أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: شخصيات وذكريات

احببت القصص الشعبية والحكايات منذ بداية تفتح مداركي الاولى، وكان ذلك بعد ان اقام الاهل في بيت مستأجر، قام في الحي الشرقي من مدينة الناصرة، وكان من حسن حظي او من محاسن الصدف، ان يقوم هذا البيت قريبًا من بيت مدير البوسطة/ دائرة البريد في المدينة ابي توفيق، فهد الملا، ومن غرفة شقيقته كفيفة البصر مبصرة القلب السيدة قادرية، وكنا نناديها تحببًا وتدللًا جريًا على ما فعل محيطون بها " آدو". هذه السيدة كانت تأتي الينا في ليالي الشتاء الطويلة وتشرع في رواية حكاياتها الرائعة، لاستمع اليها انا الطفل الصغير بانبهار فاق انبهار جميع ابناء عائلتي، حتى انه تغلغل في لحمي وعظامي وبات فيهما. حكايات هذه السيدة ايقظت في داخل مارد الطموح، فشرعت بالتفكير في رواية الحكايات مثلما كانت تفعل، وقد بالغت في تفكيري هذا حتى انني بت اتمنّى لو ان الله يمكنني من تحريك فمي كما تحرك هي فمها مرسلة الابتسامة تلو الاخرى، كلما شعرت انها قدمت لنا الحركة المشوقة المثيرة في هذه القصة او تلك، واذكر انني كنت آنذاك اقلد السيدة " آدو"، فاجمع ابناء الحارة ممن هم اصغر مني في العادة او من مجايلي. اروي لهم حكاية السيدة المحترمة تلك واطلب منهم ان يقوم كل منهم بأداء ما اقترحه عليه او ما يختاره من ادوار ابطال ما ارويه من قصص. هذا الحب للقصص والحكايات كبر معي يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة، وواضح انه فتح ابواب الامل والطموح امامي فمضيت سائرًا فيها متنقلًا من فترة إلى اخرى ومن مرحلة الى سواها، فمن كتب المبدع العظيم كامل كيلاني للأطفال إلى كتب الف ليلة وليلة (الكتاب الاهم في حياتي)، ومن مؤلفات عباس محمود العقاد الى كتب طه حسين، وها انذا اموت حبًا في مؤلفات ابراهيم عبد القادر المازني ومصطفى صادق الرافعي، بل ها هي تأتي فترة اكتشف فيها الروايات الاجنبية المترجمة إلى اللغة العربية ضمن سلسلة "كتاب الجيب" و"روايات عالمية" اللتين كانتا تصدران ابان تلك الفترة في القطر العربي المصري. ابتدأت الكتابة وانا على مقاعد الدراسة الاولى، وكان من حسن حظي ان يعلمني اثنان من محبي اللغة العربية ومن ذوي العلاقة بمجلة "اليوم لأولادنا" التي كانت تصدر في تلك الفترة. هذان المعلمان اعجبا ببعضٍ من كتاباتي فقاما بنشرها في تلك المجلة. في اواسط الستينيات ابتدأت الكتابة متلمسًا طريقي، وكان ان ارسلت احدى قصصي الى برنامج ادبي اذاعي كان يحرره في حينها الكاتب عرفان ابو حمد، ويساعده فيه الشاعر جمال قعوار، فقام بنشرها، ولم يكتف بهذا وانما ارسل الي مكافاة مالية افرحت قلبي وشددت من عزيمتي في المضي في الطريق ذاته. بعدها نشرت لي صحف مثل "اليوم" وبعدها "الانباء" فـ "المرصاد" شيئا من كتاباتي. عام 68 تجرأت وارسلت قصة كتبتها عن امي ومدينتي الناصرة وعن مدى محبتي لهما. وضعت لها عنوان "الكلمة الاخيرة" وارسلتها الى اهم مجلة ادبية كانت تصدر في تلك الفترة وهي مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية، وقد فوجئت في نهاية الشهر بقصتي منشورة في المجلة، فشعرت انني تحولت من قارئ لتلك المجلة الى كاتب فيها، كما شعرت انني اصبحت كاتبًا وانني وضعت خطوتي الحقيقية الاولى على طريق الادب الطويل، وهو ما دفعني لزيارة مكاتب المجلة الكائنة في وادي النسناس القائم في مدينة حيفا، للتعرف على محرر المجلة الشاعر سميح القاسم الذي سيفتح لي الابواب كلها وسوف يصبح من اعز الاصدقاء، حتى ايامه الاخيرة في الحياة.

هذا عن شخصيتي في تلكم الايام، اما عن الشخصيات الاخرى التي التقيت بأصحابها وربطتني بهم علاقة مودة ومحبة، حتى ايامهم الاخيرة في الحياة، خاصة من ابناء الجيل الماضي، فإنني اواصل الكتابة فيما يلي عن شخصيات وذكريات.

طه محمد علي.. القصة وقصيدة النثر

كنت تعرفت على اسمه من خلال نتفٍ له او عنه نشرت في صحيفة "اليوم"، وكان اسمه بالنسبة لي واحدًا من الاسماء الادبية البارزة في مدينتي، وكان طه محمد علي (1931- 2011)

في حينها قد نشر، في مجلة "لقاء" العربية العبرية قصته "قناني فارغة"، فاخذ مكانه اللائق به بين كتاب القصة القصيرة في بلادنا، اضاف الى أهميته هذه انه التقى بالكاتب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين زيارته مدينتي الناصرة في اواخر السبعينيات، وان وسائل الاعلام آنذاك اشارت الى ذلك اللقاء. بعد تردد طويل قمت بزيارة طه، وفوجئت باستقباله الباسم لي، اذ كنت متوقعًا ان يستهين بي على اعتبار انه كان رجلًا مكتمل الرجولة وكاتبًا معروفًا وانا ما زلت اضع خطواتي الاول على مدارج الحياة والابداع الادبي. ترحيب طه، تواضعه وابتسامته الذكية الدائمة، كل هذا شجعني على زيارتي له والتردد عليه كلما سنحت الفرصة. علاقتي اليومية به تواصلت حوالي العشرين عاما. وقد التقيت في دكانه الصغير المتواضع بمعظم كتاب وادباء بلادنا خاصة الناصرة. من معرفتي المديدة هذه بطه اسجل ما يلي. فقد كانت بدايته مع القصة، وكان متأثرًا بما قراءه من قصص للكاتب الفرنسي ذائع الصيت جي دي موباسان، واذكر انه كان معجبًا جدًا بقصة "العُقد" التي تحدثت عن مفارقات الحياة، وتفكير كل انسان بما يخصه متناسيًا احيانًا انه ليس واقعيًا وانه ربما يكون في واد ومن يظنه خصمًا في واد اخر. واذكر في هذا السياق انه اشار إلى هذا الكاتب قائلًا انه تأثر به كثيرًا. من الادباء والشعراء الذين كانوا يترددون على دكان طه لبيع الاثريات والتذكاريات اشير بقوة الى الشاعرين جمال قعوار وقريبه ميشيل حداد، وكان طه كما قال لي اكثر من مرة يحاول الاستفادة من معارف جمال قعوار الادبية واللغوية، اما علاقته بميشيل حداد فقد قامت في البداية على محبة مشتركة منهما للقصيدة النثرية لدى كتابها خاصة محمد الماغوط، صاحب المجموعة الشعرية المشهورة في تلك الايام "غرفة بملايين الجدران"، لقد اخذ طه بيد ميشيل حداد، حتى انه كتب له مقدمة مجموعته الشعرية الاولى "الدرج المؤدي الى اغوارنا"، وامتدح فيها هذا الضرب من الشعر معتبرًا اياه اغناءً واضافة حقيقية إلى شعرنا العربي الحديث. محبة طه هذه لمحمد الماغوط كانت تتجلى تقريبًا في كل جلسة او حديث، وكان يتمنى ان يكتي قصيدة في مستوى قصيدة الماغوط، وقد ابتدأ في كتابة هذا النوع من الشعر بعد بلوغه الخمسين من عمره، وكانت قصيدته النثرية "شرخ في الجمجمة"، واحدة من اوائل كتاباته ولاقت للحقيقة حفاوة من القراء واصحاب الجرائد والمجلات، بل انها نشرت في اكثر من صحيفة ومجلة في الداخل والخارج، الامر الذي شجع طه على المضي في كتابة هذا النوع من الشعر (النثري)، بل حفزه على نشر مجوعته الشعرية الاولى وهي "القصيدة الرابعة"، بعدها كتب طه ونشر الكثير من الشعر النثري، برزت من بينها قصيدته عن موكله الصفوري البسيط الذي كان سيدعو بحارة الانتربرايز لتناول اللبنة والبيض المقلي لو انه رآهم والتقى بهم. غير ان طه عاد إلى هذه الشخصية، بعد ان حصل تقارب بينه وبين الحزب الشيوعي الاسرائيلي، ليكتب قصيدة اخرى تتحدث عن الشخصية الصفورية البسيطة ذاتها وعن تفجيرها للبحارة ذاتهم. الامر الذي اثار حفيظة صديق طه المقرب الكاتب الشاعر احمد حسين فأشار الى هذا التناقض في الموقف، وفق المصلحة، وكتب مقالة نارية انتقد فيها طه واذكر انه نشرها في حينها في مجلة "المواكب" الادبية، التي سأعمل محررًا فيها فيما بعد. كان طه باختصار شخصية بسيطة متواضعة وكان ذرب اللسان دمث الخلق وامتاز بالسخرية اللاذعة في حياته وكتابته، حتى انني اجبت مَن اجرى مقابلة معي عنه ىساخرًا بعد رحيله قائلًا: ان طه كان اكبر من شعره وانه كان ساخرًا كبيرًا ولو استمع الى الان وانا اتحدث عنه بعد موته لتساءل هل انا مت حقا؟

ادمون شحادة.. ادب وطموح

افتتح ادمون شحادة (1933-2017) مكتبته التي اطلق عليها اسم "المكتبة الحديثة" تيمنًا واملًا في اوائل السبعينيات، وكنت قبل افتتاحه مكتبته هذه قد عرفته عبر ما كتبه من مقالات عديدة عن العروض المسرحية في مجلة "المرصاد" التي رحبت بي دونا عن غيرها كاتبًا، فكنت اقرأ ما يكتبه وينشره واشعر بأهمية ان اتعرف عليه وان ابتني معه علاقة صداقة ادبية تشبه تلك العلاقات التي عرفت واشتهرت في عالم الادب عربيًا وعالميًا، لهذا ما ان افتتح ادمون مكتبته الحديثة هذه حتى كنت من اوائل المترددين الزائرين لها، وقد اكتشفت منذ زيارتي الاولى له في مكتبته، انه لم يكن اقل مني رغبة في ابتناء تلك العلاقة، لهذا سرعان ما توطدت الاواصر بيننا وقد استمرت حتى بعد ان اضطره المرض ملازمة بيته وتوكيله ابنته امر ادارتها. من معرفتي المديدة لادمون، كنت اكتشف يومًا اثر يوم ذلك الطموح الذي ميزه وجعله يحقق حلمًا راوده – كما قال لي- اكثر من عشرين عامًا، وقضى بان يترك مهنة النجارة التي عمل فيها مدة عقدين من الزمن، ليتفرغ لإدارة مكتبة يلتقي فيها بمن احب واراد من الكتاب والشعراء. في مكتبة ادمون تعرفت على مبدعين من مختلف المشارب والاعمار، وقد كتبت عن هؤلاء في غير هذه الصفحات. وكان ادمون محبًا للأدب، كتب الاغنية والقصيدة النثرية متأثرا بميشيل حداد وبعده بطه، كما كتاب المسرحية، القصة والرواية، وحتى المقالة الادبية، واذكر انه كان ميالًا لكتابة المسرحية، واصدر فيها عددًا وفيرًا منها البيت الصاخب، وهناك حكاية طريفة تتعلق بعلاقتنا المشتركة احب ان ارويها. مفادها ان ادمون اخبرني في اواسط الثمانينيات انه يريد ان يكتب مسرحية تتحدث عن بير زيت وعن احدث تدور رحاها في الضفة الغربية المحتلة، الا انه حائر بين نوعية كتابتها فهل يكتبها مسرحية ام رواية. عندها سالته عما يشعر به فذكر انه يفضل ان يكتبها رواية، هكذا ولدت روايته "الطريق الى بير زيت"، وقد ذكر ادموني تحبيذي كتابتها رواية في اكثر من مناسبة ولقاء ادبي، ما زاد في تقديري له. كان ادمون خِلافًا للكثيرين في مقدمتهم طه محمد علي، يحاول الكتابة في كل الانواع الادبية، ولم يركز على نوع محدد، الامر الذي اثر على استقبال القراء لكتاباته المتعددة المتنوعة، علما انه كان انسانًا جديًا، ويحب الادب واهله، وهو ما قلته عنه في اكثر من كتابة ومحاضرة.

ميشيل حداد.. رائد قصيدة النثر في بلادنا (1)

عمل ميشيل حداد (1919 - 1996)، معلمًا للرسم والموسيقى، وكان محبًا للأدب والصحافة، لهذا كان من اوائل من سعوا لتأسيس مجلة ادبية اجتماعية في البلاد هي مجلة "المجتمع"، التي سأعمل فيما بعد محررًا فيها الى جانبه، وقد حرص ميشيل على ابتناء علاقات جيدة بوسائل الاعلام خاصة الصحف والمجلات، فكان يشجع كل من يطرق به فيأخذ بيده وينشر له في مجلته او في مجلات اخرى. بل انه سعى ايضا للقاء بكل من علم عنه انه محب للأدب والفن وحاول التعاون معه وتشجيعه اما في النشر عبر صحيفة او مجلة وحتى في كتاب مشترك مع آخرين. تعرفت إلى ميشيل في دكان طه محمد علي للتذكاريات الكائن في شارع الكازانوفا، وقد ربطتني به علاقة محبة ومودة منذ اللحظات الاولى للقاء، اذ كان اجتماعيًا يتصف بدماثة الخلق. ونقاوة اللسان، وكان ميشيل كما عرفته جيدًا يمتلك اذنًا موسيقية رهيبة إلا انه لم يدرس اوزان الشعر العربي المعروفة الامر الذي حرمه من كتابة الشعر، لهذا على ما اعتقد، ما ان اكتشف مجلة "شعر" اللبنانية واصحابها من شعراء قصيدة النثر، يوسف الخال خاصة، حتى دب عليهم وحاول ان يبتني معهم علاقات ادبية، بل انهم نشروا بعضًا من كتاباته في مجلتهم كما اخبرني. علاقة ميشيل بطه دفعته منذ بداية تعرفه على مجلة شعر لإجراء الاحاديث المطولة حول هذه القصيدة وكان ميشيل يستمد طاقته وقوته على الاستمرار من طه، فقد اقتنع هذا الاخير بهذا النوع الوافد من الشعر ورأى فيه مساحة طيبة لتطوير القصيدة العربية، وهو ايضًا لم يكن يعرف الاوزان الشعرية العربية القديمة، لهذا يبدو ان شيطان الشعر قد ابتسم له، مقنعًا اياه انه بإمكانه ان ينتمي الى ملكوته الخاص، وبعد تردد مديد اقبل طه على كتابة قصيدة النثر، وهكذا شد احد الشاعرين من عضد الآخر، وتوقف الاثنان في خندق واحد، صديقين محاربين.. مدافعين عن قصيدة النثر. ومناديين بأهميتها في تطوير شعرنا العربي وانتقال به من الثابت المقيت الى المتحول المنشود، وفق تعبير ادونيس- على احمد سعيد، صاحب كتاب "الثابت والمتحول"، وقد اختلفنا في نقاط تتعلق بهذا النوع من الشعر واتفقنا، ودخل النقاش ذات عام الكاتب الناقد نبيه القاسم فوجّه سؤالًا بسيطًا وواضحًا لطه، وضمنا لميشيل، لماذا لا تسمي ما تكتبه نثرًا جميلًا؟ لقد فتحت كتابة قصيدة النثر لدى ميشيل اولًا وطه ثانيًا ابواب النقاشات واسعة.. وقد امتدت فترات طويلة من الزمن دون ان تتوقف او تصل الى نتيجة.. الامر الذي دفع الكثيرين وانا منهم الى استعارة عنوان مسرحية الكاتب المسرحي الايطالي المبدع بيراندلو وهو " لكل شيخ طريقة".

***

ناجي ظاهر

 

في المثقف اليوم