مجرد جنسٍ أدبي إلى صرخة حرية، ونداء ذاكرة، وموقفٍ من الوجود ذاته. فكل سيرةٍ تُكتب في زمن القهر هي إعلان حياةٍ جديدة، وانتصار رمزي على النسيان. ومن ثمّ، تبقى كتابة الذات في صورتها الإنسانية من أسمى أشكال التعبير الإنساني، لأنها لا تكتفي بسرد الحياة، بل تخلقها من جديد، وتمنحها معناها.

**

سعاد الراعي

2025.10.19 درسدن

......................

المراجع

* طوقان، فدوى. رحلة جبلية، رحلة صعبة. دار الشروق، عمّان، 1985.

* عاشور، رضوى. أثقل من رضوى. دار الشروق، القاهرة، 2013.

* زيادة، مي. رسائل مي إلى جبران. دار نوفل، بيروت، 1999.

 * السمان، غادة. رسائل حب. دار الطليعة، بيروت، 1987.

* دي بوفوار، سيمون. مذكرات فتاة مطيعة. ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1980.

* وولف، فرجينيا. غرفة تخص المرء وحده. ترجمة لطيفة الزيات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994.

النموذج السويدي

الجميل في المدن السويدية مجانية التعليم والثقافة هناك دوما مركز ثقافي في المدينة والأرياف وهناكً دوما العديد من المكتبات العامة ومكتبات في المدارس والمؤسسات التعليمية والجامعات وحتى في الأحياء وفي مدينة يونشوبنگ يمكن للمرء زيارة المكتبة المركزية في وسط المدينةً والبناية مجمع يعتبر مركز أ ثقافيا تجد فيه بالإضافة إلى المكتبة المركزية المتحف وهو عبارة عن متحف للفن الحديث بالإضافة إلى متحف تاريخ المدينة وأرشيف المدينة.

هذه البناية المحببة لي كل شيء فيه مجاني ومفتوح للجميع وكنت خلال ١٦ عاما عضوا في هيئة الثقافة في المدينة وكان بيت ABM تحت مسؤولية الهيئة. الهيئة الثقافية الذي يتألف أعضائها من ممثلين لجميع الأحزاب السياسية ويتم انتخابهم في الانتخابات النيابية العامة كل أربع سنوات ومعظمهم من أعضاء المجلس البلدي وأعضاء مجلس المحافظة و موظفين.2057 tawfik

في زيارتي اليوم إلى متحف المدينة سأحاول ان اعرض مشاهداتي والمعلومات القيمة حول استوديوهات التصوير والمصورين وتاريخ ألصورالفوتغرافية واهميتها في المجتمعات. في هذا السياق أتذكر احد أصدقائي المصور فاضل الذي كان له استديو تصوير في شارع الجمهورية قرب سينما صلاح الدين في أواخر الخمسينات في مدينة كركوك استوديو الإخاء (قارداشلق) وكان معلما للتربية الفنية وهو الأخ الأصغر لأستاذي ناظم في المدرسة الابتدائية في مدينة التون كوبري الذي داومت فيه العام الأول في المدرسة ابتدائية للبنين . اما المصور الشمسي فكان يقف في الساحات القريبة من الدوائر الرسمية خاصة بالقرب من القشله حيث دائرة النفوس (الجنسية) ومقابل بناية مصرف الرافدين بين جسر الطبقچلي والشهداء . لكن نوعية الصور في الاستديو (كهربائي) كان أفضل نوعية وأوضح بكثير وكل ذلك كان أسود وابيض. للمزيد راجع الإشارات في نهاية المادة.

اما في بغداد فكان استوديوهات الشهيرة في شارع الرشيد مشهورة ك استوديو أرشاك الأرمني (يعتبر الأرمن الرواد في هذا المجال)  واستوديو آخر اعتقد كان استديو بابل (المصور الأرمني جان) مختص بصور رؤساء الجمهورية. ناهيك عن ذلك كان هناك في معظم الأحياء استوديوهات تصوير وخاصة في البتاوين وشارع السعدون والكرادة الحي الذي كنا نسكن فيه. اعتقد كان هناك استديو في منطقة أرخيته وآخر في بوليسخانة . تذكرت كل ذلك وانا أتجول بين المعروضات اليوم في متحفً مدينة يونشوبنگ المكنى ب أورشليم السويد .2058 tawfik

وتحت عنوان فجر التصوير الفوتوغرافي للصور الشخصية معرض عن المصورين الأوائل في المقاطعة والتي تستمر للفترة ما بين 27 سبتمبر 2025 - 11 يناير 2026 ضم المعرض مجموعات خاصة بمتحف مقاطعة يونشوبنگ بعضًا من أقدم صور البورتريه للأشخاص في المقاطعة. يمتد تاريخ الفن الفوتوغرافي من منتصف القرن التاسع عشر ومع اكتشاف الكاميرا إلى القرن العشرين. اليوم كل واحد يحمل معه تلفونه الخلوي (موبايل) ويصور ما يشاء.

الجميل ان في هذه المدينة كانت النسوة كذلك تمارسن مهنة التصوير. خلال القرن التاسع عشر، كانت معظم المهن حكرًا على الرجال، لكن التصوير الفوتوغرافي أتاح فرصًا جديدة للنساء. أدارت العديد منهن استوديوهات دائمة خاصة بهن، ومن ألأوائل في السويد: السيدة أمالي موتاندر، التي افتتحت استوديو في مدينة هالمستاد عام ١٨٤٨، وبريتا صوفيا هيسيليوس، التي افتتحت استوديوها في مدينة كارلستاد عام ١٨٥٣. يحتوي أرشيف الصور على آلاف الصور من أولى استوديوهات التصوير الفوتوغرافي في المقاطعة. العديد من صور المعرض متاحة كذلك للمشاهدةً على موقع . digitaltmuseum.s

يضم متحف مقاطعة يونشوبينگ مجموعة كبيرة من ٣٠ ألف صورة وسلبية. ومجموعة المتحف من صور البورتريه للشخصيات التاريخية وتضم مجموعات متحف المقاطعة كنزًا صغيرًا في حجمه ولكنه فريد من نوعه يعود إلى السنوات الاولى لنشأة التصوير الفوتوغرافي ويمكن مشاهدة: 18 صورة بورتريه التُقطت بأقدم التقنيات، من أواخر أربعينيات القرن التاسع عشر إلى أوائل الستينيات. كما نرى صور علىً صفيحة نحاسية مطلية بالفضة وتحتوي المجموعة على 11 صورة داغريوتايب، وهي تقنية يُرسم فيها الشكل على صفيحة نحاسية مطلية بالفضة ممزوجة بالزئبق. ربما تكون هذه أقدم صورة فوتوغرافية في متحف مقاطعة يونشوبينگ. صورة داغريوتايب التُقطت على الأرجح عام 1848 على يد الملازم سي. بي. إف. ويكستروم. نجد هناكً كذلكً مجموعة صغيرة من خمس صور من نوع أمبروتيب. وهي تقنية تصوير فوتوغرافي مبكرة من خمسينيات القرن التاسع عشر، حيث تتكون الصورة من صورة سلبية زجاجية مطلية بالكولوديون. الخلفية السوداء تُبرز صورة إيجابية. تتضمن المجموعة صورة كالوتيب، وهي صورة فوتوغرافية مبكرة طُوّرت من صورة سلبية. كان البريطاني ويليام هنري فوكس تالبوت هو من طوّر تقنية الكالوتيب. تنافس هو ولويس داجير على من سيبتكر أول صورة فوتوغرافية دائمة. مثّل اختراع تالبوت خطوةً مهمةً في هذا التطور، لكن سرعان ما استُبدل بتقنياتٍ أحدث.

خلال ستينيات القرن التاسع عشر، انتهى عصر المصورين المتجولين، وأُنشئت استوديوهات تصوير دائمة.

 هنا ستلتقي ببعض من أسسوا أعمالهم في مدينة يونشوبينگ.احر اهم المصورين اللذين وثقوا بيئة المدينة وانسانها والحياة اليومية خو المصور غوستاف أندرسون الذي وُلد عام ١٨٩٨ في مقاطعة فاستر. لم يكن لديه استوديو خاص، ولم يكن مصورًا محترفًا بالمعنى الحرفي للكلمة. بل التقط صورًا لأشخاص التقاهم في شوارع المدينة خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. تُصوّر صوره الحياة اليومية لسكان مدينة يونشوبينغ في منازلهم وأماكن عملهم وحياتهم العامة. يُمكنكم كذلك مشاهدة بضعة آلاف من صور للمصورغوستاف على موقع digitaltmuseum.se.

***

د. توفيق رفيق التونچي - السويد

2025

......................

إشارات

https://kitabat.com/%D9%81%D9%8A-%D9%88%D8%AF%D8%A7%D8%B9-%D8%B3%D9%8A%D9%82%D8%A7-%D9%88%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D8%B4%D9%87%D8%B1-%D9%85%D8%B5%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D9%83%D8%B1%D9%83%D9%88%D9%83/?fbclid=IwdGRjcANRsclleHRuA2FlbQIxMQABHquIlNvsI7KtEk6RN0-KTgBHSNVJKt6Sen3E6l27kkR1VNlRos1GhnI66uAg_aem_l5cZUvbWPAFFI0TJV9sJZw https://www.facebook.com/share/p/17M9JAAr9y/?mibextid=wwXIfr https://www.algardenia.com/maqalat/59359-2023-07-08-09-23-27.html ‏Källa: Facebook مذكرات المصور (جان) صاحب ستوديو بابل للتصوير.. يقع في شارع الرشيد - Facebook

(الضوء خافت على قاعة واسعة. صمت ممتد. أبواب خفية تفتح ببطء).

يدخل الظل، يتوارى إلى جانب مجموعة ظلال، كأنه يختفي بينهم، كظل كاهن ضائع.

 يجلس في زاوية القاعة، والظلال الأخرى تنكسر بين الحين والآخر على الجدار، تتحرك ببطء، كأنها تعكس صمت المكان وانكسار الروح.

(صمت طويل. أصوات خافتة كصدى خطوات أو همسات بعيدة تتردد بلا مصدر واضح. الظلال تتحرك ببطء، أحيانًا تتجمع، أحيانًا تتباعد، كأنها تبحث عن شيء مفقود).

القاعة، المعبد، كل شيء فارغ من الحياة… بلا خطيب… بلا صدى… بلا صوت يقودها.

الضوء ينكسر على الظل، والظلال تحوم حوله. شعور الغياب والخذلان يخيم على القاعة.

الهاتف يرن بعيدًا...

      صوت عالٍ من خلف القاعة......

                ضحكات، محادثات حية…

                             الظل يتحرك قليلًا نحو الضوء.........

ثم ......

يعود إلى زاويته صامتًا.

      الضوء يخف تدريجيًا، .......

              الظلال تتلاشى على الجدران.......،

ويبقى الظل وحده في صمت القاعة، ككاهن بلا معبد، والملاذ الحقيقي بعيد، يختبئ في زاوية لم تبلغه أقدام أحد.

(دار المسنين… وجودها محرّم، كما تحرم المحرمات في الأراضي المقدسة؛ مكان لا ينبغي أن يكون، لأنها تشيخ الأرواح بلا رعاية، وتنسف واجب الأبناء تجاه آبائهم).

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

في دينامية الاحتقار تتفنن عبقرية الموضوع وهو يمارس على الذات الجمعية ساديتَه المرَضية في صلفٍ غريب، لا نجد له تفسيراً إلا في شرطين: الأول هو شرط الغياب، والثاني هو شرط الحضور.

من يمارس الغياب؟ سؤال أو مساءلة، لا فرق، ما دام الأمر يتعلق بمجهول يحرص كل الحرص الطمعي على الغياب باسم الحضور في كينونتنا المبهمة التي باعت في سابق الأزمان بعضاً منها (باعتْ صوتاً، مثلاً)؛ وهو سؤال لا مشروعٌ، لأن شرعيته تتعلق أساساً بالإخلاص لنسغ هذا الذي بعناهُ سابقاً آبقاً.

كيف يتمّ تحويل المدى القُزحي إلى ضبابٍ يتشكل شوارعَ طويلةً لمَدينة بلا مدنِيّة، ولمدنيةٍ تغتسل كل صباح بماء الشعارات التي لا تمسحُ أدنى درن؟

كيف تصنع هذه الآلة الغائبة\الحاضرةُ  في تجلِّينا القطيعي حفرياتها الموبقة والآثمة في ظل زغاريد نساء التعليم وفي ظل فروسية رجال التعليم المقلّمة الحوافر؟

ها المشهد الآن جَهِيلٌ، على الصيغة المشبّهة باسم الفاعل حيث لا فاعل إلا الآلة الموصوفة أعلاهُ…

والمشهد كما وُصفَ، جهيلٌ لا يحتاج إلى تشخيص ما دام التشخيص ذاته يربأ بذاته أن يصعد منابر التحليل…

ولأن ذلك كذلك، طغت الآلة الغائبة\الحاضرةُ وتجبّرت في سيمياء صمتنا العجيب، والمستكين إلى شيءٍ يشبه الدّعَةَ المسترخية على أرائك التسويف التي تعجّ بها مقررات المنابر الوتيرة الصانعة لغدٍ لا يشبه غد أطفالنا، ولا ينتمي إلى براءاتهم المغتصبة حتّى الآن... لغدٍ لا يزداد إلا تركيبا وتعقيدا واستغلاقا.

ولأنها تتسم بهشاشة المفاصل فإن هذه الآلة تتغوّل، ممسكة بآليات شِعارِ"المحبّة" لا فلسفة "المحبّة" تستنبتها أينما حلّت وارتحلتْ، ضاربةً على أوتار هذا الموسوم برجل التعليم الحساسة، تقدّم له العصا بكف والجزرة بأخرى، في تلوين لا تنتبه له الإرادة التي تمّ تغييبها بشتى الوسائل ومنها على سبيل المثال الواخز لا على سبيل الحصر الأوخز، صبيبُ المذكرات والوصايا والتوجيهات والتعليمات النازلة مثل وابل لا يترك لهذا الرجل نفَساً واحدا يستجمع فيه قواه فضلا عن قدرٍ يختاره هو بذاته وينحشر فيه باسم ترقيع ما هو غير قابل للترقيع، وأقصد انخراط هذا الرجل في سديم السّاعات الإضافية التي لا تضيف إلى أجنداته الإنسانية إلا مزيداً من التعب والنصب والحركة الاحتقارية السارية في نسغ الإنسان عندما يغيب عنه الإنسان.

من هنا تغوّل الآلة، سائبةً متسيبة في أرض بلا حامٍ ولا حارس؛ لأن الحامي والحارس استساغ قبضة المراتع والمرابع الخاصة التي تستحلب ضرعه في غير مقاومة.

والحديث هنا قد يطول كلما لامسنا بعضاً من شرخٍ في جسد هذا المبنى المارد، الذي نسميه التعليم وما هو بمارد؛ لأن صرحه تسوّس، بفعل هذه الآلة المُحبّة البائعة للهوى والهواء والهوى (من هوى أي سقط).

من يمارس إذن لعبة الحضور؟ نسأل، حتى نخلص لنسق الحكاية التي أطّرتنا داخل شرطين، هما، الغياب والحضور…؟

حضورُ من؟…

الأمر هنا مُمَأْسس وغير قابل للطعن ما دامت الآلة الهشّة قد حملناها على أكتافنا وبوّأناها منابر أعلى في قمّة ذواتنا ونصّبناها تصنع بدلنا في تمثيلية "ديمقراطية" كلّ أحلامنا وطموحاتنا وتطلعاتنا. فما مارستْ إلا تعطيلنا، في مقابل الدفع بأحلامها إلى آفاق الحضور الفعلي في تغييب لكل ذاتٍ كانت تصنع، في نيّاتٍ ساذجة، مستقبل هذه الآلة.

من هنا الحضور الفعلي لكلّ أشكال التتويج إلا تتويج العرق الحلال باهظ الثمن… ويتم تتويج كل أضرب اللعب والضحك على الأذقان والتسويف والديماغوجية والتحذلق بالشعارات والبهارات الملذذة لطعام آسنٍ لا يشبهنا. ينضاف إلى ذلك "إعلامٌ" نسي أنه إعلامٌ وغرّد خارج سربنا وطبّل بعيدا عن عرسنا..

إذن من يحضرُ؟ ومن يغيب؟…

سؤال أو مساءلة لا تهمنا الإجابة عنهما بقدر ما يهمنا هذا الاحتقار الذي خرج من حالة سلوكية بمرجعية شعبية إلى دينامية بمرجعية شعبويّة تتبناها الآلة الموصوفة أعلاه ولا تني تتفنّن في تذويقنا كل أنماط هذه الاحتقارية (المُمَكْيَجَة )، تطير مع أول مسحَة ولو من كفّ طفل يتعلم أبجديات المسح والكتابة على سبّورة هذا الوطن، الذي نعتبرهُ المدرسة الجليلة التي حالَ لونها واسْتحال، بفعل من أرادوها سبّورةً بلا طباشير وسبّورةً بلا تباشير.

 ***

نورالدين حنيف أبوشامة\ المغرب

إنّ ولوج رياض الكتب لهو رحلة سامية، تحلّق بالرّوح في فضاءات رحبة، وتشبع العقل بشتّى أنواع الحكمة والبصيرة، إنّه صعود بالنّفس إلى أوج المعرفة الفسيحة، وبساتين الجمال البهيّة الّتي لا تذبل.

فأن تكون رفيقا للكتاب يعني أن تسير في دروب النّور وقد أضاءت حروفه أيّامك، تتّخذه مرجعا وموردا، وتخلق منه أجنحة تحلّق بها في عالم مفتوح، تطلّ منها على نوافذ الكون، وتسافر في رحلة الفكر إلى ما وراء المعنى، مطلقا سراح الهديِّ في روحك، ومنعتقا من أسر الفكر وقيوده، تنسدل على كتفيّك نسائم الرّضا والسّرور، تنتعش روحك ويرتوي فكرك، وتتجلّى أمام عينيك أسرار الوجود، وكأنّك قد أوتيت مفاتيح الغيب، تفتح بها كلّ باب موصد، وتبصر كلّ خفي، لتغدو أنت القارئ والمقروء، في وحدة فريدة مع الكون وما فيه؛ فعلى جناحيّ الكتاب تحلّق المعاني، وبين دفتيّه تتفتّح أزاهير الحياة، تقلب الصّفحات فتسفر الكلمات عن وجوه بهيّة، وكأنّ الكتاب روح ناطقة، تترجم صمت الوجود إلى بوح مبين.

هو الكتاب إذن.. ذلك الفلك الذّهبيّ الّذي يُنَجّي الغارقين في لجج الجهل، نحمله على أكتاف الرّوح؛ لتبزغ شمس العقل في سمائنا، وإذ نتّخذ من حروفه وسائد، نرى أحلامنا تحلّق نحو النّجوم، وتزهر في أعماقنا دهشة لا تذوي.

نقرأ.. فيعرفنا القرطاس والقلم، والخيل واللّيل مرحّبة، تتسابق بنا لنبلغ فجرنا الجديد. وحينئذ، تستيقظ البصيرة على وهج البيان، فنمعن فيه عشقا وتعمّقا حتّى تصدح حناجرنا بالنّشيد، كأنّنا ناي يشدو بألحان الرّوح، ثمّ يصحو الوعي على سحر البيان وروعة الإنشاد.

فيا أيّها الوافد إلى عالم الكتاب، توقّف لحظة بين ورقتين؛ لتصير شجرة، وإن لاح لك حكماء يتلذّذون بالصّمت ويمجّدون أوراق الكتب، فاعلم أنّك أوشكت على الوصول، فما من شيء يشدّك نحو النّور غير الكتاب، وما من باب يفضي إلى الحقائق سواه.

أيّها السّاعي وراء المعنى، لقد تربّع الأوّلون على عرش التّاريخ، وخطّوا بأياديهم دروب النّجاة على صفحاته الخالدة، ثمّ أودعوها رياح الأزمان لتبحر بها إلى حيث يشاء القدر، فإن رامت روحك أن تعانق وهج النّور، فما عليك إلّا أن تفتح كتابا. عندئذ، سيتّضح لك أنّ النّداء الخفيّ الّذي يصدح في أعماقك، ليس سوى صدىً لما تسمعه روحك كلّما قلبت صفحة وطويت أخرى. وصفحة بعد صفحة، تزهر النّفس وتغدو أكثر عمقا، تشرق شمس اليقين في فؤادك، وتأخذ الأفكار والكلمات دلالاتها البعيدة، تنساب في أعماق روحك، وتسطع كنصلٍ يتلألأ تحت وهج الحقيقة، فتغدو أكثر وضوحا، وتكتسب الرّؤية صورتها الأصفى والأنقى وقد عرَفَت سبيلها، إذ لا حاجز يحول بينها وبين صفاء الرّؤى، فالنّور نقيّ بسيط، والأبواب المغلقة تتهاوى أمام سحره وكماله.

***

صباح بشير

 

سلسلة "المشغل التفاعلي" لمبادرة حملة ثقافة المحبّة والسلام

- التفاعل الكتابي في القطاع الحكومي العراقي: نهج مبتكر لحملة المحبّة والسلام

"هذا المقال جزء من سلسلة مقالات تهدف إلى التوثيق الإعلامي لمبادرة حملة ثقافة المحبة والسلام".

حين تقدّمتُ إلى مدير عام دار الكتب والوثائق الوطنية العراقية، في تشرين الثاني 2024، بفكرة إطلاق مبادرة حملة ثقافة المحبّة والسلام بالتعاون بين الدار، ومجلّة سماء الأمير الإلكترونية الرقمية التي أسّستها وأرأس تحريرها، تحت شعار «بالمحبة نبني العراق»، كان الهدف نشر قيم المحبّة والسلام، وتعزيز التسامح والتعايش، واحترام التنوع الثقافي، ومكافحة خطاب الكراهية في بلدنا، لتكون رسالة واضحة نحو مجتمع أكثر وحدة وازدهاراً، وكي نقطع الطريق على من يبثّون سمومهم في مختلف مفاصل الحياة في المجتمع الواقعي والفضاء الرقمي، وقد تمكّنوا من التأثير في بعض الضعفاء والمأزومين، ليجعلوا منهم جسوراً لزعزعة أمن المجتمع وإشاعة التفرقة بين المواطنين. من هنا جاءت أهمية أن نواجه هذه الهجمة الصفراء من الكراهية، لنعمل على إفشال مخططات هؤلاء من خلال إشاعة روح المحبّة.

كانت الخطة المبدئية إطلاق الحملة بصيغة مقالات وعبارات وملصقات ولوحات تُنشر عبر منصّات التواصل الاجتماعي أولاً، ومن ثم استحداث منصّة رقمية في الموقع الإلكتروني الرسمي للدار، في شباط 2025، لتكون أول منصّة إعلامية ثقافية رقمية رسمية في العراق، تجمع بين الإبداع البشري ونتاج الذكاء الاصطناعي في الكتابة والتحليل والفنون.

وجاء التنفيذ وفق الخطة. وكما يُقال: ابدأ العمل ونفّذه، ومن ثم طوّره وأنت في الطريق.

قرّرتُ تطوير المبادرة في آب 2025، لتعمل بشكل تفاعلي يجمع بين النشر الإعلامي الإلكتروني والفعاليات الواقعية الميدانية مع الجمهور، لتكون مساحة حيّة للتعلّم والإبداع والتفاعل الثقافي والإبداعي والمشاركة المجتمعية لجميع العراقيين.

وشمل الجانب التفاعلي إقامة فعاليات مع الجمهور كالقصص الملهمة، و«المحبّة والسلام من زاوية الاختصاص»، و«قصاصات محبّة»، و«هاشتاك تفاعل الناس مع الحملة»، و«المشغل التفاعلي الحضوري» مع الموظفين وغيرهم، وهذا هو موضوعنا هنا.

تقوم فكرة سلسلة المشاغل التي بدأت بتنفيذها في أيلول 2025 على إقامة مشغل لكل قسم أو شعبة في دار الكتب والوثائق كتجربة أولى، ويشمل تقديم محاضرة تمهيدية قصيرة عن أهمية إشاعة وتعزيز ثقافة المحبّة والسلام في بيئة العمل، تُفتح بعدها أبواب النقاش والتعبير بالكتابة، بمعنى إشراك الموظفين المشاركين في كتابة مساهمات موجزة تعبّر عن آرائهم ورؤاهم، ونشر تلك المساهمات لاحقاً ضمن مخرجات النشاط وأخبار المشغل إعلامياً، بما يعزّز انخراطهم الإيجابي في ترسيخ قيم التسامح، والتآخي، والتعايش، واحترام التنوع الثقافي، ومكافحة خطاب الكراهية في المجتمع الواقعي والافتراضي.

ويهدف هذا النشاط إلى إشراك موظفي الدار في صناعة خطاب إيجابي وبنّاء، انسجاماً مع رسالة الدار في خدمة المجتمع، ودعماً للجهود الوطنية في نشر ثقافة المحبّة والسلام، والمساهمة في بناء العراق بالمحبّة.

أمّا المشاغل التفاعلية المخصّصة للجمهور العام، فتُقام للمهتمّين في مكتبة الأجيال التابعة للدار من فنّانين وخطّاطين وموهوبين وزوار المكتبة، وكذلك للهواة من القرّاء الصغار، فضلاً عن استقطاب الجمهور عبر مشاغل افتراضية تُقام من خلال صفحاتنا على شبكات التواصل الاجتماعي، إلى جانب إقامة مشاغل لموظفين في مؤسسات أخرى.

أقمنا منذ الرابع عشر من أيلول 2025 حتى يوم الثالث عشر من تشرين الأول 2025 ستة مشاغل لكل من شعبة التخطيط والمتابعة، والمركز الوطني للوثائق، وقسم الدوريات في المكتبة الوطنية، ومكتبة الأجيال التي شملت المشغلين اللذين أقمتهما فيها فنانو المرسم وخطّاطو مؤسسة ابن البواب للفنون الإسلامية ومعاونات مدرسة ابتدائية، وشعبة العلاقات والإعلام، وما زلنا مستمرين في إقامة المشاغل التي تتناول بيئة العمل مع الأخذ بعين الاعتبار نوع عمل كل قسم أو شعبة.

الملفت للنظر هو إقبال موظفي دار الكتب والوثائق على المشاغل وتفاعلهم النشط معها عبر نقاشاتهم ومساهماتهم الكتابية، في تجربة هي الأولى من نوعها رسمياً. ففي العادة تُقام ورش عمل يقتصر المشاركون فيها على النقاش والحوار الشفهي، لكن التفاعل بالكتابة في هذه المشاغل أسلوب جديد يميّز الحملة، ويتيح للمشاركين التعبير عن آرائهم بشكل أكثر دقة وعمق. وقد حظي هذا التفاعل بإشادة المشاركين ومتابعي صفحات دار الكتب والوثائق ومجلّة سماء الأمير في فيس بوك وشبكات التواصل الاجتماعي الأخرى.

ويمكن القول إنّ تطبيق أسلوب التفاعل الكتابي في مبادرة حملة ثقافة المحبّة والسلام يُعد مبتكراً في سياق القطاع الحكومي العراقي. هذا التوجه يُظهر تجديداً في أساليب العمل المؤسسي ويُسهم في تعزيز قيم التسامح والتعايش بين الموظفين.

وسنتوقف لاحقاً عند آرائهم بشكل علمي عبر استبيان يُوزّع بينهم، لنخرج بنتائج وتوصيات عملية هادفة للوقوف على أثر الحملة والمشاغل ونتائجها وتطويرها مستقبلاً.

وإلى أن نتوقف معكم عند فعالية أخرى من فعاليات الحملة، سنواصل أعمال المشغل، لنقيم لاحقاً معرضاً لنتاجات المشاركين، وسنستمر بتطوير الفعليات والمنشورات كلما وجدنا أهمية وموجباً لذلك، لأننا نطمح للأفضل من أجل مجتمع يرفل بالجمال، فالمحبّة والسلام حياة.

***

اسماء محمد مصطفى

منذ أن قال الطبيبُ إن قلبي يحتاجُ إلى معاينةٍ عاجلة، ارتجفَ في صدري خوفٌ لا اسمَ له، ربما لأنني أخافُ عليهِ… على القلبِ الذي يسكنُهُ وجهُكِ> منذ لقائنا الأول، ذلك اللقاء الذي كسرنا فيه أعرافَ القبيلة، ومضينا — كطفلين — نحو البعيد، حيث لا يُسمَعُ إلا خفقُ الريحِ ونبضُ خطانا. أتذكّرين؟

حين رآكِ أحدهم تجلسينَ إلى جواري، لم تهتزّي، لم تُخفِي ابتسامتك، بل قلتِ لهُ بهدوءٍ جميل: تفضّل، المكانُ يتّسعُ لنا جميعًا. كأنكِ تُعلّمينَ العالمَ معنى الحرية. قلتُ لكِ يومها: من أينَ لكِ كلُّ هذا النور؟ كلُّ هذا الاتزان في وجهِ العاصفة؟ فأجبتِني: وهل فعلتُ ما يدعو إلى الخوف؟ ومنذ تلك اللحظة، صار قلبي — يا حبيبتي — يخافُ عليكِ أكثرَ ممّا يخافُ على نفسه، يخافُ من صمتكِ إذا طال، ومن حضوركِ إذا اقترب، ومن كلمةٍ تخرجُ منكِ فتُعيدُ إلى الدمِ اضطرابَهُ الأول.

*

إنه القلبُ الذي لا يشفى، لأنكِ فيهِ — نبضًا لا يخضعُ لمعاينةٍ، وحبًّا لا يُكتبُ لهُ علاج.

***

د. جاسم الخالدي

ودّعنا قبل سنتين، في مثل هذه الايام، ضمن بحرٍ التوديعات الهائج اللجب، صديقين عزيزين إلى مثواهما الأخيرين. هذان الراحلان تركا بصمة واضحة في دفتر حياتنا الثقافية عامة، الأدبية والموسيقية خاصة، فقد ترك الشاعر حسين مهنا تراثًا شعريًا ونثريًا أيضًا يدُّل على خصوبة عطائه وسخاء قريحته، فيما أعطى سهيل رضوان حياتنا الموسيقية ما أغناها وأثراها سواء كان ذلك على المستوى المحلّي أو المستوى الخارجي. فيما يلي أتحدّث عن كلّ من هذين الراحلين الغاليين متطرقًا إلى نتاج كلّ منهما الثرّ السخي على انفراد وإلى علاقتي الشخصية بكلّ منهما، تاركًا للشبكة العنكبوتية الالكترونية العالمية غوغل البقية للتعريف بهما وبما قدّماه من أيادي بيضاء لحياتنا صعبة الوجود مُركّبة الواقع.. في بلادنا العزيزة الغالية.

* لقد هزّني كليًا رحيل الصديق الشاعر القاص حسيين مهنا الابن المُخلص لبلاده عامة ولبلدته البُقيعة خاصة. وأعادني إلى أوّل عهدي بمعرفته، فقد كان اللقاء الأول، كما في معظم اللقاءات بالمعروفين من أهل الادب والفن، عبر وسائل الاعلام التي نشر فيها شيئًا من نتاجاته الأدبية، وأذكر منها صحافة الحزب الشيوعي "الاتحاد" و"الجديد"، وقد عرفت عنه قبل أن التقي به، أنه رفض التجنيد الالزامي المفروض على الشبان من بني معروف، ودفع ثمنًا لرفضه هذا غاليًا اعتاد على دفع مثله مَن رفض التجنيد الالزامي، وهم ليسوا قلة من أبناء الطائفة المعروفية. أما ذلك الرفض فقد جاء لأسباب ضميرية فكيف يتجنّد الأخ ضد أخاه وكيف يمكنه أن يقف في ساحة الوغى شاهرًا سلاحه في وجهه؟.. بعد رفضه هذا كنت أتابع عطاءه الادبي في المجالين الشعري والنثري، إلى أن عملت مساعدًا للمحرر الادبي الكاتب الصديق محمد علي طه، في صحيفة "الاتحاد" في أواخر السبعينيات، وتصادف أن التقيت بحسين خلال إحدى زياراته للصحيفة، أسوة بعدد وفير من كتّابنا وشعرائنا ممن تردّدوا زوّارًا على الصحيفة المبجّلة، وأذكر أن الحديث دار بيننا في حينها وكأنما أحدنا يعرف الآخر دون أن يلتقي به وجهًا لوجه. وما زلت أتذكر أننا تبادلنا الحديث بمودةِ ومحبةِ مَن عرف داخلية الآخر واطلع على ما كتبه ونشره من أعمال أدبية في الفترة السابقة. ذلك اللقاء كان فاتحةً لعلاقة سوف تتواصل حتى أيامه الأخيرة في الحياة، وسوف تتضمّن ذكريات وذكريات كان بإمكانها أن تشعل نار المودة إلى ما بعد رحيله، كما يرى ويلمس الاخوة القراء الآن.

مما أذكره عن حسين هو تواضعه الجمّ وعلمه الغزير، فقد كان متواضعًا حدّ البساطة عالمًا حدّ الاغوار البعيدة السحيقة من العلم. على المستوى الأول من تواضعه أذكر حادثتين إحداهما تتمثّل في انتقادي لمؤسسة ما منحته جائزتها البكر الأولى الجديدة، دون أن تقدم المسوّغات الواقفة وراء منحه جائزتها الطريّة تلك، وكان أن امتدح ما كتبته وأخبرني أنه يوافق على كلّ ما كتبته حول منحه تلك الجائزة. فكبُر في عيني أكثر، والأخرى عندما كتبت مقالة في مديح قصيدة الحب رائيًا فيها قمة في الحضور في كلّ الأوقات وأذكر أنه كان في حينها من أوائل المُشجّعين المحبذين لكتابة مثل هكذا شعر، بل إنه أصدر بعدها مجموعة شعرية ضمّت بين جانحي عنوانها كلمة الحب. أما على مستوى العلم الغزير فاذكر له بحثه المُجدّ عمّا يمكن أن يثري ذاكرته من الكتب وأذكر في هذا السياق أنه أطال البحث عن كتاب الشعراء الصعاليك للكاتب الباحث المصري الادبي الدكتور يوسف خليف، كما أذكر بحثه الدائب عن الكتاب الخالد وهو الكوميديا الإلهية لدانتي الليجيري بترجمة المصري الرائع أحمد عثمان.. فقد بحث عن هذين الكتابين حتى عثر عليهما، وكان حسين عميق التفكير مطلعًا قلما خلت جلسة فيما بيننا من معلومات واستعادات لكتابات وكتّاب ممن يذكرهم الجميع وأحيانا ممن لا يذكرهم أحد تقريبًا. أما حافظته الشعرية فقد كانت من الأغنى والأكثر ثراءً. ويُسجّل له في هذا المجال عطاؤه الادبي متعدد الأنواع، فقد كتب وابدع طوال أيام حياته الأدبية في الشعر والقصة وقدم عطاءً جيّدًا ما زال ينتظر مَن يتناوله بالدرس والتقييم من اجل إعطائه ما هو جدير من مكانةٍ مُستحقة في أدبنا العربي في بلادنا، وأشير هنا بكثير من المحبة إلى كتابه الرائع "سرير ابيض"، الذي أصدره قبل سنوات بعيدة وتحدّث فيه بإبداع حقيقي عن مواجهته للموت وجهًا لوجه.. وتخلّصه منه في المرة الأولى وهو ما لم يحدث في المرة الثانية بعد ردح من الزمن. وأعيد هنا ما سبق وكتبته عن حسين شاعرًا وأديبًا عازف عن الشهرة المجانية غارقًا في بحور الابداع العميقة مكتفيًا بالزيارات الغالية لملكة الابداع.. صديقته الوفية المُخلصة حتى أيامه الأخيرة، وبإمكان مَن يود أن يبحث عمّا كتبته عنه في الشبكة العنكبوتية الالكتروني، فهو موجود فيها.

* أما رحيل الصديق العزيز سهيل رضوان، بعد رحيل شاعري الصديق حسين مهنا، فقد أعادني إلى سنوات الطفولة المبكّرة وإلى محطّات تالية غنيّة وذات دلالات خاصة معه. بداية معرفتي بالمرحوم كانت بعيدة جدًا ومما أذكره عنه في حينها.. أيام زار مدرستنا الابتدائية ليقوم بمهمته مفتّشًا لموضوع الموسيقى الذي تتيّمت به وما زلت من عشاقه المولّهين. في ذلك اليوم البعيد العصيّ على التذكُّر مع ضابيات الزمان وتعاقباتها.. ها هو اسمه شبه المُقدس يتردّد على شفاه الجميع من ذوي العلاقة في المدرسة. يومها دخل غرفة الدرس. مثل ملك انتدبته الآلهة، قدّم عددًا من الملاحظات وخرج مثل ملك يحيط به الجمال والجلال. وتمضي السنوات لنرتفع صفًا إثر صفّ ولنتعلم أناشيد من ألحانه وكتابة شعراء من بلادنا، تلك الأناشيد

 تُمجّد في بعضها الطبيعة وفي بعضها الأخر الانسان، وها نحن نردّدها بمحبة وإكبار، الامر الذي سيدفعني فيما بعد لأن اقترح عليه، وكان هذا قبل سنوات أن يلحّن نشيدًا في محبة مدينتي الحبيبة الناصرة وجبالها الراسيات، فيستجيب لطلبي هذا ويقدّم خدماته التبرّعية المجّانية خلال فترة ليست قصير من الوقت خدمة ومحبة للأولاد والبلاد.

في سياق الحديث عن هذا الرجل المموسق، أتذكر أن علاقتي الجدّية به ابتدأت في أوائل التسعينيات وكان ذلك خلال قصة تروى، لكن ليس بالتفاصيل المملّة، وما زلت أتذكر يومها أنه أسس فرقة الموسيقى العربية التي ستُغني حياتنا الفنية في البلاد وخارجها، قدمت قصيدة ملحّنة ومغناة من كلمات عشقتها للشاعر العربي العريق الحسن ابن هاني، أبي نواس، وتمّ تقديمها ضمن حفل أقيم آنذاك في قاعة النادي الارثوذكسي في مدينتي الناصرة. وبما أنني منذ قرأت تلك القصيدة خطر في بالي أن تُلحّن وتقدم على اعتبار أنها من روائع الشعر، فقد لاحظت أن اللحن لم يكن مناسبًا للكلمات الرائعة الساحرة، فهمست بانتقادي هذا لبعض الأصدقاء، لأفاجأ بعد أيام بمدير فرقة الموسيقى العربية، سهيل رضوان، يتصل بي داعيًا إياي إلى جلسة خاصة نتداول فيها الرأي، ولا أخفي أنني ذهبت إلى تلك الجلسة وقلبي يدق، غير أن ما حدث كان من شأنه أن يهدّئ بالي وأن يطمئن نفسي، فقد فوجئت بالمدير يرحب أولًا بالنقد البنّاء ويناقشني مُناقشة مَن يريد أن يستمع إلى رأي آخر، صادق ومختلف للتعلم منه وللانطلاق خطوة أخرى في مسيرة فرقة الموسيقى العربية. أذكر أنني لم أغادر مكاتب فرقة الموسيقى العربية، وقد كانت تقوم آنذاك في الحي الشرقي من مدينتي الناصرة، إلا وقد ضمّني مؤسسها ومديرها إلى هيئتها الإدارية. وكان أن علاقتي بالفرقة أخذت تتوطّد يومًا بعد يوم وفترة إثر أخرى، لأجد صاحبها الطيّب يوكل إلي تحرير كلّ نشراتها، بل ليعتمد عليّ في تحرير كتابه عن الشعراء العرب الفلسطينيين الشعبيين، وليوكل إليّ كتابة مقدمته. لقد رافقته في طاقم الفرقة سنوات وسنوات، وتعاونت معه في كلّ ما متّ للأدب والاعلام بصلة منذ تلكم الأعوام حتى أواخرها عندما جاء ليخبرني، قبل سنوات، بأنه قرّر الرحيل إلى حيفا والإقامة بين الاهل والاحباء، ولتقتصر علاقتي به بعدها بالاتصالات التلفونية. ما عدا هذا أسجل فيما يلي ملاحظتين أراهما غاية في الأهمية، فيما يتعلّق بهذه الشخصية المؤثرة. إحداهما تتعلّق بكونه مُعلمًا مسالمًا، آثر أن يحافظ على هذه الصفة في كلّ ما قدّمه وأعطاه ، مبتعدا عن السياسة قدر الإمكان ومقتربا من الفن بلا حدود، والأخرى انه كان دقيقا متابعًا لكلّ ما يقوم به من أعمال ويقدّمه لحياتنا الفنّية من موسيقى وغناء. وقد رافقته فيما كان يُقدّمه من برامج مِن الفها إلى يائها، لأراه يبذل كلَّ ما بوسع إنسان محبّ للفن وعاشق لروعته.. أن يقدّمه.

رحم الله هذين الصديقين المعلمين وأدام ذكرهما.. لما استحقاه من تقدير واحترام.. باقين وراحلين أيضًا.

***

بقلم: ناجي ظاهر

 

لعل من نافلة القول الإشارة إلى ان الأديبة المتالقة حليمة الحريري، كاتبة مبدعة، لها حضورها المتميز في الساحة الثقافية والأدبية المغاربية، حيث تتميز كتاباتها بالتوهج والجمال، نتيجة تناغم إبداعها الأدبي، مع توظيفها الفني المقتدر لمهاراتها، في صياغة سردياتها ونتاجاتها . 

ولعل جمالية الصورة الأدبية والشعرية، وبلاغة توظيف المفردة في كتابات حليمة الحريري، هي ما يشد القارئ ليعيش مع كتاباتها، عالما حالما من الخيال الشاعري، والجمال الذوقي، بما تستخدمه من لغة شاعرية بليغة الانثيال، في تعبيرها عن مشاعرها المتوهجة، وأحاسيسها المرهفة. 

وهكذا تظل الكاتبة حليمة الحريري متمكنة في كتاباتها الأديبة، حيث الاقتدار في الوصف الشاعري للصور التعبيرية لسردياتها ونصوصها الإبداعية، التي تمنح القارئ بدورها، صورة بهية، وقدرة مبهرة على تناولها البليغ للمشاهد والاشياء بالوصف الجميل، حيث اعتادت ان تصنع منها جواً بهيا من البهجة، يشد المتلقي للتفاعل مع النص بقوة.

وتجدر الإشارة إلى أن المتلقي وهو يطالع نصوص وكتابات الاديبة حليمة الحريري، يعيش بارتياح وهج المشاعر المتوقدة، وألق العاطفة الجياشة، التي تفيض بها كتاباتها الإبداعية، بما تشكله من ٱصرة تواصل وجداني جذابة مع القارئ، حيث يتماهى وجدانيا، مع ما تتميز به نصوصها من تأمل شاعري عميق، يضيف بعداً ذوقيا ساحرا للنص، يعيش القارئ معه حقيقة وجوده في فضاء الادب، بحس وجداني متألق، وسعادة بالغة، مع تجليات دلالات، وصور نصوصها التعبيرية الطافحة بكل عناصر البهجة والإبداع.

***

نايف عبوش

لم تعد تكفيني كل الاحترازات الوقائية من التأمل، الاسترخاء، تذكير نفسي بإنجازاتي، التفكير فيمن أحب، مشاهدة الأفلام الكوميدية، أو قراءة قصص النجاح — كل ذلك لم يعد يحول دون تعكر المزاج أو ضيق الخُلق.

بل أكثر ما يثير اشمئزازي حقًا هي تلك الفيديوهات المتكاثرة كالأعشاب الطفيلية في صفحات التواصل:

“أنت تستطيع! القرار بيدك!”

“لا يوجد فشل، بل محاولات فاشلة.”

“هل تريد أن تقضي حياتك بلا دخل ثابت؟”

صور سيارات وطائرات وشواطئ وحقائب ماركات عالمية… كأن السعادة تُشترى بالتقسيط.

أعتبر هذا النوع من التحفيز إساءة عاطفية مقنّعة أكثر مما هو دافع. هذه النماذج العشوائية تنجح بالصدفة المحضة، مثل نبتة تنمو بين الصخور لتغري البقية بالهلاك في الطريق نفسه.

إنهم يروّجون لاحتمالات ضئيلة ويتجاهلون الأكثر شيوعًا:

أن تتخيل نفسك ناجحًا وتبني أحلامك على سراب فينكشف الرمل تحت قدميك؛

أن تستثمر كل ما تملك بحثًا عن مجدٍ يشبه السراب، ثم تجد نفسك غارقًا في ديونٍ لا مفرّ منها.

وفي نظرهم — ان حدث ذلك — أنت فاشل، كسول، بلا طموح، بلا قيمة.

لتصبح فوق همّك وفقرك محتقراً لنفسك لأنك لم تدخل سباقًا لم يكن مهيّأً لك أصلاً.

على كل حال، هو يوم الأحد هكذا ببساطة، يأتي دائمًا ملتصقًا باكتئابه.

اكتئاب الأحد يشبه اكتئاب الشتاء، لكنه أكثر دهاءً، يتسلل خفيفًا، يغيّر المزاج بلا استئذان، حتى يغدو حملًا ثقيلاً على الروح دون أن ننتبه أن هذا الكآبة الصغيرة المشاكسة العابرة كانت شقًّا في الجدار.

لهذا قررت التسليم والمضي قدمًا، دون مقاومة. أعددت طقوسي الخاصة لاستقباله:

أن أظل في الفراش أطول وقت ممكن، أصارع معضلتي الوجودية قبل أن يرن المنبه.

وصلت المكتب في السابعة والنصف.

رميت سلسلة المفاتيح على الطاولة، أخرجت ملعقة شاي حديدية من الثلاجة لأضعها على جفوني المنتفخة، وإذا بأحد الجراحين — الأكثر لطفًا في التاريخ — يعود بعد أن غادر المكتب وكأنه نسي شيئًا، وقال مبتسمًا:

“لمى، صباح الخير… نسيت أعد لك كوبك، تعالي خذي قهوتك.”

شكرته وقلت:

“هل تعلم يا دكتور، هذا الكوب من القهوة الكولومبية يساهم في إعادة ضبط معتقداتي، أشكرك على تلك اللفتات الصغيرة اللطيفة كل صباح.”

رن الهاتف: زميلتي تتصل.

لم أرغب بالرد رغم لطفها معزتها في قلبي، لكن طلبات عملها دائمًا كارثية.

بعد الرنّة الخامسة استسلمت، رفعت السماعة.

ومباشرة قالت:

“لمى، تسمحي لي قبل أطلب شغل أتحلطم؟ أفضفض؟ من الصبح وأنا أشتم داخليًا!”

ضحكت وقلت:

“تكلمي… مزاجي أسود أساسًا، لن تسوّديه أكثر.”

بدأت تسرد معاناتها مع التنمر، اللامهنية، المحسوبية، الابتزاز النفسي. قصص جديدة بوجوه قديمة. هذه الكائنات تتكاثر وظيفيًا كالفطريات السامة، تنسخ نفسها في كل قسم ومؤسسة دون رادع.

بسبب ما مررت به من صراعات قديمًا وحديثًا، صرت أرى الأشياء ببرود الحكماء. شعرت في تلك اللحظة كأنني راهبة أثقلتها الدنيا، فاختارت صومًا صامتًا في جبل بعيد، لا تطيق ضجيج الناس ولا ضوضاءهم.

بعد شكواها، سألتني:

“هل آخذ إجازتي السنوية الآن أم أؤجلها؟”

أجبتها:

“هل رأيتِ إعلان وفاة زميلنا المرسل قبل دقائق في الإيميل؟”

سكتت لحظة، ثم قالت بخفوت:

“نعم!.”

قلت:

“تعرفينه؟”

قالت:

“لا، لكن الله يرحمه.”

رددت:

“تمامًا… هكذا يُختصر الإنسان عندما ينسى نفسه:

يُذكر في بريدٍ جماعي، ثم يُعلن عن شاغرٍ في وظيفته بعد ساعات.

اعملي بجد، راعي الله في أدائك، لكن ما إن يبدأ العمل في سحب روحك، توقفي فورًا.

لا تبتغي امتنانًا في عيون من لا يرى أصلاً.”

كان كلامي صدمة لها، لكنها انتعشت به، كمن تلقى لطمة صحوة. شكرتني بحرارة، ختمت كلامي:

“استمتعي بإجازتك، وأي عمل متوقف بسببي سأنجزه عنك.”

قد أبدو سوداوية كما يشاع عني، وربما أنا كذلك. لكني أرى نفسي واقعية تحب الحقيقة مهما كانت داكنة.

وما يظنه الناس سحرًا في كلماتي التي تبلسم الجراح، ليس سحرًا أبدًا —

إنه ببساطة أنني أحتضن جراحهم كما هي، لا أجمّلها ولا أخجل منها.

أقبلهم ناقصين، متعبين، غير عظماء، ولا أغنياء ولا يجب أن يكونون كذلك.

***

لمى ابوالنجا

 

هذا ابني يا سيدي، كان صوته في الفجر أوّل ما يُوقظ العصافير من حلمها، وكان يضحكُ حين يسقط المطر، كأنه يُعيد للسماء رغبتها في الولادة.

هذا ابني يا سيدي، كان يحملُ رغيفًا في يده، وطفولةً في الأخرى، لا يعرف من الحرب إلا ما يشاهده في نشرة الأخبار ولا من الموت إلا ما يُقال في خطب الجنازات.

 لكنه خرج… خرج ذات يومٍ ليعود رجلاً — وما عاد!

الحرب انتهت، أو هكذا قال المذياع، لكن ابني لم يعد! كأنّ الطلقات ابتلعته، كأنّ المدافع خبّأته في جوفها، كأنّ الأرض استحسنته ولم تُرد أن تُفرّط فيه.

هل أخبركَ بسرّ، يا سيدي؟ الأمهات لا يصدّقن نشرة الانتصار، لأن النصر لا يُقاس بعدد الرايات، بل بعدد الأبناء العائدين إلى العشاء دون أن تُعدّ أرواحهم مع الغنائم!

هذا ابني يا سيدي، أنا لا أطلب سوى أن يُعاد إليّ كما كان: بنصف كدمة، أو نصف ذراع، أو حتى بصوته في هاتفٍ مقطوع، بظلّه على الجدار، أو بصورته محروقة في جيب مقاتلٍ ناجٍ… لكنّه لم يعد!

أتعرف ما الذي يعود من الحروب؟ لا يعود سوى القادة! القادة فقط، يا سيدي، يعودون بربطات أعناقهم، وملابسهم المكويّة، وابتساماتهم المستعارة في مؤتمرات السلام، يعودون ليكتبوا خطابات الغفران، ويمنحونا أوسمةً على قبور من نحب.

أما أبنائي... فهم لا يُجيدون العودة، لأنّ الوطن نسي كيف يُعيد أبناءه دون أن ينساهم في المقابر. وأنا؟ أحملُ صورتَه كأمٍّ تحمل تابوتَ العالم، أقرأ وجوه الأطفال في الطرقات، أبحث عن عينيه في المارّين، وأرسم صوته فوق لهاثي… لعلّ الحياة تخجل وتعترف أنها سرقته.

يا سيدي، هذا ابني الذي خرج في صباحٍ هادئ ولم يعد في المساء، ربما تعثّر في ضوء القذيفة، أو سها عن درب العودة، أو تاه في نشيد الوطن…

لكنه لم يعد، وأنتم تقولون: الحربُ انتهت.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

عاشت اوربا فترة طويلة وهي تئن تحت وطأة رجال الدين والاقطاع وصولات الفرسان وقد اطلق على هذه الفترة اسم (العصور الوسطى) کما سميت أيضا بالفترة المظلمة ، غير ان هذه القارة افاقت من سباتها وكانت البداية من ايطاليا ومن مدينة تسمى (فلورنسا) وهي المدينة التي قادت ذلك الانقلاب الاسطوري الذي وضع اوربا على اعتاب عصر جديد حتى سميت بحق (عاصمة النهضة) ولم تقتصر النهضة على ايطاليا حيث امتد تأثيرها إلى دول غرب اوربا وكان من ثمار هذه النهضة التقدم في مجال الفلسفة والعلوم والادب والفنون وكان (دافنشي)  احد عمالقة ذلك العصر.

لقد تميز العصر الذي ظهر فيه (دافنشي) بانه عصر انبعاث العلم والفن والفلسفة اليونانية القديمة وطرحها في ميادين المعرفة، كما ظهرت تصورات اخلاقية جديدة حول الحرية الشخصية بعيدة عن الفهم اللاهوتي للإنسان باعتباره (صوره للإله) .

تذكر مصادر تأريخ اوربا أثناء عصر النهضة بانه ولد في مدينة فلورنسا عام 1452 م وتقول عنه تلك المصادر ان التاريخ لم يشهد مثله عبقرياً مسيطراً على زمام شتى المسائل العلمية والفنية والفكرية وانه من العباقرة الذين ابدعوا في عصر النهضة الاوربية وقد تركز ابداعه في فن الرسم وكان يؤمن بوجود علاقة فلسفية بين الفن والعلم وخاصة علم الرياضيات وبذلك كان دافنشي رساماً ونظرياً في فن الرسم حيث وضع الرسم في اعلى مراتب الفنون وقد اعتبرت لوحاته من اندر واثمن ما انتج في هذا الميدان لإنها تعبر عن الثورة الكامنة في الطبيعة والحياة وقد تجد هذا في لوحته الشهيرة (الموناليزا)

 او (الجوكندا) حيث اعطى صاحبة الصورة الرائعة الجمال بعداً فنياً خاصاً من خلال نظرتها البعيدة وابتسامتها الغامضة التي كانت ولا تزال مثاراً للجدل بين المختصين في فن الرسم.

كانت لدافنشي محاولات لصنع أجهزة طائرة جديدة حيث اعتمد فيها على ملاحظاته الشخصية حول تحليق الطيور المختلفة وقد تمكن فعلاً من صنع آلات تطير بواسطة اليد وتعتمد على وجود محرك خاص بداخلها. 

ابداعات اخرى لدافنشي

اهتم دافنشي بالإنسان وكان يفكر في مسألة تطور الانسان من الإشكال البدائية الى ان تبلغ التكامل وهو اول من تكلم في حدد بشكل صحيح عدد فقرات العمود الفقري للإنسان. وقد اراد ان يعرف كيف يبدو الانسان عندما يضحك وعندما يبكي وقد طلب من المستشفيات ان يعطوه جثث الموتى حيث قام بتشريحها وكان عمله هذا غير مسبوق في ذلك الوقت وقام بدراسة الحيوانات والنباتات ان اعماله هذه كانت تثير اعجاب معاصريه

اما في مجال الفلك فقد وقف بثبات من الآراء التي تجعل من الأرض مركزاً للكون وهو اول من حدد اللون الرمادي للقمر وتوقع حدوث زلازل وبراكين على سطح الارض - كما انه ساهم في تطوير اسلحة الحرب مثل تطوير المدافع والمفرقعات وبناء الجسور المتنقلة وينسب اليه قوله (اني اخترع من وسائل الدفاع والهجوم ما نواجه به بأس الطغاة الطامعين لكي نحافظ على النعمة التي وهبتنا اياها الطبيعة الا وهي الحرية) وقد وصف الحرب بانها شكل من اشكال الجنون .

ايامه الاخيرة

عندما لاحظ دافنشي ان بلاده قد اخذ الانحلال يدب في مختلف مرافقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، اضطر الى ان يقضى ايامه الأخيرة في السفر إلى خارج إيطاليا فعقد العزم للسفر إلى باريس عندما تلقى دعوة من ملك فرنسا وقد وجد فيها المكان الملائم لإبداعاته وقد حظى برعاية الملك وخصص له قصراً بجوار قصره وكان الملك يزوره في معظم الاوقات ويقضي الساعات الطويلة في الحديث معه وهكذا استمر لمدة عام على هذا المنوال بعيداً عن وطنه وشعبه حيث حقق تلك الانجازات الكبرى على ارض مدينة (فلورنسا)، فنال منه المرض ورقد في فراشه وكان الملك والمعجبون بأعماله يزورنه بین حين و آخر لوداعه وقبل ان يغمض عيونه ويتسلم للموت أوصى بان كل ما يملك من اموال هي هدية لخادمه الذي ظل وفيا له حتى وفاته ... توفي دافنشي في عام ١٥١٩ م بعد ان ترك آثار فنية خالدة كلوحة (الموناليزا) ولوحة (العشاء الأخير).

***

غريب دوحي

ونوبل التي تنتظر صاحب نزيف الحجر

بينما تعلن الأكاديمية السويدية عن فوز الكاتب المجري (لاسلو كراسناهوركاي) بجائزة نوبل للآداب لعام 2025، تطفو على السطح مشاعر متعددة في العالم العربي، لا سيما في ليبيا، حيث ينتظر الكثيرون اعترافاً عالمياً بأحد عمالقة الأدب العربي، إبراهيم الكوني.

الكوني: نبي الصحراء وأسطورتها

لا يختلف اثنان على مكانة إبراهيم الكوني الأدبية الفريدة، هذا الكاتب الليبي، الذي ينتمي إلى قبيلة الطوارق، استطاع عبر عشرات الروايات والمؤلفات أن يخلق عالماً سردياً مكتملاً، متجذراً في صحراء ليبيا الكبرى، لم تكن الصحراء في أعماله مجرد مكان، بل كانت كوناً متكاملاً، وشخصية رئيسية، ومصدراً للأسطورة والفلسفة والروحانيات.

ينتمي الكوني إلى نفس التقاليد السردية الملحمية التي ينتمي إليها كراسناهوركاي، لكن من بوابة الصحراء الأفريقية، إذا كان كراسناهوركاي يستكشف كابوسية الوجود في قلب أوروبا، فإن الكوني يستلهم من الصحراء رؤية وجودية مختلفة، تزاوج بين الواقعي والأسطوري، وتغوص في العلاقة المصيرية بين الإنسان والطبيعة، بين البداوة والحضارة، بين الفناء والخلود.2020 lazlo

لماذا لم يفز الكوني بعد؟

سؤال يطرحه الكثيرون، وليس هناك إجابة واحدة قاطعة، فالجوائز الكبرى، وعلى رأسها نوبل، تخضع لاعتبارات أدبية بحتة أحياناً، ولعوامل أخرى متشابكة في أحيان كثيرة، منها:

الترجمة: رغم ترجمة العديد من أعمال الكوني إلى لغات أوروبية، يبقى حضورها في المشهد النقدي الغربي أقل مقارنة بأدباء آخرين، فجائزة نوبل، في النهاية، تمنحها مؤسسة أوروبية وتقرأ الأعمال بلغاتها الأصلية أو بلغات وسيطة قوية مثل الإنجليزية والفرنسية.

السياق الثقافي: قد يكون العالم الأسطوري والروحاني الذي يبنيه الكوني، رغم عالميته، بحاجة إلى جهد أكبر من القارئ غير الملم بثقافة الصحراء وأساطيرها لفك شفراته والغوص في أعماقه، مقارنةً بالنصوص التي تنتمي إلى الموروث الثقافي الأوروبي المألوف للأكاديمية السويدية.

المنافسة: المنافسة على الجائزة شرسة دائماً، ويوجد العشرات من الكتاب العظام من مختلف القارات الذين يستحقون التتويج.

نظرة إلى المستقبل: الأمل باقٍ

فوز كراسناهوركاي، وهو كاتب ذو رؤية فلسفية عميقة ومعقدة، يثبت أن الأكاديمية السويدية لا تزال تبحث عن الأصوات الأدبية الفريدة والمؤثرة، التي تقدم رؤية مغايرة للعالم، وإبراهيم الكوني هو بالتأكيد أحد هذه الأصوات.

غياب الجائزة عنه حتى الآن لا ينقص من قيمته الأدبية الهائلة، فهو بالفعل فائز في مكتبات القراء، وفائز في تاريخ الأدب العالمي، تراثه الأدبي الغني هو انتصار للثقافة الليبية والعربية والإنسانية جمعاء.

ربما يكون تأخر فوزه بمثابة دفع للمؤسسات الثقافية العربية لتعمل بشكل أكبر على تقديم هذا العملاق إلى العالم، عبر ترجمة أوسع ونشر أعمق وإبراز لقيمة مشروعه الأدبي الفريد. فالأدب الحقيقي، في النهاية، أقوى من أي جائزة، لكن الجائزة يمكن أن تكون جسراً يعبر عليه هذا الأدب إلى مزيد من القراء في كل مكان.

ختاماً، بينما نحيي الفائز بنوبل 2026، نظل نرى في إبراهيم الكوني نجماً ساطعاً في سماء الأدب، يستحق كل تقدير، وتبقى الجائزة، بأموالها وبريقها، مجرد لحظة في مسيرة الإبداع، بينما الإبداع نفسه هو الباقي.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

في الساحة الأدبية والثقافية المغاربية

يظهر من خلال متابعة النتاجات في الساحة الأدبية والثقافية المغاربية الراهنة، ولاسيما ما ينشر منها في منصات التواصل الاجتماعي، ان النتاجات النسوية المغاربية بشكل عام إبداعية، وحاضرة بشكل مكثف لافت للنظر، وربما أكثر غزارة وحضورا في المشهد، من النتاجات الرجالية.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن توهج ظاهرة الأدب النسوي المغاربي، جاء نتاج فعل أدبي إبداعي نسوي، يعبر عن حقيقة واقع تجربة النساء الاجتماعية والأدبية في الساحة المغاربية، بما تحمله في طياتها من رؤى تتعلق بالهوية الذاتية والحرية والعدالة الاجتماعية، والتحرر من قبضة الاستعمار، تحريرا للارادة الوطنية، وما ترتب على كل تلك التحديات من تحولات ثقافية واجتماعية وسياسية، ومنها بالطبع الساحة الأدبية والثقافية.

وفي سياق التفاعل مع كل التطورات، برز دور الكاتبات والأديبات المغاربيات في نتاجات ثقافية وادبية ابداعية جديدة، تعبر عن قضايا التحرير، وقضايا المرأة وما تواجهه من تحديات من منظور نسوي، يعيش هذه التحولات العميقة بوعي تام، ويكافح من اجل انتزاع الصوت النسوي المغيب، وسط مجتمع يتسم بالذكورية التقليدية.

على أن ما شهدته الساحة المغاربية من تطور في التعليم، وانفتاح ثقافي، وتوسع في تعليم الفتيات، وفسح المجال والآفاق أمامهن، للمساهمة في كل تفاصيل الحياة الاجتماعية والأدبية والثقافية، أتاح لهن قاعدة معرفية ولغوية، وخبرة زاخرة خصبة، انعكست في إبداعاتهن على نحو متوهج، يزيد من ثقلهن الأدبي والثقافي، ويعمل على ترسيخ حضورهن في الساحة على نحو متميز، وبشكل فاعل.

وهكذا جاء الأدب النسوي المغاربي تعبيرا حقيقيا عن تجارب النساء في الساحة المغاربية، بكل تحدياتها، ليتميز عطاؤهن بتنوعه وثرائه، بما تناوله من موضوعات متنوعة مثل الهوية والحرية، والعدالة الاجتماعية.

 كما تجدر الإشارة إلى أن الأدب النسوي المغاربي امتاز بالصدق والواقعية، في عكسه تداعيات افرازات تجارب النساء الحقيقية، بحيث جاءت نتاجاته بلغة شاعرية جميلة، تعبر بصدق عن عمق مشاعرهن المرهفة، وتعكس حقيقة مرارة تجاربهن القاسية، حتى بات الأدب النسوي المغاربي أداة نقدية لبعض الظواهر المجتمعية، مثل التمييز ضد المرأة، والظلم الاجتماعي، الذى نحاها عن الحضور الإبداعي الفاعل في عموم الساحة المغاربية.

ولعل نجاح الأدب النسوي المغاربي في تجاوز كل تلك التداعيات والمعوقات, اتاح لهن الحضور الإبداعي المتميز في الساحة الأدبية والثقافية بجدارة، كما مكنهن من حضور المنتديات والندوات والملتقيات العامة التي تدعم الأصوات النسوية، مما ساعد في إبراز دورهن الأدبي والثقافي بشكل أكثر حضورا، مقارنة برجال الأدب، الذين ظلوا يراوحون في فضاء تقليدي جامد، عجز عن التفاعل بجدية، مع تلك المعطيات بنفس الوهج.

***

نايف عبوش

لا أدري من أين أبدأ، لأنني أظن أن الكلمات – مهما سَمَت – ليست إلا خيانة صامتة لشيءٍ أعظم من أن يُقال. أكتب إليكِ لا لأن في جعبتي قولًا يستحق، بل لأنكِ ما زلتِ تتسكعين في دهاليز ذاكرتي كطيفٍ لا يؤمن بالفناء. سبعُ سنواتٍ مرّت، لم تجمعنا فيها علاقات العشاق، ولم تفرقنا قطيعة الأعداء. كنّا بين بين، لا صداقة تُروى، ولا حبًّا يُعاش، لكن بيننا حديثٌ ومزاحٌ ومواعيد مؤجلة، ورسائل تائهة، وأمنيات لا تملك الجرأة لتولد. كنتِ قريبة، ولكن بُعدكِ كان أعمق من المحيطات، ونظراتكِ لم تكن مجرّد نظرات، بل كانت تقلب كياني، تحفر في قلبي، وتتركه دون أن ترفقيه بكلمة أو وداع.

وذات مساءٍ – لا أدري أكان القدر فيه أعمى أم قاسيًا – اعترفتُ لكِ بما ظلّ يحترق في صدري لسنوات. قلت لكِ إنني أحبكِ، لا لأنني كنت أملك خيارًا، بل لأنكِ كنتِ الهواء الذي لم أعد أستطيع العيش بدونه. وبدل أن تهمسي لي بما يُشبه الرجاء، قطعتِ نياط القلب ببرودة غريبة: أنتِ مجرّد صديق... وأنا أحبُّ رجلًا آخر. في تلك اللحظة، لم ينكسر قلبي فقط، بل انطفأ داخلي شيءٌ لا اسم له. لم أعد أؤمن بالحب، ولا بالنساء، ولا بالحياة التي يمرّ فيها الإنسان كظلٍّ لخيبة.

مرّ عامٌ وستة أشهر، وأنا أجرُّ خيبتي خلفي كجرحٍ قديم لا يلتئم. قلبي المثقوب كان يسير بي، لا أملك عليه سلطانًا، ولا على حزني شفاء.

ثم جاء الخميس، وكان صباحًا كأيّ صباحٍ في حياتي الرتيبة. كنتُ في العمل حين فتحت هاتفي، فظهر لي إعلان خطوبتكِ. لم أرتبك، لم أغضب، بل شعرتُ كأن شيئًا ما في داخلي – لم يكن قد مات تمامًا – بدأ ينزف من جديد.

كتبت لكِ تهنئة. نعم، تهنئة من ذلك القلب المثقوب، الذي رفض أن يُقابلكِ بالحقد، رغم كل ما تركتِه فيه من وجع.

إلى من كانت يومًا قريبة من القلب، في خضمّ هذه اللحظة الفارقة من حياتك، أبعث إليكِ بأصدق التهاني والتبريكات بمناسبة خطوبتك، سائلاً المولى أن يجعلها فاتحة خير وبركة، وأن يكتب لكِ فيها سعادة دائمة وهناءً لا ينقطع.

وإن كنتُ قد حملت لكِ مشاعر خاصة في زمنٍ مضى، فإنني اليوم – وبكل صدق – أفرح لكِ من القلب، وأتمنى لكِ من الأعماق أن تكتمل مسيرتك الجديدة بكل طمأنينة ورضا. فالسعادة التي كنتُ أرجوها لكِ، ما زلتُ أرجوها، وإن تغيّر شكلها وموقعها في حياتنا.

إن شاء الله تفرحين، وتبقين دومًا في رعاية الله وعنايته، ويكون القادم أجمل وأطيب. تقبّلي مني كل الاحترام والتقدير، لم أكتب لكِ لأنني ما زلتُ أريدكِ، بل لأنني لم أعد أستطيع أن أُخرجكِ من ذاكرةٍ تتنفس باسمكِ في كل لحظة. أنتِ لستِ حبًّا، بل حكايةٌ لم تكتمل، وفراغٌ نتنفسه معًا. كلانا كذب على نفسه، آمن بحلمٍ مائل، وأدار ظهره للواقع.

اليوم، أنتِ مع رجلٍ يبيع الدراجات، ويعمل في توصيل الطلبات. وأنا هنا، أكتب من قلبي المثقوب... أكتب لأنني لم أعد أملك ما أفعله غير ذلك.

وقد قال شاعرٌ قبلي، كأنما لسان حالي:

وما الحب إلا نارُ قلبٍ خفيّةٍ

إذا اشتعلتْ... لا يُرى منها الدخان

وظننت – بسذاجتي الجميلة – أن تلك التهنئة ستغلق الدفتر، وتمحو الصفحة الأخيرة من حكايتنا. لم أكن أرجو ردًّا، ولا حتى امتنانًا، كل ما أردته أن أُغلق الباب بأدب... وأن أترك خلفي أثر إنسانٍ لم يَخُن، حتى حين خانه كل شيء.

لكنّ القدر، كعادته، لم يسمح لي بالرحيل بهذه السهولة.

فبعد أيامٍ من الصمت، كانت الحقيقة تتسلل إليّ، لا من باب العتاب، بل من نافذة السخرية المريرة... وهناك بدأت قصة العدالة الإلهية في حكايتنا.

بعد ما كتبتُ لكِ تهنئة من قلبي المثقوب الذي أصرّ أن يظل نبيلًا حتى في حضرة الخذلان. ثم مرّت الأيام، كما تمرّ الجنازات في مدن الذكرى، صامتة، ثقيلة، لا تحمل جديدًا سوى تواريخها.

حتى جاء ذاك الصباح الرمادي... فتحتُ هاتفي، لا لشيء، سوى لتجريب شعور اللاجدوى من جديد. فإذا بي أقرأ ما لم أتوقّعه منكِ: أنا لم أُخطب... بل خُطبتُ لغيره. ثم ضحكتِ.

يا الله، كم كانت ضحكتكِ مؤلمة!

ضحكة خرجت من فمكِ، لكنها ارتدّت في صدري كارتطام نيزكٍ في أرضٍ بور.

ضحكة أعرفها، تلك التي أطلقتِها يوم قلتِ لي بانكساركِ: ارجع لي... لقد خانني ذاك الرجل ويكرهني، كنتُ على خطأ، سامحني، أرجوك عد...

وفي لحظةٍ خاطفة، كانت الحياة تعرض أمامي شريطها دون أن تستأذنني. تذكّرتُ كم مرة حرقتِني، ثم عدتِ تستدفئين من رمادي وكأن شيئًا لم يكن.

تذكّرتُ كيف كنتُ الجسر الذي عبرتِ عليه من خيبةٍ إلى خيبة، دون أن تنظري خلفكِ لترَيْ كم مرة انكسر هذا الجسر ليبقيكِ واقفة.

هدأتُ، ليس لأنني سامحتُ، بل لأنني لم أرد أن أكون مثله، لم أرد أن أثقب قلبكِ كما أثقبتِ قلبي. فنظرتُ إليكِ بهدوء وقلت:

كلُّ ساقٍ يُسقى بما سقى... ولا يَظلم ربُّكِ أحدًا.

سألتِني: هل أنا ظالمة؟ أجبتكِ: نعم... أنتِ ظالمة، وخائنة أيضًا.

ارتبكتِ، وهمستِ: لماذا؟ قلتُ: لأنني أحببتكِ بقدر السماوات... ولا أرض تكفيني.

فهمتِ الجواب، وسألتِ: هل ما زلت تحبني؟ قلتُها ببرود العارف بحقيقته: لا... لقد صرتُ أكرهكِ بقدر ما كنتُ أحبكِ.

شهقتِ، وأردتِ أن تعرفي لماذا، فقلتُ وأنا أتحسّس جرحًا لا يندمل: دعيني وشأني... قلبي يتألّم، ولن يحتمل من جديد.

ستجدين من هو أفضل... لكن لا تعودي إليّ، أنا لا أعود لمَن مزّقني.

حاولتِ لملمة الخراب بكلماتكِ، قلتِ إنكِ تحبين الشعر... وإنكِ رأيتني أكتب.

ضحكتُ، لا سخريةً بل وجعًا، وقلت: أنا لستُ شاعرًا... بل رجلٌ انكسر، فلم يجد غير الكلمات ليلملم ما تبقى منه.

قلتِ: لماذا؟ قلتُ: لأنني وجدتُ في الكتب ما هو أعمق من الشعر، في الكتب وجدتُ نفسي التي ضاعت حين التقيتُكِ.

ثم طلبتِ أن أكتب عن لحظات حبّنا، فقلتُ: هل أبدو لكِ صبيًّا بلا عقل؟ أم تظنينني كاتبًا لمأساةٍ لا يفهمها؟

أقسمت بالله... وبالإمام علي عليه السلام، وطلبتِ أن أصدقكِ، فقلتُ لكِ: إن كنتِ تؤمنين بالله، وحقّ الإمام علي، فاستمعي لقوله: أجهل الجهّال، من تعثّر بالحجر مرتين.

وأنا، يا من كنتِ يومًا كلّ حياتي، لن أكون ذلك الجاهل.

ثم ساد صمتٌ طويل... صمتٌ يسكن بين نبض القلب وصرخة الكرامة.

قلبي يريدكِ، وعقلي يرفضكِ، لكن كرامتي... كرامتي لا تسمح لي أن أكون ظلًّا لمن خان النور.

تمّتُ... ولم تنتهِل، لأن الوجع لا يحتاج إلى نهاية... يكفيه أن يُقال.

لستُ كاتبًا... فقط كنتُ أحب.

***

سجاد مصطفى حمود

صاحب الظل الطويل والعيون السومرية.....

بظله المستقيم، وخطواته المحسوبة، وعينيه الجاحظتين اللتين تقدحان براكين من النار، وحاجبيه الغليظين اللذين يختزلان كل معنى للهيبة، كان ذلك الرجل يخيف من يراه، لا بطغيانه، بل بوقاره.

لطالما رأيته منضبطًا، صادقًا ووفيًّا لطبيعته، كأن الأرض نفسها تستقيم حين يمرّ. هيبته العسكرية كانت تسكنني، لا تفارقني، لكنها بدأت شيئًا فشيئًا تذوب...

لم يعد الظل مستقيمًا كما كان، بدأ بالانحناء ببطء، كما تنحني الشمس نحو المغيب.

تلك العيون الجادحة خفت بريقها، وصار النفس متقطّعًا، والخفقات غير متوازنة، والسعال لا يهدأ ليلًا، يُثقِل الليل بأنفاسه، ويُرهق الفجر بطول انتظاره.

تغيّر كل شيء...

الأشجار الخضراء اصفرّت حزنًا.....

والعصافير هجرت نوافذنا......

حتى الفاكهة، كأنها لم تعد تعرف مواسمها...... كل شيء بلغ غايته من الغثيان...

كل شيء ذوى، كأن المكان كله ينوح لفقد العيون السومرية… ولحزنها العميق..

... فجأة، وكعادته في كل شيء ، كأنه كان يُمهّد بصمته لرحيله.

انتهى كل شيء بهدوءٍ لا يُحتمل......

 ثم دخل ذلك الصندوق…

الصندوق الذي بدا ضيّقًا على قلبه، واسعًا بما حمله من الذكريات والحنين.

حمل معه قلوبًا ظلت تنبض باسمه، وحمل عمرًا كاملًا لا يُمحى.......

عمرًا لا يمكن للصندوق أن يُغلق عليه مهما أُحكم الغطاء، ولا يمكن للرحيل أن يسرقه من الذاكرة......

رحل......

لكن ظلَّه ما زال يمرّ بين الغرف.......

رحل ......

وعيونه السومرية ما زالت تفتح أبواب المساء كلّما اشتدّ الحنين لتلك البيضاء الفراتية ......

رحل صاحب الظل الطويل...

لكنّ الفرات لم ينسَ ملامحه، ولا نسيت النخيلُ تلك الخطوات التي كانت توقظ الصباح، وكأن ظله تحول إلى حارسٍ خفيّ، يُطلّ مع كل فجر من بين ضباب الماء،

يُراقب النهر وهو يتهجّى أسماءه القديمة.

أما الفراتية البيضاء فكانت تقول إنّها تسمع خطواته كلّ مساء، حين تهبّ نسمة من الجنوب وتفتح الباب، كأنها تنتظر أن يدخل… كما كان يفعل، بخطواته المحسوبة، ونظراته التي تختصر العالم.......

لم يمت صاحب العيون السومرية، بل عاد إلى طين سومر الأوّل، إلى الهدوء الذي يسبق الخلق......

إلى الأرض التي تعرف كيف تحفظ أسرار رجالها.

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

 

متى يموت المكان؟ حين يرحل الذين منحوه الحياة بأقدامهم، بضحكاتهم، بدموعهم الصغيرة التي تبخّرت في زواياه دون أن تراها الشمس.

يموت المكان عندما تُغلق فيه النوافذ على صوتٍ لم يعد يأتي، عندما يتوقّف الباب عن الأنين، لأن أحدًا لم يعد يطرقه… يموت، لا لأنه تَهاوى، بل لأنه توقّف عن التذكّر.

*

المكان لا يموت حين يُهدم، بل حين لا يعود أحدٌ ليقول: هنا كنتُ سعيدًا. هنا انتظرتُ ولم يأتِ. هنا فقدتُ شيئًا لا يُعوّض.

المكان هو الجسدُ الثالث بين العاشقين، هو ذاكرة الحجر، هو عرقُ الجدّات على الأرائك، هو رائحة الخبز، والظلّ الطويل لساعة الحائط القديمة.

يموت المكان حين تُنزع عنه صفة الأمان، حين يصبح محايدًا، كأنه لم يعرفنا، كأنه لم يشهد بكاءنا في زواياه ولا ارتعاش أملنا في أركانه.

*

المكان ليس جمادًا، إنه كائن يعيش على ما نمنحه من روح. كل مقعد جلسنا عليه، كل جدار أسرّ لنا سرًّا، كل رصيف ودّعنا فوقه أحدًا، كان حيًّا بنا… وحين نسيناه، تحوّل إلى غبار.

*

متى يموت المكان؟ حين نصبح غرباء في حضرته، حين نمرُّ فيه كما يمرُّ الغريب على أطلالِ لغةٍ لا يعرفها، حين نكفّ عن سماع أنينه الصامت، حين يتوقف عن مناداتنا بأسمائنا القديمة.

*

يا أيها الراحل من بيتك، تُراك تدرك أنك حين غادرت، أخذت معك نَفَس الجدران؟ هل تعرف أن للمكان ذاكرة، وأنك كنتَ آخر القصائد المكتوبة على جدرانه؟

المكان لا يموت وحيدًا… بل يموت بنا. نحن نغلق قلبه حين ننكر أننا كنّا فيه، ونطمره حين نمضي دون أن نلتفت.

*

المكان لا يُغلق بالمفاتيح، بل بالنسيان.

***

كريم عبد الله

بغداد - العراق

 

استحقاق متجدد وسؤال ثقافي معلق

لا ينفك اسم أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر) يطفو على سطح المشهد الثقافي العالمي مع إطلالة كل خريف، في طقس سنوي أصبح يشبه طقوس الانتظار لمعرفة مصير عربي في جائزة نوبل للآداب. فالشاعر الذي بلغ الخامسة والتسعين من عمره، والمشهور بمواقفه المثيرة للجدل، يظل "المرشح الدائم" الذي لم ينل بعد مبتغاه، رغم مسيرة إبداعية تمتد لأكثر من سبعة عقود.

هذا الاستعصاء في حصول أدونيس على الجائزة يحمل في طياته إشكاليات عميقة تتجاوز مجرد التكريم الأدبي إلى علاقة المركز الأوروبي بالأدب العربي، وإلى موازين القوى الثقافية في عالم تتشابك فيه السياسة مع الفن في عقد معقد يصعب حله.

زلزلة التأسيس وتفكيك اليقين.

أدونيس هو أحد أبرز مجددي الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث قاد "ثورة حداثية كان لها تأثير زلزالي" على الشعر العربي، يقارن بتأثير ت. س. إليوت في العالم الناطق بالإنجليزية. وقد تجلى هذا المشروع التجديدي في أعماله المبكرة مثل "أغاني مهيار الدمشقي"، حيث تمرد على الوزن والبلاغة التقليدية، مستلهماً الميثولوجيا وواجه الموروث الديني والسياسي بجرأة نادرة.

امتدت تجربة أدونيس لتشمل حقل النقد الأدبي، حيث قدم في عمله المرجعي "الثابت والمتحول" مقاربة نقدية جذرية للثقافة العربية، مركزاً على الصراع بين عناصر الجمود وعناصر الحركة والتجديد في التراث العربي. هذا العمل الذي أصبح مرجعاً أساسياً في نقد الثقافة العربية، يمثل مع شعره مشروعاً متكاملاً يسائل المسلمات ويفكك اليقينيات.

صوت عربي ببعد كوني

يتمتع أدونيس بمكانة فريدة في الثقافة العربية المعاصرة، فهو في نظر كثيرين واحد من أهم الشعراء العرب منذ وفاة السياب إلى اليوم، وأهم عقل تنظيري شعري عربي في النصف الثاني من القرن العشرين. هذه المكانة التي يحتلها في الذاكرة الثقافية العربية وحركة الحداثة "لا يدانيها أحد" كما يرى بعض النقاد.

في العالم الغربي، حصد أدونيس جوائز مرموقة مثل "غوته" الألمانية و"بي إي إن/ نابوكوف" الأميركية، وهي جوائز ينظر إليها عادة كمقدمة محتملة لنوبل. كما يقدم في المهرجانات الأوروبية بوصفه أحد "الأصوات التي منحت العربية بعداً كونياً". وتُرجمت أعماله إلى ثلاث عشرة لغة، مما وسع من دائرة تأثيره خارج العالم العربي.

رغم هذه المكانة الأدبية، تشكل المواقف السياسية لأدونيس عائقاً أمام حصوله على الجائزة من وجهة نظر العديد من المحللين. فمواقفه من الثورة السورية عام 2011 أثارت انقساماً في الأوساط الثقافية الغربية؛ بين من رآه ناقداً للعنف والتدين، ومن اعتبر صمته عن النظام السوري نوعاً من "التواطؤ".

ويعد موقفه من عملية ميونيخ عام 1972 من أكثر مواقفه إثارة للجدل، حيث نشر افتتاحية بعنوان "العنف المحرر" دافع فيها عن العملية، معتبراً إياها "جزءاً متميزاً وفذاً من العنف المحرر الشامل" الذي "ينقل العرب من اجترار الذات إلى القبض على الموضوع". هذا الموقف وغيره جعل صورته في الإعلام الغربي متناقضة، فهو تارة يظهر كصوت للتنوير والعقلانية، وتارة يرى كرمز للانخلاع والغربة الفكرية عن واقعه.

حاجز اللغة والثقافة

تواجه ترشيح أدونيس تحديات أخرى تتعلق بالمركزية الأوروبية في الجائزة. فالعربية، رغم ثرائها، تظل بعيدة عن المشهد النقدي السويدي، ما يجعل أعضاء الأكاديمية يعتمدون بشكل رئيسي على الترجمات الفرنسية أو الإنجليزية لأعماله. هذه الترجمات تشكل حاجزاً تأويلياً بين النص الأصلي والقارئ السويدي، وقد تفقده الكثير من جوهره الشعري.

ويشير نقاد ومراقبون إلى أن غياب ترجمات جديدة لأعمال أدونيس إلى السويدية والإنجليزية في السنوات الأخيرة يقلل من فرص تقييم منجزه في سياق نوبل، التي تعتمد أساساً على التلقي النقدي الراهن داخل أوروبا.

في موسم 2025، يواجه أدونيس منافسة شرسة من أسماء تتقدم عليه في قوائم الترجيح الأدبية العالمية. فبينما يراهن أنصاره على تكريم مستحق لتاريخه، تشير التوقعات إلى أسماء لها زخم نقدي حالي، مثل الروائي المجري لاسلو كرازنا هوركاي الحائز على "مان بوكر الدولية"، والشاعرة والأكاديمية الكندية آن كارسن المعروفة بدمجها بين الكلاسيكيات والتجريب، والروائي الياباني هاروكي موراكامي المرشح الأبدي رغم شعبيته الجارفة التي قد تدفع الأكاديمية لتجنبه.

تتعامل الأكاديمية السويدية منذ عام 2019 بحذر مضاعف تجاه الأسماء المثيرة للجدل، بعد الانتقادات الواسعة التي واجهتها إثر منحها الجائزة للكاتب النمساوي بيتر هاندكه، المعروف بمواقفه المؤيدة للزعيم الصربي الراحل سلوبودان ميلوشيفيتش أثناء حرب البوسنة. منذ تلك الأزمة، باتت الأكاديمية أكثر حساسية للجدل السياسي، ما قد يؤثر على فرص مرشح يثير الانقسام كأدونيس.

بين النص والسياق

ينفتح مشروع أدونيس على أسئلة فلسفية عميقة تتعلق بالعلاقة بين الموروث والحداثة، وبين الذات والآخر. ففي "الثابت والمتحول"، لم يقدم مجرد دراسة نقدية، بل مشروعاً لقراءة الثقافة العربية في صيرورتها التاريخية، مفككاً إشكاليات التقدم والجمود. هذا المشروع الفكري الذي يمزج بين الشعر والفكر جعله أحد أبرز المنظرين للحداثة العربية، لكنه أيضاً عرضه لانتقادات كثيرة، خاصة من قبل من رأوا في مقاربته للموروث الديني تقويضاً للهوية.

استحقاق بلا ضمان

رغم المكانة الكبيرة التي يحظى بها أدونيس في الثقافة العربية، فإن أغلب المراقبين يرون أن احتمال فوزه هذا العام ضعيف. وتتراوح الأسباب بين محدودية الحضور الأكاديمي للأدب العربي في السويد، وغياب ترجمات جديدة لأعماله، إضافة إلى انشغال الأكاديمية مؤخراً بتوسيع خريطتها نحو كتاب من آسيا الوسطى وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية.

لكن يبقى أدونيس، بشعره وفكره، علامة فارقة في الثقافة العربية الحديثة، سواء حصل على نوبل أم لم يحصل. فالجوائز، في النهاية، ليست مقياساً وحيداً للإبداع، والإضافة التي قدمها هذا الشاعر إلى القصيدة العربية والفكر النقدي تظل إرثاً يستحق الدراسة بمعزل عن التكريم. وكما قال هو نفسه عن فوزه المحتمل: "إن فاز بنوبل للآداب فهو أمر متوقع وطبيعي، وإن لم يفز.. فهو أمر متوقع وطبيعي أيضاً".

***

د. عبد السلام فاروق

الذهاب في درب الشعر بما هو حنين العناصر والأمكنة والكائنات بحثا عن جمال الكلمات والصور والأصوات..

تمضي الكلمات في دروبها حيث الكائنات مفعمة بالنشيد والأحلام والذكرا.. هي فسحة القلب في أكوان تتلاطم أمواج أحاسيسها وتفاصيلها المكللة بالذكرى وبالغناء الطالع كزهرات في بستان منسي لم تعهده سوى الفراشات وهي المغمورة بالجمال في رياح ناعمة تصنع الهبوب والألق والبهاء...

هي كلمات الذات في سفرها وغدوها ورواحها وفي عناصر بهجتها نحتا للقيمة وتأصيلا للكيان.. و بين الكلمات الطافحة بالحنين والأصوات المسكونة بالشجن والجمال والصور المشيرة الى المعاني.. يبرز الالمكان بتعدد ألوانه من البحر الى الاخضرار الى الأنهار الى الحدائق...الى كل ما هو باعث على السحر الدفين والهدوء..

ثمة أمنيات ونشيد وحروف ترقص وهي تشكل الكلمات والمعاني في مياه الشعر العذبة والجهات في هذه الأرض التي تسعد بجمال الكلمات والذكرى والحب والحنين والأمل المبثوث والطالع من أنفاس أطفال لا يرتجي غير أحوال الرفعة والبهاء لأجل سكينة وهذوء العناصر والأشياء..

من هنا كانت في ذهابها في أرض الكلمات والشعر والغناء بكثير من شؤون وشجون الذات.. كل ذلك وفق عنوان لافت هو الكائن في سفره الناعم باسم الحنين.. كم يقتل الحنين كائنه مثلما تفعل تلك الخيوط بالكمان ليولد اللحن الشجي والنغمات الدافئة.. انها موسيقى الأرجاء على ايقاع الجمال في الجهات والأمكنة والأحوال..

بدأت علاقتها بالشعر وبالكتابة منذ طفولة حالمة ديدنها الذهاب تجاه عوالم لا تقول بغير الحلم والنوستالجيا مجالا للعناق الشعري بكلمات وصور وأصوات هي من جوهر ذاتها المبحرة والموغلة في فتنة الكلام كما ترى هي ذلك وتقوله وتحلم من خلاله ببلوغ مراتب القول والفن والابداع.. و هي المفعمة بدهشة العوالم والرغبات الموزعة بين الكتابة والقراءة والحنين والصوت وهو يقرأ المشاهد والصور.. كون من رغبات شتى نحو الآفاق وتجليات الطفولة الكامنة في الكينونة..

هكذا هي الشاعرة والمترجمة والصوت الاذاعي المميز الكاتبة ايمان داوود.. في نشيدها المفتوح على العلم وجواهره المتصلة بالابداع والبهجة والحنين.. هي الآن تعد لديوانها الشعري الجديد باللغة الفرنسية بعنوان " همسات قلب مُنتشٍ" وفيه عدد من القصائد المعبرة عن ذات الشاعرة وهي ترى العالم وكائناته وأمكنته بعين القلب لا بعين الوجه عنوانها الحنين ودافعها الحلم هكذا هي تكتب تتقصد القصائد يهزها النشيد مثل فراشات من ذهب الأزمنة.

ديوان بعنوان معبر والنصوص بها شفافية الذات في تفاصيلها قولا بالسير نحو الشعر هذا الاخذ بناصية الأشياء والعناصر.. احساسا ووجدا وسفرا في دروب الكينونة..

نشرت بعدد من الفضاءات والمواقع نصوصها باللغتين العربية والفرنسية ولها مبادرات متعددة في ترجمة النصوص الأدبية وتسعى لأان تشارك في فعاليات ومهرجانات وطنيه ودولية للابداع الأدبي وللثقافه والشعر وفي هذا الجانب من تجربتها تقول الشاعرة والمترجمة ايمان داوود ".. أرغب في ان اترجم اكثر من اثر الي الفرنسيه او العكس

و ان اجد حظي ومكاني المستحق في الساحة الثقافيه وفي الاعلام كشاعرة وكاتبة ومترجمة تونسية على الصعيد الوطني والعربي والعالمي.. صفاقس هي مدينتي ومسقط راسي.. وقد كانت لي رغبة جامحة للذهاب في عالم الأدب وكانت العائلة حاضنة هذه الموهبة في بداياتها وشجعتني للمضي في الكتابة التي تطورت ضمن بنامج اذاعي قدمته وفيه قراءات شعرية بصوتي وتواصلت تجربتي في الكتابة حيث الشعر بالنسبة لي عالم رحب وجميل لاكتشاف الذات وعشقي للموسيقى قديم بين الأغنيات العربية القديمة والحديثة والموسيقى الغربية.. الأدب مجال مفتوح على الحلم والدهشة.. قرأت للعديد من الأدباء واستوقفني اعجابا عدد غير هين منهم وأذكر الشاعر الشابي وجعفر ماجد ونجيب محفوظ... وغيرهم.. ديواني هذا الذي هو بصدد الاعداد باكورة كلماتي بين الحلم والحنين في حياة الانسان وهو يعانق جمال الأشياء والأمكنة والعناصر وأتمنى النجاح ضمن تجربتي حيث الشعر عالم يأسرني بجماله وفداحة حلمه وحنينه الجارف...".

هكذا هي الشاعرة ايمان داوود أستاذة اللغة الفرنسية والمترجمة والاذاعية تمضي في دروب الشعر والكلام والأدب وفي قلبها شغف لا يضاهى بسحر المعاني والكلمات ويمثل ديوانها الشعري هذا " همسات قلب مُنتشٍ" والذي يصدر بفرنسا مجالا ضمن محطة من مسيرتها الشعرية فيه النظر والتأمل والقول بالشعر حالة وجد وحنين وحلم في عالم متغير ومربك.

***

شمس الدين العوني

* في تلوثٍ أدبي، لغويٍّ... رحتُ أُقطَرُ العسلَ مِن مرِّ الكَلام، والماء مِن بئر الكتابات.

* احتفظُ ضمن "انتيكاتي" في غُربتي، بفانوسٍ كتبتُ تحتَ أفياء أنوارهِ في زمِنِ الحصار الأقتصادي، وكَم استظلُّيتُ بلهابتهِ إبّان انقطاع التيار الكهربائي والحروب على بلدي، لكنّني تنكرتُ لهُ منذ هُجّرت مِن مسقط رأسي إلى بلاد الغرب، حيثُ بتُ أنعم بحضرةِ المصّباح العصري الذي أتعب بصري.

 * أشتاقُ لمكتبتي الكبيرة وإلى كتبٍ قرأتها ورقيًّا وقد استبدلتها بحواسيبٍ أضعفت النّظر في عيني..

في عصرٍ فيه تحولات ضخمة وتغيرات مُخيفةٍ وتحدياتٍ كُبرى ..تحكمه معايير الكلمة والصورة الالكترونية.. ومنشورات (سوشيل ميديا) غير متزنةٍ!. والاختصار والإيجاز وغياب الرقيب وشيوع التقليد وغياب الأمانة الأدبيّة!.

حقيقةً، اعتذرُ للكتابِ، لأنّهُ لم يعد خير جليسٍ في هذا الزمانِ للكثيرين.

* أفاخرُ بابجديّة بلدي وأنا أكتب بها مِن أرض الغربةِ، وقد حلّقت بواسطتها كتبي إلى عواصم عربية عدة وتُرجمت إلى لغات أجنبية.

 * أحنُّ للمتاحفِ ودور الموسيقى والطبيعة الخلاّبة في أوروبا وأوربا وأمريكا؛ لأنّني يوم زرتها وتنعمتُ بجمالها قلتُ لها: ليتكِ كنتِ في بغدادي!

* أعاتبُ بلدٌ تخاذل فيه العسكر؛ فأنا جنديٌ عاد بعد حربٍ..فلم يجد وطنه. هكذا انكرني موطنٌ، ساسته لا يصونون المواطنة! كشجرةٍ مائلة ترمي قطوفها في باحةِ جيرانها وتحرم صاحبها!.

* الحقيقة التي لا يحجبها غربالٌ، أنَّ الأدباء والشِّعراء العراقيون، غادروا بغداد أو مدنهم، إلاّ لكي ينقلوها معهم إلى حيث انتهوا إليه في البلاد البعيدة. فواحدهم حمل مدينته، بلده، كما يحمل المرء، قلبه أو بؤبؤ عينيه حيثما توجه أو سار واستقر وكتب!.

* اعتذرُ ليوسف الكاتبُ والأديب والكاهنُ، فهو كالسمكةِ ماكولة ومذومة، لا سيّما لذوي النفوس الضعيفةِ، "لأنّني لستُ أدري مِن أينَ آتيه، هل مِن دُرر الكلامِ ومَا أبهاها لديه، أمْ مِن سموَّ المعاني ومَا أغناها في كنوزهِ، أم مِن صوره المنثورةِ على أطراف العينِ لا تُدانيها ريشةُ رسامٍ، أم عبر نَثرهِ المصقولِ مُتعةً ورفعةً؟!... لهُ معابرَ لا تنتهي، أم مِنَ الشّرقِ؛ حيث للرّوحِ كواكبٌ تضيء الكونِ. إنّهُ مدوّن الغرباتِ الفاتنة... الذي أشعلَّ بيراعه جمر الوفاء"[1].

* أعشقُ بلاد الورود، التي انتمي لها دونَ أن أُجبل مِن تُربتها... فطوبى لِمن زرع للإنسانيّة شجرة يقطف مِنها العابرون.

* عَلى عبلة المَلِيحَة كَمْ نَادى عنترُ، وَلكنها مَا كانتِ للنداءِ ملبيةً.. فكيفَ يمتطي الجيادَ إليها

وقد تِقطّعت بِطرقاتِها السُّبلُ؟!

أ يقودُ قافلتهُ إلى صحاريِّها؟،

ولكنْ كَيفَ لِخيامها الوِجْهةُ، والأحصِنةُ قد خارت لها حوافرُ؟!.

***

الأب يوسف جزراوي

سميح القاسم: "خذوا حزني إن استطعتم، واتركوا لي فلسطين، فالحزن يتبدد لكن الأرض تبقى."

فلسطين،

ليس لي ما أقدّمه لك سوى هذا الحبر الذي يلهث، وهذه الكلمات التي تُسابق نزف القلب. منذ أن وعيت على العالم، وأنا أتزحلق خلف اسمك كأنني أركض في منحدرٍ من الضوء، أتشبّث بقصائد محمود درويش، وأتفيّأ ألحان الشيخ إمام، كأنهما طريقان متوازيان إلى غابةٍ من الرموز حيث اسمك هو الشجرة الأم.

كنتُ أظن أنّني أكتبك، لكنني اكتشفت أنّك من يكتبني. كنتُ أركض خلف رغبتي في استعادة مدينة لم أرها، مدينة اسمها فلسطين، تتّسع لخيالاتي جميعًا، تتسلّل إلى ليل الحلم، وتوقظ في قلبي نداءً أقدم من الذاكرة. هل كنتُ واعيًا، وأنا أحمل في دمي تلك الرغبة التي تجعل منّي ناقلاً أمينًا لمشاعر ملايين الشباب الذين يشبهونني، يطاردون خيالاً لم يلمسوه لكنهم يعرفونه بحدس الروح؟

كانت أحلامنا الأولى قريبة، صغيرة كحبة رمان، لكنّها كانت قادرة على استنفار الغيم، واستدعاء المطر، والانتصار لعواطفنا المتعبة. واليوم، ونحن نعيش زمنًا أثقل، نجد أنفسنا أمام حزنٍ بطيء، حزن يزحف كالمساء على غزة، يستهلك طاقاتنا، ويفتح في القلب تاريخًا من الجراحات والآلام لا يلتئم.

فلسطين،

أنتِ أكثر من جغرافيا متنازع عليها، أنتِ كيمياء الذاكرة، وصوت الأذان الذي يوقظ الليل في المدن النائمة، وأغنية الطفولة التي لا تموت. فيكِ نلمح صورة الإنسان حين يواجه المحو، ونكتشف أن الكرامة ليست شعارًا بل طاقة حياة. أنتِ المجاز الذي يحرس معنى الحرية، والمعنى الذي يفضح قسوة العالم.

أكتب إليكِ لا لأواسيك، بل لأعترف: كلما اتسعت الجراح، اتّسع فينا حلمكِ. كلما اشتدّ الحصار، انفتح في قلوبنا أفقكِ. أنتِ الوعد الذي لا يشيخ، والقصيدة التي لا تنتهي، والأرض التي تُعلّمنا أنّ النصر الحقيقي ليس ما يُكتب في معاهدات، بل ما يُسقى من دموع الأمهات وصبر الحجارة.

فلسطين،

خذي هذه الكلمات القليلة كما يأخذ البحر رشفة نهر، لن تُطفئ عطشك، لكنها تعترف بوجودك الأبدي فينا.

 أنتِ الأفق الذي يعيد إلينا ملامحنا، والجرح الذي يعلّمنا كيف نحبّ دون أن نيأس، وكيف نحيا دون أن نساوم.

ابقي، كما كنتِ دائمًا، رمزًا للحلم الذي لا ينكسر.

***

د مصـطـفــى غَـــلمـان

عن ذوي الاحتياجات الخاصة وعكاز الإرادة

أجسادهم مختلفة… لوحاتهم صامتة، ألوانها باهتة، لا مكان لهم بين أطفال الرواياتلا نراهم يتجولون بين أزهار الحدائق، ولا يلاعبون الفراشات، لا وجود لقوس القزح، لكن عيونهم تتساءل، ونحن ننظر إليهم بشفقة، يتبعها تجاهلعالمهم الخيالي تؤلفه الروايات، رواياتهم مختلفة، مليئة بالفراشات التي تنثر الألوان على لوحات باهتة في عالمنا.

لكننا… لا نمنحهم الفرشات الالوان ولا نفتح لهم أبواب الروايات، ليرسموا لنا عالمهم، ويملؤوا الصفحات بالحياة والخيال، ويزينوا لوحاتهم بألوان قوس قزح، ويغزلوا من أحلامهم حكايات ومغامرات في عالم ملون بألوانهم فكم من روح يقودها الخيال لكنها تضل طريقها نحو ذلك العالم المقصود

عالم تتنفس فيه الاحلام على صفحات الحياة، وهو عالم تحقيق الاحلام واحتضان الامنيات ....

هم

هم الاختبار الذي يكشف إنسانيتنا، هم الرسالة التي يضعها الله أمامنا لنمتحن بها قلوبنا وعقولنا، لنرى هل نملك الرحمة حقًا، أم أننا نحيا في صمت تجاه من يحتاج إلى نظرة تقدير،إلى مساحة مشاركة، إلى فرصة ليكون كما هو… كاملًا في اختلافه، غنيًا في قدراته، قويًا بعزيمته.......

نحن اليد التي تساند وترفع ....

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

كلما قيلت لها أثناء محاورتها عبارة "أفهمكِ جيّدًا"، تصريحًا أو تلميحًا، تبسّمت ابتسامةً تُخالطها ثقة عالية جدًّا>  وَدّتْ لَو فَنّدَت بشدة تلك المقولة، وإقناع القائل بأنها خاطئة لا أساس لها من الصحة، لكنها تكتفي بتلك الابتسامة التي يتبعها صمت الحكمة.

صمتٌ يصدح بداخلها أن لم يسبق لأحد أن عثر عليها، لأنه صعب جدًّا الوصول إليها، فهي لا تتواجد حيث يُعتقد أن تكون، ولا تظهر علنًا بكُلّيتها البتّة، هي لا تنصهر ولا تندمج في الأشياء، بل تكون دومًا وراءها، لا تتجلّى كحقيقة كاملة أبدًا، فقط طيفها من يتجسد، هي تتوشح الكلمات، تمكث وراء ستار الفكرة والمعنى، تقبع هنالك بعيدا جدا خلف الشعور، ووراء الأفعال وردودها،

تجلس في هدوء خلف الأشياء تتأمل، لتعيد الأمور لنصابها، وتكتشف ذاتها من جديد. 

تقول واصفة عجز قلمها عن سردها كاملةً، ومحدوديّته حينما يحاول حلّ أُحجياتها، ظنًّا منه امتلاكه مُكنة ترجمة كيانها حرفيا! لكن هيهات:

لا يتأتّى لقلمي أبدًا

سكبي على الورق دفعة واحدة

لا يستوعبني حبري

 لا تحملني السطور

 ولا ما تَخفَّى بينها غيرَ مذكور

يبقى دومًا نبضي فُتاتًا مني

مجرد رذاذٍ عنّي منثور.

صعب عليها ونادر جدا العثور على من يجيدون لغتها الفريدة، ليخاطبوها بها، لغة راقية جدا تختصّ بعوالم مثالية، تسمو بالروح وترقى بالفكر لأعلى المنازل.

***

الكاتبة زينة لعجيمي - الجزائر

 

من الأسماء الجديدة التي ظهرت في تونس خلال السنوات الأخيرة الأديبة ـ زهرة الحوّاشي ـ التي أصدرت عديد العناوين في الشعر والرواية والأمثولة والترجمة

الأديبة زهرة الحواشي متخصّصة في علم البيولوجيا وهي أصيلة ربوع بلدة الدهماني من الشمال الغربي التونسي تكتب الشّعر باللغة العربيّة الفصحى والدارجة التّونسية وكذلك باللغة الفرنسية وتترجم الشّعر من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية ومن اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية

صدر لها

- في جانفي 2019: ثلاث مجموعات شعريّة في نفس الوقت تحمل كلّ واحدة منها ثلاثة أجزاء: جزء بالعربية، جزء بالتونسية المحكية وجزء بالفرنسية تحت نفس الغلاف وهي

1- رأسي في قفص الإتهام / تونسية /Confidence

2- حديث الروح /تونسية / Etat d'esprit.

3- حرف ودمعة /تونسية / Nostalgie.

- في فيفري 2021

1- مجموعة شعرية كذلك بثلاثة أجزاء عربية، تونسية وفرنسية تحمل عنوان:

دبشليمات وما من بيدبا / تونسية / Diamant

2- كتاب ترجمة المجموعة الشعرية اللحمة /Avec ou sans الحيّة للشاعر التونسي صالح القرمادي حيث ترجمت الجزء العربي إلى اللغة الفرنسية والجزء الفرنسي إلى اللغة العربية.

- صدر لها في 2023

1- رواية بعنوان: ابن العاقر.

2- مجموعة أمثولات بعنوان Mes fables préférées

3- مجموعة أمثولات بالعربية بعنوان من بديع القصّ.

ولها قيد النشر

- ترجمة ديوان أشعار نقشتها الرّيح على أبواب تونس السّبعة للشاعر الشهيد شكري بلعيد، من العربية إلى الفرنسية.

- ديوان شعري خامس بأربع لغات: 1عربية فصحى - 2تونسية محكية - 3 فرنسية- 4 أنغليزية.

- رواية بعنوان يمينة.

وقد ظهر لها أخيرا إصدار جديد بعنوان ـ كُتّاب أبي ـ وهو كما ورد في الغلاف ـ شواهد وشوارد وأقاصيص ومذكّرات ـ وقد جمعت في هذا الكتاب شتاتا من وقائع وذكريات ظلت راسبة في شجونها

توالت في الكتاب الفصول والفقرات تحمل عناوين خاصة بها كمثل سلسلة أو محطات رصدت فيها ما رسب من مختلف أطوار حياتها بدأتها بحديثها عن أبيها وأمها وهما يتخصمان ضمن الفصل الأول بعنوان ـ عندما كنت قاضية ـ وقد رصدت فيه بعض تفاصيل شيخوختهما وذلك عند زيارتها لهما فوجدهما يتخاصمان عن الملح في الطعام وتنتصب زهرة الحواشي حينذاك قاضية بينهما لتجد نفسها في موقف حرج بينهما فأبوها يشتكي لها من أمها التي قال إنها نغّصت حياته بفقدان الملح من طعامه وبمنعه من اللحم الدّسم ثم تستمع إلى أمها وهي تبرّر حرصها الشديد على صحته بِاِعتبارها مسؤولة عنه

في مثل هذا الموقف العائلي الحميمي تكشف لنا زهرة الحواشي خيوطا دقيقة لأقرب الشخصيات منها في سيرتها الذاتية وتختم هذا الموقف الحرج بين أمّها وأبيها حينما اِنتصبت بينهما قاضية فتقول متخلصة من مسؤولية الحكم: كثيرا ما نزعتُ جبّة القاضية وعصيت أوامر الطبيب رأفة به وفي عفلة من أمي طبخت له من اللحم ما يشتهي ووضعت امامه الملح ليأخذ منه غرضه وكنت ارابط بجانبه كامل اليوم خشية أن يرتفع ضغته

:وتغتنم الكاتبة هذه الحادثة لتبثّ في آخرها حنينها وشجونها قائلة سلاما لمنزلنا الصغير في مساحته الوسيعة في تاريخه ومعارفه وتعدد مواهبه سلاما لحيّنا ـ حومة الواد ـ الصاخب العامر بالبراءة والجِيرة الطيبة والفن والهزل والطرائف والذي كان قلعة نضال سلاما بحرّ الدموع وحرقة الفؤاد لإخوتي فاطمة وعلالة ومحمد الذين فارقونا باكرا تاركين في القلب جراحا لا تندمل

ومن ضمن اِستحضار الذكريات الطريفة ما أوردته عن جدّها في فصل ـ جدّ يصطاد جدّتي ـ إذ ذكرت أنها مرّة وفي غفلة منها جذب جدّتها بعكازه يطلبها أن تقترب منه وهي تهمّ بالخروج غير أن الجدّة تفطنت لحضورها فنهرته كي لا يفتضح الأمر ومن جملة الوقائع الطريفة التي أخبرتنا بها في فصول هذا الكتاب ذكرها لفقدان فردة حذائها بينما كانت تسرع للاتحاق بالدروس وعندما اِلتفتت تبحث عنها لعلها سقطت بينما كانت تسرع فرأت جمعا من التلاميذ يتقاذفونها كأنها كرة قدم

ومن النوادر الأخرى التي وقعت لها في صباها حدّثتنا أن جَمَلا هائجا جرى خلفها وكاد أن يطرحها أرضا ويوقع بها لولا أن سارعت بالتسلّق وهذه الحادثة ذكرتها بما وقع لعمّتها قبلها مع الجمل الأجرب الذي نزل عليها بكلكله فلم تتمكن العمّة من الإفلات منه وقد أصيبت إثر هذه الحادثة الأليمة بشرخ نفسيّ عميق أفقدها حياتها

وفي الكتاب مواقف عديدة ذكرتها زهرة الحواشي بأسلوب فيه الكثير من الألم مثل ظلم بعض المربين وخروجهم عن ضوابط رسالتهم النبيلة. الكتاب سِجل زاخر بكثير من تفاصيل السيرة الذاتية والمواقف الخاصة بحيث يمكن أن يكون مدخلا لبحث خفايا نفسية الأديبة وهو إلى جانب ذلك صورة للمجتمع التونسي ولبعض خصائصه وأحداثه كاحداث سنة الفيضانات وعام المجاعة ويعطي بعض اللمحات عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في جهة الشمال الغربي في فصل ـ العريفة ـ الذي وصفت فيه أجواء الحصاد وروح التعاون والبهجة بين الفلاحين والفلاحات ولم يخلُ الكتاب من الشّعر ذلك أنّ قصيدة ـ فراق لحباب ـ الواردة فيه ترشح حنينا وشجونا كيف لا وزهرة الحواشي شاعرة بالفصحى والدارجة والفرنسية وحتى بالإنقليزية فقد كانت في دراستها لها ممتازة لدى أستاذتها الأمريكية التي أحبتها ودعتها إلى إتمام دراستها معها وكادت أن ترافقها في عودتها إلى أمريكا لولا لحاق أبيها بها وهي تكاد تصعد القطار معها

إن كتاب ـ كُتّاب أبي ـ لزهرة الحواشي يندرج ضمن أدب الحياة أي أدب السيرة الذاتية فهو يندرج في سياق مكاشفات كتاب ـ الأيام ـ لطه حسين وـ يوميات نائب في الأرياف ـ لتوفيق الحكيم وـ سبعون ـ لميخائيل نعيمة وكتاب ـ رجع الصّدى ـ لمحمد لعروسي المطوي وغيرها.

***

سُوف عبيد ـ تونس

ذلك صاحب الظل الطويل ذو العيون السومرية… الرجل الغامض الذي يعرف كيف تُفتح الأدراج وتُغلق، لم تُترك الأدراج مفتوحة يومًا بسبب نسيانه، فهو لا ينسى شيئًا أبدًا، لكن الصدفة وحدها قادتني تلك المرّة إلى أن أجدها مفتوحة، وفضولي – كما هو دائمًا – دفعني إلى الاستكشاف.

لم أجد كنوزًا ولا أسرارًا كبرى؛ بل صورًا بلا ملامح، أوراقًا متناثرة، خاتمًا صدئًا، وعلبة صغيرة تضمّ ألوانًا مائية باهتة، غريبٌ أنّ تلك الألوان، لا الخاتم ولا الصور، أسرتني.

ظلّ السؤال يطاردني: ماذا كان يفعل بها؟ هل كان رسّامًا خفيًّا لم يُعلن نفسه؟ أم أنّ الألوان كانت ترجمة لشيء آخر لم أستطع فهمه؟

صوت جدّتي البيضاء الفراتية جاء يذكّرني، كدرس يعاد في مدرسة حياتي على طول الزمن، وصوتها وكأني أسمعه اليوم:

"هذه أشياء تخصّه، لا يجوز أن نتدخل بها، وما تفعلينه ليس بالصواب. إذا كان قد أقفلها، فهذا يعني أنّها أشياء تعنيه، ومهمّة له، حتى لو بدت لنا بلا قيمة."

يا لعظمة تلك البيضاء الفراتية… علّمتني أن بعض الأشياء تُترك لأصحابها، وأن احترام حدود الآخرين أحيانًا أهم من الفضول، والغريب أن الفراتية نفسها لم تعرف ماذا تضمر الأدراج، ولم يقودها الفضول كما قادني لتقليب ما فيها.

ما حدث كان درسًا لم يُكتب في كتاب، ولم يُلقَ في فصل، بل تعلمته من موقف حيّ، ومن تأنيب ضمير يعود إليّ كلّما حاولت تكرار الخطأ نفسه.

عندها أدركتُ أنّ ليس كلّ ما في داخلنا يمكن أن نبوح به، وليس كلّ جرح أو ذكرى يمكن ترجمتها أو كشفها، هناك خفايا تبقى خفايا، أسرار ترافق صاحبها طوال حياته، وربما هذا هو سرّها الحقيقي، وربما هذا ما يمنحها قيمتها: أن تكون سرًا، صامتًا، لكنه حاضر، يلوّن حياة الإنسان كما تفعل الألوان المائية في اللوحة، خفية، لكنها حاضرة، وأحيانًا أكثر صدقًا من أي كلمات يمكن أن تُقال.

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

يجيء من العدم، ترميه القرى الصغيرة إلى المدن الكبيرة، والمدن الكبيرة إلى لغزها السري، ويتحدان في العلاقة المستحيلة، يستقر أخيراً في المدينة السرية المتشظية، يدخل في تجاويفها الليلية، باحثاً عن مأوى لجسده المشروخ. لقد كانت مدينة، أصبحت الآن شبحاً، ماضياً، ماضياً مبتلاً، وعلى جسدها وخصرها الأسمر، يجري نهران، لم تتعب المدينة بعد من الغرباء، ولم يتعب الغرباء بعد منها.

هذا الكائن الذي يدعى (وليد جمعة) لم يكن غريباً عنها، الفقير المثقل بالرغبة الشبقية وبالأيام الماضية والآتية، انه هنا في المدينة في ركن من أركانها، يزرع القلق مثل قمح، يردد بصوت مرتفع وهم يعبرون الشارع المذهب بالفتيات:

«طالبوني بقصيدة، ما الذي نكتبه عن دوخة الناس، اقترحت الناسَ، من منهم تريد؟ وعلى أي القوانين تشيد كلمات، وتسوي عالماً من كلمات.

يكتب عن نفسه وعنّا، عن العلاقات الواضحة والغامضة، عن المرأة المشتهاة في الخيال، وعن الليل، وعن النساء الليليات وعن الرجال النهاريين، عن الأصدقاء والمعارف، عن حبه القديم وحبه الجديد، عن الغائبين، الطارئين والمستقرين في ذاكرته، شرب كأساً، كأسين، ثلاث كؤوس، رأى المدينة، هي لعنة يومية، أما آن أن أفارقها؟ وفارقها! هذا الكائن الغريب الاستثنائي.

هو الكائن قادم، ساق تسابق ساقا، ترنّح مكشوف من فعل البارحة، الأزقة الضيقة جد متعبة صعوداً وهبوطاً، لا أحد في المدينة، إنه إله المدينة، قدّيسها، صعلوكها، ضمير المدينة. كل أبوابها مفتوحة له، كل الحانات، المقاهي والمطاعم، هكذا كان، لقد اختزن المدينة في ذاكرته ووضعها على الورق، عنف قاس لطفولة مشروخة حتى العظم، عنف يتجدد في الشيخوخة المقبلة، وفي المرض الذي داهمه مبكراً.

لم لا؟ يريد أن يكوّن نفسه، لم لا؟ لكن لهذه المدينة نظاماً آخر، لماذا يصر على أن يسير في طريق الاختلاف؟ لا يريدونه نموذجاً ولا يريدونه بناءً، يضحكون في وجهه ويتلاسنون في غيابه، لكنهم يحبون استثناءه، وخروجه عن نظام المدينة، وعندما استوى في جلسته الفوضوية، كانت الأيام الحزينة فوق جفنيه.

نعم، لهذه المدينة بؤر متعددة، قال ذلك وكتب ذلك، بؤر سرية وغامضة ومكشوفة، بؤر تفضي إلى متاهات ومدارات متشابكة، بؤرة للنسيان وللغياب الكلي، للضياع الجميل، والتشرد الجميل، من تختار يا وليد؟ تمسّك في بؤرة الجرح اليومي العنيد، كانت المدينة تتعملق من حوله، من أنت؟ لماذا تقفلين في وجهي أبوابك؟ عشت وشفت، وها أنا استرجع ذاكرتي وأنفي الموشومين.

كان يمكن لوليد جمعة أن يكون مجرد موظف عراقي عابر، يمضي نهاراته بملل في مكاتب دائرة الضمان الاجتماعي، ويمحو أيامه بالروتين الذي يشبه الموت المؤجل. لكنه لم يكن كذلك. كان في قلبه يخفي جمرة الشعر، والسخط، والسخرية، والعناد المكشوف الذي لا يحتاج إلى منصة أو جائزة أو تصفيق.

لم يكن وليد خارج السلطة فقط، بل خارج «مشروع الشعر الرسمي» أيضا، يكتب بنبرة تسخر من كل شيء، كان يكفي أن أصدقاءه يستمعون إليه، وهو يتهكم على زعيم حزب، أو وزير، سيان عنده، للثقافة أو الداخلية، أو يلعن بلداً يشبه معسكراً دائماً، يقوده حزب شمولي، أو يروي نكتة عن شاعر «منبطح»، كان رجلاً كريماً في السخرية، كرماً يشبه كرمه في الصداقة، وتقاسم الخبز، في نهاية كل شهر وحين يستلم راتبه المتواضع يجتمع «صعاليك» مقهى إبراهيم ـ كان يتجنب تسميتها: مقهى المعقدين ـ المشهد يكشف عن جوهر وليد الإنساني، الأصدقاء ينتظرون تلك اللحظة بشهيّة ولهفة، مطعم نزار القريب من المقهى، يتحول إلى طاولة بعدة أمتار، كان سعيداً لا يتردد لحظة واحدة في دفع حساب الجميع. كمن يعرف أن هذا المشهد العابر هو كل ما يمكن إنقاذه من الحياة المهانة.

وليد رجل مقامر، مواظب على حضور رهانات سباق الخيل، لا يحسب للمال حساباً، الفلوس ترمى على الطاولة. الحياة عابرة، بل رهاناً دائماً، يخسر ويضحك، يربح ولا يطمئن، كأن كل شيء مؤقت.. حتى نفسه. هو، ليس من طينة الشعراء الذين يطلبون المجد، بل من طينة الذين يستهزئون به، يكره التصفيق، كتب شعراً شتم فيه الظالم والظلم، ينفجر حين تضيق عليه البلاد، ويغلق فيها السياسيون نوافذ الكلام في بلاد الزنزانات والأناشيد العسكرية. كان شاعر شظايا ساخراً، وخصماً للنظام، خصومة تحتقر السجّان، والمنبر، والمهرجانات، والمثقف الذي يتحول إلى بوق، وليد حين يصعد المنصة يقول ما يجب ألا يقال. في شعره لا أثر لبطولة مفتعلة، ولا مجد فارغ، بل هناك إنسان يبكي من دون دموع، لأن البكاء ترف لا يستحقه المنفي:

في الغروب النحيف/ رغم كل البلايا/ أراه من المستحيل عليّ/ من المستحيل تماماً/ كراهية (هذا) العراق.

ديوانه «الغروب النحيف» ليس نصاً، بل أثر، وصيته الأخيرة التي لم يتركها لأحد، ليس توثيقاً لتجربة شاعر، بل وثيقة شاعر قاوم كي يودع كل شيء: الوطن، الأصدقاء، اللغة، حتى نفسه.

هيّن فقر الأناشيد وزهو الارتزاق/ هيّن أن يختفي أنبل ما باح به للكون/ وجدان العراق/ هيّن موت العراق

سخرية وليد لا من أجل التهكم، بل طريقته في الإدانة، يسخر من الشعراء الذين ركعوا للسلطة، أي سلطة، لم يكن ساخطاً لأنه ضحية، بل كان ساخطا لأنه يرى ما لا يراه غيره. كان شاعراً متمرداً، ليس لأن التمرد موضة، بل لأنه لم يكن قادراً على التواطؤ. يعرف أن الخسارة حتمية، لكن الرهان على الشعر، على الحرية، على الضحك، هو الفوز الحقيقي. اختار وليد جمعة أن يودّع «الغروب النحيف» بدخول أخير إلى مقهى إبراهيم (مقهى المعقدين)، ذلك المكان كان مشهده الأكثر صدقاً وحضوراً، هنا في الأبجدية الأخيرة للديوان يكتب وليد:

في عام 1987 فسخ البعثيون عقد الزواج مع الشيوعيين، فعادوا إلى المقهى، ثم سرعان ما اختفوا عن المقهى، فرّ من فرّ، وتعهّد من تعهّد، أغلقت جريدة «طريق الشعب»، لكن جريدة «الفكر الجديد» استمرت بالصدور، بقي فيها من مثقفي الحزب اثنان، محمد كريم فتح الله، وسلوى زكو، وبقيت مقهى إبراهيم.

لي كل الشرف أن أعلن لأول مرة، ان الأعداد الأخيرة من «الفكر الجديد» قد تمّ تحريره من قبل زبائن المقهى، بادر المثقفون على تشكيل هيئة تحرير عاجلة تعهدت بكتابة المواد الصحافية والثقافية، من دون أدنى رقابة حزبية أو سلطوية، كانت أكثر المواد جرأة في قمة الهجمة الفاشية ضد الأصوات الحرّة، فأغلقت الجريدة:

مدنٌ جبتها/ مدنٌ بالمئات/ لو تخيّرت أبهجها/ ولوّنتها مثل لعابة/ وأجريت فيها نسيم السكينة/ لم تكن حلوةٌ وحبابةٌ/ كضجّة دربونة في هذيج المدينة.

توفي وليد في منفاه الدنماركي في 20 سبتمبر/أيلول 2015، لم ينشر سوى قصائد قليلة في حياته. صدر له عن دار الجمل ديوانه الوحيد «الغروب النحيف» بعد وفاته بأيام.

***

جمال العتّابي

في ذاكرة الصحافة العربية، ثمة أسماء تلمع كنجوم في ليل حالك، لكن قليلاً منها ظل قادراً على اختراق الزمن ليبقى حياً في وجدان الشعوب. محمد حسنين هيكل واحد من هؤلاء النادرين، بل لعله الأبرز بينهم. لم يكن مجرد صحفي يدون الأخبار، كان معمارياً للوعي، وصائغاً للسرديات التي تحولت إلى جزء من التاريخ نفسه. امتلك موهبة نادرة جعلت من قلمه سلاحاً أخطر من المدافع، ومن كلماته طاقة تفوق ضجيج الخطب السياسية.

هيكل لم يكن شاهداً على عصره، كان طرفاً أصيلاً في صنعه. كتب فارتجت القصور، وحلل فارتجفت العروش، وصمت فاشتعلت الأسئلة. كان المثقف العضوي الذي حمل هم الأمة في قلبه، وقرأ لحظتها التاريخية بعين المؤرخ وذكاء الاستراتيجي. لذلك صار "مطلوباً حياً وميتاً"، يخشاه الساسة ويتبعه القراء.

هيكل، مطلوب حياً وميتاً

قبل أيام، وبينما كنت أقلب أرشيفاً قديماً، وقعت عيناي على صورة بالأبيض والأسود لمحمد حسنين هيكل. كان واقفاً بظهر منتصب كالأمراء، عيناه الثاقبتان تشقان الزمن وتصلان إلى حيث نقف نحن اليوم. توقفت أمام الصورة، وأدركت أن السؤال الأكبر ليس: من كان هيكل؟ بل: ماذا بقي منه في زمن لم يعد فيه للصحفيين سوى ظلال باهتة من نجوم غابت؟

العبارة التي التصقت به: هيكل مطلوب حياً وميتاً"، ليست مجرد وصف صحفي عابر، بل شهادة تاريخية. لم يطلب الأحياء إلا من خشي الناس بأسهم، ولم يطلب الأموات إلا من خلدتهم أفكارهم. وفي ذلك يكمن سر هيكل: رجل ظل مصدر خوف وإلهام في آن واحد، حتى بعد غيابه.

بين النبذ والتأليه

في الثقافة العربية، ثمة مفارقة صارخة: العظماء ينبذون في حياتهم، ثم يؤلهون بعد رحيلهم. وهيكل المثال الأبرز لهذه القاعدة. عاش مطارداً، محاصراً، متهماً بكل التناقضات: ناصري الهوى، ساداتي الولاء، خصماً للسلطة، ومرآة لها في الوقت ذاته. لكن هذا كله لم يمنعه من أن يهز عروش الملوك والرؤساء بكلماته وحدها.

الجواب عن سر تأثيره يكمن في فهمه العميق لآليات الوعي الجمعي. هيكل لم يكن ناقلاً للأخبار، بل صانعاً للمعنى. كان يدرك أن الكلمة حين تصاغ بدقة تصبح قادرة على إشعال الثورات. ولذا قال يوماً: " الكلمة هي الجندي المجهول في معركة الوعي".

المثقف العضوي

خلافاً للكثير من مثقفي النخبة الذين اكتفوا بالنقد من أبراجهم العاجية، كان هيكل مثقفاً عضوياً بالمعنى الجرامشي. يعيش هموم شعبه، وينتقد الداخل كما ينتقد الخارج. آمن أن التحرر من الاستعمار الخارجي يبدأ أولاً بتحرير الداخل من استبداده. وكان يكرر: "دور المثقف أن يكون ضمير الأمة، لا بوقاً للسلطة".

وهذا ما جعل الناس ينظرون إليه بوصفه صوتاً جمعياً، لا مجرد قلم فردي. فالصحفي عنده ليس شاهداً صامتاً على الأحداث، هو طرف فاعل في صناعتها.

سيد السرديات وعبقري التحليلات

هل ما زالت تحليلاته صالحة اليوم؟ نعم، لأنها لم تكن انفعالات آنية، كانت قراءات عميقة لبنية التاريخ والسياسة. تحليله للصراع العربي–الإسرائيلي، أو للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ما زال يقرأ كأنه كتب بالأمس. في كتابه "ملفات السويس" (1957) مثلاً، قدم رؤية مبكرة لطبيعة التدخل الغربي في المنطقة، وهي رؤية أثبتت السنوات صدقها.

هيكل لم يكن مجرد صحفي كبير، كان سيد السردية العربية.  فهم أن السلطة الحقيقية ليست فيمن يصنع الخبر، لكن فيمن يروي الحكاية. بقدرته على السرد، كان يصوغ الوعي الجمعي، ويحرك الرأي العام، حتى تتحول كلماته إلى قرارات وسياسات.

براعته تكمن فيما يتركه بين السطور. كان يتقن فن "المسكوت عنه"، يلمح ولا يصرح، يترك للقارئ متعة الاكتشاف. وهنا يكمن ذكاؤه: يجعل الفكرة تنمو في عقل القارئ حتى يظن أنه صاحبها.

ظاهرة خارقة للعصور

لا يمكن فهم ظاهرة هيكل من دون تحليل علاقته المعقدة بالسلطة. عاصر ملكين وسبعة رؤساء، من فاروق إلى السيسي، لكن ذروة تأثيره كانت في عصر عبد الناصر. قال أنيس منصور يوماً: "عبد الناصر من اختراع هيكل"، وهي عبارة تلخص شراكة سياسية وفكرية نادرة. كان هيكل "عقل ناصر" الاستراتيجي، وصاغ معه الخطاب القومي.

لكن ولاؤه لم يكن أعمى. كتب مقالات انتقد فيها المخابرات وأجهزة الدولة في زمن ناصر. ومع السادات، بدأ مؤيداً متحمساً، وكتب عنه أنه "قائد تاريخي لشعبه"، قبل أن ينقلب الخلاف بينهما إلى مواجهة حادة انتهت بطرده من الأهرام. عندها قال عبارته الشهيرة: "الرئيس يملك أن يقرر إخراجي من الأهرام، أما أين أذهب بعد ذلك فهذا قراري وحدي".

حضور أقوى في الغياب

في سنوات "اغتياله المهني"، حين مُنع من الكتابة، تحول من كاتب إلى فكرة. صار وجوده من خلال غيابه أقوى من حضور أي صحفي آخر. أي تصريح له كان حدثاً، وأي مقال عنه يتحول إلى مادة رئيسية. وهنا برز الدرس الأهم: أن الكلمة حين تمنع تكتسب قوة أكبر، وأن الفكرة حين تُطارد تتحول إلى نار لا تنطفئ.

كان هيكل يرى الصحافة بوصفها كتابة للتاريخ "في لحظة وقوعه". في كتابه "إيران فوق بركان" (1951) استشرف تحولات طهران قبل الثورة، وفي كتابه "خريف الغضب" (1983) قدم تشريحاً نادراً لمرحلة السادات وصراعاتها الداخلية والخارجية.

إرث عسير المنال

يمكن تلخيص إرثه في أربعة أبعاد: أنه الصحفي الذي قاد الأهرام وحولها إلى مدرسة. وهو المفكر الذي أسس مراكز الدراسات الاستراتيجية. كما أنه المؤرخ الذي دون تاريخ مصر عبر أكثر من أربعين كتاباً. ثم هو المحلل الذي حاور شخصيات القرن العشرين من أينشتاين إلى الخميني.

  لقد رفض هيكل الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأمريكية قائلاً: "رموز التكريم للصحفي هي قراؤه لا الجامعات". بهذا المعنى، كان صحفياً للجماهير، لا للنخب وحدها.

 ومن إرثه المعرفي والفكري والصحفي يمكن استخلاص دروس بالغة الأهمية: أولها: أهمية الاستقلال الفكري : رغم قربه من السلطة، لم يكن بوقاً لها. وثانيها: العمق المعرفي: جمع بين الصحافة والبحث التاريخي . وثالثها: الجرأة الأخلاقية: كتب في المسكوت عنه، دون أن يفقد لياقته الأدبية. رابعاً: الشعبية:  جعل من الصحافة خطاباً للجماهير.

 بها المعني قال إدوارد سعيد عن الصحفي المثالي: "هو المؤرخ والمفكر في آن واحد"، وهي صفة تنطبق على هيكل بأوضح صورة.

هل يتكرر هيكل؟

هل يمكن أن يظهر هيكل جديد في زمن الصحافة الرقمية؟ الأغلب لا. فقد كان ابن ظرف تاريخي استثنائي: صعود الصحافة الورقية، الأنظمة الثورية، وصراعات الحرب الباردة. ومع ذلك، فإن دروسه تبقى خالدة: أن الصحفي يجب أن يكون صاحب مشروع، رؤية، ورسالة.

هيكل لم يكن شخصاً فحسب، بل مدرسة متكاملة. مثل كل المدارس العظيمة، قد يختلف تلاميذها عنها، لكنهم لن يستطيعوا إنكار فضلها. ربما لن يأتي "هيكل آخر"، فالعظماء لا يتكررون، لكن آثارهم تبقى منارات للأجيال.

هيكل هو ذلك الصحفي الذي علمنا أن الكلمة يمكن أن تكون أقوى من المدفع. رحل الأستاذ، لكن دروسه باقية. ومهما حاولت "النملة أن تحجب الشمس"، كما كتب يوماً، فإن نوره سيظل ممتداً.

قد لا يعود هيكل بشخصه، لكن يمكن أن يعاد إنتاجه في وعينا الصحفي إذا استلهمنا جوهر تجربته: شجاعة الكلمة، عمق الرؤية، وصدق الانتماء. إن الوسط الصحفي اليوم، الغارق في ضجيج السرعة وسطوة الصورة، يحتاج إلى من يوقظ فيه روح هيكل: صحفي لا يكتفي بالنقل بل ينسج المعنى، لا يلهث خلف الحدث بل يقرأ جذوره. هيكل الجديد ليس نسخة من رجل رحل، بل فكرة متجددة: أن الكلمة إذا صيغت بضمير الأمة، عادت لتصنع التاريخ من جديد، وتكتب حاضرنا بمداد لا يزول.

***

د. عبد السلام فاروق

يقول الجاحظ في وصفه للكتاب: " والكتاب هو الذي إن نظرتَ فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوّد بيانك، وفخّم ألفاظك، ونجّح نفسك، وعمّر صدرك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك".

**

مع قيام الدولة العباسية، شهدت الكتابة العربية نقلة جديدة، فتنوعت أساليبها، وتعددت خصائصها ومجالاتها. وصار التمييز واضحا بين كتابة الديوان التي تنهض بشؤون الدولة، وكتابة التأليف أو الكتابة الفنية التي تمثل أزهى مظاهر هذا العصر، وعنوان ترقيه وبلاغته وجماله، والتي حمل رايتها كُتاب أمثال: ابن المقفع، والجاحظ، والفضل بن سهل وغيرهم.

أدى اتساع رقعة الدولة الإسلامية إلى اختلاط العرب بشعوب البلدان الأخرى، وتبادل التأثير في نمط العيش والتفكير، وإنتاج المعرفة. وكانت الكتابة من ضمن ما شملته رياح التغيير، فظهر التجديد في ألفاظها ومعانيها، وتميزت بسهولة العبارة، وحسن اختيار الألفاظ، ووضوح المعاني.

وأدى امتزاج اللسان العربي بلغات الشعوب الأخرى إلى ظهور الألفاظ الدخيلة في نسق الكتابة. فغلبت المفردات الفارسية على الأشياء المادية، كأسماء الملابس والأطعمة وأدوات المنزل. وغلبت اليونانية على مفردات الطب، والفلك، والرياضيات، والفلسفة.

مرت الكتابة خلال العصر العباسي بثلاث مراحل، لكل منها سمات خاصة انعكست على أسلوب الكُتاب وطرائق تعبيرهم:

شكلت المرحلة الأولى امتدادا لأسلوب الكتابة الذي أبدعه عبد الحميد الكاتب أواخر العصر الأموي والذي عُرف ب"فن الترسل"، فكان الكاتب العباسي حريصا على أداء المعنى الجميل في القالب الجميل، مع تنويع للعبارة وإدخال المُحسنات اللفظية دون مبالغة أو تكلف.

يعد ابن المقفع إماما للكتابة في هذه الفترة، من حيث التجديد الذي أدخله على النثر العربي عموما. ومن أهم سمات أسلوبه: المزج بين الأسلوب القصصي والمنطقي، فكانت جُمله وعباراته مزدحمة بالمعاني الفلسفية، والقياسات والحِكَم دون غموض أو تعقيد، كقوله في مُؤَلفه الشهير (كليلة ودمنة): "وجدتُ من لا إخوانَ له لا ذكرَ له، ومن لا مالَ له لا عقلَ له ولا دنيا ولا آخرة، لأن من نزل به الفقر لا يجدُ بدا من ترك الحياء. ومن ذهب حياؤه ذهب سروره. ومن ذهب سروره مقتَ نفسَه. ومن مقتَ نفسه كثر حزنُه".

ومنها حرصه على الوضوح وسهولة اللفظ، فكانت عباراته من قبيل السهل الممتنع. كقوله في (الأدب الصغير):" وعلى العاقل أن يُحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي، وفي الأخلاق وفي الآداب. فيجمع ذلك كله في صدره أو في كتاب، ثم يُكثر عرضه على نفسه، ويُكلّفها إصلاحه".

ومنها كذلك ابتعاده عن الألفاظ العامية والمبتذلة، فكان يتمتع بذوق حسن وطبع سليم في اختيار كلماته. قال الراغب الأصفهاني " كان ابن المقفع كثيرا ما يقف إذا كتب. فلما سئل عن ذلك قال: إن الكلام يزدحم في صدري، فأقف لتخيُّرِه".

امتلك ابن المقفع ناصية البلاغة، وظل أسلوبه مرجعا للكُتّاب في عصره لفصاحته التي لم يؤثر فيها أصله الفارسي، حتى قال عنه أبو العيناء:" كلامه صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح، كأن بيانَه لؤلؤ منثور، وروض ممطور".

أما المرحلة الثانية من الكتابة في العصر العباسي، فكانت امتدادا لمدرسة ابن المقفع مع تطور طفيف اقتضاه اهتمام الكُتاب بتصنيف الكتب. غير أن منتصف القرن الثاني الهجري سيشهد ميلاد عبقري الكتابة وشيخ الأدباء أبي عثمان عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ.

اشتهر الجاحظ بموسوعيته وتبحره في اللغة، وبراعته في تصوير مجتمعه، ونقد أخلاقه وعاداته. وتميز أسلوبه بالرشاقة ووضوح المعنى وترديده في تراكيب مختلفة، وميل إلى نحت عبارات قصيرة لا تخلو من الإيقاع، مثل قوله في مقدمة كتابه (الحيوان):" جنّبك الله الشُّبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا، وبين الصدق سببا، وحبّب إليك التثبت، وزيّن في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعرَ قلبَك عزّ الحق، وأودع صدرك برد اليقين".

والكتابة عند الجاحظ استطراد ينتقل به من موضوع إلى آخر بهدف الترويح على القارئ وتشويقه، فكانت كتاباته تتشعب معانيها بين الفلسفة، والتاريخ، والقرآن، والحديث، مع خلط بين الجد والمزاح، وقدرة عجيبة على استحضار الأخبار والقصص التي تتناسب مع الفكرة.

ويمتاز الجاحظ عن كُتاب غيره بأسلوبه الجدلي، وميله الشديد للمناظرة والاحتجاج، وقدرة فريدة على الجمع بين الأضداد في أغلب مصنفاته. ففي كتابه "البخلاء" يدافع تارة عن السخي الكريم ويحتج له، ثم يدافع تارة أخرى عن البخيل ويحتج له، كل ذلك بعبارات تسيل رقة وعذوبة، دون تكلف أو تصنع.

تشهد الآثار الفكرية والأدبية التي خلّفها الجاحظ على تأثيره الهائل في أسلوب عصره، وإبداع طرائق غير مسبوقة في الكتابة، حتى صار الناس كما يقول ابن العميد، عيالا عليه في البلاغة والفصاحة، والتلمذةُ عليه شرفا لا يعدله شرف، ومجدا يُدنيهم من بلاط الملوك.

وخلال المرحلة الثالثة بلغ أسلوب الكتابة أقصى حدود التفنن والتصنع، وصار الكُتاب لا يقلون براعة في مجاراة خيال الشعراء في الوصف، والمجاز، والبديع. كما شُغفوا بالاقتباس من القرآن، والحديث، والأمثال ونوادر التاريخ، فلا تجد سطرا لكاتب إلا ويليه بيت شعر أو نادرة.

وممن ذاعت شهرتهم في تلك الفترة أحمد بن الحسين الملقب ببديع الزمان الهمذاني. الأديب والكاتب الذي اشتهر بنباهته، وقوة حافظته، حتى قال الثعالبي أنه كان يسمع القصيدة، وهي أزيد من خمسين بيتا، للمرة الأولى فيعيد ترديدها دون أن يَخرِم منها حرفا واحدا، ويترجم المعاني الغريبة من الفارسية التي يجيدها إلى العربية، فيجمع بين الإبداع والإسراع.

تميز أسلوب الكتابة لدى بديع الزمان بالفصاحة، والتركيب السهل والواضح. يصوغ المعنى في عبارات أنيقة، حافلة بالمُحسنات من استعارة، وكناية، وتورية، وغيرها. ورغم أنه ألف الأشعار والرسائل في أغراض متنوعة، إلا أن أصالته ككاتب تبلورت بشكل واضح في المقامات التي يعد مبدعها الأول.

والمقامة كتابة مزجت بين الحكي ونقد الأوضاع السائدة. تمتاز بجمال اللغة، وترجيح المجاز على الحقيقة. يلتزم كاتبها بالسجع، والإكثار من المفردات الغريبة، واقتباس الأشعار، والأمثال، والآيات، والأحاديث. وتجلى فيها حرص بديع الزمان على ابتكار صور جديدة للتعبير، تتسم بالدعابة والمجون أحيانا، لكنها أفسحت المجال أمام الكاتب ليلتصق بهموم المجتمع، ويحرر الكاتب من قيود البلاط.

أما وضع الكُتاب في هذا العصر فقد كانوا بحق تراجمةَ الملوك، وذلك بفضل الرعاية التي أبداها الخلفاء والأمراء للنهضة الثقافية والعلمية، وتشجيعهم الانفتاح على الفكر الإنساني عن طريق الترجمة.

كان ابن المقفع كاتبا لدى بني العباس

وارتفعت منزلة الجاحظ حتى صار جليسا للملوك، وكان الناس يسألون عن كتبه المفقودة وهم في صعيد عرفات.

وكان ابن العميد وزير ركن الدولة، والصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة.

وبلغ من تقديرهم للكتب والمصنفات أنهم دفعوا مقابل وزنها ذهبا، وسارت الرسل من بلاد إلى أخرى طلبا لنسخة من كتاب.

***

حميد بن خيبش

....................

- محمد عبد المنعم خفاجي: الآداب العربية في العصر العباسي الأول

- محمود مصطفى: الأدب العربي وتاريخه في العصر العباسي ج2

- بيومي السباعي: تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي

يسعى الناس في العادة إلى تحسين ظروفهم المعيشية، ماديًا ومعنويًا، فترى كلًّا منهم يسعى بطريقته الخاصة به لتحقيق ما يرغب ويريد، وهذا ينطبق على كلّ الناس بمن فيهم الكتّاب، فماذا يطلب الكاتب وينشد عندما يتقدّم بكتاب ما إلى المطبعة أو دار النشر؟.. إنه يطلب الامرين، أو أحدهما كما سنرى. في هذا يتفق الكتّاب في شتى بقاع العالم، غير أنهم يختلفون وفق البلاد التي يعيشون فيها، فاذا كانت الدولة مُتقدمة وقارئة، كان وضع الكاتب كذا، وإذا كانت متخلفة، بين قوسين، كانت ظروفه كيت، اما اذا كان يكتب لأقلية فان امره يختلف كلّيًا.. وهكذا.. فيما يلي اتطرق الى ثلاث صور تجسّد وضع الكتاب في كل أصقاع العالم، بشكل عام.

الصورة الأولى، وضع الكاتب في الغرب:

يتّصف وضع الكاتب هناك بأنه عادة ما يكتب عمله الروائي خاصة، ويبذل أقصى ما يمكنه من تجويد، عبر المراجعة وإعادة الكتابة إذا تطلّب الامر، بعد الانتهاء مِن هذه المرحلة يتقدّم يكاتبه إلى إحدى دور النشر التي تروق له وتعجبه، فإذا ما قبلته، بعد معاينته والنظر فيه، وفيما يُتوقّع ان يثيره مِن أصداء تتمثّل في إقبال القراء عليه، قاموا بنشره بعد تحريره وبذل مجهود غير عادي من أجل أن يحظى الكتاب بالاهتمام المحتمل أولًا والإقبال على اقتنائه ثانيًا. وفي حال رفضته هذه الدار، عاود الكاتب الكرّة فأرسله إلى أكثر من دار، وفي حين قبول إحدى دور النشر إعداد الكتاب للنشر وطباعته، تبدأ مرحلة أخرى تتمثّل في تسويق دار النشر للكتاب ولفت القراء إليه، من أجل تحقيق الربح المرجو، ونحن إذا ما أرسلنا نظرة متمعنة فيما يُعانيه الكتّاب المبتدئون هناك، في العادة، فإننا سنلاحظ أنهم يواجهون العدد من العقبات والعثرات، حتى يصلوا إلى مرحلة الموافقة على إصدار الكتاب. في هذا المجال نشير إلى أن الكاتب يعرف أنه إذا ما حقّق كتابه نجاحًا حقيقيًا فإنه قد يرتاح طوال المتبقي من أيام العمر، مما يدرّه عليه كتابه من دخل دائم وسائل. يساهم في هذا كله الاقبال القرائي في الغرب، أما إذا لم يكن الكتاب ذو مستوى، انصرف عنه القرّاء وأهملوه.

الصورة الثانية، في عالمنا العربي المُحيط بنا:

ينقسم الكتّاب في هذا العالم اسوة بالعالم العربي، الى قسمين، فاذا ما كان الكاتب في بداية طريقه، فإنه يحتاج أولًا لأن يُثبت نفسه، حتى تغامر إحدى دور النشر المعروفة، وتُقدم على طباعته. لهذا تراه يتوجّه إلى هذه المطيعة أو تلك طالبًا منها طباعة كتابه، مُقابل مبلغ من المال. بعد طباعة عدد من الكتب التي تلفت الاهتمام، ويُعرف اسم الكاتب، قد تتعامل معه دار النشر بنوع من الليونة، غير أنها لا تُرحّب به تمام الترحيب، إلا إذا كان مشهورًا وسبق وحققت كتبه انتشارًا واسعًا، نسبيًا بالتأكيد. هكذا يجري الأمر في هذه الفترة بالطبع، أمّا في فترات سابقة، عندما كان الكتّاب قلةً في العالم العربي، فقد كان الكاتب عادة ما يتّفق مع دار نشر، بعد إثبات نفسه أيضًا، بحصوله على جائزة ما، أو باقتناع ناقد مشهور بما أنتحه وقدمه من مؤلفات، أما في الفترة الراهنة فإن الامر يختلف نوعًا ما، ذلك أن دار النشر عادة ما لا تغامر بطباعة كتاب قد يُخسّرها الكثير، لذا تراها تتعامل مع الكتّاب بقفازات مِن حرير وبحذر شديد. السبب في ذلك يعود أيضًا إلى قلة القُراء. وهنا في هذا العالم، يَطلب الناشر مِن الكاتب أن يكون قد أثبت نفسه، وبات الربح من وراء اصدار كتابه مضمونًا.

الصورة الثالثة، في بلادنا:

يُعتبر وضع الكاتب في بلادنا، وضعًا إشكاليًا ومن نوع فريد، فهو يندر أن يجد دار نشر قويّة ترضى بطباعة كتابه، خاصة الأول، الأمر الذي يحشره في الزاوية، كما يقال، فلا يكون أمامه من مفرّ، سوى أن يتوجّه إلى إحدى المطابع، أو دور النشر، التي نادرًا ما تخوض مغامرة إصدار كتاب دون ضمان مردوده ونجاحه، مهما كان محدودًا، وأن يعبّئ جيوبه بما تتطلّبه طباعة كتاب، ليقدّمها هنيئُا مريئًا إلى المطبعة أو دار النشر، هكذا يصدر الكتاب، غير أن صاحبه يواجه بعد صدوره، مُشكلة من نوع آخر، تتمثّل في توزيعه.. وفي ظل عدم الاقبال على الكتب في بلادنا، وتعويد الناس على تقديم الكتب إليهم مجّانًا، فإن الكاتب عادة ما يُضطر إلى توزيع كتابه مجانًا في هذه الأمسية أو تلك الفعالية الثقافية. نوع آخر مِن الكتّاب في بلادنا، يَعرف قوانين اللعبة وما ستوصله إليه مِن نتائج، عادة ما يبحث عن ناشر يُحسن إصدار الكتب بالشكل المُناسب والمقبول، فيخيره الناشر بين واحد من أمرين، احدهما أن يدفع مُقابل إصدار الكتاب، والآخر أن يقوم بتقديمه إلى إحدى المؤسسات المعنية بطباعة الكتب، مثل بايس، فإذا ما رضيت لجنة الفحص، عن الكتاب ووافقت على طباعته، على نفقتها الخاصة، قدمت المؤسسة التمويل السخي للناشر، فيقوم هذا بطباعة الكتاب، ويمنح صاحبه عددًا محدودًا مِن النُسخ، يقوم هذا الأخير بتوزيعه أيضًا مجّانًا على أصدقائه ومَن يتوقّع منهم شيئًا مِن التشجيع، في الاماسي والفعاليات الثقافية الأدبية أيضًا، وهناك نوع آخر مِن الكتّاب، ومعظم هؤلاء من الدارسين الجامعيين، عادة ما يتقدّمون باقتراح دراسات، سبق لهم وقدموها، ضمن دراستهم الجامعية أو قدّموها في أمسيات أدبية سبق لهم وشاركوا فيها. ويختلف هؤلاء عن باقي الكتّاب في بلادنا في أنهم نادرًا ما يقومون بالطباعة على حسابهم الخاص، ويتقدّمون بدراساتهم إلى دور النشر ذات العلاقة بالمؤسسات المعنية بتمويل اصدار الكتب، فتقوم هذه بطباعة ما يقدمه اليها أولئك، من دراسات في كتب فاخرة، ومِن المُلاحظ على هؤلاء أنهم يطبعون بالجُملة، ثلاثة أو أربعة كتب دفعة واحدة، وهم بالمُجمل لا يختلفون عن سابقيهم، في توزيع كتبهم في الامسيات الأدبية والفعاليات الثقافية، إلا فيما ندر.. فانهم يبيعون عددًا قليلًا مِن النُسخ. أما الكُتب المدرسية، فلها شأن آخر.. وحديث آخر، فهي الوحيدة التي تُربّح وتُريّح.

*كما ترى أخي القارئ، استعرضنا فيما سلف، أوضاع صور ثلاثة كتاب، كلهم يجهد وكلهم يكتب، مع اختلافات جذرية في أوضاع كلٍّ منهم، ففي العالم الغربي، تُوجد مساحات أكبر بما لا يُقاس، فيما يتعلّق بالنجاح الذي يُمكن أن يُحقّقه الكاتب في حال نجاحة، فقد أضحت كي رولنجز صاحبة هاري بوتر مثلا مِن الأغنياء الذين ينعمون بالحياة الهنيئة، الشهرة والمال، لقاء نجاح سلسلة كتبها، ويُهمني أن أشير هنا إلى أن الكثيرين من الكتّاب في الغرب، عادة ما ينصرفون عن الكتابة، إلى أعمال أخرى في حال عدم نجاحهم، أما في العالم العربي المُحيط بنا، فان الكاتب يُعاني حتى يصل، وتتمثّل معاناته هذه في أن دور النشر تُفضّل الربح المضمون وتترفع عن المغامرة، وكي يُحقّق الكاتب هناك، إبّان الفترة الجارية تحديدُا، نجاحًا ما، عليه أن يسلك طريقًا صعبًا، وأن يدفع الثمن تامًّا. وكلّ هذا يتمّ جرّاء قلة القُرّاء.. تلك القلة التي تخيف دور النشر وتجعلها تُقدّم رجلًا وتؤّخر أخرى قبل القيام بأي مُغامرة. أما وضعُ الكاتب في بلادنا، باستثناء مؤلفي الكُتب المدرسية المفروضة على طلاب المدارس فرضًا، فإنه وضعٌ مُزرٍ، ذلك أنه مِن الصعب عليه أن يُحقّق أية مبيعات إلا إذا تحوّل إلى تاجر، ونسي انه كاتب، وفي هذه الحالة أيضًا لا يوجد هناك ما هو مضمون، إن جُلّ ما يطلبه الكاتب في بلادنا، هو أن يُصدر كتابه، وأن يرضى بالربح المعنوي، ممثّلًا بامتداح عدد مِن الأصدقاء والمحيطين، أو بأمسية إشهار، إنه يفعل كلّ ما يُمكنه، بصورة عامّة، مِن أجل إيصال رسالة آمن بها، أو مِن أجل الشُهرة، وعادة ما لا يُحقّقها إلا مؤقتًا. مسكين.

***

ناجي ظاهر

 

في ظهيرة خريفية من أيام تسعينات القرن الماضي، كان شارع المتنبي يتنفس بصعوبة، ينوء بثقل الحصار، الشارع بين موت وفراغ موحش، يعتاش على ما يحمله الأبناء من مكتبات آبائهم الذين توفوا غارقين في الحزن، كانت الكتب كالأشلاء تئن من الجوع معروضة على أرصفة الشارع، من يشتري الكتب، وبغداد نهر طافح بالأسى؟

الظهيرة بساط يخدّشه الضوء والظل، تسطع الشمس حيناً وتتوارى خلف دكنة الغيوم، ضوء باهت على أجزاء المدينة، الأجزاء الأخرى كامدة، واجهات شاحبة، كان حسن يخطو ببطء محاذياً باعة افترشوا أرض الرصيف، وآخرون يمرون بصمت. يتفحص وجوه البائعين، كمن يفتش عن وجوه غابت منذ عقود من الزمن، يبحث عن ظل قرب ناصية الدار العصرية للنشر لمح وجهاً لا تخطئه الذاكرة:

ـ مرحباً كاظم، أنا غير مصدّق أن أراك بعد هذه السنين الطويلة التي مرّت!

التفت الرجل ببطء، نظر إليه بعينين غائمتين، ثم عاد وجهه يتفحص عناوين الكتب المفروشة بعناية على الرصيف.

كاظم ! قالها حسن مرة أخرى بشيء من الرجاء، لكن الآخر ظل صامتاً، لم تصدر عنه أية إشارة تدلّ على أدنى استحسان أو قبول لتحية غير متوقعة، تحرك قليلاً، ثم غاب بين الزحام.

أعرف كاظم جيداً، هو بلحمه ودمه، انحناءة ظهره، سائق مطبعة الرواد اليساري، كان حريصاً على أن يوصلنا إلى أبواب بيوتنا آخر الليل، لا نغادر المطبعة إلا بعد الاطمئنان التام على اكتمال المرحلة الأخيرة لصفحات الجريدة المعدّة للطبع بشكل نهائي، كانت الطرق خالية، وصامتة مثل قلوبنا المتعبة، ساكنة أشبه بسكون وجه كاظم الأسمر، لكن الحديث معه لا ينقطع، كانت لديه أحلام، يتحدث عن العدالة، وطريق التطور اللارأسمالي صوب الاشتراكية، يتحدث عن عالم بلا استغلال، عالم قرأ عنه في الكتب والنظريات، وحلقات التثقيف الحزبي، في درج سيارته يحتفظ بكتاب عن تجربة المجر، والآخر عن الصراع الطبقي في البرتغال، تآكلت حواشي الكتابين وعلا غلافهما التراب، لم يكمل دراسته، لكنه كان يقرأ، قال ذات مرة:

هذه الكتب تعطيني أمل في الحياة.

كان كاظم يأخذ في السر كأساً من المستكي آخر الليل كي يقود السيارة بأعصاب باردة كما يزعم ويواصل الضحك. ثم يعود إلى بيته مع أول ضوء من خيوط الفجر.. لينام.

كنا نحفظ من ذكريات تلك الليالي الكثير، بينما كانت تلوح في ليل العراق سموم راعفات، وتتسع فيه ساحات زنازين الطغاة.

تفرقنا وراح كل منا يبحث عن ملاذ، كانت البلاد تضيق، والخوف يكبر، والبطش لا يرحم، ودّعنا كاظم  ذات ليلة، بعينين فيهما حزن وأسى. ودّعنا وفي داخله نار لم تطفئها السنين، وأحلام أوسع من المدينة التي تضيق بنا يوماً بعد يوم.

كان الوداع قصيراً، لكنه ثقيل، اختصره بعبارة واحدة:

ـ إذا غبت لا تسألوا عني، الحي منكم يذكرني بين الحين والآخر.

لم يفصح عن أي شيء، إلى أين يا أبا جواد ؟ إلى أية أرض ستقودك خطاك المتعبة، إلى أي مقام، وأية وهاد ستعبر؟ اختفى كما يختفي الحلم عند أول استفاقة.

في ظهيرة أخرى من تموز جلس حسن إلى جوار رجل يرتدي نظّارات داكنة، وقميص بأكمام طويلة، وجسد الرجل يتصبب عرقاً من شدة الزحام في باص المصلحة الأحمر ذي الطابقين، في يد الرجل اليمنى جريدة مطوية كان يحركها  بسرعة يميناً وشمالاً من أجل نسمة هواء تخفف من لهب الصيف الذي يلفح الوجوه.

ـ مرحباً كاظم! قالها حسن هذه المرة بثقة عالية، وهو يضع يده على كتفه.

لكن الرجل انتفض كمن لدغته ذاكرته:

ـ أخي أنا لست (كاظم) أنت متوهم! هذا غير بلاء! ابتعد عني، ماذا تريد مني تلاحقني؟ أرجوك كفّ عن السؤال، أنا لا أعرفك.

سكت حسن مبهوتاً، وهو يرى الرجل ينزل مسرعاً، عند أول موقف لباص المصلحة، كأن شيئاً يطارده، يريد الإمساك برقبته.

في ربيع عام 2003، كانت الديكتاتورية قد سقطت كتمثال على رؤوس العابرين، التقيا حسن وكاظم في مبنى الجريدة، كان لقاءً جنونياً، تعانقا بشدة، غرقا بالبكاء والضحك.

قال كاظم  وهو يمسح دموعه بكمّه:

ـ كنت أخشى حتى من اسمي يا حسن، صار ظلي يلاحقني، كنت في كردستان، يقتضي الواجب الحزبي النزول إلى بغداد  بين الحين والآخر في احتياطات عالية السريّة . أضحك في سري، وأنت تلحّ عليّ في السؤال (لا تفك ياخة مني)، ليس أمامي خيار، إلا أن أنكرك، وأنكر حتى مذهبك، أي خطأ أرتكبه يقودني إلى مقصلة الإعدام كما حصل مع رفاق لي آخرين. هربت إلى الجبال، والتحقت بالمقاتلين، كان الجبل بالنسبة لي وعد بالخلاص. واجهت الموت أكثر من مرة، وها أنا بلحمي ودمي، أمامك بلا خوف.

ضحكا معاً، واستعادا ذكريات جميلة، وأخرى حزينة عن شركاء لهما غابوا، صمت كاظم قليلاً، ثم عاد يتحدث بألم وهو يحمل حنيناً غامضاً إلى صوت المطبعة القديمة، وصوت محرك سيارته التي صادرها أمن النظام:

ـ ظننت أنني سأعود بطلاً.. لكن الوطن نسي البطولة. ثم ردّ حسن مبتسماً:

ـ وظلك بقي في قلبي، يمشي معي كل يوم.

ـ في أحد الليالي، قال لي رفيقي المقاتل وهو يحتضر: كاظم... في يوم ما ستعود، لا تبحث عنّا، نحن دفنّا أحلامنا تحت الثلج، احفظ أسماءنا فقط! كنت أبكي يا حسن! ها أنا أبدأ مرحلة جديدة في حياتي، اسميها " مرحلة البحث عن الخبز" لم أجد عملاً يليق بي، أو يسد رمقي، لا أحد يسأل عني، لا مطبعة تنتظرني. ولا …!

ـ ما الحل يا صديقي؟ سأله حسن ولسانه يتعثر بالكلمات.

ـ عدت إلى وطن غريب لا شيء أملك فيه، حتى الأحلام تلاشت، والأحزاب تقاسمت السلطة، تقاسمت الغنيمة، ليس أمامي سوى زاوية صغيرة في ساحة الميدان، اتفقت مع مالكها أمس، أحولها إلى دكة لبيع الشاي  للفقراء، لقاء أجور بسيطة.

يرتدي كاظم  قرب سوق الهرج معطفاً شتوياً قديماً رغم الحر، يجلس على صندوق خشبي ويحدًق في المارة طويلاً، كأنه يرى فيهم نسخاً متكررة من نفسه.

زبون يطلب شاياً:

استكان شاي ثقيل، لا تنس النعناع!

كاظم: النعناع لا يخفي مرارة الحقيقة.. لكننا نحاول.

الزبون متضايقاً: شنو عمي ؟!

ـ لا شيء اشرب شايك بالهنا.

في يوم ماطر، يجلس كاظم وحده، لا زبائن، لا صوت إلا المطر. هو بصوت مسموع:

حسن.. لو جئت لي غداً، وقلت لي مرحباً كاظم، سأردّ، أعدك... سأردّ، لكن لا تتأخر، فأنا بدأت أنسى شكل الحلم!

بعد أيام، غاب كاظم، بقي صندوق العدّة وحده، وبقايا شاي متجمد في قعر الاستكانات.

***

د. جمال العتّابي

عند ملتقى الطرق، كان تقاطع (باتا) يعجّ بالحركة، أربعة شوارع تتقاطع، كأنها شرايين تضخّ الحياة في قلب المدينة. ليتني الآن أرى شارع المشتل الذي افتتحه الزعيم، من ذاك الملتقى يبدأ الشارع، الآخر الذاهب إلى الشمال الغربي نحو الحرية الثانية، والقادم من مطحنة الچلبي مدخل المدينة الرئيس. ماراً بدور العمال والموظفين، وصغار العسكر.

في التقاطع مفاتن كثيرة، فضاؤه الرحب أحاله إلى موقف باص (الأمانة رقم 25)، وسيارات النقل، ذاكرة أحذية (باتا) جزء من سيرة المدينة أيضاً، في خمسينيات بغداد، كانت خطوات الفتيان متشابهة بأحذية باتا الرياضية البيضاء، كانت رخيصة ب (الفلسان)، لا أحد يتفاخر بحذاء مستورد، ولايلهث وراء ماركة أجنبية، أصحاب الرواتب فقط يلبسون أحذية بصناعة محلية (دجلة، زبلوق، حرّاق، كاهچي)

أصبحت الساحة مقصداً لكل أبناء المدينة، هناك أقام المصوّر صلاح الجاف مملكته (ستوديو الشعب) في بداية ستينيات القرن الماضي، لم يكن مجرد مكان، بل محراب ضوء ومرآة حلم، تزيّن واجهته الزجاجية اللامعة صور الصبايا والشباب، بالأسود والأبيض، تضفي قدراً وافراً من الألوان والضياء والمهابة على الساحة المفتوحة على القلوب التي تخفق بالحب. على بعد خطوات من المكان يطلّ بيت الصديقين فاطمة المحسن وشقيقها فرات، بيت يختزن وداعة اللقاءات، يتسع للحوار والضحكات والذكريات.

الوجوه لها حكايا، عيون مشعّة بالضوء، صور للعرسان، لطلاب بزي التخرج الجامعي، صورة للاعبي الكرة والمغنين، والممثلين، صور لطلاب الكلية العسكرية، صورة العائلة: الأب في الوسط، الأم على اليمين، الأطفال مصطفّون كزهور الحديقة. صورة الصبي ببدلة ضيقة وربطة عنق حمراء رفيعة، يضع يده في جيبه كأنه نجم سينما.

كل صورة لها حكاية، تراقب المارّة بعيون صامتة، تستدرج فيهم رغبةً أو حنيناً، منهم من يتوقف، ومنهم من يلتقط منها الومضات السريعة، تاركين الوجوه في أسرارها الأنيقة خلف الزجاج تروي لمن يعرف كيف يصغي: أن الحرية كانت مدينة تصنع الحب والمبدعين، والبطولات، قبل أن تصاب بالخرس.

صلاح شاب وسيم، (يحمّض، ويرتّش، ويطبع ويعرض)  وجهه من ضوء، لا ترتجف يده حين يوجّه الضوء نحو الوجوه، ويعدّل من تسريحات شعر الفتيات، كان يحرّك عدسته باتجاهات عدّة كما لو كان يعزف مقطوعة من الخجل والدهشة. ليلتقط صورة تحمل كلّ ألوان الجمال في الحياة.

كان كاكا صلاح يجمع بين وسامة ممثلي السينما وهدوء المصورين المحترفين، يقف خلف الكاميرا أشبه بمن يقود اوركسترا من الضوء والظل، شعره أسود كثيف، يرتدي قمصاناً بيضاء مكويّة بعناية، أكمامها مطويّة حتى منتصف الساعد، وبنطالاً أسودَ، تنبعث منه رائحة الكولونيا (الريف دور) المستوردة.

لدي اعتقاد أن كل شباب الحرية مرّوا من هناك، كانت وجوههم نضرة كالماء، وضحكاتهم حرّة، وثيابهم نظيفة بلا تكلّف. يقيمون احتفالهم تحت الأنوار الكاشفة،

وهم يرددون: “من لم يصوّره صلاح لم يُولد بعد في الحرية”. كان الاستوديو نظيفًا كقلب صلاح، عابقًا برائحة الماء الممزوج بكيماويات غسل الأفلام. يا له من جمال! تسريحات البنات متشابهة، كن يدخلن بخطوات خجولة، فيتناثر حول وجوههن الضوء،

شَعْر طويل مصفوف بعناية، مدهون، مشدود إلى الخلف بشريط ساتان ابيضّ أو وردي، يتشبهن بتسريحة الممثلة نادية لطفي في فلم الخطايا.

ضفائر مربوطة بشرائط ملونة، بأناقة وأنوثة، وتموّجات ناعمة تنحدر على الكتفين كأسرار،

وغُرّة كأنها موجة على جبين تنسدل على جانب منه خصلة سوداء أنيقة.

والشباب؟

يا لسحر (البُكله) التي ترتفع فوق الجبين، شعر الرأس مدهون بالكريم (الياردلي)، لمعانه كان علامة فارقة، وقمصانهم مكويّة بعناية، وبنطلونات تشي بأنّ الأم سهرت الليل تكويها على لَهب خافت.

كان الشباب متأثرين بممثلين مصريين (كمال الشناوي، عبد الحليم حافظ، رشدي أباظة)، يتشبهون بتسريحات شعر الممثل الأمريكي (جيمس دين)، شعر متوسط الطول، مرفوع قليلاً من الأمام، وبخصلات (مارلون براندو) المسحوبة إلى الخلف، تأثروا أو جربوا تسريحة شعر (إلفيس بريسلي)، رفع الشعر إلى الأعلى.

كانت الحياة نفسها تمرّ من أمام الاستوديو، تسلّم عليه، وتبتسم. في تلك اللحظة، كان كل واحد يضع قلبه في الصورة، الابتسامة صافية بلا رياء، والنظرات واثقة من الغد، في كل الوجوه هناك شيء واحد لا تخطئه العين: ذلك الصفاء الذي لا يعرف المساحيق الزائدة، أو صالونات التجميل الباذخة.

البيوت قريبة، والقلوب أقرب.

الطرق نظيفة، بلا ضجيج. كانت المدينة تعرف كيف تُحسن الإصغاء، كيف تحيي الأصوات في ذاكرة الحيطان.

ثم، مرّت السنوات مثل إعصار صامت. شاخ صلاح، ثم هاجر،الكاميرا صمتت. الصور بهتت.

الضوء الذي كان يحيط وجوه العاشقين بدأ يتلاشى.

الخراب بدأ يتسلل.

ليس فقط إلى الجدران، بل إلى الأرواح.

المدينة التي كانت تنام على صوت ضحكات الشباب،

صارت تصحو على صدى الرصاص والخوف.

أحياء بغداد تمزقت، كأن يدًا غريبة أعادت ترتيبها بالمقلوب.

الحرية… ما عادت كما كانت.

كل شارع فقد اسمه، وكل زاوية فقدت دفأها.

ستوديو الشعب، ذلك المكان الذي كان يوثق الجمال،تحوّل إلى نقطة نسيان في خريطة موجوعة.

كأن كل الصور التي كانت فيه، حزمت حقائبها، ومضت.

***

جمال العتّابي

…………..

أود أن أقدم جزيل شكري وامتناني للصديق العزيز مهدي الطعمة الذي أفادني بمعلومات تفصيلية عن ستوديو الشعب، مع عدد من الصور، اتمنى له موفور الصحة ليواصل مشروعه النبيل في توثيق تاريخ (العمارة الإنسانيّة) الحرية.

 

في المثقف اليوم