أقلام ثقافية
ليلى بوشمامة: قراءة نقدية فنية في ديوان "شاهدة قبر من رخام الكلمات"

ليحيى السماوي
مدخل: جرح الغياب ونزف الفقد المتواصل
يفتتح ديوان "شاهدة قبر من رخام الكلمات" على وقع صرخة وجدانية عميقة، جرح طال أمده يزيد على خمسة وعشرين عاما من الغربة القسرية التي اقتلعت الشاعر من جذوره. يعود السماوي بعد طول غياب إلى عراق تاهت فيه بقايا الأمان، ليجد أمه قد رحلت عن عالم الأحياء، تاركة وراءها فراغا لا يشغله سوى مرارة الذاكرة. يقول في الإهداء: " إلى روح الطيبة أمي وقد غفت إغفاءتها الأخيرة قبل أن أقول لها تصبحين على جنة " ص٥
هذا الفقد الذي لم يُسوَ، لم يتحول إلى ذكريات تلين القلب، بل بقي حجرا ثقيلا يحفر في النفس نزفا، يتردد صداه في أرجاء الديوان ككل. عين الشاعر لا تغلق على ألمها، بل تظل مشرعة على وطن مسلوب وأم حنونة غابت بلا وداع.
جدلية الأم والوطن: عباءة الحزن وانكسار الوطن
تتحول الأم في عمق النصوص إلى رمز وطنٍ مكسورة صورته، وطن لم يجد حاضنه الآمن، تماما كما فقد الشاعر حاضنته الأولى:
" كيف أغفو؟
سواد الليل يذكّرني بعباءتها السوداء
وبياض النهار يذكّرني بالكفن ..
يا للحياة من تابوتٍ مفتوح!
أشعر أحيانا أن الحيَّ
ميتٌ يتنفّس
والميتَ حيٌّ
لا يتنفس " ص١١
"عباءتها السوداء ليست مجرد رمز حداد، بل علم يتهادى فوق خرائب الوطن، يوشح وجوهنا بالألم والخذلان.">> العباءة التي هي الستر والدفء، تصبح رمزية لقهر الوطن واحتضانه الجريح. هنا تتداخل جراح الأم والفقد الشخصي مع جراح الوطن السياسي، في مفارقة لاذعة بين الغياب والحضور، الموت والاغتيال الرمزي للذاكرة الجمعية.
الذات المهشمة: بين طفولة لا تكبر وشباب متعب
يقدم السماوي في نصوصه ذاتا ممزقة تمشي على حافة زمنين متقاطعين:
" قبل فراقها
كنت حيًّا محكومًا بالموت ..
بعد فراقها
صرتُ ميتًا
محكومًا بالحياة " ص٨
هذا التشبيه يصور الطفولة والكبر في تداخل، يمثل طباقا مركبا بين البراءة المثقلة والنضج المتعب، يعكس الصراع النفسي العميق لدى الشاعر الذي لم يستطع التخلص من وطأة الحزن المتواصل فيصرخ مستغيثًا :
" أغيثوني
أريد أوراقًا من ماء
لأكتبَ كلماتٍ
من جمر " ص ٢٣
لغة الصور والتجربة الحسية: استعارات مشبعة بالوجد
لا تنفصل صور السماوي البلاغية عن الواقع الحسي، بل تنبع من وجدان متألم ينبض بالحياة والحنين، كما في قوله:
"دفء أمومتها وليس حطب موقدنا الطيني:
أذاب جليد الوحشة في شتاءات
عمري " ص٢٤
هنا تتحول الأم إلى طاقة حية، تعادل الحطب في أهميته للدفء والحياة، لكنها تفوقه في إنقاذ الذات من جليد الوحدة والوحشة التي تكمن في الشتاء الروحي؛ استعارة تنضح بحضور عاطفي أمومي لا يعوض.
التكرار كطقس إيقاعي: ترانيم الحزن والتذكار
يركز الشاعر على تكرار كلمات مفتاحية مثل (الأم، الوطن، القبر) ليخلق جرسا موسيقيا في النصوص:
"الأم... الطيبة... الوطن... القبر... الأم... الطيبة... الوطن... القبر..."
التكرار لا يعيد فقط المعنى، بل يشكل إيقاعا يستحضر الوجدان، كأنه أهازيج تأبينية ترفع راية الحزن والحنين في آن واحد.
التناص الروحي والثقافي: الأثر الديني والذاكرة الشعبية
ينسج السماوي تناصا ذا أبعاد روحية ودينية في نصوصه:
" لم تكن أنانيةً يومًا
فلماذا ذهبت إلى الجنة وحدها
وتركتني
في جحيم الحياة ؟" ص٢٢
تأتي مفردات قرآنية بعذوبة إنسانية بعيدة عن الخطابة، مما يضع النص في تواصل مع ذاكرة إيمانية تعمق تجربة الحزن لتتصل بالكون والوجود. كما تتسلل رموز الثقافة الشعبية العراقية مثل التنور وخبز العباس والنواعير، فتمنح النص بعدا لذاكرة شعبية تحيل الخاص إلى عام، والوجدان إلى ذاكرة جماعية:
" آخر أمانيها:
أن أكون
مَن يُغمض أجفانَ قبرها ..
*
آخر أمنياتي:
أنْ تُغمِض بيديها أجفاني ..
كلانا فشل
في تحقيق أمنية
متواضعة " ص١٣
تقنية الحذف والفراغات التأويلية: لغة الصمت المتحدث
يستخدم السماوي تقنية الحذف الموجعة حين يترك جملا معلقة:
" لست سكرانًا ..
فلماذا نظرتم إليَّ بازدراء
حين سقطتُ على الرصيف؟
من منكم
لا ينزلق متدحرجًا
حين تتعثر قدماه بورقة
أو بقطرة ماء
إذا كان يحمل الوطن على ظهره
وعلى رأسه
تابوت أمه ؟" ص١٦
يتوقف عمدا، محولا الفراغ إلى مساحة مفتوحة أمام القارئ، ليصبح الصمت لغة أبلغ من الكلام، يعكس عمق الحزن وتعقيدات التواصل مع الغياب:
" وحده فأس الموت
يقتلع الأشجار من جذورها
بضربة واحدة " ص ٧
نبرة التهكم والسخرية المرة: الظل على الحزن
في مزيج مؤلم بين الحزن والهزل، يقول الشاعر:
"حين مات أبي ترك لي فاتورة كهرباء ..
حين مات ولدي
ترك لي بدلة العيد الذي
لم يعشه ..
أمي؟
تركت لي عباءتها ..
سأتخذ منها سجّادة للصلاة ..
أما أنا
فسأترك لأطفالي
قائمة طويلة
بأمنياتي التي
لم تتحقق ..
منها مثلا:
أن يكون لي وطن آمن
وقبر " ص٢٤
فتركت لي عباءتها."
تعكس العبارة قسوة الحياة والموت، وحالة الشاعر بين فقد الأحبة وعبء الحياة، فتمنح النص بعدا إنسانيا يمكن أن يلامس أي قارئ.
الخلاصة: نحت رخام الذاكرة وشهادة الوجدان
يرسم يحيى السماوي في هذا الديوان لوحة شعرية مأساوية تنحت من رخام الكلمات قبرا لا يموت، محافظا على ذاكرة شخصية ووطنية تغلغلت في الأعماق. يربط العمل الشعري ما بين فقد الأم كجذر روحي، والوطن كغربة مؤلمة، والذات الممزقة بين زمني الحنين والاغتراب.
لغة الديوان شاعرية، غير متكلفة، تتدفق مع نبض التجربة الصادقة، بلغة استعارات وكنايات تعكس أعمق طبقات الحزن والحنين.
يصلح هذا النص لأن يقرأ كتأبين للأمهات جميعا، ومرآة لوجع المنفى العربي، وشهادة أدبية على أن الرخام الحقيقي ليس ما يوضع على القبور، بل ما ينحت من الكلمات في قلوب القراء.
***
بقلم الأستاذة: ليلى بوشمامة / المغرب