أقلام ثقافية

إيهاب عنان: نينوى نحو عاصمة الثقافة العراقية بثوب أبي تمّام

في قلب مدينة الموصل، حيث تتعانق الحضارة مع عبق التاريخ، ينبض مهرجان أبي تمام للشعر العربي الفصيح بالحياة، معلنًا عن تجدد اللقاء بين محبي الشعر وأهله. يحمل هذا المهرجان اسم الشاعر العربي الكبير أبي تمام، ويعد منارةً ثقافيةً بارزةً في العراق، جامعًا الشعراء من مختلف أرجاء الوطن العربي تحت سماء واحدة.

لقد كانت الفكرة الرائدة وراء هذا المهرجان من إبداع الراحل الأستاذ الدكتور عبدالمنعم رشاد، عميد كلية الآداب في جامعة الموصل. أطلق الدكتور رشاد شرارة المهرجان الأولى في السبعينيات، حيث كانت البداية مع دورة عام 1971 التي شهدت تجمعًا لألمع الشعراء والنقاد العرب، مما أطلق ولادة منبر جديد للشعر العربي، يجسد الهوية والتراث والأصالة. وقد شارك في الدورة الأولى أسماء لامعة، من بينهم الشاعر اليمني عبدالله البردوني والشاعر السوري نزار قباني، الذي افتتح الفعاليات بقصيدته الشهيرة "اعتذار إلى أبي تمام"، حيث قال:

"أبا تمام .. أين تكون .. أين حديثك العطر؟

وأين يد مغامرة تسافر في مجاهيل، وتبتكر ..

أبا تمام ..

أرملة قصائدنا .. وأرملة كتابتنا ..

وأرملة هي الألفاظ والصور..

فلا ماء يسيل على دفاترنا..

ولا ريح تهب على مراكبنا

ولا شمس ولا قمر"

مرَّت دورات المهرجان بتطورات متعددة، ففي كل دورة كانت تُضاف بصمة جديدة إلى سجله الحافل. من الدورة الثانية عام 1993، التي تميزت بتنوع القصائد والأساليب، إلى الدورة الثالثة عام 1998 التي اتسمت بالتغني بالأرض والوطن، وصولًا إلى الدورة الرابعة عام 2012، التي أظهرت التجديد في اللغة والمعاني واحتفت بالشعر الحديث.

أما الدورة الأخيرة، التي تزينت باسم الشاعر الموصلي الراحل معد الجبوري، والتي اختُتمت في يونيو/حزيران 2024، فقد كانت استثنائية بكل المقاييس. تميزت بمشاركة واسعة من الشعراء العرب وفعاليات غنية تنوعت بين أمسيات شعرية ولوحات غنائية ومعارض فنية، وانتقلت بين أبرز معالم الموصل مثل مسرح مول آشور في منطقة الغابات، الذي ضاهى مسارح المهرجانات الكبرى بإخراج محترف للفعاليات بقيادة المخرج الموصلي حسان كلاوي وطاقمه، مرورًا ببيت التراث الموصلي وبيت التتنجي الأثريين، وصولًا إلى مقر اتحاد الأدباء والكتّاب فرع نينوى.

حقق المهرجان في دورته الأخيرة نجاحًا باهرًا، مؤكدًا على مكانة الموصل كعاصمة للثقافة والأدب، بمشاركة أكثر من 120 شاعرة وشاعر من العراق والوطن العربي، الذين أضاءوا سماء القصيدة العربية بإبداعاتهم. ويعود هذا النجاح إلى الجهود المتميزة التي بذلتها إدارة إتحاد الأدباء والكُتّاب في نينوى، بقيادة الشاعر الشاب سعد محمد وفريقه، الذين سعوا إلى إظهار الحدث والمدينة بأبهى صورة، وبإشراف المركز العام للاتحاد الذي كان له دور بارز في إنجاح المهرجان على المستويين العراقي والعربي.

إن هذا النجاح لم يكن ليتحقق لولا الدعم الكبير من المؤسسات الثقافية والحكومية، حيث تلقى المهرجان رعاية من وزارة الثقافة العراقية ومنظمات دولية معنية بالثقافة والفنون، مما أثرى الحدث ووسع نطاقه.

يُعد مهرجان أبي تمام للشعر العربي الفصيح جسرًا يربط بين الماضي العريق والحاضر المتجدد، مؤكدًا أن الشعر هو لغة الروح التي لا تعرف الزوال. الموصل، التي تنهض من بين الرماد والدمار، تستحق أن تكون عاصمة للثقافة العراقية كل عام، فهي ولّادة للمبدعين الذين يرعون الثقافة والفن.

وفي هذا السياق، ندعو المختصين في هيأة الاستشاريين لمجلس الوزراء العراقي الموقر ووزارة الثقافة للالتفاتة الجادة إلى المدينة، والأخذ بيد الطاقم الشاب الذي يسعى إلى نفض الغبار عن ماسة الثقافة والأدب، ليعود بريقها المعهود من جديد. فإن نينوى، قلب العراق النابض بالجمال، تستحق الاهتمام والدعم، لتستمر في تألقها وإشعاعها الثقافي ، فقد أعطت الكثير وحان الوقت أن تنعم بإستحقاقها .

***

إيهاب عنان - كاتب عراقي

في المثقف اليوم