أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

يغفو الحنين على شاطئ الأمل.. ويهدأ الحلم بين رموش العاشقين.. اسهر وحيدة.. استرجع ذكريات القرية، و التنور.. وعبق ألليلك الفواح من تلك القرية الدافئة يوقظ براعم النرجس الغافية في نبض قلبي.. وتبرق عيناي دمعاً، ولوعةً.. تداعب زخات المطر الناعمة شفاه الأرض.. فتزدهر أحلام القرنفل وتفوح رائحة التراب عطرا سحري فواحا..لا عطر يشبه عطر التراب الممزوج بحبات المطر كما عطر بلادي.. حفيف أشجار التفاح من تلك البساتين يهامس ذاكرتي.. فيزيد صباحي عذوبة و أملا.. وترتشف أمسياتي منه دفئاً لطيفاً..

كم يغويني شذى الياسمين ويؤرقني حنينا إلى جلسات الصباح في ظل محبة أمي نشرب القهوة في حديقتها السعيدة معا على أنغام زقزقة جوقة عصافير الحرية، والحان فيروز الملائكية.. وتتساقط بتلات الياسمين فوق رؤوسنا كرذاذ الثلج اللؤلؤي.. وكأن تلك البتلات هدايا ربانيه من عظمة الخالق.. تذكرنا في محبته وكرمه وعطائه الامحدود.. وكأنها أيضا رسائل سماوية تحثنا على التغيير والأمل.. تمد غربتي شوقا..و دفئا.. وإصراراً على الاستمرار في الصعود حيث شمس وطني..

كم أتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء كي أعود طفلة أهرول، وأدور فرحة في بساتين التفاح.. أقضم ساندويتش الزعتر (السعتر) اللذيذ وأختبئ في كوخ جدتي أشرب الشاي, واستمع إلى قرقعة الشتاء على ظهر توتة كوخ الزيتون كأنها أجمل سيمفونية تعزفها الطبيعة الخلابة.. ما ادفأ كوخك يا جدتي!! وكم أشعر بالامان الحقيقي فيه.. فمهما ارتفعت ناطحات السحاب لا تضاهي ارتفاع المحبة، والصدق في سحر كوخك وقلبك العظيم.. هو كوخ المحبة يختصر حنان الكون في جدرانه الطينية، وتاريخ الحب في بساطته السحرية.. ويحصر معاني الحكمة  في خيوط القنب المزركشة بفراشات الأمل التي تزين بساط الشتاء المتواضع الذي حاكته يداك الصامدتان بصبر، وأناة.. أقبل أناملك جدتي التي أضافت للمحبة معنى آخر.. ولوناً سحرياً مميزاً..

تأخذني ذكريات المودة الحميمة وهي تلوح لي من بعيد.. من غابر الزمان.. وسهرات كبس حبات الزيتون حول مدافئ تشرين في موسم القطاف.. لها متعة خاصة.. وما أجمل ذلك التكور الودي حول صينية الطعام القشية المزخرفة، أنا وإخوتي، ونحن نتناول كِسفَه.. كما تتكور كتاكيت الدجاجة حول أمها.. و نعيش لحظات الألم والفرح معا.. متلاحمون.. كما أسراب الإوز..

حتى أن تسلل الشمس إلى غرفتي، كان له رونقاً آخر.. وترنيمة خاصة.. لم أرَ لحناً أعذب من نشيد وطني.. ولا بسمة تشبه الفرح المشرق من شمس وطني.

يتأجج الشوق بين شرايين كلما احمرّت عناقيد الكرز على شفاه الربيع.. ولم تستطع ثلوج الغربة المتجمدة أن تطفئه.. و تختلج دقات قلبي عشقاً, وحباً, وشوقاً لوطني، كلما عانق زهر المشمش روح نيسان بلهفة المتيم الولهان.. ويسمو عطر الحنين شفافا في سماء الخلود كلما قبّل الندى شقائق النعمان.. تُحيي روح أدونيس ربيع بلادي.. الذي لايضاهيه ربيع في جماله.. وفي شهر نيسان تتبختر قرية "الأمل" مزهوة بثوبها البنفسجي وبأكمام الزنبق..

ما أردت الرحيل يوما، لكنه قدري.. وفي الوداع اختنقت أنفاسي، وتلاشت أحاسيسي, كنت أتمنى أن امتزج مع التراب.. لكنها رسالتي المحتومة.. صار صمت غربتي  ينزف: تشرداً، حنيناً، ، ووحدة . أريد العودة إلى وطني.. فأين أنا من وطني؟؟.

من يسألني عن مدى علاقتي بوطني كأنه يسألني عن مدى علاقتي بروحي.. فالروح لا تفهم بالمسافات، والأرقام، بل تحلق عاليا في سماء الحرية تنشر المحبة في كل مكان.. إحساسها بالغربة مؤلم.. حارق.. خانق.. وتتقطع إربا.. مشردة.. لقد بعثرتها الرياح العاتية.. كإحساس عاشق متيم بعيد عن حبيبته التوأم.. يتلظى بنار الشوق الملتهب.. ولا تُخمد ناره إلا بأنفاس روحه التوأم.. إحساس كما عطش الأرض المحتلة لماء الحرية يرويها..نصر ومجد

هناك روحي منذ الأزل.. وتحلق عاليا للأبد.. أتنفس هواء وطني وعطره من عبق الياسمين. الحب وطني.. وأنا وطني.. والحب والوطن وحدة في قلبي لا تتجزأ.. والمحبة وطن الجميع.. فيا ليتني أغفو بين أكمام الزنبق في بلادي.

***

خاطرة: سلوى فرح - كندا

بعد رحلة طويلة، أو جولة على ضفاف بحيرة، أو مقتل امرأة على شاطئ مهجور، يصرخ الكاتب: أريد أن أكتب!

على الفور يضطرب عقله ويرتعش جسده وتأخذ الحقائق التافهة مكانًا مهمًّا في ذاكرته، وتبدأ تجارب الماضي ومخاوف المستقبل في إلقاء كلّ ثقلها على حياته اليومية.

فيا أيها المبدعون!

ادخلوا إلى جنتكم واحتضنوا السعادة!

لكن لو كان الأب بجماليون بيننا، لكان قد طرح نفس السؤال على هذا الجمع الجميل: لماذا كتبتم ما كتبتم؟

أما أنا، فقد عدتُ إلى الوادي عدّة مرات لدفع كرتي الورقية نحو قمّة لم أتمكّن من الإقامة فيها. لم أتوهّم يومًا أنني سيزيف؛ فهو قد وصل إلى هناك منذ فترة طويلة، وهو الآن يستريح وقد أتمّ عمله الفني، ويراقب النمل الذي يتسلق الأوليمب.

مرّة أخرى كرّرت المحاولة؛ ولكن هذه المرة من أجل السيد ن.

سيكون من السهل القول، وفقًا للصيغة المعروفة، أن أي تشابه بين السيد ن. وأشخاص حقيقيين أو عاشوا من قبل، ليس سوى ثمرة خيال المؤلف. لكن السيد ن. قد وجد بالفعل، وتنبؤنا لا يمتّ إلى الهلوسة بصلة. إنّه مصير الآلاف من الناس الذين، كل يوم، يكونون ضحايا الغباء القاتل. كلّ يوم تتكسّر آلاف الأرواح وتنحني الأجساد، وتُقيّد المصائر بالخوف البغيض، وتستسلم لرهبة أن تكون الضحية التالية.

أخاف من الفراغ الذي يخفي الرعب.

أخاف من الحشود المشبوهة.

أخاف من صرير قضبان المترو.

أخاف من الحنين إلى الوطن.

أخاف من هسيس الأوراق في الغابة.

أخاف من كتابة هذا الكتاب.

أخاف من عدم قدرتي على الكتابة مرّة أخرى. أخاف.

وهذه ليست أفضل الأسباب للعيش.

الخوف هو أثقل الأعباء على البشر. فهو يرمي بهم في شكّ غير محدّد وتوجّس غير واضح. إنّه ملاذ البراءة أمام قوى الشرّ وملجأ المُعدمين أمام قسوة جلاديهم. إنّه الجرثومة التي تأكل الذاكرة وتعيق التذكّر.

"نحن نعيش في الخوف ولذلك فنحن لا نعيش" كما قال بوذا.

إذا صادفتُ بجماليون سأقول له: إنّ الإنسان بدون ذاكرة عارٌ على جميع البشر.

ماذا سيبقى من ذاكرة السيد ن. بعد عشرين عامًا من ليلة كلّ الرعب؟

هل يحقّ للإنسان أن ينسى؟

وإذا نسي الضربات التي آلمته، وإذا نسي الشرّ الذي شلّ حَرَكته، وإذا نسي حقده ومرارته، وإذا نسي كل شيء، هل يحقّ له أن ينسى أن جسده قد وُجد وأن صرخاتِ الفرح والغضب قد خرجت من أمعائه، وأن قوى الحبّ والكراهية قد انبثقت من لحمه، وأن أحلامه الناصعة وكوابيسه البشعة قد تفتّقت من أعصابه؟

يا بيغماليون!

يا أب كلّ الأحلام!

ماذا ستطلب من أفورديت في عام 2022؟

ستُقتل غالاتي، وسيُداس جسدها بألف ليلة.

- لكن طينها سيكون قد تسرّب إلى اللحم، وسيتغلغل في العظام. يكفي أن تستنشق راحة اليد: سيظل عطرها عابقا، وشذاها يضوع إلى الأبد.

 في نسخة أخرى من أسطورة بجماليون، يقع الملك الأسطوري في حبّ جسده، فيعتني به لدرجة أنه صار يسيطر عليه، بل صار يستطيع أن يفرض عليه الأحلام، ويعذّبه بالأوجاع، ويرفعه عن الأرض، ويبقيه مستيقظاً لعدة أيام أو يجعله يغرق في نوم عميق لليال طويلة. في قصره نصب مائة مرآة عملاقة، كل واحدة منها قادرة على عكس فكرة أو حركة مختلفة. في ذات اللحظة يمكنه أن يرفع يده اليسرى وأن ينزلها، أن ينظر إلى الأمام وأن يرى ما خلفه، وأن يفكّر في زوجته ويتذكر عشيقته.

توسّل بجماليون إلى آلهة الأوليمب لكي تخلق له شبيهاً كي يتمكّن من لَمْسه وشمّ رائحته وإخضاعه لأوامره، فاستجابت أفروديت، الإلهة الجميلة والأنيقة، لطلبه، وخلقت من إحدى صوره جسداً حياً شبيهاً كاملاً له.

عاش بجماليون والشبيه سنوات عديدة في سعادة، مثل جميع الملوك! خاضا حروباً على حصانين واستخدما سيفين وغرّرا بملوك الأرض.

ذات يوم، عاد أحدهما سكراناً إلى قصره فاكتشف شبيهه الآخر في الفراش مع زوجته، فتملّكه الغضب، وطعن بيجماليون في ظهره.

لن يعرف أحد من قُتل منهما، حتى أفروديت نفسها لم تكن لتستطيع تمييزهما.

منذ ذلك الحين، يهيم بجماليون حول الأرض بحثاً عن دليل يخبره ما إذا كان هو الأصل أم النسخة، ويتأمل في عمله الذي دمّره. وعندما يكون بالقرب من الأوليمب، يطرح دائماً نفس السؤال على جميع هؤلاء المبدعين الذين يحملون أعمالهم تحت آباطهم: لماذا خلقتم هذا؟ لماذا اخترعتم ذاك؟

عندما تهاجم خفافيش الظلام فريستها، تنقضّ على رأسها، وتخترق جمجمتها، لتستخرج المناطق التي تحتوي على الذاكرة والخيال، وتزرع بدلاً منها شريحة مبرمجة للنسيان والخوف؛ ثم تسكب لعابها على وجه الضحية وتحلّق في الهواء وهي تقهقه شامتة.

يا بجماليون !

لقد كتبتُ هذا النصّ لتفكيك تلك الشريحة، لكي يستعيد الجسد المتألّم أحاسيسه، لكي تظلّ الذاكرة خالدةً، لكي تنبثق الموسيقى من اللقاح، لكي لا ينام السيد ن. بسلام، لكي تموت "الخفافيش" من الغيرة!

يا أيتها الخفافيش!

عملاقة أو قزمة!

لم أعد أحتمل ارتداء قناع السيد ن.

أكرهكم كما سيكرهكم.

أحتقركم كما سيحتقركم.

كم أشعر بالعار منكم.

أنتم، في ثيابكم السوداء، وفي أزيائكم الحمراء، أو في تونياتكم البيضاء!

لن تكسروا أبداً حلمي.

لقد صنعته من عذاباتي ووحدتي، وشكّلته من قلقِي وهشاشتي، لكي أرتقي إلى المكانة التي تستحقها الإنسانية.

كان لدي ألف سبب لأكره، ولكنني أحببت.

كان لدي ألف عذر لأستقيل، ولكنني تفتّحت.

لكنني سأكره إلى الأبد شراستكم ضد الأبرياء. سألعن حقدكم وظلامكم وأعلن حبي لنفسي التي لم تحبّوها أبداً.

الحب سيكون سلاحي الوحيد لأقول لكم:

أُكرهكم!

الحب وعي سيتجاوز كلّ الأزمنة، دون أن يسقط تحت نيران رماحكم.

***

محمد نجيب بوجناح - تونس

........................

* من خاتمة رواية "الخوف"، بالفرنسية، للمؤلّف. ترجمة المؤلّف.

(تضم القائمة هان كانج وإيزابيلا حماد وأليس نوتلي وآخرين)

بقلم: ديانا أرتيريان

ترجمة: د.محمد عبد الحليم غنيم

***

تقول نيلا، بطلة رواية الفتاة الطيبة الصاخبة للكاتبة أريا أبر: "هؤلاء الناس. وجودي كله، مختصر بدقة في صفة واحدة تُظهر كل شيء. وُلدت نيلا في برلين، "داخل قلبها العشوائي، كجرذ صغير بعيون واسعة، في الأشهر التي تلت إعادة التوحيد." كما تُظهر هذه الاقتباسات، فإن نيلا ذكية للغاية ولا شك أنها تتمتع بخفة ظل لا تُقاوَم.

ومع ذلك، فهي ممزقة بالكراهية الذاتية. فوالداها، المنتميان إلى البرجوازية الصغيرة في كابول والمُدربان كطبيبين، فرا من الحرب السوفيتية-الأفغانية على أمل حياة أفضل في أوروبا. لكن بدلاً من ذلك، وُضعا في عالم يُعرَّف إلى حد كبير بالعنصرية، والعنف، والإذلال، والعمل المتواضع—واقع يومي لكنه ليس أقل إذلالاً لكثير من الذين يعيشون في مثل ظروفهما."

تنشأ نيلا وسط قلق خاص بالحياة في ألمانيا بعد أحداث 11 سبتمبر، حيث عرّفها السكان البيض بأنها غريبة مسلمة: "هؤلاء الناس". تتعلم نيلا بسرعة اختلاق أصول عائلية أخرى كدرع واقٍ. تقول عن نفسها وعن أطفال آخرين مثلها: "تعلمنا أن نحتقر أنفسنا بدقة".

تتمثل آمال والدي نيلا لها في أن تكون متعلمة، مطّلعة، "متحررة"—ولكنها في الوقت ذاته مقيدة بأعرافهما الاجتماعية التي تُعرّف إلى حد كبير بقلقهما على نقائها والحفاظ على سمعتهما الطيبة. تقاوم نيلا ذلك بكل قوتها. وفي نهاية المطاف، تكتب آبر: "لقد سمحت للعالم السفلي البراق و المدمر في برلين أن يغرس أنيابه في جسدي".

في سن التاسعة عشرة، تُغرق نيلا لياليها في تعاطي المخدرات داخل نادي برجهاين (المعروف بـ"البانكر")، حيث تقع في دائرة من البوهيميين الفنيين الذين يرفضون التقاليد والرأسمالية عبر موسيقى التكنو، والمخدرات، والفن، والمعرفة. ومع ذلك، تشعر بالاغتراب عن هذه المجموعة، بالنظر إلى حياتها في مبنى يسكنه غالبًا لاجئون ومهاجرون فقراء، تجوب ممراته أشباح النازيين الجدد.

لكن اللقاء الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لنيلا في "البانكر" هو مارلو، اسمه الذي يغمز إلى أسطورة فاوست. كاتب أمريكي شهير، يكبرها بما يقارب عقدين، يخوض مع نيلا محادثات فلسفية عميقة حول الفن والحياة، وسط سحب لا تنتهي من دخان السجائر وجرعات من المنشطات. يستخدم مارلو الجماليات كمبرر لتصرفاته وفي الوقت نفسه كوسيلة لتجنب التأمل الذاتي العميق، يحمل وشومًا كثيرة كإعلان لرفضه "الانصياع" لكنه يخفيها بسهولة في الحفلات الراقية.

يعذب مارلو نيلا في البداية بتأجيل رغبتها المتأججة (قبل أن يشرع في تعذيبها بشكل أكثر وضوحًا)، ويعاملها بتعالٍ بسبب قلة خبرتها، ولكنه في الوقت نفسه يخبرها بأنها مميزة. بهذا المعنى، يُجسّد مارلو كابوس والديها (وكابوس القارئ أيضًا!). في إحدى المرات، عندما كانت نيلا أصغر سنًا، كان والدها، الملتاع لحمايتها، يرغب في إرسالها بعيدًا للدراسة. لكن والدتها عارضت بشدة، وهمست قائلة: "العالم يكسر الفتيات في كل مكان. لقد فات الأوان." ويبدو من المستحيل إنكار حقيقة هذا التصريح.

أشعر أن هذه الأوصاف تقدم السرد بشكل منظم، رغم أن آبر تتقن اللعب على كسر التسلسل الزمني. ننتقل بين حياة نيلا مع مارلو والمخدرات والتصوير والأدب خارج جدران شقة عائلتها الخانقة، وبين ذكريات العائلة، وغرفة طفولتها، والنظرات التي تلاحقها في كل مكان.

بينما يجعل هذا التوتر (ولغة آبر المتألقة) القراءة مشوقة، فإنه في رواية الفتاة الطيبة يؤدي دورًا أكبر. إذ يبرز الطرق التي ينقسم بها عالم نيلا إلى نصفين، ويجسد رعبها الواضح من احتمال تلاشي الحاجز الفاصل بينهما. وهو أمر ملموس للغاية.

في قائمة الكتب التي تنوي قراءتها، تقول أبير،

لقد انتقلت للتو إلى مكان جديد ومعي حقيبة كتب واحدة فقط، لذا فإن منضدة السرير الخاصة بي تعمل أيضًا كمكتبتي لبضعة أسابيع. كتابي الخاص، للأسف، جزء من هذه المجموعة لأنني مضطرة لإعادة قراءته الآن—لقد ترجمته إلى الألمانية وحذفت كل ذكرياتي عن كلماتي الخاصة من ذهني؛ والآن أعيد دخوله استعدادًا للنشر.

لكن في الغالب، كنت أقرأ الكثير من كتب التاريخ والكتب غير الروائية كجزء من بحثي لمشروعي القادم، لذا تقريبًا كل شيء آخر، باستثناء بعض العناوين القليلة، يتعلق بذلك الغرض. وبالطبع، يجب أن أقول إن المجلد الثاني من كتاب ماركس دائمًا ما يتجاوز فهمي بتلك المعادلات... لكنني أحتاج إلى بعض منه للبحث، وربما يكون أفضل كتاب قبل النوم من حيث قدرته على مساعدتي على النوم.

هان كانج، نحن لا نفترق (ترجمة إي ياوون وبيج أنياه موريس)

فازت هان كانج مؤخرًا بجائزة نوبل في الأدب، كما رفضت عقد مؤتمر صحفي احتفالي بسبب "الحروب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا، وإسرائيل وفلسطين، حيث يتم الإبلاغ عن الوفيات يوميًا." وقالت إيلين ماتسون من الأكاديمية السويدية عن رواية نحن لا نفترق:

"يخلق الثلج مساحة يمكن أن يلتقي فيها الأحياء مع الأموات، وأولئك العائمين بينهما الذين لم يقرروا بعد إلى أي فئة ينتمون. تدور أحداث الرواية بأكملها داخل عاصفة ثلجية، حيث تنساب الذات السردية عبر طبقات الزمن أثناء تجميع ذكرياتها، متفاعلة مع ظلال الموتى ومتعلّمة من معرفتهم—لأنه في النهاية يتعلق الأمر دائمًا بالمعرفة والسعي وراء الحقيقة، مهما كانت لا تُطاق... النسيان ليس أبدًا الهدف."

إيزابيلا حماد، التعرف على الغريب: عن فلسطين والسرد

أشعر بالارتياح لفرصة اقتباس حماد من مقابلتها مع ديفيد نايمون في برنامج بين الأغلفة، حيث أن الحلقة صدرت بعد مساهمتها في هذه الزاوية. في حديثها عن التعرف على الغريب، قالت حماد عن الإبادة الجماعية في فلسطين وأماكن أخرى:

أعتقد أنه من المفيد التحدث عن الإنكار كظاهرة، ليس فقط فيما يتعلق بفلسطين، بل أيضًا فيما يخص هياكل الإمبراطوريات والتواريخ المتعلقة بالإبادة الجماعية التي لم يتم الاعتراف بها. على سبيل المثال، ارتكبت ألمانيا أكثر من إبادة جماعية واحدة. وماذا عن ناميبيا؟ هذه الحقائق لم تُعترف بها في محكمة العدل الدولية، ولم يُقدّم تعويض أو محاسبة.

هناك إنكار مستمر لهذه التواريخ، وهذه الحقائق بدأت تظهر أخيرًا إلى السطح. نحن نرى فقط طرف الجبل الجليدي، بينما هناك كتلة ضخمة تحت السطح. لا عجب أن الناس في حالة إنكار، لأن مواجهة هذه الحقيقة تعني مواجهة العديد من الأمور التي تشكل حياتهم ومجتمعاتهم. وهذا أمر مخيف حقًا.

أليس نوتلي، هبوط أليت

باستخدام كتاب "البطل ذو الألف وجه" لجوزيف كامبل بالإضافة إلى قصص إينانا وغيرها كخارطة، كتبت نوتلي هذه القصيدة الملحمية المدهشة والغريبة ذات الطابع الصوفي والأسطوري. أليت، امرأة تعيش في عالم بائس، يُقدَّر لها أن تركب المترو بلا نهاية، الذي يديره "الطاغية". في يوم من الأيام، يُكلفها غريب باستخدام قوتها لقتل شرير العالم الذي تعيش فيه.

كتبت نوتلي القصيدة في أعقاب وفاة شقيقها. فقد توفي بسبب جرعة زائدة من المخدرات بعد عقد من خدمته في الحرب الأمريكية الفيتنامية، حيث أُجبر على ارتكاب أعمال عنف مروعة وخرج منها مصابًا بصدمة نفسية عميقة. وفي محاضرتها عن أليت بعنوان "الملحمة "الأنثوية"، تقول نوتلي:

فجأة، وجدت نفسي، وأكثر مني، وزوجة أخي وأمي، عُرضة للاستغلال والتشويه من قِبَل قوى تنتج الملاحم، ولم يكن لنا أي رأي في الأمر، ولم يكن لنا قط، والأسوأ من ذلك أننا لم يكن لنا أي قصة. لم نتحرك. لم نخض حرباً. ومن المؤكد أننا لم نكن "في البلاط" (بالمعنى الملكي)، ولم نكن مشاركين في هياكل السلطة الحكومية، ولم تكن لدينا أصوات تشارك في المناقشات السياسية العامة. لقد عانينا، ولكن دون مسار.

كارل ماركس، رأس المال: الجزء الثاني

لا أعرف ما إذا كنت سأقدم رؤية جديدة أو معلومات إضافية حول ماركس أو هذه النصوص، لكنني سعيد بأن أقتبس من الخيالات الموضوعية لسلافوي جيجيك عن الجزء الثاني من هذا العمل الحيوي: "رأس المال، الجزء الأول يعبر عن المصفوفة المجردة والعالمية (المفهوم) لرأس المال؛ أما رأس المال، الجزء الثاني فينتقل إلى الخصوصية، إلى الحياة الفعلية لرأس المال بكل تعقيداتها الطارئة."

ويتابع جيجيك:

هناك سمتان حاسمتان هنا، وهما وجهان لعملة واحدة. فمن ناحية، ينتقل ماركس من البنية النظرية الصرفة لإعادة إنتاج رأس المال (الموصوفة في المجلد الأول) إلى الواقع، حيث تنطوي إعادة إنتاج رأس المال على فجوات زمنية، وأوقات ميتة، وما إلى ذلك. وهناك أوقات ميتة تقاطع إعادة الإنتاج السلس، والسبب النهائي لهذه الأوقات الميتة هو أننا لا نتعامل مع دورة إنتاجية واحدة، بل مع تشابك دوائر متعددة من إعادة الإنتاج التي لا يتم تنسيقها بشكل كامل أبدًا.

في مراجعتها لرواية إلياس خوري باب الشمس في صحيفة نيويورك تايمز عام 2006، تبدأ لورين آدامز قائلة: "بالنسبة للأمريكيين... لم يتحرك الاهتمام بالأدب العربي، حتى بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في 1988، بعيدًا عن علي بابا والسندباد." ومن المحبط أنه من الصعب تحديد ما إذا كان هذا قد تغير في ما يقارب العشرين عامًا منذ إعلانها.

تستكمل آدامز:

[في حين] يستكشف راوي خوري الحرمان الفلسطيني والقسوة الإسرائيلية، فإن هذه ليست رواية متوقعة مليئة باليأس والاتهام... لقد كانت هناك روايات قوية عن الفلسطينيين ومن تأليف فلسطينيين، لكن قِلة من الناس هم الذين سلطوا الضوء على الأساطير والحكايات والشائعات التي تروجها إسرائيل والعرب بمثل هذا القدر من التعاطف والتمييز. وفي ترجمة همفري ديفيز الشعرية البسيطة، تُعَد رواية بوابة الشمس رواية غنية وواقعية بشكل مهيب، وهي تحفة فنية حقيقية.

غسان كنفاني، لويس بريوني (محرر)، تحرير حمدي (محرر)، كتابات سياسية مختارة

"بالنسبة لكنفاني، كانت المقاومة جوهر كل ما كتبه، فضلاً عن الحياة التي عاشها كمفكر ثوري ناضل من أجل تحرير فلسطين بقلمه"، كما كتبت بيناي بليند في مراجعتها لصحيفة ذا بالستاين كرونيكل.

إن الكتاب مرتب وفقاً لموضوعات بارزة في عمل الكاتب – كنفاني ووسائل الإعلام، وبناء الجبهة الماركسية اللينينية، والقومية العربية والاشتراكية، على سبيل المثال لا الحصر... إن هذه المجموعة من كتابات كنفاني توفر مادة لا تقدر بثمن للتعليم السياسي. ومع تزايد القمع ضد الفلسطينيين في الشتات وأنصارهم، من المهم معرفة هذا التاريخ. حينها فقط يمكن بناء دفاع قوي ضد أولئك الذين يعتزمون إسكات التنظيم في جميع أنحاء فلسطين إلى الأبد.

إلين براينت فوجت، فن التركيب: إيقاع الفكر، إيقاع الأغنية

يعد كتاب فوجت فن التركيب جزءًا من سلسلة فن الفن التي تنشرها دار جراي وولف، حيث يتأمل المؤلفون في الممارسات الفنية، وتشمل السلسلة أيضًا كتاب فن الموت: كتابة القصة الأخيرة لإدويدج دانتيكات وفن المراجعة لبطرس هو دافيز. يكتب مايكل موريس عن عمل فوجت في بلوشيرز،

من خلال تسليط الضوء على الأنماط النحوية الشائعة وترتيبها الموسيقي، واستكشاف كيفية تفاعل الخطوط الشعرية مع الجمل، وتوضيح كيف يمكن للعبارات أن توازن أو تقوض المقياس، وتسترخي أو تدفع الوتيرة، وتسجل السرد المتكشف، يكشف فويجت عن تضاريس مفصلة للموسيقى والمعنى المترابطين... تسمح مخاوف فويجت الأكبر مع التطور الشعري من الينابيع البنيوية بمجموعة متنوعة من الجماليات حيث يسبح الشعراء مع، وضد، وداخل التيارات النحوية للغة الإنجليزية.

جون بيرجر، "احتفظ بكل شيء عزيزًا: تقارير عن البقاء والمقاومة"

من خلال كتابه طرق الرؤية، بدا أن بيرجر قد غيّر الحوار الجمالي من خلال تحدي التقاليد الغربية في الجماليات (ونشكره على تقديمه مفهوم "النظرة الذكورية"، حتى وإن كان قد تم تنفيذه لآلاف السنين). تقول نصوص الغلاف لكتاب بيرجر احتفظ بكل شيء عزيزًا:

" احتفظ بكل شيء عزيزًا" هو تأمل قوي في المقاومة السياسية والبحث العالمي عن العدالة. من "الحرب على الإرهاب" إلى المقاومة في رام الله والتشرد المأساوي في الشرق الأوسط، يستعرض بيرجر دور الفن كأداة للمقاومة السياسية.

بأسلوب حيوي وعاطفي، يُعد احتفظ بكل شيء عزيزًا تأملًا عميقًا في أقصى حدود السلوك البشري واليأس الكامن وراءه. من خلال استعراض الوضع في أفغانستان وفلسطين والعراق، يوجه بيرجر هجومًا قويًا على الفقر وفقدان الحرية في جوهر هذه المعاناة غير الضرورية. تقدم هذه المقالات تأملات حول السياسة في صميم التعبير الفني وفي مركز الوجود البشري ذاته.

إليزابيث جولد، بول فيتزجيرالد، التاريخ الخفي: القصة غير المروية لأفغانستان

كتبت Publishers Weekly في مراجعتها المميزة لعام 2008 لكتاب التاريخ الخفي:

"يقدم الصحفيان فيتزجيرالد وجولد عملاً شاقاً في إزالة الضباب وكشف الفشل الأمريكي في أفغانستان في هذا الكتاب العميق البحث، المقنع الحجة، والمهم للغاية. يظهر المؤلفان كيف أن أفعال الولايات المتحدة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأخطاء السابقة — وكيف أن السياسة الأمريكية وضعت الأفغان والأمريكيين في خطر شديد.

كانت أفغانستان، التي تقع عند مفترق طرق ثقافي، مؤهلة لتكون "حاجزًا هشًا" بين الإمبراطوريات المتنافسة. إن إنشاء بريطانيا عام 1947 للحدود التعسفية وغير القابلة للدفاع بين أفغانستان وباكستان الجديدة "من وجهة نظر أفغانية... كان دائمًا المشكلة ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بشكل خاص، لم يول صناع السياسات الأميركيون اهتمامًا كبيرًا لمخاوف الأفغان، مفضلين حشر أفغانستان المتخيلة في نماذج القوة الأميركية.

إريك بينيت، ورش الإمبراطورية: ستيجنر، إنغلي، وكتابة الإبداع الأمريكية خلال الحرب الباردة

"في كتابه ورش العمل، يظهر بينيت كيف أن الهيمنة الجمالية لورشة الكتابة في أيوا، التي كان يديرها بول إنغلي، وبرنامج الكتابة الإبداعية في جامعة ستانفورد، الذي كان يديره والاس ستيجنر، كانا منتجين محددين لمكانهما وزمانهما: الولايات المتحدة في الخمسينيات من القرن العشرين"، كما كتبت ريبيكا ويفر في كتابها "تاكسي المطر".

لم تكن هذه البرامج مُمولة ومدعومة فقط من قبل سياسات ووكالات حكومية مختلفة (مثل قانون الجنود القدامى "GI Bill"، ووكالة المخابرات المركزية "CIA"، ومنظمة اليونسكو "UNESCO")، بل أيضاً من قبل مؤسسات خاصة (وأبرزها مؤسسة روكفلر). … في حين أن الكثيرين وصفوا هيمنة أيوا وتألقها بكلمات مثل "طبيعية" و"جودة"، يجادل بينيت بأن نوع الكتابة الذي تم تقديره في أيوا (وفي البرامج التي أنشأها خريجوها) نشأ من أهداف ورغبات محددة، بالإضافة إلى "طموحات ومخاوف غريبة" مرتبطة بالحرب الباردة.

وعندما توافقت تلك الأهداف مع أهداف حكومية أو خيرية، حظيت بتمويل جيد للغاية.

***

.......................

* وُلدت آريا أبر ونشأت في ألمانيا، وتعيش حاليًا في الولايات المتحدة. أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى أضرار جسيمة التي حازت على جائزة Prairie Schooner للشعر وجائزة Whiting Award. كانت زميلة في برنامج Wallace Stegner بجامعة ستانفورد، وهي الآن طالبة دراسات عليا بجامعة جنوب كاليفورنيا. ظهرت أعمالها في مجلات أدبية مرموقة مثل النيويوركر والجمهورية الجديدة ومجلة ييل وجرانتا وغيرها. رغم نشأتها متحدثة بالفارسية والألمانية، تكتب آريا بالإنجليزية كلغتها الثالثة. صدرت منذ أيام قليلة روايتها الأولى: فتاة طيبة عام 2025 عن دار هوغارث في الولايات المتحدة ودار بلومزبري في المملكة المتحدة، وستُترجم إلى الألمانية، الإيطالية، الإسبانية، البرتغالية، السويدية، واليابانية. تشغل منصب محررة للشعر في مجلة أميوليت ومحررة مشاركة في مجلة ييل، كما تعمل أستاذة مساعدة في الكتابة الإبداعية بجامعة فيرمونت. تقسم وقتها بين ولايتي فيرمونت وبروكلين. (اقرا مقتطفا من روايتها فتاة طيبة من ترجمتنا على موقع المثقف)

https://almothaqaf.org/translations/979382

الكاتبة: ديانا أرتيريان / Diana Arterian: شاعرة وناقدة ومترجمة أمريكية، من المنتظر صدور مجموعتها الشعرية: أجريبينا الصغرى (منشورات جامعة نورث وسترن، 2025). أما كتابها الأول، العب دور الوحش: سيتش (منشورات 1913)، فقد حظي بمراجعة متميزة في مجلة: Publishers Weekly وكان من اختيارات محرري مؤسسة الشعر. كما قامت ديانا بتحرير الأنطولوجيا المشتركة بين الهوامش: الكتابة النقدية والشعرية حول الجماليات (ريكوشيه). وهي محررة شعر في منشورات نويمي. تكتب ديانا عمود طاولة الليل المشروحة في ليت هاب، وقد نُشر شعرها، ونصوصها غير الخيالية، ونقدها، وترجماتها المشتركة، وحواراتها في بومب، وبروكلين ريل، ومراجعة جورجيا، ومراجعة الكتب في لوس أنجلوس، وإن بي آر، ومراجعة كتب نيويورك تايمز، وموقع مؤسسة الشعر، وغيرها. تعيش ديانا أرتيريان في لوس أنجلوس.

مدخل ركيز: هنالك معارف آتية من حصص التعلم، وهنالك كفايات مهراتية ادماجية تتوسط المدرسة والمحيط الاجتماعي، وهنالك التنمية الذاتية المعرفية، ولكن هنالك ما هو أهم وهي التجارب الحياتية الموضوعاتية...

للكتابة طُعمٌ مُرٌّ لا يَلوي قَبضا على حلاوة، إلا عند تذوق ألم مِدادِ حروف حُزن مُرَّة. فعند تفجير كلمات الصمت سواء في السر، وكذا في العلن، تسيلُ كُلُّ دموع التَّاريخ المتراكمة بالعبث والفوضى المروِّعة لحياتنا الفردية والجماعية. لكل مِنَّا حكايات في عمره الزمني، حكايات تحمل بالقلة القليلة نسائم عطر مريح، وتتوشح مرات عديدة بوشاح الوجع والألم الصارخ بين متناقضات الولادة والموت. وقد تحمل الحكايات توهج دخان الحرائق النفسية والذاتية، ويبقى الرماد المتهالك يتسيد وقوفا عند ملامسة أي حرف من حروف العلة التي تحمل شِدَّةَ الرسم في الكتابة.

حين نُفتش في الملفات الساكنة بالخمول في ممرات حياتنا الدانية، وعند مُقْتضى سد قضائي إلزامي وافتراضي بعلامة (قف)، يترجل الخوف عنَّا مشيا ومعاندة، وتنكشف أوراق القضايا اللاصقة بالذكريات الماضية بالإفراج الاحتياطي، و لما لا تمطيط الإقامة الجبرية في قفص عذاب الضمير (الأنا العلوية).

 كل مِنَّا يُمارس رسم حائط مبكى المريح، وسجن الأسرار في ذاكرة علوية مُقفلة، وتكليف حراس أمن شداد غلاظ  كي لا تنكشف المُخزنات بالتعرية والفضح، والتقاسم المريح بالنميمة. بصدق القول: فكل زمن الورد والشوك في ممرات حياتنا تغدوا مشفرة المداخل والمخارج، ولا نقدر على ممارسة حرية (أنا هكذا ... هي ذي حياتي)!!

حقيقة لا مفر منها بالذكر الاحتياطي، ولن نتزايد برهة عليها بالتسويف والتملص، فحتى دخان حرائق الماضي يبقى ينبض فينا بمتناقضات الحب والموت، وتصير الذكريات جزء من ماضينا، عندها أقول: (من لا حاضر له لا ماضي عنده، وبمتوالية ادفع لا مستقبل له بتاتا !!!)، و هذا ما ألفنا تسميته (الجيل الذهبي) الذي يبيت يلعب بأبخرة التفاخر وتمجيد الأسياد !!! من تم هي خُدعة (الجيل الذهبي) التي نعيشها ضمن لُعبة (العبْ وكُولِ)!!! وقد شربنا من مرارتها حرق ذواتنا في مفاتن عطر كنا نحن العبيد عنده لا الأسياد.

مَنْ مِنَّا يوما، لم تنل منه المعاول الناسفات أجزاء من حياته ووضعيته الاعتبارية والاجتماعية بالهدم والتنكيل. مَنْ مِنَّا، حين يفيق من غفوة نوم متقطع، يجد نفسه قد أضاع حلمه في سرير حرير مشلول، ومملوك لساحرات الأماني العويصة. مَنْ مِنَّا، لم يُجرب تَنْكيس رأسه في الرمال أمام ضغط هَمِّ الحياة، وبات يبحث عن السلم الذي يُعرف عند المنهج السيميائي بأنه: (فترة بين حربين). مَنْ مِنَّا، اغتسل بأشهى الخمور، وتطهر بالغطس، بعدها تناول وجبة من مصل مصاصي الدماء، وبات من جيل (الحَدِيدِ المَصَدِّي)!! مَنْ مِنَّا، أضاع مركبة الحياة الحجرية، وبات يتعلق خلف شاحنة حديثة، يشيخ معها العمر بالذبح وبلا دموع نازفة، وبدون عودة ممكنة!!

قد تكون المعاول السخافات تُفتن المتناحرين على نحر الحياة، وهذا هو الخطر حين صاروا عددا غير متناهي الحساب، ويمارسون التنظير المعياري والتوجيه السلوكي للقيم. من المتعب عند الكتابة أن نُعانق الغمام مثل قطن جُرح ينزف دما. من المتعب الأكيد أن هواء التغيير يتعرى أمامنا جميعا بمحسنات الحداثة (البعدية)، ولا نقدر نحن أن نخرج من تفكير الصندوق، ومن الظل الرمادي المريح (ناموا ولا تستيقظوا)....

***

محسن الأكرمين

لآلاء تتشوق للإشراق، تبرق في جوف الأوجاع، تنهض من بطن الجرح، تتحدى قهرا مطمورا في القاع. فيض الروح والجنان، نبض الوجد والزمان، ملحمة الصيرورة في قلب الأزل، ورحلة الذات في أعماق الأبد، نار و ماء وتراب و سماء، تتنامى في الفضاء.

أهزوجة كونية، وصرخة أرضية، ورقصة روح عارية، على مسارح الأكوان الصافية.

بحر لا تشبهه البحار، وصوت يسافر في الأنوار، وقوة جذب لعروش البدايات، وتمام الخطوات في درب الأخطار.

أنشودة النقاء، والبهاء، ومسلة الرؤى في قلوب الذرات، وأحلام النداء.

تحليق دائب، في آفاق اللامنتهى، وتوحد لذيذ، في دياجير الضوء المتناهي.

طاقة خلق، وفعل مجد، وأهزوجة إبداع، وملحمة تفاعل الأحياء مع الأحياء،

وتزاوج الأشياء مع الأشياء

محض ابتداء أو فناء، يجذبنا نحو النهايات، يخرجنا من قيود البدايات، يدفعنا بعيدا

في مدار الأمنيات.

يلهمنا معاني الحب السامي، ويطعمنا من شهد العناء والتجلي، ويسقينا من سلاف الأشواق والأمل.

أقوى من الجنون، وأعتى من رياح صرصر يكون، يصنع الحياة، ويلهم النبات،

النداء الكامن في قلب البذرات، يدفعها دوما، لامتزاجات الانبثاق، في التربة والماء،

يجعلها تتفجر، بطاقات السموق والعلاء، يمنحها حب الصيرورة والعطاء.

العشق الفياض في قلب الذرات، يتحدى قيد التراب، ويمنح الفضاء الأرضي لونا أخضر،

ويملأ الأفواه بالأثمار، ويجعل الأطيار تغرد بألحان المجد الرباني، وتسبّح لخالق الطير والنبات.

يحضر فينا، يقبّل وجه الشمس، يحتضن الضياء، ويصلي في محراب،  الصيرورات المطلق.

لهيب يتحدى الظلام، ويقتل الخمول، ويوقظ الغفاة، من سكرة الضياع والذبول، وهو كون المتعة، وانفجار اللذة، وفيضان الروح، على ضفاف الوجود العطشى، للأمل والحب واللقاء.

فجر الأنوار الروحية، ومعبد الآهات الإمعانية، ومدينة النقاء الإيمانية، ومعلمنا في مدرسة

الصيرورة الإيقانية.

العشق، يتوطننا، يسكن فينا، يحركنا، يسقينا من شوق الكون، يدثرنا بنار الفجر، يهدينا   آلات الأمر، يجعلنا أطيارا، في قلب الطير.

العشق لا يسألنا، يأتينا ممتطيا، حصان الأجوبة السرمدية، حاملا أزاهير المجد العلوية، ينثر فوق رؤوسنا، عطورا من ماء الحرية، يأخذنا لنجمة، تتهادى سكرى بالحب، قرب الكواكب الدرية.

العشق جواب الأسئلة، المعتقة في أحضان الأجيال البشرية.

عرش الفقراء والجائعين، وتاج البائسين، وجنة اليائسين، وجهنم الحاقدين.

إكليل على رؤوس المحبين، وحلم من أحلام الأنبياء والمرسلين

.

كون وأرض، مكان وزمان، منطلق ومنتهى، ورسالة تخترق الأزمان، وتعبر الأجيال، وتسافر إلى حيث موطن الخلود الأكبر.

رؤية ما بعد الرؤية، وكلام ما بعد الكلام، وفكرة ما بعد الأفكار، وصرخة لا تسمعها الآذان،

بل تعيها الأفئدة، وحواس الإنسان المتحرر من قيد الأرض النمامة.

حب الحب، نبض النبض، جرح القلب، نور العين، يحمينا من أخطار الحقد، ينجينا من أكدار العمر، يهدينا نبضا من نور، يأتينا بالخير الأوفر.

العشق أن تطوف في أودية الوجدان، وتكون موجة في مياه النُهران، وتلامس قلب الشطآن، وتستشعر لذة الضفاف، عندما تقبلها الأمواج، ويتسرب الماء، في عروق الذرات والأشجان.

إدمان المطلق، وفيه تتجلى آلهة الذوبان، في أكوان الإنسان، وفي أنوار الرحمان.

طوفان روحي، وهياج يقيني، وإمعان في الإمعان.

يختزن أشواق الصخور، لقطرة ماء تسقيها، فتطلق ما فيها من أكوان.

ملحمة تفاعل الأحياء والأشياء، على صخرة نائية، من خوفها ورعبها، تدور لكي تصاب بالغثيان، فتنقطع عن الإحساس، بدياجير المجهول السحيقة، صخرة عجيبة ، أسمها أرضنا الحبيبة، نعشقها حتى نتفتت، ونكون هباءً كونيا منثورا، فدعها تدور، إن استفاقت من دوراتها ستنفجر من شدة الرعب المكنون، وستلقي بما تحمل في كف اللامعلوم، فهل ستستيقظ؟

صخرة لا تشبه الصخور، وهل للأرض عاشق مخبول، يريدها ولا يرغب بمن عليها، لا جواب، ولكن العشق لا يغور.

العشق، مأوى الأحلام، بيت الأيام، وقلب الكون الخلاق، ينبض في صمت، يصنع مجد الأشياء، في بحر الكل الخلاق.

سر مكنون، بالطيف المدفون، في أحلام الجرح، في برق الروح، ينطلق كالنسر الخفاق

من علياء المجد، يبحث عن معنى ما يعني.

رقصة ذرات الوجد، في أحزمة الضوء، المنشوبة في صدر الفجر، يتغذى من نور يسري، في أحشاء الأنات، يبحث عن مأوى، يسأل عن معنى الإطلاق.

مصباح في أروقة المنى، في رياض الهوى، فوق خيمة التماهي في قطار الصاعدين

إلى عين الأنوار القدسية.

ولولا العشق لغابت الأحياء والأشياء!!

***

د-صادق السامرائي

21\11\2006

يعد الشاعر" كزار حنتوش 1945 ــ 2006" صوتا شعرياً مميزاً ونمطا متفردا في الساحة الشعرية العراقية، لما تمتعت به قصيدته من مزايا تعذر على العديد من الشعراء مجاراتها ومحاولة تقليد لغتها وبساطتها وعمقها الأمر الذي جعل منها بصمة خاصة به، ورغم الكثير الذي كُتب وقيل في تجربته الشعرية لكن الضوء لم يسلط بشكل كافِ على  امكانياته العالية في كتابة المقالة الساخرة التي ظهر عليها في مقالاته الصحفية التي نشرها في جريدة الديوانية بعمود حمل عنوان (حنتوشيات) والذي رصد فيه جملة من المتغيرات التي شهدتها الساحة العراقية بعد التغيير في عام 2003 حيث ظهر كزار في تلك المقالات ناقدا بارعا ولاذعا لبعض افرازات الوضع الجديد، كما أظهرت قدرته على صياغة حوادث شخصية عابرة في مقالات وجد فيها القارئ المتعة ورصانة الاسلوب دون السقوط في فخ الاسفاف وكشفت ايضا عن قدرة الشاعر على تطويع المفردة  في مجال الكتابة الصحفية بذات المستوى الذي عليه في نصوصه الشعرية ، وفي عام 2007 وعلى هامش احياء الذكرى الاولى لرحيله قمت على عجل بإعداد المتيسر من تلك المقالات واصدارها في كراس حمل عنوان (حنتوشيات) تم توزيع نسخ محدودة منه في تلك المناسبة على أمل اعداده بشكل كامل الا ان هذا الأمر لم يتحقق لأسباب خارجة عن ارادتي .

واكراما لذكراه الثامنة عشر التي مرّت في التاسع والعشرين من شهر كانون اول الماضي ننشر واحدة من مقالاته الصحفية التي تجمع السخرية اللاذعة بدقة وجمال الوصف وهي تمثل جانبا من عطائه الابداعي وقيمة أدبية لا تقل أهمية عن منجزه الشعري .

***

ثامر الحاج امين

.........................

حراميان ورعان

بقلم: كزار حنتوش

شاء لي حظي العاثر ان ادخل في نقاش أدبي مع شاعر يعتبر ان (جواد جومة)* هو اعظم شاعر في العراق، وان (مظفر النواب) لا يرقى الى مرتبة (بوي) لهذا الشاعر العظيم، وانصرم الوقت سريعاً وادركني الليل وعندما نظرت الى ساعة المقهى الحائطية وجدت انها التاسعة والنصف ليلاً، معنى هذا انني سوف لن اجد سائق تكسي يوصلني الى (حي الاسكان)* حتى لو كان السائق هو (جميس بوند)، ارغمت الشاعر المتأخر معي دفع اثمان اقداح الشاي وعاقبته بأن اقترضت منه 10000 دينار وقررت عدم ردها اليه حتى لو كانت لدي اموال قارون، قررت قطع المسافة الطويلة مشيا " متوكلا على الله، وقرأت تحسبا للمفاجئات آية الكرسي " وفاجئني صوت هزيم الرعد: حجي اوكف. توقفت، وحالا برز لي من عطفة جانبية شخصان لا يكشفهما حتى ليزر الامريكان، وابرزا مسدسيهما " سلّم.. سلّم "، فرفعت ذراعي حتى وصلت الى نجمة القطب وقلت لهما وقد الجمني الرعب: ما الذي تريدانه ايها الصديقان؟، فلكزني اسمن واحد فيهما بمسدسه على ضلعي الايسر، لأنني يساري ربما، مالك او حياتك فهششت وبهشت في وجهيهما على طريقة مثل اخواننا المصريين (قالوا للحرامي احلف. قال جاك الفرج) وقد رسمت ارق ابتسامة على وجهي، ابتسامة كانت يمكن ان تهدى للمرحومة (ديانا). لا املك شيئا قلت باستهتار عندما لمحت انف زجاجة عرق يطل من جيب احد هذين الصنديدين قلت وقد بلغ بي اليأس والعطش مبلغا لو دخل فيه محي الدين بن عربي لتخلى عن الصوفية. قلت عطشان والله عطشان ما عندي لا دينار ولا ديناران، انا انسان غلبان مما حدا بالسمين الورع الى اخراج قنينته الافرنجية التي ما رأيت مثلها طيلة حياتي انا الذي يطلق العراق من شماله وجنوبه لقب السكير العربيد، نعم لقد فعلها الشهم وقدّم لي الفودكا الالمانية وبأسرع من هات ولا. كنت قد كرعت القنينة كاملة، فطردت مع تلك الكرعة الشهيرة الخوف والاثم، وكل مافيا (صقلية). وسرعان ما ركبني شيطان الشعر فانشدت بيتا لابد انه قد وصل الى أذان مؤذن الجامع، واساتذة الديكة متناغما معي بلحن رائع. اسقوني يا ثقاتي.. ان في موتي حياتي

فرمى اللص السمين مسدسه لبركة صغيرة واجهش صديقه النحيف الصغير بالبكاء باختصار انتظرنا بصبر ايوب انتهاء الاذان وبعدها لعبت بنا الاقداح شاطي باطي، وعندما صحوت في الثانية عشر ظهراً وجدت بجيبي الايمن عشرة الأف دينار وفي الايسر بطل فودكا مع ورقة صغيرة تقول: ارجوك.. ان لا تسلك بعد الآن هذا الشارع والا فسوف ننظم الى طائفة الشحاذين والمتسولين، ارفق بنا من فضلك يامن الله لا يسلطك على حرامي مسلم .

***

.....................

* جواد جومة / شاعر شعبي من الديوانية

* حي في اطراف مدينة الديوانية سكن فيه الشاعر

 

ندخل عوالم الفنانة التي هامت باللون والرسم منذ طفولة ما زالت تقيم فيها حيث الفن عندها حالات تذكر جمالي تجاه القبيح والمربك والساقط في أكوان بمتغيراتها المدوية تسعى لتشييء الكائن وجعله مقيما في أزماته ومتروكا مثل متحف مهجور.

الفن حمال معان راقية ومجمل حالات ومكمن أحلام عالية تجاه الضجيج والانهيار.. انها لعبة الفن يستعيد معها الفنان شعرية الفكرة وهي تنبثق من الأمكنة في بهائها النادر.

المكان هنا معتبر ونعني الجمال والحلم حيث الخطى الأولى والتلوين البريء والبدايات.. المكان مكانة.. نعني جربة.

هي حكاية فنانة بدأت الرحلة الفنية من جربة وتعددت بعد ذلك أمكنتها وجهات الهامها لتتعدد ألوانها وأعمالها الفنية تعدد حالات حلمها وأحاسيسها.908 aziza albajei

الفنانة التشكيلية عزيزة بحر الباجي نهلت من المكان كذاكرة وحياة وبرمزية ضاربة في الزمن.. من جربة انطلقت لتتعدد معارضها ومشاركاتها الفنية والجمالية.. لوحاتها توزعت على تلوينات شتى بين المشاهد والامكنة والبورتريه والطبيعة الميتة وغيرها.. تنظر في اللوحات لتسافر في المشاهد الأخاذة منها عطور الحالات الجربية في الشارع والسوق واللباس التقليدي وصولا الالوجه المنتصف الحالة والنظر ووجه الطفلة غزالة الطافح بالبهجة العارمة حيث اللون عنوان براءة وحلم في تناسق جمالي دال على التشبع بالموضوع والمشهدية العميقة.

هامت عزيزة بفنون الرسم لترى العالم علبة تلوين ومتنت صلتها في كل ذلك عبر الفنانين الايطالي ديماتشيو والجزائري أحمد بلاب والتونسي طارق الفخفاخ وهي التي تخصصت في دراستها في العلوم القانونية.. مضت مع الفن التشكيلي تحمل جربة في القلب وما به تزخر من سحر وبهاء جمالي نادر تستنطق حالاتها ووجدانها وتاريخها العريق بتعدد ثقافاته والحضارات العابرة به وصولا الى جربة الآن وهنا.909 aziza albajei

جربة هذه الفاتنة.. وأنت تمضي اليها.. تشعر بشيء من السحر ينتابك بحيث يصعب أن تغفل للحظة عن القول بالعذوبة والدهشة والحنين تجاه ما تراه العين.. وأما النظر هنا فهو بعين القلب.. لا بعين الوجه.. هي الأرض التي تأنقت عبر العصور.. من الحقب التي مرت بها تعلمت فن الجمال.. كيف لا وهي المحفوفة بالماء.. الأزرق سرها الدفين.. القباب عناوينها.. والمنازل المثقلة بالحكايا.. وهل ثمة حكايات باذخة المتعة غير تلك التي عرفتها الأرض القديمة قدم ناسها..

من الفينيقيين والبونيقيين والنوميديين والرومانيين والبيزنطيين.. إلى الفتح الإسلامي..  كانت جهة للراحة وللعناق الرومانسي بين الأرض والبحر.. جربة.. المكان والمكانة.. تمضي اذن مع الجادة فترى البسمة على وجوه الاطفال عنده تقترب من مدرسة سيدي ياتي.. هي البراءة المأخوذة من موسيقى البحر الفاتن والتربة الناعمة.. تجلس في الفضاء الانيق المحلى بالمرقوم وبالادوات التقليدية الجربية حيث الشاب الحالم العائد من أرض الامارات وقد شذب المكان وزينه دون خروج عن جماليات المكان الوفيرة.. تجلس وتحتسي القهوة وترسل نظرك بعيدا لترى جواهر الأشياء وعناوينها البارزة بعيدا عن هموم العولمة ورياحها الملوثة.. والقاحلة.. وبلغة أخرى تذهب مع الاصل.. أصل العناصر والتفاصيل..910 aziza albajei

اذكر الآن ألوان وأحوال وأشجان جربة.. منها ملأت الفنانة عزيزة بحر الباجي خزان ذاكرتها ودأبها اللوني وعشقها للرسم.. فنانة حملت شيئا من روح وعطر وأنفاس جربة حيث ألق التواريخ وجمال المشاهد بين سماء وأرض وبحر وأهل في تناسق مفتوح على الهدوء والموسيقى الخافتة..

تنوعت أعمالها وعناوينها ونذكر منها غزالة والنسوة ومشهد السوق وعم سعيد وقلالة وقهوة الشجرة بميدون والتغمبيزة والزكار والطبال والتراث وللا حضرية والانتظارو القرنيط وشاطئ الجزيرة والقافلة والبطيخ وغيرها..

الفنانة عزيزة بحر الباجي تعمل على مواضيع أخرى وبنفس متجدد وتو ترى في الفن واحة سلام وحوار في حس انساني بليغ وتحلم بمعرض دولي باليونسكو مثلا فيه لوحات تختزل مكونات التراث الجربي من لباس وعادات وتقاليد ولباس ومشاهد وفق رسالة من فنانة للعالم تقول بالحوار والتعايش والتسامح تحت عنوان الفن بما هو ابداع انساني.

هذا وتعد الفنانة بحر لمعرض بالعاصمة يجمع عددا من لوحاتها وفيه حيز من تجربتها الفنية التي تواصلها الآن بكثير من العشق والشغف والحلم فالفن بالنسبة اليها متنفس وابداع ومجال للابتكار والمحافظة على الجميل فينا وتثمين التاريخ الجميل والتراث والاعتزاز بالشخصية والهوية في هذا العالم المعولم. هي تعمل في مجالات فنها وتعد لمعرضها الشخصي القادم مع هذا العام الثقافي الجديد 2025.

***

شمس الدين العوني

 

ما معنى أن تقلم أظافرك؟ أن تسقط أجزاء منك، كأنك تمارس فعل التخلي عن خناجرك الصغيرة. أليس ذلك التخلي ضربًا من الزهد؟ أو ربما هزيمة معلنة، إشارة إلى أن القوة ليست سوى وهم مؤقت، وأن الأظافر، مهما طالت، ستقع في النهاية كما يقع كل شيء آخر في دوامة النسيان ، في المقاهي، في غرف النوم، في اللحظات التي لا تخبرنا بشيء سوى أننا نعيش، تخرج الأظافر كأشياء هامشية. تنمو في صمت، كما تنمو الغابات المنسية، تنتظر اللحظة التي تُستخدم فيها لتسجيل التفاصيل. لكن هل تسجل الأظافر الأوجاع فقط؟ أم أنها تلتقط أيضًا ملمس الحب حين يتسلل من بين الأصابع؟

إنهم  يطيلون أظافرهم كنوع من التحدي، كبناء أسوار من عاج حول هشاشتهم، مع انهم، في النهاية، يواجهون الحقيقة ذاتها ، الأظافر ليست سوى امتداد للجسد، أداة، ظلال، نصل مؤقت. وفي لحظة ما، تُرمى كقلامة، تُنسى على أطراف المرايا، في ركن الحمام، دون أن يلاحظها أحد، وكأنها اعتراف صامت بأننا لا نحتاج إلى كل هذا الحفر، إلى كل هذا الخدش، وأن العالم، في غيابه الدائم، لا يلتفت إلى أي أثر.

فأيها العابر بأظافرك المجهدة، احفر ما شئت في صخور المعنى، اترك شروخًا على وجه هذا الليل، لكن لا تنسَ أن ما تحفره الآن، قد يكون هو ما يسقط منك غدًا، كما تسقط الأظافر نفسها، إلى ظلال الماضي الذي لا يعود.

***

خاطرة: مجيدة محمدي

 

بين يدي الآن نسخة من (ودق المرافئ) رواية موسى الحوري، بطبعتها الأولى، هدية سخصية من لدنه لي، وصلتني ظهر اليوم الأحد ١٢ /١ /٢٠٢٥.. صحبة الدكتور أسامة الضاحي..

رواية ودق المرافئ .. للأديب المبدع الدكتور موسى الحوري، صادرة بطبعتها الأولى، عن اتحاد الأدباء والكتاب في صلاح الدين، وهي من منشورات مهرجان صلاح الدين الشعري الثاني لعام ٢٠٢٤.

تعكس الرواية بكل مرموزاتها الشخصية، معاناة إبن ريف الديرة، الذي واجه بإصرار وعزيمة، كل قساوة ظروف الحياة، التي عاشها كادحا ودارسا في نفس الوقت، حتى نجح في تحقيق طموحه في التحصيل العلمي العالي، بالحصول على الدكتوراه في اللغة العربية تخصص الأدب الحديث، رغم كل إرهاصات ظروف تلك الفتزة، التي عاش تداعيات معاناتها، بكل تفاصيل صعوباتها، وماساويتها، الاجتماعية والاقتصادية..

وهو بهذه الرواية، يستعيد حبك صفحات تلك الفترة الحرجة، بأسلوب روائي سردي إبداعي ممتع، إذ استطاع ببلاغته واقتداره الأدبي، التقاط الصور والمشاهد البليغة، التي طبعت حياة ابن ريف تلك الفترة العصيبة من أعماق واقعه .. وهو يتأمل منزله الجنوبي، الذي يقطن شرق بيت أهله، وحارات قرى ريف ديرته، والنياسم المؤدية إليها، ليعكسها سردا روائيا في غاية البلاغة، وكأنك تعيش تلك الأحداث الآن ،حيث تكتض ذاكرته بكل تلك الصور، التي استوطنت أعماق وجدانه ، فظلت عصية على النسيان، رغم مرور عشرات السنين..

ولعل القارئ الكريم بابحاره في عمق هذه الرواية، وحسه المرهف ،وحصافة ذائقته الأدبية، سيعيش لحظات ممتعة، مع تصفحه لها، وقراءة نصوصها الساحرة.. ليخرج بالمزيد من القناعات، والايحاءات التي سيستلهمها، من واقع تفاعله الوجداني مع معطيات أحداثها.

***

نايف عبوش

نحن كائنات حية وحركية وقودها المشاعر ومكبحها عقل واع ومدبر وماهر غياراتها بالمجمل تشاركية.. فإن كان الحدس موجهاً فهو وليد إلحاح معند للذاكرة حتى وإن استعصى القبض على أسبابه.. والمشاعر حين تطفو وتطوف لابد لها من طريقة للخروج.. وسائل التعبير كثيرة فبكم طريق وطريقة يمكننا أن نعبر عن الحزن والقهر والألم الداخلي..

 يمكن أن يكون القتل طريقاً وطريقة للتعبير عن مشاعر الغضب المحقونة والنتيجة هنا كارثية هدامة عمياء (قاتل ومقتول).. ولكن حين نتقن تهذيب المشاعر واستثمارها وحين تترافق تلك المشاعر مع الجمال داخلي نعيش جمال الحالة ونستثمرها في فعل إبداعي رسم..موسيقى.. شعر.. وغيرها الأمثلة الحياتية حول كيفية استثمار وترويض المشاعر كثيرة.. (معاناة فان كوخ المجبولة بمشاعر القهر والظلم.. تفجرت عبر أسلوب خاص شرع الأبواب للتعبيرية.. وبالمقابل نجد تلك المشاعر المحقونة لأكبر طاغية عرفه التاريخ (أ ود و ل ف.. هـ ت ل ر) توجهت لغزو العالم حين لم تجد لها طريقاً للقبول في أكاديمية الفنون) الطفولة المستلبة المعاناة القسوة القهر هي تجارب حياتية حاضرة دوماً في صور الذاكرة وربما تشابهت الأسباب والمسببات واختلفت النتائج.. وهذا مرده لِكَمِّ الجمال الداخلي جمال الروح

 الجمال الداخلي هو جدار طاقي يحمينا من شرور أنفسنا وشرور العالم من حولنا وهو يوجهنا لتفريغ الشحنات الإنفعالية عبر أعمال إبداعية وأنشطة إنسانية بناءة886 hussein

 و في مضمار التشكيل أقول:

العمل التشكيلي الذي يستوفي شروطه هو ذاك الذي يحقق التوافق ما بين قيمه التعبيرية والجمالية فلا وجود لقيمة فيه بعيداً عن الأخرى ولا يمكن أن يرقى ذاك العمل لمستوى الإبداع إن لم يستوفي جميع مقوماته.. والقيم التي ينبض بها هي قيم مترابطة وغير مستقلة و مرتبطة بالفكرة التي يود الفنان إيصالها وهي تتأكد من خلال عدة محاور فهنا تتجلى عبر رحلة الخط المتواصل والمتقطع وعبر إيقاعه المتبدل والأشكال المتوالدة عنه وكمِّ ما تحققه من دهشة وغرابة وهناك يصير التأكيد على القيم اللونية المتناغمة والشفافة أو الكتيمة الصاخبة أو الهادئة والحارة أو الباردة بكل ما تحمله من دلالات تعبيرية ونفسية وحسية وعبر سعيها العفوي أو المقصود لتحقيق التوازنات على كافة الصعد وفي أعمال أخرى نجد التركيز على عجينة اللون والملمس والسطح والنسيج الخاص و التكنيك الخاص

في مخاض اللوحة المتوالدة عن ذات مسافرة ما بين عالمين داخلي وخارجي نرى الفنان يحلل ويبسط ويحور ويلغي ويعيد البناء والتشكيل بخطوط منبثقة عن ذاته لنجدها تميل للعفوية والتلقائية حينا وللرصانة المدروسة حينا آخر والفنان يسعى دوماً هنا لتحقيق تلك العلاقة التوافقية بين جميع محاور العمل خط لون سطح تكنيك تكوين شكل والتي تتحقق من خلالها وحدة العمل وتماسكه

تلك التوافقية تحقق النضج والنضج هو المفتاح الأساسي والأولي لتصنيف العمل ضمن سلم الإبداع وهو القادر على محاكاة مشاعر المتلقي والإرتقاء بذائقته من خلال ذات موغلة في أناها هي ذات الفنان المتعطشة للكشف والاكتشاف ف كل ما حولها من قصص حياتية تدخل مختبراتها لتعجن وتطهى بكل ما جبلت عليه تلك الذات من خصوصية وفرادة ثم لتخرج بنكهة مختلفة تشبه الفنان ولا أحد سواه.

***

الفينيق حسين صقور

في عصرٍ تتشابك فيه القيم وتتضارب المبادئ، تبرز طيبة القلب كضوءٍ خافت وسط عتمة الفوضى الأخلاقية. إنه زمنٌ غلبت فيه الأنانية على الإيثار، وانكسرت فيه الموازين بين ما هو حق وما هو باطل. وبين صخب هذا العالم، تقف طيبة القلب شاهدةً على نقاءٍ لم يتلوث، وصمودٍ لم يتزعزع أمام التيارات المتلاطمة.

طيبة القلب: هل هي ضعف أم قوة؟

كثيرًا ما تُوصَم طيبة القلب بالضعف في هذا الزمن الذي يحتفي بالقوة ويقدس الصلابة. يُنظر إلى صاحب القلب الطيب وكأنه تائه في عالمٍ لا يرحم، يتعرض للخداع والاستغلال، يُغتال فيه نقاء قلبه بيد من لا يقدرون قيمته. ولكن، أليس في التمسك بطيبة القلب قوة؟ أليس في الإصرار على الإحسان رغم كل الخذلان نصرٌ باهر للإنسانية؟

إن طيبة القلب ليست انكسارًا، بل تحدٍ لواقعٍ يحاول بشتى السبل أن يجرد الإنسان من إنسانيته. هي إعلانٌ صارخ بأن القيم النبيلة لا تزال قادرة على البقاء، حتى لو كانت وسط غابةٍ من الفوضى.

في زمنٍ تطغى فيه المصالح على المبادئ، تبدو طيبة القلب وكأنها أداةٌ عبثية في معركةٍ خاسرة. لكن الحقيقة أن هذا الزمن، بكل فوضاه الأخلاقية، هو الذي يُظهر جمال الطيبة وقيمتها. فالطيب يزرع الحب حيث يتفشى الكره، ويُضيء بصدقه ظلام النفاق، وينشر دفء الرحمة في صقيع الجفاء.

الفوضى الأخلاقية تكشف معادن الناس، وتظهر كيف أن القلب الطيب قادرٌ على أن يكون ملاذًا لأولئك الذين أرهقتهم قسوة العالم. إنه بمثابة البلسم للجراح التي تسببت بها القلوب الصلبة، والملاذ الآمن للنفوس التي ضلت طريقها.

صاحب القلب الطيب يعيش في صراع دائم بين واقعه الداخلي المليء بالصفاء، وواقعٍ خارجي مليء بالصخب والقسوة. كثيرًا ما يتساءل الطيب: هل أستمر في هذا الطريق؟ هل يستحق العالم كل هذا العطاء؟ لكن الإجابة الحقيقية تكمن في الطيبة ذاتها؛ فهي ليست أداة لتغيير العالم بقدر ما هي أداة للحفاظ على النقاء الإنساني.

طيبة القلب كفلسفة حياة

أن تكون طيب القلب في زمنٍ متوحش يعني أن تختار الطريق الأصعب، أن تسير ضد التيار وأنت مؤمنٌ بأن كل فعل خير، مهما كان صغيرًا، يترك أثرًا عميقًا. الطيبة ليست مجرد شعور عابر، بل هي فلسفة حياة تنبع من يقينٍ عميق بأن الخير لا يموت، وأن البذرة التي تُزرع اليوم ستنبت يومًا ما، حتى لو لم يرَ زارعها ثمارها.

طيبة القلب ليست ضعفًا، وليست استسلامًا للواقع، بل هي مقاومة حضارية، سلاحها الحب والعفو والإيثار. إنها القوة التي تقف أمام العاصفة وتُصر على البقاء نقية، حتى وإن سقطت أوراق كثيرة من شجرة الإنسانية. وفي النهاية، يظل القلب الطيب شاهدًا على أن النور، مهما كان خافتًا، قادرٌ على أن يبدد الظلام.

***

بقلم: د. علي الطائي

في صباح يوم السبت 4 جانفي 2024 اِستقبل نادي الميعاد بجمعية ابن عرفة بمدينة تونس العتيقة وبالتعاون مع دار الثقافة السليمانية أعضاء نادي الشعر والرّواية بمدينة قرنبالية فكانت مناسبة رائقة التقى فيها عديد الشعراء الذين أنشدوا قصائدهم المتنوعة المواضيع والأساليب مؤكدين أن الحركة الشعرية التونسية تعيش فترة مزدهرة نعتبرها رافدا مُهمّا في خضم الشعر العربي المعاصر الذي ما فتئ يتجدّد ويتطوّر مشرقا ومغربا وباعتزاز يشرفني أن أنقل ما تيسّر من تلك القصائد التي اِستمعنا إليها شاكرا للشعراء تعاونهم وللصديق الشاعر ميلاد ميلاد رئيس نادي الشعر والرواية بقرنبالية جمعها .

..........................

الوالدان هما العينان والبصرُ

هما الدّروعُ لنا والدِفء والأملُ

*

هما الأصولُ ونحن الفَرعُ والثمَر

هما القداسةُ والإجلال والمَثَلُ

*

هما الأمان لنا في عالَم الفِتن

هما المَلاذُ إذا ضاقت بنا السّبلُ

*

هما السعادة في الدنيا فإن رَحلا

تَغدو الحياة جَحيما ليس يُحتمَلُ

*

كم مِن ليالٍ قضَوا في الخوف والقلق

لما وُلدنا وما نامَت لهم مُقَلُ

*

باعوا النفيسَ لكَي يَقضُوا حوائجنا

وأكرمونا وما ملّوا وما بخِلوا

*

وعلّمونا أُصُول العِزّ والأدب

وكيف نحيا كِراما ما بنا خجَلُ

*

ضحّوا بصحتهم والمال والعُمُرَ

حتى كبُرنا وهُم وافاهمُ الأجَلُ

*

مهما مدَحنا ومهما طال شُكرهُمُ

فلن تعبّر عن إحساسنا الجُمَلُ

*

فمن يبَرُّ ويُرضي والديه نَجا

ونال خيرا فنِعْم الصُنعُ والعمل

*

ومَن عصاهم ولم يحفَل بنصحِهمِ

يَعِش قرينا لجُرح ليس يَندملُ

*

فالوالدان هما كل الحياة لنا

وليس يوجدُ في الدنيا لهم بدَلُ

*

فالشهدُ مُرًّا يصير بعد موتهم

والعَلقمُ المُرّ في أحضانِهم عسَلُ

*

وليد السبري – تونس

......................... 

تحولات

قمري المرائي يزرع الأشواك ،

في حلقي..يسافر في دمي،

قمرا حزين

يغزو نوافذ وحدتي،

ها أنني أوصدتها..فتحدَّها إن شئت،

لن ترتاح في حلمي،

و لن تستطعمنْ شهد الأنين

أتُراك زُرْتَ مقابر الأحياء،

هل أحرقْت صُفْر كتائب النساك،

أم عرّجْت في وطني على خمارة الحي العتيق

أو هل تراك قد استكنْت إلى كوابيس الحريق

شرّشْتَ في وعي المرافئ كالقدر

فتحجّرتْ سفني..على مرمى حجر

لا..لم تكن قمري و لا حزني الدفين

لن تستبيح دماء حلمي،

لا و لن تستطعمنْ شهد الأنين

إني أضأت شموع قلبي،

فليكن نهَمي البكاءُ،

و أطعمتْني من موائد رحلتي ،

أعنابُ هذا التيه،

فاسترشدْتُ أقمار الضِّياع

و أكلت من خبز الجياع

سِيانِ..مأتم مسجدي و كنيسة الأمر المطاع

و دفاتر الأشجان.. ذاع

سري..تفرق من دمي بين القبائل،

ما يُروّي عشق آلاف الضحايا

ولْتغفرِ الأم الخطايا

سيان..ما هدأ الصراع

كلا..و ما أدفأتُ من جمري،

و لا أشبعت من خبزي الجياع

أبدا..كما لم يهْدِني نجمي..،

و لا قمر الضياع

***

صفوان بن مراد

.....................

وطني العزيز

وطني العزبز ، تراك عيني شامخا

عزفت حروفي من هواك نشيدا

*

لا يولد العظماء الا مرّة

و اراك تولد كالصّباح جديدا

*

و أرى العواصم في جوارك أنجما

و أراك بدرا في السماء فريدا

*

قضّيت عمرا في دروبك هانئا

في كل يوم في ربوعك عيدا

*

اني بحبك يا الحبيبة تونس

أحببت شعري و ارتجلت قصيدا

*

اعلى مقامك ما استطعت بأحرفي

و أخط من فنّ القريض مزيدا

*

فالصدر حبّ غامر متجدد

و الحرف كان من الضلوع وليدا

*

و الجسم طوفان قوي هادر

و القلب ان لمع الحديد حديدا

*

انا كسطح الماء يبدو ساكنا

و إذا استشاط الغيض صار شديدا

*

فإذا تخطاك العدو بجنده

و اراد كيدك عاد منك طريدا

*

نلقاه أسدا و النيوب قواطع

نحميك بل نسقي الطغاة صديدا

*

تاريخك العزّ الذي نحيا به

و بدون حصنك قد نصير عبيدا

*

يا بيرقا يسمو و يخفق شامخا

يعلو بمجدك في السّماء بعيدا

***

بقلمي: الشاعر التونسي

الحبيب المبروك الزيطاري نابل. تونس...

.......................

من مجموعتي الشّعريّة السّادسة

وصيّتي هذا البلد

يا أمّه..

هزّي إليك

بجذع بعض غمامةٍ

كيُ تسكبي

بردًا..سلامًا في الكبدْ

وعليكِ..يسّاقط

من الرُّطب الجنيّات

الجلدْ

ليُربّت الوجع الجليلَ

ضميدةً

بُشرى

بعمر الصّابرينَ

وبسمةً

تفترّ عن ألق الحياةِ

بجرحه..

ذاك الولدْ

هذا البلدْ...

*

يا جرحهُ

ياريحَ مسكٍ

في

مسامّ الأرض

في..

عبق التّراتيل الحميمةِ

والصّلاة

وعطر أنفاس الشّهادةِ

والولادةِ

في..

تسابيح المددْ

تهفو

لأذكار الأماني

في مخاضات البلدْ...

*

يا أمّهُ...

طوبى لجرحك

خضّب الرّوح النّديّة

واصطفى..

محضيّة الحلم المفدّى

والمُنى..

وسليلة الوجع المعتّقِ

بالإباءِ

وبالحياة...

يا جرحها

يا جرحها الحنّاءَ

يا زغرودةً

خضراءَ .. في لون الرّبى

ونديّةً

مثل الغمامةِ ..

ريحها

قد فاح في

كفّ المدائنِ

عنبرًا

مِسْكًا ونَدْ

من طيب أبخرة البلدْ

*

زفّيه

في ألق القريضِ

قصيدةً

وبلابل الحرف الشّفيف

مطيّةٌ

قد زغردت أنفاسهُ

وتعطّرت

شقّي عليه الحرف

مختال الرّؤى

وتيمّمي

صعَدًا..صعيدًا طيّبا

من نفحة الأرض التي

شقّت

على دمه الأديمَ

معانقًا

نبض الجسدْ

ومسافرًا

فوق المدى

في عمق أوردة البلدْ

ضُمّيه

للقلب الكليمِ

تميمةً

وتنفّسي نفْح الطّهورِ

بجرحه

في

نزْف شريان البلدْ

*

با أمّه..

يا أمّنا الخضراءَ

يا عبَقَ النّدى

من عطر ألف حضارةٍ..

وحضارةٍ

ها..ها أنا

يمّمت شطرَ الحرف

أسكب مُنيتي

حبّا

خرافيّ السّمات

هوًى

طفوليّ الرّؤى

ورغيف حلمٍ

مُشتهَى

أهفو لهُ

ويطوف بالأحلامِ

معتمرًا

إلى وطنٍ

يُساكنني

وقِبلتُه البلدْ

*

يا أمّهُ..

لا تذرفي ادرّوح الشّفيفةَ

في الحدادِ

وربّتي

رَوْح البلاد الرّاجغة

ردّي إليكِ

وشاحَ أقواس القزح

وتزيّني

وتكحّلي

في عينك الشّلاّلُ

يُغرق حُرقةً

تطفُو

بذكرى الرّاحلينَ

منارةً

ونشيدَ بوصلةٍ

بأوصال البلد

ترجيعةَ النّغم الشّهيدِ:

وصيّتي هذا البلدْ

وصيّتي هذا البلدْ

وصيّتي هذا البلدْ

- بسمة الحذيري -

....................

مشاركة الشاعرة والكاتبة سليمى السرايري

من كتاب رسائلُ إلى بحّارٍ ورسائلُ أخرى

المشاركة برسالة إلى الأستاذ سوف عبيد

أستاذي الشَّاعِر سُوف عبيد،

لَقَدْ أَخَذَتْنَا الحَيَاةُ وَتَقَلُّبَاتُهَا بِمَا فِيهَا مِنْ عَنَاصِرَ خَلَقَهَا اَللَّهُ فَكَانَ لَهَا اَلْأَثَرُ اَلْأَكْبَرُ عَلَى حَيَاتِنَا اَلْبَسِيطَةِ مِثْلَ اَلنَّارِ واَلسَّمَاءِ واَلْقَمَرِ واَلشَّمْسِ واَلْمَاءِ واَلرِّيحِ واَلْمَوْتِ وَالْعِشْقِ، فَوَظَّفَتْ اَلْأَسَاطِيرُ هَذِهِ اَلْمُفْرَدَاتِ وَمَثِيلَاتِهَا، فَكَانَتْ لَهَا دَلَالَاتُهَا وَرُمُوزُهَا اَلْبَيِّنَةُ وَالْخَفِيَّةُ لِتُبْرِزَ أُسْطُورَةَ اَلْمَاءِ اَلَّتِي يُوَظِّفُهَا جُلُّ اَلشُّعَرَاءِ فِي هَمْسِهِمْ لِلْقَلَمِ. فَكَأَنَّهُمْ عَلَى مَوْعِدٍ قَائِمٍ مَعَ (آلِهَةِ المَاءِ) اَلَّتِي تَلُوذُ بِأَفْنَانِ اَلْهَوَى أَيْنَمَا تَتّجِهُ. فَتَرَاهَا قَابِعَةً فِي جَوْفِ كُفُوفِهِمْ تَهْمِسُ:

أَنَا هُنَا خُلِقْتُ مِنْ مَاءِ وَصَدَفٍ " مَعْرُوكَةً " بِصَلْصَالِ اَلْغُيُومِ.

وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ تَعُودُ مِنْ آخِرٍ اَلْأُسْطُورَةِ لِتَلْتَقِينَا عَلَى عَتَبَاتِ اَلشَّوْقِ، تُثِيرُ اَلْعَوَاصِفَ وَالشُّمُــوسَ وَالْأَلْوَانَ اَلْمُتَبَقِّيَةَ عِنْدَ اَلسَّاحِلِ اَلْقَدِيمِ…

اَلْوَقْتُ هُنَاكَ يَرْقُصُ عَلَى أَصَابِعِ اَلْمَوْجِ اَلَّتِي تَحْتَضِنُ اَلْحَنِينَ وَتَقُولُ: لَا تَتَأَخَّرْ حَبِيبِي رُبَّمَا يَغْمُرُنِي اَلطُّوفَانُ…

وَنَحْنُ يَا صَدِيقِي، فِي دَهْشَةٍ مِنْ أَمْرِنَا نَتَسَاءَلُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ مَاذَا يَلْزَمُنَا اَلْآنَ؟ أَمَلٌ؟ اِسْتِقْرَارٌ؟ فَرَحٌ؟ لَعَلَّنَا نَقِفُ عَلَى مَا وَرَاءِ هَذِهِ اَلْحَاجَاتِ اَلْمُلِحَّةِ، حِينَ تَضِجُّ تِلْكَ اَلْآلِهَةُ بِالْوَجَعِ.

إِذَنْ، هِيَ اَلْحُرِّيَّةُ اَلَّتِي يَصْبُو إلَيْهَا كُلُّ كَاتِبٍ، وَنَفْهَمُ هَذَا مِنْ إِشَارَتِهِ إِلَى البَحْرِ، وَاَلشَّجَرِ وَالْعَصَافِيرِ، إِلَى طَرِيقٍ مُمْتَدَّةٍ جَمَالًا، نُقِيمُ فَوْقَهَا أَعْرَاسًا لِلْغَيْمَاتِ الشَّارِدَةِ.

هَلْ هَذَا كُلُّ مَا يَصْبُو إِلَيْهِ اَلشَّاعِرُ؟ إِنَّهُ اَلْوَجْهُ اَلسَّاكِنُ فِي ذَاتِهِ، وَجْهٌ يَنْتَظِرُهُ فِي تَمَوُّجَاتِ اَلضَّوْءِ وَفِي عُزْلَةِ اَلْأَشْيَاءِ.

هَلْ هُوَ اَلْحُلْمُ؟ أَمْ اَلانْتِظَارُ؟ أُمْ تَعْوِيذَةُ اَلْعِشْقِ اَلْمُكَبَّلِ دَائِمًا بِالْخَوْفِ؟

اَلْخَوْفُ اَلسَّاكِنُ فِي قُلُوبٍ عَاشِقَةٍ، خَوْفُ اَلْهَجْرِ وَالرَّحِيلِ غَيْرَ أَنَّهُ عَادَةً مَا يَعُودُ اَلْكَاتِبُ، مِنْ كُلِّ هَذِهِ اَلتَّخَوُّفَاتِ وَهَذِهِ اَلْحَيْرَةِ بِأَمَلٍ يُدَاعِبُ رُوحَهُ اَلْمُتَعَطِّشَةَ إِلَى الجَمَالِ يَزْرَعُهُ اَلطَّرَفُ اَلْآخَرُ عَلَى شَرَاشِفِ اَلْقَصِيدَةِ.

وَأَنَا اَلْمَحُكَ فِي أَوْجِ اَلْأُسْطُورَةِ، تَفُكُّ ضَفَائِرَ "الجازية" اَلْفَاتِنَةِ حِينَ وَصَلَتْ تَحْمِلُ فِي عَيْنَيْهَا اَلنَّاعِسَتَيْنِ تِلْكَ اَلْبِحَارَ اَلَّتِي لَمْ تَرَهَا، كُنْتَ تُدْرِكُ حِينَهَا، أَنَّكَ نَسِيتَ اَلرَّشَادَ مُجْتَازًا اَلْأَهْوَالَ تَهَبُ أَحْلَامَكَ لِسَوَادِ شَعْرِهَـا اَلْغَجَـرِيِّ، وَتَسْكُنُ مِائَةَ عَامٍ فِي اَلْعِشْقِ اَلْمُكَبَّلِ بِالضَّفِيرَةِ اَلطَّوِيلَـةِ كَلَيْلِ اَلصَّحْرَاءِ وَأَنْتَ اَلَّذِي لَفَّتْكَ مَوَاوِيلُ اَلْقَوَافِلِ اَلرَّاحِلَةِ نَحْوَ أَرَاضِي اَلْمَاءِ تَقِيسُ تِلْكَ اَلْمَسَافَاتِ وَتَنْتَظِرُ هُنَاكَ مُرُورَ الرَّكْبِ، وَالْجَازِيَةُ اَلْحَسْنَاءُ مَا زَالَتْ تَجْمَعُ نَظَرَاتِكَ اَلْوَلْهَى وَتَحْتَفِظُ بِقَصَائِدِكَ المُشْتَعِلَةِ وَجْدًا وَهُيَامًا بَيْنَ طَيَّاتِ ثَوْبِهَا اَلْمُطَرَّزِ بِالْعَقِيقِ وَالْمَرْجَانِ وَتَعَلِّقُ فِي أَقْرَاطِهَا اَلْفِضِّيَّةِ هَمْسَكَ اَلنَّاعِمَ:

هِيَ الحُسنُ في سِحرِها العَجَبُ

فَلَوْ بَسَمَتْ يُجْرَحُ العـنبُ

ولو حَادثـتْها الفيافي بصوتٍ

جَرى سَلسَبِيلٌ كَما الخببُ

إذا ما مَشَتْ نَوّرَ الغُصْنُ شَوْقًا

وأُحْرِقَ دَرْبِي هِيَ اللَّـهَبُ

يَا لَهُ مِنْ هَمْسٍ اَلَّذِي سَكَنَهَا وَأَسْكَنَهَا فِرَادِيسَ اَلْعُشَّاقِ!! وَقَدْ كَسَاهَا اَلْخَجَلُ فَأَسْبَلَتْ جَفْنَيْهَا حَيَاءً تُزِيحُ عَنْ جَبِينِهَا قِطْعَةً حَرِيرِيَّةً مِنْ شَعْرِهَا اَلْأُسْطُورِيِّ وَقَدْ فَاحَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ اَلْأَعْشَابِ اَلْجَبَلِيَّةِ وَالزُّيُوتِ اَلنَّادِرَةِ، تِلْكَ اَلْخَلِيطَةُ اَلْعَجِيبَةُ اَلَّتِي قَالُوا إِّنَّهَا أَطَالَتْ جَدَائِلَهَا فَعَانَقَتْ لَيْلَ اَلصَّحْرَاءِ وَتَجَمَّلَتْ بِهِ اَلْيَافِعَاتُ فِي أَحْلَامِهِنَّ اَلْوَرْدِيَّةِ . . .

اِنْهَضْ فَقْد دَقَّتْ اَلشُّمُوسُ عُيُونَ اَلرُّعَاةِ وَاشْرَأَبَّتْ نَحْوَ قَطِيعِ اَلْأَغْنَامِ تَزِيدُ مِنْ لَمَعَانِ وَبَرِ اَلْمَاعِزِ اَلْغَزَالِيِّ النَّاعِمِ...

يَا صَدِيقِي، قَدْ رَحَلَتْ اَلْجَازِيَةُ اَلْفَاتِنَةُ وَأَسْدَلَ اَلْفَرَاغُ جَنَاحَيْهِ اَلثَّقِيلَيْنِ عَلَى تِلْكَ المَرَاعِي، فَحَزِنَتْ الأَعْشَابُ وَالأَطْوَادُ وَظَلَّ اَلنَّخِيلُ وَحِيدًا يَنْتَحِـبُ فِي صَمْتٍ وَخُشُوعٍ.

صَدِيقَتُكَ

 ..................

لا تلمني

بقلم : نجاة الورغي

لا تلمني إن أخذت الشمس إلفا

ولففت البدر لفا

وتلحفت بنورالكون لحفا

*

لا تلمني إن جعلت الطائر الشحرور

ضيفا

ولبست السحب والأمطار شالا

تلك أحلامي ثمالا تتسابق تتعالا

نحو مدارات الرؤى

*

لا تلمني إن كسرت أغلال الركود

وصفقت الباب في وجه الجحود

وزرعت الحب بذرا كي يجود

بالتآخي، بالخلود

*

لا تلمني إن تساميت بفني

إن سخرت من عشيقات التجني

وأميرات الرياء...

*

إنني يا لائمي أخت الصفاء

وأنا أخت النجوم هاهنا

نرعى بدرا باسما فوق الورى

بدر تم يتهادى والعلا

فاندهش إن شئت

أو قل ما تشاء

إذ أنا بنت السماء!

*

داء الهوى

قالت

أحقّا صرفك عشقي عن النّساء

وهل اغتناجي أغناك عن الغواني

قلت:

لمّا عشقتك والفؤاد إليك فاء

من أوّل نظرة ببعض الثّواني

*

أرديتني أسيرا مالي منك وجاء

أردّد اسمك في لحن الأغاني

*

أخلصتك حبّا وإن عزّ اللّقاء

ما تحوّلت وإن كنت أعاني

*

حبيبتي أنت ملكة وهنّ الإماء

أتوق إليك والوجد كواني

*

يا بؤبؤ العين دونك النساء

ضنّك في البوح قرحا ابكاني

*

يا جنّة ملؤها الجمال والنقاء

نذرت لك مهجتي ونبع حناني

*

بفخامة الحوطة حول الضّياء

ذوت من الجوى روحي والنوم جفاني

*

طاب لي المقام ومعك رمت البقاء

فهل لي وطر فيك يجلي أحزاني

*

إنّما الكتمان بألم زؤام الدّاء

جودي يا خير من بالوصل داواني

*

انت ملهمتي وحبيبتي الغنجاء

يا سرّ سحر الوجود يا قمر زماني

*

جدت لك غزلا من حروف السّنا

كيف لا وأنت الحسناء أحصن الحسان

***

ميلاد محمود ميلاد(تونس)

...................

جياد النور

لو يصير المرج أخضر

لو يصير الركب أكبر

يستح الاعداء دوما

من صهيل من عويل

من رجا دهر تعثّر

لا تعودوا للمذكّر

لا تخطوا الرقم دفتر

فيه عنوان تنكر

عهدهم يحتاج محضر

دينهم نقْض تبخّر....

إنْ هُمُ جادت مداهم

حطمت قلبا تعطر

والأماني كالهشيم

والمعاني تتبخر

صيّروا الأحلام طين

عطّلوا فكر اليقين

طفلنا اليوم تفتّر

يا حماة العرض هبوا

ما لنا سقف ليستر

من فلسطين نجوع

نذرف الدمع ونستر

من فلسطين نموت

ندفن الاشلاء نُقبر

رأس طفل قلب أمٍّ

بعثرت كلسا تحجّر

والدّماء من عجين

تجري من عين وتقطر

والأيادي من لعين

لطّخت وجها كمقمر

دمرت في الأرض سلما

قطعت وصلا تجسّر

ضيقت أفْقِ الحنين

جمّدت نبضا تحضّر

أرسلت عرق الجبين

مزقت أرضا ومحجر

عاهدت نور اليقين

أخلفت من أرضي منصر

خاب في التّدبير جيل

مات من حقد تنكر

مات من حقد تنكّر

***

الشاعرة حياة عبد الخالق

.........................

هذه الأرض تلعنكم

عودو من حيث أتيتم

أو موتوا بغزة أن غزة إن شئتم

فأديم الأرض يلعنكم

أحياء كنتم أو موتى

*

الطفل بغزة ينذركم

قسما بالأقصى سنخرجكم

سنظل نغني القدس لنا

و تعود الأرض بحوزتنا

النصر النصر و إما فلا

لا سلاما كان و لا كنتم

*

الطفل يعانق لعبته

يروي أسراره للقمر

و يصون عرين عروبته

يبني أمجادا بالحجر

و يمد ذراعه مبتهجا

أماه خطي هنا اسمي

إن مت شهيدا ذا لقبي

تجدين الوشم على جسدي

*

الطفل رماد عروبتنا

في جوفه نار تتقد

ستثور الأرض لنصرتنا

و يعود الطفل و يتحد

ليخط بنود وصيته

قولو لأبي أن لا يبكي

من مات شهيدا طوبى له

من أجل القدس فلا تبك

*

عودو من حيث أتيتم

أو موتوا بغزة أن غزة إن شئتم

فأديم الأرض يلعنكم

أحياء كنتم أو موتى

***

شكري الغضاب

......................

حديث الروح

جلست أنا..

و طيفك القريب البعيد

احتسي قهوتي

المعطرة بالشوق

واعتصرت

دمع الحبر الورديِّ

على ضفاف الحنين

فتناثرت صفحات

الذكريات

مع خفقان القلب العليل

جلست احتسي

عصير كل قصائد

العشق الأزليِّ

حملت الرياح الروح اليك

ليتك تقرا نبض الشوق

بعيون قلبك

فقد امتلأت اجزاءي

بتعويذة الوجد

*

أجابت روحه...

يااال تعويذة الوجد

بتبتّل ترتلها

راهبة الحب

من أعماق القلب

بشفيف اللبّ

بالفؤاد الصبّ

فاقت مدايات الودّ

*

حبيتي...

يا ناسكة العشق...

يا هالة القمر بالغسق

يا وضّاءة الجبين

بجمال الشفق

يا عاشقة الياسمين

يا عالما غروسه الورد

*

عشقت فيك...

الحِلم والحُلم...

النبض وبنات القلم

ورقي الروح بالخضم

عشقت بعشقك القهوة

بلون ومذاق العتم

يستهويني شعرك فأردّ

*

اما نظرت...

طويلا في عيوني

حيث انت تحت جفوني

كما سكنت الشغاف

بالروح بالأوصاف

وانا الولهان الهاف

اما وجدتني لك في الهزل والجدّ

*

يا مناي انت...

أريدك بكلّك كما انت...

أصلّيك بجهري وصمتي

أصونك ولا اخونك

دهري حبيبتي انت

يقتلني وجدي إذا غبت

الثواني أعواما في عدّي

***

هالة بنت خفيز الدامرجي

قلة من الشعراء هم الذين نالوا المكانة الأدبية المرموقة الى جانب المكانة الروحية التي تصل حد التقديس، وقد يكون الشاعر حافظ الشيرازي(1315 ـ 1390 م) من بين الشعراء الذين نالوا المنزلتين عند الشعب الايراني، فقد حظي هذا الشاعر باحترام كبير ليس لدى السلاطين الذين عاصر حكمهم فحسب انما لدى الشعب ايضا، فهو يمثل " صوت الغيب " عند الايرانيين ولا يكاد يخلو بيت إيراني من ديوان حافظ، ذلك ان الفرد الايراني عندما يشعر بالقلق فما عليه الا ان يفتح ديوان " الشيرازي " عشوائيا ليجد الاجابة الشافية، فالاعتقاد السائد انه معهم في الشدائد ومن كلماته يستمدون القوة والتغلب على الحزن والألم ويمنحهم ايضا العزيمة والاصرار على السعي والمواجهة فهو يحثهم على الصبر وتحمل المشاق في مسيرة الوصول الى الهدف (ان كان عليك ان تعبر الصحراء لتصل الى هدفك، إمض دون ان تلق بالاً للأشواك الجارحة) كما ان الايرانيين ولشدة ايمانهم بحكمته وصواب رؤيته فأنهم يستخيرون بأشعاره حيث يجلس العديد من الايرانيين عند باب مقبرته وبأيديهم ديوان الشيرازي يفتحونه لمن يريد ان يقرأ طالعه او يريد الاقدام على أمر مصيري وذلك مقابل مبلغ بسيط من المال .

زرت ضريح الشاعر حافظ الشيرازي في مدينة شيراز الايرانية فوجدته تحفة فنية ومعمارية نادرة في الهندسة وصرحا شامخا بالجمال والعظمة وسط  طبيعة ساحرة تحف ضريحه الورود من كل جانب وعلى لوح ضريحه المصنوع من المرمر نقشت إحدى قصائده، ومشاركة لهمه الروحي (كم أشتهي الحديث معك عن حال قلبي) جلست بأجلال  حيث يرقد وقد غشيني الخجل من انني لم اتمكن من تحقيق رغبته (لا تجلس بجوار قبري دون خمر أو موسيقى، فربما أنهض من قبري راقصاً، عندما استشعر شذا وجودك) عندها شعرت بصدى قصائده يتسلل الى أعماق الروح:

 إن عمرنا قصير، ولكن طالما أننا قد نفوز

بالمجد وهو الحب، فلا تحتقر

الاصغاء إلى توسلات القلب

فهو يؤمن أن الحب، عذرياً كان أو عملياً، لا يستغنى عنه الشعر:

أيها الحب اجمع بيننا

فما حاجتي بعد ذلك إلى الجنة،

إن الذي خلق غدائر شعرك من ذهب وفضة،

وجمع بين الوردة الحمراء والوردة البيضاء

وأسلم إليهما خدك في شهر العسل

أليس بقادر على أن يمنحني الصبر، وأنا ابنه

اشعار حافظ الشيرازي تعكس حكمة عميقة وهي جزء من الحكمة الروحية للشرق وتتردد فيها مضامين تدين مظاهر النفاق الديني والاجتماعي كما يرفض بقوة واقع النفاق الذي عم عصره وما يميزه عن مجموعة عظماء الشعر الفارسي الخالدين، جلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي وفريد الدين العطار ونظامي الكنجوي وأبو قاسم الفردوسي ان ديوانه قد ترجم إلى سبع وعشرين لغة حية، كما ان الشاعر الالماني " غوته " هام عشقا بأشعار حافظ، ونسج معه علاقة روحية خاصة وفي النهاية كتب ديوانا شعريا أهداه لحافظ الشيرازي تحت عنوان "الديوان الشرقي للشاعر الغربي ويعتبر شعره إلى جانب شعر جلال الدين الرومي  من المواد الأساسية للمغنين في إيران فهم يسلطنون على كلماته القائلة .

ألا يا أيها الساقي أدر كأسا وناولها

فأن الكأس للملدوغ بالعشق هي الراقي

والذي لفت نظري في زيارتي لضريحه ان هناك من يعتمد في دخله اليومي على بيع "فال حافظ" للمارة وهي عبارة عن مغلفات يحوي كل واحد منها على مقطع من شعر حافظ مع شرح ييسر على القارئ فهم المعنى، فوفقا لتقاليد قديمة فإن الإيرانيين في الأعياد الدينية وغيرها يأخذون الطالع من الديوان.

***

ثامر الحاج امين

عندما نقرأ عن شغف الأقدمين، بجمع الكتب العربيَّة الإسلاميَّة، نعني المخطوطات، فكان ظهور آلة الطّباعة حداً بين المخطوط والمطبوع، وذلك خلال القرنين السَّادس عشر والسَّابع عشر. لذا، لم يسترعِ ما خُط بعدهما الاهتمام، كأثر مخطوط، وإنْ ظهرت المخطوطات القديمة مطبوعات، فتبقى أصولها بمنزلة الآثار.

كانت أسواق الكتب تبيع المخطوط، ودكاكينها تُعرف بالوراقين (التَّوحيدي، الإمتاع والمؤانسة). صُنفت كتب عديدة، منها موسوعات في الوراقة والوراقين، نفعت المهتمين بعالم المخطوطات، جمعت فيها تراجم المئات مِن باعة الكتب ونُساخها، بينهم وراقات ونساخات نساء، ومؤلفون بمنزلة أبي حيان التّوحيديّ(ت: 414هج)، الذي اضطر إلى النسخ لوزراء، أقل منه مرتبةً، لذا صنف فيهم «ذم الوزيرين».

حضرتُ معرض المخطوطات السُّعوديّ، الذي أقامته وزارة الثّقافة السُّعوديَّة مؤخراً، حيث محافظة «الدِّرعيَّة»، ووجدته مناسبة لمعرفة النَّفائس مِن الخزائن الداخليَّة، والمعروض كان نماذجَ فقط (2000 مخطوط)، في مختلف المعارف: الفقه، والطِّب، والتاريخ، والجغرافيا، والمنطق والفلسفة، كذلك كان المعرض مناسبة لقيام ورش عِلم حفظ المخطوطات، وتعليم فن قراءة الخطوط القديمة، في زمن تراجع فيه القرطاس والقلم.

أقيمت ندوات، تصدرها محققو ومقتنو المخطوطات، عرب وسعوديون معروفون، كان الأبرز المحقق البغداديّ بشار عواد معروف، الذي حقق نحو خمسمائة مجلد، وأخيراً أنجز تحقيق تاريخ الطَّبريّ (عشرون مجلداً)، سيصدر قريباً عن «دارة الملك عبد العزيز» بالرِّياض، وغيره مِن أمهات التّاريخ، وتراجم الرّجال، ومِن المحققين تُعرف النَّفائس، فقبل مؤلف الكتاب اعرف مُحققه.

عندما نقول المفقود أكثر مِن الموجود، نحسب الدَّمار، الذي أصاب خزائن المخطوطات، عند اجتياح المغول لبغداد(656هج)، مع تحفظنا على رواية ابن خلدون(ت: 808هج) أنّ الكُتب كافة ألقيت في دجلة(ديوان المبتدأ والخبر)، وابن تغري(ت: 867هج) قال: حرقوا الكتب، وجعلوها آجراً لجسر عبر النّهر(النّجوم الزَّاهرة). كيف تكون القراطيس آجراً؟ وأخذ عنهما المتأخرون وأضافوا: جرى دجلة بالأسود والأحمر(الحبر والدَّم).

إلا أنَّ المرجح، خلال الحصار: «كان أهل الحلة والكوفة والسّيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة، فانتفع النّاس بذلك، وكانوا يبتاعون بأثمانها الكُتب النّفيسة»(الحوادث، تحقيق بشار معروف). نعم الكتب لا تعني المغول، ولا أي غزاة، وقد جربنا غزاةً(متحضرين)، فماذا فعلوا(2003)؟ فما بالك بالمغول(1258م)، لكننا نتحدث عن صدق الرواية أو تلفيقها.

تحدث أُسامة بن منقذ(ت: 584هج) عن ضياع أربعة آلاف مجلد له، باستحواذ قراصنة عليها وإتلافها(الاعتبار)، وأنَّ ولده مُرهْف(ت: 613هج) كان جامعاً للكتب، ولمحنةٍ اضطر إلى بيع الآلاف منها، وياقوت الحموي(ت: 626هج) اشترى كتباً منه(معجم الأدباء)، وهذا وغيره يُعد تراثاً مفقوداً.

أكثر المخطوطات المفقودة، ما يُعرف بـ «الأمهات» - بخطوط المؤلفين - فصار ضياعها ذريعة لمنكري التاريخ، مع أنَّ أغلب المؤلفين تُنسخ كتبهم، ومِن عظائم الكتب وصلنا مدوّناً بطريقة «الأمالي» - إملاء المؤلف - مع عدم وجود ثقافة حفظ الأصول، لكن العديد مِن الكُتب نُسخ في عصر مؤلفيها، ومنها مقروء عليهم، حتّى في العصر الحديث، مَن لا يحب خط يده لرداءته، مثلما فعل معروف الرُّصافي(ت: 1945) بكتبه، مع صديقه صاحب الخط الجميل، الوزير مصطفى عليّ(ت: 1980).

مَن يطلع على كتب الفهارس، مثل «الفهرست» للنّديم الوراق(ت: 388هج)، سيجد ثروة مِن الكتب ليس لنا إلا عناوينها، وهناك كتب أنقذها الخصوم، من الفقد، عندما ردوا عليها، وما اقتُبس مِن المفقودات، وحفظته بطون الكتب.

تستحق المخطوطات العناية، بمعارض سنوية، مستقلة، أو ضمن معارض الكتب، نقول هذا لمَن يُقدر أهميتها، وأهمية التّاريخ، لا مَن ينكره بعذر عدم وجود المخطوطات الأُمهات. أقول: إذا كتب شمس الدّين السَّخاويّ(ت: 902هج) «الإعلان بالتّوبيخ لمَن ذمَ التّاريخ»، يكون «الإعلان بالتّوبيخ لمن أنكر التّاريخ»، فالآلاف المؤلفة مِن المخطوطات، في مختلف المعارف، لم تُكتب مسرحياتٍ ودرامياتٍ، إنما وقائع عاشها النّاس، دُونت على الرّقِ والورق.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

لعلم من لا يعلم وهو يتحدث عن الشعر... إن (الهايكو) ليس شعراً إنما هو صناعة يابانية ذات مدلول رياضي ذهني... وإن الشعر (النثري) هو شعر متعدد القوافي وله احياناً اكثر من وزن، وموسيقاه لا خلاف حولها... وقصيدة النثر ليست - تافهة -، وإن هذا التوصيف لا يليق بالنشر.. وهنا، لست ممن يدافع عن هذا التحديث في الشعر فهو كفيل في أن يثبت قدرته على الثبات بإبداعاته المتميزة.. التطور والحداثة لا تلغيان جوهر الشعر ولا جماليته ولا حتى موسيقاه، إنما تشذبانه من الاضطراب ذي الطابع الشخصاني الذي لم يفهمه البعض لكثافته ورمزيته... عليتا ان نقرا الكثير لكي نتعلم اكثر ومن ثم نتمكن من إبداء الرأي حتى لا نخرج بالتالي بخفي حنين !!

الشعر العمودي ثابت لا غبار عليه، وهو يتربع عبر التاريخ مكانته القيمية ومنذ ما قبل المعلقات.. وأن الحداثة والتحديث لا يعني، كما أسلفنا مراراً، التقليل من قامة الشعر العمودي، إنما رفع الشوائب المتراكمات التي يتركها البعض من الذين يكتبون الشعر على سجيتهم دونما إمعان بمقومات الشعر العمودي وشروطه، ولا يقصد من ذلك الإساءة إنما حماية النص من المدخلات والشوائب عن طريق تفكيك الأنماط والقوالب الشخصانية التي تلبست قامات بعض الشعراء، وهو عمل بارع يتجلى في قوة النص وجماليته وإيقاعه الساحر وموسيقاه وإبداعه في غائيته.

***

د. جودت صالح

29/12/2024

 

  يا صديقي ورَفيقَ الكلِمَةِ الرصِينَةِ،

اِعلَم أنَّ الكلِمَةَ، في جَوْهَرِها، هي المِيثاقُ الأوَّلُ بَينَ الإنسانِ والعَالَمِ، وهي القَبَسُ الذي أضاءَ دُروبَ المَعرِفَةِ مُنذُ الأَزَلِ. لقد كانت الكلِمَةُ وسيلَةَ الإنسانِ لفَهمِ الكَونِ، وحِوارِه معَ ذاتِهِ، وبِناءِ الجُسورِ بَينَ العُقولِ والقُلوبِ. ولكن، ماذا يَحدُثُ حينَ تَفقِدُ الكلِمَةُ هَيبتَها؟ حينَ تَتحَوَّلُ من أداةِ بِناءٍ إلى مِعولِ هَدمٍ؟

إنَّ فُقدانَ الكلِمَةِ لِهَيبتِها ليسَ مُجرَّدَ تَراجُعٍ في قِيمَتِها البَلاغِيَّةِ أو تَأثيرِها التَّعبِيرِيِّ، بل هوَ انهيارٌ في مَنظومَةِ القِيمِ التي تَدعَمُها. فحينَ تُستَبدَلُ الكلِمَةُ الصَّادقَةُ بِالنِّفاقِ، وتُستَغلُّ لإضفاءِ الشَّرعِيَّةِ على الجَهلِ والخُرافَةِ، فإنَّ ذلكَ يَعدُّ إعلانًا صَريحًا عن انحِدارِ العَقلِ الجَمعِيِّ للمُجتَمَعِ.

إنَّ هَيبةَ الكلِمَةِ تُستَمَدُّ من احترامِ العَقلِ الذي يُنتِجُها والعَقلِ الذي يَستَقبِلُها. ولكن، في مُجتَمَعَاتِنا العَرَبِيَّةِ، كثيرًا ما نَرى الكلِمَةَ تُستَباحُ لأغراضٍ شَخصِيَّةٍ أو طائِفِيَّةٍ أو سِياسِيَّةٍ، فتُصبِحُ أداةً لِلتلاعُبِ بدلاً مِن أن تَكونَ مَنارَةً للهِدايَةِ. الكلِمَةُ التي كانت تُلقِي الضَّوءَ على الحَقائِقِ، باتَت تُستخدَمُ لِتشويهِها. الكلِمَةُ التي كانت تُحارِبُ الظَّلامَ، أصبحَت تُزيِّفُهُ في قَوالِبَ بَراقةٍ مِنَ الوَهمِ.

الكلِمَةُ والخُرافَةُ: تَصادُمٌ بينَ العَقلِ والفَوضَى

اِعلَم يا صديقي،

حينَ تُصبِحُ الكلِمَةُ وسيلَةً لإعلاءِ شأنِ الخُرافَةِ، فإنَّها تَخرُجُ مِن دائرةِ العَقلِ إلى فَضاءِ الفَوضَى. تُستَخدَمُ لِتزييفِ الوَعيِ، ولِلتلاعُبِ بِمشاعِرِ العامَّةِ. كم مِن كَلمَةٍ زُرِعَت في أرضٍ خَصِبَةٍ بالجَهلِ، فأثمَرَت أوهامًا دَفَعَتِ المُجتَمَعاتِ إلى التَّقهقُرِ؟ وكم مِن كَلمَةٍ خاطِئَةٍ أصبحَت حَجرَ الأساسِ لأساطيرَ بالِيَةٍ، نُدافِعُ عَنها كأنَّها مُسلَّماتٌ؟

إنَّ احترامَ الكلِمَةِ يَتطَلَّبُ أن تَكونَ مَحكومَةً بِمَنطِقِ العَقلِ والعِلمِ. لكنَّ الخُرافَةَ تَزدهِرُ عندما تُستخدَمُ الكلِمَةُ كأداةٍ لِتغييِبِ التَّفكيرِ النَّقديِّ. فبدلاً مِن أن تُثيرَ التَّساؤُلاتِ، تُغلِقُ الأبوابَ أمامَ أيِّ حِوارٍ. وبدلاً مِن أن تَكونَ مِفتاحًا للمَعرِفَةِ، تُصبِحُ قَيدًا يُعيقُ الحُرِّيَّةَ الفِكرِيَّةَ.

الكلِمَةُ والجَهلُ: تَحالُفٌ ضدَّ النَّهضَةِ

الجَهلُ ليسَ مُجرَّدَ غِيابٍ للمَعرِفَةِ، بل هو حالةٌ نَفسِيَّةٌ واجتِماعِيَّةٌ تَجعَلُ الإنسانَ يَقبَلُ بِما يُلقَى عليهِ دونَ تَمحيصٍ. حينَ يَتحالَفُ الجَهلُ مع الكلِمَةِ، تُصبِحُ الأخيرةُ عَدوًا للإنسانِ.

فالجَهلُ يُضفِي عليها سُلطةً زائِفَةً، ويَمنَحُها قُوَّةً خارِقَةً تُؤثِّرُ في عُقولِ العامَّةِ. إنَّها كَلِماتٌ بِلا جَوهَرٍ، أشبَهُ بِفقاعاتِ الهَواءِ التي تَلمَعُ في الضَّوءِ، لكنها تَتلاشَى عندَ أوَّلِ لمسةٍ.

في ظِلِّ هذا التَّحالُفِ، تُصبِحُ الكلِمَةُ أداةً لِلإقصاءِ بدلاً مِنَ الشُّمولِيَّةِ، وأداةً لِلتَّفرِقَةِ بدلاً مِنَ الوَحدةِ. كم مِن كَلِمَةٍ أُطلِقَت لِتُشعِلَ الفِتنَ، وتُقسِّمَ المُجتَمَعاتِ، وتَزرَعَ الكراهِيَةَ؟ وكم مِن كَلِمَةٍ استُخدِمَت لِتَبريرِ الظُّلمِ والاستِبدادِ؟

إنَّ استِعادَةَ هَيبةِ الكلِمَةِ ليست مُجرَّدَ مَسألَةٍ لُغَوِيَّةٍ أو أَدَبِيَّةٍ، بل هي مَشروعٌ فِكرِيٌّ وأَخلاقِيٌّ وإنسانِيٌّ. إنَّها تَتطَلَّبُ إعادةَ بِنَاءِ العَلاقةِ بَينَ الكلِمَةِ والعَقلِ، وبَينَ الكلِمَةِ والحَقِيقَةِ. الكلِمَةُ الصَّادِقَةُ لا تُولَدُ إلَّا في بِيئَةٍ تَحترِمُ الفِكرَ الحُرَّ، وتُشَجِّعُ التَّساؤُلَ، وتُقدِّسُ المَعرِفَةَ.

علَينا أن نُعيدَ للكلِمَةِ مَعناهَا الحَقِيقِيَّ: أن تَكونَ صَوتًا لِلحَقِيقَةِ، وسِلاحًا في وَجهِ الظُّلمِ، وجِسرًا بَينَ العُقولِ. علَينا أن نُعلِّمَ الأَجيالَ أنَّ الكلِمَةَ ليست مُجرَّدَ أداةِ تَواصُلٍ، بل هي مَسؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ. مَسؤُولِيَّةٌ تَحترِمُ العَقلَ الذي يُبدِعُها، والعَقلَ الذي يَتلقَّاها.

يا صديقي،

إنَّ فُقدانَ الكلِمَةِ لِهَيبتِها هو انعِكاسٌ لأَزمَةٍ أَعمَقَ في مُجتَمَعاتِنا: أَزمَةُ ثِقَةٍ بِالحَقِيقَةِ، وأَزمَةُ احتِرامٍ لِلعَقلِ، وأَزمَةُ وَعْيٍ بِالمَسؤُولِيَّةِ. ولن نَستَطيعَ استِعادَةَ هَيبةِ الكلِمَةِ إلَّا إذا واجَهْنا هذهِ الأَزَماتِ بِجُرأةٍ وحِكمَةٍ.

 أوَّاهُ مِن جَهلٍ يُقيِّدُ فِكرَةً

ويُشيِّدُ الأَوهامَ فوقَ مَعابِدِه 

والفِكرُ إنْ لَم يُوقِظِ القَلبَ النَّدِي

ظَلَّتْ ظِلالُ الجَهلِ فوقَ مَوائِدِه

  وختامًا، الكلِمَةُ هي جَوهرُ الإنسانِ. فهي ما يُميِّزُهُ عن باقي الكائِناتِ، وهي ما يُخلِّدُ ذِكرَاهُ. فإذا فَقدَتِ الكلِمَةُ هَيبتَها، فَقدَ الإنسانُ جُزءًا مِن إنسانِيَّتِهِ. فَلنُعِدْ لِلكلِمَةِ هَيبتَها، لِنُعيدَ لِأنفُسِنا كَرامَتَنا، ولِنُعيدَ لِمُجتَمَعاتِنا أَمَلَها.

ودُمتَ في أمانٍ وسلامٍ.

***

بقلم: د. علي الطائي

5-1-2025

إلى فارسِ الكلمةِ وسليلِ الحروفِ، يا مَن تسكنُ الهيبةُ في مُحيّاكَ، وتنبضُ قُدسيّةُ الكلمةِ بينَ يديكَ ورؤاك، أكتُبُ إليكَ رسالتي هذهِ وكأنني أنقشُها على صفحاتِ الروحِ، لا الورقِ، وأغزلُها من خيوطِ الفكرِ لا الحبرِ. هي رسالةٌ تُسافِرُ عبرَ أفقِ المعاني، وترسو على شواطئِ الحِكمةِ، عسى أن تجِدَ في مرافئِ قلبِكَ لها مقامًا، وفي رِحابِ عقلِكَ لها مُتكأً.

أما بعد،

الكلمةُ، يا صديقي، ليستْ مجرّدَ نُطقٍ يتردّدُ بينَ الشِّفاهِ، ولا حروفًا تصطفُّ في سطورٍ بلا غايةٍ. الكلمةُ، كما أُؤمنُ، هي حياةٌ أُخرى تعيشُها العقولُ، هي مفتاحُ الأسرارِ، وهي الرّمزُ الذي يُحيلُ الجمادَ إلى نبضٍ، ويُحوِّلُ الصّمتَ إلى لُغةٍ تتحدّثُ بلغةِ القلبِ والعقلِ معًا.

أليستِ الكلمةُ هي التي خُلِقَ بها الكونُ؟ ألمْ تكنْ "كُنْ" هي أُولى الكلماتِ، وأبلغُ الأفعالِ، التي أعطتِ الوجودَ معناهُ، والعَدَمَ حدودَهُ؟ تلكَ الكلمةُ التي لا تحتاجُ إلى تكلُّفٍ أو تزييفٍ، بل تحمِلُ في ذاتِها قُدسيةَ الوضوحِ وإعجازَ البساطةِ.

يا فارسَ الأدبِ، إنّ الأديبَ هو سيّدُ الكلمةِ، وراعيها، ومهندسُها. هو مَن يغزلُ من خيوطِها نسيجًا يُدفئُ الأرواحَ ويسترُ عُريَ الأفكارِ. الأديبُ لا يكتبُ فقطْ ليملأَ الصفحاتِ، بل ليملأَ الفَراغاتِ في العقولِ والقلوبِ. هو مَن يضعُ الكلمةَ في مكانِها الصحيحِ، ويسند إليها الفعلَ الربيح، كأنّهُ يبني بها جِسرًا بينَ العالمِ الماديِّ والعالمِ الرُّوحيِّ.

إنَّ الكلمةَ، يا صديقي، أشبهُ بسلاحٍ ذي حدّين. هي دواءٌ إذا أحسنّا استخدامَها، وسُمٌّ إذا جهلنا حقيقتَها. إنّها تُحيي وتُميتُ، تبني وتهدمُ. كم مِن كلمةٍ ألقتْ في نفوسِ سامعيها الأملَ، وكم مِن كلمةٍ أُخرى طعنتْ قلبًا لم يكنْ لها عدوًّا. هنا تكمنُ المسؤوليةُ، وهنا يظهرُ الفارقُ بينَ مَن يكتبُ مِن أجلِ المعنى ومَن يكتبُ مِن أجلِ الفراغِ.

أتدري، يا فارسُ، ما يجعلُ للكلمةِ قُدسيةً خاصّةً عندَ الأديبِ؟ إنّها صدقُها. الكلمةُ الصادقةُ لا تحتاجُ إلى زينةٍ، ولا تتعكزُ على تكلُّفٍ. هي كالنجمِ في السماءِ، يُضيءُ بريقُهُ مِن ذاتِهِ، ويهدي التائهينَ في عتمةِ الليلِ ومتاهاته. الكلمةُ الصادقةُ هي التي تخرُجُ مِن القلبِ، فتصلُ إلى القلبِ بلا وسيطٍ. أمّا الكلمةُ المُزيّفةُ، فهي كالسرابِ، تبدو كالماءِ للظمآنِ، لكنّها لا تروي، بل تزيدُهُ عطشًا.

الأديبُ يا صديقي كالعابدِ في محرابِهِ، يقفُ أمامَ الكلمةِ بخشوعٍ، يتأمّلُها، يُعيدُ صياغتَها، يزنُها بموازينِ الحِكمةِ، ويسقيها من ينابيعِ إحساسِهِ، ومن أصيلِ مِراسه. الكلمةُ عندَ الأديبِ ليستْ مجرّدَ وسيلةٍ للتعبيرِ، بل هي غايةٌ في حدِّ ذاتِها، بل ربما ترسمُ حدَّ المصير. إنّها الحياةُ التي يعيشُها، والمِرآةُ التي يرى فيها ذاتَهُ والعالَمَ.

ومن هنا، فإنَّ للكلمةِ مسؤوليةً عظيمةً. فالكلمةُ التي يكتبُها الأديبُ ليستْ ملكَهُ وحدَهُ. إنّها تُسافرُ عبرَ الأزمنةِ، وتُصبحُ جزءًا مِن ذاكرةِ الإنسانيةِ. كمْ مِن كلماتٍ قالَها الحُكماءُ والأدباءُ في الماضي، ولا زلنا نُردّدُها اليومَ، كأنّها قيلتِ الآنَ. هذهِ هي عظمةُ الكلمةِ، وهذهِ هي مسؤوليتُها.

يا فارسُ، احفَظْ قلمَكَ مِن الانجرارِ وراءَ الأهواءِ، ولا تجعلِ الكلمةَ تسقُطُ في مستنقعاتِ الزّيفِ. اجعلْها نورًا يُضيءُ الطريقَ للآخرينَ، لا نارًا تُحرقُهُم. اكتُبْ مِن أجلِ الحقيقةِ، مِن أجلِ الجمالِ، مِن أجلِ الإنسانيةِ. واجعلْ قلمَكَ كالسيفِ في يدِ المُحاربِ، لا يضربُ إلّا دفاعًا عن الحقِّ لا يداهِنُ أو يوارِب، ولا يُرفعُ إلّا مِن أجلِ العدلِ، وفي سبيلِ البذل.

إنّ الكلمةَ، كما أراها، تُشبِهُ العطرَ. العطرُ الصافي يتركُ أثرًا لا يُنسى، كذلكَ الكلمةُ الصافيةُ تُخلّدُ في الأذهانِ والقلوبِ. أمّا الكلمةُ المُزيّفةُ، فلا أثرَ لها، كأنّها غُبارٌ تذرُوهُ الرياحُ. الأديبُ الحقيقيُّ هو مَن يجعلُ كلماتِهِ عطرًا دائمًا، لا يزولُ مع الزمنِ، ولا يبهتُ مع التكرارِ.

ختامًا، يا صديقي، كُنْ للكلمةِ أمينًا، وكُنْ لها راعيًا. لا تكتُبْ إلّا ما يُشرّفُ قلمَكَ، ولا تقُلْ إلّا ما يُعلي قدرَكَ. تذكّرْ أنّ الكلمةَ تبقى بعدَ أن يرحلَ صاحبُها، وأنّها تُخلّدُ في ذاكرةِ التاريخِ، إمّا شاهدًا على عظمةِ قائلِها، أو دليلًا على سقوطِهِ.

والحرفُ إنْ شُحذَ الوفاءُ بجوفهِ=يُحيي القلوبَ وفاؤه، يمحو الألمْ

لا تُرسلِ الألفاظَ زيفًا إنّها=تحيا بصدقٍ أو تموتُ بلا قيمْ

دمتَ للكلمةِ نبضًا، وللأدبِ شعلةً لا تنطفئُ.

صديقُكَ المُخلصُ، عليّ.

***

بقلم: د. علي الطائي

25-12-2024

 

علمتني التجارب ألاَّ أُعير شأنا في ملاقاة بؤر العواصف المتدفقة بلا اتجاه، فالمواقف الرزينة تصنع عودة الرجال. علمتني الحياة أَلاَّ أُحارب الطواحين الهوائية السفلية، لأن الفراغ في الجاذبية يصنع الرفعة والأنفة. علمتني التجارب رأفة منَّا من الضربة القاضية، حتى لا نسقط خصومنا في تجويف المنحدر الفراغ (جُرُف هَار) بلا منتهى.

بالصدق تعلمت الابتعاد عن البوليميك الوبائي، وممانعة التخندق في المواقف المتغيرة، والسفسطة الوبائية بالتحجر والدوغمائية. علمتنا التجارب أن نصفق سبعا للسنابل الحاملات مائة حبة، وهي تتراقص في انحناءة التواضع، وتوزيع التحية بلا تمايزات ولا استثناءات، وبلا امتيازات التموقعات. علمتنا الحياة ألا تنكسر مشاعرنا الذاتية مهما كان الضغط التفجيري، وأن نُمارس تفكير الانزياح عن مَناطقةِ تفكير قطيع العقل الجمعي بُعْدا بحساب زوايا الأضلاع المتقايسة.852 mohsen

تعلمت من أبي الفلاح (رحمه الله)، أن العقل الجمعي دائم التغيير والتغير، ويمثل نصب تذكار الغوغاء في مدينة الملاهي الباذخة. علمتنا الحياة أن الأخلاق ثابتة، والقيم متحولة، فمَّا كان بالأمس القريب مُحرما، بات اليوم بعكس المتناقضات من الحلال المباح، و قد يصبح من الريع المغدق بالمناولة، والتمركز حول الذات النفعية.

تعلمت من هَمِّ الحياة، رمي حروفي وكتاباتي مستقلة وأنيقة،  وأَلاَّ تبحث عن صناع التبعية، والوفاء بالتعيين للمريدين. قد تكون كلماتي تُخلخل التموقعات ورسم الخرائط البديلة، وقد تكون من حكمة الرزانة والوفاء لمنطق الإعتقاد. علمتنا الحياة ألا أعير التمثلات الجمعية شأنا، وأن أُلزم عقلي البحث في جوهر الأحداث الشبيهة والمتناقضة بالتباين، وأَلاَّ أوازي بين التدبير والتسيير والعلاقات الاجتماعية الفُضلى. تعلمت من التجارب، أن الأشكال الأولية للحياة تُستنسخُ من براءة الطفولة غير المنسية، ومن تصحيح أخطاء التصوريين الفوضويين للمعرفة والأفكار والمتناهيات الممكنة.

 علمتني التجربة النظر في الضمائر الفردية (أنا) التي تنشط في (هَامَةِ) الذاتية، وتتحول بالضرورة إلى متمثلات جماعية بعقلية القطيع المستورد، وبلا دمغة جمارك.

علمتنا التجارب الحياتية أن الطبيعة البشرية هي جمع بين الكائن الفردي (الأناني) والكائن الجمعي (الاندماجي). تعلمت العيش والتعايش في خنادق ثنائية الكيانين المختلفين. علمتني الحياة التعب في التفكير ونزع قياسات الشر عن كلماتي.علمتني الحياة أنَّ نَفَسَ الطَّبالِ والنَّفَّارِ والغَيَّاطِ  محدود الإتساع، وقد يصنع الصوت الرنان، ولا يصنع المواقف العادلة....

***

محسن الأكرمين

يمتاز النسيج الاجتماعي والثقافي في جمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية بالتنوع والغنى والتناغم، وهو متأتي عبر تاريخ طويل من التفاعل والتعايش السلمي، ويضم الكثير من المجتمعات المحلية والمجموعات العرقية المتميزة التي تشكل مناطق استيطانها الحجر الأساس في السياحة العرقية في البلاد (نحو 160 مجموعة عرقية تتحدث ب 82 لغة)، وتجذب فئة واسعة من السياح ومن مختلف بلدان العالم، بالإضافة إلى القرى العرقية الخاصة بها، والتي تمثل مغريات سياحية مهمة ونقاط جذب قوية على خارطة السياحة العرقية في البلاد. وهي موزعة بالدرجة الأساس في الجنوب حيث هضبة (بيلافين) البركانية التي تحتل مساحة (50) كم 2 وبارتفاع (3500) قدم، وضمن محافظة (تشامباسك). بالإضافة إلى أجزاء من (سيكونغ) و(أتابيو) التي تقطنها مجموعة (لافين) العرقية التي تتميز بمهارات فائقة في أعمال الخشب ومنذ غابر الأجيال، وفنون النحت الإبداعية الراقية والأصيلة المرتبطة بهذه المادة الجميلة، والمستلهمة خصائصها الجمالية من الحضارات القديمة التي شهدتها المنطقة، ووفق مرجعيات عتيقة وتقاليد ضاربة في التاريخ، وتعمل أيضا في زراعة البن والهيل والقرفة والموز والمطاط والقطن والفلفل والذرة والأرز والبطاطا الايرلندية. بالإضافة إلى المحافظات الشمالية مثل (بوكيو) المعروفة بمناجم الأحجار الكريمة وغير الكريمة، وتقطنها (34) مجموعة عرقية. وتمثل محمية طبيعية غنية بمختلف الأنظمة الايكولوجية المتميزة. وأيضا (بونغسالي) وفيها معرض خاص بالقبائل. وأيضا في (لوانغ نامثا) حيث مجموعة (خمو) العرقية و(يكو) و(همونغ) و(ياو). ومن القرى العرقية في لاوس تلك الموجودة بين (كيو) و(فو خي مين) في (سايابولي)، و(بان نام جان) في (لوانغ برابانغ)، و(بان ناخين) في (ساينيابالي). وغيرها كثيرة كانت الأساس في إيجاد وتطوير منتجات سياحية جديدة مرتبطة بالسياحة العرقية في لاوس التي صارت تجذب السياح الأجانب من كل أصقاع العالم، وبخاصة من الصين وكوريا الجنوبية واليابان الذين يعرف عنهم باهتماماتهم الواسعة بالبيئة، الأمر الذي رسخ مكانة هذا البلد على الخارطة السياحية للمنطقة على نحو بين.

***

بنيامين يوخنا دانيال

فيينتيان – لاوس

في 21 – 11 – 2015.

 

أَي صَدِيقِي،

 اِعْلَمْ أَنَّ الكَلِمَةَ إِذَا تَجَسَّدَتْ إِنسَانًا، تَحَوَّلَتْ إِلَى تَجْرِبَةٍ تَتَنَفَّسُ. لَيسَتْ جَسَدًا يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، بَلْ كِيَانًا يُعِيدُ تَشْكِيلَ الوَاقِعِ مِنْ حَولِهِ. الكَلِمَةُ التِي تَنْبِضُ بِالحَيَاةِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ صَوْتٍ يُسْمَعُ، بَلْ هِيَ فِكْرَةٌ تَنْمُو كَدَوَّامَةٍ، تَبْدَأُ صَغِيرَةً ثُمَّ تَتَوَسَّعُ لِتَبْتَلِعَ مَعْنَى الوُجُودِ ذَاتَهُ. هِيَ ذَاكَ الحُضُورُ الصَّامِتُ الذِي يُثْقِلُ الفَضَاءَ، حَيْثُ لَا يُدْرِكُ المَرْءُ وُجُودَهَا إِلَّا حِينَ يُخْتَبَرُ أَثَرُهَا العَمِيقُ.

الكَلِمَةُ حِينَ تَتَجَسَّدُ إِنسَانًا، تَكُونُ الجَدَلَ المُتَوَاصِلَ بَيْنَ الأَنَا وَالآخَرِ، حَيْثُ تَتَصَارَعُ فِي دَاخِلِهَا مَفَاهِيمُ الحُرِّيَةِ وَالقُيُودِ، الحَقِيقَةِ وَالوَهْمِ. تَتَجَلَّى كَمِرْآةٍ تَعْكِسُ تَنَاقُضَاتِنَا البَشَرِيَّة: تُعَرِّي زَيْفَ الأَقْنِعَةِ وَتُوَاجِهُ الذَّاتَ بِجُرْأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا سِوَى مَنْ وُلِدَ مِنْ رَحِمِ الصِّدْقِ.

إِنَّهَا الحَيْرَةُ المُتَجَسِّدَةُ، ذَلِكَ السُّؤَالُ الذِي لَا يَجِدُ إِجَابَةً نِهَائِيَّةً، لَكِنَّهُ يَفْتَحُ أَبْوَابًا نَحْوَ مَزِيدٍ مِنَ التَّسَاؤُلَاتِ.

هِيَ اللايَقِينُ الذِي يمنَحُ الحَيَاةَ مَعْنَاهَا، تِلْكَ اللَّحْظَةُ التِي تُدْرِكُ فِيهَا أَنَّ الثَّبَاتَ مُجَرَّدُ وَهْمٍ، وَأَنَّ التَّحَوُّلَ هُوَ الحَقِيقَةُ الوَحِيدَةُ.

 حِينَ تُصْبِحُ الكَلِمَةُ إِنسَانًا، تُولَدُ فِي قَلْبِهَا الفَجْوَةُ التِي تَفْصِلُ بَيْنَ المَعْنَى وَاللُّغَةِ. لَيْسَتْ مُجَرَّدَ وَسِيطٍ لِنَقْلِ الأَفْكَارِ، بَلْ هِيَ التَّجْرِبَةُ التِي تَكْشِفُ عَجْزَ الكَلِمَاتِ ذَاتِهَا عَنْ احْتِوَاءِ الحَقِيقَةِ.

إِذَا كَانَتِ الكَلِمَةُ إِنسَانًا، فَهِيَ الغُرْبَةُ المُسْتَمِرَّةُ التِي تَسْكُنُ بَيْنَنَا. لَيْسَتْ غُرْبَةَ المَكَانِ، بَلْ غُرْبَةَ المَعْنَى، ذَلِكَ الشُّعُورُ بِأَنَّ الوُجُودَ ذَاتَهُ لُغْزٌ لَا يَنْكَشِفُ. الكَلِمَةُ المُتَجَسِّدَةُ تَحْمِلُ فِي مَلَامِحِهَا أَلَمَ المَعْرِفَةِ، ذَلِكَ العِبْءَ الذِي يَجْعَلُهَا تُدْرِكُ أَنَّ كُلَّ إِجَابَةٍ تَلِدُ سُؤَالًا جَدِيدًا.

هِيَ الرِّحْلَةُ التِي لَا تَنْتَهِي، حَيْثُ كُلُّ خُطْوَةٍ تُقَرِّبُنَا مِنَ الفَهْمِ، لَكِنَّهَا تَزِيدُ المَسَافَةَ عَنِ اليَقِينِ.

الكَلِمَةُ-الإِنسَانُ لَا تَمْشِي بِخُطًى مُعْتَادَةٍ، بَلْ تَسِيرُ فَوْقَ حَبْلٍ مُشَدُّودٍ بَيْنَ الفَنَاءِ وَالخُلُودِ. هِيَ لَحْظَةُ التَّوَازُنِ المُسْتَحِيلَةِ، حَيْثُ تَقِفُ عَلَى حَافَّةِ الهَاوِيَةِ دُونَ أَنْ تَسْقُطَ، لِأَنَّ سُقُوطَهَا يَعْنِي انْطِفَاءَ المَعْنَى، وَوُجُودَهَا يَعْنِي اسْتِمْرَارَ الحَرَكَةِ الدَّؤُوبَةِ نَحْوَ اللَّانِهَائِيِّ.

فِي وَجْهِ الكَلِمَةِ-الإِنسَانِ، تَرَى خَرَائِطَ الزَّمَنِ: خُطُوطٌ تُظْهِرُ انْتِصَارَاتِ الرُّوحِ وَانْكِسَارَاتِهَا. لَيْسَتِ الجَمَالَ السَّطْحِيَّ الذِي تَأْلَفُهُ العَيْنُ، بَلِ الجَمَالَ المُرْبِكَ الذِي يُشْعِلُ فِيكَ أَسْئِلَةً أَكْثَرَ مِمَّا يُمْنَحُكَ إِجَابَاتٍ.

عَيْنَاهَا لَيْسَتْ نَافِذَةً إِلَى الرُّوحِ، بَلْ هُمَا هَاوِيَةٌ تَنْجَذِبُ إِلَيْهَا، حَيْثُ تَرَى انْعِكَاسًا لِمَا تُخْفِيهِ أَعْمَاقُكَ أَنْتَ.

حِينَ تَتَحَدَّثُ، لَا تَسْمَعُ صَوْتًا، بَلْ تَشْعُرُ بِذَبْذَبَاتٍ تُحَرِّكُ أَرْكَانَكَ. حَدِيثُهَا لَيْسَ جُمَلًا مُكْتَمِلَةً، بَلْ شَظَايَا مِنَ المَعَانِي تَتَّحِدُ لِتَخْلُقَ لُغَةً جَدِيدَةً، لُغَةً لَا تُقَالُ بَلْ تُحَسُّ. عِنْدَمَا تَصْمُتُ، يَكُونُ صَمْتُهَا نِدَاءً. لَيْسَ الفَرَاغَ بَلْ حُضُورًا يُعِيدُ تَشْكِيلَ الهَوَاءِ مِنْ حَوْلِهَا.

حِينَ تَتَمَثَّلُ الكَلِمَةُ بِإِنسَانٍ، لَا تَبْقَى مُجَرَّدَ كِيَانٍ يَسْتَهْلِكُ الزَّمَنَ، بَلْ تُصْبِحُ صَانِعَةً لَهُ. هِيَ الفِعْلُ الذِي يُحْدِثُ تَغْيِيرًا، لَيْسَ بِسَطْوَةِ القُوَّةِ، بَلْ بِعُمْقِ التَّأْثِيرِ.

إِنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى أَنْ تَزْرَعَ الشَّكَّ فِي أَرْضِ اليَقِينِ، وَأَنْ تُزِيلَ ثِقَلَ المَعَانِي المُتَكَلِّسَةِ لِتُفْسِحَ المَجَالَ لِأَفْكَارٍ جَدِيدَةٍ تَنْبِضُ بِالحَيَاةِ.

الكَلِمَةُ-الإِنسَانُ تَعِيشُ فِي مُفَارَقَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ؛ فَهِيَ تَشْتَاقُ لِلثَّبَاتِ لَكِنَّهَا تُدْرِكُ أَنَّ الثَّبَاتَ مَوْتٌ. تَجِدُ قُوَّتَهَا فِي الضَّعْفِ، وَوُضُوحَهَا فِي الغُمُوضِ. هِيَ ذَلِكَ الهَامِشُ الذِي يَتَحَدَّى المَرْكَزَ، الظِّلُّ الذِي يُرَافِقُ النُّورَ، لَكِنَّهُ لَا يَنْتَمِي إِلَيْهِ.

الكَلِمَةُ التِي تَتَمَثَّلُ بِإِنسَانٍ لَا تَعِيشُ لِنَفْسِهَا، بَلْ تَحْمِلُ عِبْءَ أَنْ تَكُونَ جِسْرًا بَيْنَ العَوَالِمِ. هِيَ الوَسِيطُ بَينَ المَادِّيِّ وَاللَّامَادِّيِّ، بَيْنَ المَرْئِيِّ وَالمَخْفِيِّ. وُجُودُهَا دَعْوَةٌ لِلتَّأَمُّلِ فِي عُمْقِ الحَيَاةِ، لِتَحْطِيمِ القَوَالِبِ التِي تَسْجُنُ الأَفْكَارَ، وَلِلْتَحَرُّرِ مِنْ قُيُودِ اللُّغَةِ التِي تَجْعَلُنَا نَعْتَقِدُ أَنَّنَا فَهِمْنَا بَيْنَمَا نَحْنُ غَارِقُونَ فِي الجَهْلِ.

هِيَ مَنْ تُذَكِّرُكَ أَنَّ الإِنسَانَ لَا يُقَاسُ بِمَا يَمْلِكُ أَوْ يَفْعَلُ، بَلْ بِمَا يَحْمِلُ مِنْ مَعَانٍ تَتَجَاوَزُ ذَاتَهُ. هِيَ الكِيَانُ الذِي يُعِيدُ تَعْرِيفَ الإِنسَانِيَّةِ، لَيْسَ كَمُجَرَّدِ وُجُودٍ بَيُولُوجِيٍّ، بَلْ كَطَاقَةٍ قَادِرَةٍ عَلَى صُنْعِ الوَاقِعِ وَتَغْيِيرِهِ.

وختامًا، يا صديقي،

حِينَ تُصْبِحُ الكَلِمَةُ إِنسَانًا، تُصْبِحُ فِكْرَةً خَالِدَةً تَتَحَدَّى الفَنَاءَ. لَيْسَتْ كَائِنًا عَابِرًا، بَلْ كِيَانًا يَعِيشُ فِي كُلِّ مَنْ يَتَأَمَّلُهُ. هِيَ أَنْتَ حِينَ تَصْمُتُ لِتَسْمَعَ صَوْتَ المَعْنَى فِي دَاخِلِكَ. هِيَ أَنَا حِينَ أَكْتُبُ هَذِهِ الكَلِمَاتِ، مُحَاوِلَةً أَنْ أَقْبِضَ عَلَى المُسْتَحِيلِ. هِيَ نَحْنُ، فِي كُلِّ لَحْظَةٍ نُحَاوِلُ فِيهَا فَهْمَ الحَيَاةِ بِمَا يَتَجَاوَزُ حُدُودَ الإِدْرَاكِ.

وتقبَّل مني أجملَ التحيات.

***

بقلم: د. علي الطائي

3-1-2025

يا إلهي! ما الذي سيجري؟ أشعر باقتراب القيامة إنه صباح رمادي اللون والنكهة كأن الطبيعة غاضبة حَدّ الجنون.. صفير رياح الهَيْف ينذر بالموت، والأرض عطشى متشققة تتلظى من شُحّ الأمطار وتتوسل السماء كي تُسعفها بقطرة ماء.. والشمس احتجبت خلف السُحب السوداء التي غَشَّتها.. برق ورعد بلا مطر.. بلا مطر!! تناهى إلى مسامعي فجأة صدى أصوات غامضة لا أميزها كأنها محاورة قادمة من بين الغيوم...

- ما الذي يضنيك يا رفيق العمر؟ أرى صدرك العامر بالآهات والزفرات كأنك تحتضر.. هلمَّ إليّ غرّقني بغيثك، وفجر ينابيع قلبك ولنمطر معاً كي تهدأ النفوس وتغمرها السكينة.. فأنا أتألم معك ولأجلك.. هلمَّ.. عطشي يشتاق إلى نضح السماء..

- لا.. لن أمطر يا غيمتي السمراء على الأرض الجاحدة! كي لا تصطبغ مياهي العذبة بدماء البشر.. ألا تشاهدين ما يجري بينهم؟ يتقاتلون ويتذابحون باسم الله، وكأن الله أحل الدم والقتل!.. هل الشرائع السماوية تشرّع الظلم؟ ألا يفهمون بأنهم وحدة متصلة لو تأذى أحدهم لتألم الآخر؟؟ إنهم جزء لا يتجزأ كالبنيان المرصوص، مَثل الجسد الواحد يشد بعضه بعضا وفي توادهم وتراحمهـم وتعاطفهم، ومثل الزهور والندى والطبيعة المُتآزرة.. فالقتل لا يجر إلا القتل..

- آه يا حبيبي.. تقول الحق كل الحق إنما ما هو ذنب الأرض المتعطشة لعطائنا؟ وما هو ذنب الزهور، والنباتات، والطيور، والأعشاب؟ ستموت الطبيعة ، إن لم تُغدق عليها من مُزْنك..

إن الله محبة، وقد منحنا الحب في الوجود وفي هذه السماء الفردوسية، وعلمنا الكثير من العطايا إنما البشر يغضّون الطرف عنها لأنهم لا يدركون ما يفعلون أو يدركون ويفعلونه عمدا.. لا بد من الصبر الجميل، والتسامح، واستمرار العطاء.. فهلمَّ لنمطر معاً محبة وعطاء على مدى الزمن..

- كيف لا يعرفون يا غيمتي السمراء؟ ألم يرسل الله أنبياءه ورسله لهم ليتعظوا؟ ألم يفهموا بأنه لا جدوى من الحياة إلا بالمحبة النابعة من القلوب الخالصة، وإن كل شيء على وجه الأرض زائل، وسيرحلون يوما حُفاة عُراة، ولا يبقى من آثارهم سوى ذكرى أعمالهم ومحاسنهم الطيبة ومحبتهم لا غير؟؟

- هناك منهم من يتعظ وقد مسحه النور، وهناك ما زال في الظلام يئن وليس لديه الاستعداد الكافي ليستمع إلى صوت الله لنشفق عليهم لعلهم يرجعون.. والله يُشرق بشمسه على الأخيار والأشرار، ونحن رموز لله في السماء وعلى هذه على الأرض.. دعنا نمطر ولا تيأس فبالأمل، والإيمان، والحب تُصنع المعجزات.....

- نعم يا عزيزتي يبدو أن الغضب تَملّكني وأنساني ذاتي.. كم أحبني الله بمحبتك التي لا تنضب ولا تزول.. أشكرك لتذكيري بذاتي.. كم أحبك ملء الحب.. فلنمطر معا ونُغنّي للحياة جميعا...

 ما هي إلا بضع ثواني حتى تعاظم لمعان البرق واشتدّ قصف الرعود، وبَدَت السماء لوحة ناطقة بالخير الآتي، وهطلت الأمطار بغزارة.. ففرحت الأرض، والفلاحون الطيبون، والطبيعية فرحا غامرا بهذا اللقاء الحميم.. وذهب الخوف من صدورهم وعيونهم على محاصيلهم..

فصارت الحياة جميلة وخصبة، والسماء صافية، والشمس تغازل النسيم، وارتفع صدى أصوات الناس عاليا، وهم يرددون: الله محبة.. الله محبة..

***

سلوى فرح - كندا

 

تطل القصبة العالية الأبراج من إحدى جنباتها، على أطلال قصر كبير، أو بالأحرى أطلال مدينة ممتد الأطراف على مساحة واسعة[2] مفروشة بمختلف الصخور الكبيرة والصغيرة، بعد أن سحبت الرياح المتوالية عبر الزمن كل شيء، وتعذر عليها سحب الحجارة وهي تحتضن ما تبقى تحتها من الطوب والطين، وأسرار كثيرة مدفونة تحت التراب، من بينها قطع مهشمة من أواني الفخار، عليها آثار دهن السمن والشحم الذي تدل عليه رائحة التراب ولونه، وقد جعله طول الزمن يتخمر ويتحول إلى تربة دسمة داخل مختلف قطع الفخار، إلى جانب أثار بعض من الألواح الخشبية، وجذوع النخيل التي اتخذت فيما مضى أسقفا للبيوت، وقد أتت عليها الأَرَضَةُ[3] ولم يتبقى منها إلا تراب أسود اللون شبيه بالرماد، دليل أن الخشب تحلل وتحول إلى تراب، حتى بعض العملات النقدية النحاسية أو الفضية، لا يمكن أن تميزها عن الحجارة، لكثرة ما علق بها من صدأ، أخفى معالمها...

وعلى مسافة طويلة بطول المدينة المهدومة وبالقرب منها، مقبرة متسعة، وقد سويت مع الأرض بفعل عوامل التعرية، فأديم الأرض ووجهها يشعرك أنه تراب أخرج من باطنها منذ زمن بعيد، طول المقبرة وعرضها دليل على أن أهل المدينة، قد عمروها لعقود طويلة من الزمن، يتناقل الناس فيما بينهم أن  رجلا فيما مضى حفر حفرة كبيرة في عين المكان، وإذا به يكشف عن جسد واضح المعالم لم تنل منه الأرض شيئا، وهذا دليل كاف في نظرهم، بأن  الكثير من أهل هذه المقبرة سعداء في مماتهم، وهي رواية يتناقلها الناس دون دليل، فكل منهم ينسب الخبر إلى ضمير مجهول ينتسب إلى الذين فارقوا الحياة. أمنية الكثير من الناس أن تحفظ أجسادهم لوقت طويل من تحت الأرض وهم رقود في قبورهم، وهي ثقافية ضاربة في القدم وقد بذل الفراعنة كل ما بوسعهم من أجل حفظ أجسادهم بعد مماتهم بتحنيط ملوك موتاهم، حتى لا تتآكل وتتحلل بفعل الزمن، كثيرة هي الحكايات والمسلمات التي تبنى عليها حياة الناس دون دليل، وكيف نلوم الناس فيما ذهبوا إليه وقد ورد في الأثر: (إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).[4]

لا أحد يعرف شيئا عن تاريخ تلك الأطلال، أهل القصبة يسمونها "ديار المجاهدين" أي جهاد هذا وأي مجاهدين هؤلاء، وفي أي زمن من الأزمنة، من بين ما خطَّه كبار المؤرخين منذ القدم أن هناك " مدينة درعة يقال لها (تيومتين) وهي قاعدة درعة... وهذه المدينة آهلة عامرة بها جامع وأسواق جامعة ومتاجر رابحة، وهي في شرف من الأرض والنهر منها بقبليّها وجريته من الشرق"[5] وذهب بعضهم إلى القول:" لا أظنها إلا بلاد تمتيج (تمتك) ويدل على ذلك أثار مدينة خالية في شرف من الأرض لم يبقى إلا أساس سورها وأبراجها، وهما في نهاية من الكبر، ومقبرتين عظيمتين خارجها قد اندرستا تدلان على عمارة المدينة وكثرة الناس بها وقد بني في عصرنا هذا في جانب منها قصبة بعض أشراف سجلماسة، ونزلوها وملكوا بها البساتين الكثيرة."[6]

ذاكرة أهل القصبة في هذا المجال كأنها ذاكرة سمكة لا تتذكر أي شيء سوى أنها تسبح في الماء، كذلك هم سكان القصبة يفتحون أعينهم صباح مساء، ويترددون على أطلال ممتدة الأطراف، وهم لا يعرفون عنها شيئا، وهي مسألة ليست بالغرابة في شيء، فأرجاء الواحة مليئة بالأطلال والنقوش الصخرية، وكثيرة هي الأطلال التي ذابت حيطانها وانمحت وتحول الكثير منها إلى بساتين وحقول صارت تنعت باسم القصور، كناية عن القصور العامرة في سالف الأيام. لم ينجوا من أطلال الواحات إلا تلك التي ترسو على الربوات العالية، أو تلك التي على تقع على الجنبات المرتفعة من النهر حيث يتعذر تحويلها إلى حقول وبساتين، فمدينة درعة (تيومتين) التي ذكرها المؤرخون كانت صاحبة حظ كبير، فقاعدتها جاءت على أرض محدبة تطل على الحقول من الأعلى، كما أن تربتها الحجرية المتماسكة ساعدتها لتعمر أطلالها وقتا طويلا من الزمن، شاهدة على اختفاء حاضرة من حاضرة الصحراء.

يا ترى كيف لمدينة بهذه الضخامة أن تتحول إلى أطلال، هل هي حرب مدمرة، أم هو قصر سلطاني كبير، أدى مهمته ووظيفته، التي جعلته ينقضي بانقضاء دوره الوظيفي... فهو لا يبعد عن أطلال "تاكمادرت"[7] إلا بمسافة ما يقرب عشرة كلومترات.. الأمر الوحيد الذي يطمئن إليه أهل القصبة أن قصبتهم لم تبنى على أنقاض أطلال المدينة المقابلة لهم. وهم يسمون أحد جنبات أطلالها القريبة من الباب الرئيسي لقصبتهم، باسم ساحة أحمد المنصور.[8] فهذا المكان دون غيره من بقية الأطلال يحتل في أنفسهم درجة تقديس واحترام، لا أحد يتغوط أو يتبول على أرضه، من حَرُم فيه لا يهاجمه أحد حتى يغادره، فعلى سطحه تسرج الخيول للسياق، ويمتطي عرسان القبيلة فرسانهم، في سباق فرجوي يثبت للجميع بأنهم ذووا أهلية للدفاع عن قبيلتهم، وقد ادعى الكثير منهم بأن المكان تسكنه الأرواح، ومن الناس من تكهن بأنه أبصر بأم عينيه من بعيد، في جوف الليل جمع من الناس يطوف في المكان، وهم يحملون قناديل قد امتد ضوءها بعيدا... ومنهم من تكهن بأن اليوم الموافق للمولد النبوي من كل عام، في لحظة عابرة من جوف الليل تحت ضوء القمر، يجتمع رجال ذووا قامات طويلة بلباس أبيض وهم يتصافحون فيما بينهم.

البعض من الناس أكد أنه رآهم في هذا الوقت بالذات من أعلى سور القصبة، إلا أن المشهد لم يستمر طويلا، وقد اعتاد البعض من أهل القرية، أن يتطلعوا لرؤية المشهد في جوف الليل من كل ليلة من ليالي المولد النبوي، تحت ضوء القمر، من أعلى سور القصبة، ومن خلال شرفات أبراجها، وعندما يختفي القمر، يدعي بعضهم بأنه رأى المشهد في حلة جميلة من البهاء والبياض، وينفي البعض الآخر الرؤيا بقولهم لم نرى شيئا، وأعيننا على المكان طيلة ضوء القمر...ويدخل الطرفان في جدال كبير، ولا أحد منهم يملك حجة للنفي أو الإثبات، وليس أمامهم حل إلا انتظار مرور حول كامل، وقدوم ليلة جديدة من ليالي المولد النبوي، ليجدوا أنفسهم مرة أخرى في اختلاف متجدد بين من ادعى رؤية المشهد وبين من ينفي ذلك، والغريب أن البعض من الذين أقروا بأنهم لم يرو شيئا في الموسم الماضي، يدعى  في الموسم الذي يليه بأنه أبصر شيئا ما تحت نور القمر، شبيه برجال ذوي قامات بلباس أبيض...

في أحد ليالي المولد النبوي تسلل أحد الشباب إلى عين المكان دون أن يكتفي بالنظر من أعلى سور القصبة، وقد افترش حصيرا على الأرض، وتلحف بسلهام من الصوف، وجلس القرفصاء وظهر مستند إلى الجهة الداخلية من تقاطع بقية أطلال أحد الأبراج، ها هو الآن يحدق طيلة الوقت في وسط الساحة وقد انعكس على حجارة بلاطها ضوء القمر، كل همه أن يبصر ذوي القامات الطويلة واللباس الأبيض وهم يتصافحون فيما بينهم، إنه يريد أن يقطع الشك باليقين، ها هو الآن في عين المكان ومن حوله حالة من الصمت المطبق، لا يستمع إلا لتردد أنفاسه ما بين خيشومه وصدره، وبعدها تسترق أذناه السمع لدقات قلبه، بين الحين والآخر يصله صدى نباح الكلاب بعد أن استفزهم، صوت عويل ذئب قادم من مكان بعيد، تقدمت ساعات الليل وعينه على المكان...اختفى القمر، وسدل الليل ظلامه، بعدها بلحظات سمع ابتهالات المؤذن التي تسبق أذان الصبح، وبعدها بقليل طلت شمس الصباح الباكر، وقد استسلم بعدها للنوم، وعند الضحى غادر المكان، ليجد أهل القصبة مشغولين بأجواء العيد، عيد المولد النبوي، فالأطفال الصغار في سباق فيما بينهم وهم يحملون بين أيديهم إلى الأعلى، لعبة المروحة ذات الهيكل المصنوع من القصب، وذات أجنحة مربعة الشكل مصنوعة من الورق  مطلية بصباغ زاهية، يسمونها فيما بينهم بـ: "أحَرْ واضي"[9] فكلما جرى الأطفال وزاد سباقهم إلا ودارت مراوحهم بسرعة فائقة، كأنها ترمز إلى دورة الزمن، وتعبر عن  حالة من الفرح المنقطعة النظير بيوم عيد أشرف الخلق.

أما الكبار فقد توجه الكثير منهم بعد أذان الظهر نحو ضريح القرية ليجتمعوا حوله مرددين مختلف الأدعية والأذكار في مدح الرسول عليه السلام، وقبل الختم بالدعاء في زحمة بين ذوي العمائم والجلاليب البيضاء، نطق رجل بكلمة مفادها ماذا عن رؤية الليلة؟ وهي كلمة جعلت جموع الحاضرين، يدخلون في جدال فيما بينهم، وقد حاول الرجل الشاب الذي تسلل إلى عين المكان ليقنعهم بأنه كلف نفسه عناء ليلة كاملة، لعله يأتيهم بخبر يقين، لكن عندما أخبرهم بأنه لم يظفر برؤية شيء، عاد الجمع إلى ضجيج وجدال، بين من يدعى الرؤية ومن ينفيها، رؤية أناس ذوي قامات طويله يتصافحون فيما بينهم تحت ضوء القمر.

وإذا بالبعض من الناس ينتهز فرصة زيارة أحد كبار شيوخ علماء الواحة المعروف بكرمه ولطفه وقبول السؤال وسأله أمام جمع كبير من الناس، ليحكم بين المختلفين، لكن جواب الشيخ لم يكن شافيا كافيا، سواء للذين ادعوا الرؤية أو للذين نفوها، إذا كان رأيه: "الذين قالوا برؤية المشهد، فقد رأوه بقلوبهم ليس بأعينهم، فإن ذلك لم يحدث في حضرة البصر، بل حدث في حضرة البصيرة، والذين نفوا رؤية المشهد فقد نفوه بأبصارهم لا بقلوبهم".

أما الجانب الآخر من أطلال المدينة الممتد الأطراف، ولسخرية التاريخ فأهل القصبة جعلوا منه مجمعا لجِيَّف الدواب والأبقار والأغنام التي ماتت بين أيديهم لسبب من الأسباب، وإذا به يتحول ليلا إلى مرعى للكلاب التي تقصده من أمكنة بعيدة، وهي تنبح طول الليل، لتتفرق وتختفي عند أذان الفجر، شمس النهار تكشف عظام وجماجم الحمير والبغال، مبعثرة في كل جانب بين الصخور وبقايا الحيطان وبين بعض نباتات الصحراء، كأنها قرابين ميؤوس منها مهدات إلى أرواح تسكن المكان.

الواحة في مختلف أرجاؤها مليئة بالوقائع والأحداث الضاربة في القدم، يتناقلها أهل الواحة شفاهية وقد تنضاف إليها أشياء كثيرة وتحذف منها أشياء أخرى، والحكي من هذا النوع كثيرا ما يرتبط بشخصية مشهورة، لها حضور مميز في التاريخ العام وفي التاريخ الخاص للصحراء، من بين تلك الشخصيات شخصية السلطان لكْحَلْ،[10]  الذي نسبت إليه الكثير من الروايات والأساطير التي جعلت منه سلطان قوي، وقد عرف زمانه الكثير من الحروب، كان للواحة فيها حظ كبير وقد اختلف أهلها معه في حروبه، وارتأوا منازلته، دفاعها عن مدينتهم "سجلماسة" التي تَلُفها الواحات من كل جانب، إنها حاضرة الصحراء، وباب الدخول إلى "بلاد السودان إلى غانة، وبينها وبين مدينة غانة مسيرة شهرين في صحراء غير عامرة"[11] ومن امتلكها امتلك طريق الصحراء كله.

وكان ذلك سببا كافيا ليحاصر السلطان لكْحَلْ المدينة، ويقطع وريد الساقية[12] الذي يسقي أهلها، وأثقل عليهم الضرائب[13]... وكان هذا من بين العوامل والأسباب التي جعلت أهل المدينة يفكروا في مفارقة مدينتهم، ويتفرقوا في جنبات مختلف الواحات عبر المعمور، ومنهم لجأ لبراري الصحراء... لم يترك السلطان لكْحَلْ لأهل الواحة ما يذكِّرهم به عبر الأجيال إلا حكايات هدمه للقصور، و القصبات... والغريب في الأمر أن مخيلة أهل الواحة نسبت له كل بليَّة حلت بها، فالقصور التي جرفتها السيول والتي امتدت لها أيادي قطاع الطرق زمن السيبة،[14] نسبت آفتها إليه.

كثيرة هي الأساطير التي تحكى عن حاضرة واحات الصحراء "سجلماسة"، المدينة الضاربة في القدم والتي اختفت ما بين يوم وليلة، تقول الأسطورة أن سكان المدينة في يوم من الأيام، استيقظوا على فجر ذلك اليوم الذي أذَّن فيه مؤذن المسجد الكبير للمدينة، وهو يرفع كلماته من الآذان "أصبح ولله وخلت" بدلا من "أصبح ولله الحمد" يا لها من مفارقة أن يكون خطأ مؤذن في الآذان سببا في اندثار مدينة من الوجود، وقد عمرت لفترة طويلة من الزمن.[15] ربما أن أذان المؤذن، كان تعبيرا عن حقيقة ما حدث، جراء سيل عارم أو هزة أرضية...حولت المدينة إلى خلاء بعدما أن افتقدت أهلها... وربما هو آخر أذان من أعلى آخر صومعة، لآخر مؤذن، بعدما أن بقي لوحده، ولا أحد سيستجيب لدعوة الآذان دونه، بعدما تحولت جنبات حيطان المدينة إلى خواء وخلاء، صدق المؤذن "أصبح ولله وخلت".

تصور معي مدينة يحكمها أمير من إحدى الإمارات، وقد كانت على طول الزمن نقطة وصل ما بين مماليك شمال الأرض وجنوبها، وليست هناك مدينة أكبر منها وسط مختلف الواحات، قصدتها مختلف الأجناس، وجمعت مختلف الأديان والثقافات...ها أنت الآن وسط هذه الأطلال التي سوتها التعرية وعوامل الزمن مع الأرض، تنحدر وتجلس القرفصاء، وتضع كلتا يديك على خدك، وتحذق بعينيك يمينا ويسارا، الهدوء والصمت يحاصرك من كل جانب، وأنت بين أكوام مرتفعة ومنبسطة من التراب، وقليل من الأحجار، وبعض من بقايا أواني الفخار... كثيرة هي الأرواح التي تملأ المكان، وكثيرة هي الأصوات والضوضاء والقيل والقال الذي سبق له أن عم هذا المكان، وكثيرة هي الأشعار والمخطوطات التي خطتها الأيادي تحت نور قناديل المدية، وكم هي مراسيل السلاطين التي حملها أعوانهم، بين أزقة المدينة ودروبها، كثيرة هي الدسائس والقرارات ومعاهدات السلم والحرب، التي خرجت من بوتقة تراب هذه الأرض، هنا سال مدال كثير مصنوع  من صوف النعاج  على ألواح خشبية مطلية من صلصال تربة الأرض، لطلاب بذلوا قصارى جهدهم في حفظ القرآن وعلومه. كثيرة هي الأحمال التي فكت أو ربطت على ظهور الدواب، وكثيرة هي المؤن التي تزود بها محتري الأسفار عبر الصحراء وخارجها... ها أنت الآن تمد يدك إلى تراب الأرض وتمسك بكمشة منه، تقربها إلى انفك وتشم رائحة، مفارقة لرائحة التراب الخالص، تراب امتزج بخلطة مختلف توابل أطعمة الثقافة عبر الزمن، تشم رائحة ممزوجة بورد البصرة وبخور سمرقند وتوابل تمبكتو... تمعك تراب الأرض بين يديك وتلقي به بعيدا، وتضرب كفا بآخر، ويتطاير منها مسحوق غبار تليه عطسة غير متوقعة من جسدك، الذي اختنق بثقل أرواح المكان.

اندثار مدينة من هذا النوع كان له أثر بليغ على مختلف أرجاء المعمور، أمر غريب أن تتحول حاضرة من حاضرة مدن الصحراء إلى ركام من التراب والطوب، وقد عاش أهل الواحات بعدها حالة من اليتم والضياع، وكلفهم الحدث بناء مدن صغيرة أخرى...إلا أنها لم تُعد مجد حاضرة الصحراء الذي ضاع إلى الأبد، والمثير للاستغراب أن ذاكرة أهل الصحراء لا تخزن أشياء كثيرة، حول الأسباب التي كانت من وراء اختفاء مدينتهم، والذي يزيد الأمر استغرابا أن كتب المؤرخين شبه خالية من معرفة السبب الفعلي الذي كان من وراء اختفاء المدينة، كأن الجن أو مخلوقات أخرى سحبتها إلى عالم مجهول لا نعرف عنه شيئا، ربما أن الناس استبدلوا الحزن على ما حدث بالنسيان، الشخص الذي لم تنساه ذاكرتهم هو "السلطان لكْحَلْ" أفخم ملوك بني مرين، دفين شالة على ضفة نهر أبي رقراق، في غفلة أن مختلف قبائل الواحات عرب وأمازيغ وغيرهم من قبائل الصحراء، قد تحولوا في لحظة من الزمن إلى قطاع طرق ونهب وتخريب، أحد أهم موانئ الصحراء الذي تحطُّ على أرضه مختلف قوافل الشمال والجنوب، ومع الزمن استبدلت موانئ الصحراء بمواني المحيطات، بما فيها المحيط الأطلسي، وتلك بداية عقارب ساعة حضارة أخرى، أول ما بدأت كانت سببا في انزلاق حاضرة الصحراء  نحو مجهول  يلفه الظلام لا أحد يعرف عنه شيئا. مدينة يلفها العجب اختلف حول أول من بناها وشيدها وقد قيل إن حضورها يعود إلى زمن الرومان، واختلف حول أسباب زوالها اخلافا لم تفك ألغازه بعد.

***

بقلم: د. صابر مولاي أحمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

.....................

[3]  النمل الأبيض

[4]  رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد

[5] أنظر: المسالك والممالك، لأبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (-487هـ)، دار الغرب الإسلامي، عام النشر: 1992م، ج.2، ص.845

[6] أنظر: طليعة الدعة في تاريخ وادي درعة، لأبي عبد الله محمد المكي بن موسى ‏الناصري الدرعي (ت 1163هـ)، تحقيق، صالح بن ابراهيم أيت باب التمكروتي، الكتاب صدر عن، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية لسنة 2022م

[7]  تاكمادرت: هي مدينة تاريخية على وادي درعة في المغرب وهي منشأ وأصل سلالة الدولة السعدية التي حكمت المغرب (1510م-1659م)، كان أول سلاطينهم محمد الشيخ يدعى «الدرعاوي التاكمادرتي»

[8]  أحد أبرز سلاطين الدولة السعدية حكم المغرب ما بين (1578م - 1603م)

[9]  ويسمى كذلك بـ"الفرواط " أو الفرواد"

[10]  لكْحَلْ: بمعنى الأسود، والكُحْلُ هو ما يضع في العين من مسحوق أسود من أجل الزينة

[11]  المسالك والممالك، لأبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (-487هـ)، دار الغرب الإسلامي، عام النشر: 1992م، ج.2، ص.837

[12]  من جهته، يذكر محقق كتاب الأنوار الحسنية أن السلطان أبا الحسن علي بن عثمان المريني الشهير بالسلطان الأكحل ودفين شالة بالرباط [-1351م] حارب "سجلماسة حيث غور العين التي هي عماد أهل سجلماسة في حياتهم الزراعية وهي العين المعروفة اليوم بـ "عين تيمدرين" القريبة من أرفود والتي حفر حولها مائة بئر، ثم طمسها بالصوف والقطران والرمال" أنظر: المدغري أحمد ابن عبد العزيز ابن الحسن، الأنوار الحسنية، تحقيق عبد الكريم الفيلالي، الرباط، 1966م، ص. 92

[13]  يرى صاحب الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى أحمد الناصري(-1879م)"أن أهل سجلماسة اختلفوا مع السلطان الأكحل فحاصرها، واشتغل بتغوير ماء العين التي تسقى منها، فكان ذلك سببا في خلائه" الناصري أبو العباس أحمد خالد، الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الدار البيضاء، دار الكتاب، الجزء الثالث 1954م، ص. 120

[14]  بلاد السيبة مصطلح تاريخي مغربي يشير إلى الفضاء أو المجال الذي لم يكن مُؤمَّنا ويعرف نوع من الفوضى، إذ لا توجد فيه أجهزة إدارية أو عسكرية للسلطان، وفي الغالب تمتنع قبائل بلاد السيبة عن دفع الضرائب، ويكتفي الكثير منها بالمكانة الروحية للسلطان.

[15] سجلماسة ثاني مدينة إسلامية تم بناؤها في الغرب الإسلامي بعد مدينة القيران، وهي مدينة تاريخية كانت تقع في الجنوب الشرقي للمملكة المغربية، التي تطلّ على واد زيز وغريس وتودغة، بالقرب من مدينة الريصاني حاليا، التابعة إداريا لإقليم الرشيدية كمكون من جهة درعة تافيلالت. أسّسها بنو مدرار الخوارج الصفرية في أواسط القرن الثاني للهجرة/ الثامن الميلادي، وبالضبط في سنة 140 هـ/ 757 م، واعتبرت عاصمة أوّل إمارة مستقلة عن الخلافة في المشرق، وتسمّيها الساكنة بالمدينة العامرة أو المدينة الكبيرة. غابت واختفت عن الساحة التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بنهاية الدولة المرينية حوالي 1393م. وهناك من يرد تاريخ تأسيس المدينة إلى زمن الرومان في المغرب.

 

عاشت الحروشية، الراعية الأمازيغية، بنفس متغلبة على مساوئ وشرور الحياة في بلدتها الصغيرة في جنوب إمارة سيكا. كانت تستيقظ كل صباح مع الفجر، توقظ قطيع غنمها بحنان الأم وحرص القائد. توجه تعليماتها لرئيس القطيع، فيتبعها القطيع بتناسق تام. النعاج تتقدم بهدوء، ويتبعها الخرفان جريًا ونشاطًا. لم تكن مجرد راعية؛ بل كانت رمزًا للجديّة والالتزام في كل لحظة من لحظات حياتها.

أحبها قطيعها حبًا لا مثيل له. اعتادت أن تخرج يوميًا في العتمة، غير عابئة بلسعات البرد القارس أو زخات المطر المفاجئة. تعلّمت تلحين الصفير بلسانها وفمها، محوّلة كل نغمة إلى أمر لا يُمكن تجاوزه. كان الحب والحنان والرعاية أساس تقوية انضباط القطيع واستجابته لتوجيهاتها. أمضت طفولتها متأملة أسرار الطبيعة، وربطت حياتها بحياة قطيعها بطريقة فريدة. كانت تتقاسم معهم الجزء الأكبر من خبز شعيرها، وتجلس بينهم مبتسمة، تهدي لكل منهم قطعة خبز مدهونة بزيت الزيتون. مع الوقت، تعلم القطيع معنى التضامن والوفاء، وأصبح مستعدًا للتضحية من أجل "الزعيمة". تحولت "معمعات" القطيع إلى عبارات نضال من أجل سعادة الحروشية.

في يوم مشمس من أيام الربيع، خرج العز الولاني، ابن قائد القبيلة، ممتطيًا حصانه للصيد في الغابة. كان برفقة فريق من الحرس الذين عينهم والده لحمايته وتنشيط يومه. عندما اقترب من قمة الجبل، لفت انتباهه مشهد الحروشية مع قطيعها. كانت قصيرة القامة، لكنها تمتلك جمالًا يجذب القلوب، وبساطة تأسر النفوس. تعجب من انضباط قطيعها دون كلب مدرب أو عصا كباقي الرعاة. كان صفيرها العذب هو آليتها الوحيدة.

عاد العز إلى بيته، ينتظر بفارغ الصبر انتهاء والده من جلساته القضائية. وعندما سنحت الفرصة، ارتمى على يد أبيه مقبلًا إياها، متوسلًا أن يزوجه الحروشية. صرخ القائد مستنكرًا: "أتقصد تلك الراعية ابنة الرجل العجوز؟". أجاب العز بتوسل: "نعم، نعم يا أبي". تهاطلت دموعه على وجنتيه من شدة الخوف من رفض أبيه، وأخذ يقنعه بعبقرية تلك الفتاة التي لم يصادف مثلها قط. بعد إلحاح شديد، وافق القائد على مضض.

عاد سلام، ابن الحروشية، إلى مسقط رأس والدته. صعد الجبل مسترجعًا كل ما حكاه والده عنها. كانت والدته دقيقة السلوك والتصرف ومبدئية في كل شيء، وقد أسر له والده أن مكانتها عنده لا تقارن بأحد. تمعن سلام في مفهوم "القطيع" وحسن انضباطه، الذي كان دائم الحضور في حديث أبيه.

الوفاء لذكرى والدته الحروشية والتزامها بقيم الكينونة البشرية أصبح مصدر إزعاج لسلام في حياته. بصفته موظفًا ساميًا، ورث عن والدته نزاهتها وصدقها وشفافيتها، ما جعله مصدر خوف للسلطات. حالت جديته وكفاءته دون أن تُفتح أمامه الأبواب الموصدة.

تسببت رسائل رؤسائه التي تحثه على التكيف مع الأوضاع الفاسدة في إصابته بالكآبة. نشأ سلام على مبادئ واضحة. القانون هو مصدر التكيف، وليس العكس. وفي جلسة أخيرة مع أحد أصدقائه المقرّبين، قال سلام بحسرة: "معضلات وطني مستعصية. تجاوز القانون لتلبية ضغوطات التكيف هو إجرام ملفوف بالمخاطر. التذرع بتجاوز الواقع سلبيًّا للتراكمات التشريعية هو حق يراد به نشر الباطل".

انتشرت قصة الحروشية كالنار في الهشيم في الأوساط الشعبية. حل سلام ضيفا على كل الملتقيات والتظاهرات الفكرية والأدبية والفنية. عمت الوقفات تراب الإمارة. رددت الجماهير كل مرة وبدون انقطاع عبارة : "ربيع الحروشية، ربيع الحروشية،....". لم تبق القصة مجرد حكاية عن راعية غنم. شاع الحديث عربيا ومغاربيا عن هذه المرأة النموذجية وابنها سلام. الكل أصبح يتحدث بصوت مرتفع عن مواجهة منظومة تعيد إنتاج الظلم بأساليب شرعية في واضحة النهار. استقبل الأمير سلام استقبال الأبطال. أعرب له عن رضاه. دعم سلام من طرف المجتمع والمؤسسات وتحولت القصة إلى شعار جعل إرادة التغيير قائمة في نفوس من يحملون إرث الحروشية وقيمها.

***

الحسين بوخرطة

في هذا العصر المتسارع، حيث تتداخل الأصوات والصور بشكل لا مثيل له، قد يطرح المثقف الواعي تساؤلاً عميقًا: هل بات الشعر معاقًا؟ هل صار هذا الفن الأصيل عاجزًا عن ملامسة الأرواح كما كان في الماضي، أم أن التحديات الجديدة التي فرضتها الحضارة الحديثة قيدت حركته وأفقدته جاذبيته؟

في عصور مضت، كان الشعر روح الأمة ولسان حالها، يحفظ تاريخها وينقل أحلامها. كان وسيلة التعبير الأبرز والأكثر تأثيرًا. كانت القوافي والأوزان سحرًا يأسر النفوس، وكان الشعراء نجوماً يحتفى بهم، يحملون رسالة الكلمة ويتحدثون باسم قبائلهم وأوطانهم.

لكننا اليوم نعيش في عصر مختلف، حيث الهيمنة أصبحت للمادة على الروح، وللصورة على الكلمة. صار العالم أسرع من أن يتوقف لتذوق بيت شعر أو أن يتأمل جمال استعارة أو تشبيه. ومع هذا التغير، بدأ الشعر يخسر جزءًا من حضوره وسط ازدحام الوسائل الحديثة.

بلاغة الجمال أم قيد التكنولوجيا؟

إن التقنية، بما قدمته من تسهيلات، أصبحت سيفًا ذا حدين على الإبداع الإنساني. فهي التي أفسحت المجال للأصوات أن تصل للعالم، لكنها في الوقت ذاته أدخلت الفن في منافسة شرسة مع أدوات الترفيه السطحية.

صار الشعر اليوم يواجه معضلة: كيف يحافظ على عمقه وجماله في عالمٍ يعتمد السرعة والإيجاز؟ هل يمكن لقصيدة من عشرات الأبيات أن تصمد أمام منشور سريع على منصة اجتماعية أو فيديو قصير يجمع بين الصوت والصورة؟

رغم ذلك، يبقى الشعر قادرًا على مقاومة هذا التحدي ولو إلى حد معين، إذا استطاع شعراء اليوم استخدام هذه التقنيات كوسيلة لانتشاره بدلًا من أن تكون عائقًا أمامه.

التجديد: ضرورة أم تهديد؟

في محاولاته للتكيف مع الواقع الجديد، خضع الشعر لتحولات جذرية. فقد ظهرت أشكال جديدة مثل قصيدة النثر والشعر الحر، التي كسرت قيود الوزن والقافية. البعض يرى في هذا التطور تحريرًا للشعر، بينما يعتبره آخرون تخليًا عن جوهره وأصالته.

لكن السؤال هنا: هل الشكل وحده هو معيار الشعر؟ أليست الروح الشعرية، التي تتجلى في التصوير البديع والعاطفة الصادقة والخيال الواسع، هي جوهر الفن؟

إن التجديد في الشعر ضرورة حتمية، لكنه لا يجب أن يكون انحرافًا عن معاييره الجمالية. الشعراء مطالبون بالموازنة بين الأصالة والتجديد، للحفاظ على مكانة هذا الفن.

الشعر والإنسان: علاقة خالدة

قد يظن البعض أن انصراف الناس عن قراءة الشعر دليل على ضعفه أو فقدانه لمعناه. لكن الحقيقة أن الشعر باقٍ، لأن الإنسان بطبيعته بحاجة إلى ما يروي ظمأ روحه. في كل لحظة ألم أو فرح، يبحث الإنسان عن تعبير عميق يتجاوز اللغة العادية، وهنا يأتي دور الشعر.

الشعر هو انعكاس للعاطفة الإنسانية، سواء كانت حبًا أو ألمًا أو أملًا. وإذا بدا أنه يتراجع في عصرنا، فإن ذلك يعود إلى ضعف العلاقة بين الإنسان والروح، لا إلى ضعف الشعر نفسه.

الشعر في مواجهة التحديات

الشعراء اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى بأن يجعلوا قصائدهم قريبة من الناس. عليهم أن يبتكروا أساليب جديدة للتعبير، وأن يوظفوا التكنولوجيا لنشر الشعر على نطاق أوسع.

كما أن المسؤولية تقع على عاتق المؤسسات الثقافية والتعليمية، لتعزيز قيمة الشعر في نفوس الأجيال الجديدة. يجب أن تُدرَّس بلاغة الشعر، لا كمادة جامدة، بل كتجربة حيّة تلهم الطلاب وتفتح أمامهم أبواب الإبداع.

هل من أمل؟

لا يمكن أن يُقال: إن الشعر بات معاقًا، بل إنه يمر بمرحلة تحدٍّ وتحوّل. الشعر كالكائن الحي، قد يضعف أحيانًا لكنه لا يموت. بل إن الشعر الحقيقي يظهر أكثر قوة في الأزمات، لأنه يجد دائمًا من يؤمن بجماله وقدرته على التأثير.

فلنعد إلى الشعر، فهو ليس مجرد فن عابر، بل هو حاجة إنسانية ملحّة. في زمن الضوضاء والتشتت، نحتاج للشعر كصوت هادئ يعيد ترتيب الفوضى، وكضوء خافت يضيء عتمة الروح.

فهل نعود لنُصغي لهذا الوحي الذي لا يغيب؟

قلتُ في هذا المعنى بعض أبياتٍ من الكامل:

الشعرُ روحُ القلبِ، سرُّ بقائهِ

منهُ الحروفُ كأنّها تنزيلُ

هو زائرٌ أمسى يغيثُ موَلَّهاً

في كلِّ قلبٍ حُجّةٌ ودليلُ

هو صوتُنا العالي إذا خَفَتَ الصدى

والشعرُ رغمَ العاتيات هَطولُ

يا حاملَ الأشعارِ كنْ متوشِّحًا

بالعزمِ فهي رسالةٌ ورسولُ

***

...................

بقلم: د. علي الطائي

20-12-2024

منذ القدم والشعوب تحتفل باعيادها الوطنية والقومية والدينية وكانت بلدان الشرق في طليعة الشعوب بهذه الاحتفالات كبلاد الرافدين وبلاد النيل والشام وقد ارتبطت هذه الاعياد بمظاهر الطبيعة كالفيضانات وخصوبة الارض وفصل الربيع حيث تقام طقوس احتفالية في بلاد سومر واكد وبابل واشور بمراسيم خاصة في بداية كل سنة.

لقد كانت اقامة مثل هذه الاحتفالات كل عام امراً ضرورياً وحيوياً من وجهة نظر الفرد في العصور القديمة لانه كان ينطلق من فهمه وتفسيره للظواهر الطبيعية والتي يعدها قوى خارقة غير منظورة لذلك اصبحت شيئاً مقدساً عليه اعادتها كل سنة لأنها تفسر له اسرار الكون واسرار خلق الانسان من قبل الهة غير مرئية ولهذا كان السومريون والبابليون يقيمون احتفال راس السنة حيث تجري خلال هذه الاحتفالات اعادة مسرحية واسطورة التكوين والتي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالخصوبة والتكاثر (بالنسبة للانسان والحيوان والنبات) وعلى النحو الذي جاءت به اسطورة تموز وعشيقته عشتار ويرمز تموز إلى الخصوبة والنمو بينما ترمز عشتار إلى الحب وكان ارتباطهما وزواجهما مقدساً يجب اعادته (اي اعادة تمثيله) في كل عام وفي فصل معين هو الربيع لما له من اهمية في ازدهار الطبيعة والنمو، وهكذا تعاد وقائع ذلك الزواج الالهي كل عام حين يقوم الكاهن الاعظم بتمثيل شخصية (تموز) بينما تقوم الكاهنة بدور الزوجة (عشتار) حيث يجري احتفال مهيب داخل المعبد يسميه قدماء العراقيين (الزواج المقدس) وقد كان هذا الزواج معروفاً لدى العراقيين (في حدود عام 2750 ق.م) وهكذا يقترن عيد راس السنة السومري والبابلي بمظاهر الطبيعة والزواج المقدس، وسبب هذا الاقتران ان السومريين والبابليين كانوا من الشعوب التي تعتمد اساساً على الزراعة والرعي وهي لذلك تهتم اهتماماً كبيراً بدورة الفصول وتعاقبها لذا فأن تجديد الطبيعة يتحتم وجود زواج مقدس وولادة جديدة وكان السومريون والبابليون يقدمون القرابين للمعابد في هذه المناسبة التي يجري الاحتفال بها في بداية شهر نيسان ولمدة سبعة ايام من 1-7 نيسان حيث الاعتدال الربيعي ويكون الاحتفال مصحوباً بالتراتيل الدينية والاناشيد والرقص الجماعي من شهر نيسان كونه موسم سقوط المطر وفيضان دجلة والفرات ونضج المحصول الزراعي التي تتم بعده عملية الحصاد، ولايزال سكان المناطق الريفية في وسط وجنوب العراق يعدون شهر نيسان (شهر الحصاد) وهذا معروف حتى في اهازيجهم الشعبية التي يرددونها اثناء وبعد الحصاد .

المعروف ان سكان بلاد الرافدين هم الذين بدأوا بممارسة الاحتفالات بعيد راس السنة غير ان المؤرخين والمهتمين بالتاريخ الفرعوني يرون عكس ذلك اي ان مصر هي التي لها قصب السبق في هذا الاحتفال، فقد ورد في احد اعداد مجلة الهلال المصرية مقالاً بعنوان (عيد راس السنة اخترعته مصر) بقلم الدكتور (سيد كريم) (ان مصر تحتفل بعيد رأس السنة قبل 7546 سنة اي قبل ميلاد السيد المسيح بحوالي (5) الاف سنة ونصف واعتبرته عيداً دينياً وقومياً)

صحيح ان هناك تشابه بين البلدين في الطقوس والاحتفال حيث ربط المصريون عيد راس السنة بفيضان نهر النيل الذي يكون في فصل الصيف نظراً لسقوط الامطار وبكميات كبيرة على منابعه كما فعل العراقيون ايضاً، كما ان احتفالات المصريين تجري عادة في الشوارع والمعابد والساحات كمعبد الكرنك ويقوم المصريون بتزيين المنازل واعداد الزهور اثناء الاحتفال، كذلك كان البابليون يقيمون الاحتفال بالشوارع والمعابد والساحات وهناك شارع يسمى (شارع الموكب) في بابل وقد سمي بهذا الاسم لان مواكب الاحتفالات تمر عبر هذا الشارع وقد سمي ايضاً باسم (شارع المسيرة) وهكذا نجد التشابه واضحاً بين الحضارتين ولكن اي بلد منهما الاسبق فهذا اختلاف في اراء المؤرخين العراقيين والمصريين وكل منهما يدعو إلى العودة إلى الرقم الطينية بالنسبة للعراق والبرديات بالنسبة لمصر لتحديد الاسبقية في هذا الميدان، ويبدو من التفاصيل التي ذكرها الاستاذ المشار اليه في مجلة الهلال المصرية ان المصريين قد سبقوا العراقيين في هذا المضمار فيذكر الدكتور في مقالته قائلاً .. (مع بداية الدولة القديمة وخلال عصر الاهرام تحول الاحتفال بعيد راس السنة بجانب الاحتفال الديني والقومي الرسمي . كانت جميع طبقات الشعب المصري تشارك في الاحتفال به في المنتديات العامة والساحات والميادين والحدائق وداخل القصور مصحوبة بالاناشيد والرقص والاغاني والتراتيل الدينية والمساكن التي تزين بسعف النخيل والزهور والمشاعل التي تضاء مع غروب الشمس لتنير ارجاء المدينة طوال ليلة العيد. وكان القصر الملكي بفتح ابوابه لاستقبال الجماهير التي تأتي من جميع انحاء البلاد لتحية الفرعون فيغدق عليهم بالكثير من الهدايا والاوسمة على حكام الاقاليم ويعفو عن الكثير من السجناء (كما يحدث اليوم)، وكان المصريون في هذا العيد يزورون مقابر موتاهم وينشرون الزهور على قبورهم ويوزعون على حراس المقبرة (الفطائر) وماتزال هذه العادة موجودة في مصر حتى اليوم

ومن عادات المصريين في هذا اليوم عقد قران الزواج لكي تكون بداية حياة زوجية سعيدة وقد خصصت ساحات لعقد القران الجماعي باحتفال كبير تعزف فيه الموسيقى ويتم فيه الرقص الجماعي.

وبعد شروق شمس اليوم الجديد يوزع المصريون الفطائر المزينة بالفواكه الطازجة وخاصة زهرة اللوتس وتقدم الحلوى، كما يقدم المصريون في عيد (الكرسمس) (ديك الكرسمس) الذي يتصدر مائدة العيد او ما يسمى بالاوز البري وقد اقتبس الاوربيون هذا التقليد واستبدلوه بالديك الرومي. وقد ابتكر المصريون تقليداً اخر هو شرب عصير العنب الطازج كنخب للعام الجديد، وهكذا كان المصريون القدماء اول من شرب نخب العام الجديد ..).

كل الاماني لشعبنا العراقي النبيل بالامن والسلام لمناسبة العام الجديد .

***

غريب دوحي

فنان أخذته لعبة التلوين الى عوالم متعددة وهو يتغير مع المكان والزمان اقامة ونشيدا..

أعمال فنية متعددة الأحجام والمواضيع للفنان التشكيلي الهادي فنينة تشهدها فضاءات المركز الثقافي الدولي بالحمامات في الفترة من 8 إلى 31 ديسمبر 2024 ضمن سياقات الاشتغال الفني في عنوان دال وهو "النور الذي يفيض ".. فسحة جمالية لابن مدينة الحمامات بين المكان وجماله وذاكرته وتفاصيله ومن خلال تجربة فنية لعقود خمسة شهدت مشاركات ومعارض فردية وجماعية بتنويعات عن الانسان والسلام والبيئة .. وأجواء الحمامات مدينة الفنان الملهمة.. والكراسي ولعبتها المربكة..

هكذا هي الحالة الفنية التشكيلية وهي تحتفي بابن الحمامات الفنان التشكيلي الهادي فنينة الذي توزعت أعماله الفنية على جدران الفضاءات المعدة للمعارض الفنية والثقافية بالمركز الثقافي بالحمامات في معرض جديد .في هذا السياق وبخصوص المعرض كنبت الناقدة الأستاذة الجامعية بمعهد الدراسات التطبيقية بتوزر هاجر هيلة عن أعمال الفنلن الهادي فنينة مشيرة الى خصائص أعماله الفنية واهتماماتها الجمالية والاجتماعية والبيئية والثقافية لترى في تجربته عالما متعدد الاهتمامان والشواغل الفنية من علاقته بالآخرين وبمحيطه الثقافي والمجتمعي ونعني مدينة الحمامات وما توفرت عليه من عوالم نهل منها الفنان ومضى بفنه الى التوغل فيها رسما وتلوينا..796 alhadi

وفي مدخل المعرض بالمركز الثقافي بالحمامات كان هناك كرسي لا يصلح للجلوس لما أحدثه فيه الفنان ليصيرا مائلا وبشكله الطويل ولونه الأصفر وكلها علامات اجتمعت في ذهن الفنان الهادي فنينة لتحيل الى الكرسي ودلالاته العديدة ومنها السلطة فقد عبر بشكل واضح عن مسألة الحكم والسلطة وما يحف بهما من متاهات ومنعرجات وفخاخ ليؤول الأمر الى السقوط والانهيار..

في هذا المعرض الجديد يأخذنا عم الهادي "دلفين" الحمامات على علاقاته بالرسم يحمل بين أنفاسه حبه الدفين للحمامات بعطورها القديمة والحديثة وهو الذي عاش في ألمانيا لفترة وفي دوسلدورف حيث تعرف الى العديد من تفاصيل الحياة والناس  والفنون ليعود وفي قلبه شيء من حتى...من قيمة الفن في حياة الناس.. رغم المتغيرات والأحداث وهو الذي عايشها وفي عنفوان الأحداث بعد الثورة كانت معارضه بالحمامات في الفضاءات الثقافية والمركز الثقافي الدولي وبالمقاهي السياحية... وهاهو الآن يعود في هذه الأحوال ليعرض لوحاته مختلفة الأحجام والثيمات بفضاء دار سيباستيان بالحمامات وكأنه يرى في ذلك جانبا تنشيطيا يخوضه الفنان وفنه في بلاد تحتاج ترميما لما تداعى بأحوالها وأحوال الناس فيها...

الفنان التشكيلي " دلفين الحمامات "  الهادي فنينة يعرض أعماله بالحمامات بفضاءات المركز الثقافي الدولي بالحمامات في الفترة من 8 إلى 31 ديسمبر 2024 ضمن سياقات الاشتغال الفني في عنوان دال وهو "النور الذي يفيض "..فسحة جمالية لابن مدينة الحمامات بين المكان وجماله وذاكرته وتفاصيله ومن خلال تجربة فنية لعقود خمسة شهدت مشاركات ومعارض فردية وجماعية.

***

شمس الدين العوني

تكمن الأهمية السياحية للمباريات والاستعراضات والبطولات والمسابقات والمهرجانات الرياضية وغيرها من الفعاليات والنشاطات الرياضية المرتبطة بها في كونها مغريات (مشوقات – مجذبات) سياحية، تجذب الزوار والسياح من كل حدب وصوب، وتصنف ضمن (المغريات الثقافية) التي تشمل أيضا كل الأوجه والمظاهر الفنية والعلمية والأدبية والدينية والفلكلورية والتراثية في البلاد. بالإضافة إلى الممارسات والمراسيم والمتعلقة بالعادات والتقاليد الطقوس وبمختلف أنواعها وغيرها، والتي تمارس وتقدم عبر المهرجانات والاستعراضات والأحتفالات واللقاءات والمناسبات والزيارات، لتشكل إلى جانب المغريات الطبيعية (مناطق جليدية، الشواطئ، مساقط المياه والشلالات، الجزر، ومناطق التخييم...) والتاريخية (الكولوسيوم، الأهرامات، النصب، والمزارات...) والاصطناعية (قاعات التزلج على الجليد، الفنادق الرياضية، مضامير السباقات، الصالات الرياضية، المسابح الأولمبية، ملاعب سباق الخيل، منصات القفز على الثلوج، وملاعب الغولف...) منظومة الجذب السياحي المهمة في المعادلة السياحية التي تجمع بين السياح من جهة والمنتجات السياحية من جهة ثانية. وقد أدركت السلطات الرياضية والسياحية في كثير من الدول أهمية هذه الجوانب، وإمكانية مساهمتها في تنمية وتطوير صناعة السياحة الوطنية، وتنويع منتجاتها السياحية، وإيجاد أسواق جديدة لهذه المنتجات، واستقدام المزيد من السياح الأجانب، والدفع بالمسيرة الرياضية في البلاد للأمام، وتنشيطها على النحو المطلوب. فدأبت على توظيف واستغلال المباريات والمهرجانات والمسابقات الرياضية في الأنشطة والفعاليات السياحية، مع إتاحة فرص درجها ضمن البرامج السياحية، والترويج لها على نحو واسع وفعال، ومن خلال حزمة برامج فعالة وحيوية من أجل استقطاب الكثير من السياح الأجانب.          

***                

بنيامين يوخنا دانيال

.............................

* للمزيد من الاطلاع، ينظر (مقالات في السياحة الرياضية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2013.     

 

قديمًا كان الصديقُ شريكَ القلبِ، ومُؤنِسَ الدَّربِ، كأنَّ الإنسانَ لا يُعقَلُ أن يعيشَ دونَ آخرَ يُرافقُه ليُعينَه أو حتّى يُكابدَ معهُ مَلَلَ الأيّامِ وثِقَلَ اللّحظاتِ. إلا أنّ الزّمنَ الذي نعيشُ فيهِ حملَ معهُ عالَمًا جديدًا بالكامل؛ عالَمًا تُشَيَّدُ مَعالمُهُ بالأصفارِ والآحادِ، وتُشَغَّلُ آلاتُه على هدوءِ لوحةِ المفاتيحِ، لنجدَ صديقًا آخرَ يُؤنِسُ وَحدَتَنا، يَحفَظُ خُطواتِنا ويُشارِكُنا أفكارَنا وأحلامَنا... "الحاسوب".

هذا الجهازُ، الذي بدأَ اختراعًا تقنيًّا لتسهيلِ العمليّاتِ الحسابيّةِ والبَرمجيّةِ، ما لَبِثَ أن تَحَوَّلَ إلى نافذةٍ سِحريّةٍ على الحياةِ. كيفَ لا، وهو الآنَ يُمَكِّنُ الشّاعرَ أن يَسكُبَ بَحرَ المُتَقاربِ في "مِلَفٍّ نَصِّيّ"، أو يَنشُرَ مَقالتَهُ النّقديّةَ إلى العالَمِ أجمعَ بكَبسةِ زِرّ؟! الحاسوبُ لم يَعُد مجرَّدَ أداةٍ صامِتةٍ، بل صارَ كالرفيقِ الذي لا يَمَلُّ حديثَكَ، ولا يَسأمُ إبداعَكَ مَهْما طالَ.

رفيقُ الكَلِمةِ والإبداعِ

كلَّما جَلَستَ إليهِ، بدا وكأنَّهُ مُنصِتٌ صَبورٌ يُمَهِّدُ لك الطُّرُقَ:

للشِّعرِ:

على شاشتِهِ تَتَفَتَّقُ الأبياتُ وتَنْثالُ كجَدْوَلٍ رَقراقٍ. لم تَعُدْ بحاجةٍ إلى الأوراقِ المُبَعثَرَةِ التي تُرهِقُكَ في تَرتيبِها؛ يَكفي أن تَكتُبَ، وتُراجِعَ، وتُعيدَ تَشكيلَ القَصيدةِ حتّى تَخرُجَ كعِقدِ لُؤلُؤٍ مُتناسِقٍ.

للمقالةِ:

الحاسوبُ خِزانةُ أفكارِكَ ومكتبتُكَ الإلكترونيّةُ التي لا تَفرُغُ. يُساعِدُكَ على التَّعديلِ، والحَذفِ، وإضافةِ الأدلّةِ والبَراهينِ؛ بل إنّه صارَ بَوّابةً للمعرفةِ اللامُتناهيَةِ بفضلِ ما يَتَّصِلُ بهِ من مَحَرِّكاتِ بَحثٍ.

للقراءاتِ النَّقديّةِ:

النّقدُ يَحتاجُ إلى دِقَّةِ النَّظَرِ ووُضوحِ الرؤيةِ، وهُنا يَأتي الحاسوبُ ليُتيحَ لكَ عَرضَ النُّصوصِ وتحليلَها بتَأَنٍّ وتَعمُّقٍ. يَدعوكَ إلى المُقارنةِ بينَ الأعمالِ، وإلى الاحتفاظِ بملاحظاتِكَ وتَطويرِها، وكأنَّهُ مُحَرِّرٌ خَفيٌّ يُعيدُ ترتيبَ أفكارِكَ.

صَديقٌ مُطيعٌ بلا جِدالٍ

إذا أردتَ صَديقًا يَعمَلُ دونَ كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، ويُطيعُكَ دونَ أن يُجادِلَكَ أو يَتَذَمَّرَ، فلَن تَجدَ خَيرًا مِن الحاسوبِ!

هو عَبدٌ مُطيعٌ: مَهما طالَ وَقتُ العملِ أو تَعَدَّدَتِ المَهامُ، فهو لا يَشكو. يَكفيكَ أن تَضَعَهُ تحتَ أنامِلِكَ، ليَحفَظَ لكَ نُصوصَكَ، ويُنفِّذَ أوامِرَكَ بِدِقَّةٍ.

لا يَغيبُ عَنكَ: حتّى في ظلامِ اللّيلِ، أو وَحشةِ الوَحدةِ، يُضيءُ شاشتَهُ ليكونَ مَعَكَ.

يُقَدِّمُ لكَ العالَمَ على طَبَقٍ: بِضَغطةِ زِرٍّ واحدةٍ فقط، يُطْلِعُكَ على الأحداثِ حولَ العالَمِ: الأخبارِ، العُلومِ، التّاريخِ، الشِّعرِ، أو أيِّ مَعرِفةٍ تُريدُ. وكأنَّهُ صَديقٌ لا يَمَلُّ مِن البَحثِ ليَعودَ إليكَ بالمَعلومةِ جاهِزةً، مُهَذَّبةً، مُرتَّبَةً في دَقائِقَ مَعدودةٍ.

حينَ تُصبِحُ الوَحدةُ إبداعًا

قد يُقالُ إنَّ الحاسوبَ صَنَعَ نَوعًا مِن "الوَحدةِ"، لكنَّهُ في الحقيقةِ مَنَحَكَ فُرصَةً لِخَلْقِ عالَمِكَ الخاصِّ:

بجُلوسِكَ إليهِ لِساعاتٍ طَويلةٍ، تُصبِحُ الكَلِماتُ أَنيسَكَ.

هو مَعمَلُكَ: تَبدأُ بفِكرةٍ، تُحَوِّلُها إلى نَصٍّ مُتكامِلٍ، تُضيفُ لها رُوحًا بالإيقاعِ أو المَعنى أو النّقدِ.

وهو حافِظُكَ الأمينُ: لا يَتَشَتَّتُ ولا يُهمِلُ حَرفًا تَكتُبُهُ، بل يُعيدُهُ إليكَ مَتى طَلَبتَ.

بوّابةٌ إلى المَعرِفَةِ بلا حُدودٍ

من نافذةِ الحاسوبِ الصَّغيرةِ تِلكَ، تَرى العالَمَ كُلَّهُ:

تَطَّلِعُ على أَحدَثِ الأخبارِ، وتُتابِعُ أحداثَ السّاعةِ أينَما كُنتَ.

تَنهَلُ مِن المَعرِفَةِ والعُلومِ بِغيرِ حُدودٍ أو قُيودٍ.

تُبحِرُ في أَعماقِ الأدبِ والفِكرِ، فَتَعودُ أَكثَرَ ثَراءً.

بينَ التَّقليدِ والحداثةِ

ما أَجمَلَ تِلكَ اللّحظةَ التي تُمسِكُ فيها بِقَلَمٍ وتَكتُبُ على الوَرَقِ! لكنَّ الحاسوبَ جَعَلَكَ تَتَجاوَزُ حُدودَ "المَساحَةِ التَّقليديَّةِ" لِلكِتابةِ:

تُحرِّرُ أفكارَكَ،

تُعيدُ صِياغةَ سُطورِكَ دونَ شَطبٍ أو تَشويهٍ،

تُشارِكُها مع الآخَرينَ بِضَغطةِ زِرٍّ... وكأنَّكَ تُطِلُّ مِن نافذةٍ إلى العالَمِ أَجمعَ، تُعلِنُ فيهِ عن وُجودِكَ وأَدبِكَ.

خاتمة: خَيْرُ صَديقٍ!

إنَّ الوَقتَ الذي تَقضيهِ مع حاسوبِكَ لَيسَ ضَياعًا، بل هو رِحلةٌ في رِحابِ الإبداعِ. هو "الصَّديقُ الذي لا يَطلُبُ مِنكَ شَيئًا"، بل يُعطيكَ كُلَّ ما تُريدُ: مَساحةً، أَدواتٍ، ونافذةً إلى عالَمٍ لا يَحُدُّهُ أُفُقٌ. إنَّ علاقتي بالحاسوبِ ليست مُجرَّدَ استخدامٍ لآلةٍ صامتةٍ، بل هي صَداقةٌ متينةٌ تتجاوزُ حدودَ التقنية. في ساعاتِ العُزلةِ، يُضيءُ الحاسوبُ عَتمةَ الوحدةِ، ويُصبِحُ نافذةً على المعرِفةِ والخَيالِ، وبحرًا أُبحِرُ فيه بلا مَوانئَ أو حُدود. إنَّه مُلهِمٌ يُترجِمُ أفكَاري إلى كلماتٍ، ورفيقٌ أستندُ إليهِ حينَ تتعثَّرُ أحلامي. كُلُّ حَرفٍ أكتُبُه، وكُلُّ فكرةٍ أُطلِقُها مِن خِلالِه، تَزيدُ مِن أواصِرِ العِشقِ بينَنا، وكأنَّه رفيقُ دَربٍ لا يُمَلُّ ولا يَكِلُّ.

وإن كانَ لِكُلِّ مُبدِعٍ صَديقٌ يُعينُه

حاسوبي : خير جليسٍ في الزمان.

***

بقلم: د. علي الطائي

تعود بك الذاكرة إلى مختلف أشكال جداول الحقوق المتقاطعة فيما بينها، وأنت تمشي بين زحام صفوف النخيل، وعراجينه تطل عليك من الأعلى وهي تناديك وتجذبك إليها بلونها الأحمر والاصفر والبني... موسم جني التمور في الواحة يبدأ مع مطلع شهر شتنبر الشهر التاسع من كل سنة، ويمتد حتى آخر أيام شهر نونبر الشهر الحادي عشر من كل سنة، تدبير جني التمور يحتاج إلى جهد وتنظيم وتقديم وتأخير بين أنواع التمور المعلقة على أعناق النخيل، فالأولوية تكون لنوعية التمور التي توجه إلى الأسواق الأسبوعية... بعض التمور يفضل جنيها في الصباح الباكر، لأنها من النوع اللين واللزج، والبعض الآخر بالإمكان جنيه في أي وقت لكونه من النوع المتماسك، فحرارة الشمس لا تأثر في طبيعة تماسكه.

على طول أيام الأسبوع باستثناء يوم الخميس والجمعة، تتدفق على مختلف الأسواق وسط مختلف أرجاء الواحة، بعد شروق الشمس، مختلف الدواب المحملة بشتى أنواع التمور، المعبأة في مختلف سلال القصب الكبيرة والصغيرة الحجم، وتتحول الواحة إلى محج طيلة أيام الخريف لكل الباعة والمقبلين على تجارة التمور، وهم يقايضونها بمختلف السلع والبضائع.

 أسواق بيع التمور تحكمها عادات ولغة تواصلية بين البائع والمشتري... يعرض المنتوج المعبأ في السلال أو في صناديق خشبية، في ساحة تسمى برحبة التمر، بدءا من طلوع الفجر إلى المنتصف الأخير من النهار، فالمزايدة والمناقصة على طول هذا الوقت بين التجار سارية المفعول... هناك من التجار من يكون سخيا في الرفع من قيمة الثمن ومنهم من يتصف بالبخل ويعرض أثمان بخسة ويبادر للحط من قيمة المنتوج ويصفه بأوصاف عديدة... والغريب أن البائع يستمع له ويعرض عنه بقوله (هذا ما أعطاه الله) وتكون هذه الكلمة خاتمة الكلام.

وقد تتعالى الأصوات عندما يقبل على البائع مشتر يلح كثيرا على شراء ما يرغب فيه، لكن البائع لا يرضى بالسعر المقدم له، حينها يتدخل رجال آخرون من جهة البائع أو من جهة المشتري من أجل خلق فرصة التراضي بين الطرفين، وهي عملية اقناع للطرفين بثمن معقول حتى لا تضيع فرصة البيع أو الشراء. وعند التراضي يتصافح الطرفين بشكل علني وتستبدل حبات التمر بالأوراق النقدية مصحوبة بعبارة، (الله يربحك) عند الثانية بعد الزوال يكون مجمل بائعي التمور قد استبدلوا سلالهم وصناديقهم بأوراق نقدية، وبعدها تجدهم في ازدحام داخل جنبات مجزرة السوق لشراء لحم الخروف أو الماعز أو البقر، الكل يرغب في استبدال أوراقه النقدية بكتل من اللحم، وقد يتجه آخرون لشراء انواع من الشاي والسكر والزيت والفواكه والخضروات ويتجه البعض الآخر عند بائعي قطع الثوب ومنهم من يتجه لشراء التبغ ومختلف مستلزمات الطبخ من أواني وغيرها... 

داخل السوق يجلس البائعة جلسة القرفصاء أو واقفين، أما المشتري فهو يسير ذهابا وإيابا يترصد المدخل الرئيسي الذي يأخذ بائعي التمور إلى وسط مكان البيع لعله يجد فرصة ثمينة...  الجالسين القرفصاء وصناديق تمورهم تنظر إليهم ولعلها تعاتبهم أو تبتسم إليهم، تقرأ في وجوهم ولحاهم الكثة وعمائمهم تعلوا رؤوسهم وجلاليبهم... محن الزمن وصعابه واحتياجاته... بعض الشباب منهم من هجر الجلباب والعمامة واستبدلها بلباس عصري ... السوق الأسبوعي في الواحة، فرصة للتواصل بين مختلف الباعة القادمين من كل الجهات، يجددون فيه العهد فيمنا بينهم، وقد  يبدأ التعارف فيما بينهم، ويمتد مع طول الأيام لتترتب عنه زيارات متبادلة في الأعراس والأفراح والأحزان، وأحيانا تثمر مختلف تلك العلاقات مصاهرة بين الطرفين، في جنبات السوق يتم تداول مختلف أخبار ومستجدات الواحة، يتعرفون عن قرارات المخزن وأعوانه، ويتحققون أكثر من أخبار المقاومة ضد المحتل الفرنسي الذي ضيق عليهم الخناق حينها...السوق هو النافذة التي يطل من خلالها أهل الواحة على العالم من حولهم، بفضل القادمين من مختلف الأماكن البعيدة وبفضل الذين التقوا بهم...

بعد الزوال تجد بائعي التمور خاصة من كان مستعجل في قضاء كل متطلباته من السوق الاسبوعي. متجهين نحو فندق الدواب الذي يتمركز حوله أصحاب حدادة الصفائح الحديدية التي يتم تركيبها على حوافر الحمير والبغال بواسطة مسامير خاصة لتحمي الحوافر من صلابة وخشونة الأحجار على الأرض... فالمختص في تركيب الصفائح الحديدية على حوافر الدواب في مقام بيطري يفهم جيدا في أمراض الحمير والبغال فمنها ما يداويه بالكي والنار ومنها ما يداويه بوصفات أعشاب خاصة.

 وأنت في عين المكان يبدوا لك وهو يعج بالحركة، وبائعي التمور يساعد بعضهم البعض الآخر، من أجل رفع حمولاتهم على ظهور البغال والحمير وينطلقون جماعات في العودة إلى قراهم، وعلى طول الطريق يتبادلون الاخبار فيما بينهم ويتمنون غدا أفضل وقد تطول الرحلة إلى ساعتين وأكثر، وقد تطول لنصف يوم أو أكثر، وهو وقت كافي لمن يجيد متعة الكلام ونقل مختلف الأخبار، التي يتعلق الكثير منها بوقائع وأحداث أهل القرية، من قبيل فلان أقبل على الزواج  وفلان طلق زوجته،  وفلان دخل في خصام مع أهله،  وفلان خسرت تجارته... ومتعة في الوقت ذاته لمن يجيدون الاستماع، ويلقون بين الحين والآخر بكلمة أو بضعة كلمات، بهدف إثراء الحديث و اتساع مساحة الكلام. وفي طريقهم لا يغفلون تبادل مختلف الأخبار التي سمعوا بها عن المخزن وأعوانه، عن فرنسا وأعوانها واندحارها ورجوعها إلى الوراء، وعن الذين سافروا دون رجعة.

عند وصولهم إلى مختلف مداشرهم، فهم عرضة لمختلف الأسئلة،  بقصد معرفة ما جدَّ واستجد من أخبار قادمة من السوق، تتعلق بأثمنة مختلف المواد الأساسية من قبيل الحبوب والقطاني، وأثمنة الأبقار والغنم... وذلك مؤشر لمن يرغب في بيع أو شراء في الأسابيع القادمة، أحيانا يجلب المتسوق معه خبرا حزينا، بأن فلان ابن فلان من قبيلة كذا...قد التحق بربه... وبأن القبيلة الفلانية دخلت في مناوشة مع جارتها نتيجة الخلاف القديم بين الطرفين حول حدود أراضي الرعي... فالسوق نقطة إذاعة مختلف الأخبار، منها ما يرتبط بأفراد بعينهم، ومنها ما يرتبط بعامة الناس والقوم وحالتهم، إنه فرصة تجعل الفرد يخرج من دائرة محيط قبيلته، إلى محيط أوسع، يصافح فيه ومن خلاله أناس آخرين، يختلفون عنه من حيث تقاليدهم وأعرافهم من حيث انتمائهم القبلي... ببساطة السوق نقطة تلاحم وتقارب بين مختلف القبائل، وكثيرة هي الحروب بين القبائل التي وجدت لها حلا، من تحت خيام الأسواق، وكثيرة  هي محاولات التحريض ضد طرد المعمرين التي بدأت من الأسواق...السوق صلة وصل بين مختلف أرجاء الواحة عبر سرمدية الزمن، فكل شيء ذو منفعة يساق نحوه بما في ذلك الأخبار والأقوال والحكم والحكايات، فالسوق لا يخلوا من الحكائين ولا يخلوا من ذوي الفرجة من مروضي الحيوانات والطيور...    

بائعي التمور لا يعرفون الادخار، إلا فيما هو نادر، ففي الأعم ما يجلبونه من بيع التمور، لا يغطي مختلف حاجياتهم اليومية، ولهذا فالتقشف عندهم ليس عيبا من عيوب الحياة، ما يخشاه رجال الواحة على طول حياتهم، وقد يعدون العدة من أجله، لأن الزمن علمهم بأنه سيحل بينهم دون إذن منهم وهم في غفلة من أمرهم، إنه قدر الزيارة المحتومة والتي لا مهرب منها، فالزيارة لزائر غير مرغوب فيه وغير مرحب به إنه الجفاف. فأهل الواحة استيقنوا بأن الجفاف قد يحل لسبعة أعوام ويرحل، أليست هذه تأويلية يوسف لرؤية الملك1.  إنه القدر المحتوم، القانون الذي يعم كل فيافي الصحراء عبر الزمن، ولهذا من الطبيعي أن يفكر رجل الصحراء في الواحة وخارجها في الماء قبل التفكير في الطعام.

***

بقلم: د. صابر مولاي أحمد

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

..........................

1-  قال تعالى: " وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)"(يوسف) قال تعالى: "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِ ي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)"(يوسف)

 

في مبادرة تعتبر الأولى من نوعها، نظم الفنان التشكيلي والباحث الدكتور محمد البندوري معرضا حروفيا، وذلك في شراكة مع المديرية الجهوية لوزارة الثقافة مراكش أسفي، وبتنسيق مع محافظة قصر الباهية تحت شعار " الخط المغربي من المخطوط إلى اللوحة الفنية".

مشكلا مبادرة فنية، وتراثية، وثقافية تسهم في تنمية الواقع الحقيقي للحروفية المغربية وطنيا ودوليا، وذلك من خلال إغناء تجربة الخط المغربي الصحراوي.767 albandori

ويظهر انخراط الفنان محمد البندوري في نسج المجال التنظيري لهذا الخط من خلال كتابه الأخير: "الخط المغربي الصحراوي المقصديات الجمالية والوحدوية، ونسج المجال التطبيقي في نطاق تجديد الخطاب الفني المغربي وتقويته وتنويع آلياته جماليا وفنيا وثقافيا وحضاريا".

وفي هذا النطاق أبرز المعرض الحروفي المغربي الصحراوي  مختلف الجماليات الحروفية لهذا الخط الذي يشكل رصيدا ثقافيا ومكونا للهوية المغربية، ويشكل كذلك جزءا فاعلا في نقل مفردات الهوية الوطنية وتوصيلها إلى الرأي العام العالمي باعتباره حلقة تواصلية هامة، في مقاربة إبداعية متجانسة ومتناسقة مع كل ثوابت الهوية الوطنية والقيم المغربية الرصينة، حيث يقدم نموذجا حيا عن التطور الفني والحضاري المغربي.

***

لبنى ياسين: سويسرا

 

في الواقع، أنني نسيتُ تاريخ هذا اليوم، ولا أبدي رغبةً في النظر إلى هاتفي لأعلم في أي يوم من الشهرِ نحن، ولا يهمني ذلك.

هناك فضاء زمني ووجداني بين الواقع، وبين إدراكي له.

لا شيء حقيقي، ولا قدرة لي على إظهار الأمور كما هي دون إدعاء الصلابة في لحظات الإنكسار، دون الضحك حينما أرغب في البكاء.

الواقع أمرٌ يصعب تقبله، لا يمكنك إدراك لحظة واحدة دون حلم أو حنين.

وفي اللحظة التي تعي فيها ذلك، ينتهي بك الأمر في عيادة نفسية.

تجلسُ أمام طبيبٍ محاولاً تلخيص عمرك، تجاربك، أفراحك وأحزانك على شكل نقاط في جلسة استماع، بينما تحاول الثبات وجمع شتاتك لتتحدث. يحدّق بك، ولا شيء آخر يفعله سوى التحديق بك ومشاهدتك ترتعش وتتلوى مثل سمكةٍ أُخرجت من المحيط إلى القارب، وتركت على السطح والصياد يترقب توقف نبضها.

لا يستطيع أي طبيب أن يصف لنا أقراصاً تعالجنا من ذكرياتنا، أو أن يخلصنا من تلك الصور التي تنطبع خلف أجفاننا عندما نغمضها لكي ننام أو نحلم، ونحن نضحك قبيل هبوط الخيبة.

الحياة إجمالاً عبثية فوضوية مثل هذا النص الذي أكتبه الآن، متكررة ككل العبارات التي استخدمتها هنا.

وفوق كل ذلك، غير عادلة، ولا يوجد ما هو عادل فيها سوى لحظة الولادة ولحظة الموت. أما جميع ما بينهما فهو مضطرب الإيقاع.

أنت لم تختار لحظة ولادتك، ولا اسمك، ولا هيئتك، ولم يكن لديك الخيار حتى في أن تكون أو لا تكون، فقد قذفت إلى وجودٍ ربما لا ترغبه لو خُيّرت فيه.

إنك تشقى في كل مراحل حياتك، الدراسة شقاء، والغنى شقاء، والفقر شقاء، وحتى خروجنا إلى العالم كان شقاءً، فأمك ذاقت الموت ألف مرة لتستقبلك.

لا شيء سهل ومثالي، حتى حلمك الذي تسعى إليه، عليك أن تخوض صراعات وتسقط مئات المرات حتى تصل.. تصل متعباً.. تصل شخصاً غريباً لا تعرفه.. وقد لا تصل أبداً.

حتى أولئك المتشبثين بالحياة، الملوثين بأحلامٍ يقبضون عليها كما لو كانت جمراً، فإنهم لا يعلمون متى ستنفلت قبضتهم عنها، ومتى سوف تنطفئ شعلتهم.

أتخيل دائماً اللحظة التي سوف يتحتم علي فيها أن أغمض عيني الإغماضة الأخيرة، عندما يستسلم جسدي لرحيلٍ ترفضه روحي. هل سأحظى بالنظرة الأخيرة في وجوه من أحب؟

أم أني سوف أعاقب بوحدتي التي قدستها كثيراً؟

أعتقد أن أقدس حضور هو حضرة إنسان يرحل في أوج اشتعاله، فهذه اللحظات الأخيرة هي صورة صامتة لحصيلة عمره وكل ما مر به من ركام.

هي لحظة مرعبة ومهيبة لأنها الشاهد الوحيد على الحقيقة.

(لماذا لا تكون الحياة هكذا؟).

(أن نولد في عمر الثمانين عاماً، ثم كلما تقدم بنا الزمن نتراجع سنة إلى الوراء: ثمانين، سبعين، ستين… وهكذا، حتى نصل في سن العشر سنوات ونحن لا نفهم الحياة كثيراً. وعندما تصبح أعمارنا صفراً، فإننا نرحل غير مثقلين بذاكرة ولا حنين!).

إنني لا أفهم مشاعري، حتى عندما أريد الحياة، أتحدث عن الموت.

عندما أريد أن أعيش اللحظة، أسأل عن معناها، وكيف أتت، وما هي ماهيتها.

أذكر حواراً دار بيني وبين صديقتي. قالت لي: "عندما أفكر بالوجودية وبمعنى الحياة، أعلم أنني سقطت في الاكتئاب." فأجبتها: "أما أنا على عكسك تماماً، عندما أكون سعيدة، أتساءل عن كل هذا العبث، وماذا لو لم أُخلق إنساناً؟"

فضحكت لاختلافي وللشقاء الذي أسببه لعقلي.

بل إنني دائماً ما أبحث عمن يشاركني هذه الهرطقات، وأشتاق إلى حديث معتّق فاخر، حوارات عميقة في أمور لا تجذب أحداً.

أحاديث أجريها في العتمة، في الظلام الدامس، ظلام يشبه ذلك الذي يقبع في أعماقي، يخيل إليّ به حديقة جميلة ساحرة، لكنها بعيدة جداً.. يضيئها القمر أحياناً، ويغيب عنها أحياناً أخرى.

عندما أخوض حديثاً بقدر من العمق، أتخيل كأني دعوت هذا الإنسان إلى حديقتي السرية، البعيدة، والمقدسة.

لا يصلها إلا من تطهر من الأقنعة، ولا يعتب أبوابها سوى أولئك الصادقون، الطفوليون، والعميقون جداً.

إنني ارتعش الآن.. الطقس دافئ، لكنني أعتقد أنه الصقيع في قلبي، أو مقاعد حديقتي الحديدية الفارغة.

***

لمى أبوالنجا – أديبة وكاتبة من السعودية

الخميس..

يأتي التلوث في مقدمة التهديدات والتحديات التي تواجهها صناعة السياحة والسفر في الوقت الراهن، بغض النظر عن مصدره ونوعه وأوجه انتشاره. وتعتبر القمامة بانواعها (سكنية، صناعية، سياحية، الخ...) من المصادر الرئيسية لهذا التلوث خصوصا في الدول التي تفتقر إلى ادارة فعالة في معالجتها والحد من الآثار السلبية التي تتركها حتما على البيئة والمجتمع، والتي قد تلجأ فيها إلى وسائل وسبل بدائية ومتخلفة في التخلص من هذه القمامة، مثل طمر القمامة في الشواطئ (كما كان يحدث في الارجنتين قبل الانضمام على الاتفاقية الأمريكية لحماية السلاحف البحرية) والجزر (مثلما يحدث في المالديف) وأطراف الغابات (كما يحدث في بعض البلدان الآسيوية) التي قد تكون حساسة وهشة بيئيا، أو احراقها بالقرب من الفنادق والقرى السياحية، كما حدث في خليج مكادي وسهل حشيش ومنطقة مجاويش جنوب الغردقة المصرية عام 2008، الأمر الذي هدد باغلاق هذه الفنادق والقرى السياحية جراء عزوف العديد من السواح عن التوجه إلى هذه المناطق بسبب سحب الدخان السوداء التي صارت تغطي سماء المنطقة كل يوم، وما صاحبها من غازات وأدخنة وأبخرة في غاية الخطورة على الصحة. أما في الجزائر فقد دفعت القمامة ومسببات التلوث الأخرى إلى قيام وزارة السياحة في العام 2012 إلى ادراج (188) شاطئا في (14) ولاية في قامة الشواطئ التي يحظر فيها السباحة فيها من قبل السواح والزوار، منها (13) شاطئا في وهران وحدها و(17) في تلماس و(5) في تيزي ايزو. وذلك لأسباب صحية. الأمر الذي انعكس سلبا على الرياضات المائية والأنشطة السياحية المختلفة التي كانت تزاول على هذه الشواطئ. كذلك فعلت السلطات المعنية في تونس عام 2011 بالنسبة ل (13 %) من الشواطئ المنتشرة في البلاد، مثل شاطئ رواد وشاطئ السواسي وجنوب شاطئ مليان. أما مدينة (ديربان) بجنوب أفريقيا المعروفة كمقصد سياحي ييم شطره السواح من مختلف بلدان العالم فقد تسبب ارتفاع كميات القمامة والفضلات في عام 2008، وسوء إدارة مياه الصرف الصحي في (4) من الشواطئ الموجودة فيها إلى جردها من الرايات الزرقاء الممنوحة إليها من قبل (مؤسسة التعليم البيئي) (رسم) في حينها بحسب التقرير المنشور في صحيفة (صنداي تايمز)، وذلك لتردي مستوى نظافة وجودة المياه وتراجع مستوى الخدمات السياحية المقدمة في هذه الشواطئ، وضعف إجراءات السلامة المطلوبة والمتعلقة بالفعاليات والأنشطة السياحية، وعدم تطبيقها ضوابط وتعليمات الاستدامة البيئية. وهي جوانب حيوية ومهمة على نحو ملح، وتطرح بقوة في موضوع العلاقة التبادلية بين البيئة والسياحة في ظل تنامي الوعي البيئي لدى الناس بصورة عامة، والسواح على وجه الخصوص، وادراك أصحاب القرارات السيادية في قطاع السياحة والسفر لأهمية هذه الجوانب، وضرورة الأخذ بها من أجل الارتقاء بالمنتج السياحي وتنويعه وايصاله إلى هؤلاء في مختلف الأسواق، والدفع باتجاه التنمية السياحية المستدامة المطلوبة اليوم، وبما يحافظ على التوازن البيئي من جهة ومقومات السياحة من جهة ثانية وعلى قاعدة الاستدامة.

***

بنيامين يوخنا دانيال

.........................

* عن (السياحة والتلوث: مقالات) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2013.

{دَوامُ الحالِ مِن المُحال} قولٌ مأثور

وَحْدن كلمة عربية باللهجة اللبنانية، تعني (وحدهم) أو (هم وحدهم) وهي صيغة جمع لمجموعة من الأشخاص أو الأشياء معينة ومحددة يتم الحديث عنهم، لا تشمل غيرها؛ بهذا العنوان (وحدن) ظهر لنا الفيلم الوثائقي المتميز، للمخرج وكاتب سيناريو الفيلم (فجر يعقوب).

الفيلم يجمع بين التوثيق للأشخاص والأحداث وتثبيت زمان ومكان حدوثها، ممزوجاً مع القراءات الشعرية وفن التصوير التسجيلي والإخراج في السينما التوثيقية، تم تصوير الفيلم في بيروت عام (2013) فيما كانت أحداث وقصص ووقائع أحداث سيناريو الفيلم تبعد بنا كثيراً بعمق الزمن، أبعد كثيراً من هذا التاريخ بعشرات السنين أنها تعود الى سنين حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي تتحدث عن احداث ووقائع جرت معظمها في لبنان).

اسم الفيلم (وَحدن) هو بالحقيقة عنوان أغنية ذائعة الصيت للفانة الكبيرة (فيروز) بلحن أخاذ وصوت ساحر، والتي تقول مقدمة الاغنية (وحدن بيبقو مثل زهر البيلسان) والتي كتبها الشاعر اللبناني (طلال حيدر) وللقصيدة قصة معروفة ومشهورة وموثقة بلسان الشاعر (حيدر طلال) ومنشورة في مختلف وسائل الإعلام، وهي قصة العملية الفدائية الفلسطينية المسمات (عملية الخالصة) والتي نفذت في مستوطنة (كريات شمونة) في (11نيسان 1974).

الفيلم يوثق بالصوت والصورة لنشاطات وأعمال (ثلاث) مخرجين رواد مبدعين (لبنانيين) ولذلك لشاعر لبناني (طلال حيدر) أيضاً.

المخرجون هم:

1-  كريستيان غازي، تنشر المواقع الصحفية سيرته الذاتية وأستل منها: (من مواليد مدينة (أنطاكيا عام 1938)، من أب لبناني وأم فرنسية، نشأ في (سوريا) قبل أن يستقر في (لبنان)، ارتبط انتاجه الفني بالعمل الفدائي الفلسطيني، أخرج فيلم (الفدائيون) في عام (1967). خلال الحرب الأهلية اللبنانية أراد (كريستيان) تصوير الوجه القبيح لها عبر عدة أفلام وثائقية إلا أن ميليشياتها أحرقوا (النيجاتيف) الخاص بجميع أفلامه ولم يتبق له سوى فيلم (مئة وجه ليوم واحد (الفيلم (أسود وابيض) متزوج من الممثلة المسرحية (مادونا غازي) والتي توفيت أثر حادث سيارة مأساوي.)

بالإضافة للإخراج السينمائي فقد عرف عنه انه متعدد المواهب فنان ومسرحي وأجاد الغناء الأوبرالي وَشاعر له العديد من الدواوين الشعرية، توفي في (بيروت) بتاريخ (11/ديسمبر/2013) بعد اكتمال تصوير الفيلم (وحدن) وقبل أن يشاهد عرض الفيلم.

خلال مشاهدتي عند عرض فيلم (وَحدن) كانت اللقاءات التي اجراها الفنان المغفور له (كريستيان) تظهر على صحته وحديثه قساوة الزمان وكرب المحن التي ضغط بعنف عليه وعلى صحته ونفسيته ومنها فقدان ارشيفه الفني الغزير، وفقدان زوجته وأوجاع مرضه وتبخر أحلامه وأماله!

2-  المخرج (جورج نصر) في الصحافة منشور عن حياته وإعماله صفحات كثيرة منها: (من مواليد (15- يونيو-1927) طرابلس شمال لبنان، وأنتقل إلى (الولايات المتحدة الأمريكية) حيث درس الإخراج السينمائي، وتخرج عام (1954) ثم عاد إلى لبنان، أخرج فيلمه الأول بعنوان (إلى أين) عام (1956) والذي شارك به في مهرجان (كان) السينمائي، كأول فيلم سينمائي يعرض في المهرجان، تناول (جورج) في الفيلم حياة المغتربين اللبنانيين في الولايات المتحدة والبرازيل.

للمخرج (جورج) العيديد من الأفلام والدراسات السينمائية، كرم بالعديد من الجوائز، يعد الأب الروحي للسينما اللبنانية، توفي عام (2019) عن عمر يناهز (92) عاماً. وثق لنا فيلم (وحدن) بالصوت والصورة المخرج المبدع (جورج نصر) وهو بعمر متقدم همته العالية وذاكرته المتقدة ونشاطه وحيويته عالية، وهو يتحدث عن مشاريعه وأحلامه التي لأسباب عديدة لم يستطع تحقيقها، دارت كامرة الفيلم بمكتبه الخاص لتوثق لنا أرشيف غني كبير لأعماله ومشاريعه الاكاديمية والسينمائية.  

3-  المخرجة نبيهة  لطفي: مخرجة وممثلة لبنانية، من مواليد مدينة (صيدا/ لبنان عام 1937)  ألتحق بالجامعة الامريكية في بيروت عام (1953) وفصلت منها بسبب نشاطها السياسي عام (1955)، وهي بعر ثمانية عشر عاماً، وذلك لخروجها مع التظاهرين احتجاجاً على إعلان (حلف بغداد 1955)، هاجرت إلى (مصر/ القاهرة) فمنحها الرئيس المصري (جمال عبد الناصر/ ت 1970) منحة دراسية إلى الجامعات المصرية، أكملت من خلالها دراستها وتخرجت من المعهد العالي للسينما، وكانت ضمن الفوج الأول من وجبه خريجي معهد السينما عام (1964)، لها نشاطات وكتابات نقدية سينمائية متنوعة، منحها الرئيس اللبناني (أمين لحود) وسام (الأرز) من رتبة فارس تقديراً لإبداعها في مجال السينما التسجيلية. توفيت في (القاهرة/مصر) عام 2015 عن عمر يناهز (78) عاماً.

خلال عرض فيلم (وَحدن) سلط الضوء فيه عن فيلمها (لأن الجذور لا تموت) والذي يصور الفيلم الحياة الصعبة القاسية المأساوية لسكان مخيم (تل الزعتر) الفلسطيني في بيروت، خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، والذي ركزت فيه المخرجة عن حياة النساء الفلسطينيات واللبنانيات اللواتي يكافحن بالعمل المثابر من اجل العيش والحياة.

في فيلم (وَحدن) يُبرز لنا المخرج المبدع ( فَجر يعقوب) لقطات من (فصل الخريف) يمازجها ويداخلها بشكل فني جميل مؤثر بصورة حية للشاعر (طلال حيدر) وهو ينشد مقاطع من قصائده الشعرية بصوته الرخيم، وكأنها تمثل رحلة (خريف العمر) أظهرها في العديد من اللقطات الإبداعية التي تتماشى مع أجواء الفيلم الذي يشارف فيه جميع من يحاول التوثيق لهم ولنشاطاتهم الإبداعية المهمة على مشارف (رحلة خريف العمر) والتي وثقت خلالها لحقب زمنية طويلة مضت والتي كانت قد انتجت فيها أفلامهم الوثائقية والتسجيلية ونشاطاتهم الفكرية والأدبية الإبداعية والتي ستبقى أرث ثقافي وشاهد حي وأرشيف مهم وضروري للتاريخ ولكل الباحثين والدراسين  ولمختلف التخصصات.

في أمسية ثقافية رائعة متميزة تم عرض فيلم (وَحدن) مساء يوم السبت (2024.12.07) في صالة مقر الجمعية الثقافية العراقية في مالمو، والتي استضافت فيه الصديق المخرج والشاعر والأديب الأستاذ (فجر يعقوب) مخرج وكاتب سيناريو الفيلم للحديث مع الحضور عن فيلمه، في بداية الأمسية رحب مدير الجلسة الأستاذ (عصام ميزر الخميسي) بالضيف الكريم والحضور الأكارم، ثم قدم نبذة عن السيرة الذاتية للضيف الحافلة بالعمل المتواصل والابداع ، ثم تم عرض الفيلم ،بعد انهاء عرض الفيلم كانت هنالك فسحة من الوقت لمشاركة الجمهور الذي حضر العرض بمداخلاتهم واسئلتهم واستفساراتهم والتي رحب بها ضيف الأمسية وأجاب عليها جميعاً، ثم قدمت للضيف الكريم باقة من الورد.

نبذة مختصرة عن المخرج والكاتب والأديب والروائي والشاعر (فجر يعقوب) من مواليد (مخيم اليرموك/ سوريا 1963) مقيم حالياً في السويد، خريج المعهد العالي للسينما من - صوفيا/ بلغاريا- قسم الإخراج السينمائي (عام 1994) له أكثر من (7) أفلام روائية قصيرة، والبرامج التسجيلية، وأصدر العديد من الروايات الأدبية، والمجاميع الشعرية، حائز على العديد من الجوائز الأدبية والفنية والتقديرية.

 في الختام أقول: تحية كبيرة للصديق العزيز الكاتب والروائي والاديب والفنان (فجر يعقوب) على هذا الجهد الإبداعي الذي بذل لإنتاج هذا الفيلم التوثيقي الرائع، ففيه رسالة كبيرة ومهمة وهي الحفاظ على توثيق اعمال المبدعين ولفت الأنظار لجهودهم الفكرية الإبداعية السخية المبذولة، ومن أجل حماية الملكية الفردية للمبدعين بتوثيقها وحفظها وتعميمها، لكونها جزءاً مهماً يبرز الهوية الثقافية لاي مجتمع لتلك الفترة الزمنية التي انتجت فيها، فالحفاظ عليها هو الحفاظ على الإرث الثقافي والابداعي والإنساني لعموم المعمورة.

  لا شيء ثابت ويدوم للأبد، سريعاً يمضي بنا الزمان وترافقه تغيرات أسرع هائلة في طرق التجديد والتحديث والأبداع والابتكار وَالتفكير وَالتدوين والعمل، والإنتاج، وَالنِضال، وَالكفاح!

***

يَحيَى غَازِي الأَميرِي

كتبت في مالمو/السويد (ديسمبر/ كانون أول 2024)

هو القصر الذي بناه المعتمد على الله (256 - 279) هجرية قبل إنتقال العاصمة إلى بغداد ببضعة سنوات، فعلى الأرجح بناه بعد سنة (270) هجرية، ويُقال بني سنة (264) هجرية.

القصر يبعد عن الملوية حوالي (9) كم، وهو مستطيل الشكل (121 في 96) م، حوله ساحة واسعة مسورة وخلف السور خندق وأمام بوابته بركة، ويتألف من طابقين، وفيه زخارف رائعة وتعبير عن ذروة ما وصل إليه فن العمارة العباسية، ويبلغ عمر القصر أكثر من (1100) سنة.

وتحيط بالقصر الأبراج الدفاعية المتينة وكأنه قلعة.

ويقع في الجانب الغربي من مدينة سامراء، ووصفه بدقة المستشرق الألماني (فون أوبنهايم) الذي زاره في نهاية القرن التاسع عشر، ونشر عنه في سنة (1900)، ويقول: "وتشير جميع المزاهر الخارجية لهذا المكان إلى أننا أمام قصر للهو والإستمتاع"!!

يسمى قصر العاشق أو المعشوق، وتدور حول تسميته حكايات متوارثة كنا نسمعها من أمهاتنا وجداتنا.

والقصر تعبير عن ثورة عمرانية بلغت ذروتها في بنائه، فهو آخر القصور التي بنيت في سامراء، التي كان فيها ثلاثين قصرا تضاهي بجمالها قصور غرناطة وقرطبة، وقد أحدث بناء القصور تطورا غير مسبوق في فن العمارة، ومنها إنتشرت الفنون العمرانية إلى مدن عربية وغربية.

ويغفل المؤرخون ثورة سامراء العمرانية، التي ترى تأثيراتها في العديد من البنايات بدول عربية وأوربية.

ويذكر هيرتسفيلد الذي نقب في القصر سنة 1911، أن داخل القصر يتألف من ثلاثة أقسام طولية رئيسة، تتخللها فناءات مفتوحة وأواوين مشرفة عليها وصالات معمدة وقباب، وصولا إلى قاعة العرش المتميزة بعلوها.

والقصر شأنه كغيره من القصور العباسية الأخرى، يحتوي على إحترازات أمنية ومخابئ وسراديب وأنفاق، ففقدان الأمان كان يؤرق الخلفاء، ويوجب عليهم السكن في قصور معقدة البناء، للحفاظ على سلامتهم من الطامعين بالخلافة.

وعندما نتساءل كيف تخرّب آخر قصر بني في سامراء، لا توجد وثائق تشير إلى ما حصل له، وكيف تحول إلى ما هو عليه اليوم، ولا توجد بحوث رصينة تفسر كيف إنتهت قصور سامراء إلى ركام في وقت قصير بعد إنتقال العاصمة إلى بغداد، وهذا أحد الألغاز التأريخية التي يخشى الباحثون دراستها وتفسيرها.

ويبقى قصر العاشق دليل إدانة على عدم إحترامنا لآثارنا، ويؤكد على نزعة الدمار والخراب الكامنة فينا!!

***

د. صادق السامرائي

 

تمثل المحميات الطبيعية بأنواعها مصادر جذب فعالة ومهمة بالنسبة للزوار والسياح من ذوي الأهتمامات المتعلقة بالبيئة، وهذا ما دفع السلطات السياحية والبيئية في الكثير من الدول إلى الترويج إلى المنتوج السياحي الذي يقدم من خلال المحميات على نحو مخطط ومدروس من أجل زبادة معدلات التسوق، ودعم التدفق السياحي، وتقديم خدمات متميزة للسياح مع تحقيق إيرادات مالية مناسبة، تساعد على تطوير وإدارة هذه المحميات بالشكل المطلوب. ووفقا لقواعد الاستدامة المعروفة التي تهدف إلى الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية وصونها، للحيلولة دون الاضرار بأوجه التنوع الحيوي (البيولوجي) التي تتمتع به. وذلك من خلال تنظيم حركة الأفواج السياحية إليها عددا وتوقيتا، ونوعية السياح وتوجيههم بضرورة الألتزام الكامل بالتعليمات والضوابط، لتجنب أي شكل من أشكال الاخلال بالنظام الايكولوجي الذي يزخر به، مثل: عدم العبث بالأنواع والأصناف النباتية من أشجار ونباتات والمحتويات الأخرى داخل المحميات هذه، وعدم ازعاج الحيوانات التي تعيش فيها بأي شكل كان، والألتزام بالحدود المقررة عند الحركة واللأقتراب منها لغرض المشاهدة والمراقبة والتصوير، وذلك لدواع أمنية، ولتجنب نقل الفيروسات التي قد يحملونها معهم، فتصيبهم بامراض وأوبئة، يصعب معالجتها والسيطرة عليها، فتهدد حياتها على المدى القريب والبعيد، وتؤثر في أعدادها ونوعيتها، وبما يتعارض مع الأتجاهات الرامية إلى الأستدامة البيئية، مع ضرورة عدم ترك المخلفات لاحتمال تسببها بالتلوث. ففي عام 2009 أصيبت (11) غوريلا جبلية من أصل (12) غوريلا موجودة ضمن إحدى المجموعات ال (8) في واحدة من المحميات الطبيعية في جبال (فيرونجا) على ارتفاع (2500) م فوق مستوى سطح البحر ب (روندا) بسلالة من فيروس بشري مسبب للالتهابات الرئوية، انتقل إليها جراء اقتراب السياح الأجانب منها، وفقا للنتائج البحثية لأحد المراكز الطبية الأمريكية. وهي نوعية نادرة اكتشفت في عام 1909، ولا يوجد منها حاليا سوى (700 – 800) غوريلا، منتشرة في كونغو الديمقراطية ورواندا وأوغندا. الأمر الذي دفع إدارة المحمية إلى اصدار توجيهات قاسية، لا تسمح إلا بزيارة واحدة لكل مجموعة منها في اليوم لقاء (500) دولار، يذهب إلى صندوق المحافظة على حديقة البراكين في الشمال، وعلى وجه الخصوص لحماية الغوريلا الجبلية من الانقراض، بالأضافة إلى الرسوم المفروضة من قبل الحكومة الرواندية على الأنشطة المرتبطة بالغوريلا منذ عام 2008. وهناك تجارب متميزة في هذا المجال، طبقت في استراليا وجمهورية جنوب أفريقيا وإيطاليا وكوستاريكا وكندا وكينيا وجمهورية أفريقيا الوسطى. وقد نجحت إلى حد بعيد في إزالة التضارب بين تطبيق قوانين المحافظة على البيئة الطبيعية ومستلزمات صناعة السياحة ومتطلباتها، مع وضع المحميات الطبيعية بانواعها كأحد عوامل الجذب والتسوق السياحي الفعالة في استقدام وجذب المزيد والمزيد من السياح والزوار من أصدقاء البيئة الطبيعية من داخل وخارج البلاد.

***

بنيامين يوخنا دانيال

....................

* عن (السياحة والتلوث: مقالات) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2013.

 

هو، هذه الارض الواسعة، التي نغوص بها كما التماسيح في بقايا وحل الانهر الهاربة، لكثر الجرائم، للجفاف. وسط هذا الوحل نقيم جميعا، من ينام ومن يجذف الريح بيديه، من ينظر حوله صامتًا، ومن يتحسر... نكتب على الوحل اجمل الاشعار والجمل القصيرة، ومضات، نصوص طويلةً. الاغاني، نلحنها على نقيق الضفادع وحفيف الريح بأجزاء اجسادنا الواقفة فوق سطح الوحل وطنين الذباب، يمر النهار، بين شمس ساطعة تكوي الرؤوس وبين مطر يغسلنا، يحررنا قليلا. نحرك اجسادنا بعض الشيء، لكنها راسخة بالوحل. كأنّا ندور بذات الدائرة، يمر الوقت ثقيلا، واجسادنا تعودت على طبيعة المحيط، نشرب من الوحل، يا ويلها الحشرات التي تمر من قربنا او الديدان التي تظهر او الطيور العاشية التي تقف بمتناول اذرعنا، ونتنازل في الحبكة والسرد وقول الزجل، ونختمها بسكرةٍ من ماء الوحل المتجمع …. لننام مرة أخرى! أي احلام لك ستبقى؟ الحلم كالجسد يشيخ ثم يموت، لكن هنا في هذا الوحل، الحلم مات منذ زمن طويل. تحط الطيور على الضفاف، نراها، تبني اعشاشها، وتفقس، تكبر افراخها الناجية، ثم تطير محلقة في السماء حتى تختفي عن النظر، ونحن لا نبارح مكاننا.  منذ ايام مرّ حمار من قربنا، وما إن رآنا حتى فر ناهقا فزعا ... ليس هناك احدًا يمكنه الاستفسار منه، لتأكيد سبب موقفه هذا، ما علينا الا تداول الحدث بيننا، وأن نقتنع بتفسير المحللين!! فهم كثر والحمد لله، ولا تشوبهم شائبةٌ في لبس ربطات العنق المعوجة عند الرقبة، والمائلة بسبب انتفاخ البطون، ولون البدلات البنية او الخاكية … وصبغ الشوارب وبقايا شعيرات الرأس، وحف الحواجب وتهذيب الذقون كما الصخول، وليس هناك براعة اكثر من ترديد عبارات: الحقيقة والواقع، وواقع الارض! ولدينا وثائق تثبت!! وما ان يحتدم النقاش حتى يتحول من محلل بالقضايا الى مدافع عن جهة ما وبحماس!! وحين فُتح النقاش عن موقف الحمار منا، اعتبرها البعض بانه حمار لماذا نجهد انفسنا نحن خير الخلق بمشكلة حمار!! واحالها البعض الى ربما هناك شخص لبس جلد حمار واتى فقط لاستفزازنا!! والبعض اعتبرها تنمر من حيوان غبي! وآخرون وقلة قالت إن حالنا افزع حتى الحمار وهرب فيما نحن لا نحاول شيء… ولم ينتهِ النقاش حتى مطرت السماء غزيرا افاض الوحل وكاد يغرقنا، لم نتحسس حالنا للتخلص من الوحل، كأن اجسادنا واطرافنا السفلى تخدرت في ذلك الوحل…، ربما وصل الوحل الى العقل وهذا هو الشر… ثم نمنا. حين سطعت اشعة الشمس ثانية، مر موكب كبير من البشر يتقدمهم عازفو الطبول والآلات الاخرى، مر الجميع، خوذ بيضاء محاطة بشريط ازرق وستر زرقاء وسمتها عند الصدر زهرة اللوتس وسراويل حمر، آلاتهم تعزف والجمع يسير بانتظام عيونهم مشدودةً، افواههم فاغرة… في لحظة ما التقت عيوننا جميعا، لكن اللحظة لم تثِر اي ارتباك لديهم او سؤال، عدا امرأةٍ عجوز، جلست على ضفة الحوض الموحل واخذت تنظر لنا بحزن ودموعها تتابع على خديها، ربما ليس حزنا علينا، ربما على زوج قتل، او ابن خطف او أسر. المشاهد تذكر الاخرين بأحزانهم وتنسيهم منْ داخل المشهد... ونحن ببلادة اخذنا تقليد المعزوفات التي سمعناها غير ابهين بحالنا، وبعدها جاء انين الذكريات…قل هي بشرى اليأس والموت القريب. هكذا دارت بنا الايام من وحلٍ لوحلٍ… والحلم رماد.

ماذا ينفع الانسان اذا ربح العالم وخسر روحه؟.

سيوران

***

كريم شنشل

 

عاش الكاتب الفرنسي الكبير غي دي موباسان في الفترة الممتدة بين 1850 1893م، وهو واحد من كبار كتاب القصة القصيرة في فرنسا في القرن التاسع عشر، وهو أيضا من أهم رجال الأدب، معروفٌ بروايته صديقي الجيد bel ami، كما  له  إسهامات معتبرة في آدب الرحلات، وأهم كتبه في هذا المجال، كتاب حياة تجوال (1890م) رحلات في شمال إفريقيا : تونس الجزائر والمغرب ...

وهو ينتمي الى المدرسة الواقعية. وقد تمكن موباسان من  تطوير أسلوبه الأدبي متأثرا بفلوبير،  واستطاع نقل قضايا المجتمع الفرنسي وتوجيه انتقادات حيال تناقضات المجتمع البرجوازي في فرنسا وبالأخص في زمن الحرب ...

وفي سنة1881م قصد الجزائر في مهمة صحفية تستقصي أخبار بطل أولاد سيدي الشيخ؛ الشيخ بوعمامة، الذي كان يُنظر إليه كمتمرد من طرف السلطات الاستعمارية! فكتب العديد من المقالات الصحفية حول المنطقة ورجالها ومجتمعها، جُمعت فيما بعد في كتاب صدر سنة 1884م..

وزار الجزائر مرة أخرى سنة 1888م، وكانت رحلته الثانية للاستشفاء...

كتب موباسان حول رحلته الى الجزائر، فكتب عن المساجد التي أثارت انتباهه وإعجابه لبساطتها، وعفوية روادها من المصلين والأئمة، كما لم  يفته  مقارنتها بالكنائس في فرنسا أو أوروبا !..كما تحدث عن الزوايا و المرابطين، والآثار الرومانية القديمة وبالأخص في الجهة الشرقية من البلاد...

تحدث عن الشعب الجزائري والجزائريين، سواء الحضر من سكان المدن أو البدو من سكان الريف، وعن سكان العاصمة و المدن الداخلية... وعدد صفاتهم من كرم وشجاعة وصلابة وبساطة وإخلاص وعاطفة وعفوية... وهي كلها صفات العرب، وهي تنبع من قيمهم الدينية... اعتمد في كل ذلك على ما عاينه مباشرة ولم يعتمد أبدا على أي مصدر آخر أو استشهد به!.. وان لجأ الى أسلوب مقارنة الأوروبي بالجزائري وهي مقارنة لا تخلو أو لا تستطيع أن تخلو من تحيز !...

***

بقلم عبد القادر رالة

النكهات المَلكاتُ تليق بأذواقها الشاعرة

في واسطة عقد المثلث الذهبي للمدينة العتيقة لمراكش البهجة، تنبت شجرة وارفة أخرى، من أشجار خبير المعمار المغربي والأندلسي الأستاذ عبد اللطيف آيت بنعبدالله.

انبثاق فكرة نادرة، نبعت من ذاكرة العمارة وفن العيش بمراكش، وهو متحف الشاي 1112، الذي انجلت رياحينه أمس الأربعاء 11 دجنبر 2024، في افتتاح فضائه رسميا، بحضور مثقفين وإعلاميين وفنانين، هبوا جميعا للإصغاء لفتنة الشاي وتلاوينه وعباراته السابحة في ذرى الجمال والبهاء.

المتحف إياه، ميسم رياض تقليدي من عبق القرن الثامن عشر، يجاور المدرسة التاريخية العظيمة ابن يوسف، على سعة نابضة بأرواح الآباء والأجداد، تنبري أطيافها الحميمية لتسحبك بكل حنو ورحمة إلى صحن مأسور بسماء واسعة، وسقوف متلألئة وضاءة، تحفر بعيدا في ثقافة مهيبة وهوية بصرية لا مثيل لجمالها ونقائها.

في أتون متحف الشاي ذاك، يصر ايت بنعبدالله على استعارة مناقب الأعشاب والتوابل، بأصنافها ومناجمها العبقة، مكرسا بذلك بلاغة الانتماء لمغرب مراكشي حتى النخاع. فالرقم الذي يحمل هوية متحف الشاي (1112) مسنود على جذور دامغة، نقشت آياتها على سقوف الرياض. حيث التمع وشم الرقم السري، نافذا إلى أعماق الوصف، حاضرا في السياق البصري والثقافي.

ينبش آيت بنعبدالله في مسالك التراث، يحتويه بين الأضلع والقلب، فيدنو إلى الفكر، غير بعيد عن سرد حكاية أو ترميز أو إحالة سخية، سرعان ما تتعرش، وتنمو، فتحقق ما تأمل، من الفورة والإبهار والتمدد في الكينونة. هكذا اتسمت تجربة طلعة المتحف بقبلة الراغبين في تذوق نكهات الشاي المتعددة، بتعدد جهات المملكة، وتربع حضارتها على بهارات ونثارات الأزمنة والأمكنة والأحداث المتعاقبة.

ولأن الحدث غير مسبوق، وتجلوه بعض من مثاقفات كونية متجاورة ومتبادلة، أقلها امتدادات في اختيارات بعض شعوب آسيا، كاليابان والصين، أو أوروبا كفرنسا وإنجلترا، بحسب رأي ايت بنعبد الله، فإن نفائس “شاينا المغربي المتعدد والمبهر”، بأصوله وطرق تحضيره والتقائيته بالطباع والتقاليد والأعراف والدين، يضل الأكثر عبرة واعتبارا، والأبهى توقدا وانجذابا، حيث “ينطق بالذوق ويعبق باللذة”، عبر أطاييب فناجين (كؤوس) لا تأسرها الحدود ولا تعتورها قيود النمطية وأمدائها.

وللنكهات في عشق الشاي بالمتحف 1112، ما يؤصل هذا التماهي ويدنيه من حالات الشعر ونظمه الباذخة. وهي الأقرب إلى النكهات (البحور الشعرية) المتلاطمة، بين جهات مختلفة ومتنوعة، ثقافة وجغرافيا وطقوسا وميادين. ففي قلعة مكونة يغلب حبق الورد ونعناع الأرض وقرنفلها ونافعها. وفي الصحراء علك الرواء ونفائس الشيح وورق النبق. وفي مراكش نظام إعداد الشاي التقيليدي بالنعناع البلدي واللويزة وغيرها. وفي الشمال أنماط أخر.. كذا في الغرب كما الشرق...

لا يخترل المتحف، هذا الطريق المفرد، للتخصيص الذوقي الطعامي فقط، بل ينفتح على استلهام أسس حكيمة، تضع الأدوات المنتجة للشاي، وتاريخها ونظامها الخاص، حيث عمل على إيلاء “متحف الأواني التقليدية” اهتماما جوهريا، تفرد بعرض مجموعة منها، بعضها استقدم من إنجلترا، التي كان التجار المغاربة يترددون عليها، منذ أزمنة بعيدة، تعود بعض المصنوعات إلى سنة 1830 . من بينها أيقونات ثمينة القيمة والنوع، بصمتها أيادي الصانع التقليدي الأسطوري محمد بلعربي.

ولتاريخ الضيافة ومعالمها، سموق لافت في المتحف، حيث تتقاسم أبارق الشاي المختلفة، وكؤوسه المزخرفة وغير المزخرفة، وأوني إعداد الشاي، من البراد إلى أباريق النعناع و”التخالط” و”السكر” و”الأطباق” … نبضات تهمس، متوجسة خيفة أن تمسها ريح الشتاء وجنونها المزدحم بهفهفة الفرح وآثاره الخفيفة على النفس.

وكعادته، ينماز الفضاء عند ايت بنعبد الله، في كل ارتقاء وعبور، بتوشيح ثقافي وكتابي لا ينضب ولا يلين. فقد قدّر واستدق في نور العقل بالوعي والتلقي، ما يؤسس على الدوام مشاريع الاستحقاق وتنمية الإنسان، بما يجعل كل قوانين الوجود قائمة على التزكية النورانية ونشر المحبة والتعلق بأهداب الأصالة. وهي قناعة لا تنفك تستقوي جديدا بمتحف الشاي، الذي يريد له أن يكون بالتجاور مع مدرسة ابن يوسف التاريخية، نجما غير شارد أمام قمر النجوم.

***

د مصطفى غَلــــمان

دهمنا شجو أُمرّت علينا كاسه، وتقطّعت بنا أنفاسنا وأنفاسه. وأرهقنا ذِكرٌ خانه النسيان، وعشقٌ شعّثه السلوان. وقد ضاق بنا عتابٌ لم ينقطع، وقلبٌ مشتعلٌ ليس يرتدع، وفضاءٌ ليس يتّسع. وشخصٌ إن زال لم يزل خياله، وحبيبٌ إن غاب لم يغب مثاله، فالشوقُ على احتدامه مُحرِق، والوجدُ على التهابه مقلق، والزمان على عادته جامعٌ مُفرّق. وما أصنع يا إلهي والقلب مشتعلٌ من شواهدِ غلِقَ رهنها منذ زمان، ويئس من فكاكه كلّ أوان، وما أصنع في سرّي وعلانيّتي، وسكوني وحركتي، وانتباهي ورقدتي، وقراري واضطرابي، وغربتي عن نفسي واغترابي، عن يقيني وارتيابي، وعن عللي وأوصابي، وعن بلائي يا ربّ وعن عذابي، وعن جميع أموري وأسبابي. وغالب ظنّي يا سيّدي أنّك لمؤازرتي على هذا الهمّ تؤثر أثرًا يخفف به ما بنا، ويحطّ عنّا ما أثقلنا، ويهدينا إلى الجادّة التي منها جُرنا وعنها زُلنا، فقد صار النسيان محالًا أو كالمحال، وجهلًا أو كالجهل.

(يا قابس النار من زندٍ تعالجه

اقدح بزندك في همّي وأحزاني

ما النار أسرع إلهابًا لموقدها

في العود من زفرةٍ في قلب حرّانِ)

وإنّما أنا هنا في هذه المقامة أبثّ من حينٍ لآخر بعض عوارض هذه النفس عند الفيض الشديد، والغيظ المديد، وحين يبلغ العجز منّي آخره، ويستغرق اليأس باطنه وظاهره، فإنّما أحاول من ذلك تخفيفًا، فلا أزداد إلا تثقيلًا، كأنّ ذلك من خدائع الحال، ومن تعذّر الآمال. هذا رعاك الله ديدني، في حالي ومعدني، لأمور لي فيها مآرب، ولك في قراءتها مذاهب ومطالب. وإن كنتُ قد كنّيتُ عنها بلساني، فقد غلب عليّ شيني، وإن هممت بشيء منها بيني وبيني، وفيها حياتي وبيني، وفيها امّحق كلّي وبعضي وكيفي وأيني، فإنّ غايتي معك، عند إشكال قصّتي عندك. واعلم يا قارئي أنّ عيني قد جمدت من البكاء، وبدني قد فتر من العناء، وخاطري قد وقف عن السّنوح، ووجهي سمج بالكلوح، وبالي قد كسف بالقُنوط، وحالي قد ثبت من القَنوط، وإن هذا إلا قولٌ قد غلب عليه التكرار، قد صدر عن صدرٍ امتلأ بالوجيب، وإنّه ليس بأمرٍ عجيب.

٢

اللهم يا ربّ الأرواح الهشّة، والأحلام الضائعة والمحطّات المظلمة، وربّ كلّ الضائعين الباحثين عن أنفسهم في عجائب ملكوتك، يا أولى من حُمِد وأجود من سُأل، وأوسع من أعطى. كتبت الآثار، وأحصيت الأعمار، وملكت قلوب الخلائق بين يديك، وقلّبتها بما شئت، أنت الأول فلا شيء قبلك، وأنت الآخر فلا شيء بعدك، وأنت الظاهر فلا شيء يشبهك، وأنت الباطن فلا شيء يراك، أنت الواحد بلا تكثير، وأنت القاهر بلا وزير، وأنت أنت الملك القدير

(احمني من مُبْصري أخطائي أقلّ منّي

ومن مالكي عتماتهم والمتحكّمين بمصابيحهم

وممّن يكذبون على الأولاد

وممّن أحببتُهم وممّن أرادوا أن أحبّهم

واحمهم منّي

من خيري كما من شرّي فلستُ دائمًا أُحسنُ التمييز

ولا تتساهل مع تضخّم أناي

ولفلف نظري بالغيم المشمس

ولا تحرم أعماقي ذلك النغم

الكامن فيها كسِلْك الذهب الخفيّ في طيّات التراب)*

يا الله بك أستعين، فالدموع جفّت، وعلى وجهي ترابٌ منثور، نوّر قلبي، وبدّد وحشته، اجر سواقيه، بدّد صداها، وافرش زهورك على توتّري وحيرتي، تنقّل بين أسماء الألم وامحها، لأنّ هوّة في الرّوح لن تملأ بقطن الذكريات، إذ تجرح، وتصير الحياة شريان دمٍ مقطوع، قدّرني على هذه الحياة، واصهر خشونتها، كي تصبّ في قناديل الحب وتوقّدها، وتضيئ عتمة حواسٍ انغلقت على نفسها، واجعلني استكين مثل خيط الشمعة المنطفئة، فهمومي استحالت وحشًا يأكلني من الداخل، وعيناي تتفتّحان على صندوق من عجائب، فيه أنام فاغرةٌ أفواههم.

فيه صارت لحظاتي مراجلًا تتبخّر منها السعادات ويترسّب في أذيالها الألم. يا دليل المتحيّرين، ويا أمان الخائفين، بدّد وحشتي، وبرّد قلبي، وارحمني فأنت أرحم الراحمين.

٣

ولا تحسبوا بطل القصة الولد المتكبر يعجبه وَجْهُهُ،

إنّما بطل القصة الولد الغارق المشتهي

أن يعود إلى نفسِهِ ولدًا يتنفّسُ.

تميم البرغوثي

٤

يسكن الله قلبي وأنا لا أرض لي، أحلامي ضائعة وتائهة في الظًلام وقربتي مثقوبة وكلّ نجوم الكون قد سقطت منها، لكوني طفلًا يشكو من حبّه بنظرة خبيثة، أقول إنّه لطّخني بالدم، اعتجرني بكل سواد الكون، جعلني أتعثّر بالجماجم والهياكل العظمية والجثث المتفسّخة، دفعني للخوف من أشباحٍ لا أراها، سبّب لي هلعًا مبالغًا، لكوني شخصًا يتذمّر مما كان يعلّق عليه آمالًا صغيرة، كان قناعي يظنّ بأنّه عاشقٌ جيّد يرى نفسه في وجوه لا يعرفها، ولكنّه في الحقيقة عاشقٌ سيء للغاية، لأنّه حجب الشمس وتسلّى مع الأشباح. صوتي درويشٌ خائف يرتعد ويرتجف من نداءات مجهولة خلف الأسوار، يعبر بعض التكايا ويحوم في حلقات الذِكر. والليل طويلٌ حين أكتب أو أغنّي، ووجهي خلف كلّ تلك الأقنعة يشعله البرق.

٥

كنت ألعب في حديقة العمارة مع أولاد الجيران لعبة الختيلان. تركت الجميع وتواريت خلف تمثال بابا صدّام قرب باب الدائرة. تفاجئت أنّ التّمثال تحرّك من مكانه ليمسح بيده على رأسي مبتسمًا. أعطاني دمية كالتي يحتضنها أطفال المقابر الجماعية. وأخذني من يدي ورماني في حفرة، ثم أطلق عليّ النار وواراني في التراب.

٦

أدفع رأس الليل بيديّ في رحم الظلام لأمنعه من الولادة، أصرخ بالموت وآمره بالرجوع صارخًا، أستدرج القمر الهائج في السماء إلى فخّي الآمن في كنف عباءة سوداء، أفكّك العقد المجهولة التي تسّد طريقي. في هالة فانوسي تتأرجح الأشباح وتظهر طيور في مرآة الظلام وتختفي، يرتجف الطفل الصارخ خوفًا من زيارة الشياطين والوحوش، الأبله الذي يجفّ فمه ويرتجف كلّما اكتمل البدر، الولد الذي نجى من اليرقان وأصبحت حياته معجزة، الولد الذي نشأ وهو غير كافٍ لأمّهاته الثلاث، حقيقة هو لم يكن كافيًا حتّى لأمّه الحقيقية ولا لأيٍ شخص دخل حياته. الأبله الذي كفّ عن الارتجاف. الطفل في مهده الواسع نام بهدوء وأنا كنت أحمل الفانوس لأحميه وأنير له الطريق.

٧

أقلب الدور فهذه محنتي من جديد، أسبّح بأمجاد النصل وألقي بهذا الأرث العتيق إلى الرياح، سأربط خيط حتفي بحبل سرّة لحظة تأتي ولا تعود، سأعبر من هذه الأبواب، وأحبس هذه الوحوش وأقيّدها في رأسي، وأجمع كلّ نيران العالم في قلبي، سأقلب الدور وألقي بهذا الإرث إلى الرياح وأسكب من يديّ ذهبًا، سأَبعث عالمًا في أيّ لحظة مضت، وأرحل عندما يحين رحيلي.

٨

كان يحلم بأكذوبة جميلة، ووجد كلّ شيء حقيقيًا يصرّ على التعرّي أمامه، هجمت الكوابيس من لا مكان كتيبة من المحاربين حطّمت جدرانه، كلّما ركله الزمان إلى قاع الهاوية، قام منها، كلّ ما ظنّوا أنّه انتهى بدأ. مجبولٌ على أن يطارد كلّ شيء من منابعه، حتّى تجمّعت النجوم بين طيّات مقاماته وتحت شرفة انتظاره. يقف في الظلام ويأمل أن يخلّص نفسه منه، فتبتلعه ثقوبٌ سوداء تعيده إلى الماضي ويلمح طابورًا هزيلًا يقف فيه الأنبياء والعلماء، تبعثرت على أطرافه عظامهم وأجسادهم المقطّعة، يهتزّ أمامه الطابور حبلًا أبديًا للغسيل كلّما تكوّم عليه قتيل آخر. ينتابه قبل الفجر ألمٌ ثنائي الوجه يهجم بغاراته ويدكّ حصونه بعد حصار طويل. يقولون أنّ الأرض حبلى بالجرحى وذابلة من الحرارة، وحوشها السائبة تتدلّى ألسنتها إلى المستقبل، يلهث الزمان في بريق البدل والأزرار العسكرية، يقولون إنّ نهرًا من دماء الأبرياء ينبع منه، يحلم هو أن يرمي حجرًا فيسقط عبر عدّة بحار على سقف بيته الذي لم يعد هناك، يقول لنفسه لا تقلق يا أمين، سيولد الكثيرون بضربة منجلٍ من الهواء، سترى النبع في أرضٍ خضراء يقودك نحوها جمع من الرهبان والكهنة والسحرة على ضوء الفوانيس، هناك ستغسل وجهك المدمّى امرأة أردتها، في أرضٍ طردت منها الليل قليلًا بضوء شمعة، وطالبت بك معاولنا أن تضرب بثبات على ذلك الحجر الراكد في صدرك، فنحن رأيناك ترقص على حافة المنحدر وتحت رجليك الهاوية.

٩

أسير واحدًا من العباد في الزحام الذي يملأ الطرقات، وجهي جريحٌ يأتي لينام، وحياتي أنهار من طين ودم تجري تحت عجلات السيارات، بينما ينصب الموت شاراته في قاع جسدي كان الظلام يقدح أحجاره لينير أكوانًا كسيرة، كلّما أغمضتُ عينيّ أراها. كلّ حياتي تبدو واضحة، العالم يفقد سطوته، والليل يمرّ ولا أحد يأبه به، العالم بين يديّ يستسلم كالأبله برضاه، فأترك لرغبتي الجامحة أن تشطره إلى نصفين وتجعل بينهما نهرًا يجري. حين تكونين معي وتكون لي امرأة مثلك، تجيد السفر عبر الزمن، وتعرف كيف تناجي الليل بأسماء نجومه، وتمسح لي ذاهلة دمي وعرقي وغبار السنوات التي مرّت عليّ، وتخبرني بأنّ كلّ شيء على ما يرام من دون أن أنطق حرفًا واحدًا، أنا الرجل الذي سيكتب لكِ مقامة يصف فيها وحدته في أواخر كانون، أنا الذي سأظلّ وحيدًا مهما طالت قائمة معارفي وأهلي وأصدقائي، أنا الذي سيتغزّل بجمالكِ حتّى عندما يزول، أنا المفتون الذي سينشّف لكِ عرق الطريق (أنا فاقد الشيء الذي يعطيه، أنا بائع الوهم وتاجر الأمنيات وأنا.... أنا زبوني الوحيد).

بيدين مكتوفتين أراقب حياتي تتهاوى، لم أعد أطمح بأن أكون شخصًا جيدًا ومثاليًا أمام الآخرين، تعبت من تمثيل هذا الدور، لقد استنزفت الحياة كلّ مخزوني من الأقنعة وفلاتر التزويق. فالأقنعة لا تشفي الغرز والجروح وإنّما تخفيها، أريد أن أوقف الزمن أو أبطّئه لأركن حياتي على الطريق، أريد أن أخرج منها لبعض الوقت، أريد أن أستنشق هواءً نقيًا وأتفقّد أخطاء قصّتها الإملائيّة، أن أركّز في تفاصيلها وألوم كاتبها على هذه الحبكة السيئة. أعيش كأنّ جيشًا من الأشباح يطاردني من مكان إلى مكان، استطال الظل وظلّ يهزّني، رجّني وأدركت فجأة أنّه لم يكن ظلًا، كان إنسانًا مثلي من لحم ودم، رجلًا حقيقيًا أمسكني من ياقتي، وسحبني إلى الباب من تلابيبي ثم ركلني ركلة أطاحت بي في الفضاء، وأخذت أتدحرج بين النجوم، واتعثّر بالكواكب، وعدت طفلًا يعبث في أوتار جيتار عمّه خلسة ويتتبّع الموسيقى في غرف مظلمة (أفتش في كومة الألعاب

عن حلم قديم ودهشة بعيدة..

طفل حانق

يتحسس رضوض حياته في ساعة متأخرة من العمر..

أنا لم أكبر يا الله

أحدهم دفعني).

١٠

همتُ بأرضٍ ذات خضار، وأرحت ركابي بعد ترحال وتسيار. وقد كنت قبل هيامي غريب الدار، كثير الأسفار، وكنتُ أتردّدُ فيها سحابة النّهار، وأتفقّد ما بها من المشاهد والآثار، وسلّمت عليها تسليم المشنوق، وابتهجت بها ابتهاج العاشق بالمعشوق. ورحتُ أقلّب وجهي في السماء، وأقول سبحان من علّم آدم الأسماء، وسلّم إبراهيم من النار الرمضاء، وصلّ يا ربّ على صاحب القبة الخضراء، المرتجف حبًا في غار حِراء، وعلى آله وصحبه النجباء، بعدد من في الأرض والسماء.

أمّا بعد فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، وهذه حكايتي بين أيديكم، وتحت أعينكم، العقول في خفيّاتها أسرى مقيّدة، والأحاسيس في جَليّاتها فوضى مبدّدة، والأقوال في وصف تشاكلها وتباينها مختلفة، وهذا خبرٌ والله طريف، الفكر فيه يورث الوسواس في الصدور، والسكون عنه يصدّ عن الجواز والعبور، والسؤال عنه يحمِل التُهمة، والجواب يزيد في الحيرة، فهل رأيتم قولًا كلّما بان غمض؟ وهل رأيتم عرقًا كلّما سكن نَبَض؟ وهل رأيتم نارًا كلّما أُطفئت شبّت؟ وهل رأيتم بيانًا كلّما وضح أشكل؟ فوحقّ الحق إن السرّ في مقاماتي هذه لمكتوم، وإن الغيب فيها لمعلوم، وإن الظاهر منها لمفهوم، وإن الباطن لموهوم، وهكذا زال الخداع، وعليه تحيُّر الطباع، وعلى أثر حديثنا سقط القناع. ولو ساعدتني اللغات على اختلافها، واستجابت لي الخواطر على ائتلافها والتفافها، لأن أدنو مما أنا ممنوٌّ به، ومحطوطٌ فيه ومراد به، ومعكوس معه قولهم:

(فقرٌ كفقر الأنبياء وغربةٌ

وصبابةٌ ليس البلاء بواحدِ)

وهذا وهمي الذي لم تمزّقه الرزايا، وسرّي الذي لم تكتنفه البلايا، وعلى علّاتي التي وصفتها، وخلّاتي التي رصفتها، وأقنعتي التي رميتها، أختتم حديثي بمقدّمته وأقول: سحرتنا أرضٌ فحللناها، وملكتنا وملكناها، وعمدنا لقداح الوجد فأجلناها، وقلنا عمّر الله بغداد، ورحم العباد، وأجارنا من الهجر والبِعاد.

فأقبلت تخطو بجفلة ووجلة، وضحكت على ما بحت كأنّها طفلة.

***

أمين صباح كُبّة

كاتب من العراق صدر له عن دار الرافدين (مقامات إيلاف)

 

تُعتبر موراساكي شيكيبو من أشهر الشخصيات الأدبية في تاريخ اليابان، كما تُعتبر قصتها الأمير جنجي من روائع الأدب الياباني.

قصة الأمير جنجي تعبر عن العلاقات العاطفية المرتبطة بالسياسة، لأن البطل الرئيسي في الرواية، أمير، والشخصيات الثانوية أيضا من البلاط الإمبراطوري في اليابان في ظل حكم أسرة هييان(794ــــــ1185م).

و موراساكي" ابنة رجل سياسي كبير، وخدَمتْ في بلاط الإمبراطور سيوزي، لذلك خبرتْ عن قرب البلاط الإمبراطوري، وكتبتْ عن ذلك بتفصيل وحميمية في روايتها حكاية جنجي "( قصة الحضارة،اليابان، ص 103)..

توفيتْ والدتها وهي تزال صغيرة، فتزوج أبوها للمرة الثانية! تزوجت موراساكي من فوجيوارا نوبوتاكا عام 998م وهو مسئول سياسي كبير، لكنه كان يكبرها سنا، وبعد عامين من ذلك الزواج توفي زوجها فترملت وهي لا تزال في ربيع الشباب !.. وبسبب مواهبها دخلتْ موراساكي القصر الإمبراطوري وهي أرملة لخدمة إحدى بنات البلاط..

كانت تكتب الشعر، وتقرأ في الكتب الكلاسيكية الصينية (باللغة الصينية) وتلتزمُ بالبوذية وقيمها في حياتها اليومية! وفي البلاط الإمبراطوري اقتربت أكثر من الصراع السياسي حول توريث العروش الذي يتقاطع مع العلاقات الغرامية ورغبات الأباطرة والسياسيين وزوجاتهم !..

ورواية جنجي ضخمة تتجاوز صفحتها ألف صفحة كُتبتْ باللغة اليابانية القديمة، وتُرجمت فيما بعد الى اليابانية المعاصرة كما عرفت طريقها الى اللغات العالمية منذ سنة 1925 كالانجليزية والروسية والفرنسية والعربية والاسبانية ...

ويعتبرها الكثير من النقاد المعاصرين في اليابان وفي العالم أول رواية في العالم (وفق المعايير الغربية) إذ سبقت رواية دون كيخوت بأكثر من خمسه قرون!..

وجنجي بطل الرواية تتقاطع حياته مع الكاتبة موراساكي اذ توفتْ والدته، وهو لا يزال طفل صغير!.. "ونرى الكاتبة السيدة موراساكي تقص لنا مغامراته بالتفصيل على نحو تحس فيه بفرحها برواية قصته، ملتمسه له ولنفسها العذر التماسا رقيقا" (قصة الحضارة، اليابان، ص103)..

وكان للرواية تأثير كبير وعميق في تطور النثر الياباني وما زالت حتى اليوم تُستلهم من طرف الكتاب والفنانين والمخرجين في اليابان...

ويرى مؤرخ الحضارات الكبير ويل دويرانت أنه "لم يُنتج في القصة ما يوازي بروعته قصه جنجي آو ما يساوي هذه القصة في مبلغ تأثيرها على تطور اللغة تطورا أدبيا"(قصة الحضارة، اليابان، ص103).

***

عبد القادر رالة

في المثقف اليوم