أقلام ثقافية

زهير ياسين شليبه: رسائل من زمن الحصار لكاتب مجهول (4)

الى صديقي يونس!

نخلة چاسبية أُم اللبن!

 لا يمكن مقارنة الطبيعة هنا بما موجود عندنا في بغداد، يؤسفني أن أقول لك إني ومثلي آلاف الشباب، لم ننعم برؤية بساتين ديالى الجميلة ولا الموصل الحدباء أم الربيعين، ولا مصايف صلاح الدين ولا جبالٍ في كردستان، مشهورة بجمالها، ولا بادية السماوة، سمعنا عن الصيد فيها من الآخرين صدفةً، ولا أهوار الجنوب العامرة بالأسماك وطيور الخضيري المهاجرة من أطراف الدنيا، لكن الحمد لله لم أرَ اراضيَ قاحلةً جرداءَ سبخةً أهلكت أصحابَها الطيبين كالحي الوجوه وحولتهم إلى "لاجئين" في بغداد، لكنها لا أعتقد تختلف كثيرًا عن عاصمتنا، المحترقة بشمسها، بل "شوتها شويًا" والحرارة تنبعث من أسفلتها وترابها، ولم تبقِ لا على ماء ولا خضراء ولا وجه حسن ولا هم يحزنون. لكني أعشقها وسأبقى أصرخ بغدااااد، بغداااد!

يوم أمس التقيتُ بشاعر عراقي شاب لكنه "آيل" للسقوط، طالَت فترة انتظاره هنا بدون أن يحصل على الإقامة، متعب نفسيًا، إنه مناضل البابلي، اسم على غير مسمّى، بائس حزين ويائس، يسمّيه بعضُهم متهكّمين به "بائس الحزين" غسلَ يديه من العراق و حكّامه، كان يسخر من أحد العراقيين المتحمسين، قال لمناضل: "آه لو كانت الأمور بيدي لخصصت مكافْأة أو أجرة شهرية لكل مَن يزرع شجرة فيها ويسمّيها باسمه ونصدر لها بطاقة خاصة بها ويسقيها بنفسه، مثلا كالبتوسة دحّام وعبّودي!، نخلة چاسبية أُم اللبن! أو سِدرة فطيمه المعيدية بائعة قيمر العرب (القشطة)، تَصوّرْ، هل يبدو الأمر مضحكًا؟ "والله شوف عينك" إذا مو كل بغداد صارت خضراء؟ ستحصل منافسة شديدة بينهم ويحمى الوطيس!" ويبدو أنه طاب له أن يراني أيضًا أتطلع إليه، أصغي إليه بصمتٍ واحترامٍ وعيناي مبحلقتان به، استمر يقول:

"آخ لو أصير أمين العاصمة، "أسَرفُن رداني" أو أشمّر عن ساعديّ وأمشي بملابس العمال"، أجمع القمامةَ بيدي، عمل شعبي مرة في الأسبوع، اسمه عمل شعبي بس أسوّيه إلزامي، اللي يعجبه أهلاً وسهلاً  وأعطيه مكافأة، واللي ما يعجبه ما نسمّي باسمه حتى شجرة قَوَغ! لو تشتغلون لو ماكو! أخلّي بغداد تزهي، أبني مترو، وأفتح شوارع عريضة محاطة بالنخيل والأشجار الباسقة و"داير مدايرها" نافورات أحلى من الشانزليزيه الفرنسي! هاآآ، لَعَد احنه وحّد؟! اشناقصنا؟ اشمالنه خويه؟".

كلام جميل وصحيح ورومانسي! وأنا أيضًا كانت لديّ هذه الأمنية منذ الصغر، لكن يا خساره ما عمّرت الحاره! والدي كان أيضًا يتمنّى نفس الأمر، لكن هيهات! مجرد أحلام وردية في عالم الصراعات!69 zouheer yasen

ألا يبدو كل هذا الحر على ملامح وجوه العراقيات والعراقيين؟ ألا تلاحظ أن بشراتنا تفتقر إلى النضارة ونحن كنا في عز الشباب؟ "أنت لِسّه شاب صُغَيّر!" كما يقول يوسف وهبي، هل أنا قاسٍ يا يونس؟ هل أنا حانق أو غضبان؟ أبدًا أنا منفعل ومشتاق لبلادي وحزين عليها، لماذا لا تتطور؟ كل الشعوب صار براسها خير إلا نحن! "إلا أنت، إلا أنت! إلا أنت!"، أعتقد هذه أغنية قديمة لمحبوبتك نجاة الصغيرة: "إلا أنت، فيها إيه الدنيا غيرك؟" لا أدري إن كان هذا صحيحًا أم أني صرت اخلط الأمور كعادتي، سامحني! سامحني! "إلا أنت، فيها إيه الدنيا دِيّه...فيها إيه الدنيا دِيّه...إلا أنت؟ كل غالي يهون عليّ إلا أنت..." أيها العراق الحبيب، إلا أنت! إلا أنت!

هل تتذكر أحد أصدقائنا من رفاق الدرب نعمة حينما قال لك: انتم تعيشون في رغد ونعيم، عندكم حديقة وبيت محاط بالكاليبتوس، بينما أنا أسكن في غريفة واحدة وصغيرة مع كل عائلتي، نحن نستيقظ الصباح يوميا على روائح المياه الآسنة مقابل بيتنا، تزكم أنفاسنا في الليل ونفتح عيوننا على مناظر بائسة وكالحة متشحة بالسواد، يا عزيزي أنت في حقيقة الأمر لا أخي ولا زميلي ولا رفيقي، أنت عدوي الطبقي!

والله حَقّه، لولا تنكره لصدقاتٍ تقبّلها من زملائه "البرجوازيين" أعدائه الطبقيين عندما مرّ في أحلك الظروف! ومع ذلك نَطقَ كلمته الأخيرة وبدا الحقد على نظراته رغم محاولته إخفائها بابتسامة باهتة بلهاء وشفتاه ترتجفان على أنياب كأنه ضبع سائب في البراري، بل وحش كاسر، شرس من الضواري قال مداريًا الموقف: "نعم، أنت رفيقي، لكن لازم نتعلم فن الحقد الطبقي ونتأكد من انسلاخكم من طبقاتكم! وهذا ليس له علاقة بكم كأشخاص"، يا له من جاحد! هل تتذكره، نعمة هذا كان يساريًا متزمتًا بامتياز لدرجة أنك بالذات كنت تسميه "نقمة"، لا يختلف عن الكثير مِمّن يطلقون عليهم اليوم تسميات مثل المتطرفين والأصوليين والمتشددين والسلفيين، كان يمكن أن يكون جهاديًا، كان ينادي أيضًا بالجيفارية ونظرية خلق البؤر الثورية، أفلح هذا الخط في كوبا بينما وُئدت حركتُه وقُتل قائدُه جيفارا في بوليفيا بعد أن خانه فقراءٌ جاء ليحرّرهم! فما الفرق بين هذين النهجين؟ اليساريون ذهبوا إلى إسبانيا دفاعًا عن الجمهوريه، والجيفاريون إلى بوليفيا لتصدير الثورة، والجهاديون اتجهوا إلى أفغانستان ليساندوا فئة ضد أخرى ولينصروا إخوتهم في الدين ضد الملحدين الروس. يعني إذا كل واحد يعطي الحق لنفسه سيصبح العالم غابةً! كلّهم مناضلون!

أجل، هكذا كان صديقنا المسكين نقمة عفوا أقصد نعمة، فقيرًا متحمسًا ولبقًا ومحدّثًا، مقنعًا في حواراته ولديه كاريزما، لكنه كان مثل بعض رجال الدين "الموامنه" منظّرًا اتكاليًا، "عِشتي" يعيش على الآخرين، بل "عَلَقة" يعتاش عليهم، يشكو الفقر والعوز ولم يجرب مرّةً أن يمسك المعول بيديه ليكسب خبزه بعرق جبينه.

أتذكّرُ أني أجبتُه بأنك زرعتَ الأشجار بيديك هاتين النحيفتين يا رفيقي، لِمَ لَمْ تَقُمْ بنفس الشيء أمام بيتكم؟ من يمنعك من القيام بذلك؟ لم يجبني ولم ينبس ببنت شفة، بل اكتفى بالنظر إليّ محركًا يديه حائرًا ماذا يقول وابتسامة صفراء ترتسمُ على شفتيه! وسبحان الله كان نعمة اسمًا على غير مسمى، أول المنسحبين المنبطحين المتطوعين للخِسّة والحِطّة والنذالة والعار والتعاون مع الأجهزة بدون أن يجبره أو يضغط عليه أحد.

أصلاً، لم يكن لدى هذا المسخ ما يبيعه غير الغدر، ولم نكن لنغضب عليه لو تعرض للتهديد اوالوعيد والترهيب، ناهيك عن التعذيب، لكن أبدًا لم يحدث مثل هذا الأمر لصاحبنا "الهمام"، كان يتبجح بالبطولات ويدّعي ما ليس له به ويزايد علينا بتنظيراته.

نعم، لم نكن لنغضب ولا نحقد عليه لو اكتفى هذا المأجور الوصولي المسكين بتغيير فكره وموقفه منا، لكنه تطوع، بل تمادى وتفنن ليلحلق الضرر والأذى بالآخرين بدون ان يطلب منه أحد ذلك. أجل هذا هو نعمة المزايد، يتميز بأسوأ مفردات تبدأ بالخاء: أول الخاسرين وأسوء الخاسئين وأذل الخانعين والخائبين والخائنين لقضيتنا، كوفِىء فيما بعد وفجأة بزمالة دراسية إلى بريطانيا، بينما كان الآخرون يتعرضون للضرب والحبس والإهانه ومع ذلك لم يتردّدوا في النضال من أجل أهله الفقراء، لطالما ادّعى نعمة الانتماء لهم. هل هذا ميسوبوتامي كما كان يتمنطق ويزايد ويتبجح؟ هل ينتمي هذا التافه الدَعّي الى مابين النهرين؟ اي مفارقة هذه؟ هل تتذكر كيف أهنّاه واحتقرناه وهشّمناه، عفوًا أقصد همّشناه عندما عاد من بريطانيا إلى العراق؟

كان يتصور أننا سنستقبله بالورود أو سننسى فعلتَه السوداء، لكننا لم نحقد عليه في دواخلنا بل أهملناه، والله انا شخصيًا كنت أعطف عليه وركنته في زاوية "الكراكيب"، بل شطبت اسمه ومسحته ومحوته من ذاكرتي، اجتثثته، تمنيتُ له ان يحقق سعادته الشخصية كما يريد، لكن بالتأكيد ليس على حساب الآخرين! الكلاب تنبح والقافلة تسير!

سَوْرري! سَوْرري! آسف عيني آسف! آسف على هذا الاستطراد المتشائم! لكن الثوري المبدأي، آسف حبيبي آسف، أزعجتك بهذه القصه السلبيه!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

في المثقف اليوم