أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: قراء نهمون.. بالكتاب مغرمون

احلّق الان بأجنحة الذاكرة عائدا الى أيام خالية ماضية، من أواخر الثمانينات والتسعينيات وحتى ما بعدها، لأتذكر كم مارت حياتنا بالثقافة والكتب، وكم أحب الناس في تلك الفترة المباركة الكتاب واخباره، واقبلوا على قراءته واقتنائه اما ليقرأوه هم واما ليضعوه في بيوتهم لعل واحدا من أهالي البيوت يهتدي اليه في لحظة ملل فيروق له، وليدخل بالتالي الى ملكوت الكتاب قارئا نهما ومحبا مدنفا بالكتاب. كانت المكتبات في تلك الفترة قليلة في مدينتي الناصرة وكانت الأنظار تتركز على مكتبة تقوم في مركز البلدة، هي مكتبة الصديق سمير الصفدي، وكان القراء يتوافدون اليها زرافات ووحدانا، وكان ان لفت نظري في تلك الفترة عدد من القراء النهمين، الذين كانوا يتردّدون على المكتبة، في فترتيها، الفترة الأولى بإدارة الصديق المذكور، بعدها بادرة نجله عامر، وقد برز من أولئك القراء عدد ما زلت احتفظ بذكريات دافئة لكل منهم. فيما يلي اعود الى أولئك القراء النهمين، متحدثا عنهم ومذكرا بهم، ضمن محاولة لاستفزاز من احبوا الكتاب وما زالوا لمزيد من المحبة واستفزازا لآخرين لعلهم يواصلون ما ابتدأ به أولئك وما خلفوه وراءهم من اثر يشبه اثر الفراشة الذي لا يُرى.. ذلك الأثر الذي لا يزول، وفق تعبير الشاعر.

قارئ الكتب من كفر كما

ابتدأت علاقتي به عيانًا فطالما التقت عينا كل منا، متسائلة عن هذا الكتاب او ذاك وطالما رأيته يحمل سلته الزرقاء المصنوع من مادة النايلون، مرتفقا إياها بيده، وواضعا بها ما تيسّر له من الكتب. عرفت فيما بعد أنه من عائلة ابرك الشركسية المقيمة في بلدة كفر كما، وقد اكبرت فيه زياراته الى الناصرة وتجشمه متاعب السفر ليشتري هذا الكتاب او ذاك، مما سمع عنه أو قرأ عن صدوره. كان ذلك الرجل دائم الابتسامة، لهذا كان من السهل عليك ان تتحدث اليه وان تتبادل معه الأحاديث عن الكتب، موطن المحبة المشترك بينكما. رويدا رويدا نشأت بيننا علاقة تأسست في بنيتها التحتية على الكتاب، وكان عندما يُعييه الحصول على كتاب أحب قراءته، يتوجّه الي سائلا اياي، حدث هذا مع أكثر من كتاب، واذكر انه أراد ان يحصل على كتاب/ رواية، عنوانها الام الثانية تأليف حكيم تيونوف ترجمة وديع بشكور، تتحدث عن الوطن الشركسي العريق، وانني اخبرته ان الكتاب بحوزتي، فهزّ رأسه وهو يقول لقد تمنيت أن اقرأ هذا الكتاب، وانبعث من عينيه شعاع غريب رأبت فيه واحدة من اجلى صور الوطن. لم اعطه ذلك الكتاب ولم أعره إياه لأنه على ما بدا خجل ان يطلبه مني، وربما كان ذلك لسبب لا ادريه، لكن ما ادريه انني أتمنى لو ان الزمان يعود وأقدم له هذا الكتاب هدية عزيزة غالية تشبه السماء والأرض والوطن عامة. وحدث في موقف آخر انه أحب الحصول على كتاب الهلال عن رامبو وملارميه، وهما شاعران فرنسيان عظيمان، امتلأت حياتهما الاسرار الغريبة والمثيرة، كان هذا الكتاب من تأليف الكاتب المصري رمسيس يونان، شقيق الكاتب المشهور جدا لويس عوض، وقد صدر ضمن سلسلة كتب الهلال الشهرية التي كانت تصل الى بلادنا بانتظام تقريبا. أيضا تكرر المواقف السابق. وبقي ذلك القارئ النهم يتردّد على ناصرتي ومكتباتها، الى ان اختفى وانقطعت أخباره، وقد سألت أصدقاء لي يهمهم امر الثقافة والادب عنه وعن اخباره، غير انني لم اخرج بطائل فلتطب ذكراه.

عامل البريد.. العاشق المتيم بالكتاب

هذا أيضا كنت ما إن ادخل الى المكتبة حتى اراه يتحدّث الى مديرها حول هذا الكتاب او ذاك، وعندما كان يشعر أنه بإمكانه الحصول على بُغيته من الكتب، كانت الابتسامة تفترش محياه الوضاح، اما عندما يشعر أنه لن يحصل على مُراده فقد كان يواصل الامل ويقول: أعرف أن الحصول على هذا الكتاب، وعادة ما كان في موضوع الفلسفة، الدين، او الادب والسياسية، صعب.. غير انني أريدك أن تبذل كلّ مجهود لإحضاره لي. كان ذلك القارئ النهم يدعى سمير بشوتي، وقد أمضي سحابة عمره عاملا في مصلحة البريد، الفرع الرئيسي في بلدتي، ولم يتزوج، كما علمت، وبقي أعزب حتى الأيام الأخيرة من حياته. كان سمير دمث الخلق لطيف المعشر، وقد حدث أكثر من مرة ان دار الحديث بيننا عن الكتب واذكر ان الحديث بيننا دار ذات لقاء لنا في المكتبة حول كتاب الهلال الشهري وكنت معنيا بكلّ ما يصل الى بلادنا من هذا الكتاب، وذكرت امامه انني أتمنى ان احصل على أحد الكتب الصادرة ضمن تلك السلسلة فسألني أي الكتب تعني. فأخبرته انه عبارة عن رواية عنوانها هذه المرأة لي للكاتب الفرنسي جورج سيمنون الذي ناف عدد رواياته على الأربع مائة. واسترسلت في التحدث عن هذه الرواية منوها انها اهلت صاحبها للترشح ضمن قائمة مرشحي الحصول على جائزة نوبل العالمية في مجال الادب. يومها استوقفني بإشارة كريمة من يده وقال لي إن الرواية التي يدور الحديث عنها موجودة لديه وانه سيقوم بإهدائها لي عربون محبة وآصرة عشق مشترك. وبالفعل قام هذا القارئ الكريم في الوقت المحدد بإهدائي ذلك الكتاب. ويمضي الوقت. وتتعاقب السنوات وتجري مياه غزيرة في نهر الحياة لاستمع الى خبر رحيل هذا الانسان/ القارئ الرائع، ولتتحوّل مكتبته العامرة هدية لبعض من الأصدقاء ولمؤسسة كشفية، وتشاء الظروف ان اقتني عددًا كبيرًا منها.. على اعتبار انها من قارئ عشق الكتاب وأحبه وقدّم بحياته وعشقه هذا صورة لإنسان قارئ يمكن ان تكون قدوة ومثالا يُسار في طريقه ويهتدى بعشقه للكتاب.

الرجل الغريب الغامض من حارة الروم

عندما اقمت مع افراد عائلتي في حي الصفافرة القائم غربي الناصرة، واعتبر احدى ضواحي المدينة العامرة باهلها من مهجري قرية صفورية القريبة من الناصرة، كنت كثيرًا ما أتوجّه إلى الناصرة سيرًا على القدمين، وكنت ارى هناك خلال طلوعي "طلعة حارة الروم - انهلة"، او نزولي لها، شخصا طويل القامة رفيعها، وكان يلفت نظري فيه انه يضع في جيب بنطلونه الخلفية صحيفة تمّ طيها بصورة تظهرها وقد اختفى ثلثها في جيبه وبرز ثلثاها خارجه. وعندما حاولت التحدّث إليه، رحّب بي أيما ترحيب، غير انه بقي منطويا على نفسه وصحيفته تلك، في تلك الفترة كنت أرى إليه متردّدًا يوميًا على مكتبة الصفدي، يشتري منها الصحف. يطويها ويضعها في جيبه الخلفي ويمضي. عرفت في تلك الفترة انه يقيم وحيدا في غرفة صغيرة تقوم في أحد اركان حارة الروم، وانه يدعى إبراهيم زيود. للحقيقة اعتقدت انه كان يقرأ الصف فقط، أسوة بآخرين من أبناء بلدتي، قد اتي على ذكرهم فيما يلي، غير ان ما تبيّن فيما بعد، انه شرع بعد ان رحبت به صحيفة الانباء، في اخريات ايامها، واخذت تنشر له المقال تلو المقال، واكاد أقول بصورة يومية، انه قارئ نهم ليس للصحف وانما للكتب أيضا، فقد كان يكتب في السياسة، المجتمع والادب، وبقي يكتب وينشر بغزارة، إلى أن توقّفت الصحيفة عن الصدور، بعدها رأيته عن قرب وعن بعد، وبقي يبتعد إلى أن اختفى وانقطعت اخباره. ولم أعد اراه لا في حارة الروم ولا في غيرها، فقد ولّى مخلفًا وراءه ظلا لقارئ مجيد أحب الصحفية وقرأ الكتاب في غرفته الصغيرة الوحيدة.. ومضى.

إذا كان لي من رغبة إضافية في العودة الى تلك الفترة، فقد تمثلت هذه الرغبة في الإشارة الى عدد من قراء الصحف باللغات الثلاث العربية العبرية والانجليزية، وقد لفت نظري عدد من الأشخاص، الذين كنت اراهم يوميا تقريبا، يقبلون على مكتبة الصفدي، لجمع عدد كبير من الصحف.. دفع ثمنها والمُضي بها، اذكر من هؤلاء: احمد جبيلي، أبا فيصل، ومحمود أبو عطا الحاج، وقد علمت فيما بعد ان هذا الأخير قارئ نهم ومحبّ مُتيّم بالكتاب، فقمت بإجراء مقابلة معه، نشرت ضمن زاوية كنت احرّرها واكتبها أسبوعيا وتنشر في صحيفة الصنارة النصراوية.

***

ناجي ظاهر

٢٤‏/٠٨‏/٢٠٢٤

 

في المثقف اليوم