أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

بقلم: عائشة باباتيا بوكاك

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

الجزء الأول

كنت في الصف السابع، عندما سألني مدرس اللغة الإنجليزية، في منتصف الحصة، "ما جنسيتك / عرقك؟"

هل كان بإمكان المعلم أن يقول، "ما هو عرقنا؟" هل كان ذلك سيكون أفضل؟

أرى نفسي هناك من منظر علوي لذاكرتي: أتوقف، لفترة طويلة، ثم أقول: "قوقازي".

يمدح معلمي مفرداتي ونكمل الدرس، أو على الأقل تكمل الذاكرة.

ولكن

يخطر ببالي إلا مؤخرًا أنها سألتني لأنها كانت تعتقد أنني الطالبة الوحيدة في الصف التي ليست بيضاء.

والدتي نفسها، عندما رأتني أضع "بيضاء" في استمارات التقديم للجامعة، قالت: "هل أنت متأكدة؟"

أما أخي، عند ملء استمارات التقديم للجامعة، فقد اختار "أخرى". أنا وأخي، اللذان نشترك في نفس الوالدين، نعتقد أننا ننتمي إلى أعراق مختلفة.

والدنا تركي. ووالدتنا تنتمي إلى الطبقة العليا البروتستانتية البيضاء (WASP)، ونشأت في منطقة "ماين لاين" بين ملاعب التنس، وحلبات التزلج، وركوب الخيل، وأوركسترا فيلادلفيا، على طعام أعدته طاهية سوداء تعيش معهم تُدعى ميني تود، وتحت رعاية مربية ألمانية تعيش معهم تدعى الآنسة روف، وتحت قواعد تشمل ارتداء الملابس المناسبة للعشاء، والوقوف للكبار، وإعداد المشروبات بشكل صحيح، والتحكم في المشاعر غير الملائمة.

عندما سألت والدتي (بعد أكثر من أربعين عامًا من الزواج) والدي إذا كان الأتراك بيضًا، قال بإدانة ضمناً عنصرية، "بالطبع".

لكن

قبل مئة عام، نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالًا بعنوان: "هل التركي رجل أبيض؟". قليل كان ما أعلمه في الصف السابع أنني أعطيت الإجابة الوحيدة التي لا تقبل الجدل. "قوقازي" يشمل الشرق الأوسط؛ أما "أبيض" فيوحي - على الأقل لبعض الأشخاص - بالأصول الأوروبية، والتي لدي جزء منها. لكن

عندما توليت وظيفتي الأولى كأستاذ زائر، اعترف رئيس لجنة التوظيف بأن مكتب العمل الإيجابي اتصل بي وسألني عن سبب عدم تعيين القسم للمرشح الوحيد من الأقليات. فقال: "لقد قمنا بذلك".

" كان علينا التخمين بناءً على اسمك"، اعترف بذلك.

غالبًا ما أشعر أنني عندما يتعلق الأمر بأن أكون مختلفة، فقد حصلت على العديد من الامتيازات دون تحمل العقوبات. تعيين ضمن التنوع بسلاسة لدرجة أنني لا أقدم أي تنوع حقيقي.

إلا أنني ربما أفعل؟

وصفني أحدهم ذات مرة بأنني كاتبة تركية-أمريكية، وهو أمر لا أعتقد أنني كذلك، رغم أنني كذلك.

وفي مرة أخرى، أُدرج اسمي في قائمة الكُتاب الأمريكيين الآسيويين. ضحكت.

هل أنا سيئة مثل والدي؟

عندما أسأل والديّ عما إذا كنت آسيوية، تقول والدتي: أنت آسيوية صغرى من آسيا الصغرى. بينما والدي يقول: لا. بإصرار.

لم أكن أكتب كثيرًا عن تركيا.

لكن

مؤخرًا بدأت أُضفي على نفسي طابعًا استشراقيًا، أو ربما يمكن القول إني أقوم بـ "توجيه" نفسي: أكتب خيالًا مدروسًا بعناية عن تركيا الموجودة في خيالي. وباسم كهذا، لا أحد يشكك في استحواذي الثقافي. حاليًا، أكتب قصة تدور أحداثها في إسطنبول في ستينيات القرن الماضي وتتمحور حول صداقة بين امرأة أمريكية بيضاء تشبه والدتي وجيمس بالدوين. يخبرني صديق أنني استبدلت والدي التركي بجيمس بالدوين. أصر على أن والدي موجود في القصة؛ هو فقط بعيد في الخدمة العسكرية.

هل أعتقد أن تجربة جيمس بالدوين أقرب إلى تجربتي من تجربة والدي؟

لا. لكن

أكتب أيضًا قصة عن الإبادة الجماعية للأرمن، وغواصي الإسفنج اليونانيين، وكي ويست.

لقد تعلمت أن أحتضن كوني أكثر من شيء واحد.

لكن

كجسد في العالم، أنا من النوع الأبيض الذي يُشار إليه بالبياض المميت، بياض الأشباح، الأبيض الذي هو أكثر من الأبيض. أنا أشد الأشخاص بياضًا ممن قد تراهم في فلوريدا. ولا يمكن إنكار أن ذلك يشعرني بالأمان أكثر من أي بديل آخر.

لكن كاسم على الورق، لا يمكنني التظاهر. أم أنه، كاسم على الورق، أنا أتظاهر؟ من سيظن أن آيشة باباتيا بوجاك لا تتحدث التركية، لا تتذكر تركيا، وتعرف فقط تركيًا واحدًا. من سيعترض عندما تكتب عن تركيا، البلد الذي وُلدت فيه.

لكن

بنوع من التناقض، أؤمن أن لي الحق في الكتابة عن أي شيء أريد، وفي نفس الوقت أؤمن أنني لا أملك الحق في الكتابة عن تركيا. لأن الكتابة عن تركيا، تحت عباءة اسمي الحقيقي المزيفة، تجعلني وكأنني أدعي الهوية التركية الحقيقية بدلًا من الهوية التركية المتخيلة.

ومع ذلك، أفعلها على أية حال.

لأن...

الجزء الثاني

في مقدمة كتابهما "الخيال العنصري"، كتبت كلوديا رانكين وبيث لوفريدا أنهما "ترغبان في زعزعة الافتراض القائل بأنه من السهل أو البسيط أن نكتب ما "نحن عليه"..

هذا مفهوم يمكنني، وربما معظم الأشخاص ذوي الخلفيات الثقافية المختلطة، أن أتفهمه. كانت هويتي بمثابة مشروعي البحثي الخاص لسنوات. لقد سألت والدي عن ماضيهما مرات كثيرة لدرجة أن والدتي قالت مؤخرًا: "أنتِ تمتصينني حتى الجفاف." الآن أعرف عن الأدب التركي أكثر مما يعرفه والدي. (ولكي أكون منصفة، هو، بعد أن اجتاز اختبار الجنسية الأمريكية، يعرف عن الحكومة الأمريكية أكثر مما أعرف).

لقد أدركت مؤخرًا أنني لست وحشًا برأسين، بل مزيج من الاثنين، وأنه لا ينبغي لي أن أكتب عن تركيا، إلا بالطريقة التي أعيشها بها، والتي تتقاطع مع أمريكا.

لكن

في كتاب "الخيال العنصري"، يقترح رانكين ولوفريدا أيضًا أن يتوقف الكتاب عن التساؤل عما إذا كان لديهم إذن بالكتابة عن تجارب خارج تجاربهم الخاصة، وبدلاً من ذلك يسألون أنفسهم عن سبب رغبتهم في ذلك.

لا شك رغبتي في الكتابة عن تركيا تنبع أولاً من رغبتي في فهم مادة ترتبط بي شخصيًا. عندما كتب والدي تاريخ العائلة بناءً على طلبي، قام بتقسيمه بلطف إلى عمودين، الحقائق والهذيان. من يستطيع أن يقاوم صنع الخيال من ذلك؟ لكن ما يقلقني هو الإيحاء بأن هذا السؤال عن "لماذا لديك الرغبة" يأتي مع إجابة واحدة صحيحة فقط – ليس "هذه القصة شخصية بالنسبة لي" بل "هذه القصة شخصية بالنسبة لي لأنني أحمل الهوية التي تبرر كونها شخصية بالنسبة لي". أليس هذا مجرد طريقة أخرى للاقتراح بأن بعض الأشخاص لديهم الحق بينما والبعض الآخر لا؟

وهذا ما يقلقني ليس لأنني كاتبة، بل لأنني معلمة للكتابة. وطلابي غالبًا، وبشكل مفهوم، يريدون الكتابة خارج نطاق خبراتهم الشخصية التي قد تكون ضيقة أحيانًا.

بعد أن تورطت الكاتبة ليونيل شرايفر في واحدة من أحدث الجدالات حول الاستيلاء الثقافي،  كتبت فيت نجوين، مؤلفة رواية "المتعاطف" الحائزة على جائزة بوليتزر، في لوس أنجلوس تايمز: "من الممكن الكتابة عن الآخرين المختلفين عن الذات، إذا فهم المرء أن هذا ليس مجرد فعل ثقافي وحرية تعبير، بل هو فعل مرتبط بتاريخ معقد ومؤلم من الملكية والانقسام الذي يحتاج إلى معالجته بمسؤولية."

إذًا، ما الذي يمكنني قوله لطلابي الذين يرغبون في معالجة "التاريخ المعقد للملكية والانقسام" "بمسؤولية"؟

إليكم، حتى الآن على الأقل، جوابي المطروح فقط على شكل أسئلة، لكم ولي:

* هل تستطيع أن تكتب هذه القصة دون أن تضفي طابعاً رومانسياً على معاناة الآخرين ودون أن تستعمر تجارب الآخرين وتستفيد منها؟

* هل قمت بالبحث؟

* هل تعيش حياة متنوعة؟

* هل تقرأ بشكل متنوع؟

* هل تشارك بشكل مباشر في المجتمعات التي تكتب عنها حتى لو لم تولد فيها؟

* هل تستطيع أن تحترم ردود الفعل التي تتلقاها من الأشخاص الذين لديهم تجارب أكثر مباشرة منك ــ حتى لو لم تطلبها وحتى لو كانت انتقادية؟

* هل تستطيع أن تتجنب مطالبة الآخرين، وخاصة من المجتمعات المحرومة، بالقيام بعملك نيابة عنك؟

* هل تدعم الكتاب الذين لديهم خبرة أكثر مباشرة منك في سرد قصصهم الخاصة أم أنك تحاول فقط أن تكون المتحدث باسمهم؟

* هل لديك ــ أياً كنت ــ شيء جديد لتقدمه؟

وطبعًا:

* لماذا لديك هذا الدافع؟

لأنه  كما كتبت فيت نجوين في صحيفة لوس أنجلوس تايمز: "لم يخبرنا أحد أن هذه المهمة ستكون سهلة ".

(تمت)

***

.....................

الكاتبة: عائشة باباتيا بوكاك/ Ayşe Papatya Bucak  تدرّس عائشة باباتيا بوكاك في برنامج الماجستير في الفنون الجميلة بجامعة فلوريدا أتلانتيك. نُشرت أعمالها النثرية في مجموعة متنوعة من المجلات، بما في ذلك Kenyon Review وPrairie Schooner وCreative Nonfiction وBrevity وThe Rumpus. تم اختيار قصصها القصيرة لجوائز O. Henry وPushcart. وهي محررة مساهمة في المجلة الأدبية Copper Nickel.

 

بدأت بمطالعة الروايات عندما كنت صبيا حين عثرت على سلسلة بعنوان " كتابي " كان يصدرها حلمي مراد، وغالبا ما يكون هو المترجم للكتب التي يقدم خلاصات وافية عنها.. وسلسلة كتابي كانت تصدر اول كل شهر مهمتها تلخيص الكتب العالمية بمختلف انواعها، اما الروايات فقد خصص لها حلمي مراد سلسلة بعنوان " مطبوعات كتابي " تصدر في منتصف كل شهر ومن خلال هذه السلسة تعرفت على اسماء " تشارلز ديكنز، موباسان، مورافيا، آندريه جيد، فلوبير، ستيفان زفايج، طاغور، تشارلوت برونتي وشقيقتها اميلي، غوركي، شتاينبك، بلزاك، تولستوي، سومرست موم، تورجنيف، دوستويفسكي، باسترناك، وغيرهم. وكانت مطبوعات كتابي ذات حجم صغير بحجم كف اليد.. بعد ذلك ساكتشف سلسلة الروايات العالمية التي كانت تصدرها دار العلم للملايين وبترجمة منير بعلبكي، ثم كانت المفاجأة الكبرى مع مطبوعات اليقظة العربية السورية والتي تخصصت بالادب الروسي، فقرات لاول مرة الحرب والسلم باجزائها الاربعة واعمال تشيخوف وايليا اهرتبورغ واميلي برونتي وثلاثية مكسيم غوركي عن حياته، بعدها اتحفنا المترجم القدير سامي الدروبي بالاعمال الكاملة لدستويفسكي، واجزاء من اعمال تولستوي التي اكملها صباح الجهيم، وتوالت قراءة الروايات، وكنت دائما اواجه بهذا السؤال: أي نوع من أنواع المعرفة التي نكتسبها من قراءة الروايات؟ فاجدني اتذكر مقولة شارلوت برونتي، من ان الروايات تساعدنا على معرفة القلب الإنساني أو ما أسماه جان جاك روسو في روايته (أميل) العقل الإنساني، فالروائي لديه الوسائل التي يصل بها إلى الأفكار السرية لشخصياته. ولهذا كان إميل زولا يؤمن أن " الروائي بوصفه خالق عالم المحاكاة، مدبّر أمر هذا العالم: فهو الذي يضع قوانينه الناظمة، ويسير بخطوط الحوادث إلى غايتها، ويُسيّر كل شيء حسب ما تُمليه حكمته الحصيفة. من الممكن إذن أن نرى إلى أي حدّ تتوافق قوانين سلطته الخلقية مع القوانين التي تتحكّم بالسياق الواقعي للأشياء".

أسوق هذه المقدمة بعد ان وجدت بعض القراء يجد في قراءة رواية من 700 صفحة او اكثر نوع من انواع البطر في زمن مواقع التواصل الاجتماعي، حتى ان احد الاعزاء علق على مقال لي عن رباعية نابولي للايطالية فيرانتي ان الزمن لم يعد يسمح بقراءة هذه المطولات. قبل اسابيع كنت قد قرأت مقالا للروائي الشهير ماريو فارغاس يوسا لذي يقترب من عامة التسعين يخبرنا نحن القراء " المتنعجلين " بانه قرأ قبل اشهر رواية ستيغ لارسن " ألفية " بأجزائها الثلاثة – ترجمت الرواية الى العربية – وهي تقع في أكثر من ألفي صفحة، ويضيف يوسا: " لقد غمرتني بسعادة لا توصف، واستعدت معها ذلك الشوق الذي كنا نشعر به مراهقين ندما كنا نطالع سلسلة «الفرسان الثلاثة» التي وضعها ألكسندر دوما، أو روايات ديكنز وفيكتور هوغو، متسائلين في نهاية كل صفحة: والآن، ماذا سيحدث؟، ومتوجسين الاقتراب من خاتمة الحكاية ونهاية المتعة ".

عندما نتطلع الى غلاف رواية لكاتب غير معروف بالنسبة لنا. نطرح ببساطة السؤال: هل تستحق هذه الرواية ان نخصص لها وقتا ممكن ان نقضيه مع كتاب مفيد او مع رواية لكاتب مشهور؟ هذا السؤال كان يطرح عليّ اثناء فترة عملي في احدى المكتبات الاهلية، وكنت آنذاك وبدافع " الغرور " انصح القراء بالسعي لقراءة روايات الكتاب المشهورين، لماذا؟ حتى هذه اللحظة لا اعرف، ربما لانني كنت اريد ان استعرض " عضلاتي " امام الزبائن واتحدث عن روايات اعرفها.

قبل مدة وفي زاوية صباح الكتب نشرت مقتطفا من رواية " ابن الانسان " للروائي أوغستو روا باستوس، فكتب لي احد اصدقاء الصفحة يسأل: هل تستحق هذه الرواية ان اشتريها، وماذا تقترح هل هي افضل ام رواية الايزابيل الليندي؟ طبعا الجواب في مثل هذه الامور يبدو صعبا، فانت لا تستطيع أن تفرض ذائقتك في القراءة على قارئ يطلب منك النصيحة. ثم ان ايزابيل الليندي مغرية، تملك قدرة على اخضاع القارئ لها. لكني تعلمت منذ ان بدأت افهم مغزى القراءة ان كل عمل ادبي سواء كان رواية او شعر او مسرحية يفتح لنا ابواب عالم جديد لا يمكننا الوصول اليه إلا بقراءة ذلك العمل، فالقراءة عملية ينبغي علينا ان نكرس عقلنا وقلبنا ومشاعرنا وخيالنا بدون أي تحفظات لإعادة خلق العالم داخل نفوسنا، معتمدين على الكلمات. فالعمل الادبي كما يقول الناقد هيليس ميلر: " يصير حيا وكانه مسرح داخلي يبدو مستقلا عن الكلمات الموجودة على الصفحات الموجودة " –عن الادب ترجمة سمر طلبة... تعلمت خلال تجربتي مع الكتب ان القراءة كالحب، فهي ليست فعلا سلبيا، وتتطلب من القارئ قدرا من الطاقة العقلية والوجدانية. إنها تتطلب منا ان نستخدم كل قدراتنا وملكاتنا لإعادة خلق عالم العمل الادبي الخيالي. يكتب اميل زولا في كتابه الممتع " فن الرواية " – ترجمة حسين عجة -: " كي تقرأ رواية بالطريقة الصحيحة عليك ان ترتد طفلا صغيرا ".

ولإعد الآن للروائي أوغستو روا باستوس الذي توفي عام 2005، فاعلت الاوروغواي الحداد العام لمدة ثلاثة ايام، بعد ان عثرت على روايته الكبيرة " انا الاعلى " بترجمة الاستاذ بسام البزاز وكنت قد لاحقت هذه الرواية على مدى اكثر من عام، منذ ان اخبرني الاستاذ البسام انها ستصدر قريبا

حكاية الحروب والدكتاتورية يصورها لنا روا باستوس في" ابن الاعلى " وهي جزء من ثلاثية " إبن الانسان " و " الرقيب " وانا الأعلى " التي يقدم فيه صورة دقيقة لعنف السلطة المطلقة، ومسيرة الدكتاتور خوسيه غاسبار رودريغز دي فرانسيا، لكنه في المقابل يؤكد ان هذه السلطة لا يمكنها ان تعيش الى الابد.. فنجد الدكتاتور في نهاية رواية " انا الأعلى " يجري حوارا مع كلبه، وكانه يحدث نفسه. حيث يرى ان اجله قد اقترب، فهو غير حزين لفقد السلطة بقدر حزنه لفقدانه فعل الاملاء، لا يفكر في مسالة الاطاحة به بقدر ما يفكر في فقدان القدرة على النطق.

عندما سأل أوغستو روا باستوس عن حياته وكيف عاشها قال " إن حياته حكاية يستحيل وصفها أبدا " ويعترف في واحدة من حواراته بانه صانع حكايات تقليدي، يصف السنوات الطويلة التي عاش فيها مشردا عن وطنه بانها مدرسة لتعلم الالم،: " " إن البعد عن الوطن لقنني فن الكتابة، حيث كنت اتابع ملامح وجوه أبناء وطني ولمست ثقل آلامهم ".

ولد أوغستو روا باستوس في الثالث عشر من تموز عام 1917، في العاصمة أسونسيون، لكنه قضى فترة صباه في " ايتوري " وهي قرية معروفة بانتاج السكر تقع وسط البارغواي حيث كان الده كان مديرا لاحد معامل السكر. عاش طفولة عادية، اكمل دراسته الابتدائية، لكنه توقف لفترة عن اكمال دراسته الثانوية بسبب حرب التشاكو متطوعا وكان في الخامسة عشر من عمره. كتب وهو شاب صغير عملا مسرحيا بالاشتراك مع والدته التي كانت تهوى المسرح، عرض في العديد من القرى ومدن الأرياف.كرس حياته للعمل الصحفي واصدر اول دواوينه الشعرية عام 1942 بعنوان " عندليب الفجر " نال عنه الجائزة الوطنية للشعر. في الاربعينيات سافر الى الى انكلترا ثم الى فرنسا في رحلات صحفية بعد ان تولى رئاسة تحرير صحيفة "الباييس" اليومية، بعد عودته الى بلاده تمكن من عرض ثلاثة اعمال مسرحية له قبل ان يقوده تأيده للحركة الثورية عام 1947 ضد حكومة مورينيغو الى المنفى، خلال سنوات الهجرة كان يقوم بزيارات سرية وقصيرة لبلدته، حتى عام 1982 حيث تم سحب جوازه وطرده نهائيا لمعارضته لحكومة الديكتاتور سترويستر

وعلى مدى سنوات الغربة كرس روا باستوس حياته للصحافة والنقد وكتابة السيناريوهات السينمائية في الارجنتين ثم في فرنسا التي عمل فيها استاذا بجامعة تولوز قام بتدريس الادب الاسباني.نشرت مجموعته القصصية الاولى "الأرض البور" 1966،

بعد الإطاحة بالديكتاتور ستروسنر، عام 1989 عاد في زيارة قصيرة لبلدته ثم قرر الاستقرار بفرنسا لبضعة سنوات، اصدر خلال هذه الفترة نسخة ثانية من روايته " إبن الانسان " صدرت الطبعة عام 1982، وقد صرح لبعض النقاد ان الرواية اصبحت عملا جديدا تماما دون ان تفقد شيئا من مضمونها، مرددا مقولة الشاعر الايرلندي ييتس: " عندنا انقح اعمالي فانا إنما انقح نفسي ". نشرت مجموعة من الروايات ابرزها " حرس الأميرال و" وضدّ حياتي " و " مدام سو " اضافة الى ثلاثيته الشهيرة.

عاد في العام 1996 إلى بلده للإقامة فيه حيث تم الاحتفاء به رسميا وشعبيا زار كوبا عام 2003 للقاء صديقه فيديل كاسترو الذي قلّده وسام خوسيه مارتي. توفي في السادس والعشرين من نيسان عام 2005 بعد تعرضه لازمة قلبية.

تعد رواية " انا الاعلى " من بين الاعمال المئة الابرز غي الادب العالمي، وبين اهم الاعمال في ادب امريكا اللاتينية ن يصفها الخو كاريننييه " بانها " تحفة ادبية ".. نشرت الرواية عام 1974 جين كان باستوس يعيش في منفاه في الارجنتين وقد اعتبرت واحدة من اهم الروايات التي كتبت عن النظم الدكتاتورية

ازعم انني وقعت في غرام أوغستو روا باستوس، وان هناك اكثر من دافع وراء دعوتي لقراءة هذا الروائي الكبير برغم حجم روايته " انا الاعلى "، فهي رحلة يبحر فيها باستوس نحو المجهول، نحو المنطقة العميقة، وما علينا كقراء إلا ان نحاريه، وهو يقدم له خطرفة الدكتاتور وهذيانه.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

حزمت الكرة الأرضية نفسها من الوسط ببساط رمال الصحراء، التي تلفها شرقا وغربا، الحزام هو نقطة الوصل بين الأعلى والأسفل، مع العلم أن الكرة الأرضية لا يصدق عليها هذا الوصف إلا مجازا.. الواحات اختارت أن تكون مصاحبة للصحراء وقد اتخذت لنفسها موضعا في مختلف جنباتها شمالا وجنوبا، مستفيدة من مختلف الأنهار والمنابع المائية والسيول.. الواحة إذن بنت الصحراء، فأي حديث عن الواحة سيأخذنا إلى الحديث عن الصحراء والعكس صحيح، فالواحة منذ القدم وفرت للقوافل الصحراء، وللإنسان الذي تعوَّد أن يرتحل بجوفها من مكان إلى آخر، وهو يتتبع الكلأ لقطعانه من الأغنام والإبل والماعز.. -وفرت- فرصة من الاستقرار تتحول لحياة الحَضر التي تعتمد على الزراعة والصناعة.. بدل حياة البدوِ التي اتخذت من الترحال شرطا للحياة، فالحضر والبدو كلاهما يستفيد من الآخر.

قال أبو العلاء المعري (-449هـ/1057م):

 الناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ 

بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ

الواحة إذن شرايين وَصْل وعبور ما بين جنوب الكرة الأرضية وشمالها، وهي حالة تحولت معها عبر سرمدية الزمن البعيد إلى خزان لمختلف الثقافات والحضارات التي عبرتها في اتجاه شمال الصحراء أو جنوبها، وهي بمثابة قاع العالم الذي يخبئ مختلف الأسرار المعنوية والمادية، وقد خبأت الأرض النفط في جوفها، من تحت رمال الصحراء بالقرب من الواحات، لأمد بعيد من الزمن لا أحد يعلم بدايته..

الواحة شريط أخضر يخترق الصحراء؛ يلتوي يمينا ويسارا إلى جانب مجرى نهر معين أو منبع ماء؛ شريط تلفه الجبال والهضاب والرمال من كل جانب؛ شريط أخضر من النخل والزيتون وعناقيد العنب وحبات الرمان.. وليس بجنباته إلا القفار والحر الشديد الذي يأتي على كل شيء.. استعارت الواحة من الصحراء معنى الأضداد؛ ندرة الماء ووفرته؛ عذوبته وملوحته؛ الارتواء والعطش؛ الحر والبرد؛ الفراغ والامتلاء..

كل ضد عندما يقترب من ذروته، تظن أنه استولى على ضده الذي يعاكسه وقد احتواه بالكامل؛ فعندما يتحالف الحرُّ والجفاف تظن بأنها النهاية التي لا بداية بعدها؛ فيشرع في اجتثاث كل جذور الحياة؛ ففي حضرته تحاول مختلف الكائنات والنباتات أن تكتفي بالقليل من أجل البقاء.. ينكمش النخيل وهو يمْتَص جذوعه ويتخلى عن تفريع جريده، يجري الماعز ويتزحلق وفمه مشدود إلى سطح الأرض لعله يعثر على بقايا من الأعشاب الجافة وبعض من أشواك الصحراء، يميل الناس إلى إخراج ما خزَّنوه من حبات التمر ومن فول وعدس وجزَر مُجفف..

فجأة تأتي السيول بدون سابق إنذار؛ لتفتح صفحة جديدة في الصحراء والواحة وفي حياة الناس، فعندما تمتزج قطرات الماء مع حبَّات الرمال تنبعث منها رائحة عطر التراب التي تعمُّ المكان، السيوف العالية من كثبان الرمال التي تتوسطها مساحات واسعة، سرعان ما تحوِّلها السيول إلى مستنقع للمياه، مشكِّلة بذلك حاجزا أمام مختلف السيول القادمة من كل الجهات المرتفعة، وقد تستغرب من تشكل بحيرة صغيرة من الماء ما بين يوم وليلة..وقد تجلب إليها في قادم الأيام مختلف الكائنات من غزلان وطيور من أجل الماء، الذي يتحول موقعه إلى فخٍ تراقبه الذئاب والثعالب لتفوز ببعض فرائسها..

 بفضل السيول التي تحضر وتغيب، وبفضل مختلف الواحات الكبيرة والصغيرة تمكنت شرايين سفن القوافل المحملة من جنوب الأرض نحو شمالها أو العكس من الاستمرار لعهد طويل من الزمن، تداولت على بساطه العديد من الحضارات والعديد من الدول. في ذلك الزمن كانت القوافل سببا رئيسيا في نشأة وازدهار مدن كبرى (تمبكتو. سجلماسة..) وكانت الواحات مهدا لمختلف حركات التغيير والإصلاح وقد تبدأ في الاول بدعوة دينية واجتماعية، وبعدها تتحول إلى حركة سياسية واقتصادية. تبسط سيطرتها على طرق تجارة القوافل وتتمدد فيما بعد إلى دولة ثم امبراطورية تشيخ بعد فترة من الزمن تطول أو تقصر، ولم تعد تقوى على بسط سبل الحكم والنظام، حينها يعيد التاريخ نفس التجربة بلون آخر وبطعم اخر ويبزغ فجر دولة أخرى. فمهد الكثير من الدول في الازمنة القديمة تعود إلى مجال الواحة، فهي بداية لعهد جديد ونهاية عهد آخر قد استنفد دوره، وهذا ما جعل منها حوض للتفاعل والتواصل عبر التاريخ بين مختلف التجارب والثقافات فيما مضى من الزمن.

في لحظة فارقة من الحضارة والتاريخ، لم تعد الحاجة لشرايين القوافل العابرة للصحراء، وقد تم استبدالها بقوافل السفن وهي تعبر بحر المحيط الأطلسي من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه نحو غربه، وقد شكل ذلك إعلانا عن ولادة حضارة أخرى، خرجت من عباءة مختلف الحضارات التي سبقتها، حضارة أخذت على عاتها أن الغنى يكون بالاستحواذ على الأشياء، وإذا بها تبحث عن الذهب في كل مكان، إلى درجة أنها اتخذته إله يعبد من دون الله، وبنت من أجله صنما من جماجم ودماء وعظام ما لا يعدُّ ولا يحصى من الأبرياء من أهل قبائل جنوب الصحراء ذوي البشرة السمراء، وقد اكتظَّت قوافل السفن بأجسادهم، وهي تمخر أمواج بحر الظلمات، لتلقي بهم في أرض ما وراء المحيط، وهي أرض سلبت من أهلها ذوي البشرة الحمراء، الذين تمت إبادتهم..

 إنه أمر بئيس أن يسجل التاريخ أن هذه الحضارة لوثت يدها منذ البدء بدم بني البشر، من ذوي البشرة الحمراء والبشرة السمراء.. حضارة كتب التاريخ عنها أنها ضيَّقتِ الخِناق عن المختلفين معها في المِلَّة، فهي لا تقبل ملة غير مِلَّتها، ولا بشرة غير بشرة عرقها..فمصير المختلفين هو الطرد والإبعاد، ففي الجزيرة الإيبيرية سجل التاريخ أسوأ صفحاته التي أساءت المعاملة مع المختلفين في المِلَّة ودفعت بهم وهم مكرهين في البحر اتجاه الضفة الجنوبية..منهم من وصل ومنهم من أكلته حيتان البحر..

 بعض من الحكايات التي يرددها الفتيات داخل قصبات وقصور الواحة، تلخص محنة من هجِّروا بعد أن أجبروا على ترك ملَّتهم، فلطول العهد تحولت الحكاية إلى تعبير عن الفرح بدل الحزن وعن أمل مفقود غطَّاه الزمن لقرون طويلة.. بين مختلف الأزقة تشتبك أيادي الفتيات في دائرة تدور حول نفسها من خلال قفز اللواتي اشتبكن بأيديهن وهن ينشدن بصوت مرتفع قبل غروب الشمس: (تِكْشبِيلةَ تِوليولةَ.. ما قَتْلونِي ماحْيَاونِي.. غِيرْ ذَاكْ الكَاسْ اللِّي عْطَاوْنِي.. الحَرامِي مَا يْمُوتْ شِي.. جَاتْ خْبَارُو في الكُوتْشِي.. )2

- تِكْشبِيلةَ تِوليولةَ: تلك إشبيلية سنعود لها تلك إشبيلية سنولي إليها

- ما قَتْلونِي ما حْيَاونِي: لا أنا بالحي ولا أنا بالميت نتيجة العذاب من لدن محاكم التفتيش.

- غِيرْ ذَاكْ الكَاسْ اللِّي عْطَاوْنِي: كانوا يرغمونهم على شرب الخمر حتى يتأكدوا من تغيير ملتهم

- الحَرامِي مَا يْمُوتْ شِي: عودة غدر القشتاليين المسيحيين المتطرفين المجرمين

- جَاتْ خْبَارُو في الكُوتْشِي: جاءت أخبار عودة القشتاليين مع العسكري الذي يركب عربة تجرها الخيول

تصور معي أن تحتفظ الواحة ببقايا وأثر محنة إنسانية مرة عليها قرون عديدة من الزمن، ألم أقل لكم بأن الواحات هي القاع الذي يخبئ بين طياته ما لا يحصى ولا يعد من المعارف ومن مفاتيح ألغاز التاريخ الممتد من الثقافات التي تلاقح بعضها ببعض على بساط حزام الصحراء الذي حزمت به الأرض نفسها منذ الأزل..مع الأسف تعطُّل شرايين قوافل الصحراء منذ قرون، كان سببا من وراء اختفاء مدن ومراكز حضارية كبيرة، أما التي لم تختفي فقد تبدَّل وتغير حالها عقدا بعد عقد وقرنا بعد آخر..وبقيت تصارع الزمن حتى امتدت إليها يد ذوي الحضارة التي ترى الغنى في الاستلاء على مِلك الغير..

العناية بمعرفة خفايا حزام الصحراء وتاريخ الواحات في جزء كبير منه يمثل نقطة التلاشي، إنها نقطة التقاء بعيد الأمد لمختلف مسارات التاريخ والزمن المحملة بمختلف الوقائع الأحداث..المتصلة بعالم الغيب وعالم الشهادة الحاضر والماضي والمستقبل.. ففي البدئ كانت الواحة..

***

بقلم: د. أحمد صابر

 * كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

...................................

 سقطت غرناطة آخر قلاع الأندلس 2 يناير 1492م. وقد اتخذ قرار طرد الموريسكيين المسلمين من الأندلس1609م. أغنية (تك شبيلية تيوليولا) متوارثة من تراث الموركسيين الأندلسيين العرب والمسلمين الذين طردوا من الاندلس وهاجروا إلى إفريقيا، ومن الصعب معرفة أي وقت بالذات ظهرت الكلمات ومن الصعب معرفة أول من أنشدها، إنها تعبر عن شعور جماعي لمجموعة من الناس في لحظة تاريخية محددة. أنظر: موقع المنصة العربية / معنى أغنية تك شبيلية تيوليولا.

 

كأنها أقنعة مدرَبة، تكرار لمهزلة التاريخ، وعقد الأنا التائهة بين الظاهر والباطن تنهار الحياة … هذا الهروب إلى العزلة الذي يحاصر كل من تعمق في الأشياء، هو مرض مبكر يلازمه منذ رفضه الأول للسير مع الحشود، واكتشافه للمعنى في التفاصيل …

نحن الآن نعيش هزيمة الإنسان، بعدما اكتشفنا أن سوبرمان نيتشه ما هو إلا محض هذيان آن لنا التخلص منه، لقد ربح الإنسان كل المعارك التي خاضها، وخسر أخيرا حربا بداخله، فرنسا بلد الحريات والمساواة صارت مجتمع الخوف تعيش على العقاقير المهدئة، أمريكا آلة كبيرة خالية من المشاعر، ولا هم لها سوى الإله الأخضر، أوروبا التي تقدس الديمقراطية على أرضها ولو بنسب دواعي الحالة، تحاربها في البلدان الأخرى، سكيزوفرينيا متجذرة في العقل السلطوي الأوروبي، ويبدو أن من وصفها بالصالون المسيحي قد كان على حق، مع أن المسيحية بريئة منها، ورغم أن علمانيتها التي تدعو إلى الحريات، إنما هي حرية نسبية مشروطة، وليست مطلقة تحت منظومة استبدادية، نحن أحرار في ما نفعل، أما أنت فليس لك ذلك، وعليك أن تقبل بهذا الشرط والإيمان به حسب المقاس الذي وضعوه للحرية، إنها ادعاء ليس إلا صديقي سيوران، مجتمع الرواية كما وصفتهم به يتدين بالعلمانية حد الراديكالية، ويعتقد في أساطير خرافية يبني عليها فلسفته السياسية، والتي خرجت لتوها من بويضة الكواليس، كم هو كريه أن يتباهى الواحد بالحداثة وهو رجعي متخلف …

الآن ونحن مخلفات العصر الحديث، لا وظيفة لنا إلا اقتفاء أثر الشهوة والمتعة أينما كانت، هي بالنسبة لنا الضروريات والكماليات في الوقت ذاته، وبكل أشكالها ” السلبي” والإيجابي، ” لملء نقص ناتج عن عقد ربما ” أو لسد حاجة ثقافية، ولا يهم إن كانت المتعة فوق مائدة أو على سرير امرأة نحبها أو سفر أو إعادة قراءة كتاب نحبه، أو مشاهدة فيلم، أو الاستماع للموسيقى أو، أو، فكل هذا إنما يعكس مدى إنسانيتنا، لكن شهوة القتل وبطرق متوحشة شتى مباشرة ولا مباشرة، حيث باتت الحروب اليومية، الدسائس والتصفيات، الملاذ الوحيد للوصول إلى الغايات المؤقتة، أو للحفاظ على المكتسبات الفانية “من أنظمة الحكم إلى كائنات الشارع”، وكأننا نعود إلى البداية الأولى التي أخبرتنا عنها الكتب المقدسة، كأن الحياة جريمة من أجل قبول قربان أو اشتهاء أفروديتي …

هل كراهية الآخر وحب تدميره غريزة فينا ؟

لا أعتقد هذا، لكن الأغلبية قد تخلصت من الفطري فيها، وتقمصت دور الأفعى لبث السم في ما حولها، وممارسة لذة الانتقام، الانتقام لسلطة الفراغ داخلها، لا لشيء آخر …

علينا إذا أن نتأمل الوقت والموت؟

كي ندرك مدى الانفصام الذي يكسونا، كيف نقضي الوقت في الصراعات من أجل المؤقت ؟ وهناك نهاية حتمية تنتظر الجميع، لكنها آفة النسيان، نسيان ما لا ينبغي لنا أن ننسى، ويبقى في اعتقادي أن تأمل الفرد لموته ” سواء كان مؤمنا أم ملحدا ” هو حل للخروج من أزمة الصراع الخفي، وكذبة ادعائنا حب الحياة، لأن الغاية منه هو طرحه لسؤال إجباري من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟ وهل المؤقت يستحق كل هذا الكم من الأحمر، الأسود، والجدران؟ …

حب الحياة هناك في مكان آخر، إنه حلم البحث عن أرضية مشتركة للحوار، التعايش، التكافل، والاستعداد للعطاء لا للأخذ فقط، ولا فرض للمكبوت ولا التقوقع في برج الذات المريض، والنظر إلى الأشياء من القمة كالذي يظن أنه يمتلك الحقيقة، حتى المثقف في العالم وبعد عصر صناعة المستهلك، لم يعد له دور سوى أن يمشي وفقا لما تطلبه الظرفية، الحزبية، والأيديولوجيا التي أنجبته، لا رأي له ولا بصمة لهويته الخصوصية، إنه جزء من الأشباه، لكنه ينعق من غابة أخرى، من مصلحته الذاتية، والمتوقفة على إرضاء أسياد المشهد الطافي على السطح، والغثاء معا، وبحثه عن مكياج يجمل به وجهه القبيح المستعار كإعلان على أنه لا زال هنا …

***

فؤاد ناجيمي

صابر مولاي أحمد كاتب وباحث مغربي حاصل على درجة الدكتوراه؛ في تخصص الحوار الديني والثقافي في الحضارة الاسلامية؛ بالجامعة المغربية؛ مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية؛ صدر له:

كتاب: "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم؛ سورة البقرة نموذجا"

وكتاب: " الوحي دراسة تحليلية للمفردة القرآنية"

وكتاب: "التداول اللغوي للمفردة بين الشعر والقرآن"

وكتاب: "القرآن ومطلب القراءة الداخلية؛ سورة التوبة نموذجا"

وكتاب: "الحوار قلق الحاضر وسؤال المستقبل؛ أسئلة حول الذات والآخر".

درس مادة " الفكر الاسلامي وفقه الأسرة " لفائدة طلبة الإجازة المهنية في شعبة علم الاجتماع كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس" الرباط موسم الدراسي، 2015م/2016م.

ألقى مجموعة من المحاضرات العلمية في الجامعة المغربية من بينها: دار الحديث الحسنية مدينة الرباط، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بني ملال، كلية الآداب والعلوم الإنسانية مدينة تطوان.

شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات الدولية، ونشرت له مجموعة من المقالات والدراسات التي تعنى بقضايا الفكر والمعرفة في مجلات ودوريات "محكمة".

عمل خبير ثقافي وأستاذ باحث في مؤسسات علمية دولية داخل المغرب وخارجه من بينها:

- منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو).

-  مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات الأبحاث

- مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة بأبو ظبي

- مؤسسة سراج بأبو ظبي.

 وقد أسندت له مجموعة من المهام المتعلقة بقضايا الثقافة والحوار والتواصل الحضاري بشكل عام، بالإشراف على تنظيم حزمة من المؤتمرات والندوات، وتمثيل الجهات المعنية بذلك، وتقديم مشاريع واقتراحات في تعزيز ثقافة الحوار والعناية بالثقافة في بعدها المحلي والكوني.

له تجربة إعلامية مميزة: تقديم برنامج: "حوارات في الفكر والرأي". إدارة عدة مؤتمرات وندوات وحوارات علمية.

للتواصل: [email protected]

يحضر التاريخ بسطوته العجائبية والأسطورية، في مختلف أرجاء الواحة الواسعة والممتدة الأطراف، ليس كأحداث ووقائع من ورائها أسباب موضوعية، ولكن كتصورات وحكي شعبي مفارق في كثير من تفاصيله لسنن الحياة والمجتمع، وهو حكي تعددت وتشعبت رواياته وقد ارتبط في جزء كبير منه بمختلف الأولياء والأضرحة...فالبعض منهم يتم تخليد ذكراهم بشكل موسمي إذ يقصد أهل الواحة ضريحه في موعد محدَّد، وهم محمَّلين بمختلف الهدايا والعطايا التي تليق بمقام صاحب الضريح وأهله، تدور مواعيد مختلف المواسم مع دوران السنة الهجرية، على مختلف فصول السنة الأربعة، فهي قد تصادف فصلي الربيع والشتاء حينا وقد تصادف فصلي الخريف والصيف حينا آخر... وقد يكون الإقبال كبيرا في فصل الصيف بالمقارنة مع مختلف الفصول الأخرى، لأن أهل الواحة في الصيف يكون لديهم متسع من الوقت، إذ تجدهم تخفّفوا من مختلف تبعات فلاحة حقولهم بعد دَرْسِ زروعهم، وتمار نخيلهم لا تنضج إلا بمطلع فصل الخريف، فالصيف بالنسبة لهم فرصة لقليل من الراحة والاستجمام، كما أن الحرَّ يجعلهم في حالة من الاسترخاء الذهني والجسدي، وهي حالة نفسية تحلو معها جلسات الشَّاي ونسج مختلف أشعار الزَّجل الشعبي والرقصات والغناء، كما تحلو معها جلسات الذكر والأذكار والرقصِ على طبول الحضرة الإلهية...

في أحد أيام الجمعة الموافقة لشهر ربيع الأول، بعد خطبة الصلاة التي أكد فيها الخطيب على ضرورة الإقبال على الخير وطهارة الأنفس من الشُّح، وقف الناس للصلاة داخل مقصورة[1] الجامع (المسجد)... سلم الفقيه وبدأ المصلين يخرجون من المَقْصُورَة في اتجاه باحة المسجد التي تأخذهم إلى الزقاق الرئيسي داخل القصبة، في هذه الأثناء بقي الشيخ علي متكئا على أحد سَوارِ[2] المسجد المقوسة من الأعلى والمشتبكة في الوقت ذاته مع بقية السَّوارِ، فالمسجد كما هو معتاد فضاء لمن اختار ليعتكف فيه لوقت طويل أو قصير، أخرج الشيخ علي، سبحته، وقد اعتاد أن يضعه بين ثنايا عمامته المكوَّرة على رأسه، ومن الغريب أنه هو لوحده في القرية من بين الشيوخ الذي يخبئ سبحته بين ثنايا عمامته، وحتى يسهل عليه هذا الأمر أحدث لنفسه سبحة صغيرة من حيث حباتها عددا وحجما، إلى درجة أنه يمكن له أن يخفيها داخل قبضة يده، وهو بطريقته هذه، يكون قد خالف جميع شيوخ الواحة، وهم يحملون معهم سُبَحَهُم الكثيرة عدد الحبات والسميكة الحجم، والبعض منهم يجعل منها قلادة على صدره، وهي حالة يستنكرِهَا الشيخ علي، ويرى فيها صورة للرياء، كما يرى أن القلادة تخص النساء من أجل الزينة...

ها هو يبدوا من  السَّارية في هيأة وقار وخشوع،  يمرر حبات سبحته الصغيرة بين أصابعه، وإذا بمُقَدَّم[3] أحد الطرق الصوفية المشهورة بين الناس، يتجه نحو ويجلس بالقرب منه، وقد دخلا الرجلان دردشة كلام، وقد أخبر المُقَدَّم الشيخ عي  بأن يستعد كالمعتاد، من كل عام إلى رحلة قد تستمر يومين وثلاثة أيام، بقصد الوفاء بالزيارة والحضور في الموسم الكبير، الذي يقام بجوار ضريح أحد الأولياء، في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، وهو يوم يوافق المولد النبوي، وقد تشدُّ إليه الرحال من كل مكان بعيد أو قريب... فالزيارة مزدوجة المقاصد مقصد فيه احياء لذكرى الرسول الأعظم، ومقصد آخر فيه احياء لذكرى الولي الصالح، وقد عرف عنه تعلقه في مختلف خلواته بذكر الرسول الأعظم، ووفق هذين المقصدين حظي الموسم بمكانة كبير في أنفس، الجميع فهو ملتقى كبيرا لكل أهل الواحة...

قبل غروب شمس ذلك المساء حطت بالساحة الأمامية المقابلة للباب الرئيسي من الجهة الداخلية للقصبة، قافلة صغيرة من الدواب، وهي محملة بمختلف مستلزمات الإقامة لوقت ليس بالطويل...شعير وعسل وشاي وخضر مجففة وفول وعدس وتمر وحطب وفحم...شرعت الجماعة وبعضهم يساعد البعض الآخر، بسحب مختلف الحمولات من على ظهور الدواب، لكي تستريح وتجلب قسطا آخرا من الطاقة، يمكنها في اليوم المقبل لتستمر في طريقها وقد أوشكت على الوصول إلى الهدف، فلم يتبقى أمامها إلا مسيرة يومين فقط أو ثلاثة على الأكثر.

الوافدون ذوي الجلاليب الواسعة ويحبون أن ينعتوا بالفقراء[4]، اتجهوا نحو ميْضأة الجامع، وقد جلبوا ما يكفيهم من الماء من قعر بئره، فمنهم من اكتفى بالوضوء، والبعض الآخر، أقبل على الاستحمام في غرف صغيرة بالقرب من مكان تدفئة الماء، إذ يسكب وسط سَطلةٍ كبيرة من نحاس معلقة إلى الأعلى في سلسلة حديدية، منسدلة من السقف، ويأتي أسفل منها موقد النار وهي تسع خمسون لتر من الماء... بعد صلاة المغرب والعشاء اتجهوا وقد رافقهم الشيخ علي نحو سطح أحد الدور المعروفة التي اتخذتها أحد الطرق الصوفية مقرا لها، ووجدوا في استقبالهم وفدا من كبار القوم، وقد تبادلوا السلام وتصافحوا فيما بينهم، واستغرقهم كثير من الوقت حول طبيعة الطريق وما واجههم من صعاب، وقد تبادلوا مختلف الأخبار حول الواحة وأهلها وما حلَّ بها، من بأس شديد، نتيجة اتساع تقدُّم عساكر الفرنسيين في كل مكان وما صاحب ذلك من مقاومة وتضحية بالأرواح...

بعد صلاة الفجر انضم الشيخ علي ومجموعة من أصحابه إلى القافلة، ويتقدمهم مُقَدَّمٌ الطريقة، وهو يحمل راية باللون الأخضر، ترمز إلى أنهم وفد استجابة دعوة وزيارة... زيارة من؟ ودعوة من؟ زيارة معلم تعاهد النَّاس أن يلتقوا بجانبه مرة من كل عام، منذ زمن بعيد إنه، معلم الضريح، وهم يجددون كل عام بجواره العهد بأن يَغْمِدوا سيوفهم، ويحذروا كل الحذر بأن لا يعودوا لفعلتهم، البئيسة باتباعهم خطوات الشيطان، بسفك دماء بعضهم بعضا. إنها زيارة للحظة ونقطة عابرة من تاريخهم الممتد، يتذكرون من خلالها العهد عهد الإخاء... دعوة منهم وإليهم، إنها دعوة كل عابري سبيل، دعوة لا تستثني أحدا دون أحد، دعوة لا تلوم من اعتذر، ولا تقدِّم من حضر على من كان من حظه الغياب... قبل انطلاق قافلتهم ذلك الصباح وكما هو معتاد أنشدوا في لحن جماعي ورد دعائهم ومفاده:

يـا مَـنْ إِلـَى رَحْمـتِـهِ الْمفَرُّ

وَمَـنْ إِلَـيْـهِ يَـلْجَـأُ المُضْطَرُّ

وَيَـا قَـرِيـبَ الْعَـفْوِ يَا مَوْلاَهُ

وَيَـا مُغِـيـثَ كُـلِّ مَـنْ دَعَاهُ

بِـكَ اسْـتَغَثْنَا يَا مُغِيثَ الضُّعَفـَا

فَحَسْـبُـنَا يَـا رَبِّ أَنْتَ وَكَفَى

فَـلاَ أَجَـلَّ مِـنْ عَظِيـمِ قُدْرَتِك

وَلاَ أَعَـزَّ مِنْ عَـزِيزِ سَطْوَتِك

لِعِـزِّ مُـلْكِـكَ الْمُلُوكُ تَـخْضَعُ[6]

***

وصلت القافلة معلم الضريح قبل غروب الشمس من اليوم الثالث، عندما انضم إليها الشيخ علي وأصحابه، ووجدت في استقبالها وفود من سبقوا إلى عين المكان، اخترقت دوابهم بعض الخيام وقد أشير عليهم بتوجيههم نحو المكان الذي ستكون فيه خيمتهم، بالقرب من مختلف الخيام التي كان همُّ أصحابها، هو الحضرة الإلهية، فهناك خيام أخرى للباعة والتجار وأخرى لمن يهوى الزجل والحكم... وأخرى لكثير من الأسرة التي تحضر بشكل جماعي رجالا ونساء وأطفالا، نتيجة قربها من المكان، و خيم أخرى لأناس يعترضون الزائرين، وهم يقومون بطقوس، أقرب إلى الحمق والجنون...معلم الضريح ولطول فترة الارتباط به، نسجت حوله الكثير من الطقوس والعادات وقد اختلط الكثير منها بأشياء غريبة ضاربة في القدم... وبالرغم من كل هذا فالحضرة هي المركز الذي يتمركز حوله الموسم، وبدونها، سينفك وينتهي ويزول، وهي تستمر لثلاثة أيام... والغريب أن الحضرة نفسها قد اختلطت بشتى الطقوس والأعراف...ولم تعد كما كانت...

داخل الحضرة تتشابك أيدي الفقراء شيوخ وكهول وهم في حلقة دائرية تدور حول نفسها وتتوسطها أعلام كبيرة ذات ألوان براقة بالأخضر الأحمر...دائرة الفقراء التي تدور حول نفسها وهي تذْكر اسم الجلالة، ترمز إلى الوجود وتسبيحه وحركته في اتجاه الله. بينما مركز الدائرة يرمز للواحد الأحد فهو مصدر كل حركة فلا حركة ولا سكون إلا بإذنه.... يرفع الفقراء أصواتهم بشكل عالي عند بلوغهم درجة الخشوع وهم في حالة انحناء واستواء وأيديهم المتشابكة مرة إلى الأمام ومرة إلى الوراء. وهم حافي القدمين. والعمائم مكورة فوق الرؤوس. والجلابين بأكمامها الواسعة. منها ما هو أكثر بياضا ومنها ما هو أقل...

طقوس الحضرة تقام على التراب مباشرة فهو أصل الإنسان واليه يعود، من الفقراء من يدخل في حالة نفسية لا يعلمها إلا هو... حالة من التماهي مع لاَّ متناهي والانفصال عن عالم الواقع والحواس لوقت قصير... بعدها يعود لحالته الطبيعية... الفقراء يعرفون بعضهم بعضا ويعرفون أصحاب الحَالْ، ممن تدخلون في حالة نفسية شبه لا شعورية، ويولونهم اهتماما كبيرا، الكل يشترك في حالة مجمع الحضرة لكن الأحوال تختلف من حال إلى حال... يكثر الفقراء في الذكر على إيقاع طبول صغيرة (لا إله إلا الله لا إله إلا الله... جلالة جلالة يرحمنا مولانا...)

تتخلل حلقات الذكر، صيغ لغوية تعكس واقع النَّاس ومعاشهم، من بينها قولهم (جَلالة تَحْلى بالعِيشْ[7] والقدِّيد[8] معها) كناية عن الطعام الذي يجتمع حوله الفقراء على طول ثلاثة أيام من أيام حضرتهم الإلهية، إذ تبدأ طقوسها المفتوحة والعلنية بعد صلاة العصر حتى أذان المغرب. ومن المعروف أن الوفود القادمة للزيارة تأتي محملة بكل ما يلزم من القدِّيد، وهو لحم مجفّف يأخذ من أضحية عيد الأضحى...

يختتم مجمع الجلالة في اليوم الثالث... بالدعاء الذي يستمر لوقت طويل، يتوسطه كبار الشيوخ، ويدور حوله في دائرة كبيرة متَّسعة جموع الفقراء، ومن ورائهم عموم الناس،  وبين الحين والآخر يتقدم من يترجى عودة مسافر بعيد، أو من يترجى شفاء مريض، أو من يترجى بشرى ولادة صبي... وينادي المنادي وهو يبيع بثمن زهيد وبسيط الكثير من نواة التَّمر الذي أكله الفقراء ( من كانت نيته في حاجة لتقضا له... عند دار الضمانة تقضى له) أمر غريب أن تجد الناس يقبلون بشغف على شراء نواة التمر، تيمنا باسم الجلالة الذي ملأ الأفواه التي أكلت التمر واخرجت النواة بعده... عندما تختتم الحضرة الإلهية طقوسها، ينفك المجمع، وتأخذ الوفود طريق العودة يمينا ويسارا، وكلما مرت على قصبة أو قصر إلا  وتخلى البعض عنها وهكذا تتفكك وهي في طريق عودتها...

الكثير من الفقراء لا يعرفون إلا الذكر فقط، لا علم لهم بالواقع، ولا معرفة عندهم بمختلف العلوم...لا شيء في أذهانهم إلا الأذكار...والسواد الأعظم من الحاضرين للموسم...لا شيء بين يديهم حتى الأذكار لا قبل لهم بها... مجتمع يعيش زمنا غير الزمن الذي فيه، لا علم له ببزوغ شمس حضارة أخرى سار فيها العلم غير مفهوم العلم الذي يعرف، وسار فيها الإنسان غير الإنسان الذي يعرف، وسار فيها الاجتماع غير الاجتماع الذي يعرف...

فرق كبير بين مجتمع العلم والسؤال والنظر والتسليم واليقين بعد الخبرة والبحث، وبين مجتمع هجر السؤال وتخلى عن النظر وسار التسليم واليقين له مشاعا لكل شيء...حتى معلم الضريح تحول إلى طقس...طقس من أجل الطقس ذاته...أذكار تحولت إلى لغة وشطحات تهزُّ حالة النفس والقلب دون أن تصحب معها حالة العقل...لم يخطر ببال الفقراء قدوم رياح زمن آخر، يختلف جذريا عن الزمن الذي هم فيه... ولم يخطر ببالهم بأن مختلف طقوسهم ستندثر وتزول... وبأن معلم الضريح قد استنفد دوره وتجاوزه الزمن...

... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[1] المَقْصُورَةُ: الحجرة الواسعة الكبيرة المخصصة للصلاة...

[2] سوار: الأعمدة التي ترفع البيت إلى الأعلى وجمع السارية سوار، وتطلق أيضا على عمود من الخشب ينصب عليه الشراع.

[3]  مُقَدَّمٌ: وجمعها الْمَقَادِيمُ هو سالك صوفي ما بين درجة المريد ومرتبة الشيخ في الطرق الصوفية والزوايا، والمُقَدَّمُ رتبة من رتب الصّوفيَّة.

[4]  الفقير عند المتصوفة، هو الزاهد الذي تعهد على نفسه الفقر والعبادة، ونبذ التعلق والاهتمام بجميع العلاقات والممتلكات، يُعتقد أن الفقير مكتفٍ ذاتيًا ويمتلك فقط الحاجة الروحية لله، يتميز الفقير بتعلقه بالذكر...

[5] الدعاء من تأليف محمد بن ناصر الدرعي المغربي (توفي 1674م) وهو فقيه ولغوي وجامع كتب مغربي، وهو من الشخصيات الأكثر تأثيرا في مسار التصوف المغربي، يعود له الفضل في ترسيخ المكانة العلمية لزاوية تمكروت بالجنوب الشرقي من المغرب بعد توليه أمرها سنة (1642 م). الدعاء اشتهر بالدعاء الناصري ويسميه أهل مدينة فاس «سيف ابن ناصر». الدعاء على الرابط:

https://www.nafahat-tarik.com/2020/03/Doaa-Naciri.html

[6]  العِيشْ أو كُسكُس: طَعَامٌ يُحَضَّرُ مِنْ دَقِيقِ القَمْحِ وَالْمَاءِ فَيَصِيرُ حَبَّاتٍ دَقِيقَةً، يُنْضَجُ فِي الكَسْكَاسِ عَلَى البُخَار، وَيُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَرَقُ وَاللَّحْمُ وَمُخْتَلِفُ أَنْوَاعِ الْخُضَرِ

[7]  القدِّيد: اللحم المجفَّف

 

(ألتمسُ العذرَ من أهلِ الصَّنعةِ في الضَّادِ عن خَوضي في ذا مقال بشَقاء، لكيلا أظهرَ كمُتفذلكٍ مُتَبَرِّمٍ مُحتالٍ ومنَ الدَّخلاء، وإنَّما أنا (فيترُ آلياتٍ) ولم أكُ قطُّ في سُوقِ البيانِ العربي بتَاجرٍ ولا بقَّالٍ، ولا حتّى كيَّال بإحصاء).

تَتَغَنَّى نَبَرَاتُ المَنَابر باحتِفاء، وتَتَهَنَّى عَبَرَاتُ المَحابِر باكتِفاء، في ديَارِ العَرب الحَواضر في الأرجاء ، بما قالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي نَظْمِهِ من ثناء:

وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا .. وَكِدْت بِأَخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِك يَا عِبَادِي .. وَأَنْ صَيَّرْت أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا

ولقد علَّمَتنا المدراسُ أنَّ "صَارَ" هوَ فعلٌ ناسخٌ  يفيدُ تَحولَ الأشياء ، كقولناَ "صارَ العَجينُ خبزاً" ولكنَّهُ صار بعدَما إلتقَمنا الغداء، وقدِ استقرَّ يابسُ الخبزِ في الأمعاء. ثمَّ استِناداً الى ذاكَ العِلمِ وذاكَ الفهمِ من ألفِهِ الى الياء، فنحنُ نفهمُ أنَّ ربُّنا الجليلُ ذي الكبرياء ﷻ، قد صَيَّرَ أَحْمَدَ ﷺ لَنا نَبِيَّا في العَلياء، أي؛ تَحوَّلَ من بشرٍ الى بَشيرٍ ذي هناءٍ وبهاء. وإنِّي لأشعرُ إنَّهُ فَهمٌ عَقيمٌ غيرُ قَويم باستِجلاء، وإنَّهُ معَ خَلجاتِ الذَّاتِ أبداً لا يستَقيم، بلِ النَّفسُ منهُ تَشمَئزُّ وتَستاء. لذلكَ رأيتُنيَ أُهرَعُ الى "لسانِ العَربِ" الأولينَ النُّبلاء، لكيلا أشُكَّ أو أشكِّكَ في حُسنِ بيانِ الْقَاضِي عِيَاض، وهوَ الخبيرُ في البلاغةِ ومنَ الأصلاء، وإذ كنتُ مُوَسوساً ومُتسَائلاً بخفاء؛

لمَ قلتَ أيُّها القَاضي "صَيَّرتَ" وما قلتَ "أرسَلتَ، بَعَثتَ" في ذا الإنشاء.

ثمَّ إنّي قد عَرفتُ مِن بُطونِ سجلّاتهمُ السَّمراء، أنَّ الفعلَ"صَارَ"لا يعني التَّحوَّلَ من شيءٍ الى شيءٍ بدُعاءٍ أو بلا دُعاء، كما هوَ ذائعٌ في مَدارس الوادِي والنَّادي بنَماء، ورُبَما هوَ شائعٌ كالمحابِس بينَ فَوارس الضَّادِ بجَلاء. ثمَّ إني أيقنتُ أنَّ "القاضيَ عياض" قد انتخبَ أبهى مفردة في ذا الإنشاء، وتَفضَّلوا معيَ لنَزورَ مضاربَ ديارِ الفعلِ"صَارَ" في البيداء؛

[صارَ الأَمرُ إِلى كذا يَصِيرُ صَيْراً ومَصِيراً وصَيْرُورَةً. والمَصِير: الموضع الذي تَصِير إِليه المياه. وصارَه النَّاس: حضروهُ، والصِّيرُ: الماءُ يحضرهُ الناس؛ ومنه قول الأَعشى: بِمَا قَدْ تَرَبَّع رَوْضَ القَطا * ورَوْضَ التَّنَاضُبِ حتى تَصِيرَا، أَي حتى تحضر المياه. والصَّائِرَةُ: الحاضرة. ويقال: جَمَعَتْهم صائرَةُ القيظِ. وصَيُّور الأَمر: ما صارَ إِليه. وصِيَرُ الأَمر: مُنْتهاه ومَصِيره. ووقع في أُمِّ صَيُّور أَي في أَمر ملتبسٍ ليس له مَنْفَذ].

وأظنُّ فيما هَهُنا أنَّ العِبارَةَ بنقاءٍ قد تَجلَّتْ، وتَعَلَّت بصفاء؛ "وَأَنْ أحضَرت أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا"، وليسَ" حَوَّلتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا" كما تتحوَّلُ الأشياء، وإذاً فقد صَارَ القَسيمُ الوَسيمُﷺ ذو السَّناء، هوَ مَرجِعُنا الذي نَصِير إِليه في الإرتقاء، وأمرنا كلُّهُ اليهِ في ضُحىً وحينَ المَساء، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا واتَّقُوا اللَّهَ﴾، ولا تكونوا منَ الأشقياء.

وقد نعلمُ أنَّ الفعلَ "صارَ" لم يردْ قطُّ في التَّنزيلِ الحكيم بصيغةْ الماضي الذي يُفيدُ التحولَ في الأشياء، بل وردَ بصِيغتي "تَصيرُ، مَصِيرُ"؛ {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}، {لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.{ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا}.

و[قال الأَزهري: وأَما صارَ فإِنها على ضربين: بلوغ في الحال وبلوغ في المكان، كقولك صارَ زيدٌ إِلى عَمرو، وصار زيدٌ رجلاً ، فإِذا كانت في الحال فهي مثل كانَ في بابه].

وهكذا، فنحنُ بفضلِ منَ ربِّنا العَزيزِ الرَّحيم ﷻ قد صِرنا الى مُحمدَ ﷺ بعدَ ما كنَّا هَبَلٍ الى هُبَلَ صَائرين صَاغرينَ. وصَيَّرَ أَحْمَدَ لنا نَبِيَّاً كمثلِ نبعِ الزلالِ في البيداء، إذ يجتمعُ العَطاشى حولَهُ باستقصاء، كما يستقصيَ الظمآنُ عينَ ماء.

شَتَّانَ ما بينَ مفهومِ الفعلِ"صَيَّرَ" وألقِهِ في بيانِ الأولينَ الأصلاء، ومعلومِ الفعلِ "صَيَّرَ؛ تَحَوَّلَ"وزلقِهِ في تبيان الآخرينَ بعواء.

رحمَ اللهُ ﷻ مُعلِّمي "أ.فؤاد" المُربِّيَ الصَّفيَّ بوفاء، إذ كانَ لا يفتَأ طوالَ العامِ يهتفُ بخُيَلاء؛ "صارَ الجوُّ صَحواً، صارَ العَجينُ خبزاَ، صَارَ العِراقُ شعلةً"، وها هوَ اليومَ قد ؛"صارَ العراقُ مَصِيراً لكلِّ مَن هَبَّ ودَبَّ مِن أنحائِها والأرجاء، الأشقياءِ منهم والبؤساء على سواء".

وأنَّما الأُمُورُ صَائِرَةٌ إِلَى مَصَائِرِهَا. وهكذا قَالتِ العَربُ، وما أَدْلَيتُ ولا أتيتُ بحرفٍ من عندي في ذا إدلاء.

واللهُ أعلم أيُّها الأصدقاء.

***

علي الجنابي

 

ترجمها عن البرتغالية

جميل حسين الساعدي

***

O sucesso é a some de pequenos esforços repetidos dia após dia.

1- النجاح هو مجموع الجهود الصغيرة، التي تتكرر يوماً بعد يوم.

Transforme os teus sonhos em metas e as metas em realidade.

2- حوّلْ أحلامكَ إلى أهداف وأهدافكَ إلــى واقع.

Nunca desista. A vitôria pode estar mais perto do que imaginas.

3- لا تيأس أبداً. قد يكون النصر أقربَ ممّــا تظنّ.

Acredita em ti mesmo e verás grandes coisas acontecerem.

4- ثق بنفسك وسترى أشياءً عظيمة تحدث.

Acredite, tudo vai dar certo.

5- اعتقد، وسيكون كل شيئ على ما يُرام.

Leve a vida com leveza e encontre alegria nas pequenas coisas.

6- خذ الحياة ببساطة وابحث عن السعادة في الأشياء الصغيرة.

A fellicidade é ua escolha que fazemos todos os dias.

7- السعادة هي خيار تتخذهُ كلّ يوم.

A vida é feita de momentos, não de coisas materiais.

8- الحياة عبارة عن لحظات وليست أشياءً مادية.

Ninguém sbe o que o futuro reserva, por isso aproveite o presente.

9- لا أحد يعرف ما يخبئهُ المستقبل، لذا فلتستمتعْ بالحاضر.

O tempo cura todas as feridas.

10- الزمن يداوي كلّ الجراح.

As maiores alegrias da vida estão nas coisas simples.

11- أعظم متع الحياة تكمن في الاشياء البسيطة.

A vida  é  como montanha-russa, cheia de altos e baixos.

12- الحياة مثل طريقٍ ملتوٍ، كلّهُ صعـــــودٌ وهبوط.

Pau que nasce torto, tarde ou nunca se endireita

13- العصا، التي تولدُ ملتويــة  ً،تستقيم متأخرة أو لا تستقيم.

Quem não ten cão, caça com gato.

14- من ليس لديه كلبٌ، يصطاد بقطته.

Onde há fumo, há fogo.

15- حيث يوجدُ دخانٌ، فهنالكَ نار.

Quem muito fala,pouco acerta.

16- من يتكلم كثيراً ينجز القليل.

Diz-me com quem andas, dir-te-ei quem é

17- قلْ لي مع َ من تمشي، أقولُ لك َ من أنت.

Cão que ladre não morde.

18- الكلب الذي ينبح، لا يعضّ.

Quem semeia ventos, colhe tempestades.

19- من يزرع الريح يحصد العواصف.

Depois da tempestade, vem a bonanç

20- بعد العاصفة يأتي الهدوء.

De grão em grão, a galinha enche o papo.

21- حبّة.. حبّة تملأُ الدجاجةُ معدتها.

Antes só do que mal acompanhado.

22- من الأفضل أن تكون وحيداً بدلاً من أن تكون في صحبة سيئة.

Em terra de cegos, quem tem olho é rei.

23- في أرض العميان، الأعورُ ملك.

O que não tem remédio, remediado está.

24- ما لا يمكن علاجه، علاجه فيه.

Quem espera, sempre alcança.

25- من ينتظر، يصل دائماً.

Aqua mole em pedra dura,tanto bate até que fura.

26- ماء الينبوع الرقيق يضرب الحجر الصلد حتى يُحدث ثقباً

كما هي عادتي في كلّ رحلة، سواء كانت قريبة أو بعيدة، وقبل أن أجهّز أمتعتي، أحرص على اختيار كتاب أو كتابين بناءً على مدّة الرحلة.

في رحلتي الأخيرة، لم أبحث طويلًا في مكتبتي، ولم أقع في حيرة الاختيار، فرواية “فرصة ثانية” كانت بانتظاري.

“فرصة ثانية”، رواية واقعيّة للأديبة صباح بشير، صدرت حديثًا عن دار الشّامل للنّشر والتّوزيع، وتقع في 259 صفحة.

تبدأ الرّواية بحدث مأساويّ مؤثّر وهو موت “فاتن”، الذي أعاد إلى ذاكرتي موت سلمى في رواية “الأجنحة المتكسّرة” لجبران خليل جبران، فكلاهما يمثّل الاحتضار ثم الموت، يليه التشتّت والحيرة.

وفي خضمّ هذه المأساة، يولد طفل جديد، اسمه يحيى، ليمنحه والده مصطفى فرصة للحياة وهنا نتذكّر قول الشاعر: “سميته يحيى ليحيا”.

يبدأ صراع طبيعيّ متوقّع، يتعاطف معه القارئ بشدّة، خاصّة مع قصّة الحبّ التي انتهت بهذه النهاية المحزنة، بوفاة الزوجة.

تنقلب صفحة أخرى من الرّواية لنكتشف جانبًا اجتماعيًّا مؤثّرًا بين أسرة مصطفى وأسرة فاتن، حيث تتولّى هدى الشّابة رعاية الطفل اليتيم، وتنشأ بينهما علاقة حبّ أموميّ وتعلّق قويّ.

تتوالى الأحداث بأسلوب مشوّق يجذب القارئ ويجعله يسترجع ويستذكر ذكريات مشابهة من واقعه.

لقد ذكرّتني هذه الأحداث بقصّة طالبة في مدرستي، فقد أخبرتني ذات مرّة أنّ والدتها توفيت، وكانت هي وأخوها لا يزالان صغيرين، فاختارت جدّتها خالتهما لرعايتهما وتربيتهما.

كانت الخالة بمثابة الأمّ الحنون لهما، وقد شعرا بذلك بفضل رعايتها الحانية.

كما تذكّرت أيضًا قصّة مشابهة لعائلة من أقاربي، حيث قامت الخالة بدور الأمّ والزوجة ورعاية الأبناء، وكانت بمثابة الأمّ الثانية لهم.

إنّ هذه القصص تؤكّد واقعية أحداث الرّواية، أمّا الصّراع الداخليّ الذي عاشته هدى فكان طبيعيًّا، والتضحية التي قدّمتها كانت جليّة. كذلك عانى مصطفى الذي وافق على هذا الزواج على مضض، وظلّ الصّراع يلاحق هدى حتّى بلغ بها اليأس من مصطفى درجة كبيرة، فبدأت تفكّر بالانفصال وإنقاذ حياتها، وإنهاء زواجها الذي لم يكلّل بالنّجاح في بدايته، لكنّ الكاتبة، استطاعت أن تعيد الأمور إلى نصابها، لتصبح هدى زوجة وأمًّا مثاليّة.

ضمّت الرّواية قصصًا أخرى متشابكة، جميعها تدور في إطار العائلة والعلاقات الاجتماعيّة، كما تضمّن النّص عدّة حكايات جانبيّة سارت بالتّوازي مع القصّة الرئيسيّة، على سبيل المثال، قصّة إبراهيم ونهاية، وقصّة عبد الله ولبنى، حيث حاولت الزّوجة التّنفيس عن مشاكلها بطريقة استفزازيّة دون مراعاة لمشاعر زوجها المحبّ والصّبور، على الرّغم من محاولاته المستمرّة للتّقرّب منها، إلا أنّه كان يصطدم في كلّ مرّة بتصرّفاتها الغريبة وسلوكياتها السلبيّة، ممّا أدّى به في النّهاية إلى اتّخاذ قرار الطلاق، وهو الحلّ الوحيد في مثل هذه الحالات، لكنّ دور الأمّ الإيجابيّ أنقذ الموقف بلباقة، وبمساعدة هدى، تمكّنت الأسرة من تجاوز الأزمة، وتكلّلت النّهاية بفرحة انتظار مولود جديد.

ما أثار انتباهي، هو تسليط الضوء على مكانة المرأة، وخاصّة الأمّ، التي لعبت أدوارًا متعدّدة لحماية عائلتها، ومن ذلك حديثنا عن أمّ مصطفى التي اختارت هدى لرعاية الطفل، ورفضت تسليمه لامرأة أخرى قد تسيء معاملته.

عنوان الرّواية “فرصة ثانية” هو عنوان تفائليّ بامتياز، يحمل دلالات رمزيّة عميقة، تتجلّى بوضوح خلال قراءة النّص.

أمّا البناء الروائيّ فتميّز بالتّماسك والقوّة، واتّسمت الأحداث بالتّفاؤل والتّشويق، رغم البداية التي غلب عليها الحزن.

نستنتج من هذا العمل، أنّ الحياة قصيرة، وعلينا أن نمنح أنفسنا والآخرين فرصة ثانية دائمًا، لننعم بالسّعادة والرّاحة، بدلاً من الاستسلام لليأس وقطع الأمل وإغلاق الأبواب في وجه الحياة.

المكان الذي تدور فيه أحداث الرواية هو مدينة حيفا الجميلة، ولا شكّ أن الكاتبة تكنّ لها حبًّا عميقًا، فقد استوحت من بحرها وهوائها العليل الكثير من جماليات العمل.

لوحة الغلاف بريشة الفنّان جمال بدوان، وهي لوحة جميلة وموفقة للغاية، تعبر عن عاطفة الأمومة وسرّ الحياة، كذلك لغة الكاتبة لغة شاعريّة عذبة، تنسجم مع الأحداث وتزيدها جمالًا بأسلوب سلس وشيّق، فتشعر وكأنك تستمع إلى سيمفونية موسيقيّة تأخذك في رحلة ممتعة دون ملل أو كلل.

هذه هي الروائيّة الكاتبة الأديبة صباح بشير، صاحبة القلم المميّز والفريد، الذي وهبها الله إياه، فحافظت عليه بمطالعاتها ودراساتها ومقالاتها النّقديّة وقراءاتها لإبداعات مبدعينا.

***

عدلة شدّاد خشيبون

 

بقلم: جيمي دوشارم

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم196 Time Headshots

منذ أكثر من عقد من الزمن، خطرت لتوماس ديريك هول، وهو عالم نفسي سريري يدرس الصحة الرقمية، فكرة بدت وكأنها جريئة. ماذا لو بدأ المعالجون، الذين لا يستطيعون مواكبة الطلب على الرعاية النفسية في الولايات المتحدة، بإرسال الرسائل النصية إلى مرضاهم بدلاً من إجبارهم على القدوم إلى المكتب؟

في ذلك الوقت، بدا لهول أن استخدام الشاشة لبناء الروابط وإجراء المحادثات الهادفة التي تزدهر في اللقاءات وجهًا لوجه أمر غير محتمل. ولكن المزايا كانت مغرية: الرسائل النصية رخيصة، سريعة، سهلة الوصول، ويمكن إجراؤها بسرعة، مما قد يسمح للمعالجين بالتفاعل بشكل منتظم مع مرضاهم بدلاً من انتظار جلسة أسبوعية. لذلك بدأ هول في دراسة فعالية الرعاية القائمة على الرسائل النصية، ليصبح لاحقًا مديرًا تنفيذيًا في مزود العلاج عبر الإنترنت "توك سبيس". (غادر الشركة في عام 2020 ويعمل الآن لدى شركة ناشئة في مجال الصحة الرقمية).

حتى لو تبين أن الرسائل النصية فعالة بنسبة 60% أو 70% فقط مقارنة بالعلاج التقليدي، فقد كان يعتقد هول أن الراحة وسهولة الوصول قد تجعلها خيارًا أفضل من لا شيء. يقول هول: "كان ذلك يبدو تبادلاً عادلاً". "لكن عندما بدأنا بالنظر في البيانات، تبين أنها تبدو فعالة بنفس القدر".

تشير الأبحاث الحديثة - بعضها بتمويل من مقدمي العلاج النصي مثل "توك سبيس" - إلى أن الرسائل النصية وسيلة مشروعة وفعالة لتقديم الرعاية النفسية للأشخاص من جميع الأعمار. على سبيل المثال، في دراسة نُشرت في يوليو، وجد هول وباحثون آخرون أن العلاج عن طريق الرسائل النصية أو الرسائل الصوتية جيد بنفس فعالية العلاج عن بعد - الذي أثبتت فعاليته تقريباً بقدر العلاج وجهاً لوجه - في تخفيف أعراض القلق والاكتئاب خلال ثلاثة أشهر.

وهذا يعني أن الأشخاص الذين يحبون فكرة إرسال رسائل نصية إلى معالج يجب أن يشعروا بالثقة بأنهم يحصلون على نفس جودة الرعاية التي يحصل عليها الأشخاص الذين يختارون مواعيد الفيديو، كما يقول المؤلف الرئيسي للدراسة مايكل بولمان، الذي أجرى الدراسة أثناء عمله كأستاذ باحث في كلية الطب بجامعة واشنطن.

كيف يمكن ذلك، في حين يُعتقد أن العلاقة بين المريض والمعالج هي واحدة من أفضل المؤشرات على نجاح العلاج؟ هل يمكن حقًا أن تتطور هذه الرابطة عبر الرسائل النصية؟ لم تتخذ الجمعية الأمريكية لعلم النفس موقفًا رسميًا بشأن العلاج النصي حتى عام 2015، ولا يزال بعض المعالجين متشككين في هذه الفكرة. لكن مراجعة بحثية نُشرت في عام 2021 تشير إلى أن الروابط القوية يمكن أن تنمو عبر النصوص أو البريد الإلكتروني، كما تفعل في اللقاءات الشخصية. وتجد أبحاث أخرى أن الناس يمكن أن "يرتبطوا" حتى مع روبوتات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

بعض الأبحاث تشير إلى أن العلاقات وجهاً لوجه تحقق نتائج أفضل من الروابط عبر الإنترنت، لكن أدريان أجيليرا، أستاذ مشارك في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، الذي يبحث في الصحة الرقمية، لا يشعر بقلق كبير حيال ذلك. يقول أجيليرا إنه يهتم أقل بما إذا كان العلاج النصي فعالاً بقدر العلاج وجهاً لوجه، وأكثر بما إذا كان أفضل من لا شيء — لأن هذا هو مقدار الرعاية النفسية التي يتلقاها معظم الناس في الولايات المتحدة اليوم. ويضيف: "هل هو الأفضل؟ ربما لا"، ويقول: "السؤال الأفضل هو: 'هل يمكنه تلبية حاجة غير ملباة؟'"

يبدو أن رد الفعل كان إيجابيا. خلال جائحة كورونا، اختبر أجيليرا نظامًا حيث تلقى الناس رسائل نصية تلقائية يومية تهدف إلى تحسين الصحة النفسية. (مثال: "التسكين الذاتي مهارة مهمة للتعامل مع الضيق. ما هما طريقتان يمكنك استخدام حواسك فيهما [مثل الشم، والتذوق، واللمس] لتهدئتك؟"). بشكل عام، أفاد الأشخاص الذين تلقوا الرسائل بتحسن في أعراض القلق والاكتئاب بعد 60 يومًا. لكن البرنامج بدا مفيدًا بشكل خاص لمستخدمي اللاتينيين، الذين أفادوا بأنهم تعلموا معلومات جديدة من الرسائل، ربما لأنهم كانوا أقل احتمالاً من المشاركين البيض في تلقي رعاية نفسية من قبل.

أظهر بحث أجيليرا الآخر أن المرضى يميلون إلى الاستمرار في العلاج لفترة أطول عندما يتضمن عنصراً قائماً على الرسائل النصية. وربما لا يكون هذا مستغرباً، نظراً لأن معظمنا ملتصقون بهواتفنا في هذه الأيام. يسأل بولمان: "هل سبق لك أن أرسلت رسالة نصية لصديق عندما كنت تشعر بالضيق أو القلق من شيء ما؟" والإجابة بالتأكيد نعم.

مثلما يحدث في المحادثات العادية، فإن التراسل مع المعالج يوفر فائدة الفورية (يمكنك إرسال رسالة بمجرد أن يظهر شعور صعب) وفائدة عدم التزامن (يمكن للشخص الآخر أن يأخذ وقته في صياغة رد مدروس)، كما يقول بولمان.

قد يجد بعض الأشخاص أيضًا أن التعبير عن أفكار مظلمة أو محرجة أو ضعيفة يكون أسهل في الكتابة، وتجد الأبحاث بشكل مستمر أن الناس يستفيدون من تحويل أفكارهم إلى كلمات مكتوبة، كما يشير هول. بالإضافة إلى ذلك، يقول إن العلاج بالنصوص قد يقدم فوائد "التعلم المرتبط بالحالة"، وهو المبدأ النفسي القديم الذي يقول إن من الأفضل الدراسة لاختبار في الغرفة التي سيتم إجراء الاختبار فيها. بمعنى آخر، من الممكن أن المبادئ العلاجية تترسخ بشكل أفضل عندما تُقدّم في البيئات التي سيحتاج فيها الناس بالفعل إلى تلك الأفكار، مثل المنزل أو مكان العمل.

ليس العلاج بالنصوص مثاليًا دائما. فقد واجه اثنان من أكبر مقدمي الخدمة عبر الإنترنت، وهما "توك سبيس" و"بيتر هيلب"، انتقادات؛ حيث تعرضت "توك سبيس" لدعوى قضائية جماعية تدعي أنها فرضت رسومًا على المستخدمين حتى عندما لم يكن هناك معالجون متاحون للقاء بهم. (جميع الادعاءات في الدعوى تم إما رفضها أو تسويتها الآن، وفقًا لبيان من "توك سبيس"). وفي مقال نشرته صحيفة وول ستريت جورنال عام 2022، انتقد مقدمو الرعاية الذين عملوا مع "توك سبيس" أيضًا جودة الرعاية المقدمة على المنصة.

في بيان قدمته لمجلة "تايم"، قالت الدكتورة نيكول بندرز-هادي، كبيرة الأطباء في "توك سبيس"، إن المعالجين على المنصة خضعوا للتدقيق وهم مرخصون، وتشير الأبحاث إلى أن العلاج بالنصوص فعال. وقالت بندرز-هادي في البيان: "تخيل وجود خيار مفتوح دائمًا للأشخاص للتواصل مع معالجيهم، بدلاً من كتم الأمور والانتظار حتى جلستهم التالية. في النهاية، ما يهم أكثر هو مقابلة الأعضاء حيثما كانوا، وترك الخيار لهم لاختيار الطريقة التي تناسبهم للتفاعل مع العلاج."

وفي الوقت نفسه، وافقت "بيتر هيلب" العام الماضي على دفع ما يقرب من 8 ملايين دولار لتسوية التهم الموجهة إليها من لجنة التجارة الفيدرالية بشأن ممارسات مشاركة البيانات غير السليمة. وفي بيان عام بعد التسوية، قالت الشركة إن "التقنية والسياسات والإجراءات لدينا مصممة لحماية وتأمين معلومات أعضائنا بحيث لا يتم استخدامها أو مشاركتها دون موافقتهم الصريحة."

واجهت "بيتر هيلب" مؤخرًا ردود فعل سلبية على وسائل التواصل الاجتماعي من عملاء يقولون إن معالجيها قدموا نصائح سيئة أو تصرفوا بشكل غير لائق. في بيان قدمته لمجلة "تايم"، لم يتناول متحدث باسم "بيتر هيلب" تلك الادعاءات مباشرة، لكنه أكد أن الشركة توفر "العديد من الطرق" لتمكين العملاء من التواصل مع المعالجين، بما في ذلك المكالمات الهاتفية ومكالمات الفيديو، وقال إنه من "النادر جدًا" أن يستخدم الأعضاء الرسائل النصية فقط.

يقول هول إن التحكم في الجودة يمثل مشكلة في أي شكل من أشكال العلاج. سيكون هناك دائمًا معالجون جيدون وسيئون، وتوافق جيد بين المرضى وغير جيد، سواء تمت المواعيد في عيادة خاصة أو عبر هاتف آيفون.

ويضيف: "لا أعتقد أن هناك أي شيء في العلاج القائم على الرسائل يقلل من الجودة، من حيث المبدأ." وبشكل كبير، تشير البيانات إلى صحة وجهة نظره.

***

...............................

الكاتبة : جيمي دوشارم/ Jamie Ducharme: جيمي دوشارم مراسلة صحية في مجلة تايم. وهي تغطي جائحة كوفيد-19، وكوفيد الطويل الأمد، والصحة العقلية، والتدخين الإلكتروني، والمواد المخدرة، وغير ذلك الكثير. وقد فازت أعمالها في مجلة تايم بجوائز من نادي ديدلاين، ونادي الصحافة في نيويورك، ونادي الصحفيات في نيويورك. بالإضافة إلى ذلك، فهي مؤلفة كتاب Big Vape: The Incendiary Rise of Juul، والذي تم تكييفه لسلسلة وثائقية قادمة على Netflix.

 

في فصل الصيف، الرياح القادمة من الغرب تحمل معها قسطا من الرطوبة، لكن عندما تهبُّ الرياح القوية القادمة من اتجاه الشرق تصحب معها حرُّ دواخل الصحراء، تأتي محملة بالغبار ومسحوق الرمال، الذي يعم المكان ويحجب رؤية البصر، فأنت لا ترى شيئا إلا من هو بالقرب منك، لثامك إن لم تلفَّه من أول لحظة بشكل محكم، فقد يطير مع الرياح، إنها مشكلة كبيرة إن سحبت الرياح لثامك من فوق رأسك، وهو يتطاير إلى الأعلى وأنت تجري أسفله، كلما اقتربت منه وحاولت لتمسكه بيدك، إلا وانسلَّ منك وطار إلى الأعلى، أنت الآن تطارد الرياح، وقد أخذت منك ما يحميك من مسحوق الغبار الذي يتسرب إلى جفن أعينك...لحسن حظك أن جزءا من أطرفه قد اخترقته أشواك شجرة الطلق، وطرفه الآخر يرفرف بجنباتها، في محاولة منه لينسلَّ في استجابة لا نظير لها لهبوب الرياح، فلولا شجرة الطلح لهرولت من ورائه لوقت طويل وقد تمسك به وقد تفشل في ذلك، حاول الآن أن تفكه من الأشواك التي مسكت به، لا تجذبه إليك بقوة، فإن أقبلت على ذلك فاعلم أنك مزقته إلى نصفين، فأشواك الطلح أشواك عنيدة، حاول أن تسحبه بلطف وعناية... أنت الآن تشعر بأنك انتصرت على هبوب الرياح وقد استرجعت ما سحبته منك، لكن يأتيك شعور آخر من الداخل، بأنك لم تقم بشيء، الفضل كل الفضل لشجرة الطلح وقد تعاطفت معك في مطلبك...وأنت تلفُّ لثامك بعناية وهو يحاول أن ينسلَّ مرة أخرى من بين يديك، وإذا بك تنزل أرضا وتقف على كلتا ركبتيك وإحداها تحكم أحد طرفي اللثام والطرف الآخر تلفُّه على رأسك بخفة وإحكام...الآن استرجعت سلاحك الذي يقيك الغبار وبإمكانك المشي وأنت في طريق العودة إلى القصبة...الشيء الوحيد الذي يدلك على الطريق هي المعالم القريبة منك، وأنت في دائرة قطرها يضيق ويتسع باتساع بعد الرؤية وضيقها، جنباتها المكونة من الغبار والرمل تقترب منك حينا لتبتعد حينا آخر، معالم الأحجار الكبيرة وبعض الشجيرات والمنحدرات البارزة ... كلها تحيلك على الخريطة المخبأة بذهنك الذهنية عن المكان...وفي حالة لم تكن لديك خريطة ذهنية عن المكان، فعليك التوقف والاحتماء بشجرة من السدر حتى يزول ويخف حاجز الغبار الذي يحجب عنك الرؤية البعيدة، وإلا أنك ستتورط في حالة من التيه والضياع الذي يفقدك الاتجاه الذي تسير نحوه...وليس من الغريب أن تجد نفسك تكرِّر خطواتك نحو الوراء في اتجاه المكان الذي انطلقت منه، وأنت تظن أنك تتقدم نحو الأمام في اتجاه نقطة الوصول.

عندما تصل إلى الواحة حيث مختلف الأشجار وصفوف النخيل، يختفي الغبار ومسحوق حبات الرمل، وبإمكانك أن تزيل لثامك عنك لبعض من الوقت، النخيل يحدُّ من سرعة هبوب الرياح، فحفيفه يملأ كل أرجاء المكان، جريد النخل يحتك بعضه ببعض، يهتز يمينا ويسارا، العراجين ما بين الجريد تهتزُّ وهي لا ترغب في ذلك، لأنها تفقد بعض بلحها، وقد أقبل على النضج... فكل جنبات النخيل مليئة بالبلح والرطب...وهي فرصة ثمينة للأطفال لملئ قففهم الصغيرة، وفرصة ثمينة للنمل والفئران والقنافد والأرانب...فقد تكفلت الرياح بأن تأتيها برزقها من السماء إلى الأرض، ولله حكمة في خلقه.

 عليك الآن الحذر كل الحذر من مختلف جذوع النخل العالية، وهبوب الرياح تأخذها ذات اليمين وذات الشمال، وقد تتمكن من البقاء والنجاة، لكن توالي هبات الرياح الموسمية الهَوْجاء، تجعلها تنحني وتميل ميلة واحدة، ويأتي نصف جذعها العلوي على الأرض...وهي حالة اعتاد عليها أهل الواحة، فبعد هبوب الرياح الهَوْجاء، يتفقدون النخيل ذو الجذوع العالية، والبعض منهم راض عن الحدث، ويردد في قرارات نفسه، أيتها الجذوع العالية كم نتحمَّل من العناء ونحن متمسكين بجوانبك بالأيدي والأرجل صعودا ونزولا، وقد أرهقنا أمرك كثيرا، أيام تأبيرك وأيام جني ثمارك... وأنتِ على هذا العلوِّ الشاهق القليل منا من يتجرأ على صعودك...

في الوقت الذي يلجأ فيه أهل القصور والقصبات إلى مساكنهم هربا من الرياح وغبارها، تجد فيه القبائل الرحل في مختلف المراعي بجنبات الواحة، في شدٍّ وجذب مع خيامهم، وهم يتأكدون من غرس الأوتاد التي تحكم مختلف الخيام، وبالرغم من ذلك فالرياح في غفلة منهم، تهزُّ أحد الخيام في الهواء وقد انفكت حبالها من الأوتاد، المشكلة الآن لم تعد مشكلة أوتاد إنها مشكلة حبال وقد تآكلت نتيجة الاحتكاك طيلة الوقت مع رأس الوتد، تصور معي عندما تهز الرياح خيمتك و تذهب بها بعيدا عنك، وقد انكشف كل ما بداخلها، إنها خيمة إعداد الطعام...حبات الرمل اقتربت كثيرا من جنبات كيس الدقيق ولحسن الحظ أنه مغلق، ولولا ذلك لأخذته هبوب الرياح معها وتحول إلى مسحوق أبيض في السماء...كؤوس الشاي وقد تلاطم بعضها مع بعض محدثة  بذلك طنينا من زجاج...الملاعق الخشبية... قِدْر الطين لازال هامد في مكانه بالقرب من موقد النار، ولحسن الظ  أنها غير مشتعلة، ها أنت تزيل الغطاء عن القدر وإذا بك تبصر في قعره بقية شربة حساء الشعير، وتراوغ هبوب الرياح حتى لا تتسلَّل حيات الرمل إلى داخله...أنت في حيرة من أمرك، هل تقبل على نصب الخيمة من جديد في مكانها والعمود الذي يرفعها إلى الأعلى لازال منتصبا في مكانه، أم تحمل كل ما كان مستَتِرا تحتها إلى الخيمة المجاورة، طبعا أنت لا تقدر على كل هذا لوحدك حتى ولو كان الآخرون في مساعدتك، فمن الحمق أن تبادر بنصب خيمة، لحظة هبوب رياح قوية، فكلما سحبت حبالها لتحكمها بالأوتاد من كل جانب، تسحبك بدورها كأنها تريد أن تطير بك في السماء...

هناك أمر آخر بدل هشاشة الحبال جعل الخيمة تهتزُّ إلى الأعلى، فمدخلها مقابل للجهة الشرقية الجهة التي تهب منها الرياح، عندما تتسرب الرياح بشكل قوي داخل الخيمة، فهي تبحث لنفسها عن مخرج في نفس الاتجاه، وعندما لا تجد مخرجا فقد تتحول إلى قوة دائرية ترفع الخيمة نحو الأعلى، في هذه الحالة تضعف الحبال...الخبرة تقتضي فتح نافذة من داخل الخيمة تسمح لفائض هبوب الرياح بالخروج...

الرياح تنقل البذور من مكان إلى مكان آخر، ويعود لها الفضل في تكسير رتابة المناخ المتعوَّدُ عليه لوقت طيل، فهي تحجب أشعة الشمس وزرقة السماء الصافية... يعتقد أهل الواحة في الرياح بأنها مأمورة فهي لا تهب من تلقاء نفسها، إنه ملك الرياح ينتقل من مكان إلى مكان وهو يواجه الصعاب والمتاعب إذ يصطدم مع مختلف الكائنات... يُحكى أن رجلا  لا يطيق الرياح ويكثر من سبِّها وشتمها، وإذا به يوما رأى في منامه رجلا حسن الهيأة واللباس والمنظر، إلا أنه يظهر على وجهه بقع من تراب وقد كشف جسمه وظهرت عليه الكثير من الكدمات... وعندما سأله الرجل لماذا أنت على هذه الحال يا رجل؟ أجابه، أنا عدوك الذي تشتمه صباح مساء "ملَكُ الريَّاح" أنت الآن قد اطلعت عن حالتي، شتائمك لم تنفعني ولا تضرني في شيء، كدماتي هذه نتيجة ما أصطدم به، أهون من شتائمك...أنا الآن سأحملك معي هل تأذن لي... وقد تبدل حال الرجل بعد منامه ذلك، فكلما حلّت الرياح بالقرية، إلا شرع في الجري في نفس الاتجاه التي هي عليه... إنه مجنون الريَّاح... يحكى أنه يملك أسرارها فهي تحمله من مكان إلى مكان... هكذا تقول الحكاية... ومن هذا الذي يصدك هذا الحكي الفارغ...لا تهم الحكاية، هناك شيء ما من ورائها يريد الناس قوله، أنت لا تختار حالة طبيعة المناخ وتقلبات الطقس ما بين يوم وليلة... أنت جزء من نظام ودورة طبيعية...هكذا أنت أيها الإنسان في الواحة وخارجها.

الرياح لازالت تهب كما كانت الغبار هو الغبار حبات الرمل هي نفسها، لكن تغيرت أشياء كثيرة، لم تعد هناك خيام في الصحراء لتفك الرياح حبالها فجأة، ولم يعد هناك الجريد المتشابك لصفوف النخيل، قد اختفى حفيفه، واختفى معه البلح والرطب المساقط من الأعلى... بالرغم من حضور الرياح…

... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

 

في لحظات اختيار العُزلةُ الْإِختيَارِيةُ، أجلس وَحِيدًا واتذكر من جلس قَبْلْنَا هنا وأين هُمْ الآن...؟ نُدْرَكُ كم هي أصبحت حياتنا هشة، وكم نحن ضعفاء، من التغيُّراتُ في المُجْتمعِ أمام قوة الزمن الذي يبتلع كل شيء بلا رحمة، ولا يترك لنا سوى الأحلام المنسية علي مصاطب وحواري وذِقاقٍ القرية، العصافير فوق اسطح المنازل الريفية في حالة صمت رهيب لا أحد يشعر بحالات الموت البطئ حينما يتمرد القدر، وتعلو أصوات الرعاع السفلة والصعاليك، وتهيج خفافيش الظلام.. انتظر من يضيء شمعة. في زمن العتمة اعيش بين العشق والجنون والهوس، قدري جعلني اكون كَاتِبًا وجُغرافِيًّا وبَاحِثٌ في عصور الإضمحلال والوباء وثقافة التفاهه والفرجه والحرب والدم، والفوضي والشعبوية، وصعود الأقزام، علي المنابر.

 في زمن عز فية الرجال ويموت كل الرجال. ونعيش زمن العيال. وتبقي الحياه بدون حياء، فيصعد شرذمة من القوم. تلعب أدوار علي المسرح ولكن المسرح ينهار والنار تشتعل من جانبية. ومازال الكومبارس والممثلون علي خشبة المسرح، في عزاء كبير. يتسأل المارة في الشوارع من مات / رغم شعوري الحسي ان حالة من الزهايمر بدأت في حفلة زار للمشعوذين و حفلة زور ونفاق ورياء في حلقة ذكر لزفاف ميت. وفجأة خرج المذيع علي خشبة المسرح ليعلن عن وفاة كل القرية، ليسمع مذيع آخر ليعلن وفاة كل العرب من عاصمة الخلافة العباسية والأموية والفاطمية والعلوية،. فيخرج المستضعفون في الأرض من المحيط الي الخليج. يَجلِسُونَ علي سلالم القصر اي قصر. بالدعاء (َنْثَر عَلَينَا مِلْحُ الطَّعَامِ ايْهَا السُّلْطَانُ) ولكن أي سلطان عليك تُعَدُّ الرُّؤُوسُ  أو تقطعها. فسوف يخرج جيل يجعل الأخضر يَابِسًا، فيخرج السلطان في خلَسَة. ويكتب علي جدران وحوائط ودورات المياه (أعيش أنا ويموت ضحاياي).

المهم أن الكل صار يحكى، ولا أحد يخفى نواياه السيئة، لكن نحن لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نفهم، وإذا فهمنا لا نصدق، وإذا صدقنا نخاف ونخاف مما صدقناه ونهرب منه.

علي شواطيء البحار.. فتنزعج الأسماك من أجسادنا المريضة من العفن التي تطفو فوق مياه البحر، لتصل الي الشاطئ الأخر فيتساءل الأفرنج من اي أمم هذة الجثث ليأتي الرد مكتوب من اروقه الأمم (أمة ماتت من سنين) الغريب الكومبارس علي خشبة المسرح والمسرح ينهار والبطل يبحث عن سلالم الطوارئ في المسرح المنهار ولكن المسرح تشتعل النار من جانبية ومازال الجمهور يصفق ومازالت سوسو تصرخ وتصوت علي خشبة المسرح لا مفر نصحني. الكاتب /محمد الماغوط/ فيما قال:

في القرية يقولون لي: مكانكَ ليس هنا.. فأسرعت الي المدينة يقولون لي: مكانكَ ليس هنا..

في الوطن يقولون لي: مكانكَ ليس هنا..

وفي المنفى يقولون لي: مكانكَ ليس هنا.. أين مكاني إذاً. ياكاتبنا بحثت عنه في كل مكان.. ؟ احتمال في الفضاء.. ,في مرحلة الفِطام، وأنا أحبو

باكياً وراءَ أمِّي المنصرفةِ عنِّي وراءَ الكنسِ والمسحِ ونفضِ الغبارِ، كنتُ آكل كلَّ ما تطوله أظافري الغضَّة من ترابِ العتبةِ والشَّارعِ وفسحةِ الدارِ.

 ويبدو أنَّني أكلتُ حصَّتي من الوطن منذ ذلك الحين. وصلت الرسالة ليس لنا مكان في وطن الرأسمالية المتوحشة وطن الذئاب.. !!

***

محمد سعد عبد اللطيف -  كاتب وباحث مصري

 

غَدَوتُ حينَ فجرٍ من مَسجدِ الحيِّ تَوَّاقَاً لمَا في فِراشي مِن لفائِفَ دَفيئة، ولم أنسَ مَكثي هُنيهَةً حَذوَ البابِ مُتَأمِّلاً مَا في خَدِّ الشَّمسِ مِن إشراقَاتٍ مُضِيئة. ثُمَّ هَجعتُ ولَسْتُ بنائِمٍ، فما عادَ جَفني مَيَّالاً للتَّثاؤبِ ولا كَيَّالاً لِما في النَّومِ من لَطائفَ خَبيئَة، بل حَادَ الجفنُ عن وطئِ الفراشِ بمُراوَدةٍ عن نفسِهِ دَنيئة. وكأنَّ الجَفنَ قدِ ارتَقى عن خَواطِرَ مُؤَطَّرَةٍ بخَطيئَةٍ مُسِيئَة، فانتَقى نوادِرَ مليئةً مُعَطَّرةً بأَوَاطِرَ بريئَة. وإذاً، فسوفَ أغادرُ النومَ في مَحبسِ الحُجُراتِ، وسَأبادرُ لشُجيراتي لأرتويَ وإيّاها مِن خَدِّ الشَّمسِ بتأمُّلاتي، قبلَ أن يَبعُدَ الخدُّ ويَقعُدَ فوقَ نواصيَ سُحُبٍ سابحاتِ.

أخَذَ كَفّي بدَكَّةٍ من خَشبٍ جَنبَ جِذعِ نَخلتي ذي التُّميرات، واتَّخَذَ ظَهْري من جِذعِها مُتَّكأً وما إنفكَّ يَإنُّ من آلامٍ وعِلّات. ثمَّ هاهُما ساقايَ تَحَلحَلا بارتياحٍ حَذوَ زهورٍ ناعِسات، وعينايَ تَغلغَلا بانشراحٍ في نَظَراتي نحوَ خُدود شَمسِيَ الآسرات، وإذ بَدَأتِ الشَّمسُ رويداً تخلعُ ثوبَ حنانِها رُويداً في ذي فلاةِ، رُويداً رُويداً بأناةٍ كلّما ارتقَت شاهِقاً في منازلِ الرَّحلات. وثَمَّةَ سُعَيفاتُ نَخلتي من فوقيَ يَتَحَسَّسنَ تأمُّلاتي وكأنَّهُنَ قد عَدَدنَ عَبَراتي، وها هُنَّ قد وَدَدنَ النُّزولَ في سوحِ المنافسةِ لرَوحِ تأمِّلاتِي، فشَدَدنَ بتمايلٍ مأمولٍ مِنهُنَّ لالتِفاتةٍ من لَفَتاتي، وبجَلَبةٍ مِنهُنَّ عن شمالٍ ذَاهبٍ وعن يَمينٍ آتٍ، بينماً بَصري ما إنفكَّ شاخصاً يَتبَعُ خُدودِ فتاتي، فتاتيَ الشَّمسُ وقدِ استَحوَذت على خَلَجاتي. وأجنحةُ شَتَاتِي كأنَّها في غفلةٍ من تخايلِ نخلتي ومن تمايلِ سُعيفاتي، وإذ كانَت تَتَحَلِّقُ رحَّالَةً فيما وراء رداءِ السَّمَوات، فتَتَعَلَّقُ بتَدَبُّرٍ وتَتَألَّقُ بِتَفَكّرٍ..

في طباقِ سبعِ سَموات، رُفِعْنَ بِغَيْرِ عَمَدٍ ثابتاتِ

في سِياقِ طيورٍ سائحاتٍ، يقبضْنَ وصافَّات

في سِباقِ سُحُبٍ سائراتٍ، يَنبضْنَ ومُسَخرات

في وِفاقِ مجرَّاتٍ دائراتٍ، يلمضْنَ وخافتات

فيا لِجلالِ مَن كَوَّرَ خُدودِ شُموسِ في مَجرّات. ويا لِكمالِ مَن صَوَّرَ زنودَ سعفاتٍ في فلوات.

ثمَّ تنازَعنَ سَعفاتي بينَهُنَّ أمرَ غفلَتي عن جَمالِهُنَّ وجفواتي. قالَت إحداهُنَّ بمُباهَلَةٍ وبمُباهاةِ:

«دَعوا الأمرَ لي وسأُكفيكُمُوهُ بخِصلَةٍ من ضُفيراتي، بينَ فَخِذَيهِ أقصِفُهُ بها ومُفلِحَةٌ دوماً كانت رِهاناتي،  بل أُقسِمُ لكم على فلاحي فيما مَرَّ مِن نِزالاتي».

ولقد وَصَفَتْ سُعيفتي ثُمَّ اصطَفَّتْ ثمَّ لَصَفَتْ فعَصَفَتْ فقَصَفَتْ فانتصَفَتْ خِصلتُها بين ساقيَّ المُمَدَّدات، فأكرِمْ بها مِن سَيّدَةِ الرِّماحِ في سوحِ الرُّماةِ. فقد حَلفَت وما حَنِثَت، وأوفَت وما أَخْلفَت فقَطَفَت رهانَ المُباراةِ. فانعَطفتُ أنا إليهِنَّ مُلاطِفاً مُتَعاطِفاً أتمايلُ معهُنَّ بالمُحاكاةِ، وصَفَفتُ أستَوصِفُ مُتدبِّراً بانبهارٍ بديعَ إنشائِهُنَّ بتؤدةٍ وبأناة..

يا لجلالِ خَلْقٍ فارِقٍ في تضفيرِ سعفاتِ نخلتي مِن فَلْقِ قِطْمِير لنواة

ويا لكمالِ أَلَقٍ بارِقٍ في تدويرِ أكمامِ التَّمراتِ، وفي تكويرِ قوامِ السُّلحفاة

ويا لِجلالِ فَلَقٍ خَارِقٍ في تصويرِ بُؤْبُؤِ ريمِ الفلاة، وفي تَصييرِ جُؤْجُؤِ صَدرِ القَطاة

وإن هي إلّا هُنيهاتٌ من تَمايلٍ معَهُنَّ بتَسهيدٍ وبتَنهيد، حتَّى رأيتُني أعُودُ لسِياحَتي مع خَدِّ الشَّمسِ السَّعيد، هنالكَ فيما وراءَ عالَمِ السّعفِ النّضِرِ الرّغيد، والقعيدِ على جِذعِ نَخلتي ليُظَلَّهُ وإيّايَ من فَيحِ ظهيرةٍ شَديد، وعادَ بَصري وَحيداً يندفعُ فيرتَفِعُ بتَهوِّرٍ عَنيد، هارِباً منَ المُعتادِ العتيدِ في ذا فَضاءٍ مَشيد، وسَارباً في مُنطادِ  فضاءٍ بَعيدٍ جَديدٍ مَجيد.

آه، كم أتَمنَّى سَفَرَاً في سِفْرٍ بَعيد، هنالِكَ وراءَ أسوارِ البَصرِ بِتَمديد. فما هامَ في رهابِ السَّماءِ الرَّهيبِ ولا حامَ بين شهابِ ذاكَ الفَضاءِ الرَّحيبِ إلّا ذو وَجدٍ رشيد. ذاكَ أنَّهُ فضاءٌ تَتَبَطَّلُ فيهِ نَقلاتُ القَدَمِ ولا يستَعطِفُ أكتَافَ الأحقافِ وآفاقَ المَكان. وتَتَعَطَّلُ فيهِ خَفَقَاتُ القِدَمِ ولا يَستلطِفُ عُقودَ الإشراقِ وعُنقودَ الزّمان. وآه، لو أنَّكَ أيُّها البَصرُ كنتَ بَصراً من حَديد.

إنَّ أمرَ السَّماءِ لهوَ أمرٌ جَليلٌ فَريد، لمَن تَرَنَّى انعِتاقاَ مِن مَجاجَةِ الرَّذائِلِ ولهَا يُبيد، وتَمَنَّى انغلاقاً عن عَجاجَةِ الدَّخائلِ وعنها يَحيد، وتَهَنَّى باعتِناقٍ لِبَهيجِ الفَضائلِ ولها يُريد، وتَغنَّى بانفتاقِ لِأريجِ الدَّلائلِ وبها يُشيدُ.

ذلكَ فضاءٌ مُنهَمِرٌ بخَلْقٍ مُتَمَدِّدٍ مُتجَدِّدٍ وَليد.

ذلكَ فضاءٌ مُنبَهرٌ من أُسٍّ للخَلقِ واحِدٍ سَديد.

فسُبحانَ الوَاحدِ الوَاجدِ للمُنهَمرِ المُنبَهرِ، وسُبحانَ الذي هوَ على كلِّ شيءٍ شَهيد، في سماءٍ إشْراقَةُ أنجمِها بأنوارِها مُحتَفِلةٌ بتَجديد، واهراقةُ غَيبِها بأسرارِها مُقفَلَة بتَوكيد، فلا مالِكَ لمَفاتِحَ ذلكَ الغَيبِ إلّا أحدٌ صَمدٌ مَجيد. ولا تُفتَّحُ أبوابَ الغيبِ كلّا، ولن تُفتَحَ إلّا في يومٍ تكونُ فيهِ السَّمَاءُ وَرْدَةً كدِهَانٍ فلا أخَادِيدَ فيها ولا جَلامِيدَ.

ألا وإنَّ الأقلامَ من ذلكَ الفضاءِ قد رُفِعَت بَعدَما رَبَطَت فضَبَطتْ جباهَ الحَياةِ بأوَّاهِ الممات، وإنَّ الصُّحفَ قد جَفَّت بعدما حَطَّتْ فحَفَّت شفاهُ الوفاةِ بجِباهِ الولاةِ الطُّغاةِ، كما أطَّت بهِا على اتجاهِ الرُّعاةِ الحُفاةِ، ولن يَدفعَ الوفاةَ عن الولاةِ حَميُ الحُماةِ، ولن يَرفعَ المماتِ عن الرعاةِ نَعيُ النّعاةِ.

ألا وإنَّ الأمرَ قد تَمَّ فيما كانَ مِن عائنٍ في فَوَات، وما يكونُ من بائنٍ في مواساةٍ وفي مَسَرّاتِ، وفيما سيكونُ من كائنٍ آتٍ مِن هُداةٍ بناة، أو شائنٍ مِن عصاةٍ بغاة.

أجل، قُضيَ الأمرُ فلا طائلَ من مواساةٍ، ولا نائِلَ من مناداةٍ لولا فسحة من هَمْسٍ على أرضٍ رَمْس في ليلٍ دَمْسٍ تنبجسُ مُسَعَّرَةً من شُجونِ المُناجاة لربِّ الخلْقِ والأمرِ في الحَيَوات.

(...هيّا بُنَيَّ، إنهضْ وأطفئْ المُوَلِّدةَ، فقد عادتِ كهرباءُ الحكومة تتحايلُ بعدَ انقطاع، كمثلِ طفلٍ يتمايلُ من بعدِ رضاع).

***

علي الجنابي

.........................

* قطفٌ  من سطور كتابي «حواري مع صديقتيَ النملة».

 

قرأت كتابًا مُترجمًا له عن الروسية قبل العشرات من السنين، فرسخ ذِكرُه في ذهني، وحدث أنني فقدتُ ذلك الكتاب، فتضايقت كثيرًا، لأنني كنت اود العودة إليه لقراءته مجدّدًا، فالكتاب يتطرّق إلى السيرة الذاتية والفنية للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، الاثير على نفسي القريب منها، أما واضعُه فهو الكاتب الروسي المُبدع إليا إهرنبرغ، صاحب الموجة التاسعة والعاصفة، وأما مُترجِمُه فهو الكاتب الاكاديمي العراقي ضياء نافع، عاشق الادب الروسي، الذي غادر عالمنا قبل أيام، يوم الجمعة (30-8-2024)، في مُغتربه الروسي، كما ذكر الكاتب العراقي ماجد السامرائي، في خبر نشره في صفحته الفيس بوكّية الخاصة، ولم أتمكّن للأسف من العثور على خبر موسّع عن رحيله بعد معاناة مؤلمة مع المرض الذي ألمّ به منذ عام، كما فهمت، مما قرأت.

ضياء نافع من مواليد عام 1941، درس الادب الروسي وحصل على الماجستير فيه عام 1966، أما الدكتوراه، فقد حصل عليها من جامعة السوربون الفرنسية، في موضوع الادب المقارن. شغل الراحل الكريم العديد من المناصب الجامعية، وبإمكان مَن يُود معرفة المزيد من المعلومات عن حياته، التوجّه إلى شبكة البحث العالمية العنكبوتية الالكترونية غوغل، ففيها القليل، لكن المُفيد عنه، وهو عضو في اتحاد الكتّاب العراقيين، وعضو شرف في اتحاد الكتّاب الروس. وضع الفقيد وترجم العديد من الكتب، وذكر موقع الكتروني أنه ألّف أكثر من عشرين كتابًا، ونشر ما لا يقلّ عن الاربعمائة مقالة، كرّس مُعظمَها للتعريف بالأدب الروسي والتنويه بأعلامه وابداعاته، التي بدا من كلّ ما كتبه افتتانُه به بيّنا ظاهرًا.

لفت نظري في السنوات الأخيرة، أن الراحل شرع بنشر المقالات التعريفية بالأدب الروسي، في موقع المثقف، الذي تشرّفت بالنشر فيه خلال السنوات القريبة الماضية، ولاحظت أنه تحدّث في بعضٍ من مقالاته عن الادب الروسي، أذكر منها مقالة عن شوارع تشيخوف، تحدّث فيها عن تماثيل وانصاب تذكارية، تنتشر في شوارع وأماكن روسية، ارتبطت بهذا الشكل أو ذاك، بتشيخوف أو بإنتاجه الادبي، وقد فهمت ممّا كمن وراء سطورها سؤالًا استفزازيًا، يُضمر محبةً غامرةً للأدب العربي، ويرجو أن يشهد هذا الادب، اهتمامًا بأعلامه ونتاجاتهم يتقاطع مع تلك العادة اللطيفة الظريفة، التي بادر إليها الروس فيما يتعلّق بكتّابهم عامة، وكاتبهم تشيخوف وانتاجه الادبي اللافت خاصة. وقد قرأت كلّ ما كتبه ونشره ذلك العاشق العراقي للأدب الروسي، إلى أن لفتتني كتابة له، يتحدّث فيها عن ذلك الكتاب الذي قام بترجمته من الروسية قبل عقود من الزمن، وأعني به كتاب إليا اهرنبورغ عن تشيخوف، وقد جاء في تلك الكتابة انه/ ضياء، تلقى نسخة من كتابه ذاك أرسلها إليه أحد القُرّاء. ما إن قرأت عن ذلك الكتاب، حتى بادرت إلى خانة التعقيبات في موقع المثقف الالكتروني، ورحتُ أكتب عن ذلك الكتاب، مُشيدًا به ومنوّهًا إلى شيء مما وَقر في الذاكرة عنه، رغم أن العديد مِن العُقود مضت على قراءتي له، وأذكر مما كتبته أن مؤلفه إليا اهرنبورغ، يظهر في كتابته عن تشيخوف وكأنما هو عظيمٌ يكتبُ عن عظيمٍ آخر، وأن العُمق الذي كتب به مؤلفه يفتحُ أبوابًا مغلّقة في أدب تشيخوف عامة، وفي قصصه القصيرة خاصة، وأنه، الكِتاب، مِن أفضل الكتب التي قرأتها عن تشيخوف، علمًا أن صفحاته قليلة، وتحوم حول المائة والخمسين صفحة من القطع الصغير. للأسف ما إن كتبت هذا الكلام أو مثله، حتى فوجئت به يختفي من موقعه في خانة التعقيبات، الامر الذي حال دون إرساله للنشر. أثار ذلك الاختفاء المُباغت لتعقيبي ذاك حُنقي، فلم أعد لكتابته مُجدّدًا، مُسوّفًا ومؤجلًا كعادتي أحيانًا.

نشرُ الكاتب ضياء نافع مقالاته التعريفية بالأدب الروسي ونتاجاته المعروفة بتوجّهاتها الإنسانية العميقة، عن أعلامه الخالدين أمثال: بوشكين، تورجنيف، دوستويفسكي، تولستوي وتشيخوف وسواهم العشرات، تتالى وتتابع في موقع المثقف المذكور، ولفت نظري من بينها، إضافة لما ذكرت، مقالاته عن تشيخوف، فها هو يعمل أو يُصدر كتابًا عنه ذا عنوان مُحفز على قراءته هو خمسون مقالة عن تشيخوف.

افتقدت في فترة تالية، كاتبنا ضياء نافع، وكتابته عن الادب الروسي، أعلامه وروائعه، فقد توقّف عن النشر في الفترة الأخيرة، ولا أخفي أنني تساءلتُ بيني وبين نفسي أكثر مِن مرّة لماذا توقّف هذا الكاتب المُثقّف المُترجم المعطاء عن النشر، وعن تحبيب القراء العرب وكاتب هذه السطور منهم، بالأدب الروسي المُستأهل لكلّ تقدير، احترام وعشق أيضًا. لقد أدركت اليوم.. سبب توقّف كاتبنا هذا عن النشر.. لقد أسفت لرحيله المفاجئ لي تحديدًا، لكني تأسّيتُ بمعرفتي العميقة بأن العُشّاق الكبار، وضياء نافع واحد منهم، إنما يرحلون وتبقى قصصُ عِشقهم خالدةً على مدى الازمان.

***

ناجي ظاهر

تساءلت وانأ أقرء عن الذكاء الصناعي الذي سيغير وجه التاريخ جذريا. ويعتبر اهم اختراع وصل اليه البشرية في القرن الواحد والعشرون.

أترى ماذا سيجلب لنا المستقبل؟

القطار، لغة هو قافلة من البعير التي تسير على خط مستقيم وحادي تقودها.  اما الريل و البابور والماكينة المقطورة البخارية والديزل والكهربائي والمغناطيسية  و النووية فهي تبقى امور تطورية لفكرة ذلك القطار السيار.لا علاقة بالقطار بالموضوع  ولا بالتطور الذي حصل خلال السنوات الأخيرة  والتي كانت كلها في عالم الخيال الفني الاصطناعي.

كنت احضر أطروحة الدكتوراه في كلية السييرنتك الاقتصادي في بوخارست قبل اكثر من أربعين عاما وكان مركز الحاسوب الملحق بالجامعة وسط العاصمة بوخارست بنايته اكبر من مستشفى يبرد القاعة ويتم تكيفها بالمبردات الضخمة ويمنع بالطبع الدخول الى البناية.  كل امكانية واستيعاب ذلك الحاسوب للمعلومات احملة اليوم في تلفون خلوي ذكي في جيبي لا بل تلفوني اكبر سعة بمئات المرات من ذلك الحاسوب. كان يتطلب مني ان اقوم بتثقيب البطاقات ديجتال (واحد و صفر)  أي ثناي كما هي عليها الموروث الفلسفي والأدبي الشرقي في ثنائية الأشياء والحوادث اي نعم ولا , نهار وليل، اسود وابيض، خير و شر .... وكي اكتب كلمة واحدة ومن ثم ادخلها في اجهزة تقرئها وتزود بتلك المعلومات الحاسوب الضخم. اعتقد كان هناك كذلك في وزارة التخطيط العراقية  الحمراء في العاصمة بغداد الواقعة على طرف جسر الجمهورية في صوب الكرخ في بناء جميل من إبداعات المعماري الايطالي جيو بونتي والذي شرع ببنائها في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم في عام ١٩٦٢ وقام بتنفيذها مقاولون عراقيون.  اقول كان فيها حاسوب مماثل منذ الستينات.

قارئي الكريم، السين المستقبلية حاضرة اليوم و التغير شامل للبشرية و للحياة  والموت في للكون والفضاء وحتى بعد الممات. نرى انه  سيكون هناك وظائف جديدة واعمال اخرى ويختفي مهن و اعمال ويتحول الإنتاج الى وظيفة يقوم بها الروبوتات ينجزون تلك الأعمال بالعمل خلال ٢٤ ساعة يوميا وكل ايام السنة دون رواتب وإجازات مرضية وعلاوات وامور ادارية اخرى تلك الاعمال سيتم انجازها اتوماتيكيا أي أليا و تلقائيا عن طريق الروبوت دونا أي  تدخل لأيادي بشرية.  لانه لا توجد اجابة عن التساؤل عن ما هو الحقيقي وما هو الوهم وما هو الحدود بينهما؟. يمكنك عمل ما تشاء بالذكاء الصناعي تكتب الكتب الأدبية والعلمية ورسائل الدكتوراه والبحوث العلمية ويتم تؤلف الأغاني و الموسيقى والافلام السينمائية وربما تجد نفسك ضمن احد من طاقم رواد فضاء دون ان تغادر غرفتك التي تجلس فيها وامور خارج  نطاق الخيال الإنساني.  وسوف تغزو عالم الصناعة والروبوتات وجميع مفاصل الحياة. حتى الصناعات العسكرية وسياسة الدول من انظمة سياسية واجتماعية وبيئية وعسكرية ومعلوماتية.  وسوف يشمل التصنيع العسكري واسلحة الدمار كذلك.كل حقوق المؤلف والاختراع سيزول وكذلك اسرار الانتاج أسرار براعة الإنتاج المعرفي وما يسمى ب(نو هاو) أي كيف ينتج او يصنع أي منتج (الوصفة)  والذي يعتبر اليوم من الأسرار التي يحتفظ بها الدول والشركات كي لا يتم تقليد منتجوهم ذو العلامة التجارية. وتصور قارئي الكريم،  ان مجرد خزن جميع المقامات الشرقية ومن ثم طلب الجهاز ان يقوم بتأليف قطعة موسيقية جديدة او حتى اختراع مقام جديد غير معروف، كل ذلك ممكن في عالم الذكاء الصناعي.  كل التطورات القادمة يحتاج اعادة سن قوانين تلائم الجديد في عالم الكومبيوتر. الصور والأفلام وحتى الأصوات المسجلة لا يمكن اعتبارها في المستقبل دليلا جنائيا مثلا. لكن المشكلة تبقى في حالة قيام اجهزة الذكاء الصناعي اتخاذ القرار في المستقبل بعد ان يقوم البشر بالاعتماد كاملا على هذه التقنية في اتخاذ القرار. اما الخير والشر فيبقيان نسبيا لهذا الجهاز في قراراته. يبقى ان نعلم ان الوعي البشري مهم في اتخاذ القرار بمسؤولية وارادة كاملة اما الجهاز فيفقد هذه الخاصية وعلى الأقل تقدير في الوقت الحاضر. لان التقدم التكنولوجي لم يؤثر على سلوك الإنسان ايجابيا وبقى الشر والجريمة حاكما على سلوكه حتى في استخدام التقنية الحديثة. حيث نرى زيادة ملحوظة في استخدام التقنية في عمليات السرقة والسطو والجريمة على العموم. كل ذلك  يؤدي الى ان يعيش الانسان في خيال غير واقعي.

كان عالم الافلام السينمائية الخيالية سباقة في عرض الخيال العلمي للمشاهد خلال السنوات الأخيرة وتحضير فكر الناس لعالم الذكاء الصناعي. الحقيقة انه عالم جديد ومتغير. كل جديد يحمل معه الخير والشر. انه سوف يسهل حياتنا من ناحية ومن ناحية اخرى يزيد من اتكالنا واعتمادنا على الاجهزة في حياتنا وابتعادنا من نظرية المعرفة والقراءة والتميز والتعلم. اما استخدامها للخير والشر سيعتمد على سلوك البشر. رغم ان التطور بصورة عامة لم يؤثر جذريا على السلوك البشري بصورة عامة. الخير والشر سلوك بشري خالد. الشرير سيستخدم كل تطور علمي لفعل الشر والعكس صحيح. هل يمكننا أن نضيف حياة إلى الزمن ما دمنا لا نستطيع اعادته .هناك اسرار كثيرة في انتاج البضائع مثلا ومجرد معرفة تلك الاسرار  يمكن استنساخ صنع تلك البضاعة. لكن الذكاء الصناعي قد يستطيع فك تلك الرموز والأسرار.

.الشيخوخة اخر العمر، على الأقل في عصرنا وما ياتي به المستقبل لا يزال في علم الغيب. هذا الربع الاخير والناضج من العمر يفترض ان يكون وقتا للتأمل والراحة النفسية واسداء النصح لهذا وذاك.  في واقع الامر لا هذا ولا ذاك يحصل فالوقت يمر سريعا جدا والسنوات الأخيرة من حياة البشرية لا تحمل الكثير من الذكريات لأننا نبدأ بالنسيان وفقدان الذاكرة . هناك نظرية علمية مفادها ان المداخلات الأولية لاي نظام يعين المخرجات. اي ما ادخل من علوم ومعارف داخل الاجهزة وخزن في ذاكرتها ستعين نوع المعلومات التي تخرج من النظام. يقول المثل ي(تخرج بالجمجة ما قد وضع في الاناء) أي الإناء ينضح بما فيه.  هذا طبعا يشمل البشر اينما كانوا وفي كل الازمنة. فكيف واي افكار ادخل في عقولنا خلال  حياتنا هي عينها التي تخرج لاحقا وتنعكس في اقوالنا واعمالنا. وسلوكنا. الا انه هناك نوع من البشر لهم قابلية تحليل تلك المعلومات والخروج بنتائج مختلفة. هذا يميز الأذكياء من البشر عن غيرهم  فهم يتأنون في اتخاذ القرار ويدلون بدلوهم بعد تفكير عميق. يقال بان المخ لا يستطيع تحليل نفسه. العالم الجديد وما يسمى بالذكاء الاصطناعي يغير هذا المفهوم تماما وهنا تكمن خطورة هذه الأنظمة الذكية خاصة اذا استخدمها "غبي"  ودون واعز أخلاقي او قيم انسانية.  اجهزة تتحدث معها وتجيبك بكافة المعلومات الصحيحة تغنيك عن سنوات الدراسة الطويلة والمجهدة والمكلفة. سيختفي ما يسمى الخصوصية ومجرد معرفة ابعاد وقياسات الوجه سيكون الكومبيوتر بامكانه عمل اي شيء في الخيال وستجد نفسك في احدى الأفلام تحارب في الحرب العالمية الاولى واستخدامات اخرى خطيرة وغير أخلاقية كذلك. عالم جديد لا زلنا في بداياتها وكل شيء فيها مباح وعلى الأقل في الوقت الحاضر ودون قيود وقوانين.

نحن لا نعرف اليوم عن عالم الغد الكثير وخاصة ما هو عمر البشر في المستقبل، الف عام وهذا في علم الغيب على الأقل اليوم. لكن كل البحوث حول ايقاف عملية الشيخوخة مستمرة وربما تقول سيتوصل العلماء الى ايقافها في حدود بلوغ البشر الى عمر الأربعين للبشر.

المشكلة في المستقبل تخص مسالة خطورة الاعتماد الكلي على الذكاء الصناعي والاتكال بالكامل على قراراته رغم ان اتخاذ القرار الأخير يبقى بيد البشر. لكن يبقى دوما الخوف من ان يتخذ الذكاء الاصطناعي بنفسه او بمساعدة احد المجرمين من الإرهابيين في المستقبل القرار ويمحوا الوجود البشري على الثرى ويختفي الحياة وجميع مظاهرها من الثرى وتبقى الرمال والأحجار، لا سامح الله.

الذكاء الصناعي أول الغيث في الاعتماد على الآلة والمستقبل من ناحية التطور التقني خارج الخيال البشري لكن المشكلة تبقى في البشر لكن التطور التقني سيكون أسرع من تطور الفكري والسلوكي للبشر، فهم سيتحمل عقول البشر كل تلك التغيرات الجذرية، سؤال في علم الغيب سيجيب عليه المستقبل باذنه تعالى.

***

  د. توفيق رفيق التونچي - السويد

٢٠٢٤

الوقت... ما الوقت؟ وما أدراك ما الوقت؟

هل هو ذاك الشيء الذي يتسرّب من بين أصابعنا، كحبات الرمل، دون أن نحسّ، فنجد أنفسنا في مكان لم نكن نتوقعه على الاطلاق؟

يسرق من عمرنا أياما وسنوات دون أن ندري كيف ومتى ولماذا أصبحنا على ما نحن عليه؟

الوقت هو الحياة. تلك الحياة التي لم نخطّط لها من قبل. فإن ضاع الوقت... ضاعت الحياة.

فهل الوقت هو من يضيع منا، أم نحن من ندعه يضيع؟

هل الوقت في جيبنا، أم نحن في جيبه؟

هل نحن من نصنع الوقت، أم هو من يصنعنا؟

الوقت، ذاك الوقت، كم هو سريع الانقضاء. فما مضى منه لا يعود.

يمكننا أن نكسب المال، ولكن، لا يمكننا أن نكسب الوقت.

الوقت من ذهب، إن لم ندركه ذهب!

الوقت يعلّمنا ألا نسمح لأحد أن يعاملنا بمزاجه، فإما أن يعاملنا بما يليق بنا أو ندعه لما يليق به.

سنوات طويلة تضيع من حياتنا... ننتظر... ننتظر شيئا ما لا يأتي، نختلق الأعذار ونبقى ننتظر... ننتظر الوقت المناسب، ويمرّ الوقت دون أن يأبه. يمرّ... ويكاد يقتلنا بالحزن والبؤس. 

ونسأل الوقت... إلى متى؟

ولا جواب.

لا جواب إلا ما يختمر في النفوس. فالوقت الذي لا نقتله بالعمل يقتلنا بالملل. ومع مرور الوقت نجد أنفسنا في مكان آخر.

الوقت يكشف لنا ما كنا نجهله بالأمس، يشحننا بالجرأة والشجاعة، ويدفعنا لنقول ما كنا نخشى أن نقول، ونفعل ما كنا نخاف أن نفعل.

الوقت لا يتغير، نحن من نتغيّر مع الوقت.

يوجد وقت لكل شيء. والوقت الذي يمرّ لا يعود، لكنه يترك جماله محفورا في ذاكرتنا، نحمله دومًا في كل مكان. فجمال المكان بمن رافقنا فيه وجمال الوقت بمن شاركنا فيه.

الوقت يكشف لنا كم تغيّرنا، وكم قطعنا من أشواط ومراحل حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه. فإن لم أكن من كنته بالأمس، لم أكن لأكون ما أنا عليه الآن.

كم أنا فخورة أيها الوقت.

قد علّمتني ما لم تعلّمني أية جامعة أو كلية، علّمتني من أكون.

***

حوا بطواش

كفر كما / الجليل الأسفل

 

على امتداد شريط تجربته الطويلة كانت عيناي تتنقل ما بين لوحاته الكثيرة سابرا الأغوار  وباحثا عن ذاك الخيط السحري الكاشف عما تخفيه شخصية مبدعها من أسرار إنه الفنان الجميل وحيد قصاص.

للون امتداده الذي لا ينتهي وهو قابل للتحول دوما ولخلق أشكال مغايرة بقدر قدرته الحركية فوق سطوح فليلة الامتصاص  وخادمة لتقنيته الباحثة عن  منابع الضوء يمكنها أن تشع من قلب العمل  ويبدو لي كمن يرسم فوق سطوح  زجاجية ومرايا عاكسة لصور الحياة  لتظهر لا عبر تفاصيلها الدقيقة انما عبر واقعيتها المغطاة بوشاح  شفاف كما الحلم .

تلك هي لوحته الساعية لترويض الصعوبات وذاك هو الفنان يستأنس بحضورها الساطع  في ليالي غربته الموحشة176 hosan saqour

تجمعات بشرية وسط الدمار والأحياء الشعبية القديمة والأثرية تترابط عبر اسلوب المعالجة التوشيحي الذي يظهر ولا يخفي ذاك الغنى التي تتمتع به سطوحه من نقوش ورسوم تصنع ذاك النسيج الموحي ببصمات على جدار الزمن بصمات لازالت صامدة ولازالت تشع عبر ذاك البريق  الذي يصنعه ذاك التجاور والتكامل والتداخل الساحر وعند الحدود الفاصلة  للونين متتامين الأزرق والأحمر بكامل الطاقة الكامنة لسطوعهما الضوئي

وحيد قصاص يشكل أساساته بعناية فائقة تشي بروح تتمتع بالانتظام والترتيب ولكنه حين يغمس فرشاته باللون يفرشها فوق سطح الغمل ساعيا  لإخراج لحظي متكامل وغير قابل للتأجيل وهو يمتلك تلك الركيزة الأكاديمية التي تمكنه من تأليف مواضيعه بمنتهى السهولة واليسر يتقدم اللون على الرسم ويأتي الرسم في الغالب عبر الحف بأدوات حادة وهو بهذا  يعطيك الفرصة لترى العالم من وجهتين واقعية تعبيرية تفيض بالآلام والمآسي وتكوينات تجريدية تنبثق من قلب الحلم عبر اللطخة المتلاشية للون المتمم فوق عالم مغاير

وأقول أخيرا اشتغل الكثير من الفنانين على تقنية الإضاءة بالحف لكنها لم تتبلور وتنضج بالشكل الذي هي عليه الآن سوى من خلال  الفنان وحيد قصاص ..

وربما كان من المؤسسين لها مع حسين حمزة  بما قدمه من أعمال صغيرة حتى وإن اختلف عنه عبر الموضوع والإخراج النهائي الذي يشي بالكثير من الأناة والصبر  الذي يتمتع به من خلال منمنماته وأعماله المأخوزة عن مقاطع واقعية للطبيعة الساحرة بكل ما تحمله من تفاصيل

***

الفينيق حسين صقور

تستدرجك الروائية صباح بشير في روايتها المعنونة “فرصة ثانية”، صفحة بصفحة، حتى تأتي على كامل الرواية بصفحاتها المئتين وثمان وخمسين صفحة دون عناء او ملل.

هذا الاستدراج الممتع مبني على ترابط احداث الرواية، وسهولة لغتها، واقتراب احداثها من بنية المجتمع العربي عامة والفلسطيني خاصة، فأحداثها تكاد تكون واقعية جدا في مجتمعاتنا.

لمن لم يقرأ الرواية بعد لأنها حديثة الصدور، فهي رواية اجتماعية تدور حول بطل الرواية مصطفى الذي تتوفى زوجته فاتن في الصفحات الأولى من الرواية، وتنجب له الطفل يحيى، الذي ينمو في الرواية حتى الاحتفال بسنته الثالثة، بعد أن قامت خالته هدى بتربيته منذ اليوم الأول، وهنا يتزوج مصطفى من خالة الطفل يحيى التي تعتني به، وهي معضلة وربما نعمة في مجتمعنا العربي، إلا أن الرواية تطرح القضية من عدة زوايا عاطفية واجتماعية، فيحار المرء هل يشجّع هذا النوع من الزيجات أو يرفضها، ونترك اتخاذ القرار في ذلك للقراء، الذين يتابعون مجريات الرواية بتفاصيلها.

الرواية تدور أحداثها في مدينة حيفا، تلك المدينة التي تصفها الروائية بأجمل الأوصاف، فكلماتها تقطر سحرا وجمالا ، وغنية بالعاطفة الوطنية، فتقول عنها:

حيفا تعج بالحياة.

حيفا سيمفونية من البشر والحجر والبحر والحياة.

حيفا عراقة التاريخ، وحداثة الحاضر.

حيفا حكاية إنسانية خالدة.

حكاية شعب عاش على هذه الأرض منذ القدم.

حكاية صمود وحب وامل.

ثم تعلنها بكل وضوح:

حيفا لا تنام على وسائد الليل، بل تبقى مضاءة بأنوارها الساطعة، كأنها تقاوم الظلام.

الرواية مليئة بالأسئلة والأفكار التي تجعل القارئ يتوقف عندها للتفكير أو لمحاولة الإجابة عليها بعمق، وتأخذ القارئ الى عالم الأحلام، فتقول:

حان الوقت للحلم، لكنه حلم يولد بعد الم ومعاناة (ص6)، أما الولادة فهي معاناة حقيقية، خسرت فيها فاتن حياتها، فتقول: ما أقسى الولادة(ص9).

ومن ثم تأتي بالسؤال الكبير: كيف تتحمل الأمهات هذا الألم، هل حب الأمهات لأطفالهن يستحق هذه التضحية (ص9).

هذه أسئلة وجودية تفتح العقل على التفكير والإجابات المتعددة.

كما تتطرق الرواية إلى ثنائية الحب والجنس في العلاقات البشرية، فتورد الفرق بينهما بطريقة واضحة، وتتحول الروائية إلى عالمة اجتماع تقدم للقارئ تعريفا لكل مفهوم منهما. فالحب لديها شعور يتغلغل بالأعماق، ينبجس من ينابيع العاطفة الصادقة. بينما الجنس شرارة توقد نار الرغبة، وتلهب المشاعر لحظة ثم تنطفئ، تاركة وراءها رماد الندم.(ص65).

الرواية أيضا تغوص في النفس البشرية، تشجع على سماع الموسيقى الهادئة، فتقول إن الموسيقى لغة عالمية تتجاوز الزمان والمكان، يفهمها القلب قبل العقل (ص85).

كما تحض على القراءة وترسم للقارئ متعة في هذه الهواية فتقول: أجد متعة في القراءة، فهي ملجأ وحياة اخرى.(ص76)

تدخل الرواية بيوتنا وتغوص في الخلافات الزوجية التي لا يخلو بيت منها، خصوصا في السنوات الأولى من الزواج، وتعرض لنا ألوانا من الخلافات التي أحيانا تكون تافهة جدا، ولا تستحق التوقف عندها، إلا أنها اعطتها حقها في صفحات الرواية ومنها الخلاف حول وجود الثوم في الملوخية، والتي قد تعتبر شيئا بسيطا، الا أنها اشعلت الخلاف بين الزوجين، ليتوقف القراء عند هذا المثال ويفكروا في خلافاتهم الزوجية.

في النهاية أعتقد أن الرواية تستحق القراءة، ففيها إضاءات عدة على حياة المجتمع العربي الفلسطيني الذي يعبق برائحة الميرمية، ويتحلى بالبقلاوة، ويستمتع بالملوخية مع الثوم، كما جاء بالرواية، وهو ما حاولت صباح بشير بكل أريحية وسلاسة التأريخ له بطريقة أدبية.

***

مفيد جلغوم

 

أثار فيلم "حياة الماعز" The Goat Life  جدلا عميقا واسعا ، حيث أغضب إخواننا السعوديين بوصفه "متطرفاً" وفق قولهم.. الفيلم يروي على مدى ثلاث ساعات قصة رجل هندي قدم إلى السعودية في مطلع تسعينيات القرن الماضي تعرض للخداع من رجل ادعى أنه كفيله ليهرب به من المطار إلى الصحراء ويعيش فيها مع قسوة الكفيل المزعوم والرمال وبهائهما. حتى إن نجيباً المعذب صار في الفيلم يشرب من مائها ويأكل من مأكلها وينام على أوراكها في رحلة عذاب مع الكفيل، امتدت أكثر من ثلاثة أعوام وانتهت القصة بهربه في رحلة شاقة قبل ترحيله بواسطة السلطات، وكان ذلك بمساعدة رجلين أحدهما أفريقي والآخر سعودي كانا قد وجدا "نجيب" على قارعة الموت والطريق قبل إنقاذه.

وعلى رغم أن الفيلم بث في مارس (آذار) الماضي أي قبل نحو خمسة أشهر مستنداً إلى رواية صدرت عام 2008 لقصة حدثت مجرياتها في الصحراء سنة 1993 أي قبل نحو 31 عاماً فإن الحديث عنه طغى على منصات التواصل الاجتماعي أخيراً ولم يتوقف.

وبالنظر إلى التسلسل الزمني للفيلم اللافت بين 1993 – 2024 يجده المناوئون يستدعي التوقف عنده طويلاً، إذ يأتي في غضون أكثر من 30 عاماً، شهدت فيها البلاد تغييرات قانونية واجتماعية هائلة ومتباينة، توجت في الأعوام الأخيرة بإصلاحات في مجال المال والأعمال والقوى العاملة، وتطورات حقوقية حتى إن مصطلح "الكفيل" صدر حوله أمر ملكي، وثق في كلمة للرياض أمام أعضاء الأمم المتحدة في الدورة (59) للجنة القضاء على التمييز العنصري 2018. وأنشأت السعودية محاكم خاصة للعمال اسمها "المحاكم العمالية"، لضمان سرعة البت في هذا النوع من القضايا ذات الطابع الحقوقي الحساس، في سياق مجموعة من التعديلات والأنظمة القضائية المستحدثة.

بيد أن هناك من اعتبر أن القصة فردية لرجل تعرض للخداع من رجل آخر ولا تستدعي كل هذه الهالة والحديث فالقصة واردة، ومثلها حول العالم كثير، في وقت كان الجدل الذي ساد ليس على صدق القصة من عدمها بالقدر الذي كان عن محاولة تنميط حالة فردية على بلد مترامي الأطراف، مر عليه خلال عقود مضت عشرات الملايين من العمالة.

***

د. محمود محمد على

كاتب مصري

 

الصيف من بين الفصول المناسبة لترميم مختلف الأبراج والأصوار التي تحيط بمختلف القصبات والقصور، أو بناء مختلف الدور أو ترميمها، طول ساعات النهار وحرارته تساعد على أن تجف مختلف الجدران التي يتم بناؤها، بدكِّ التراب الممزوج بالماء، داخل القوالب المصنوعة من خشب جذوع النخيل، فالقالب يتكون من لوحتان خشبيتان كبيرتان على شكل مستطيل، كل واحدة بطول مترين وزيادة وبعرض متر واحد وزيادة، توضع مقابل بعضها وتحزم بالحبال...جدران مختلف الأسوار عبارة عن قوالب ولبنات مستطيلة الشكل موضوعة بعضها فوق بعض بإحكام، وقد يصل علوها إلى ثمانية أمتار وأكثر وعرضها إلى  ما فوق نصف المتر أو المتر الواحد و وزيادة، وأنت جالس بالأسفل منها تشعر بضعف جسدك النحيل، أمام ضخامتها تبدوا كنملة صغيرة.

عندما تمر بالجانب من مستعمرات النمل، تلاحظ بالقرب من قدميك أكوام من حبات صغيرة من التراب والحصى المستخرجة من جوف الأرض بعناية... والنمل يحوم حولها من مكان إلى آخر، يأخذك نوع من الفضول والحيرة، كيف تمكنت هذه الحشرة الصغيرة جدا، من استخراج هذا الركام من التراب من جوف الأرض لتبني وتوّسع مساكنها من تحت الأرض...هو نفس الشعور الذي يمتلكك، وأنت تتأمل في مختلف الأسوار العالية، كيف تمكن الجماعة من الناس من جلب الكثير من أطنان التراب ودكّ بعضها فوق بعض بإحكام وعناية لبناء مسافات طويلة من الأسوار العالية، معتمدين في ذلك على قففهم المصنوعة من سعف النخيل وعلى دوابهم المحملة بزنابيل التراب وهي تجلب أحسن عينة منه من مكان ليس بالبعيد، لا داعي للاستغراب ما يجري في عالم النمل يجري في عالم الإنسان، وأضيف لك من البيت شعرا، يا صديقي، الجزء الكبير من المخلوقات تقضي معظم وقتها وهي تبني مساكنها، الطيور لا تنتهي من بناء الأعشاش، والفئران لا تنتهي من حفر مساكنها تحت الأرض، الثعالب الذئاب...

أحيانا عندما تمر بالقرب من قصبة أوم قصر من القصور، في إحدى جنبات الواحة، تُبصر من بعيد جماعة من الرجال، واحد منهم في الأعلى داخل القالب الخشبي وهو يدكُّ بالمدكِّ التراب1، والعمال واحدا تلوى الآخر يتسلقون السلم، وهم محملين من فوق رؤوسهم بقفف صغيرة مليئة بالتراب المبلل... منظر يستمر طيلة النهار لأيام وأسابيع...عندما يملأ القالب بالتراب،  يتجمع العمال بهدف فك الألواح الخشبية بعضها عن بعض، وهم يرددون الصلاة والسلام على الرسول الكريم، أهل الواحة يعتقدون بأن الأسوار التي تصاحبها الصلاة على الرسول، قد تعمر كثيرا... كما أن ورش الشغل بشأنها ستصاحبها سلامة العمال.

قصص الجدران والأسوار، في مختلف أرجاء الواحة، قصص لا تنتهي، ليس لها بداية ولا نهاية، كثيرة هي الأسوار التي ضمنت الأمن لأهلها وكانت بالنسبة لهم حصنا منيعا، في الغالب تكون الأسوار على حافة جسر صخري عالي، أو على حافة منحدر هضبة عالية، وأحيانا تكون الجدران والأسوار داخل غابة النخيل، تحيط بها جذوعه وجريده من كل جانب.... كثيرة هي الأسوار التي انهزمت وذابت كالشمع، أمام سيل كبير من الماء وقد جرفها فجأة، أو نتيجة ارتفاع منسوب مياه النهر الكبير، أو نتيجة زخات رعدية كثيفة من المطر... الرمال التي تسحبها الرياح داخل الصحراء من مكان إلى آخر، تجد راحتها وهي تتراكم بجانب الأسوار العالية، وتجعل منها متكأ لها، وتتحول بذلك درج يأخذك إلى أعلى السور لتجد نفسك تطل من الأعلى على الوجهة الخلفية الداخلية للقصبة أو القصر، الرمال بفعلتها هذه تجعل من الأسوار عديمة الجدوى...

جزء كبير من تاريخ الواحة تلخصه مختلف الأطلال وبقايا الأسواء، الموجودة في كل مكان في الواحة، وهي تتفاوت من حيث قدمها، فمنها التي سويت مع الأرض وتحولت إلى أكوام من التراب هنا وهناك، ومنها ما زال يواجه صعوبات التعرية والرياح وزخات المطر، ومنها ما امتدت إليها يد الإنسان لتنزع لبناتها، وأحجارها... مختلف تلك الأطلال تخبئ من ورائها تاريخ طويل... ومنها ما انقطع أثره بالكامل، بتحويلها من لدن أهل الواحة إلى حقول...

أهل الواحة يملكهم، نوع من الخوف الممزوج بالفرح الكبير، عندما يحل المطر فيما بينهم، الفرح بالماء الذي تتوقف عليه الحياة، والخوف من النتيجة الغير المعروفة للأمطار الرعدية التي تحمل معها زخات كثيفة من المطر لوقت قليل أو طويل. تتسبب الأمطار الرعدية في سيول تجرف كل شيء تجده أمامها، كثيرة هي القصور والقصبات التي حاصرتها السيول وجرفتها بالكامل، ولم تمهل أهلها إلا وقتا قليلا ليفروا واحدا تلو الآخر هربا من الكارثة...كارثة ذوبان الجدران وتصدّعها وانحلال الأسقف وتفكُّك بعضها عن بعض ...

تتجمع زخات المطر في مختلف أسطح الواحة الطينية، وتندفع في اتجاه محدد من سطح إلى آخر، لتجد نفسها في مجرى يأخذها إلى بالوعة تلقي بها من أعلى الأسطح إلى الأسفل، وتتحول بذلك دروب وأزقة الواحة إلى مجاري فرعية ورئيسية لمياه المطر، صحيح بكون القصبة قادرة على تحمل جريان الماء من تحت جنبات حيطان أزقتها، لكن تصور معي أن هذا الوضع   قد يستمر أسبوعا كاملا، ألا تتأثر أساسات جدران وحيطان القصبة بهذا المشهد الذي يصاحبه الرجال بمعاولهم، وهم يدفعون الماء إلى خارج القصبة، تصور معي زيادة منسوب المياه الذي تدفعه الأسطح نتيجة كثافة المطر، وقد امتلأت  مختلف مسالك جريان الماء وسط الأزقة والدروب، واقترب علوه من ركبة الرجل الواحد، فعندما يصل الوضع إلى هذه الحال، تتآكل أساسات بعض من الدور وإذا بها تنهار بشكل بطيء، بعد هلع وهرب أهلها، وذلك إعلان للخروج من القصبة، يخرج الناس إلى العراء كبارا وصغارا وهم محملين بأغراضهم، ولا شيء أمامهم إلا العراء، وسيلجأ البعض منهم إلى نصب خيامهم والاحتماء بالنخيل... ومنهم من يلجأ إلى المخابئ من تحت الأجراف الصخرية. 

 يتذكّر الناس في مختلف أرجاء الواحة، الأربعين يوما التي حاصرتهم فيها الأمطار، ولم يعد امامهم خيار إلا الخروج كما يخرج النمل من مسكنه عندما يغمره الماء، مستنجدين بمختلف الربوات والمرتفعات، وهم يعيشون حياة مبلَّلة بالماء... الأرض وأغطيتهم وملابسهم، ودوابهم وأبقارهم ونعاجهم بالجانب منهم وصوفها المبلَّل يتقاطر ماء على أرجلها... وهي لا تقبل على العشب والتبن... لأنه مبلَّل وممزوج بالتراب العالقة به... الحطب مبلَّل وبطيء الاحتراق... الحقول كلها تحولت إلى برك مائية صغيرة...

نتيجة مطر الأربعين يوما فقدت القصبة جزءا كبيرا، من مدخلها الرئيسي، وقد تم ترميميه فيما بعد، وفقدت فيه جزءا كبيرا من الأسقف، بالقرب من المدخل الرئيسي لم يتم ترميميها وبقية شاهدة على الحدث...إنه أمر غريب أن يترك القصبة أهلها طيلة أربعين يوما، ولا يبقي بداخلها إلا من أسندت لهم مهمة تصريف الماء من داخل أزقتها إلى خارجها، وهم بالطبع رجال شجعان، وقد اختلفوا بعد زوال المطر، في أمرهم فمنهم  من ارتأى أن يشيدوا قصبة جديدة، ومنهم من كان رأيه  أن يرمموا القصبة ويعودون إليها...في الآخرين، اتفقوا على العودة إلى داخل القصبة، وانخرطوا جميعا في ترميمها.

في يوم من الأيام انخرط البعض من رجال القصبة، في مهمة سحب الرمال التي تسربت من وراء إحدى الأسوار إلى داخل القصبة، وقد قطعت الطريق الذي يمر من الزُّقاق الرئيسي الذي يأخذ المارة في اتجاه مسجد القصبة، فالسور بين رمال من خارجه ورمال أخرى من داخله، وهي وضعية تجعل التسلّل إلى داخل القصبة أمرا سهلا، كانت فكرتهم أن يسحبوا الرمال من الداخل، ليسحبوا نفس المقدر بنفس العمق من الجهة الخارجية، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، عندما وصلوا إلى عمق أربعة أمتار، وهم يستعدون ليتجهوا نحو الجهة الخارجية للجدار ليسحبوا الرمال بنفس العمق،  في غفلة منهم فجأة إذا بالجدار يسقط مرة واحدة، دون سابق إنذار وقد تكرر صدى سقوطه في كل أنحاء المعمور؛ تلته أصوات وصياح من هنا وهناك، وقد تصاعد كم هائل من الغبار إلى السماء... يا الله كيف للجدار ان يسقط هذا حدث لا يصدق... هل سقط فعلا؟

حينها كان كبير القوم يأخذ قسطا من الراحة في الدور الأول من جوف بيته؛ فزع فزعا شديدا عندما بلغه الخبر؛ لفَّ عمامته بشكل سريع على رأسه، أدخل رأسه في الجلباب وقد مسكت أطراف أصابعه كمَّيها، خطى خطوة وخطوتين أدرك بأن ثوب الجلباب لازال من فوق الحزام؛ وإذا به يسدله بخفة إلى الأسفل؛ بعد خطوات تعثر وكاد يسقط على وجهه؛ بسبب نعاله الغير مربّطة بشكل جيد على رجليه... وهو يقول في نفسه لا يمكن بحال أن يسقط الجدار؛ عهدته جدارا قويا منذ زمن بعيد...وجد نفسه داخل دار القبيلة، نظر إليهم ونظروا إليه ولا أحد منهم يقوى على الكلام؛ خرجوا جميعا يهرولون متجهين إلى مكان الحدث...إنها خسارة كبيرة،  سقوط الجدار أودى بحياة سبعة أرواح وبعض من الدواب، بكى أهل القصبة بكاء جماعيا، وقد ودعوا كل من أحمد ومبارك ومسعود وأربعة أخرين من الرجال، بعض الأمهات لم تقوى على الصمود وبعض الإخوة لم يتحملوا الحدث... شيَّعت القصبة موتاها، فالزمن كفيل بأن ينسيهم حزنهم على المصاب الجلل، في الأسابيع التي تلت الواقعة سموا مواليدهم بأسماء من فقدوهم تخليدا لذكراهم.  ... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

...............

1- المدكِّ: يدكُّ به التراب، وهو عبارة عن كتلة مربعه من الخشب، تنبعث من وسطها عصا، يمسكها الرجل ويسحبها نحو الأعلى ليضرب بها التراب بين أرجله.

من المخاطر التي يقع فيها بعض الكتاب، خاصة من واضعي خطواتها الاولى على طريق الابداع الادبي، او يوقعون فيها انفسهم، تبرز الدوغماتية او النمذجة سيدة محبوبة وملعونة في الان ذاته، وتعني النمذجة ان يتخذ الكاتب او الشاعر نموذجًا ادبيًا وان يضع عينه عليه لا يحيد، كأنما هو قبلة يطمح في الوصول اليها يومًا ما، فاذا ما كتب فكّر في هذا النموذج واذا ما قرأ لآخرين بحث فيما يقرأه عن هذا النموذج. وقد وقع في هذا المطب الادبي الخطر عدد من الاخوة الكتاب والشعراء الذين قادهم حظهم السيء ليتلقوا دراستهم على يد استاذ ذي معرفة ومقدرة فحببهم بهذا النص او ذاك وجعل افكارهم تدور في فلكه مهما ابتعدت، ومن هؤلاء في بلادنا، رصدت في سنوات سابقة ايام عملي محررًا ادبيًا في صحيفة كبيرة، اولئك الذين اقاموا في منطقتي الجليل الاوسط/ الرامة واخواتها، والجليل الغربي/ قرية الجديدة وجاراتها، فقد لاحظت ان معظم ما كان يصلني من شعراء هاتين المنطقتين خاصة المبتدئين يتخذ من انتاج واحد من الشاعرين، سميح القاسم/ الجليل الاعلى ومحمود درويش الجليل الغربي نموذجًا له، فيقوم بتقليده تقليدًا اعمى او شبه اعمى، وكأنما هذان الشاعران هما الشعر.

يجهل هؤلاء الاخوة او يتجاهلون أن عالم الادب، قصةً وشعرًا أكبر من اي كاتب او شاعر، وان الابداع الادبي بشتى انواعه عرف في الماضي ويعرف في الحاضر وسوف يعرف في المستقبل مبدعين حقيقيين مُفلّقين، وربما يغيب عنهم أن لكل مبدع حقيقي بصمته الخاصة به وأنها هي ما تميزه عن سواه من المبدعين، واذكر انني يوم قرأت شيئًا من شعر ابن سهل الاسرائيلي، أحد شعراء الاندلس، بادرت إلى كتابة مقالة وضعت لها عنوانًا اعتقد انه يعبّر عمّا وددت حينها واود الآن ان اقوله وهو ان " العالم أكبر من شاعر"، او الشاعر.

خلال متابعتي لحياتنا الادبية اصطدمت بالعديد من هؤلاء الاخوة النموذجين، او الدوغمائيين، فمنهم مثلًا من قرا قصة " زائر الصباح" لكاتب مصري من فترة السبعينيات يدعى فاروق مُنيب، واذكر بالمناسبة انه أصدر في حينها مجموعة قصصية حملت عنوان قصته هذه ذاته، فجن جنونه بها، وبات كلّما اقبل على كتابة قصة حلم بكتابتها وتمكّن من تسجيلها، فكّر في تلك القصة ودار في فلكها، هكذا غار في تجربة كاتب آخر ولم يتمكن من مغادرتها. وكاتب آخر كان يرسل إلي القصة تلو القصة لنشرها في الصحيفة الملمح اليها، وقع ضحية قصة " نظرة" للكاتب العربي المصري يوسف ادريس، اعتقد انه درسها على يد استاذ مبدع، فبات كلّما فكّر او كتب قصة اسيرًا لهذه القصة، الامر الذي حدّده في زاوية ادبية، لم يتمكن من مبارحتها حتى اختفى عن الساحة الادبية ولم يعد أحد يسمع له صوتًا. والامثلة وفيرة. كان احدثها شاعر أعتقد أيضًا أنه درس شيئًا من الابداع القصصي للكاتب يوسف ادريس ذاته، ويبدو ان هذه القصة بقيت تراوده مدة ليست قصيرة من الزمن، فحملته في الفترة الأخيرة على مغادرة ملكوت الشعر وكتابة قصة شبيهة بها.

اعرف أن الانسان المبدع، كما ذكر الكاتب المصري توفيق الحكيم، في أكثر من مناسبة ومقالة، عادة ما يتأثر في بداياته الاولى بسواه من المبدعين السابقين، بل انه يتخذ من أحدهم نموذجًا له يقوم بتقليده والسير على خطاه، غير ان من يدور الحديث عنه، عادة ما يتخلّص من شبح استاذه ويتخلص منه، بل انني اذكر ان معظم كتابنا في الستينيات والسبعينيات، خاصة في مجال كتابة القصة القصيرة، تأثروا بالكاتب يوسف ادريس تحديدًا، غير انهم ما لبثوا ان عثروا على شخصياتهم الخاصة بهم، وقد حصل هذا حينًا عاجلًا وآخر آجلًا.

اود ان انبه في كلامي هذا إلى خطورة مثل هكذا حالة، وان انبه من لم يتنبه حتى الآن الى مساوئها القتالة، فالعالم الابداعي في مجالاته المختلفة أكبر من النموذج بكثير، علما ان هذا العالم يبدو في البدايات الاولى لكل مبدع ضيقًا، غير انه في الحقيقة واسع ولا حدود له.. فلنبتعد ايها الاخوة عن هذه الدوغماتية/ النمذجة ولنقترب من أنفسنا.. لنرى انها احتوت العالم الاكبر.

***

خاطرة: ناجي ظاهر

أتجول بين كروم الوجود المتشابكة، حيث تتشبث المعجزات بحواف الواقع مثل الندى على شبكة العنكبوت، رقيقة ومرتعشة. إنها تبث الحياة في الإيقاع الصامت لقانون الطبيعة، رقصة تدور وتنحني في الهواء، لا تتوقف أبدًا، بل تتطور دائمًا. أشعر بسحب الجاذبية، ليس كقوة، ولكن كهمسة، تذكير لطيف بأن الأرض تحتها حية، تنبض بنبضها الخاص، ودقات قلبها الخاصة، طبلة تضاهي طبلتي.

النجوم التي تلوح في الأفق ليست بعيدة، بل هي قريبة، منسوجة في بشرتي، ونورها جزء من أنفاسي، وروحي. تتحدث بألسنة غير معروفة، ولغتها سيمفونية من الألوان ترسم سماء الليل بقصص لم تُحكى، ولم يُسمع بها، ولم يتخيلها أحد. ومع ذلك، فأنا أفهمها، ليس بعقلي، بل بنخاع كياني. إنها أحلام الكون، محفورة في مخمل الكون، وأنا مجرد ذرة، جزء من حكايتها.

ولكن ما المعجزة إن لم تكن صدى المجهول، غير المرئي؟ إنها رقصة الريح غير المرئية، التي ترسم أنماطاً في الغبار، وترفع الأوراق في عناق حلزوني. إنها وميض ظل على الحائط، أو شبح فكرة، أو ذكرى لم تكن موجودة قط. إنها الصمت الذي يلي العاصفة، والنفس المكبوت في رهبة، ودهشة. إنها الطريقة التي يلامس بها ضوء القمر سطح الماء، فيحوله إلى فضة سائلة، مرآة لا تعكس العالم كما هو، بل كما يمكن أن يكون، وكما ينبغي أن يكون.

إن القانون الطبيعي، كما يقولون، هو السلسلة التي تربطنا، والقفص الذي يأسرنا. ولكنني أرى الأمر بشكل مختلف. فهو ليس سلسلة، بل خيط، خيط ذهبي ينسج عبر الوجود، ويربطه معًا، ويعطيه شكلًا، ويمنحه الحياة. وبدونه، سوف يتفكك العالم، وينهار، ويذوب في العدم. إنه المرساة التي تبقينا ثابتين على الأرض، والجذر الذي يبقينا متصلين بالأرض، والسماء، وبعضنا البعض.

ولكن هذا الخيط ليس جامداً ولا غير مرن. فهو ينحني وينثني ويمتد. وهو يرقص مع المعجزة، ويلتوي حولها، ويحتضنها، ويصبح واحداً معها. إنهما ليسا متضادين، ولا أعداء، بل عاشقين، متشابكين في عناق أبدي، كل منهما يعطي معنى للآخر، ويعطي غرضاً له. وبدون القانون الطبيعي، فإن المعجزة ستكون مجرد لحظة عابرة، شرارة تتلاشى بسرعة بمجرد ظهورها. وبدون المعجزة، فإن القانون الطبيعي سيكون مجرد آلية تعمل في الظلام، دون فرح، ودون عجب.

أرى الاثنين كشيء واحد، كيان واحد، نفس واحد. إنهما شهيق وزفير الوجود، نبض الكون. إنهما يقيدان بعضهما البعض، نعم، ولكن في هذا القيد، هناك حرية، وهناك إبداع، وهناك حياة. إنهما يحولان بعضهما البعض، فيحولان الرصاص إلى ذهب، والظلام إلى نور، واليأس إلى أمل. إنهما كيميائيان للواقع، يحولان العادي إلى خارق، والعادي إلى معجزة.

أسير في هذا العالم، وأرى هذه الرقصة في كل مكان. في الطريقة التي يتسرب بها ضوء الشمس من خلال الأوراق، ويلقي ظلالاً مرقطة على الأرض، كل منها عبارة عن كون مصغر، عالم في حد ذاته. في الطريقة التي يهطل بها المطر، ليس فقط على شكل ماء، ولكن كموسيقى سائلة، كل قطرة منها تشكل نغمة في سيمفونية تعزف فقط لأولئك الذين يستمعون بقلوبهم، وليس آذانهم. في الطريقة التي تهمس بها الرياح بأسرار للأشجار، أسرار لا يمكن إلا للأشجار أن تفهمها، ومع ذلك، بطريقة ما، أفهمها أيضًا.

أشعر بالمعجزة في لمسة يد، وفي دفء ابتسامة، وفي صمت دمعة. إنها موجودة هناك، في الفراغات بين الكلمات، وفي التوقفات بين الأنفاس، وفي اللحظات بين الأفكار. إنها الخيط الذي يربطنا جميعًا، والشبكة غير المرئية التي تربطنا معًا، والتي تجعلنا واحدًا. وأنا، أنا جزء من هذه الشبكة، هذه الرقصة، هذه المعجزة.

ولكن هناك المزيد. هناك دائمًا المزيد. المعجزة ليست فقط في غير العادي، بل في العادي، في الدنيوي، في الحياة اليومية. إنها في الطريقة التي تدور بها الأرض حول محورها، والطريقة التي تشرق بها الشمس وتغرب، والطريقة التي ينحسر بها المد والجزر. إنها في الطريقة التي تصبح بها البذرة شجرة، والطريقة التي تصبح بها اليرقة فراشة، والطريقة التي تصبح بها الفكرة حلمًا. إنها في الطريقة التي نتنفس بها، والطريقة التي نفكر بها، والطريقة التي نحب بها.

***

عبده حقي

داخل الساحة الصغيرة بالقرب من البئر الذي حُشر في الزاوية، وأنت قادم من خارج الزقاق المتفرع عن أحد الدروب الرئيسية في القصبة، الذي تأخذك من الباب الرئيسي للقصبة، تمرُّ من تحت السقائف واحدة تلوى الأخرى، فجأة يظهر لك نور ساطع منبعث من آخر الزُّقاق، وإذا بك تنجذب نحوه خطوة بعد خطوة، عند وصولك تلتفت يمينا ويظهر لك جدار منحدر يدور حول حافة البئر مبني بالحجارة، الحبل منسدل من الأعلى وهو مربوط إلى خشبة مغروزة في الجدار بإحكام... وإلى جانب البئر حوض مائي صغير طوله لا يتجاوز خطوتين وعرضه لا يتجاوز قدمين، يسكب بداخله الماء الذي يجلب من البئر، وتوضع فيه قُلل الفخار قبل أن تملأ بالماء... الساحة نفسها وأنت طل عليها من السطح تبدوا لك شبيهة ببئر واسع يحتضن في أحد زواياه بئرا صعيرا...

بعض من النسوة في الجانب الآخر من الساحة، منهمكات في غرز مجموعة أوتاد خشبية في الأرض على شكل مستطيل، عرضه متر ونصف وطوله ثلاثة أمتار، وبعد ذلك تكلَّفت إحداهن بتمرير حبل نحيل جدا مفتول من سعف النخيل، مختلف الاوتاد المثبَّتة على الأرض من جهة العرض والطول، وهي عملية تحول الشكل إلى مربعات صغيرة، وقد أحضرت احداهن حزمة من سعف النخيل المجفَّف...بعد وقت قليل اتضح بأن العمل الذي انخرطت فيه كل النِّسوة بكل طواعية، يتعلق ببسط وتثبيت مَنْسَج الحصير، وذلك بالعمل على لفِّ سعف النخيل المجفف على خيوط الحبل النحيل المتقاطعة فيما بينها...

في الوقت الذي ينسج فيه النِّسوة الحصير بهدف الجلوس عليه صيفا وشتاء... يدخلن في التمهيد لنسج علاقات أسرية قادمة، وذلك بالمداولة فيما بينهن في موضوع زواج بناتهن وأولادهن، فكل واحدة تبدي برأيها في من هي الفتاة التي تليق بفلان أو في من هو الشاب الذي يستحق فلانة...الجزء الكبير من حكي النِّسوة وهن ينسجن الحصير يستولي عليه حديثهن عن أسرهن في علاقتهن بحماتهن و بأزواجهن وأولادهن... فحكاية كل واحدة منهن حكاية ممزوجة بألوان الفرح والحزن والمشقة والراحة والأمل والتفاؤل والطموح...حكايتهن تبدوا عفوية وبسيطة و هي في الأصل حكاية واحدة تتكرَّر بأشكال مختلفة، محكوم عليها بأن تبقى حبيسة قُمقمِ الواحة وأهلها في نظرتهم للمرأة وفي نظرة المرأة لنفسها، وبطبيعة الأدوار المنوطة بها في الحياة...النِّسوة ثرثارات فمن عادتهن الحكي الكثير والمتكرِّر... مجالسهن كلها كلام في كلام، فالرجال يتعمدون مغادرة بيوتهم في كثير من الأحيان وبالأخص ما بعد صلاة العصر، ليخلو المكان للنِّسوة للحديث فيمات بينهن...

تتولى النِّسوة مهمة اختيار الفتيات التي تراهن تتوافق مع تطلعات أولادهن، فالمرأة التي لديها أولاد مقبلون على الزواج يحوم حولها النسوة ذوي البنات المقبلات عن الزواج، وقد تتولى الكثير من النِّسوة الوساطة ما بين هذا الطرف أو ذاك، وهنا تأتي أهمية الحكي، بوصف مختلف المميزات الخِلقية والخُلقية للمعنيين بالأمر من أولاد وفتيات... الحسم في خيار زواج فلانة بفلان، قرار يخرج من غرف الحكي المغلقة بين النِّسوة، وهي غرفة محكمة لا يدخلها الرجال، أحيانا يكون قرار زواج معين مرهون بقرار زواج آخر سيأتي بعد فترة قصيرة من الزمن،  وهو عبارة عن صفقة سرية بين النِّسوة لا يعلم بها أحدا  دونهن، فالهم الكبير لكل نساء القرية هو تزويج بناتهن، فكثير من النسوة تقبل على خطبة ابنة فلانة لابنها مقابل صفقة تبادل تضمن من خلالها عريس لابنتها من أهل أم البنت التي اتخذتها عروسا لابنها، وهي صفقات تكون في الغالب تحت سلطة الطلاق، فعندما لا يوفي الطرف الآخر بوعده أو يتأخر عنه، فسيتم إخراج ورقة الطلاق فجأة بدون سبب يذكر، وقد تجد العروس التي سارت أما لحفيد أو حفيدين... في طريقها مختلف الصعاب والمشاكل... وقد يتمرَّد زوجها عن قرار أمه... وفي الغالب يقبل الطرف الآخر على إتمام الصفقة... وأحيانا يقع المكروه  بتطليق فلان لزوجته ليرد أهلها بتطليق أحد زوجات أبنائهم لأنها قريبة في النسب من أهل أسرة الزوج الذي طلق بنتهم، ويتراجع أحد أقربائهم عن خطبة فتاة قريبة من نسب أسرة الزوج الذي طلق زوجته...وهكذا يدخل أهل القصبة في موجات متتالية من الطلاق... في هذه الحالة يتحول حديث النِّسوة إلى حالة من الجنون... وتختلُّ مختلف الصفات غير المعلنة...

المصاهرة والزواج بين أهل الواحة، بشكل عام تكون تحت سقف أعراقهم وانتماءاتهم القبلية، فمن الاستثناء مصاهرة عرق مع عرق آخر، ومن الاستثناء مصاهرة قبيلة مع قبيلة أخرى تبعد عنها من جهة النسب، القبائل التي سبقت أن دارت بينها حروب لا مصاهرة ولا زواج فيما بينها، وإن حدث ذلك فهو برهان على الصلح وصفاء القلوب.

عندما يولد الصبي ينظر إليه على أنه يافع، وعندما يصبح شابا ينظر إليه بأنه رجل... النّاس يستبقوا الزمن ويستعجلون قطف ثمرته، فقوة القبيلة وحمايتها تعود لرجالها، فرحة الأعراس في القصور والقصبات فرحة عامة لا تنحصر في أسرة العروس والعريس، فهي فرحة القبيلة بأكملها، فليالي الأعراس شبيهة بمهرجان تحضر فيه مختلف الرقصات والألعاب والأهازيج بالضرب على الدفوف والطبول، ونظم الأشعار...

اختفت مناسج الحصير، وخفّ الحكي والقيل والقال ما بن مختلف النسوة، فالزمن صار زمنا آخر، وقد تحولت مختلف دروب وأزقة القصبات والقصور إلى خراب ...الحفلات والأعراس أخذت لونا آخر وطعما جميلا، لكنه يفتقد لجمالية بساط الحصير، ويفتقد جمالية إيقاع الطبول والدفوف... الحفلات والأعراس اليوم، تقام في بيوت متفرقة هنا وهناك، بالقرب من قصبات وقصور خربة، ووسط مقبرة كبيرة للنخيل، تظهر فيها الجذوع بلا جريد... ... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصدقائه وطلبته أن يسمّوه

اتفقت مع دار النشر المسار على النشر والكلفة اللازمة لنشر خمسمائة نسخة تكون موجودة في دار اتّحاد الكتّاب في ظرف عشرة أيّام ولكن ماراعني إلّا أنّ ارتفاع كلفة النّشر المباغت - حسب المسؤول عن دار النّشر تلك- لم يسمح لي بالحصول إلّا على أربعمائة نسخة فقط أي تمّ إنقاص مائة نسخة بأكملها اقتنت منها إدارة الكتب مائة نسخة .

اتّصلت عندها بالدكتور محمّد القاضي وقد علمت أنّه مختصّ في مجال التّرجمة وسلّمته الكتاب وبقيت أنتظر رأيه وكذلك الشأن مع الدكتور جلّول عزّونة مدرّس اللغة الفرنسية بالجامعة وله أيضا باع في الترجمة.

ولمّا أحرزت إعجابهما وشكرهما للعمل طلبت من الدكتور محمد القاضي أن نقدّمه معا في معهد الترجمة فاستجاب بكلّ سرور وكرم ودون أي شرط أو تكلفة (يكثّر خيرو) ورحّبت المديرة آنذاك الدكتورة زهيّة جويرو بالطّلب ومكّنتني مشكورة من القاعة وكان تقديما رائعا ببشاشة الد. محمّد القاضي وروحه المرحة وحضر أيضا الد. جلّول عزّونة بتلقائيته وحماسته وقد سلّمني هو أيضا كثيرا من الوثائق حول صالح الڨرمادي واستشرته كثيرا في مناهج الترجمة واسرارهاوانا ممتنّة له أيّما امتنان.

حضر أيضا الأستاذ الأديب سوف عبيد مجلّا ذلك العمل وكيف لا وهو تلميذ صالح الڨرمادي الذي كانت تربطه به علاقة مودّة وقد ترجم له عديد القصائد من العربية إلى الفرنسية والأستاذ سوف عبيد -كما ذكرت في الحلقة الأولى- هو أوّل من حدّثني عن صالح الڨرمادي وعن لحمته الحيّة وزرع فيّ حبّ الاطّلاع على مساربه.

ولا أنسى أن أذكر الأستاذ الصّحفي الفقيد محمّد بن رجب الذي كانت له بعض الملاحظات النقديّة السلبية نوعا ما لكنّه في النهاية قال بصريح العبارة : كتاب ممتاز ! ووثّق ما أدلى به الد.محمًد القاضي في تقديمه ونشره على صفحته الخاصّة.

حضر التّقديم أيضا العديد من المهتمّين والمسؤولين في معهد التّرجمة وعلى رأسهم الدكتورة زهيّة جويرو والدكتورة نزيهة الخليفي وغيرهما.

(يتبع)

***

زهرة الحواشي

 

بقلم: إميلي زاريفيتش

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

كانت الكاتبة النيوزيلندية الشابة كاثرين مانسفيلد، التي عاشت في المنفى بألمانيا، تجد العزاء في دراسة قصص تشيخوف القصيرة ونسخها.

كان عام 1909 عامًا صعبًا على الكاتبة النيوزيلندية كاثرين مانسفيلد. فقد كانت عواقب العديد من القرارات السيئة في حياتها تلحق بها الأذى. فلم تكتف بالتخلي عن زوجها الأول ـ — الذي كان في الأصل معلمها في الغناء، جورج بوندن — في ليلة زفافهما فحسب، بل كانت أيضاً حاملاً بطفل من رجل آخر. بالإضافة إلى ذلك، كانت والدتها المُهانة قد أودعتها في بلدة نائية في بافاريا، ألمانيا، لإخفائها عن المجتمع المحافظ. كانت مانسفيلد وحدها تماماً، مقطوعة عن عائلتها وأصدقائها، وكانت آفاقها قاتمة. هل من المستغرب إذن أنها لجأت إلى فنان أكبر سناً بحثاً عن الراحة والإرشاد في عملها الكتابي، والذي لم يكن بإمكانه أن يؤذيها؟

كانت مانسفيلد كاتبة رئيسية للقصص القصيرة، وكانت مصممة على أن تكون رائدة في هذا المجال. رغم أن عالم الأدب باللغة الإنجليزية في أوائل القرن العشرين كان مشبعاً بالروايات والمسرحيات والشعر، إلا أنه لم يكن لديه بعد علامات متطورة ومُعتمدة للقصص القصيرة. لكن الأدب الروسي كان يمتلك تلك العلامات، وكان نجم كتابة القصص فيه هو أنطون تشيخوف. وقد تعلقت به مانسفيلد—أو على الأقل بأعماله. رغم وفاته منذ عام 1904، إلا أنها وجدت فيه نموذجاً ناضجاً وموثوقاً يبدو أنه يفهمها، على عكس والديها الحقيقيين.

"إن ذكر كاثرين مانسفيلد يذكرنا دائمًا بمعلمها الرئيسي في القصة القصيرة، تشيخوف. فهي لا تشبه تشيخوف في نبرتها العاطفية الحساسة فحسب"، كما كتب الناقد الأدبي والشاعر جوزيف وارن بيتش في عام 1951، لكن ..

تذكرنا به أيضًا من خلال ميلها إلى إخضاع الأحداث للمزاج، ومن خلال العديد من السمات الأخرى للتقنية التي تترتب على ذلك. قد يميل المرء إلى القول إن كاثرين مانسفيلد كانت شخصية تشيخوفية - واحدة من أقوى شخصياته؛ كان هناك الكثير في تجربتها فى الوحدة والإحباط، من التناقض بين الظاهر والواقع، بين المثال والفعل، وهو ما يتكرر كثيرًا في شخصيات قصصه."

في بافاريا، عاشت مانسفيلد ما يمكن اعتباره مرحلة تقليد (أو محاكاة)، حيث انغمست في عالم تشيخوف الخيالي الذي يصور المستضعفين والتعليقات الاجتماعية. ومن نتائج هذا الانغماس العميق في كتاباته، برزت قصتها "الطفل الذي كان متعبًا" التي نشرت في عام 1910، والتي لا يمكن إنكار أنها نسخ من قصة تشيخوف "النائم" التي كتبها في عام 1888.

يبدو أن شيئًا في قصة تشيخوف المأساوية عن طفل خادم مُستَغل ومحروم من النوم بشكل خطير قد لامس شيئًا عميقًا في مانسفيلد.

ظهرت قصة "الطفل الذي كان متعبًا" لأول مرة في مجلة The New Age الطليعية، التي ساهمت فيها صديقتها وعشيقتها أحيانًا، بياتريس هاستينجز، ثم أُدرجت لاحقًا في مجموعة "في نُزُل ألماني" الصادرة عام 1911. كان هذان المنشوران من العوامل الأساسية التي قدمت مانسفيلد إلى الأوساط الأدبية في إنجلترا وساهمت في تقدم مسيرتها المهنية. ولكن، لا يمكن تصنيف القصة على أنها قصة خيالية أو ذات قيمة فنية عالية ، إن القصتين متطابقتان تقريباً؛ فلو كانت قصة "الطفلة التي كانت متعبة" نتيجة لمهمة جامعية، لكان من المرجح أن تواجه مانسفيلد الطرد. ونظراً لحالتها العاطفية الهشة ويأسها من تحقيق نوع من النجاح والأمان في حياتها، فربما يمكن أن يُعذرها المرء عن هذا التعدي/ السرقة.

يبدو أن شيئًا ما في قصة تشيخوف المأساوية عن خادمة طفل مُستغَلّة ومحروقة من النوم قد أثر في مانسفيلد بعمق، فهي التي كانت دائمًا حساسة للتفاوتات الطبقية والعنف العارض الذي يأتي غالبًا مع الفقر وعدم الحماية. ستظهر هذه المواضيع مرة أخرى في قصصها القصيرة الأكثر أصالة، مثل "حفلة الحديقة" و"المرأة في المتجر"، التي كتبتها عندما اكتسبت الثقة الحقيقية وطورت صوتها الخاص ككاتبة. لم تتخلَ عن حبها لتشيخوف أبدًا، لكنها انتقلت من كونه معلمها إلى أن أصبحت زميلة متأخرة له.

(تمت)

***

.......................

الكاتبة: إميلي زاريفيتش/ Emily Zarevich: إميلي آر زاريفيتش هي معلمة لغة إنجليزية وكاتبة من مدينة بيرلينجتون، أونتاريو، كندا. نُشرت أعمالها في العديد من المجلات والمواقع الإلكترونية، كما تُعرض أعمالها بانتظام في مجلات Inspire the Mind وThe Archive وEarly Bird Books وHistory Magazine وSmithsonian Magazine وThe Queen’s Quarterly وغيرها.

 

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصدقائه وطلبته ان يسمّوه

بدأت بترجمة النّصوص بعد أن قرأت ما يكفي عن شخصيته حتى ألج إلى فكره ومراميه وقناعاته ومذهبه وهذه حسب رأيي أوّل خطوة يتوجّب على المترجم أن يقوم بها في ترجمة الشّعر  فلا يكفي أن يمتلك النّص  ويحيط بلغته ويتقنها إذ لا مفرّ من أن يستحضر معه روح الشّاعر المؤلف ويسبر أغوارها ويكنه مكامن الوجع والفرح ومبعث الأحاسيس التي دفعته أو أغرته حتى يعلن ثورته ويصرخ بحروفه خارج كيانه ويطلقها للعالم الخارجي والمتلقّي

فإذا تحقق ذلك وامتلأ الشاعر المترجم بالشاعر المؤلف وجعل الأخير من الأوّل مسكنا لروحه يأوي إليه كلّما فتح المترجم صفحة من صفحات الكتاب ولهجت ذاته بما يخالجه عندها فقط تبدأ المسارب تتضّح والمعاني تتجلّى كما تتجلّى العروس في بهائها.

بدأت إذن بالترجمة وكلّما أتممت جزء من النّص أعود لمراجعته وأنا مرتعبة .

كان يخيّل إليّ أنّ عمّ صالح بذلك لوجه البشوش يقف أمامي وهو الأستاذ الذي أفنى سنواتٍ في التّدريس الجامعي لشتى اللغات والترجمة لآلاف الطّلاب وهو مؤسس علم الألسنية والباحث في غياهبها...

كان يخيّل إليّ أنّه يراقبني أنا "الدّخيلة" القادمة من شعبة البيولوجيا وحديثة العهد بالكتابة والاّداب وما أبعد عالمي عن عالمه وما أصغر جدولي أمام محيطه حتى أني اسميته حوت العنبر الأحمر لطابعه الثّوري وخاطبته:

Cachalot

je t'avale sec

indigeste tu es

je fouille dans ton ventre

je cherche l'ambre

des clés

mon carmin

où il est

حوت العنبر

بلهف شربتك

عسر الهضم على رقائق حواسي

أبحث في جوفك عن المدلولات

سلمني مفاتيح العنبر

قرمزي

هل تسمعني

وقد اكتشفت من بعض نصوصه مثل قصيدة    mer ma brune à sièste

mer ma brune aux cils serpents

brune ma mer aux fils d'argent

 شغفه الشديد بالبحر وذوبانه في امواجه.

كان يقف امامي كالعملاق فأبدو لنفسي دودة "تتشعبط" في جداراته وهو يرمقني بعيون ثاقبة وايضا بعين الامتنان لأنّي نقضت الغبار عن لحمته الحيّة التي كانت على وشك الاندثار ... ومعها ذاته وصفاته .

كان يلوّح لي بابتسامته الشّهيرة التي تعلو محيّاه وكان يهمس لي بلطف : حذار ايتها المغامرة العنيدة

حذار أن تحيد بك الألفاظ إلى معان لم أقصدها !

نعم كنت خائفة أن أخطئ في حقّ تلك الأمانة وكنت أقرأ ما ترجمته وأعيد قراءته ثم أتفطّن إلى أنّ النّصين لا يلتقيان بعد فأمزّق ما كتبت وأعيد المحاولة من جديد وأبحث عن المعاني من جديد ولكن الغموض في بعض النّصوص جعلني اتراجع مرات عديدة خاصة عندما اتّصل ببعض الشعراء في تونس أو في فرنسا ويعتذرون لي عن عدم فهم الجملة أو اللفظة التي اعترضتني.

قصائد اللحمة الحيّة مختلفة الأطوار والأطوال والوجوه والأنماط و كأنه اختزل فيها كل أعماق تونس شمالا وشرقا وغربا وجنوبا وسماء وأرضا وكلّ ابعادها الاجتماعيةوخاط أجزائها  بدراية ابن الأحياء الشعبية المفقّرة وبعين المثقّف الثوري العضوي الڨرامشي معتمدا تلك الكلمات الدّارجة le substrat dialectal فجعلها  فصلا واحدا ناسفا لكلّ الحدود  (و الشّرح بحور والحديث يطول.. )

استمرّيت في عنادي حتى بدأت أشعر أنّ النصوص الأصلية أخذت تلين في معانيها وأنّ النّصوص المترجمة بدأت تنصهر  معها (بدات تطيب) حتى أصبحتُ أحيانا لا أفرّق بين الأصل والتّرجمة وعندها فقط بدأت أفكّر في نشر الكتاب .

يتبع.

***

زهرة الحواشي - تونس

 

بدءاً من غلاف الرواية البديع، وعلامة التعجب التى سترتسم فى مخيلتك وأنت تقرأ اسم الرواية، والتى تزداد حجماً عندما تقرأ حروف اللغة الروسية بحروف صغيرة كترجمة لاسم الرواية.. تشعر أنك مقبل على قراءة عمل مختلف للروائى المصري فتحى سليمان.. وهو روائى ومنتير ومعد برامج تليفزيونية من مواليد أسوان وله عدد من الأعمال الروائية السابقة لها نفس الطراز الملفت فى اختيار اسم العمل.. (على محطة فاتن حمامة).. (بولاق أبو العلا).. (شاي باللبن فى الزمالك)..

أول ما سوف تستشعره من السطور الأولى للرواية أنها ذات لغة سهلة سلسة تنتقل بك بين المعانى والأخيلة بشكل تلقائى بسيط وممتع دون عناء.. وبرغم تلك المباشرة والسهولة تدرك سريعاً أنها لغة ذكية عميقة بليغة تختصر عليك المسافات والأزمنة والمشاهد فى كلمات مختصرة منتقاة.. وهى تتأرجح لغة الحكى والسرد وبين اللغة الشاعرية فى بعض منحنياتها، كما يقتضى موضوع الرواية، أو عندما يأتى الراوى على ذكر ما يحبه من مشاهد، فهو عندما يذكر بلاد المنشأ يقول: (أسوان.. المدينة التي تقع فى آخر الدنيا وأول السماء.. وأينما كنت تعرف أين ينام النيل، كل الطرق تؤدى إلى نسيمه، وكل الأنفاس تتناغم مع أمواجه. النيل هو الطفل البكرى لكل عائلة، وهو خال اليتامى ووكيل كل العرائس. فى أسوان رؤية النيل ترمُّ جروح الروح)..

الحكاية تبدأ من عام 2004 بمشهد قصير خاطف قبل أن تعود بك سريعاً بطريقة الفلاش باك إلى عام 1959 حيث بدأت بلقاء عابر بين بطل الرواية"حسن" وبين امرأة روسية يراها بالصدفة فى القاهرة تدعى " أولجا"، ثم إذا بالصدفة تجمعه بها فى أسوان التى كانت مسرحاً للالتقاء الأضداد أيام بناء السد العالى.. هنا تتحول الرواية إلى كادر سينمائى يعود بك القهقرى سنوات كثيرة حتى لكأنك فى أجواء تلك الحقبة وتندمج معها ومع أجواء العمل الضخم الذى جمع بين أشتات ومتناقضات عديدة.. خليط متباين من أنحاء مصر "صعايدة وبحاروة وسواحلية" مهندسون وعمال فى مختلف التخصصات، وبينهم خبراء وعمال وعاملات من الاتحاد السوفيتى بينهم بطلة الرواية. إنه التقاء الأضداد.. الرجل الأسوانى الأسمر بالسوفيتية البيضاء، والتقاء الشمال الثلجى بالجنوب القائظ، والتقاء صدفة اللقاء بصدفة الفراق؛ إذ لم تكد علاقة الحب تولد وتتحول إلى ثمرة حتى يأت الفراق عنيفاً خاطفاً ليغلق تلك المرحلة من الرواية وينقل القارئ إلى مرحلة جديدة من رحلة بحث ونجاح فى الحياة ، ثم صدام مع واقع اجتماعى مرير يتزوج فيه بطل الرواية زواجاً تقليديا لا يدوم، وتأتى ثمرته فى صورة ابن لا يعيش مع أبيه ويتجرع من أمه كراهية وبغضاء تتنامى ضد أبيه.. إنهما ضدين جديدين فى الرواية.. كلاهما على طرفى نقيض.. أحدهما ينطلق لروسيا يتعلم فيها اللغة الروسية حتى يصير كأهلها، ويحصل على دكتوراه فى بناء السفن ، ولا يتوقف عن البحث عن حبه المفقود فى هذه الأثناء.. بينما ابنه الذى أنجبه من زواجه التقليدى الذى انتهى سريعا بالطلاق بات متطرفاً فى أفكاره واتجاهاته، وفى اللقاء الوحيد الذى جمع بينهما يحدث الصدام بين اتجاهين متضادين يمينى ويسارى.. فكيف ينتهى هذا الصراع؟ وهل يلتقى بطل الرواية مجدداً بحبه المفقود؟ وكيف يحدث هذا اللقاء إن حدث؟

تلك تساؤلات تظل تدور فى ذهن القارئ حتى يجد نفسه قد أتى على الرواية كلها بلا شعور منه، بسبب ما تتركه فى الذهن من خيوط غير مكتملة، وفخاخ تشويقية متقنة تستحثك على التوغل فى قراءة الرواية حتى آخرها..

أجاد الروائى فتحى سليمان استخدام أدواته لصياغة عمل متكامل بارع النسج.. وبدت براعته واضحة فى طريقته الانسيابية للانتقال بين مراحل الرواية من حيث المحتوى القصصى واللغوى بحيث لا تشعر بالاختلاف الطفيف بين اللغة الشاعرية الأولى واللغة السردية التالية، أو بين اللون الوردى الذى يصبغ بدايات الرواية، واللون الرمادى الذى بدأ يشيع فى الرواية شيئاً فشيئاً بها.. غير أن تلك الانتقالة الانسيابية أهملت فى طريقها الوصفى للأحداث والأماكن، أن تهتم بوصف الشخصيات بنفس القدر.. فكان عبورها السطحى على الشخصيات سبباً فى غياب التعاطف معها أو ضدها، كما تسبب فى شئ من التشتت حولها، حتى لتضطر أحياناً للعودة إلى صفحات سابقة لتتأكد من اسم شخصية ما أو صلتها بالحكاية.. فى المجمل لم يؤثر ذلك الأمر كثيراً على بنيان الرواية وجودتها..

ماتريوشكا من أسوان.. عمل جديد بديع لفتحى سليمان يستحق القراءة..

***

عبد السلام فاروق

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصحابه وطلبته أن يسمّوه

لم تزدني غرابة موت صالح الڨرمادي وما يدور حولها من شكوك وريبة وغموض إلّا إلحاحا على التّغلغل في  عالمه .

صالح الڨرمادي المولود يوم 12 أفريل سنة 1933

المتوفّي  يوم 12 أفريل سنة 1982 أي في نفس التاريخ لميلاده وعمره 49 سنة فقط !!

صالح الڨرمادي هذا الشّاعر المثقّف المناضل الماركسي والنقابي المقدام الذي أبهر السّاحة الثّقافية والجامعيّة في السّبعينات بمواقفه وإصداراته المتنوّعة .

هو ابن الحي الشعبي الحلفاوين بالعاصمة وابن عامل بسيط متنقّل بين السّكك الحديدية وورشات ميكانيكبة والتحارة في السّوق المركزية.

وبالموازاة مع دراسته مارس صالح الڨرمادي بعض المهن اليدويةمثل النّجارة وصناعة الفخّار وقد كان متفوّقا في دراسته بشكل بارز في المعهد الصّادقي بشعبة الآداب الكلاسيكية ثمّ في جامعة باريس حيث حاز التّبريز في اللغة والآداب العربية وكان عنصرا نشيطا في الحركات الطّلابية التّقدمية بفرنسا .

عند عودته إلى تونس واصل انخراطه في قضايا الديمقراطية و الحرية والعدالة الاجتماعية.

في بداية السّتينات درّس في الجامعة و أسّس علم الألسنية.

كان ينتمي إلى نخبة من الشبّان المثقفين الذين أصدروا مجلّة  التّجديد.تعدّدت إنتاجاته الأدبية بين اللسانيات والترجمة والمقالة والشّعر والقصّة والمسرح. والحديث يطول عن عوالمه.

نعود إلى لحمته الحيّة التي هي محور حديثنا هاهنا.

أخذت تلك المؤلّفات وعدت إلى المنزل وكأنّي "جبت الصّيد من وذنو" وبدأت بقراءتها فلم أفهم منها إلّلا النّزر القليل سواء بالعربية أو بالفرنسية.

 أشعار ثنائية اللسان عربي وفرنسي مطعّمة من حين لآخر بكلمات تونسية أصيلة مثل الطّار والبندير والفرازط والعلّوش

 و غيرها يدرجها في معانيه وصوره وتصويره للمجتمع التونسي وحقيقة ومرارة الواقع التونسي بأسلوب هزلي تارة وتهكّمي تارة أخرى، مليء بالأمل مرّة وحزين يائس أخرى فيأخذك إلى الأعلى ثمّ يطرحك أرضا دفعة واحدة ليوقظ فيك وعيا عميقا بمرارة واقعك و يرجّك رجّا حتى لا تستسلم للنّعاس وقد شعرت وأنا أقرأ نصوصه بالإحباط والعجز ووجدتني " نهدّ في جبل بڨادومة " وأيّ جبل !! فالرجل يتلاعب بالألفاظ ويراقصها ويولّد من المفردة ألف معنى ومعنى اليس هو الذي يسوس اللغة اللاتينية والانجليزية والألمانية زيادة عند الفرنسية والعربية وغيرها....

وقررت أن اتخلّى عن فكرة ترجمة هذه اللحمة التي آلمتني قبل أن ألمسها لكنّ شيئا ما من صالح الڨرمادي"كبّش فيّا " وألحّ عليّ أن أستمرّ .

(يتبع)

***

زهرة الحوّاشيي - تونس

 

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصدقائه وطلبته أن يسمّوه

بدأت أبحث عن مجموعة اللحمة الحيّة في المكتبات المعروفة ولكن خاب ظنّي .

نصحني بعض الأصدقاء الشّعراء أن أبحث في المكتبات التي تبيع الكتب القديمة مثل مكتبة الدّبّاغين والأسواق  وعند باعة الكتب على قارعة الطّرقات وبدأت رحلة التّفتيش المضنية حيث كنت اتنقّل من ريف الشّرشارة بزغوان إلى تونس للبحث عن كتيّب نسيه التّاريخ ... أو تناساه.

كما أشار عليّ البعض أن أبحث في مركز البحوث العلمية (سيراس قرب معقل الزّعيم ووجدتني بدويّة في العاصمة حيث أكاد لا أفرّق بين شّرق الطّرقات وغربها وكان الولوج إلى المعلومات في تلك المكتبة بتطلّب شروطا كثيرة مثل أن تكون منخرطا وأن تسجّل عن طريق الحاسوب الأساسي (serveur ) وعندها يسمح لك بالبحث والإطّلاع وعليك أن تجتهد لوحدك ولا من دليل او معين.

وبعد عناء  تبيّن أنّ الكتاب لا يوجد بها .

ولمّا كدت أيأس عثرت في صفحات الفايس بوك على مجموعة أصدقاء صالح الڨرمادي فدلّني أحدهم على الأستاذ الدكتور محمود طرشونة فاتّصلت به وأكّد لي أنّ اللحمة الحيّة موجودة بمكتبته في المنار وضبطنا موعدا وتمّ اللقاء

وكم كان كريما معي وكم فاضت يداه سخاء فقد جلب معه كتبا عديدة وأهداني من رواياته ومؤلفاته العديد  وطبعا أحضر لي المجموعة الشعرية وعديد الكتب الأخرى التي لها صلة بصالح الڨرمادي وعلم الألسنية ودراسات نشرت بدار إبلا IBLAوغيرها وأخبرني قصّة موته الحزينة.

أخذت تلك الكتب وعدت أدراجي  وكأنّي عثرت على أثمن الكنوز .

ودخلت عالم صالح الڨرمادي وبدأت أسبر أغواره .

***

زهرة الحواشي - تونس

 

بانفلاق الصبح، نهضت حادَّة في هذا الوقت المبكر، من فراش نومها من أعلى سطح دارها القريبة من مسجد القصبة، إيقاع القراءة الجماعية المنبعثة من سطح المسجد، تجعلها حينا تسترخي لوقت قليل وهي مستلقية في فراشها، قليلة هي الكلمات والآيات التي تفهم المراد منها.. لكن جمالية إيقاع القراءة وتناغم الأصوات فيما بينها، تجعلها تشعر بصوت يناديها من الداخل، ما تسمعينه هو خطاب موجه إليك، وهو أمر يجعلها تتيع جيدا وبعناية لعلها تظفر بفهم، بعض مما تسمع.. تحاول المرة تلوى الأخرى.. في الأخير تجد نفسها لا تفهم إلا كلمات متناثرة، متداولة بين الناس طيلة حياتهم، من بينها: الله، الكريم، الرحمن، الرحيم، السلام .. محمد، موسى، عيسى..  التين، الزيتون، طلح، سدر النخل.. عجل، نعجة، كلبهم، البغال، الحمير، نملة.. عسل، بصل، زرع.. الأرض، السماء، الشمس، القمر.. وهي حالة تكسبها نوع الثقة في الذات، بأن ما تسمعه من كلمات ترتبط بمحيطها الذي هي فيه، وهذا أمر يجعل نداءها الداخلي أكثر مصداقية..

الطريق المؤدية إلى باحت المسجد، ذهابا وإيابا تمر من أسفل سقيفة بيت حادَّة، فإلى جانب القراءة الجماعية يصلها صوت همهمة بعض المصلين من الشيوخ الكبار، وهم في عودتهم من المسجد، لا يفهم منها إلا كلمة واحدة متبوعة بكلمات وجمل بصوت خافت يصعب على الأذن التقاطها، إنها مجموع الأذكار والأوراد التي يرددها بعض الشيوخ وقد اعتاد عليها لسانه وقليه، وهي تخرج متتابعة بشكل سريع، إذ تلتقط الأذن بشكل واضح كلمة الله متبوعة بهمهمة فالشيخ أدرى بصيغتها من حيث المبنى والمعنى، وقد اعتادت حادَّة في هذا الوقت المبكر من أيام الصيف، على سماع همهمات الشيوخ وهم في عودتهم من الصلاة.

 الحَرُّ يجبر أهل الواحة ليتخذوا من أسطح دورهم مكانا للنوم والراحة والسكينة، إنه أمر غريب؛ هذه الأسطح وسط النهار حالتها تشتكي من لهيب ولسعات الشمس الحارقة، وفي الليل ما بعد المغرب يتحول المكان نفسه إلى حالة من البرودة والرطوبة، بينما الطابق السفلي من الدار على العكس من ذلك، الرمال المكشوفة لا أحد يطيقها نهارا، ليقصدها ليلا كل من رغب في ساعة الرطوبة والبرودة، والغريب أحيانا أنها تكون باردة أكثر مما هو معتاد، في فصل الصيف يبدوا لك الحَرُّ، كأنه كائن يحضر بقوته وجبروته في النهار، وينكمش ويختفي في الليل، وإذا به يختبئ في مختلف الأماكن المغلقة، وفي الطوابق السّفلية لمختلف المباني، ليخرج من مخبئه نهارا وتتسع مساحته وتعم كل بقعة مكشوفة أمام أشعة الشمس.

طيلة الصيف على أسطح المباني، يرافقك القمر، أينما وجهت وجهك إلا وجدته ينظر إليك، والنجوم بالقرب منه، تستلقي على قفاك وتبدأ في عد النجوم، وفي الأخير تفشل في عدها وتعيد الكرة مرة أخرى.. في اليوم الموالي يخطر ببالك سؤال مفادها هل النجوم التي أعددتها بالأمس لا زالت مستقرة في مواقعها، أم اتخذت لنفسها مواقع جديدة، أم اختفت بالكامل وفسحت المجال لغيرها، وكيف لك أن تميز بعضها عن بعض، النجوم يشبه بعضها بعضا، ومن هذا الذي له القدرة للتمييز فيما بينها..

 تخمن كثيرا، وأنت تتذوق نسمات الهواء العليل، وتخلص إلى أن بعضها ثابتة في مكانها، هذا هو القطب النجمي[2] وبالقرب منه هذه النجوم التي أعددتها بالأمس.. في الحقيقة أنت تحاول أن تجد لنفك فهما وتفسير معين لما كنت تسمعه، بأن أهل الواحة يسترشدون بالنجوم في أسفارهم الطويلة داخل الصحراء، معرفتهم بمواقع النجوم تساعدهم على التمييز بين اتجاه الشمال واتجاه الجنوب، لكن هل خضت هذه التجربة.. لا يهم عموم الناس يقرُّون بهذا.. ما أجمل هواية عد النجوم رغم أنها تجربة دائما تبوء بالفشل؟ السماء صافية ولا شيء يعكر صفوها.. تبدو قريبة جدا إلى درجة يخيَّل إليك أنك ستلامسها بيدك إن ارتفعت نحوها..

طيلة ليالي الصيف، الكبار والصغار يخوضون تجربة عدُّ النجوم، بوعي أو بدونه، فعندما تلقي برأسك على الوسادة وتحدق بأعينك إلى السماء، تجذبك النجوم إليها وتجد نفسك تبذل جهدا، في أن تحيطها بنظرة شاملة، وهي تتلألأ في وجهك، حينها تتورط بوعي أو بدونه في عدّها.. يأخذك النوم، وعندما تفتح أعينك ليلا تجد القمر ينظر في وجهك وقد تأخر عن الظهور منتصف أيام الشهر، بينما يحضر باكرا قبل النجوم أول أيامه.. حالة النسيم العليل التي أنت عليها تجعلك تتعلق بالقمر والنجوم، وتتوقع أنها لها دور في إحداث حالة الرطوبة والبرودة التي أنت عليها، ودليلك الساذج، عنما تختفي النجوم والقمر تحت أشعة الشمر يختفي الهواء العليل والرطوبة والبرودة..

عندما يظهر الهلال في يومه الأول بعد الغروب، فأول نظرة إليه منك، ينبغي أن تكون مصحوبة بأمنياتك، كشفاء مريض أو عودة مسافر.. البعض من النِّسوة لا تغفل عن لحظة اليوم الأول للهلال والنظرة الأولى إليه مصحوبة بأهم أمنياتها.. ربما أنهن يرون في الهلال بكونه ذلك المسافر الحاضر والغائب، الذي يأتي بالأخبار وهو يطل على الدنيا كلها، متنقلا من مكان إلى آخر، كل أمنياتهم أن يمكث بينهم، وهو مصحوب بما يحمل من بشائر، كل أمنياتهم أن تكون بشائر خير.. ربما أنه يصحب معه عودة مسافر، أو يصحب معه شفاء مريض..

 صففت حادَّة فراش نومها وسحبته إلى جانب من جنبات السطح.. اتجهت نحو غرفة تهييئ الطعام، أوقدت النار، وضعت قدر شربة حساء الشعير.. ها هي تغلي الآن، وقد صففت مجموعة "الزلايف"[3] المتعددة الألوان والأحجام بهدف أن تسكب بداخلها الشربة عندما تنضج.. في هذا الوقت في الأسطح الصغيرة داخل البيت الكبير، كل من أفراد الأسرة قد صفف فراشه وسحبه جانبا.. الأسطح الآن قبل شروق الشمس بقليل تبدوا فارغة، القليل من يبقى من يبقى نائما، لا أحد يرضى بذلك.. وقد اتجه الجميع إلى السطح المركزي من البيت، ليجدوا شربة حساء الشعير في انتظارهم مع حبات التمر.. قبل شروق الشمس يتوجه الرجال نحو حقولهم ليقضوا البعض من مهامهم قبل أن تطردهم الشمس الحارقة.. والكثير منهم يعودون بعد شروق الشمس، ليجلسوا على طاولة الإفطار لوقت قليل، قبل انقضاء ظلال جدران الأسطح التي تطارها أشعة الشمس.. حيث الشاي والخبز المليء بحشوة شحمة البقر الممزوجة بالتوابل والبصل..

برنامج شغل حادَّة لا ينتهي، إلى جانب النسوة الآخرين الذين معها في نفس البيت، وقد تأخرت لبعض من الوقت عن الموعد الذي تحلب فيه البقرة.. وخوارها قد يسمع من قريب في البيت المجاور.. وقد اعتادت أو تتوجه في هذا الوقت بالذات بعد الإفطار نحو البرك المائية الصغيرة القريبة من القصبة لتملئ جوفها بالماء.. إذ يتعمَّد أهل القصبة أن يسوقوا نحوها قيلا من المياه، ها هي البرك الصغيرة من الماء تظهر لك من بعيد مثل مرايا مبعثرة هنا وهناك، وهي تعكس صور أغصان الأشجار وجريد النخيل.. الغريب أنك عندما تدفع البقرة أو البقرات نحوها.. وتقول في قرارة نفسك هذا ماء صافي غير معكّر ولا مكدّر بالتراب.. البقرات تستحقه وهي أولى أن تشرب ماء صافيا.. لكن البقرات لها رأي آخر، إنها تحب الشرب في الماء المكدَّر بالتراب والطين.. الغريب أنها تنجذب نحو الماء الصافي وتمدُّ عنقها نحوها، وقد تأكدت بأنه ماء، بعد أن مصَّت منه جزءا قلالا جدا.. طبعا إنه ماء ماذا سيكون إذن هل سيكون زيتا تسيح على الأرض.. هل هي سذاجتي أم سذاجة البقرات، هل هناك سائل آخر في الأرض يتدفق بهذه الوفرة.. غير الماء، البقرات تشك هل هو ماء أم سائل آخر دونه، وعندما تتأكد بأنه ماء، ترفع رأسها وأنت تمهلها لتعود لتمص ما يكفيها منه، وإذا بها تفاجئك وتدخل وسط البركة الصغيرة ليختلط الماء بالتراب والطين والروث الذي تصحبه أرجلها وذيلها.. حينها يحلو لها الشرب.. الآن وأنت تتأمل في سلوكها تدرك سذاجتك التي تجعلك تتعامل مع بقراتك مثل تعاملك مع البشر..

البقر لا يشرب ولا يروي عطشه إلا في الماء المكدَّر عكس الإنسان والكثير من الحيوانات على هذه الحال.. تبدوا هذه المسألة عند البعض بدون معنى.. هناك من ينظر إليك بنوع من الاّ مبالات وأنت تهتم بمثل هذه القضايا التافهة في نظره.. ما شأنك بمعرفة السرِّ من وراء تفضيل بقراتك الشرب من الماء المكدّر بدلا من الماء الصافي، والغريب أنها هي من تكدِّره لتشربه في الأخير.. إنها مسألة ليس بالسهل معرفة حقيقتها، وقد سبقك إليها القدماء وهم في حيرة من أمرهم في هذه المسألة، فعلا أنت لا علم لك أن المسعودي،[4] قد أثار هذه القضية في كتابه "مروج الذهب" فهو يرى أن البعض من الحيوان، إذا كان الماء صافيا، فإنه يثيره ويكدره ويمتنع من شربه حين صفائه.. وإن ذلك نتيجة مشاهدة صورها في الماء لصقالته وصفائه. إنها مسألة تحتاج إلى تفكير ونظر، كثيرة هي القضايا والأمور التي تبدوا سهلة وبسيطة، لكنهها تخفي من ورائها أشياء كثيرة.. ليس بالسهل معرفة أي اطمئنان يتحقَّق للبقرات وغيرها من الحيوانات، وهي تكدِّر صفاء الماء رغبة من عندها لتشرب منه، ..

البقرات الآن داخل البركة الصغيرة، قد ملأت جوفها بالماء المكدَّر بالتراب والطين، واقفة لا تتحرك وهي تميل بعنقها يمينا ويسارا.. كيف تنتزعها من داخل البركة، الماء قليل وقد يقترب من ركبتي أرجلها.. أنت تشعرها بأن تتحرك وتخرج من وسط البركة لتعود بها إلى مربطها، لكنها لا توليك اهتماما.. يا ترى لماذا هي شاردة إلى هذا الحد ربما تتأمل في شيء .. مرة أخرى تعود إلى سذاجتك.. إنك تنظر إليها بكونها بشرا.. البشر هو من يتأمل.. أنت لا تقتنع بهذا الكلام.. البقرات حتى هي الأخرى تتأمل.. ها هي الآن تحدق فيه بأعينها الكبيرة.. ربما تريد أن تقول شيئا.. في الأخير تستجيب لطلبك وتخرج من وسط البرك الصغيرة متجهة نحو طريق العودة.

في هذا الوقت الذي قضته البقرات ذهابا وإيابا لتملأ جوفها بالماء، خرجت حادّة من الدار وهي تتقفى أثر حوافر البقر داخل القصبة، وسط الدروب والأزقة التي تمر منها مختلف أبقار السكان وهي تقصد مرابطها، وإذا بها تجمع قللا من القش الملقى على الأرض الذي دهسته بعض الابقار بأرجلها .. القش مبعثر ويختلط بالتراب وأحيانا روث البقر وبعض من التبن وأوراق وبعض من سعف النخيل وبعض من أوراق الأشجار.. ها هي عائدة محملة بقشها، وهي مصحوبة بأحد النِّسوة تدعي قدرتها على استرجاع الحليب إلى درع البقرة التي لم تعد تحلب إلا القليل.. كيف ذلك؟ فرضيتها تقول إن البقرة يسْرق حليب بعضه البعض.. إن مرّت الأبقار من نفس الطريق التي تأخذهم إلى أحد المرابط.. وما هو الحلُّ إذن؟ الحل في نظرها، جمع القليل القش الذي دهسته مختلف الأبقار بأرجلها من داخل أزقة الواحة.. وحرقه من تحت ضرع البقرة التي سرق حليبها، وهي وصفة كفيلة بعودة الحليب إلى ضرعها بعد أيام.. أنت لا تفهم شيئا من كل هذا الهراء، كلام فارغ، أمر لا يليق حتى بتفكير الأطفال، إنه تفكير سخيف!! أنت تصدق كل هذا!! ومن حماقات هذه المرأة أنها توصي في حالة فساد اللبن، ينبغي سكبه من تحت أرجل البقرات.. حجتها في ذلك أنه يعود إلى ضرعها.. أليس هذا هو الحمق بعينه!! يا لها من امرأة حمقاء.. وكيف لحادَّة أن تسلم أمرها في مثل هذه المواضيع لهذه المرأة.. قبل مغادرتها المكان حزمت صرة من أعشاب وصدفة بحرية في خيط طويل من الصوف الأبيض والأسود، جعلت منه قلادة للبقرة الكبيرة.. حجتها في ذلك أن القلادة ستدفع عنها السوء والعين.. هل هناك بساطة وسذاجة أكثر من هذه؟

كثيرة هي الحماقات التي اختفت من الواحة، اختفت البقرات المزيّنة بقلائد الأصداف البحرية، واختفت البرك الصغيرة المائية، القصبة نفسها لم تعد كما كانت، أزقتها وأدربها فارغة، لم تعد بداخلها مرابط للبقر.. أتدري لماذا؟ لقد تبدلت حال الطبيعة وقد هجرها الماء..    

.. يتبع ..

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

..........................

[2] النجم القطبي: هو اسمٌ يُطلق على ألمع نجمٍ قريبٍ من أحد قطبي الكرة الأرضية. لقربه من محور دوران الأرض بشكل شبه ثابت، فتُعرَف الاتجاهات به..

[3] وقد اختار أهل الواحة هذا الاسم، للصحن الذي نمسكه باليد الواحدة أو اليدين، ونقرّبه من أفواهنا لنشرب من خلاله مختلف الشربات من بينها شربة الحساء، فالاسم يعود إلى الفعل (زلف) فأَزْلَفَهُ قَرَّبَهُ وَازْدَلَفَ إلَيْهِ اقْتَرَبَ (وَمِنْهُ). الزلافة، سميت كذلك لأنها تقرب إلى شاربها وتقدم له، يقال زلف الكأس: أي قربه وقدمه، وقال الله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)﴾ (الشعراء)

[4] أَبُو ٱلْحَسَن عَلِيّ ٱلْمَسْعُودِيّ الهُذَلي (- 346 هـ /- 957 م) عالم ومؤرخ، جغرافي ورحالة، وهو مؤلف متعدد المواهب وغزير الإنتاج، جمع بين التاريخ العالمي والجغرافيا العلمية والتعليقات الاجتماعية والسيرة الذاتية.

 

طغت شخصيات كتّاب وشعراء اشتهروا لهذا السبب أو ذاك، في بلادنا على الكثيرين من المبدعين الحقيقين وحجبت بالتالي شموس النور عنهم، وطالت أكثر ما طالت من هؤلاء المستحقين لأن يُعرفوا ويقرؤوا، ويستفاد من تجاربهم المتعمّقة الواعية، أقرب الناس إليهم وأقصد إخوانًا لهم سلكوا الطريق التي سلكوها هم ذواتهم، فوضعتهم في الظلّ وكان الاجدر بهم أن يوضعوا في الشمس كونهم امتلكوا طاقات إبداعية ذات كينونة وخصوصية. بغض النظر عن العوامل الأساسية في شهرة هذا وخبوّ نجم ذاك، وبغض النظر عن الفارق الكبير بين الشهرة والأهمية، فقد يكون المبدع مشهورًا وليس مهمًا ومهمًا وليس مشهورًا، بغضّ النظر عن هذا كله، وعبر نظرة موضوعية تهتم بالإبداع الادبي ذاته، ولا تولي الظروف المناسبة وغيرها من تيسُّر إمكانيات النشر اللائقة، فقد مكث مبدعون حقيقيون في بلادنا في الظل إلى حد بعيد، للسبب الملمح إليه آنفا.. كونهم أشقاء لمشهورين . أمثال محمود درويش، سميح القاسم وراشد حسين. فيما يلي أقدم معلومات عن عدد من الاشقاء المقصودين ضمن محاولة ورؤية شخصية غير مُلزمة.

زكي درويش – شقيق الشاعر محمود درويش

ولد عام 1944 في قرية البروة المهجّرة. قبل نحو الأربعة أعوام من ولادة شقيقه الشاعر محمود درويش. عمل في التدريس. وابتدأ حياته الأدبية في أواسط الستينيات. انبأت مجموعته القصصية الأولى "شتاء الغربة" الصادرة عام 1971، بموهبة ستواصل التفتّح عبر أكثر من نصف قرن من الزمان، وتجلّت فيها الروح الأدبية الراقية بكلّ ما تعنيه من حسّ جماعي وانتماء للذات والأخر، ولعلّ عنوان قصة شتاء الغربة ذاته يحكي الكثير من العمق عن الغربة في الوطن والإقامة قسرًا في قرية هي الجديدة المكر التي لا تبعد كثيرًا عن مسقط راسه الأول- قرية البروة المهجرة حاليا من أهلها. في مجموعته الأخيرة "ثلاثة أيام" الصادرة عام 2012، يتألق زكي في روحه الساردة ويكتب قصصًا لاقت شيئًا من الحفاوة أمكنها ان تدخله إلى ديوان النثر الفلسطيني بجدار واستحقاق. لن أقدّم المزيد من المعلومات عن زكي وانتاجه الادبي الغني الثرّ. وأكتفي بهذه الرؤية الخاصة له ولإنتاجه الادبي، تاركًا الرغبة لمن يود ويريد امكانية الإبحار في عباب الشبكة العنكبوتية.. ففيها ما يكفّي ويوفي.. وإن كان لا يعني الشهرة الحافزة على قراءة هذا الكاتب الهام أطال الله في عمرة.

نديم حسين- شقيق الشاعر سميح القاسم

من مواليد قرية الرامة قبل اثنين وسبعين عامًا. ربطتني به علاقة ومودّة منذ سنوات بعيدة. كتب وأنتج الكثير في مجالي الشعر والنثر، وكان مثقفًا واسع الاطلاع، وكنت في كلّ لقاء لي به أزداد احترامًا وتقديرًا له ولثقافته الأدبية الواسعة، علمًا أنه درس اللاهوت والطب وعمل سحابة عمره طبيبًا. أمضى المرحوم نديم حسين – رحل عن عالمنا العام الماضي 2022 عن عمر ناهز الواحدة والسبعين عاما، سحابة طاغية من عمره وهو يكتب ويجوّد، ويشعر أنه ما زال هناك متسع، وكنت أرى إلى لهفته الأدبية خلال لقاءاتي به في مكاتب صحيفة الاخبار النصراوية بحضور صاحبها ومحرّرها الكاتب الصديق محمود أبو رجب أمده الله بالعافية ومنّ عليه بالصحة. تمكن نديم من فنّ القول الشعري تمكنًا حقيقيًا ووشت لقاءته في سنواته الأخيرة مع الإعلامي الصديق المحترم رشيد خير- عبر منصته الفيسبوكية، عن ثقافة وعلم غزير، دلّ فيما دلّ على أنه عمل على تثقيف نفسه طوال الوقت وأشير فيما يلي إلى عدد من مؤلفاته، ضمن رغبة جامحة في إنصافه وإعادة الاعتبار له، فنجمٌ لا يلغي نجمًا وإنما يؤكد حضوره كما تقول الحقائق المتعمّقة في الوعي والحضور الانساني.

أحمد حسين- شقيق الشاعر راشد حسين

ولد هذا الكاتب الشاعر في مدينة حيفا عام 1939، وأقام جُلّ حياته حتى يومه الأخير، في قرة مصمص (صادفت ذكرى رحيله السادسة يوم الأربعاء من اب الجاري، علما انه رحل بتاريخ 23-8-2017. عمل نحو الثلاثة عقود في سلك التعليم، وكان هاجسه اليومي هو الكتابة والابداع كما لمست هذا، في لقاءاتي المتباعدة به، تلك اللقاءات الجازمة بأن الابداع هو هاجسه الرئيسي. كما لمسته في كتابات له أعتبرها بالضبط كما اعتبرها آخرون، منهم المرحوم الشاعر الاب في شعرنا الفلسطيني في البلاد حنا أبو حنا- من عيون الابداع الأدبي في بلادنا. تألق أحمد حسين في مجموعة قصصية حملت عنوان "الوجه والعجيزة". صدرت ضمن منشورات الصوت الثقافية النصراوية عام 1979، أعقبها بملحمة شعرية ساحرة حملها عنوان الربّة الكنعانية القديمة "عنات" واعقبه بعنوان فرعي هو- "او سفر الخروج من الزمن الهجري". وكان ذلك عام 1983، أما في مجموعته القصصية الآسرة تلك فقد صال وجال في الذاكرة الفلسطينية الأدبية، متنقلاً بمخيال خصب نادر بين أروقتها ودهاليزها، وباعثًا في قصصه وسرّدياته ذاتها روح الابداع الذي لا يتوفّر إلا لمن عاش هواجسه طوال أيام وعيه ولياليه. فيما يتعلق بملحمته الشعرية المذكورة استعار قناع الاسطورة ليوجّه نقداته الواعية العميقة، لتصويب المسيرة الثقافية لأبناء شعبنا وكأنما هو يريد أن يقول لنا لقد كنّا أبناء ثقافات رحبة واسعة فأين نحن منها. وواضح من هذا أنه أراد بنقده هذا تصويب تلك المسيرة جريًا على نهج أبي الطيّب المتنبي- شاعر العرب بإجماع الأكثرية وهو "يا امة ضحكت من جهلها الأمم".

موجز القول: صحيح أن لكلّ من الأشقاء المشهورين مكانته ومكانه الذي تسنمه عن جدارة واستحقاق، زائد أمور جانبية تمثّلت في ظروف مناسبة كما رأى الشاعر المغربي المبدع منصف الوهايبي في مقالة جيدة جدًا عن الشاعر محمود درويش نشرها قبل فترة في صحفة القدس العربي. وامور أخرى تعلقت بالظرف السياسي ودار النشر التي اهتمت وأصدرت. غير أن الحقيقة يُفترض أن تُرى كالشمس حين تحجبها السحب الكثيفة، فالعالم يتّسع لكلّ مبدع حقيقي، ولا يتوقّف على عدد من الأسماء المحظوظة لهذا السبب أو ذاك، وهذا لا يعني بالحتم انها غير جديرة.

***

بقلم: ناجي ظاهر

الشواهد الباقية من آثار الفن الإسلامى فى إسبانيا وتركيا والمتاحف الأوروبية تظهر مدى ما تمتعت به الحضارة الإسلامية من عناصر إبداع مبهرة. ولا أدل على هذا من أن الأندلس وبغداد واسطنبول وسائر عواصم الخلافة الإسلامية ظلت لعدة قرون مقصد طلاب العلم والفن فى كل المجالات..وأن كل شهادات المستشرقين حتى الغلاة منهم أجمعت على أن المعمار الإسلامى تربع على قمة أشكال المعمار وقتذاك، وأن أروع شواهد الإبداع فى الزخارف الإسلامية كان هو الخط العربى..

أواخر مارس من عام 2020 شهد الاعتراف المتأخر جداً لمنظمة اليونسكو لإدراج الخط العربي على القائمة التمثيلية للتراث الثقافى غير المادى فى 16 دولة عربية...والحق أن هذا الاعتراف لم يحدث إلا تحت ضغط من المنظمة العربية للتربية ولثقافة والعلوم "الألسكو" بناءً على اقتراح تقدمت به المملكة العربية السعودية بهذا الشأن ..وكأنَّ آلاف أو قل ملايين الشواهد التراثية والآثار المعمارية والمخطوطات التاريخية المكتوبة بهذا الخط الذى يعد الأقدم والأهم والأجمل بين سائر الخطوط لم تكن تكفى أن تتخذ منظمة اليونسكو مثل هذه الخطوة مبكراً بشكل تلقائى ودون ضغوط!!

القلائل من المثقفين مَن يعرفون مدى عمق تأثير الفن الإسلامى على سائر أنواع الفن الغربي المعاصر، وكيف أن الكثيرين من رواد الحركة الفنية المعاصرة مثل ماتيس وبول كيلي ومونييه وديلاكرو وغيرهم تأثروا بالفن الإسلامى ودرسوا طرق الزخرفة والكتابة العربية.

هذا ليس كلامى وإنما شهادة حق نادراً ما تتلقاها من المنصفين من المستشرقين الأوروبيين أمثال هنرى لويرت مدير متحف اللوفر، والذى أكد أن الكثير من فنانى الغرب خاصةً فنانى القرن العشرين أمثال كاندينسكى ودوترمونت وميتشو وغيرهم مثّل لهم الفن الإسلامى وزخارفه وخطوطه الرائعة مدخلاً واسعاً لعمليات الابتكار وخلق الأفكار الإبداعية الجديدة . ويعترف "ماتيس" قائلاً: إن الإلهام يأتيه دائماً من الشرق وبالتحديد من الفن الإسلامى..كل هذا لا يضيف جديداً لحقيقة أن الفن الإسلامى وفى القلب منه الخط العربي مثَّل حجر الزاوية فى عمليات الترقى التى نالت أنواعاً ومراحل مختلفة من تطور الفنون العالمية  سواءً فى مجال المعمار أو الرسم أو الزخرفة أو التدوين. وأننا قصَّرنا كثيراً فى تأكيد هذه الحقيقة والبناء عليها..

خط خلده القرآن

الخط العربي له خصوصيات جعلته متفرداً بين سائر الخطوط فى العالم كله..

بدءاً من كونه واحداً من أقدم وأرسخ الخطوط جميعاً..وأن عمليات التطوير والتحديث المستمرة فى أنواعه أفرزت عدداً هائلاً من الخطوط العربية يصعب حصره حقاً..إننى لا أتحدث عن الخطوط الأساسية المعروفة والمتداولة بيننا اليوم فقط، بل والأنواع النادرة والمجهولة إلا لكبار الخطاطين المتخصصين ومنها القديم والحديث والإليكترونى، بحيث لا أكاد أبالغ إذا قلت إن عدد هذه الخطوط إذا تم حصره فسيصل إلى مئات الأنواع والأشكال المختلفة للخط العربي شديد التنوع والثراء ..

وصفة القِدم ليست السمة الوحيدة المميزة للخط العربي وإن كانت الأهم..إذ أتاحت له الفرصة لينصهر ويتطور باستمرار حتى يصل إلى ما وصل إليه الآن من روعة. والباحثون يعودون بالخط العربي إلى عهد نبى الله إسماعيل، وإن كان الذى وضع له القواعد الهندسية والأوصاف القياسية هو الوزير العباسي أبو على محمد بن مقلة والذى نبغ فى كتابة الخط الثلث وابتكر خط النسخ وأدخله فى الدواوين الحكومية. ثم جاء بعده على بن هلال المعروف بابن البواب ليهذب قواعد ابن مقله ويضيف عليها وينشئ مدرسة خاصة للخط استمرت وتطورت منذ العصر العباسى إلى اليوم..

الأنواع القديمة من الخط العربي تعددت واختلفت أسماؤها عما هو الآن ..كان هناك خط المتن والريحانى والرقاع والطومار والرياسي والمدور والقيروانى والأندلسي ، ويقال إن أصل هذه الخطوط كلها وأولها هو خط المسند، وهو خط أهل اليمن والذى عُرف فى الجاهلية واستمر قليلاً لما بعد الإسلام.. الآن استقرت الخطوط على أنواع رئيسية هى النسخ والرقعة والثلث والديوانى والفارسي والكوفى والطغرائى والخط الحر، وأنواع أخرى فرعية مستمدة فى أكثرها من تلك الخطوط نفسها، وكل يوم نسمع عن خط جديد من الخطوط الطباعية الإليكترونية تم ابتكاره، وهو الشكل الأحدث للخط العربي المعاصر.

ولاشك أن نزول الوحى، وتسجيل آيات القرآن الكريم ، ثم تطور عمليات النسخ والتدوين والكتابة فى كل عهود الإسلام جعل الخط العربي يتربع على قمة الأولوية والأهمية بين سائر أنواع الفنون الزخرفية قديماً وحتى اليوم..

هكذا تمتع الخط العربي بسمة أخرى جعلته يصل إلى أرفع المراتب وهى أنه الخط الذى تشرف بنقل رسالة السماء إلى أهل الأرض، فبات بهذا الشرف هو الخط الأسمى والأفضل لأنه يحوى فى طياته نوراً معنوياً داخلياً يضاف إلى ما فيه من جماليات شكلية ومظهرية جلية..

مأساة العصر..

فى أوروبا صرخات تعلو وترتفع تنادى بعودة استخدام القلم بعد طغيان استخدام شاشة اللمس فى الأيباد واللابتوب والجوالات..وكيف أن مثل تلك الرفاهية خلقت جيلاً من الأطفال الكسالى بل والجهلة فى استخدام المهارات اليدوية وعلى رأسها فنون الكتابة..

فى مصر والدول العربية لدينا مثل هذه المعاناة أيضاً .. نعم هناك مادة يتم تدريسها بصفوف التعليم الأساسي اسمها مادة الخط العربي، يتم فيها التركيز على خطى النسخ والرقعة.. لكن ماذا عن الثمرة؟

لو أنك حاولت إجراء مسح ميداني على سائر الطلاب فى مختلف مراحل التعليم ستكتشف أن الأغلبية منهم ذو خط سيئ للغاية إن كانوا يجيدون الكتابة أصلاً.. وأن أقل القليل يتمتعون بحسن الخط، فما السبب؟ إن السبب الواضح جداً هو أن مادة الخط العربي مادة بلا مدرسين، وأن مدرسي اللغة العربية القائمون بتدريس هذه المادة ليسوا مؤهلين لتدريسها بسبب سوء خط أكثرهم إلا القليل منهم ممن اهتموا بصقل موهبتهم بشكل فردى.. ولو أنك أردت تحسين خط أحد أبناءك اليوم فإلى أين ستتجه؟ هل هناك اهتمام حقيقي بتأصيل وتدريس الخط العربي بأنواعه بين الأطفال؟ هل توجد مدارس للخط العربي فى كل مدينة وقرية كما كان الأمر قديماً؟

إننا نملك كنزاً تراثياً عظيماً أهملناه أيما إهمال، بدلاً من أن نبحث كيفية استغلاله وتطويره.. وعلينا أن ندرك أن تمسكنا بمثل هذا الفن الأصيل، فن الخط العربى، من شأنه أن يصل بنا وبه إلى العالمية، بعد أن اعترف به العالم كتراث عالمى عريق..

عالمية فن الخط تبدأ من هنا

لو أنك استرجعت تترات المسلسلات والبرامج والأفلام من السبعينيات وحتى التسعينيات ستجدها مكتوبة يدوياً بيد الفنان وشيخ الخطاطين المصريين خضير البورسعيدى، ولدينا فى مصر عشرات أمثاله، لكنهم مجهولون لأنهم بعيدون عن دائرة الإعلام..

وإذا بحثت اليوم عن الزخرفة الإسلامية فى معمارنا الشرقى الحديث ستكتشف أنها مهملة إلى أبعد الحدود، وأن الفنون الغربية طغت على المظهر العام للمعمار عندنا بحيث لا يمكنك أن تجد فيه الطابع الشرقى الإسلامى إلا نادراً.. والأمر لا يقتصر على هذا، بل إن الغالبية العظمى من نخبة الفنانين العرب يحتقرون الخط العربي ولا يعترفون به كنوع من الفنون الإبداعية الجميلة أصلاً، ويرون أن الغرب هو مصدر الفن العصري الآن، وأن السبيل للعالمية يبدأ من تقليدهم لفنون الغرب، لا من التمسك بالفنون الشرقية والإسلامية وتطويرها إلى حد المنافسة مع الغرب بما نبرع فيه منذ قديم الأزل!

الخط العربي هو فن من أهم الفنون الزخرفية الإسلامية لا يحتاج منا إلى تزكية ليصبح فناً عالمياً، بل هو بالفعل فن عالمى باعتراف كبار فنانى الغرب.. والطريق إلى تأصيل هذه الحقيقة يبدأ من إزالة غشاوة التبعية للغرب والتماهى معه، لندرك أن لدينا قدرات فنية موروثة أهملناها طويلاً وآن الأوان لإعادة إحيائها وتطويرها ووضعها على خارطة المنافسة العالمية .

***

عبد السلام فاروق

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصدقائه وطلّابه أن يسمّوه

عندما نشرت مجموعاتي الثّلاثة الأولى وكانت تحتوي كلّ واحدة منها على ثلاثة مصاريع : عربية فصحى، تونسية فصيحة وفرنسية لفتت طريقة النّشر هذه انتباه بعض الأصدقاء الشّعراء وسألوني  لماذا لم أنشر كلّ نوع لغوي على حدة .

فوضّحت لهم الأمر  بأنّي قصدت هذه الطّريقة وفاء واعتزازا بتونس المتعدّدة المناطق  والألسنة  وبمنشئي حيث لغتنا الأمّ اي الدّارجة المحكية  منذ الولادة وحتّى قبلها فالجنين في بطن أمّه يستمع إلى كلماتها وما يدور حوله .

ثمّ نحن نتكلّم اللغة الدّارجة في أوساطنا العائلية والإجتماعية والمدنية طوال أعمارنا .فهل منّا من ترك هذه اللغة وتكلّم مع أمّه أو أبيه أو أصدقائه لغة غيرها ؟

وأشير هنا إلى أنّ المؤدّب الذي عرفنا على يديه اللغة العربية الفصحى كان أيضا يتكلّم قليلا الفرنسية وكانت عديد الألفاظ والعبارات الفرنسية متداولة في أوساطنا العائلية وهي طبعا مخلّفات المستعمر.

ثمّ تأتي مرحلة التّعليم وفي مدارسنا نبدأ بتعلّم لغة الأدب وهي العربية الفصحى إلى أن نبلغ مرحلة معيّنة وندأب على تناول اللغات الحيّة وأوّلها اللغو الفرنسية وبعدها الأنغليزية وغيرها.

إذن هذه الألسن الثلاثة كانت الأبجديات التي اعتمدناها في حياتنا ومن هنا جاءت قناعتي بأن أنشر كتبي بهذه الطّريقة.

وفي هذا الخضمّ علمت عن طريق الأستاذ سوف عبيد أنّ ما من أحد نشر أشعاره بثلاثة أقلام سوى أستاذه صالح الڨرمادي الذي نشر باللغتين العربية والفرنسية وكان يطعّم نصوصه من حين لآخر ويقحم ألفاظا تونسية بحتة يوردها في النّصوص العربية والفرنسية على حدّ  سواء وحدّثني عن مجموعة اللحمة الحيّة التي تحتوي على جزءين  جزء عربي وجزء فرنسي.

ومن هنا بدأت أبحث عن هذا الشّاعر الذي وجدتني أقتفي أثره دون أن أعرفه.

- يتبع –

***

زهرة الحواشي.تونس

 

في متاهات التشظي مثل بلورة مكسورة ، أسافر بين البيادق، كل منها عبارة عن قطعة من فكرة تائهة، حيث الهمسات جوفاء، والفرسان قطعان من الذكريات، والدروع صدى الرغبات غير المعلنة.

الزمن، ثعبان يلتف حول نفسه، يزحف عبر المربعات، أسود وأبيض، لكنه في الحقيقة ليس أياً منهما، فهنا اللون هو وهم محموم، والسماء المسائية مخيطة من أحلام المهندسين الذين لا ينامون.

الكلمات التي رقصت ذات وليمة على شفاه الشعراء العرب البرجوازيين الذين قبلوا بالفراغ، والذين تجرأوا على غمس أقلامهم في محبرة الظلام، ليجدوا أنفسهم مبتلعين بنظرة الهاوية السحيقة.

ينتصب الحصن القديم شامخًا، كقلعة من اليقينيات ، أحجاره حفنة من رميم عظام ضائعة، وملاطه غبار الإيمان المنهار.

ومع ذلك، فإن ظل الزعيم العربي هو الذي يلوح في الأفق، ليس كحاكم بل كدمية، دمية في يدي القدر، وقلادته هالة من الأشواك والدموع، ونياشينه وعود مكسورة.

عند الحد الفاصل ، يتدفق نهر من الحبر، تحمل تياراته حطام الفكر - جمل غير مكتملة، واستعارات محطمة، ورماد أفكار كانت رائعة ذات تاريخ.

وهناك، طاف على هذا النهر، بيدق واحد لا يتحرك، يحدق في الهاوية الممتدة إلى ما وراء الحواف ، نظرته سؤال، وصمته صرخة. ولكن لا جواب يتردد، فقط ضحكة الفراغ القاسي واللانهائي.

تتحرك البيادق، ولكن ليس بأيدي الرجال، ولا بأهواء الآلهة، ولكن بنسمة الأحلام - تلك الهبَّات الروحانية التي ترفع غبار الأفكار وتنشرها عبر الرقعة الوجودية.

تتم الحركة - يقفز الفارس في دوامة من الجنون، ويهبط في زاوية يتقارب فيها الزمان والمكان،

وحيث يركع المنطق، ويصبح الهواء مذاقه صدأً.

في الخلفية، القمر، العين التي ترى كل شيء، تراقب اللعبة تتكشف، ضوءه يلقي بظلال طويلة حادة،

تقسم الرقعة إلى مليون شظية، كل منها واقع مواز، وكل منها جزء من كل محطم.

اللعبة لا نهاية لها، واللاعبون غير مرئيين، وتحركاتهم خلف الخريطة تحددها نزوات الكون الذي لا يبالي بالعقل، الكون الذي يسخر من فكرة البداية أو النهاية، الذي يسخر من مفهوم النصر، لأنه في هذه اللعبة لا يوجد فائزون، فقط كراكيز تتحرك حتى تجبر على التوقف عن الحركة.

وهكذا يظل المشهد أفقا من الشفق الأرجواني الدائم، حيث تغرب الشمس في الشرق، وتشرق من قلب الهاوية، وحيث النجوم ليست بقع ضوء، بل دموع الآلهة المنسيّة، وحيث تحمل الريح همسات أولئك الذين تجرأوا على الحلم فاستهلكتهم أحلامهم.

يسقط الزعيم العربي، لكن سقوطه هو البداية وليس النهاية، ففي هذا العالم الدورة أبدية، والقطع التي تنهار الواحدة تلو الأخرى تولد من جديد فقط، وتخرج من رماد تدميرها الذاتي.

منتصب القامة .. أقف في بطن الحافة، متفرجًا على هذا الرقص الكوني، وشاهدًا على القدر والفوضى، وأتساءل - أين أجد نفسي في هذا التصميم المجنون؟ هل أنا عقل اللاعب، أم مجرد كراكوز؟ أو ربما أنا المشهد نفسه، المسرح الذي تتكشف فيه هذه الدراما الدموية ، والذي يرسم عليه جنون الكون.

لكن هذه أفكار عابرة، ضائعة في دوامة الدم والدم والدم، في مد وجزر اللعبة، في الرقص الذي لا نهاية له للكراكيز، ولم يتبق لي سوى صدى كلمة بعيدة، وصوت حلم ينكسر على ضفة الحياة اليقظة.

هكذا أبتعد، لكن المشهد يبقى، لغزًا ملفوفًا بالظلال، لغزًا بلا حل، لغزًا همست به الرياح -منذ أن جاء الهمج .. رقعة من الأحلام المشوهة، حيث اللعبة أبدية، والنتيجة لا تزال غير معروفة إلى الأبد.

***

نص سردي

بقلم: عبده حقي

تعاني الامة العراقية اليوم من الامية بعد ان كانت مصدرا للمعرفة وهي امة الكتابة  ليس بمفهومها الأبجدي  فحسب، ولكن من جهة الجهل  بآليات العلم وطرق التحصيل، وتفعيل آثاره على الفرد والمجتمع،بسبب التحولات السياسية التي حدثت خلال العقود الاخيرة،والابتعاد عن الكفاءات والعقول الكبيرة والنيرة التي لم تحصل على المكان الذي يستوجب ان يكونوا فيها وحسب اختصاصتهم، فيوجب بنا مراجعة ما تبعثر من الأوراق، وإعادة الاعتبار لهذه العقول والخبرات بكل اطيافها ومكوناتها وهم اهل لحمل الامانة و أمة القراءة والعلم والمعرفة، أمة المجد، أمة الإبداع والابتكار، واستثمارهم للعلم والمعرفة بدل تخريبهم وانزوا هم في الظلمة بدل نشر المعرفة ، فالعقل في حاجة اليوم إلى حمايته من جهة الوجود والعدم كما هو مصرح به في كل مصادر المعرفة .

من خلال المتابعة نجد اليوم إن مفتاح تطوّر الشعوب وتقدّمها مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقراءة، فهي التي تفتح بصيرة الأمم نحو التطلع والمنافسة والتقدم و الأمة التي لا تقرأ تموت قبل أوانها وتفقد مشعل المعرفة .

 ماتت  الكثير من الامم منذ أن تربعت على عرش الفتن، ماتت منذ أن تحول الكتاب إلى عدو وباتت الرفوف تزين به، لتنوب عنه وسائل التواصل الاجتماعي  التي قتلت ولاتزال  كل أشكال  البحث العلمي.

ان القراء تساعد على تنمية القدرة والتحليل والنقد من خلال توظيف الفرد مهارة التفكير الناقد، وذلك من خلال ما يلاحظه من التفاصيل التي يقرأها ويحدد فيما إذا كانت قد كُتبت  و و صفت بطريقة جيدة أم لا، وأن يحدد أثناء قراءته لموضوع ما إذا ما كانت مكتوبة بشكل جيد أم لا، وينتقد، والجدير بالذكر أن امتلاك المرء مهارة التفكير الناقد ضروري في مختلف جوانب الحياة الخاصة به، ومما لاشك فيه إن إنجاز الشعوب وبناء حضارتهم وتاريخهم العريق، والذي جعلهم في حقبة من الزمن.. مراكز فكرية، وثقافية وتجارية واقتصادية وسياسية وعملية ونجدها ان وجودها كانت بعد القراءة! الدقيقة والسليمة في النقل .

 ان القراءة تمنح الفرصة للأفراد لاكتساب المعرفة والمعلومات من خلال قراءة الكتب والمقالات والصحف والروايات، ليتعرف الأفراد على أفكار جديدة وثقافات مختلفة ومجالات معرفية متنوعة، تسهم في توسيع آفاقهم وتطوير قدراتهم العقلية والفكرية. وقد يكون القارئ عنصراً فاعلاً في تطوير المجتمع وارتقاء مستواه المعرفي والحضاري ويترك ذلك الأثر الذي تتركه القراءة في حياة كل فرد في المجتمع  وتزيد عملياً من مستوى إنتاجية الفرد وتفاعله، وتعاطفه ووعيه، وهذا سينعكس حتماً على المجتمع بقدرته على التفاعل الإيجابي، ونبذ التطرف والانحراف، فالقراءة أداة حقيقية لتنمية الفرد والمجتمع معاً

تمنح القراءة للمرء القدرة على التنقل بين الماضي والحاضر وتجعله يتطلع نحو المستقبل وآماله، كما تمكن القارئ من العيش في مختلف العصور من خلال قراءته لقصة أو رواية ما وتمنح القراءة المرء المعرفة حول أحوال الأمم السابقة، كما تمنحه القدرة على التفريق بين طرق الخير وطريق الشر

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

مركز الوعي الفكري للدراسات والبحوث

عندما يخط القلم الكلمات، تلوّنا لريشة العبارات فتصنع منها لوحة قد تكون أبلغ من ذات الكلمات، فتكون أعمق تأثيرا وأوسع انتشارا من دوي الرصاص، لأنها صادرة عن من كان دائما متوثبا لنصرة قضيا وطنه وتأبى نفسه أن يكون يوما عدوا لأهله، قاتلا شعبه،خائنا لأمته.

إنها مجرد بضع رسومات كاريكاتيريةـ لا تشير إلى أحد ولا تخص بالذكر أي مسؤول أو تسمي وطناـ كانت كافية أن تكون مجرد وسيلة تنفيس شاب بعفوية تامة عن ضيقه بوضع يراه لا يحتمل فعبر عنه بروح الفكاهة المألوفة، إنه وضع يراه ثقيلا لا يتحمل عبأه سوى البسطاء الذين سبق أن صمتوا عندما هب وطنهم لنجدة " الأشقاء" شرقا وغربا وجنوبا وقبلوا مجاراة أولي الأمر لما قدموا المساعدات على خصاصة شديدة منهم،واستقبلوا بين ظهرانيهم " ضيوفا " الذي أصبح على وشك أن يحرم من أساسيات الحياة "الكريمة " إنهم بالفعل أصبحوا يعانون من نقص الخدمات وكل الوقائع كأنها تشير إلى أن التاريخ بدأ يعيد نفسه بعد مروربضع سنوات، فقط.

في ظروف الشدة والضيق لابد من وجود متنفس يقي البلاد خطر الغليان والانفجار، فالشباب المتحمس غالبا أقل صبرا لأنهم أكثر حماسة في وطنهم وأشد غيرة على بلدهم، يريدونها الجنة في غمضة عين، يريدون الزهو بها، وارتداء ثوب الفخر بالانتماء إليها، وفي مثل هذا الحال لابد من يد تحنو عليهم لتسمو بالمشاعر وفكر مستنير يقوّم السلوك، ورأي سديد لتحديد معالم الطريق الصحيح، لابد من وجود قدوة وأسوة حسنة تنير بسراجها الطريق أمامهم، ولكن عندما تفقد البلاد سريعا تأثير القوة الناعمة التي طالما كانت لسنوات طويلة مضت هي المؤثرفي مبادئ المجتمع والموجهة لقيمه فإنها بذلك تتنازل عن طواعية أمام حتمية السقوط الحر في أوحال القمع والقهو وقطع الألسنة.ليس الفنان أشرف عمر الجباخنجي أقل وطنية من آخرين ملؤا الدجى بالصياح، لم نسمعه يتحدث ولم نصغي يوما لرأيه المعارض في قضية ما إنه هادئ الطبع، قليل الكلام، هو صيدلي، مترجم، موسيقي، فنان .. متعدد المواهب وليس أبدا ما نُسب إليه ظلما، لقد جرى اتهامه بجرم لا يوجه عادة إلا بعد فترة طويلة من المراقبة والمطاردة والكر والفر، تهمة ليست في محلها تماما ولا تُصدق لأنه ليس له فيها سوابق ولم يكن يوما محل شبهة، وببساطة لم يجد عناصر الأمن في لباسهم القتالي والمدججين بالسلاح  !!!بعد تفتيش منزله المتواضع سوي آلات موسيقية، لم تكن هناك مقاومة أو حتى مواجهة لأنه صاحب ريشة والريشة ليست أبداكالبندقية، فجده الفنان التشكيلي والمؤرخ محمد صدقي الجباخنجي من أبرزأساتذة تاريخ الفن المعاصر في مصر الذي أثرى المكتبة المصرية بعشرات المؤلفات، وأبيه عمر صدقي الجباخنجي الذي تقاعد مديرا عاما بجريدة الأخبار المصرية وعمه على محمد صدقي الجباخنجي الذي عمل طويلا بالمركز الإعلامي المصري التابع للهيئة العامة للاستعلامات بالجزائر، والمسؤول الإعلامي رئيس المكتب الصحفي المتقاعد بعد 27 سنة عمل بسفارة دولة قطر في الجزائر، إن أشرف فنان وصحفي وإعلامي بالوراثة وآخرون كثر استقى منهم أشرف الانتشاء بحب الوطن والتمتع بلحظات الدفاع عن مصالحه، فهو من عائلة إعلامية عريقة وشريفة خدمت مصالح مصر لفترات طويلة، ولا يجوز أبدا معاملة أحد أبنائها بمثل هذه المعاملة المهينة ثم توجيه كيلا من الاتهامات الغريبة الباطلة حتى لا نقول المضحكة .

لقد عبرت بعض المواقع الصهيونية عن شماتتها في الشاب المصري المعتقل، وكأن لسان حالها يرى في اعتقاله المشين تأكيد لانتقادها وضع حقوق الإنسان السيئ وضيق هامش حرية التعبير في مصر، بل إن الأمر أكثر من ذلك لقد أتاح الاعتقال المشين الفرصة لردود فعل الكيان المحتل للمسارعة إلى انتقاد الديمقراطية والإساءة البليغة إلى مصر بصوت عال يكفي أن يسمعه بلينكين خلال زياراته المكوكية، لقد خدمنا في غفلة عن الوعي والتبصر الكيان المحتل ليقزّم حالنا ويجعلنا أضحوكة وأقل شأنا من أن نتضامن مع الفلسطينيين والشعوب المغلوبة على أمرها .

لقد تضامن الرأي العام الداخلي والخارجي في المطالبة بإلحاح إطلاق سراح أشرف عمر فورا وإعادة الاعتبار له وسوف يكون هذا محل تقدير عموم الشعب. لابد من إعادة مصر واحة للديمقراطية ليطمئن شعبها ويرتاح الجميع. لابد من ترسيخ دولة الحق والقانون فبدنوهما لا حديث يليق عن وجود تنمية في غياب الكرامة والشعور بعزة الأوطان، فقهر الرجال وإذلال الشباب ظلما وطغيانا مصيبة على الأوطان، فلا شيء يضمن لنا أن يكون لدينا يوما من يدافع عنا.. أو نجدمن يقبل عن رضا أن يضحي بروحه.

***

صبحة بغورة

........................

* كاريكاتير بريشة راغب علي الجباخنجي

الى صديقي يونس!

لاعبوهم سبعًا وعلّموهم سبعًا وصاحبوهم سبعًا!

هل تتذكر المرحوم سعيد؟ قُتل فيما بعد في الحرب مع إيران، عرفتُ ذلك لاحقا، وقتها كنا، أولاد المحلة، في السبعينات نجلس في الشرفة، أو حديقة بيتنا الصغيرة، كان صاحبنا سعيد اسمًا على مسمّى، يمزح كثيرًا ولا يكف عن السخرية، نناديه باسمه:

- سعيد!

يجيبنا مبتسمًا: "يا ريت"، يقصد يا ليت هو سعيد حقًّا في حياته. وكان والدي يكن له حبًّا جمًّا ويتعامل معه كما لو أنه ابنه. كان سعيد مربوعًا مفتول العضلات، مائلاً إلى السمرة، مُجعّد الشعر قليلاً، فيه "رِس عبوديه" كما يُقال، ما أقبحه من قول! كنا نناديه "ابو سمره!"، وكانت جارتنا الطيبة العجوزة المحبوبة بيضاء البشرة أم عبد الأمير الشيخلي تقول له عندما تراه عندنا: "اشلونك؟ "دَيّوووس"، ذاك اليوم ليش ما درت لي بال لما طلبت منك تروح تشتري لي جكاير؟".

يُنكّسُ رأسه خجلاً منها متمتمًا بصوتٍ غير مسموع:

- سامحيني حَجّيه أم أمير، والله ما سمعتك! آني خادمك خالتي، خاله، أي شي تحتاجين آني بخدمتك، حاضر ببطن عيني، تدللين خاله أم أمير!

قالت له مبتسمةً وهي تنظرإليه بحنان الأم إلى ابنها:

- عفيه وليدي، اشلون لسان حلو عنده! عسل! سلّم لي على أمّك.

تصور! إننا العراقيون نتفوه بكلمات مثل: "ديّووس" التركية ومرادفتها ديّوث، و"قوّاد" بكل أريحية وودية! فظيييع!

سَأل سعيد والدي ذات مرة ممعنًا النظر إليه:

- عمو، كنت تدخن؟

- إي، نعم بس تركته لأنه مضر جدًا

- عمو والشرب؟ كنت تشرب في الشباب؟

- لا، في الحقيقة مرة واحدة ولم أستذوق البيرة لأنها مرّة، لا أفهم لماذا يحبونها،

أجاب والدي بفخر واعتزاز

- طيب عمو كنت تدور قح...........ا...ب؟

سأله سعيد متلفتًا هنا وهناك كأنه يستعد للهرب إذا تعرض للضرب او الهجوم!

- لَكْ، أسكت، عيب،

قال والدي محاولاً السيطرة على ابتسامة أصرّت أن تبقى مرتسمةً على شفتيه، بينما غرق الجميع في الضحك.

- طيب، طيب عمو جاوبني بصراحه أي حياة هذه؟ هذه جحيم !

وواصل الجميع ضحكهم، لكنه في حقيقة الأمر استدرك قائلاً:

- عمو هذا كلّه مزاح، بربّي إحنه طول الوقت نحلف براسك ونقول: يا ريت نصير مثلك، أنت كلك اخلاق وشهامه!

يونس!

أعتقد أكتفي بهذا القدر، على أن أكتب لك مرة ثانية رسالة بغير مقدمات مهلوسة ولا دوخة راس، وكما يبدو لي أنها مقبولة ومعقولة بفضل اختصاراتي وتعديلاتي، وغير مصدّعة كما تصورت، أليس كذلك يا صاحبي؟!

طبعاً يعجبني أن أحدثك كما طلبتَ مني عن الحياة هنا، مثلاً عن بعض الاحتفالات بعيد الميلاد المجيد والسنة الجديدة وأعياد ميلادهم الشخصيه حيث يتحدثون عن كل الأمور بحرية للمزاح، ويوزعون الهدايا، وعن هدوئهم  والمسابح وتحميم الأطفال بدون ان تحترق عيونهم بالصابون كما هو الحال عندنا عندما كنا صغارًا، هل تتذكر كم مرة بكيت في الحمّام من الرغوة الحارقة وكيف كانت أمهاتنا يفركن وجوهنا ويؤنبننا أو قد يضربننا إذا كن متعبات كالعادة وأمزجتهن رمادية "غير فستقية"! وعموما كيف تتعامل الأمهات هنا مع أبنائهن بالطرق الجميلة الهادئة مثل الغناء والضحك والتحادث معهم وتربيتهن لهم منذ صغرهم، أو منذ "نعومة أظفارهم" كما علّمنا مدرس اللغة العربية. وسامحني مرةً أخرى على الأسلوب الفوضوي والمزاج الانفعالي والانتقالات رغم اني شطبت وعدلت وشذبت الكثير منها.

بلى، لا بدّ لي أن احدثك في المستقبل عن موضوعاتٍ خطيرةٍ يواجهُها الأجانب هنا وبالذات "ربعنا" من العرب والشرقيين مثل تربية الأطفال، الفرق بين الأولاد والبنات والتعليم الجنسي في المدارس والصور العارية والأفلام الإباحية ومحفزات الجنس متوفرة أينما تذهب ومن الصعب كبح غرائز الشباب.

وعن انتقال الأبناء من بيوتهم عند بلوغهم 18 سنه وهو سن الرشد، ويسكنون في مساكن الشباب، ويستلمون منحةً شهريةً، ومعاملة المرأة، الرجل والمرأة هنا يتقاسمان شغل البيت مناصفة.

أما ماهي الحرية الجنسية؟ "أسكتْ وخلّها"، حرية لا يقدر عليها إلا الذين نموا وترعرعوا عليها هنا منذ الصغر، والأجيال الجديدة لها ثقافة خاصة بها، هم يقررون أغلب أمورهم الشخصية والآباء لا يربونهم كما تربوا على الأجداد كما هو الحال عندنا. من منا لم يقرأ: "لاعبوهم سبعًا وعلّموهم سبعًا وصاحبوهم سبعًا"، وقولاً آخرَ كنا نقرأه  في الكتب المدرسية: "لا تربوا أولادكم كما ربّاكم أباؤكم فإنهم خُلقوا لـزمان غير زمانكم"، لكن هذا كلام نظري وبس، نظريًا كل شي عندنا تمام لكن العبرة بالتطبيق! المشكلة أن الغربيين يبالغون في إعطاء الحرية للأطفال بينما يضيّق الشرقأوسطيون الخناقَ عليهم، يريدون حلاً وسطًا في تربية الأجيال الجديدة.

أعتقد أن هذه القضايا على غاية الأهمية لا يمكننا التطور والنمو بدون فتح النقاش حولها وحسمها والحديث عنها بلا محرمات "لا حياء في الدين"، وإلا سنبقى نراوح في أماكننا إن لم نرجع إلى الوراء وعندها فعلاً لازم "نطمُّ نفسنا طمًّا" واسْلَيمَه التِطُمنا! وسامحني يا أخي يونس على هذه الخاتمة المتشائمه وما ذلك إلا حُبًّا بكم.

وتحياتي الى الجميع!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

حرارة الصيف الملتهبة بعد الزوال، تدفع جميع المخلوقات إلى البحث عن بقعة ظل، الكثير من الطيور تهدأ عن الطيران، وتنزوي في أعشاشها، الأولاد الكبار يقصدون البركة الكبيرة من النهر، ها هم الآن يقفزون من أعلى الجرف الذي يطل على وسط البركة، منهم من يقفز وكله ثقة بأنه يتقن فن العَوم، ومنهم من يقفز ليأتي وسط البركة وهو يقلد أقرانه ولا علم له بالفخ من داخل قعر البركة... حيث يتدفق الماء على شكل تيار يجذب كل من اقترب منه، ليجد نفسه أسفل الجرف تحت الماء، المشكلة عندما تعتقد أن فن العوم  يعتمد على العوم ضد التيار، وهو يستحوذ على كل جهدك وطاقتك، وفي الأخير تجد نفسك منهزما أمامه دون قوة منك، حينها يفعل بك ما يريد...عليك أن تساير التيار وحاول أن تتسلل منه شيئا فشيئا، حتى تتخلص منه بالكامل أليس هذا هو فن العوم؟ اليس هذا ما تقبل عليه الأسماك وهي من أوحت لنا بفكرة العوم؟

عندما تقترب من الأولاد تنزعج من ضجيجهم وأصواتهم المتعالية، وهم يقفزون في الماء واحدا تلوى الآخر، ليختفوا تحته لتوانٍ وبعدها يخرجون منه، وأجسادهم تتقاطر ماء، وهم في جري في اتجاه المسلك الرملي الذي يأخذهم الى أعلى الجرف ليكرروا القفز مرة تلوى الأخرى... أي عوم هذا وأي سباحة هذه؟ من الأولى أن يصاحبوا اتجاه جريان الماء لمسافة قصيرة أو طويلة... التحدي بالنسبة لهم هو التمرُّن على النزول إلى قعر البركة والبقاء في الأسفل والصعود بعد أن تكاد ينقطع النَّفَس... وحتى تكون مقنعا عليك أن تصحب معك بين أصابعك جزءا من تراب قعر البركة...

فأحيانا يلقوا بحجرة ملساء تحت الماء ويتبارون عن الذي له القدرة بأن يسحبها إلى الأعلى، وبهذا فهم في تمرُّنٍ مستمر على اكتساب مهارة وخبرة العوم تحت الماء، وبهذه الطريقة ينقذون بعضهم في حالة إن جرفه التيار والقى في مخبأ تحت الجرف، وإن حدث ذلك في غفلة منهم فتلك هي الكارثة... كما أن طريقتهم هذه في العوم تجعلهم أكثر خبرة في النزول إلى جوف بئر ممتلئ بالماء، لسحب ما قد يسقط بداخله... البئر حفرة مليئة بالماء، التجديف لا يفيد صاحبه في شيء وهو في حفرة لا يتجاوز قطرها مترين أو أكثر، مهارته تكمن في القدرة على النزول إلى آخر نقطة تحت الماء والصعود بعدها الى الأعلى... عندما يملُّ الأولاد القفر يتهيؤون لمغادرة المكان في اتجاه القصبة مرورا بجوف الواحة، ولكن قبل أن يصلوا ظلال النخيل والأشجار، يحاصرهم لهب الرمال لمسافة قصيرة، فمن انفلتت نعاله من أرجله وهم في سباق فيما بينهم، فقد يقع في فخ لهب الرمال ولا يخرج من الفخ إلا بمشقة...

عند شروق الشمس أو قبل غروبها، تصادف جموع العائدين من الحقول ودوابهم محملة بالفصَّة، لإطعام أبقارهم ونعاجهم... نسيم الصباح الباكر أيام الصيف، يعدك بيوم معتدل الحرارة، وانه سيلازمك طيلة النهار، لكن سرعان ما يخلف وعده ويختفي، منهزما أما لسعات الشمس الحارقة،  التي تتراجع إلى الوراء قبل الغروب وتفسح المجال أمامه مرة أخرى ليوفي بوعده، منظر غروب شمس الصيف وهي تنغرس من وراء الرمال، منظر تشدُّ له الرحال،  وأنت من  فوق الربوة العالية أو من فوق أحد أسطح القصبة تراقب حركتها،  فعندما ينغرز النصف من قرصها الذهبي وراء الرمال، تحجب بعض زعانف جريد النخيل النصف المتبقي الذي لا يمكث إلا قليل من الوقت ليظهر لك الشفق في الأفق، وهو منظر في غاية الروعة، يثير بدواخلك الكثير من الأسئلة، يا ترى ما بعد هذا الأفق؟ وأنت في حنين وانجذاب نفسي لا مثيل له نحو الشمس التي تركتك وحيدا واختفت، ولا يمكنك اللحاق بها، تشعر كأنها راحت وأخذت معها شيئا ما من وجدانك...أنت منجذب نحوها بشكل لا مثيل له، لا شيء يلفت نظرك ويخرجك من هذه الحالة، إلا الصَّدع بآذان المغرب... حينها تفهم بأن الإنسان في القدم لم ينشدُّ وينجذبُ عبثا نحو الشمس والكواكب ويجعلها موضع اعتقاد وعبادة، فالوضع الذي كان عليه، قد تشكل لديه من تلقاء ما أحدثته الشمس في نفسه حالة الشروق وحالة الغروب، وهي حالة نفهم منها طبيعة حركة الوجود وتسبيحه.

ما بعد الزوال تتحول الدروب والأزقة الضيقة في مختلف قصبات الواحة وقصورها، إلى ملجأ مأقة يقي ساكنيه حرَّ الظهيرة، الجالسين مصطفين من كل جانب على مختلف المِصْطَبَّات (الدُّكَّانُ) هنا وهناك، وخاصة المصطبَّة القريبة من باب القصة، بكونها نقطة تجمُّع والتقاء مختلف الدروب الرئيسة... الجالسين في حالة استرخاء، كأنهم بباب مكيف هوائي كبير الحجم، إذ تصلهم نسمات هواء خفيف وبارد، وقد عملت مختلف الدروب على تكييفه من حالة الحرِّ إلى حالة من البرودة، الجالسين وخاصة الكبار في السن، يستعينون على تكييف الهواء بمختلف مراويحهم، المصنوعة من سعف النخيل...

مختلف هذه الجلسات فرصة ثمينة لمن يهوى الحكاية والسرد، وأصحاب هذه الهواية معروفين بين القوم، وهم رأس المجلس، خاصة عند الشيوخ والكبار في السن... ها هو «حمّان" فرح بنفسه وقد اختار مكانا رئيسيا للجلوس بين الجالين؛ وضع رجله اليمنى على اليسرى؛ امتدت يده إلى (شكارته)1 أخرج غليونه النحيل المصنوع من قصب سميك وضع التبغ في جوف الغليون ودكه بسبابته جيدا. أشعل فيه النار وهو يمص دخان التبغ الذي يحترق وقد عمت رائحته المكان، وفي الوقت ذاته يعمل على غلق السرة المصنوعة من الجلدي المليئة بالتبغ، وهو على يقين بأنه سيعود إليها مرة ثانية، عندما فرغ الغليون من التبغ أضاف عليه، وقربه الى شفتيه ومصه مصا حتى ظهرت فراغات شدقيه، على شكل حفرتين من كل جانب، فهو لم تعد له أدراس، وعندما يضحك يظهر عليه بأنه فقد أحد أسنانه الأمامية وتظهر أخريات تطل بلون يمتزج فيه البياض بالصفرة والسواد...ضحكة حمَّان ضحكة جميلة...عندما ينطلق في الحكي والسرد... يتوقف فجأة وإذا بالجالسين تتعالى ضحكاتهم وقهقهاهم من هذا الجانب أو ذاك الجانب... حمّان يتحدث عن بطولاته التي لا تنتهي... وإن عارضته في الحكي قد يحولك موضوعا لحكايته...

في المساء بعد صلاة العصر بقليل، تبدوا لك مختلف المِصْطَبَّات فارغة، وفي هذا الوقت بالذات تجد الأولاد يدورون من تحت جذوع النخيل، يلتقطون مختلف البلح المتعدد الألوان الأخضر الأحمر والأصفر وقد تساقط على الأرض، فمن عادة النخيل أن يستغني على القليل من البلح ليفسح المجال أمام بلح آخر لينضج ويتحوَّل إلى رطب تمار... الأولاد كل واحد منهم يسعى ليملأ قفته الصغيرة من البلح...المحظوظ منهم في الأيام الأخيرة من الصيف، يعثر على أو تمرة نضجت، فأهل الواحة يعتقدون  أنك عندما تكون من الأولين الذين يتذوقون تمر الموسم، قد تتحقق الأمنية التي تتمناها وأنت تمص تمرة الموسم الجديد...بعد الغروب يعود الأولاد بقففهم الصغيرة، لتوضع في الشمس وبعد أن تجف تكون علفا للنِّعاج.  

قيل قديمًا:

لا يعشقُ الصيفَ إلاّ من بهِ خَللٌ

أمَّا الذي يهوى الشتاءَ فـهـيمُ

أهل الواحة لا يميلون لمحبة الصيف، ولكنهم على وعي بأن وراء حرارة الصيف يكمن السرُّ في أن ننضج مختلف التمور، وقد اختار النخيل بأن تستوي تماره منذ القدم في حرارة الصيف بالأخص حرارة الصحراء، وهم بهذا يتحملون الحر، وقد بذلوا كلَّ جهدهم في تطويعه الحرِّ والتكيف معه...لكن الحرُّ بانعدام الماء أو قِلته يستعصي عن أي شكل من أشكال تطويعه والتكيف معه...لا فائدة في تطويع الحرِّ دون ماء...وفي هذه الحال فأهل الواحة في مقدمة من يمقتون الصيف وحرَّه... لأنه لا يأتي بالتمار...

يتبع...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

....................

1- الشْكارة: وعاء جلدي لنقل وخزن الأشياء تصنع من جلد ناعم، غالبا من جلد الضأن، ارتبطت قديما بحمل المال والنقود، ومختلف المستلزمات الضرورية الخفيفة جدا مثل المنْقاش لإزالة الشوكة إذا دخلت في الرجل... كلمة شكارة قريبة فعل "شكر" وهي تدل على الشكر والخير والنعمة والبركة.

تلعب الثقافة العامة التي تعني 'كلُّ ما يضيء العقل، ويهذّب الذوق، وينمّي موهبة النقد، واشتقاق كلمة ثقافة من الثِّقاف يكون معناها الاطلاع الواسع في مختلف فروع المعرفة، والشخص ذو الاطلاع الواسع يُعرَّف على أنّه شخصٌ مثقّف، وتُعرّف الثقافة أيضًا -اصطلاحاً- على أنّها نظام يتكوّن من مجموعة من المعتقدات، والإجراءات، والمعارف، والسلوكيّات ' و تستعمل في العصر الحديث للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي والجماعات والثقافة ليست مجموعة من روح ممارستها العقائد والقيم واللغة والمبادئ والمقدسات والقوانين والأفكار فحسب؛ ولكنها نظرية في السلوك ترسم طابع الشعوب وتغني التجارب.

تشمل القيم في البيئة التي خلقها الانسان؛ بما فيها المنتجات المادية التي تنتقل من جيل إلى جيل، وتتضمن الأنماط الظاهرة والباطنة للسلوك المكتسب؛ عن طريق الرموز التي تتكون في مجتمع معين من علوم ومعتقدات وفنون وقيم وقوانين وعادات وتقاليد تتوارث من جيل إلى أخر، من الصعوبة الفصل ما بين الثقافة والمجتمع؛ إذ إنهما متكاملان فلا وجود للثقافة من الاصل لولا وجود مجتمعات تتبناها، ولا وجود لمجتمعات دون ثقافة تنظمها؛ إذ إنها تتحول إلى غابة، وأبسط مثال على ذلك اللغة حيث تعتبر اللغة المكون الأول للمجتمعات؛ بل الموروث الثقافي الاهم في المجتمع ولولا وجود اللغة لانعدمت أهم وسيلة اتصال بين الناس في المجتمع، ولذلك فإن أي محاولات للفصل ما بين المفهومين ستذهب ُ سدى كما هو حال الثقافة والمجتمع تتعرضان اليوم للعديد من التحديات، و لعل الإنسان  يتأثر بعوامل خارجية؛ كذلك أيضا أبرز التحديات هو تحدي العولمة؛ الأمر الذي أفقد المجتمعات  خصوصياتها الثقافية حيث بدأ العالم كقرية صغيرة مفتوحة على بعضها، مما جعل الكون يبدو كأنه ثقافًة واحدة، وبالتالي شعور الإنسان نفسه في حالة اغتراب عن مجتمعه.

وتعمل الثقافة على إغناء حياتنا من خلال تقديم فهم أعمق للعالم وتعزيز النمو الذاتي وترسيخ أواصر الارتباط والانتماء من خلال التراث والمعالم التاريخية والأدب والفنون والإبداع والمتاحف وغيرها من الممارسات اما الثقافة العامة فهي هي مجموعة المعارف والمفاهيم والمعتقدات التي يكتسبها الشخص عن طريق التعلم والتجربة  والمعرفة التاريخية يتعلم من خلالها الشخص حقائق وأحداث تاريخية مهمة والثورات والحروب والتطورات السياسية والاقتصادية والمعرفة العلمية، يكتسب الشخص معرفة بنظريات ومبادئ العلوم المختلفة يكتسب البشر الثقافة من خلال عمليات التعلم الخاصة بالتثقيف والتنشئة الاجتماعية، وهو ما يظهر من خلال تنوع الثقافات عبر المجتمعات. أما الثقافة المؤسسية فلهادوراً محورياً، كونها ذات تأثير مباشر على أداء العامل بشكل خاص، وإنعكاس ذلك على أداء المؤسسة بشكل عام، إذ أنها تٌعد الإطار لتوجيه السلوك التنظيمي والمؤسسي، ووجود الثقافة يحافظ على القيم المؤسسية، وبالتالي زيادة الالتزام والضبط بالعمل على استراتيجيتها وإدراك أهمية ما تسعى إليه تلك المؤسسة ودفع العاملين لتحقيق أهدافها، بحيث ينتج عن هذا التجانس تحفيزهم ودعمهم لتحقيق أهدافها.

ومما لا شك فيه أن الثقافة المؤسسية لها دوراً مهماً في عملية التطوير والإبداع وتعد عامل مستقل يرتكز على القيم ولها أهمية بارزة في عمليات استمرارية الأعمال واستمرارية المنظمة بشكل عام.

ومن المعلوم أن الثقافة المؤسسية بأنها مجموعة من المفاهيم والقيم والمبادئ التي يؤمن بها رئيس المؤسسة، بحيث يقوم بدوره بالعمل على صياغتها بطريقة تتناسب مع طبيعة وبيئة وإستراتيجية العمل داخل المؤسسة، كما يجب أن يكون العاملين مؤمنين بتلك الثقافة وعلى قناعة تامة بتلك القيم والمفاهيم ويعملون ويلتزمون بكل جدية بالعمل على تطبيقها بتوجيه وتمكين ودعم من الإدارة العليا بالمؤسسة تلك. خلاصة القول أن الجهود الرامية إلى التقدم هي جهود جماعية يحمل مسؤوليتها المثقف والسياسي والتاجر بالإضافة إلى العمال وأرباب العمل، وكذلك كل أفراد المجتمع لتأتي النتائج الثقافية كتعبير عن تلك التي أحدثها في المجتمع في بنيته لأن الثقافة من أحد ُشكل الركن المعنوي فيها، و تشمل كافة الجوانب غير المادية والمتمثلة في العقيدة والقيم و الأفكار والعادات أركان الحضارة؛ واّلتقاليد والاعراف والاخلاق والأذواق واللغة، وغيرها من الجوانب الأخرى

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

مركز الوعي الفكري للدراسات والبحوث

 

‎‎إن فرضية نهاية الكون تشير الى نفخ الملك إسرافيل بآلة الصور، فيصدر صوتا موسيقيا يفزعنا ثم يصعقنا للموت حتى نفخته الثالثة التي تبعثنا للنشور.

فلماذا اختار الخالق هذه الآلة وخلقها قبل ان يخلق بني ادم؟  هل لأهمية الموسيقى في حياتنا وموتنا؟ أم أنها رسالة تثبت أن الآلة الموسيقية ربانية بامتياز!. 

يحدد الباحثون زمن ظهور الموسيقى مع بداية الحياة على المعمورة، عندما أطلقت حنجرته نغمات موزونة على إيقاع تصفيق يديه، كما كان يفعل الراحل داخل حسن عندما يوازن بكفيه ومسبحته إيقاع اللحن ووزنه. بينما يشير المؤرخون الصينيون الى نشأة الموسيقى قبل وجود الانسان على الأرض. 

فالإنسان تعلم الموسيقى من الطبيعة وقلدها بإبداع.

الطبيعة بجمالية خلقها موسيقى هادئة  تبعث الاطمئنان والراحة النفسية، بينما تصدر الأصوات من مكوناتها كصوت خرير الماء وتغريد البلابل ورفيف أجنحتها.

ومن بين أسس الموسيقى العلاقة التي تنشأ بين الأم وطفلها عندما تهدهده. فعندما تودعه لساعات النوم تبدأ ترنيمتها الغنائية الموزونة: "دللول يا الولد يا بني دللول، عدوك عليل وساكن الجول". أنها اللحظة التي يكتسب فيها الطفل الادراك الموسيقي، وهي اللحظة التي يكتسب من خلالها ارتباطه بالعالم الخارجي، بحزنه أم بفرحه. 

ويقال ان الموسيقار بيتهوفن، كان يمضي وقتا طويلا في الطبيعة بكل مكوناتها، ويحمل القلم والورقة ليسن ألحانه المستقاة من أصل الطبيعة. وهذا مؤشر أكيد الى أن الموسيقى رفيقة الانسان، من مولده الى حين ما ينفخ بالصور

ومع ارتقاء الإنسان تبدلت آلاته الموسيقية القديمة، لتصبح أكثر حداثة لتشبع الذائقة والحاجة الروحية الى الموسيقى التي توحد العالم مثلها مثل الهواء والسماء، فكيف لعزف نشيد وطني بآلة موسيقية في محفل مهم يثير الثورات المصطنعة، وكأن فرحة الجمهور أثارت الغيظ والغضب الوهمي للمتصيدين في ماء السياسة العكر.

***

وداد فرحان - سيدني

 

في المثقف اليوم