أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

حرارة الصيف الملتهبة بعد الزوال، تدفع جميع المخلوقات إلى البحث عن بقعة ظل، الكثير من الطيور تهدأ عن الطيران، وتنزوي في أعشاشها، الأولاد الكبار يقصدون البركة الكبيرة من النهر، ها هم الآن يقفزون من أعلى الجرف الذي يطل على وسط البركة، منهم من يقفز وكله ثقة بأنه يتقن فن العَوم، ومنهم من يقفز ليأتي وسط البركة وهو يقلد أقرانه ولا علم له بالفخ من داخل قعر البركة... حيث يتدفق الماء على شكل تيار يجذب كل من اقترب منه، ليجد نفسه أسفل الجرف تحت الماء، المشكلة عندما تعتقد أن فن العوم  يعتمد على العوم ضد التيار، وهو يستحوذ على كل جهدك وطاقتك، وفي الأخير تجد نفسك منهزما أمامه دون قوة منك، حينها يفعل بك ما يريد...عليك أن تساير التيار وحاول أن تتسلل منه شيئا فشيئا، حتى تتخلص منه بالكامل أليس هذا هو فن العوم؟ اليس هذا ما تقبل عليه الأسماك وهي من أوحت لنا بفكرة العوم؟

عندما تقترب من الأولاد تنزعج من ضجيجهم وأصواتهم المتعالية، وهم يقفزون في الماء واحدا تلوى الآخر، ليختفوا تحته لتوانٍ وبعدها يخرجون منه، وأجسادهم تتقاطر ماء، وهم في جري في اتجاه المسلك الرملي الذي يأخذهم الى أعلى الجرف ليكرروا القفز مرة تلوى الأخرى... أي عوم هذا وأي سباحة هذه؟ من الأولى أن يصاحبوا اتجاه جريان الماء لمسافة قصيرة أو طويلة... التحدي بالنسبة لهم هو التمرُّن على النزول إلى قعر البركة والبقاء في الأسفل والصعود بعد أن تكاد ينقطع النَّفَس... وحتى تكون مقنعا عليك أن تصحب معك بين أصابعك جزءا من تراب قعر البركة...

فأحيانا يلقوا بحجرة ملساء تحت الماء ويتبارون عن الذي له القدرة بأن يسحبها إلى الأعلى، وبهذا فهم في تمرُّنٍ مستمر على اكتساب مهارة وخبرة العوم تحت الماء، وبهذه الطريقة ينقذون بعضهم في حالة إن جرفه التيار والقى في مخبأ تحت الجرف، وإن حدث ذلك في غفلة منهم فتلك هي الكارثة... كما أن طريقتهم هذه في العوم تجعلهم أكثر خبرة في النزول إلى جوف بئر ممتلئ بالماء، لسحب ما قد يسقط بداخله... البئر حفرة مليئة بالماء، التجديف لا يفيد صاحبه في شيء وهو في حفرة لا يتجاوز قطرها مترين أو أكثر، مهارته تكمن في القدرة على النزول إلى آخر نقطة تحت الماء والصعود بعدها الى الأعلى... عندما يملُّ الأولاد القفر يتهيؤون لمغادرة المكان في اتجاه القصبة مرورا بجوف الواحة، ولكن قبل أن يصلوا ظلال النخيل والأشجار، يحاصرهم لهب الرمال لمسافة قصيرة، فمن انفلتت نعاله من أرجله وهم في سباق فيما بينهم، فقد يقع في فخ لهب الرمال ولا يخرج من الفخ إلا بمشقة...

عند شروق الشمس أو قبل غروبها، تصادف جموع العائدين من الحقول ودوابهم محملة بالفصَّة، لإطعام أبقارهم ونعاجهم... نسيم الصباح الباكر أيام الصيف، يعدك بيوم معتدل الحرارة، وانه سيلازمك طيلة النهار، لكن سرعان ما يخلف وعده ويختفي، منهزما أما لسعات الشمس الحارقة،  التي تتراجع إلى الوراء قبل الغروب وتفسح المجال أمامه مرة أخرى ليوفي بوعده، منظر غروب شمس الصيف وهي تنغرس من وراء الرمال، منظر تشدُّ له الرحال،  وأنت من  فوق الربوة العالية أو من فوق أحد أسطح القصبة تراقب حركتها،  فعندما ينغرز النصف من قرصها الذهبي وراء الرمال، تحجب بعض زعانف جريد النخيل النصف المتبقي الذي لا يمكث إلا قليل من الوقت ليظهر لك الشفق في الأفق، وهو منظر في غاية الروعة، يثير بدواخلك الكثير من الأسئلة، يا ترى ما بعد هذا الأفق؟ وأنت في حنين وانجذاب نفسي لا مثيل له نحو الشمس التي تركتك وحيدا واختفت، ولا يمكنك اللحاق بها، تشعر كأنها راحت وأخذت معها شيئا ما من وجدانك...أنت منجذب نحوها بشكل لا مثيل له، لا شيء يلفت نظرك ويخرجك من هذه الحالة، إلا الصَّدع بآذان المغرب... حينها تفهم بأن الإنسان في القدم لم ينشدُّ وينجذبُ عبثا نحو الشمس والكواكب ويجعلها موضع اعتقاد وعبادة، فالوضع الذي كان عليه، قد تشكل لديه من تلقاء ما أحدثته الشمس في نفسه حالة الشروق وحالة الغروب، وهي حالة نفهم منها طبيعة حركة الوجود وتسبيحه.

ما بعد الزوال تتحول الدروب والأزقة الضيقة في مختلف قصبات الواحة وقصورها، إلى ملجأ مأقة يقي ساكنيه حرَّ الظهيرة، الجالسين مصطفين من كل جانب على مختلف المِصْطَبَّات (الدُّكَّانُ) هنا وهناك، وخاصة المصطبَّة القريبة من باب القصة، بكونها نقطة تجمُّع والتقاء مختلف الدروب الرئيسة... الجالسين في حالة استرخاء، كأنهم بباب مكيف هوائي كبير الحجم، إذ تصلهم نسمات هواء خفيف وبارد، وقد عملت مختلف الدروب على تكييفه من حالة الحرِّ إلى حالة من البرودة، الجالسين وخاصة الكبار في السن، يستعينون على تكييف الهواء بمختلف مراويحهم، المصنوعة من سعف النخيل...

مختلف هذه الجلسات فرصة ثمينة لمن يهوى الحكاية والسرد، وأصحاب هذه الهواية معروفين بين القوم، وهم رأس المجلس، خاصة عند الشيوخ والكبار في السن... ها هو «حمّان" فرح بنفسه وقد اختار مكانا رئيسيا للجلوس بين الجالين؛ وضع رجله اليمنى على اليسرى؛ امتدت يده إلى (شكارته)1 أخرج غليونه النحيل المصنوع من قصب سميك وضع التبغ في جوف الغليون ودكه بسبابته جيدا. أشعل فيه النار وهو يمص دخان التبغ الذي يحترق وقد عمت رائحته المكان، وفي الوقت ذاته يعمل على غلق السرة المصنوعة من الجلدي المليئة بالتبغ، وهو على يقين بأنه سيعود إليها مرة ثانية، عندما فرغ الغليون من التبغ أضاف عليه، وقربه الى شفتيه ومصه مصا حتى ظهرت فراغات شدقيه، على شكل حفرتين من كل جانب، فهو لم تعد له أدراس، وعندما يضحك يظهر عليه بأنه فقد أحد أسنانه الأمامية وتظهر أخريات تطل بلون يمتزج فيه البياض بالصفرة والسواد...ضحكة حمَّان ضحكة جميلة...عندما ينطلق في الحكي والسرد... يتوقف فجأة وإذا بالجالسين تتعالى ضحكاتهم وقهقهاهم من هذا الجانب أو ذاك الجانب... حمّان يتحدث عن بطولاته التي لا تنتهي... وإن عارضته في الحكي قد يحولك موضوعا لحكايته...

في المساء بعد صلاة العصر بقليل، تبدوا لك مختلف المِصْطَبَّات فارغة، وفي هذا الوقت بالذات تجد الأولاد يدورون من تحت جذوع النخيل، يلتقطون مختلف البلح المتعدد الألوان الأخضر الأحمر والأصفر وقد تساقط على الأرض، فمن عادة النخيل أن يستغني على القليل من البلح ليفسح المجال أمام بلح آخر لينضج ويتحوَّل إلى رطب تمار... الأولاد كل واحد منهم يسعى ليملأ قفته الصغيرة من البلح...المحظوظ منهم في الأيام الأخيرة من الصيف، يعثر على أو تمرة نضجت، فأهل الواحة يعتقدون  أنك عندما تكون من الأولين الذين يتذوقون تمر الموسم، قد تتحقق الأمنية التي تتمناها وأنت تمص تمرة الموسم الجديد...بعد الغروب يعود الأولاد بقففهم الصغيرة، لتوضع في الشمس وبعد أن تجف تكون علفا للنِّعاج.  

قيل قديمًا:

لا يعشقُ الصيفَ إلاّ من بهِ خَللٌ

أمَّا الذي يهوى الشتاءَ فـهـيمُ

أهل الواحة لا يميلون لمحبة الصيف، ولكنهم على وعي بأن وراء حرارة الصيف يكمن السرُّ في أن ننضج مختلف التمور، وقد اختار النخيل بأن تستوي تماره منذ القدم في حرارة الصيف بالأخص حرارة الصحراء، وهم بهذا يتحملون الحر، وقد بذلوا كلَّ جهدهم في تطويعه الحرِّ والتكيف معه...لكن الحرُّ بانعدام الماء أو قِلته يستعصي عن أي شكل من أشكال تطويعه والتكيف معه...لا فائدة في تطويع الحرِّ دون ماء...وفي هذه الحال فأهل الواحة في مقدمة من يمقتون الصيف وحرَّه... لأنه لا يأتي بالتمار...

يتبع...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

....................

1- الشْكارة: وعاء جلدي لنقل وخزن الأشياء تصنع من جلد ناعم، غالبا من جلد الضأن، ارتبطت قديما بحمل المال والنقود، ومختلف المستلزمات الضرورية الخفيفة جدا مثل المنْقاش لإزالة الشوكة إذا دخلت في الرجل... كلمة شكارة قريبة فعل "شكر" وهي تدل على الشكر والخير والنعمة والبركة.

تلعب الثقافة العامة التي تعني 'كلُّ ما يضيء العقل، ويهذّب الذوق، وينمّي موهبة النقد، واشتقاق كلمة ثقافة من الثِّقاف يكون معناها الاطلاع الواسع في مختلف فروع المعرفة، والشخص ذو الاطلاع الواسع يُعرَّف على أنّه شخصٌ مثقّف، وتُعرّف الثقافة أيضًا -اصطلاحاً- على أنّها نظام يتكوّن من مجموعة من المعتقدات، والإجراءات، والمعارف، والسلوكيّات ' و تستعمل في العصر الحديث للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي والجماعات والثقافة ليست مجموعة من روح ممارستها العقائد والقيم واللغة والمبادئ والمقدسات والقوانين والأفكار فحسب؛ ولكنها نظرية في السلوك ترسم طابع الشعوب وتغني التجارب.

تشمل القيم في البيئة التي خلقها الانسان؛ بما فيها المنتجات المادية التي تنتقل من جيل إلى جيل، وتتضمن الأنماط الظاهرة والباطنة للسلوك المكتسب؛ عن طريق الرموز التي تتكون في مجتمع معين من علوم ومعتقدات وفنون وقيم وقوانين وعادات وتقاليد تتوارث من جيل إلى أخر، من الصعوبة الفصل ما بين الثقافة والمجتمع؛ إذ إنهما متكاملان فلا وجود للثقافة من الاصل لولا وجود مجتمعات تتبناها، ولا وجود لمجتمعات دون ثقافة تنظمها؛ إذ إنها تتحول إلى غابة، وأبسط مثال على ذلك اللغة حيث تعتبر اللغة المكون الأول للمجتمعات؛ بل الموروث الثقافي الاهم في المجتمع ولولا وجود اللغة لانعدمت أهم وسيلة اتصال بين الناس في المجتمع، ولذلك فإن أي محاولات للفصل ما بين المفهومين ستذهب ُ سدى كما هو حال الثقافة والمجتمع تتعرضان اليوم للعديد من التحديات، و لعل الإنسان  يتأثر بعوامل خارجية؛ كذلك أيضا أبرز التحديات هو تحدي العولمة؛ الأمر الذي أفقد المجتمعات  خصوصياتها الثقافية حيث بدأ العالم كقرية صغيرة مفتوحة على بعضها، مما جعل الكون يبدو كأنه ثقافًة واحدة، وبالتالي شعور الإنسان نفسه في حالة اغتراب عن مجتمعه.

وتعمل الثقافة على إغناء حياتنا من خلال تقديم فهم أعمق للعالم وتعزيز النمو الذاتي وترسيخ أواصر الارتباط والانتماء من خلال التراث والمعالم التاريخية والأدب والفنون والإبداع والمتاحف وغيرها من الممارسات اما الثقافة العامة فهي هي مجموعة المعارف والمفاهيم والمعتقدات التي يكتسبها الشخص عن طريق التعلم والتجربة  والمعرفة التاريخية يتعلم من خلالها الشخص حقائق وأحداث تاريخية مهمة والثورات والحروب والتطورات السياسية والاقتصادية والمعرفة العلمية، يكتسب الشخص معرفة بنظريات ومبادئ العلوم المختلفة يكتسب البشر الثقافة من خلال عمليات التعلم الخاصة بالتثقيف والتنشئة الاجتماعية، وهو ما يظهر من خلال تنوع الثقافات عبر المجتمعات. أما الثقافة المؤسسية فلهادوراً محورياً، كونها ذات تأثير مباشر على أداء العامل بشكل خاص، وإنعكاس ذلك على أداء المؤسسة بشكل عام، إذ أنها تٌعد الإطار لتوجيه السلوك التنظيمي والمؤسسي، ووجود الثقافة يحافظ على القيم المؤسسية، وبالتالي زيادة الالتزام والضبط بالعمل على استراتيجيتها وإدراك أهمية ما تسعى إليه تلك المؤسسة ودفع العاملين لتحقيق أهدافها، بحيث ينتج عن هذا التجانس تحفيزهم ودعمهم لتحقيق أهدافها.

ومما لا شك فيه أن الثقافة المؤسسية لها دوراً مهماً في عملية التطوير والإبداع وتعد عامل مستقل يرتكز على القيم ولها أهمية بارزة في عمليات استمرارية الأعمال واستمرارية المنظمة بشكل عام.

ومن المعلوم أن الثقافة المؤسسية بأنها مجموعة من المفاهيم والقيم والمبادئ التي يؤمن بها رئيس المؤسسة، بحيث يقوم بدوره بالعمل على صياغتها بطريقة تتناسب مع طبيعة وبيئة وإستراتيجية العمل داخل المؤسسة، كما يجب أن يكون العاملين مؤمنين بتلك الثقافة وعلى قناعة تامة بتلك القيم والمفاهيم ويعملون ويلتزمون بكل جدية بالعمل على تطبيقها بتوجيه وتمكين ودعم من الإدارة العليا بالمؤسسة تلك. خلاصة القول أن الجهود الرامية إلى التقدم هي جهود جماعية يحمل مسؤوليتها المثقف والسياسي والتاجر بالإضافة إلى العمال وأرباب العمل، وكذلك كل أفراد المجتمع لتأتي النتائج الثقافية كتعبير عن تلك التي أحدثها في المجتمع في بنيته لأن الثقافة من أحد ُشكل الركن المعنوي فيها، و تشمل كافة الجوانب غير المادية والمتمثلة في العقيدة والقيم و الأفكار والعادات أركان الحضارة؛ واّلتقاليد والاعراف والاخلاق والأذواق واللغة، وغيرها من الجوانب الأخرى

***

عبد الخالق الفلاح - باحث واعلامي

مركز الوعي الفكري للدراسات والبحوث

 

‎‎إن فرضية نهاية الكون تشير الى نفخ الملك إسرافيل بآلة الصور، فيصدر صوتا موسيقيا يفزعنا ثم يصعقنا للموت حتى نفخته الثالثة التي تبعثنا للنشور.

فلماذا اختار الخالق هذه الآلة وخلقها قبل ان يخلق بني ادم؟  هل لأهمية الموسيقى في حياتنا وموتنا؟ أم أنها رسالة تثبت أن الآلة الموسيقية ربانية بامتياز!. 

يحدد الباحثون زمن ظهور الموسيقى مع بداية الحياة على المعمورة، عندما أطلقت حنجرته نغمات موزونة على إيقاع تصفيق يديه، كما كان يفعل الراحل داخل حسن عندما يوازن بكفيه ومسبحته إيقاع اللحن ووزنه. بينما يشير المؤرخون الصينيون الى نشأة الموسيقى قبل وجود الانسان على الأرض. 

فالإنسان تعلم الموسيقى من الطبيعة وقلدها بإبداع.

الطبيعة بجمالية خلقها موسيقى هادئة  تبعث الاطمئنان والراحة النفسية، بينما تصدر الأصوات من مكوناتها كصوت خرير الماء وتغريد البلابل ورفيف أجنحتها.

ومن بين أسس الموسيقى العلاقة التي تنشأ بين الأم وطفلها عندما تهدهده. فعندما تودعه لساعات النوم تبدأ ترنيمتها الغنائية الموزونة: "دللول يا الولد يا بني دللول، عدوك عليل وساكن الجول". أنها اللحظة التي يكتسب فيها الطفل الادراك الموسيقي، وهي اللحظة التي يكتسب من خلالها ارتباطه بالعالم الخارجي، بحزنه أم بفرحه. 

ويقال ان الموسيقار بيتهوفن، كان يمضي وقتا طويلا في الطبيعة بكل مكوناتها، ويحمل القلم والورقة ليسن ألحانه المستقاة من أصل الطبيعة. وهذا مؤشر أكيد الى أن الموسيقى رفيقة الانسان، من مولده الى حين ما ينفخ بالصور

ومع ارتقاء الإنسان تبدلت آلاته الموسيقية القديمة، لتصبح أكثر حداثة لتشبع الذائقة والحاجة الروحية الى الموسيقى التي توحد العالم مثلها مثل الهواء والسماء، فكيف لعزف نشيد وطني بآلة موسيقية في محفل مهم يثير الثورات المصطنعة، وكأن فرحة الجمهور أثارت الغيظ والغضب الوهمي للمتصيدين في ماء السياسة العكر.

***

وداد فرحان - سيدني

 

في البداية وقبل كل شيء؛ لست انا بناقد وليس في نيتي ان  اكونه، إنما حين اقرأ عمل ما واجد من ان هذا العمال يستحق تقديم قراءة له؛ اكتب قراءة له. رواية احدب نوتر داب كنت قد قرأته في بداية السبعينيات من القرن الماضي؛ من ثم اعدتُ قرأتها قبل ايام. في هذه القراءة وجدت فيها الكثير من العلامات والدلالات، كما الكثير من الاسئلة عن حقبة ظلام وظلم القرون الوسطى التي كانت فيها اوروبا تحت هيمنة وظلام وظلم الكنيسة؛ خلال ما يقارب العشرة قرون الى نهاية القرن الخامس عشر، وبداية القرن السادس عشر. انها اي هذه الرواية قد قالت الكثير عن بدايات انهيار قرون الظلم والظلام. من رحم هذا الظلم وهذه العتمة؛ بدأ عصر النور والانوار الذي شكل اللبنة التي منها من وبينها ومن وسطها؛ انفجر في فرنسا وفي عموم اوروبا عصر النهضة. رواية احدب نتوردام تصور بصورة مؤلمة وواضحة في آن واحد؛ الحياة في باريس في نهاية القرن الخامس عشر؛ وكيف يجري تماما استخدام او استثمار الدين من خلال تحكم الكنيسة في كل ما يجري على الارض من حياة الناس الى الاحكام التي تطال الناس وتسلب منهم حياتهم وحريتهم وكرامتهم وانسانيتهم. فقد استخدمت الكنيسة محاكم التفتيش في كل من يقف بالضد منها، او يحاول ان يفند اراءها سواء في السياسية او في الدين او في كل ماله علاقة بحياة الناس. رواية احدب نتوردام تعكس بصورة جلية؛ واقع الحياة في تلك العصور، عصور القرون الوسطى، وفي نهاية اخر قرن من القرون الوسطى المظلمة في اوروبا، وبداية عصر النهضة والاستكشاف والتنوير. كما انها ترجمت ما يمور في المجتمع الباريسي وبالتالي في كل المجتمع الفرنسي، بل الاوروبي وبالذات في غرب اوروبا وفي وسطها؛ من حركات مضادة لكل طروحات الكنيسة في تلك الفترة اي في اواخر القرن الخامس عشر. انها حقا ملحمة انسانية مؤلمة وموجعة في ان واحد؛ فقد كانت الكنيسة لا تتحكم بالمجتمع فقط، بل انها تتحكم ايضا بالقصر الرئاسي في فرساي، اي ان الحكم في القصر الرئاسي يستمد شرعيته؛ من موافقة الكنيسة وليس من الشعب. في ظل هذه الاجواء والظروف سواء ما كان منها سياسيا او دينيا، او اي ملمح اخر من ملامح الحياة كل الحياة؛ تخضع كليا لإرادة الكنيسة، ومحاكم التفتيش، محاكم تفتيش القرون الوسطى. كانت هناك حركة مضادة لها، لها فعلها في المجتمع الفرنسي. في وقت كان هناك على الجانب الثاني في باريس؛ مجتمع الظل او مجتمع المهمشين الذين يرزحون تحت ظل الفقر والعوز والحرمان وانتشار بيوت الدعارة؛ في احياء كاملة في الضواحي. الغجرية الراقصة والمغنية والتي تتقن فن الغناء والرقص بطريقة مذهلة كما انها تتمتع بجمال اخاذ؛ كانت قد خرجت من مجتمع الدعارة هذا بطريقة مؤلمة جدا. والدتها كانت تعرض نفسها او جسدها للبيع في اسواق بيع الجسد في تلك النواحي المهملة جدا، والتي ترزح تحت فقر مدقع. فقد حملت وهي لا تعرف من والد الطفلة التي سوف تولد لاحقا، والتي حين  وضعتها كانت على قدر كبير جدا من الجمال. الوالدة تعلقت بها كثيرا حتى صارت لا تفارقها ابدا. في احد المرات من سوء الصدفة؛ كانت لشغل ما غادرت البيت لبعض الوقت. حين عادت لم تكن الطفلة في مكانها، بل كان هناك شبح مخيف جدا، فلا هو بإنسان ولا هو بحيوان هو في مكان بين الاثنين، بين الانسان والحيوان. وجه قبيح جدا، وحدبة في الظهر. في قارعة الطريق او في مكان على قارعة الطريق؛ وضعته هناك، مع اطفال اخرين في ساحة اعدتها الكنسية مسبقا لهذا الغرض، اي لعرض هؤلاء الاطفال او هؤلاء الرضع؛ لمن يريد من الناس ان يتبنى اي منهم. ظل الطفل الشبح او الطفل المخيف والمرعب جدا، ظل هو الوحيد الذي لم يتبناه اي احد. لكن في النهاية تبناه راهب عرف في المجتمع بالتقوى والاحسان. تتركز هنا بؤرة الرواية في الاحدب والراقصة والراهب والذي هو واحد من اعضاء محاكم التفتيش. تحمل الرواية مع انها رواية كلاسيكية؛ الكثير من الرموز والدلالات التي اراد الروائي بها او من خلال شخوصها الرئيسية؛ ان يقول رؤيته وأراءه في تلك المرحلة التاريخية المهمة والتي لاحقا هي من رسمت الحياة المستقبلية في فرنسا بل في كل اوروبا؛ بعد تخلص فرنسا من نفوذ وهيمنة الكنيسة، وانتهاء تحكمها في المجتمع والحكم والسياسة والناس. الراقصة الغجرية والتي هي ليست غجرية بل انها ابنة شابة فقيرة في احياء بيع الجسد، لكنها عاشت في احضان الغجر الى ان شب طوقها. حين كانت طفلة؛ قام الغجر بسرقتها ووضعوا مكانها، الطفل الرضيع الاحدب. كانت تعيش من عروضها في الغناء والرقص في الساحات. في احد المرات كان هناك عرض موسيقي غنائي؛ في مسرحية غنائية؛ لمخرج وموسيقي وشاعر وكاتب في وقت واحد؛ في بداية مشواره في التأليف والانتاج المسرحي؛ حين قام بعرض مسرحيته في الساحة التي تم اعددها لهذا الغرض؛ جاءت هي الغجرية وقامت بعرضها الغنائي مما ادى الى ان ينصرف الجمهور عنه إليها. لكنه في ذات الوقت كان قد تعلق بحبها، وتزوجها زواجا دراماتيكيا. كيف حدث هذا الزواج؛ هذه هي بؤرة الرواية؛ بشخوصها الرئيسية؛ الراقصة والاحدب والراهب.. الزمن الروائي للرواية حيث؛ تدور احداثها في هذه المرحلة التي سبقت عصر النهضة الاوروبية والتنوير؛ والتي فيها اختمرت كل عناصر الانفجار الذي لاحقا كانت هذه العناصر؛ هي الاسس الذي تم البناء عليها؛ في بداية التخلص تماما من نفوذ وسيطرة الكنيسة.. تخرج الراقصة الغجرية في ظلام الليل وحيدة تماما في دروب ضيقة ليس فيها اي حركة لبشر في ساعة متأخرة من ليل غاطس كاملا في الدمس. تتفاجيء بشلة من لصوص الليل يقودهم شبح مخيف كأنه حيوان خرج من غابة كثة؛ يجندلها الشبح حتى انها لم تتمكن من الصراخ. في هذه اللحظة ومن حيث لا تتوقع؛ يخرج من اعماق الظلام فارس شاب من سلاح الفرسان الملكي؛ ينقذها من عصابة اللصوص وقطاع الطرق. تقع في حبه بسرعة ومن دون ادنى تفكير، كما هو الأخر كان قد وقع في حبها على الرغم من ان له خطيبه من طبقته. في التوازي الزمني والمكاني تقوم العصابة بزعامة وحش الليل؛ باختطاف المخرج والكاتب والذي هو الأخر كان قد وقع في حبها؛ كما انه كان هو السبب في انقاذها حين ارشد وبسرعة الفارس الشاب الى ان هناك على مقربة قريبة جدا؛ ثمة اختطاف للراقصة الغجرية. لكن الذي حدث لاحقا حين انصرف الفارس الشاب؛ قامت العصابة بقيادة وحش الليل بتنظيم جلسة محاكمة للمخرج والكاتب؛ ووضعوه امام خيار وحيد؛ وهو ان تقبل به الراقصة الغجرية كزوج لها  وان لم تقبل فان مصيره الموت. جيء بها، بعد ان تركها الفارس وحيدة في الليل، ظانا من انها قد نجت منهم؛ الى دهليز المحكمة التي هي من صناعة الراهب من دون ان يظهر هو في الصورة، إنما سياق السرد قدم لنا هذه الصورة وبوضوح بالكلمات؛ وقاموا بتوجيه السؤال لها؛ هل تقبل بالكاتب زوجا لها؛ المفاجأة كانت هي قولها نعم اقبل به. ان كل هذا الذي  حدث هو بتخطيط من الراهب والذي هو احد اعضاء محكمة التفتيش. فقد وقع هو الأخر في حبها. الرهب الذي كان قبل سنوات قد تبنى الطفل الشبح او الذي هو في مكان بين الانسان والحيوان حتى سيطر عليه سيطرة تامة، اذ اوكل عليه دق نواقص الكنيسة عندما يحين وقت الصلاة. الاحدب الشبح المخيف والذي يشبه الحيوان اكثر مما يشبه الانسان؛ كان يتمتع بقوة خارقة جدا. اراد الراهب الحصول عليها باي ثمن، فقد كان قد احبها بطريقة جنونية. من بين تلك الوسائل هو اختطافها من قبل الوحش المطيع له مع عصابة اللصوص. لكن هذه الوسيلة قد فشلت تماما. فما كان منه الا ان قام بتحريض العناصر التي تتبع محكمة التفتيش والتي هي الأخرى تابعة الى الكنيسة. فقد اتهمت بالهرطة والتدليس. ليتم سجنها، لكنها تمكنت من الهروب قبل ان يتم تقديمها الى المحكمة ومن ثم حتما الى المقصلة. كان السبب في تهريبها هو الراهب الذي طلب منها ان تكون له هو وحده مقابل ذلك ان يخلصها من المحكمة كليا. لكنها رفضته بإصرار وقالت له انها تحب الفارس الشاب الذي انقذها. في هذا الوقت او في كل السنوات التي مضت كانت الام حبيسة في غرفة مغلقة؛ بحجة من انها مجنونه؛ لا ترى العالم الا من كوة صغيرة في الجدار. لكنها لم تأييس ابدا من انها ذات يوم لسوف ترى ابنتها. قصة الغجرية ما كان لها الا ان تنتشر في الاحياء الفقيرة، والتي اعتبرت او انهم اعتبروها واحدة منهم، وعلهم ان يهبوا لإنقاذها. لتفجر غضب الجماهير المهمشة من اتون محاكم التفتيش. هنا يتجلى تماما علاقة الكنيسة مع القصر الرئاسي في فرساي، إنما الامبراطور او الملك الفرنسي، لويس الحادي عشر؛ كان حينها في زيارة الى باريس. عندما علم بالغضب الجماهيري وبثورة هؤلاء الناس من الكادحين والعمال وما هو يقع في خانتهم او في تصنيفهم. حتى كادت هذه الجماهير ان تسيطر على باريس. قال لمن ابلغه هذه الاخبار؛ وهو ايدها كليا ظنا من انها كانت ضد قاضي باريس الذي يكن له كرها شديدا، وليس ضد الكنيسة؛ ومباركا لثورة المظلومين ومشجعا عليها. لكن حين علم من انها كانت ضد الكنيسة؛ امر الدرك وسلاح الفرسان بالتصدي لهذا التمرد وقبره قبل ان ينتشر الى بقاع اخرى من فرنسا. هنا يصبح لنا الامر واضحا كل الوضوح وهو علاقة القصر الرئاسي بالكنيسة؛ علاقة تخادمية ومنافع متبادلة بين الاثنين الكنيسة ومحكمة التفتيش(القاضي يشرف على ادارة باريس وليس له علاقة بمحكمة التفتيش) والقصر الرئاسي. حين يسجن ويعذب الوحش او الغول الوحشي الذي شكل ويشكل الخادم المطيع للراهب؛ للجريمة التي قام بها باختطاف او محاولة اختطاف الراقصة الغجرية، وبأمر من الفارس الشاب من سلاح فرنسان القصر الملكي، وقبل اتهام الراقصة بالتدليس والهرطة والتي كان وراء هذا الاتهام هو الراهب؛ عندما مرت بالقرب منه وهو يُعذَب قامت بسقيه بالماء واطعامه بما كان عندها منه حينها. في اثناء مطاردة الراقصة الغجرية من قبل سلاح الفرنسان، وهو يحاول اخماد ثورة الجياع والعمال والمهملين من الناس، وبعد تحرير الغول او الوحش المطيع للراهب، قام هذا الوحش بإخفائها في الكنيسة كي لا يصل إليها سلاح الفرنسان؛ لأن لكنيسة من الاماكن المحرمة الوصول إليها واعتقال من يلوذ بها طلبا للنجاة. هنا يتمكن الراهب من الوصول إليها على الرغم من تحفظ الوحش عليها واخفاء سرها عن الراهب، ويساومها بالقبول به مقابل ان يخلصها من سلاح الفرنسان وايضا من محكمة التفتيش. لكنها ترفض رفضا قاطعا. من كوة في جدار الكنيسة تبصر الفارس الشاب من سلاح الفرنسان فتنادي عليه بأعلى صوتها. في النهاية يتم اخراجها من مخبئها بحيلة شارك فيها الراهب. تم بعدها سوقها الى المقصلة. قبل ان تصعد إليها ابصرت امها؛ التي خرجت من محبسها حين عملت من ان الراقصة هي ابنتها التي كانت قبل سنوات خلت قد فقدتها. تعرفت عليها من القلادة التي حملتها الراقصة الغجرية خلال سنوات. قدمها لها الوحش وهي في سجنها، واعلمها بكل ما جرى ولسوف يجري لأبنتها. امام المقصلة يجتمع الراهب والحدب والام والراقصة التي تدفع من قبل الجلاد الذي يأتمر بأمر الراهب؛ كي تصعد سريعا الى المقصلة. تنادي امها. تحضنها امها في اخر مرة لها في الحياة؛ اذا تفارق الحياة وهي تحضن ابنتها. يقطع رأس الراقصة الغجرية. لتسدل الستار على حياتها الى حين.. الراهب يقذف به الاحدب من على برج الكنيسة حين اراد ان يتسلل الى الغرفة التي تضم الراقصة؛ قبل اعتقالها من قبل سلاح الفرنسان الملكي؛ ليموت ممزقا، كما ان الوحش الاحدب يموت هو الأخر عند ارض المقصلة، موتا طبيعيا هو اشبه بالانتحار وليس الانتحار تجسيدا. ان الرمز والدلالات والعلامات التي قالتها الرواية عبر شخوصها الرئيسة؛ الراهب الذي يمثل تماما فساد الكنيسة وسيطرة رجال الدين فيها على مقاليد والاوضاع والظروف واحوال  وحياة الناس؛ بإدانته التي جاءت له، من الكنيسة ذاتها نزولا عند رغبة الناس وخوفا من غضبهم لاحقا؛ يمثل بداية تراجع دور الكنيسة في حياة الناس وفي سياسة الدولة، في المستقبل القريب؛ وهذا هو ما حدث بعد سنوات اي في بداية القرن السادس عشر او اخر سنوات القرن الخامس عشر. الاحدب الوحش على الرغم من اطاعته للراهب، لكنه في نهاية الامر كان قد تمرد عليه واصطف الى جانب الراقصة، والى جانب ثورة الكادحين من ابناء الشعب الذي كان يئن تحت وطأة الظلام والظلم والجهل. الاحدب على الرغم من قبحه الا انه في الداخل منه؛ فيه الكثير من الرقة والعطف والانسانية. حين اكتشف حجم الظلم والقسوة التي كان يمارسها الراهب والذي يمثل كل من الكنيسة ومحاكم التفتيش؛ انحاز الى جانب الراقصة والى جانب ثورة الجياع والمظلومين الذي اتخذوا من مطاردة سلاح الفرنسان للراقصة سببا لهم للثورة. ان رواية احدب نتوردام؛ زمنها الروائي هو نهاية القرن الخامس عشر؛ الذي شكل نهاية قرون من ظلام القرون الوسطى في فرنسا واوروبا. لقد تلت بعد سنوات من زمن هذه الرواية التي كتبت من قبل شاعر وروائي فرنسي، فكتور هوجو؛ انها كانت في سرديتها تحمل نبوءة بداية عصر الانوار والتنوير وانتهاء عصر الظلام. فقد تلت سنوات هذه الرواية؛ ثورات فرنسية عديدة؛ استمرت لقرنين حتى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقبلها، في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر؛ الذي حدثت فيهما على التوالي؛ كمونة باريس الثانية والاولى.  الكلمة الحرة هي من تسلط الاضواء الساطعة على الظلام والعتمة؛ لتعري وتكشف؛ رجالهما وادواتهما.. رواية احدب نتوردام من اصدار المركز الثقافي العربي في المغرب؛ تقع الرواية في 411صفحة من القطع المتوسط. ملاحظة ضرورة القول بها في هذه السطور المتواضعة: ان البعض من الاعمال سواء في الرواية او في الشعر او في اي جنس أخر؛ تظل صالحة ومفيدة للقراءة ومن ثم في الاستفادة منها في التحليل والاستنتاج للواقع المعيش في الاطار العام وليس في التطابق الكلي؛ لعدة عقود وحتى لعدة قرون..

***

مزهر جبر الساعدي 

 

عندما ينتهي أهل الواحة من شغل البيادر، وقد تكلفهم مهمتهم تلك كثيرا من المشقة، ومنهم من يقضي شهرا أو أكثر صباحا ومساء متعبا بشغل البيدر، وقد يكون للطقس دوره في تأخيرهم أحيانا لوقت طويل، ففصل الحبوب عن التبن يحتاج إلى هبوب رياح خفيفة جدا، تسمح برفع المِذراة[2] محملة بالتبن والحبوب معا، ليذهب التبن بعيدا مع هبوب الرياح وتسقط حبات القمح أو الشعير بمعزل عنه، هبوب الرياح الخفيفة هذه، يسميها أهل الواحة "لَعْوِينْ" لأنها تعينهم على فصل الحبوب على التبن وبدونها، لن يتحقق ذلك. "لَعْوِينْ" لا أحد يمكن له أن يتحكم في حضوره أو غيابه، أو الاتجاه الذي سيختاره لنفسه، إنه ينظر إلى الجميع بعين المساوات...قد يحضر ليلا أو صبحا أو عند الظهيرة...الكل يترقب وصوله. البعض يتخيله في صورة ملائكة تزل من السماء وتحرك أجنحتها برفق وتكون سببا في عزل الحبوب عن التين والقش. فبعد جهد جهيد وكثير من العناء، تظهر كومة التبن وهي مرتفعة إلى الأعلى، وبالقرب منها بأمتار كومة الحبوب منحنية وأقل ارتفاعا، إذ تتم العناية بها أولا وتترك كومة التبن إلى متسع آخر من الوقت...

البيادر وما يتبعها، من أنماط ثقافية واجتماعية، تشكل عنصرا أساسيا عند أهل الواحة، فعلى أرضية البيادر، يتم تخصيص جزء مهم من القمح والشعير للفقراء والمحتاجين، ويخصَّصُ جزء قليل لمَطْمُورة[3] القبيلة، وعلى أـرضية البيادر تتم عملية تقسيم المنتوج بين بين مالك الأرض والمزارع وفق اتفاق مسبق...[4]

بعد تعب البيادر، يميل أهل الواحة في كل فصل من فصول الصيف، إلى حفر السواقي الرئيسية، داخل الواحات، وحفر مختلف المصاريف التي تصرف الماء في اتجاه مختلف الحقول، وهم في استعداد لاستقبال موسم جديد، فضلا على ترميم مختلف القناطر الكبيرة والصغيرة التي أقيمت من جذوع النخل والفروع الكبيرة لمختلف الأشجار، كما يتم ترميم مختلف البالوعات التي يتسرب من خلالها الماء بشكل أفقي من الساقية في اتجاه مجرى رئيسي يصرف الماء في اتجاه معيين، وتتابع على طوله بالوعات صغيرة يتسرب من خلالها الماء إلى حقل من الحقول.

اختلافات اهل الواحة في القصبة الوحدة أو في القصر الواحد لا تنتهي، والبعض منها لا يجدون له حلا، ويتم تأجيل النظر فيه طيلة الموسم، ولكن متسع وقت الصيف عند الناس، تجعل المشكل يفرض ذاته، ولا مهرب من التفكير فيه... أكثر المشاكل تدور حول توزيع المياه، وحول طبيعة استغلال الأراضي الجماعية في الرعي أو الحرث أحيانا، هذه المشاكل قد يجدون لها حلا إن كان الخلاف بشأنها بين الجماعة الواحدة التي تشترك في القصبة أو القصر الواحد، أما إن ارتبط أحد هذه المشاكل بقبيلة أخرى، فقد يتطور المشكل أحيانا إلى نزاع بالأدي وربما إلى مقاتلة بين الطرفين، تتدخل بشأنها قبائل مجاورة حتى لا يمتد الصراع إلى قبائل مجاورة.

مجمل القبائل في الواحة تتجمع حول ضريح من الأضرحة، قد يكون لولي صالح، قد يكون لجدِّ القبيلة، قد يكون ضريح لأن الضرورة الاجتماعية اقتضت ذلك، الضريح بمثابة طوطم[5] القبيلة الذي يرمز لجماعة القبيلة ويشكل نقطة مرجعية اجتماعية بالنسبة لها، فالجميع يكنُّ له مشاعر الإجلال والإكبار فاحترامه يعني احترام الجماعة للقيم الاجتماعية الاساسية السائدة بينها. فالضريح يحظى بمكانة عالية عند أهل الواحة، فهم يتعاهدون بالقرب منه، أو بداخله، ويرفعون الأدعية بجانبه، وليس من الغريب أن نجد مصلى الأعياد والاستسقاء غير بعيدة منه...الضريح للزيارة على حسب الاختصاص، من الأضرحة من اختص في علاج الجن، ومنها من اختص في تجبير المكسور ومنها من اختص في جلب البركة... من النادر في الواحة عند القبائل المستقرة في القصور والقصبات ألا تجد ضريحا بالقرب منها... بينما القبائل التي تجوب الصحراء لا أضرحة لها، وهي تختار ما تشاء من مختلف أضرحة الواحة.

يتكون مجلس القبيلة من ممثلي مختلف ساكنيها، حسب أنسابهم، فالنسب الأكثر كثافة، تكون له مشيخة المجلس، أو تعود لأحد وجهاء القوم، ويضم المجلس ممثلين لمختلف المهنين في القبيلة...أهم ما يهدف له المجلس هو فرض سلطته على كل أفراد القبيلة والدفع بها نحو الدفاع عن مراعيها...مجلس القبيلة حلبة من الصراع والتدافع، ودفع الحجة بحجة أكبر منها، والتحيز لطرف على حساب طرف آخر، للحفاظ على مصلحة الفئة التي يمثلها كل عضو...ليس عيبا أن تبدي رأيا وتتخذ موقفا ضده، ليس عيبا أن تكون اليوم مع زيد ضد عمر، وغذا تكون مع عمر ضد زيد، ليس عيبا أن تتنازل وتتراجع إلى الوراء عندما يحاصرك الذين يخالفونك الرأي... في مجمع القبيلة كل شيء ممكن مالم يتجاوز القواعد العامة المحددة مسبقا والتي تشكل حلقة تجمُّعِ وتماسُك أهل القبيلة وقد وضعوا لها ضريحا يرمز إليها، فهي لا تخفى على أحد.

من داخل مجمع القبيلة يظهر لك الشيوخ والكهول، بقاماتهم الطويلة وأجسادهم البدينة، ذوي الجلاليب الواسعة الأكمام، والعمائم الطويلة على رؤوسهم، مصطفين واحدا بالقرب من الآخر، بأحد الدور، أو إلى جانب من جنبات القصبات والقصور، تحت ظلال النخيل والأشجار، يتهامسون فيما بينهم، وبين الحين والآخر تتعالى أصواتهم، لتعود إلى حالة الهدوء، عندما يحتد النقاش فيما بينهم، يتحدثون بشكل جماعي الكل يقول موقفه ورأيه، لا أحد يستمع لأحد...البعض منهم يلزم الصمت ويلتقط مواقف الآخرين...يبقى الأمر على هذه الحال وربما ينسحب البعض منهم، ويلحق به الأخرون ليعيدوه الى المجلس...الكل قال ما لديه...يقطعهم أذان أحد الصلوات  يقوم شيخ المجلس يتبعه الآخرون... ليعودوا في الأسبوع الموالي... متفقون على أشياء كثيرة ومتفقون ألا يتفقوا على أشياء كثيرة أخرى...

لقاءات وجمع أهل القصبة كثيرة جدا، لكن الجمع الذي بقيت ذكراه محفوظة يرددها الأحفاد، كل على حسب روايته، هو ذلك الحدث الذي جعل الغرباء يقتربوا ويتقدموا أكثر فأكثر نحو الواحة، ففي أحد مجالس القبيلة المهابة، جلس الشيخ في المكان الذي يبصره منه الجميع، اتكأ على الحائط، وثنى إحدى ركبتيه الى صدره، أنزل عمامته من أعلى رأسه ووضعها فوق ركبته المرتفعة إلى الأعلى، رأس الشيخ يبدوا للجميع عاريا ولم يعتادوا عليه عاري الرأس، حتى داخل بيته لا يزيل عمامته إلا عندما يخلوا إلى النوم، شعر رأسه يبدوا للجميع لا هو بالأسود ولا بالأبيض، فهو قريب من اللون الرمادي...حدق كثيرا في عمامته وهي فوق ركبته...أخذها ووضعها على رأسه وتبَّتها بكلتا يديه، وأكمامه الواسعة متدلية نحو الأسف إلى جهة مرافقه، وقد امسك بلحيته الرمادية...وإذا به يعيد الكرة مرة أخرى ويزيل عمامته، ويضعها فوق ركبته الممتدة نحو صدره ...هذه المرة سحبها بسرعة وأعادها إلى فوق رأسه... انشد الجميع نحوه، ما هو الأمر الذي سيبوح به هذه المرة...وقد عهدوه بأنه رجل لا يقبل أية مساومة، رجل صلب المواقف لكنه قريب إلى الحكمة، يعرف كيف يكون صلبا دون أن ينكسر...

يا ترى ما هو الخبر الذي من ورائه، هل هو قرار سفقة نزال لا بد منها ولا مهرب عنها، للحد من هجمات القبائل التي تنهب وهي تدور مثل الثعالب في الصحراء... كسر أحد الرجال الملثمين صمت المجلس...قل لنا ما الذي وراءك ... نطق الشيخ بكلمة واحدة فقط الفرنسيين... ردَّ عليه الملثم وقد وقفنا ضدهم ومنعناهم من التقدم ...رد عليه الشيخ منعناهم من التقدم على الأرض، لكن هذه المرة كان تقدمهم من خلال السماء...لقد قصفوا الواحة الشرقية بالطائرات بعد هزيمتهم على الأرض...الطائرات لا قبل لنا بهذا!! هل هناك مخلوقات أخرى تطير في الهواء مثل الطيور؟

القنابل التي يلقوا بها علينا ونحن في نزال معهم في الصحراء، هي نفسها يلقونها بالطائرات على القصبات والقصور...الواحات الآن تحت رحمة طياريهم، إنهم قادمون...ما هي خطتكم في مواجهتهم، هل نغادر القصور والقصبات؟ اهتزَّ الجمع وكثر القيل والقال وكثر اللغط ... واختلف الرجال فيما بينهم...كيف نستدرجهم إلى الأرض، ونحن أمام سلاح لا قبل لنا به... فقدنا رجالا كثر  بهدف صدهم ووقف تقدمهم...هل نسمح لهم بالتقدم وبعدها نلتف حولهم ونقاتلهم... إنها مسألة صعبة ولا حل لها في الأفق القريب... شيء واحد اتفق الجمعُ حوله هو العمل على تشكيل موقف واحد موحد اتجاه العدو في مختلف الواحات القريبة والبعيدة...وهي مسألة كلفت مختلف قصبات الواحة وقصورها وقتا طويلا...وأرواحا كثيرة...وفي الأخير تمكن العدو من التقدم وطاف بينهم...وقد انخرط البعض منهم أعوانا له...وقد اختلفوا حول ذلك كثيرا...وإذا به يرحل دون سابق إنذار، وبرحيله وجدوا أن زمنهم قد تغير... وحالتهم أصبحت على شاكلة أخرى...

... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

 كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

...................................

[2]  مِذْراة: اسم آلة من ذرا: أداة من خشب أو حديد ذات أصابع يُذرُّ بها الحَبُّ في الهواء ليُنقَّى ممّا علق به

[3] المَطْمُورة: مكان تحت الأرض قد هُيِّئ بعناية ليُطمَرَ فيه الشعير والقمح والفولُ ونحوُهُما

[4]  غالبا ما  يكون خمس المحصول أو ربعه، فالْخَمَّاسْ  نسبة إلى الخمس والربَّاع  نسبة إلى الربع، فهو  شخص فلاح مزارع قائم على زراعة وفلاحة حقل بتفاهم مع مالك الأرض حول حصته من المحصول.

[5]  الطوطم: أي كيان يمثل دور الرمز للقبيلة، وأحيانا يُقّدس باعتباره المؤسس أو الحامي.

 

عزيزي يونس اللجوج!

يا للجاجتك وإلحاحك!

لا تزعلْ منّي! طلباتك صارت كثيرةً! لكن مع ذلك أحاول أن أجيبك باختصار.

طلبتَ مني يا صديقي العزيز أن أكتب لك عن احتفالات رأس السنة هنا في هذا البلد الغني الصغير الجميل، وقتَها كانت الشمس تفتخر بإشراقها المتواصل حتى التاسعة مساءً، نعم كانت تشبه ليلة من الليالي البيضاء في عاصمة روسيا الشمالية: "لينينغراد" عفواً، "سانكت بطرسبورغ"، في نهاية يونيو وبداية يوليو، كما أتذكر، وإلا فأنا ضعيف بالأنواء الجوية. المهم، إني أجبتك آنئذ، وأنا "أدق" صدري قائلاً لك: تدلّل! غالٍ وطلب رخيص! صحيح، والله صحيح، أعترف بذلك، نعم وعدتك بالكتابة لكن كلام الليل يمحوه النهار، وأنا رجل، عفواً أقصد إنسان، متقاعس، أو بالأحرى مزاجي، يوم هيك وآخر كيك، وثالث ن ... ، عفواً، سامحني، هكذا هي الأمور هنا، كل شيء يجري حسب الطقس، أعتذر لك كثيراً لتأخري عن طلبك اللحوح اللجوج وأنت تعاني من الحصار، ومع ذلك وجدتُ نفسي اليوم منغمراً في رغبة الكتابة إليك، منخرطاً ومنهمكاً، في  الرد على سؤالك، وأحاول قدر الإمكان التركيز على سؤالك، وكما كانوا يقولون لنا في المدارس: فهم السؤال نصف الجواب، فأنا فهمتُ منك أنك تريد أن "تنفّه" عن نفسك وتستمتع بقراءة رسالة بلا نكد، كلها أفراح واتراح! أليس كذلك؟ وطبعاً سأتذكر دوماً ما طلبته أو "أمرتني" به: عدم التشعب وتقليب المواجع والانتقال إلى موجات أخرى، كما عهدتني أو شخّصتني و"اتهمتني" تقريباً! ولا يهمك سأسعى وأبذل كل ما بوسعي! إليك الرسالة!

الدنمرك دولة علمانية ديمقراطية، نعم، لكنها ذات خلفية مسيحية، إنهم يحتفلون بكل الأعياد الدينية المسيحية، لكن كما كان الناس عندنا في السبعينات يقولون ممازحين "مسلم بالجنسية".

الناس هنا يعشقون شجرة عيد الميلاد، يزينوها ويرقصون حولها في ليلة الكريسمس لكنهم ليس بالضرورة كلّهم متدينين. وأقول لك: لم يتقبل الناس هذا التقليد الجديد أو الموضة مباشرة وبدون اعتراض على الشجرة!

تقوم مؤسسات الدولة بتزويق أماكنها كل حسب اجتهاده، البلدية تنظف الشوارع وتعلّق الأعلام الملونة والشراشيب، تنصب شجرة كبيرة حقيقية مزيّنة ومزوّقة في ساحة المدينة الرئيسة، غالبًا ما تكون في مركزها كما هو الحال في كوبنهاجن. وتُخصّصُ محطاتُ التلفزيون برامجَها لهذا الغرض. هناك برنامج خاص للأطفال يبدأ من بداية شهر كانون الأول حتى رأس السنة اسمه "مفكرة عيد الميلاد" مكرس لهذه المناسبة مستوحى من الثقافة المسيحية، يُعرض فيلمٌ عن حياة سيدنا عيسى المسيح، فتصَوّر يا صديقي، مثلاً، كيف سيكون رد فعل عائلة ملتزمة باعتقادٍ آخر غير النصرانية، تريد تربيةَ أطفالهم عليه.

إنه أمرٌ متعبٌ بالتأكيد في البداية، وليس دائمًا سهلاً على آباء وأمهات غير مسيحيين، أو تابعين لكنائس أخرى، تقبّل ذلك! المسلمون يعترفون بكل الأديان السماوية السابقة ويَعتبرون المسيح نبيًا، لكن الرسول محمد خاتم الأنبياء، هذا ما لا يراه الآخرون! بل يغيظهم! هنا يكمن الصراع!

فيلم "الرسالة" عن حياة الرسول أهم بالنسبة للعائلة المسلمة من برنامج آخر عن الأديان!

عمومًا يبدأ الناس بالحديث عن عيد الميلاد والتحضير له منذ بداية شهر كانون الأول أو منتصفه، يفكرون بكيفية الاحتفال، أين وكيف وماذا يأكلون ويشربون، ولو في حقيقة الأمر أن الطعام معروف.

وكالعادة فإن أفراد العائلة يحتفلون بهذه المناسبة بأكل ما لذَّ وطاب من الوجبات والشراب والرقص حول شجرة عيد الميلاد المزينة بأحلى التزيينات اللّماعة بمختلف الألوان وصور الأقزام وهم يتدلون على أغصانها، وهدايا كثيرة مخفية تحتها توزع فيما بعد على الأطفال والكبار وهم يُقَبّلون ويحتضنون بعضهم بعضًا.

الأمر الآخر هو ان الكريسمس إذا جمعته مع "دورة" السنة ونهاية الأسبوع يصبح إجازة لا بأس بها، يسافر فيها بعض الناس. بدأنا نأخذ هذا الخيار أو يأتي أصدقاء مقربون جداً لنا ونحتفل معًا بهاتين المناسبتين، لكن هناك الكثير من المغتربين المسلمين الأصوليين، بالذات الجدد، وحتى الدنمركيين المورمونيين وشهود يهوه لا يبالون لهما وأطفالهم لا يشعرون بهما.

أتذكّر أني قلت لسْتين العامل "الروبوت" أو "الماكنة" كما أسمّيه، الطيّب، المشرف على بنايتنا السكنية، الجثيث، الطويل الضخم، عملاق من أحفاد القراصنة، "مبروك بعيد الميلاد"، ردّ عليّ ببرود أو جفاء :

- "إنكم لا تحتفلون بهذه المناسبة"،

أجبته:

- مع ذلك مبروك!

قال مبتسمًا ابتسامةً صغيرةً باهتةً بانت من طرف شفته:

- شكرًا.

تسائلتُ بين نفسي، من أين له هذه الأحكام النمطية؟ بالتأكيد بعد معايشته لبعض النزلاء من الأديان الأخرى بمن فيهم المسلمون وشهود يَهوه والمورمونيون ممن لا يُحيون هذه المناسبات، ولا يجاملون ويخشون على أطفالهم من التماهي مع الآخرين.

لكنها عطلةٌ لا يُستهانُ بها، يستغلها الناس بمن فيهم المغتربون للتزاور والسفر إلى ذويهم الى مدن او دول أخرى قريبة منهم. احتفلنا مع عائلة اخرى من أصدقائنا جاؤونا من السويد، قضينا ليلة جميلة بالذات مع الأطفال، لولا محاولة قتل "غسلاً للعار" حدثت هنا، أفسدت علينا أمزجتنا الجميلة واسترخاءنا.

دعني هنا أنقل لك مقاطعَ قصّةٍ كتبها صحفي مكرّسة لهذا الحدث، من جريدة محلية، وأعذرني إن كانت سلبيةً، يقول الكاتبُ:

- " أنا فعلاً متأثر وحزين لحد الآن على ما حدثَ، أعرف الرجلَ المسنَّ شخصيًا، اعتدى على "ضحيته" في لحظة غضب، لم تمتْ والحمد لله، أجل، بَقيتْ على قيد الحياة، اغرورقت عيناه بدموع الفرح والندم لسماعه هذا الخبر، كُتبتْ لها حياة أخرى جديدة، بشرى سارّة له، فقد أحبّها كثيرًا كما يحب ابنته وتمنى لو لم يرتكب هذه الجريمة.

وُلدَ هذا الرجل الفلاح الطيب في بلد "يحج" إلى سواحله الدافئة ملايين الأوروبيين سنويًا، حيث الجبال الشاهقة الجميلة الخضراء، قَدِمَ إلى ألمانيا ومنها إلى الجزر الدنمركية الباردة منذ الستينات للعمل حالمًا بالسعادة، وصار هذا المسكين المعذّب أبًا لأطفال كثيرين، لا أتذكر ثمانية او عشرة، أغلبهم يعاني من صعوبات وتحديات مختلفة، أحدهم مدمن، ضايع، صايع، زوّجوه من بنت شابة اسمها قمر، وهي حقّاً  اسم على مسمّى، وجهها كالقمر، "طازة"، "سر مهر" جاؤوا بها من الأرياف على أمل أن تصلحه، وهل يمكنها ان تقوم بذلك بعدما أفسده الدهر، اكتفوا بأن قالوا لها: خطيبك ميكانيكي، الحمد لله كانوا شرفاء، لم يبالغوا في وصف ابنهم، لم يقولوا لها مثلاً: إنه مهندس طيران! كانوا يعوّلون عليها لإصلاح ابنهم! هي أفضل منه تعليمًا، بقي لها سنة وتنهي الثانوية العامة، من يدري؟ كان يمكن أن تصبح معلّمةً أو طبيبةً في بلادها، لكنها فضّلت ألا تضيّع فرصة العمر: "لم الشمل"، أو "السحب" كما يقولون في بعض الدول الفقيرة، تركتْ الدراسةَ، ضحّتْ بفارس أحلامِها، أحبّها وأقسمَ لها أن يسعدها إن بقيت معه، مع ذلك جاءت إلى هنا، إلى هذا البلد الأوروبي الجميل، كانت تظن أنها ستنعم بالرفاهية وتطور شخصيتها وتكمل تعليمها، وقد تمد يد العون لقريبها و"ما الحب إلّا للحبيب الأول"، لم تجد غير النكد اليومي والفقر والعنف الأسري، بقيت حبيسةَ المنزل مع أفراد عائلة زوجها، أجل، كانت هذه الحقيقة مفاجأةً، بل كارثة بالنسبة لها!

عريسُها، المحروس زوجُها أو بعلُها مدمنٌ لا يفقه شيئًا من الحياة، يهيل ويميل في شوارع المدينة، بقيت معه خمس سنين على هذه الحال، احتارت المسكينة ماذا تفعل له ليتحسن وضعه، بلا فائدة، عبثًا حاولتْ وحاولتْ، أنجبت منه طفلين وثلاثة على مبدأ "كَثّري الحجار يثقل الدار"، عذراً إذا كان هذا المثل غير صحيح، أو أنه من تأليفي، النهاية ليست هندية "هَبي إند"، بل حزينة، هربت الزوجة الغريبة، أرادَ والدُه قتلها غسلاً للعار بينما كان بعلها الشاب يتسكع مع المدمنين قرب كنيسة مريم العذراء في العاصمة.

هي الآن راقدة في المستشفى بينما الأب في السجن، صاروا موضوعَ الصحافة وألسنة الناس، تلوكهم!

حدّثَني ابنُه، العريس "المقدام" في مراتٍ نادرةٍ التقيتُه فيها وكان بمقدوره الحديث والتعبير عما في خلجات صدره، قال بلكنته الجلية وهو مشغولٌ دومًا بتصفيف شعره الأسود اللماع بفعل الدهون، الطويل النازل على جبهته تارةً، يضع السيجارة في فمه حينًا آخرَ، نافثًا دخانها إلى الأسفل وإلى الأعلى، مبتسمًا بين الفينة والأخرى مكررًا:

- أليس كذلك، أليس كذلك، واللهًً، والله، كان أبي يضربني لأتفه الأسباب، مرةً لأني سألته عن "أبو البول" وكيف يتم الجِماع، ليس هناك مشكلة، أليس كذلك، صار يسب ويشتم، ويقول إني لا أحترمه، وضرب المنضدة بيده، جرحها، قلت له: أبي هذا ما علمّونا إيّاه في المدرسة، يسمّونه التعليم الجنسي، أليس كذلك، لماذا تضربني يا أبي، الله يخلّيك، أنت تعرف ممنوع ضرب الأطفال، أليس كذلك، لكنه صار عصبيا أكثر من السابق، يسب ويشتم وضربَ حتى والدتي ضربًا مبرحًا، قال لها: "أنتِ السبب، تدلّلينه، تريدينه أن يصير دنمركيًا"!

صحيح انا "ابن القعده" يعني آخر العنقود، أليس كذلك، لكني لم أرَ بحياتي اي دلالٍ ومحبةٍ منه، تصور مرة طلبت منه ان يشتري لي دراجة مثل كل زملائي التلاميذ، أليس كذلك، فرحتُ كثيرًا لأنه وافق، لكنه ظل يماطل ويماطل ويؤجل الموضوع، وفي كل مرة يقول: انشاء الله، انشاء الله أو بكره، أخيرًا هلكت، صرت أخجل أمام أصدقائي، أليس كذلك، والدة أحدهم أهدتني دراجة كانت حلوة ونظيفة، لكني مع ذلك قلت لها مفتخرًا، وأنا كنت في العلالي، فرحًا للغاية: أبي سيشتري لي واحدة، وعدني، أليس كذلك، هي تفهّمتْ موقفي، كانت أُمًّا دنمركيةً طيبة للغاية، تحبني كما تحب ابنها تأخذني معهما الى المطعم والسينما ومدينة الألعاب، والله كلها غالية جداً، أليس كذلك، ومع ذلك تدعوني في كل المناسبات.

عُدتُ إلى البيت، قال لي والدي:

- اليوم راح أشتري لك دراجة، فرحتُ للغاية، لا تتصور سعادتي، كدت أطير من الفرح، والله نمت أحلى ليلة في حياتي، لن أنساها إطلاقًا، وحلمتُ أني أسوقُ دراجةً جميلةً فيها سبعة "كَيرات" وحلّقت بها إلى أعالي السماء، فوق، فوق، سقطتُ ومع ذلك لم أشعر بالألم، كنت مبتهجًا فرحًا سعيدًا، أليس كذلك، بقيت منتظرًا اللحظة التي سيأخذني فيها الى محلات الدراجات، لكن لم يحصل أي شيء من هذا القبيل، فوجئتُ بأنه جاء بدراجةٍ قديمةٍ صدأةٍ، رماها في الممر قائلاً: تعال يا صبي خذها، اشتريتها لك، ستذهب بها غدًا إلى المدرسة، لم أَسُقْها طبعاً عندما اذهب للمدرسة خشية أن يراها زملائي ويسخرون مني، في حقيقة الأمر لم يكونوا كذلك لكني لم ارغب باستعمالها رغم الضغط والضرب، إي والله يضربني، لم أستخدمها، يقول لي: "لازم تروح للمدرسة بها، لماذا لا تريدها؟ تستعر منها؟ أنا لما كنت بعمرك ما كان عندي دراجة يا غبي!"

أو، مرّة أخرى، رجوتُه ان نعمل حفلة عيد ميلادي وأدعو زملائي مثل الدنمركيين، أليس كذلك، كلهم سألوني عن ذلك، أخبرته، توسلت به، بابا الله يخليك دعني أسوّي حفلة عيد ميلاد، صار عصبيا، قال: "كم مرة طلبتُ منك ألا تلح عليّ، هذا حرام"، كان فعلاً عنيفًا معي، أكلتُ ضربًا من هذا الأصلي، ثاني يوم رحت للمدرسة، سألتني المعلمه عن الكدمات الزرقاء على وجهي، كذبتُ عليها بالطبع، قلتُ لها: سقطتُ، لم تصدّق ذلك، اتصلت بالمشرفة الاجتماعية، تدخلت البلدية، أخذوني إلى مقابلات خاصة مع ناس محترفين متخصصين، كشفوا الأمر، انتزعوني جبرًا من أمي وأبي، أليس كذلك، أعطوني هدايا، اشتروا لي ملابسَ ودراجةً جديدةً، كنت أهرب وأريد العودة إلى أهلي، وأشتاق إلى أخوتي وأخواتي باستمرار ولم أشعر بالاستقرار منذ ذلك الحين.

ومنذ ذلك الحين، أنا تائه! ضائعٌ! لم أنهِ المدرسة ولم اتعلم بشكل جيد! هذه هي الحقيقة، أنت لا تعرفها وأنا أحببت إبلاغك بها حينذاك، شكرًا لك، حاولتَ دوماً مساعدتي، أنت إنسان طيب، أنا أعرف أنك تحب والدي وعائلتنا كلها، تريد لنا الخير وتعيننا، لكن الآن صعب، أنا مدمن وأرتادُ مكانًا خاصًا للعلاج، أليس كذلك، أنت تفهمني، أليس كذلك"، قالَ كلمته الأخيرة وعلامات الألم والحزن بادية في عينيه، بانت أسنانه كلّها صفراءَ بنية أثناء ابتسامته اليائسة، بدا كأنه أكبر من عمره الحقيقي بعدة أعوام.

هذا هو الذي ينغّص علينا حياتنا يا صديقي القارئ، مع الأسف لدينا ما يكفي من هذه الهموم بين غرباء البلدان الدافئة، والقصص كثيرة تدمي القلب، الجميع يردّدُ عبارةً شهيرةً "نخشى على فلذات أكبادنا". مسكين والده كان يشتغل في البناء يأتي الى البيت متعبًا، يضرب أطفالَه، أبعدت البلدية بعضهم منه، تزوج من اخرى، في النهاية تقاعد عن العمل، أراد أن يتوب وصار يدعو الناس للجامع، لكن، "بعديش؟ بعد ما وقع الفأس بالراس؟"!

الأولاد "فالتيها" في الشوارع، من المؤسف أنه لم يلتقِ بإمامٍ ذكيٍّ وخبيرٍ يعرف كيف يرشده بأن العبادات وحدها غير كافية، كان عليه أن يكون طيبًا حنونًا مع أفراد عائلته، يحرّم عليه ارتكاب الجريمة، على الأقل المفروض أن المسلم لا يقتل!

هذا الأب القاسي كان دوماً يقول إن أولاده طيبون لا يضربون أحدًا، لا يفهم أن تربيتهم ليس بالضرب، ومن أين تأتي العدوانية المترسخة في شخصياتهم، هو غير قادر على استيعاب خطأ تربيته لهم، تقليدية قديمة عفا عليها الزمن وأن طفولتهم غير طبيعية، لا يدرك أن عدوانية أطفاله نتيجة حتمية لعنف أسري مارسه لأتفه الأسباب، وانعدام الرعاية والحنان والحب بينه وأم أولاده!

أبناؤه، طيبون بالفطرة كما أحسستُ بهم، لا تتصور عزيزي القارئ كم أحبهم كلهم بلا تمييز، الإناث أفضل من الصبيان في الدراسة، يواظبن على واجباتهن البيتية، الصعوبة عند الأولاد، "بعضهم يعاني من الشعور بالنقص وضعف الشخصية ومشكلة الهوية والانتماء واحترام الذات، وهي نتيجة طبيعية لطفولة بائسة غير مستقرة ومليئة بالمطبّات"، كما يقول المحلل النفساني! مِن أين للأب أن يعرف هذه المصطلحات ويفهمها!

تصوّر أن أحد المحللين قال:

- يبدو أن هذه العدوانية او الطريقة الفظّة الخشنة في التعامل مع الآخرين صارت راسخةً في الجينات لتاريخها الطويل في الشرق، لا يمكن حلها إلا بتنويرية جديدة وفترة استقرار طويلة تنشأ فيها عدة أجيال. طبعاً انزعج منه ابنُ العائلة الأكبر، وصفه بالعنصرية:

- أستغرب منك تتكلم بهذه الطريقة، تصنّف البشر حسب انتماءاتهم العرقية،

لكن النفساني قال له بثقة العارف الحكيم:

- مرّتْ أوروبا بالوضع نفسه، لكن التنويرية والتطور غيّرا الأمور ومُنعَ ضرب الأطفال في المدارس، والمنازل، أجل لا تتصور أن أسلافنا كانوا أفضل منكم، ولا يزال حتى يومنا هذا يعاني بعضنا من نفس هذه الأمراض الاجتماعية.

انتهت قصة الصحفي!

1994الدنمرك

***  

د. زهير ياسين شليبه

 

قبل أن نبدأ ننوه بأن الكلمات المبدعة لابد وأن تكون حادة ورقيقة في نفس الوقت كشعلة النار. ومن لا يجد في قلبه تلك الموهبة عليه أن يبتعد عن الخلق ويكتفي بما هو مخلوق! ونخبركم بأننا يحق لنا الإرسال فقط، ولا نرى ما تظهر من إيميلات الأعضاء. هذه رغبتنا ومن يرغب بالكتابة لنا فعلى الخاص مع التقدير.

مدخل للضرورة الحتمية:

لو أمتزج الجهل باليقين يصبح كارثة موقوتة يمكنها الانفجار في أي لحظة كالقنبلة؛ وهذه اللحظة ولدت وكبرت وترعرت وعشعشت في الأذهان، ثم انفجرت وأنقضى الأمر! ففي السابق كنا نبعث النص للرقيب قبل النشر ليقرر براءته من إعدامه! بينما اليوم ندفع النص لأقرب الناس لنا كالزوجة مثلاً لتقرر فيما إذا كنا سنلقي حتفنا بسببه أم نعيش برهة أخرى من الزمن الذي يحتضر أصلاً! بمعنى، عشعش الرقيب في أذهاننا، وبات أقرب إلينا من الجلد للعظم! هذا يجعلنا نتوصل إلى قناعة مؤلمة مفادها، كلما أثبتنا أميتنا كلما أصبحنا في مأمن من الخطر! هذي هي سياسة اليوم التي يسحبوننا إليها!

بتنا نتسلى بالصمت لعله ينقذنا مما أصابنا من فوضى حالت بالعالم ومن حولنا، وحتى ابتساماتنا أصبحت متعبة مثل أرواحنا، ودموعنا مهدودة كأجسادنا! فلماذا لا يتركون ما للرب للرب؟ وما للحياة للحياة؟ فهل تعودنا بحكم السلطان المعروف عنه بالورع والتقوى أن نربي ونرعى الردائة أكثر مما نصلح من شأنها؟! الويل  لوطن سكنه الأشرار، يعملون كالنار، يحرقون كل من يقترب منهم.

الوطن الذي نعرفه يكون حماية من الأخطار، خيمة ظل من العواصف والرعد والأمطار، رزق وحنين، وذكرى كل السنين، لكن وطننا يختلف عن كل الأوطان، تستعصي الكلمات فيه لتخرج وتعبر عن نفسها كالفرحة المغتصبة التي لم نعد نعرفها لحزنها وسواد ثوبها!

***

من لا يعرف المبدع العالمي واسيني الأعرج عليه أن يعترف بقصوره الثقافي!

مبدع من الطراز الأول. لملم وأستحوذ على الجوائز الأدبية التي نعرفها ولا نعرفها بكل جدارة. خاض ويلات التسقيط، والتهميش حتى وصل حد النبذ! كل هذا لم يجعله يخذل، أو يستسلم، أو يستكين. بل العكس، زاده قدرة وعزيمة وثبات وجرأة قل مثيلها، بل نكاد لا نعرفها عند رفقاء مهنته الأدبية أمثال محفوظ، أو مينه، أو الحكيم، أو نعيمة، أو جبرا، أو تيمور، أو أدريس، أو منصور ولا حتى عميد الأدب العربي بذاته.. نقول ذلك ولا ننتقص منهم. لكن الحقيقة لابد من قولها كي ننصف تأريخ هذا العملاق الأدبي الذي جاء إلينا من الجزائر وهو الأستاذ الجامعي في بلاد العرب وفرنسا وعندما كان يكتب ينسى نفسه، بل لا نجده يفكر إلا بأدبه، بما سينقله للناس أجمعين مهما كانت حدته، قوته، أو تأثيره، ولم يحسب وقتها حتى ردة فعل النظام الحكومي المدني أو الديني لذلك لم يكن له صيت العربي الحائز على نوبل لما كانت لكتاباته من شرارت ولهيب قادرة على حرق التراث المغلق، أو صهر العقول المتحجرة النائمة في الماضي الذي هو سبب الكوارث الإنسانية التي نحياها ومحاولة جعل تلك العقول تستيقظ من سباتها.. كيف لا وهو القائل:

" الذين سيروا هذه البلاد كانوا صغاراً. صغاراً على الأحلام الطفولية. كانوا مهزومين ومعادين لثقافة لم يكونوا يملكونها. ملأوا أدمغتهم بطقوس الصلاة والحج، وكل أساليب النهب والسرقات. علموا أطفالنا رؤية كل ما هو رمادي وقاتم ومنعوهم من التمتع بالنور والفرح. عندما نزلوا من الجبل، نزلوا حالفين على الكنائس، والحانات، والمسارح، والأوبرات، وكل ما يجعل من المدينة مدينة. لقد خسروا موعداً استثنائياً مع مدن كانت جاهزة، لكننا فعلنا كل شيء لتدميرها وترييفها بشكل أفقدها توازنها لتتحول في النهاية إلى وحش! "..

في سياق آخر مؤلم حد الإحتضار يقول:

" أي صمت ينفع أمام القاتل؟ الأمر لم يعد شجاعة ولكنه صار قدراً. لا نملك شيئاً سوى الصراخ والكشف وركوب الرأس والموت وقوفاً. إنهم يذبحون كل شيء، الناس. الصيف. الربيع. الشتاء. الخريف. المدينة. الهواء. والنور! "..

وعندما أغتيل أعز أصدقائه كتب نواحاً جريئاً يرهب النفوس المؤمنة والحاكمة على حدٍ سواء، قال:

" كان غاوياً. الشيء الوحيد الذي لن يرفضه تهمته الجميلة التي ظل طوال حياته يدافع عنها بكل جنون. الفن جوهرة، سحر، يعني غواية، وإلا ما هو السر في انقيادنا نحو الكلمات والألوان والتشكيلات؟ الفن إذا خسر طاقته للغواية يصبح كتلة جامدة، وميته (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) يضحك صديقي عالياً وهو يحاول أن يسترجع الآية بكاملها: الشعراء والغاوون شيء واحد. الهيام واللافعل، يعني الانسياب والتلاشي، شيء واحد، نحن أمام مواصفات كلها نتاج هذا السحر وهذه الغواية الاستثناية. أليس هذا هو تعريف الشعرية بكل مواصفاتها النبيلة؟ "..

يا له من مبدع عظيم.. كان رغم بساطته اللغوية بحر هادىء الأمواج وفجأة ينقلب إلى صخب لا يرحم، مثل حافة المقصلة ولن تكون لديك أي قدرة على مواجهته رغم كل ما تمتلك من مقومات ثقافية كنت تتغنى بها قبل قراءتك لنصوصه السردية تلك. له روح وصفية حادة وشفافة في ذات الوقت لم نقرأ مثلها أو ما يعادلها، لا عربياً، ولا عالمياً إلا ما ندر. قابليته في الشد وصهر الحبكة في بوتقة النص رهيبة تحبس الأنفاس بين أضلعها. تجعلها لا تتحرك حتى تكمل متابعتها وبالكاد تسحب الشهيق.. ولن تجد الوقت لتزفر الزفير. هذه هو المبدع الجزائري واسيني الأعرج بأقل الكلمات.

***

قراءات في كتب ج. 1

 بقلم: هيثم نافل والي

تشهد الواحة في مختلف أرجائها، طيلة أيام الحصاد في الصباح الباكر وقبل الغروب، حركة منقطعة النظير، مصحوبة بأشعار وأهازيج على إيقاع المناجل المسننة الحادة، منها الدائرية الشكل والمعكوفة الرأس التي لا ترحم جذوع الزرع وهي تقطعها وتجزُّ من أسفلها. إن شرد ذهنك وذهب بعيدا، وفقدت التوازن بين لحظة الإمساك بقبضة جذوع الزرع ولحظة سحب المنجل إلى الوراء، فقد تمتد أسنان المنجل وتخبش أصابعك من أسفل قبضة يدك دون شفقة، المنجل لا يعرف حركة أخرى دون القطع فهو لا يستأمن شره...

بعد موسم الحصاد، يتغير وجه الواحة وتأخذ شكلا آخر، وتتحول حقول الزرع إلى مجال فارغ مكشوف بزوال الزرع الذي يحجب مختلف معالمه، المسالك والطروقات التي تبدوا ضيقة ولا تتحمل مرور الكثير من المارة أصبحت متسعة الآن، وبعضها أصبح مهجورا، وقد استبدلها المارة بمسالك أخرى تخترق الحقول بعد أن تخلصت من زروعها، جنبات النخيل من الأسفل سارت مكشوفة، والذين تعودوا على الاختباء من وراء جذوعها بين الزرع ليسترقوا السمع للمارة وهم يتحدثون فيما بينهم، لم يعد بإمكانهم ذلك.  الواحة الآن في دورة طبيعية جديدة وقد تحررت من زروعها، كما تتحرر النعاج من صوفها في هذا الوقت بالذات، فمع حرارة الصيف يقبل أهل الماشية من ملاك المواشي على قص صوف نعاجهم وشعر ماعزهم، فلا حاجة لها به مع قدوم حرِّ الصيف.

مختلف البيادر تنتظر وصول الزرع القليل منه أو الكثير، وقد شرعت النسوة في تنظيف بيادر أسرها، بإبعاد الحصى والرمل والحجارة... البيدر ينبغي أن تكون أرضيته صلبة بما فيه الكفاية، لكي تتحمل حوافر الحمير والغال، اعتاد أهل الواحة أن يتخذوا من الساحات المقابلة لقصبات الواحة وقصورها مساحة لبيادرهم، ليسهل عليهم حراستها ويسهل عليهم التردد منها وإلى بيوتهم، كل أسرة تعرف مكان بيدرها داخل الساحة وتعرف جيرانها...

 ها هي القصبة الآن من الربوة العالية  تطل من جهة من على جريد النخل، ومن الجهة المحاذية للسفح تطل على البيادر الممتلئة بالزروع وهي تنتظر قدرها المحتوم، إنه قدر الحوافر في حركة طواف دائرية حول عمود خشبي يتوسط البيدر، والحبل المربوط إلى العمودي الخشبي يقبض على رقاب الدواب، ليجعل منها صفا متماسكا، يطوف فوق الزروع، وهي تدهس جذوعه، وقد تستمر هذه العملية لخمس ساعات أو أكثر...الرجال والأطفال والنساء متحلقون حول دائرة الدواب التي لا تتوقف عن الدوران وأحد الرجال أو الشباب يجري من ورائها ويحفزها على الحركة والمسير أكثر. الأطفال ينتظرون بشوق لحظة انتهاء مهمة الدواب، وتوقفها وفك الحبل من رقابها، للفوز بلحظة الركوب على ظهورها، والجري بها في سباق جماعي في اتجاه الساقية الرئيسة للواحة، لتروي عطشها، وقد تعرقت كثيرا وهي تحت حرارة شمس الصيف الحارقة، والغريب أن السباق يكون سريعا بالرغم من أن الدواب قد فرَّغت كل طاقتها في الدوران حول نقطة واحدة، ربما أنها تعبر عن استرجاع حريتها التي سلبت منها لبعض من الوقت، ربما أن العطش اشتد عليها وهي تتسابق نحو الماء، ربما أنها تستجيب لأحلام الأطفال البسيطة التي تجاوزها الكبار...

يا للغرابة ما معنى أن تبقى أكثر من خمس ساعات، تحت الشمس، إلى جانب البيدر، واقفا حينا وجالسا حينا آخر، والدواب تدور أمامك، وغبار جذوع الزرع يتطاير إلى الأعلى ويأتي في الأخير على رأسك وجسدك، بين الحين والآخر تفرك أعينك، وقد تسرب إلى داخلها الغبار، قميصك الأسود أو الأزرق اللون أخذ لونا آخر من الغبار، لا تهدأ من حك جلدك، وهو يدعوك لتزيل عنه الغبار الذي أثقل عليه... وأنت في شدٍّ وجذب بين أقرانك، بأنك أنت الأولى لتمتطي الدابة السوداء اللون طويلة الأذنين، سريعة الجري، أو  لطيفة المعاملة، أو جميلة المنظر... والغريب أنك تركب دابة أسرتك كل يوم.

 أحلام أطفال الواحة، أحلام بسطة، ولكنها هادفة، فهناك أمر لا يعبر عنه الأطفال وهو تعاطفهم الكبير مع الدواب وهي في محنتها تدور لساعات حول نقطة واحدة، البعض منهم يتساءل، لماذا الدواب تكلف نفسها وتقوم بكل هذا الجهد من أجل قوتنا نحن البشر... عندما تمرض دابة ما أو تصاب بكسر في أحد أرجلها، لا أحد يتعاطف معها، إلا الأطفال ومنهم من يتأثر بذلك ويجهش بالبكاء...مع الكبار الأمر مختلف، فهم يقيِّمون الأمر بخسارة مادية لا غير. أهم ما يكافئ به الأطفال الدواب هو أخذها إلى الماء لتروي عطشها، وقد يلحون عليها لتشرب كثيرا، من اعترضت دابته عن الشرب يجد حرجا بين أقرانه، وبعد أن تروي الدواب عطشها يأخذها الأطفال جريا في اتجاهات مختلفة إلى مرابطها المتفرقة هنا وهناك داخل القصبة.

متعة سباق الحمير متعة لا شبيه لها، ما بعد غروب الشمس طيلة أيام "الدِّرَاس" وأنت على ظهر دابة لا تلقي لك بالا، وفي غفلة منك تقفز إلى الأعلى بأرجلها من الوراء، وتكرّر القفز بشكل متتابع لتتخلص منك، وقد مددت أرجلك على جنبات ظهرها وألصقتها بالقرب من فخذيها، و انحنيت على بطنك إلى الأمام ، ومددت كلا يديك على جنبات ظهرها في اتجاه بطنها، وتمسكت جيدا بشعر ظهرها، في حالة تشبه تمسُّك جرادة بجنبات غصن تميل به الرياح في كل اتجاه، الدابة تقفز بأرجلها من الوراء إلى الأعلى وأنت ملتصق بظهرها...في الأخير تستسلم الدابة وتعود إلى الجري... الرهان ليس لد دائما، قد تفلح الدابة في التخلص من جسدك النحيف، وتجد نفسك ملقى بك في الهواء لتأتي على الأرض ، وترفع رأسك وتبدوا لك الدابة هاربة من بعيد، وأحد أقرانك يلحق بها، وتجد وجهك معفر بالتراب، وقد تسلل بعض منه إلى داخل شفتي فمك،  ولحسن حظك أن عظام جسدك كلها بخير، وأنت تتفقدها، والبعض من أقرانك إلى جانبك، يقول لك أنت بخير أنت بخير، حينها تعود إلى البيت دون أن تتم مهمتك التي تخليت عنها لأحد أقرانك... في اليوم الموالي تحرص على ركوب دابة أخرى دون التي ربحت الرهان وألقت بك من فوق ظهرها.

وأنت تجري وتدور من وراء دورة الدواب في البيدر، تشعر من دواخلك بأحاسيس لا تفكها الكلمات، إنها دورة الزمن دورة الحياة، كل شيء يتغير ويتحول من حال إلى حال، إلا المركز يبقى ثابتا كما هو في البدئ، جذوع الزرع قبل ساعات كانت متماسكة مع بعضها البعض، سارت الآن مستوية مع الأرض وقد انفصل بعضها عن بعض وهي الآن مهشمة بالكامل ولم ينجى منها إلا حبات الشعير أو القمح التي لازالت متماسكة... دورة الدواب في البيدر وأنت من ورائها تختصر اكتمال الدورة الطبيعية، دورة الحرث والزرع،  وهي شبيهة برقصة الدرويش وهو يدور حول نفسه، ويطلق العنان لتأملاته بهدف الوصول إلى مرحلة الكمال، حيث الكمال لله وحده.

أهل الواحة يدفعون بأبنائهم لركون الحمير ما بعد الثامنة أو التاسعة من العمر، تدريبا لهم على الفروسية، ويؤذن لهم بركون ظهور البغال ما بعد الثالثة عشر من العمر، ليجدوا أنفسهم متمرنين في سن البلوغ على ركون ظهور الخيول بسروجها أو بدونها، وعندها يعول عليهم في الحروب دفاعا عن القبيلة وأهلها، ضد قبائل أخرى أو ضد هجوم محتمل من القبائل التي تجوب الصحراء، وتغدر أحيانا بهذه القبيلة أو تلك، لتستوي على ما بحوزتها من حبوب القمح أو الشعير...الفرسان هم المعول عليهم في صدِّ المعتدي والوقوف في وجهه، عندما تختفي السلطة المركزية للمخزن أو تضعف تتحول الواحة إلى حالة من التسيُّب والفوضى، فكل قبيلة تشرِّع لنفسها قوانين، على حساب القبائل الأخرى...القبائل الضعيفة تكون لقمة سائغة للقبائل القوية، وإذا بها تدخل تحت حمايتها...القبائل التي ترتحل في الصحراء في مختلف الاتجاهات الشاسعة التي تفصل بين مختلف الواحات، تفرض سيطرتها على مختلف القوافل التجارية، وبعدها يتسع نفودها وتهاجم مختلف القصور والقصبات في هذه الواحة أو تلك، وتدخل في مساومات مع هذه القبيلة أو تلك... أهل الواحة يعرفون جيدا معنى زمن التسيُّب والفوضى، وهو زمن يكرهونه كثيرا، إنه زمن النهب، القوي يأكل الضعيف، زمن يكون فيه القتل مشاع بين القبائل... حالة صورها الشاعر بقوله:

يَطُوفُ السَّحَابُ بدرعة كما يطوفُ الحجيج بالبيتِ الحَرَام/// تُريـدُ النُّزُولَ فلمْ تَسْتَطِـعْ لسفكِ الدِّمَاءِ وَأَكْلِ الحَــرَام

في حالة التسيُّب والفوضى، يكون أهل الواحة في مقدمة من ويبادر في بناء سلطة مركزية تعيد النظام داخل الواحات، وفي مجال الصحراء، وتضع حدا لظاهرة قطاع الطرق وقرصنة القوافل... وقد تتسع هذه السلطة وتنموا وتتحول إلى سلطة مخزنية للدولة بأكملها... فالتاريخ يخبرنا بأن الواحات كانت مهد ومنطلق الكثير من الدول.

الواحة وأهلها لم يتبقى لهم اليوم أي شيء، إلا ما يحفظه التاريخ من أمجاد ووقائع، اختفت البيادر واختفى معها سباق الحمير، اختفت القصبات والقصور، واختفت معها جلسات الكبار والصغار، اختفى الشعر والزجل والكلام المقفى والموزون... اختفت أشياء كثيرة منها الجميل والقبيح منها ما هو مفرح ومنها ما هو حزين وأليم، وقد حلت محلها أشياء مفرحة وجميلة ومنها ما هو ناقص وفارغ من الداخل...ويبقى أكبر حزن وألم يعيشه ويشعر به سكان الواحة طيلة يومهم، هذه الأيام، هي حالة احتضار النخيل وهو يرحل دون أن تقام له جنازة وتأبين... 

... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

 

الى صديقي العزيز يونس!

الحب هالحرفين

***

كما وعدتك، أكتبُ لك عن بعض المظاهر بصراحة محاولاً أن أمسك العصا من وسطها!

في الصباحات الباكرة الشتوية القارسة البرد ترى الشابات والشباب من طلبة الجامعات والثانويات وتلاميذ المدارس وأغلب الناس هنا يقودون درّاجاتهم متجهين صوب مؤسساتهم التعليمية وأماكن عملهم، الأمهات والآباء يضعون أطفالهم في المقاعد الخلفية، يسوقونها في ممراتها المخصصة لها بسرعة لامبالين بالسيارات طالما أنهم يلتزمون بقوانين المرور، يتوقفون عند اشتعال الضوء الأحمر رافعين أياديهم اليسرى إلى الأعلى، وينطلقون عند الأخضر، يحركون أكفّهم اليمنى إلى اليمين إذا أرادوا الاستدارة نحو هذه الوجهة وإلى اليسار إن رغبوا ذلك، لكن مع ذلك تحصل حوادث دهس الشاحنات للدرّاجين، وبالذات التلاميذ الصغار وبخاصة إذا قادوها عكس الاتجاه. ليس هناك أجمل من رؤية الأطفال الصغار يقودون دراجاتهم معتمرين خُوَذَهم على رؤوسهم، متجهين نحو مدارسهم أو أماكن اللعب والرياضة.

وأحب أن أقول لك إن للدراجات هنا سوقها الرائج، هناك العديد من محلات خاصة ببيعها وتصليحها، منها المحلي والمستورد والغالي والرخيص والمناسب والماركات الأصلية والتقليدية، والخ. "كل واحد يمد رجله على قد لحافه".

في كل مرة أرى فيها جارَتَنا العجوزة هَينه، يعني مثل اسم هناء، تقود دراجتها مرتدية ألطف الملابس، متعطرة بأعبق العطور ووجهها مطلي بدهون الزينة أو ما يسمى الميك أب أو الميكياج، أتذكّر العراقيات المسكينات يتسارعن نحو حتوفهن وهن لايزلن في مقتبل أعمارهن.

أتذكر والدتي، أصبحت تشكو من الشيخوخة قبل الخمسين. وجارتنا أم حسين، بقيت أرملة تتشح بالسواد منذ وفاة زوجها عندما كانت في منتصف الثلاثينات منشغلة بتربية أطفالها الأربعة. هنا، حتى بعض العجائز الوحدانيات يبحثن عن أزواج أو أصحاب وأصدقاء أو رفاق أو عشاق أو أحباء وخلان، سَمّهم ما شئت، هذا غير مهم بالنسبة لهنَّ هنا، المهم إنهن لا يُردن ولا يرغبن العيش لوحدهن بل الاستمتاع مع الآخر في هذه الدنيا، المهم العِشرة، وإلا فسيكفنَّ عن الوجود وينشدن الكفن والموت والخلاص من الحياة إن تحولت إلى جحيم. الناس هنا يبحثون عن الجنة في الحياة وليس الممات، ومفاهيم الشرف والأخلاق مختلفة.

لو حدثَ هذا الأمر عندنا في العُرااااق كان كلهن "راحن سبعة ماي!" غسلاً للعار!

وطبعا عندهم الغانيات و"الدونيّات" و"الموزينات" اللي فيهن العيب، يعني الدعارة، "عُذَه، عُذَه!" العياذُ بالله، أقصد بائعات الهوى! أستغفر الله، أستغفر الله، موجودة كما في كل مكان، وقد تكون رسمية، وقد يدفعن الضرائب، وهناك من يرى أنهن يؤدين وظيفة اجتماعية مهمة وضرورية ويقدمن خدمات لبعض الناس بطريقة قانونية مضمونة صحيًا! المنطق هنا يقول: "ليش لا إذا كان بعضهم يريد ذلك؟ دَعهم يقومون به قانونيًا تحت المراقبة والسيطرة، أفضل من الخفاء".

انتبه يا يونس، أنا شخصيًا لم أقل هذا، ولا علاقة لي بهذا الرأي! أرجوكم لا تقوّلوني ولا تحمّلوني مسؤوليته! وغيرمقتنع بالفكرة ابدًا!

فهل تعيش يا ترى نساؤنا، حسب قِيم الأوروبيين، في جحيم دانتي يا صديقي؟ لكن هل تتصور أن بعض هذه المظاهر مختفية عندنا؟ صدّقني، حسب ما يقال ويُشاع والله أعلم ما في الخفايا والصدور، إنها أيضًا موجودة، هناك نساء كبيرات في السن يتزوجن مع احبائهن في الخفاء وبشكل مستور وغير معلن للجميع تجنبًا لمفاهيم رقابة المجتمع. وهناك زواج الصيغة أو المتعة، صرنا نسمع عنه عندما أقمنا في الخارج، ولم يكن منتشرًا في العراق كما يُروّجُ له في بعض الأماكن، و"المستَجعَدات" المساكنات وبنات "الكاوليه" الغجريات وهناك في بعض المدن القوّادات "المعلّمات"، أم فلان وفلان، الشهيرات باستقبال الرجال في بيوتهن البغدادية، وطبعاً العُرفي والمسيار في بلدان أخرى. يَمعوّد، كلشي عندنا جوّه العباء ومدستَر، بس من نريد نحكي بالتدين والشرف ماكو أطول من لسانننا!

هذه كلها أساليب "احتيال" أو "تساهل" أمام التشدد ضمن سياسة غض النظر والتسامح، أو شىء من "المدنية" من قبل الحاكم، الدين يُسر لا عسر، ولم نسمع برجم الزانيات ولا العاشقات، اللهم إلا غسل العار.

العنف ضد النساء في الغرب له تاريخ و"فنون" قاسية لا تقل عن الشرق! إي والله "مفيش حد أحسن من حد"!

هنا، في الخارج، تُرتَكب أيضًا جرائم غسل العار بين بعض جاليات المغتربين واللاجئين، هذا هو حال الدنيا منذ الأزل. والعرب، طبعًا أكيد ليس كلهم، بل بعضهم، كان لديهم قبل الإسلام تقبّل لوجود متحررات، مسافحات ومخادنات، بل حتى بائعات هوى معروفات ممن نصبن الرايات الحُمر على خيامهن، ومنهن ظهرن إلى العلن على قارعة الطريق شبه عاريات الجيوب والأثداء، يلبسن ملابسَ أو دروعًا  وقمصانًا شفافةً، بلا أزرار، فتصور! وهل تعتقد أن هذه الظاهرة اختفت لمجرد نزول الآية الكريمة "محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان..."، طبعا لا، مثل اي مجتمع آخر، "خلّي الطبق مستور!" وأنا لا اريد أن أدسَّ أنفي في هذه الأمور! بس ... مرات يصعب السكوت.

أجل يا صديقي لم يكن المجتمع العربي قبل الإسلام شموليًا، بل متعدد الألوان والأطياف والأديان: اليهوديه والنصرانيه والصابئة والوثنيه، وكانوا قبل نزول سورة الأعراف على نبينا الأكرم يطوفون حول الكعبة عرايا، والنساء يردّدن: "اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدا منه فلا أحلّه"، وهناك أنواع متعددة للنكاح،  مثل الزواج المؤقت والمقت حيث تورث الزوجة بعد موت بعلها، ونكاح البدل، أي تبادل الزوجات، ومن يقدم زوجته للضيف، ونكاح الاستبضاع، ويقال إنَّ هناك حتى الآن جماعات هنا وهناك تسمى "عَبَدة الفروج"، والعهدة على الرواة، وقد تكون مبالغات. اقرأ عنها وستجد معلوماتٍ كثيرةً عن هذه الملل والنِحَل. هذه هي اعتقاداتهم، ماذا سيفعلون لهم؟ هل يكفرونهم ويعزرونهم ويقتلونهم رغم أنهم آمنوا بالإسلام، لكنهم حافظوا على رواسب تقاليدهم القديمة.

استغربَ أحدُ المبشرين الأميركان من هذه القصص، وفوجيء عندما أخبرته أن الدول العربية يعيش فيها ناس غير مسلمين لم يتم "اجتثاثهم" منذ ظهور الإسلام، قال لي هذا الأميركي الطيب بنبرةٍ مستهجنةٍ: ألا تعتقد أنه أمر جميل أن المسلمين لم يقوموا بالتطهير العرقي والديني كما فعلنا نحن مع الهنود الحمر حيث أبدناهم و"طهرنا" أميركا منهم!

اندهش الاميركي لحسن ضيافتنا له، بدأ ينظر للإسلام بإيجابيةٍ!

قبل يومين قال لي أحد معارفي، التقيتُه صدفةً في شارع كوبنهاجن، كان عصبيًا يتحدث بصوتٍ عالٍ كعادته معاتبًا إياي كأنما أنا المسؤول عن مأساته، فتح الموضوع معي بدون إحم ولا دستور، يعني بلا مقدمات ولا مقبلات، وكان الدنمركيون الهادئون يتطلعون علينا، وهُم يمشون في نفس ممر المشاة، أعتقدُ أنهم تصورونا نتخاصم، حاولت أن أبتسم لهم قدر الإمكان عسى أن أغير انطباعهم عنّا، منشغلاً بمسح رذاذه المتطايرعلى وجهي: "يا أخي نحن أصلاً لا نتحدث بصراحة عن التابوهات، أقصد المحرمات، وهذا هو الخطأ، أصبحنا نفهم الأمور أما أسود أو أبيض، وكل شيء له علاقة بالحب ممنوع، مسموح الغناء عنه، كتابة الشعر عنه مباحة، وهل هناك أكثر شعرية ورومانسية من الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أو ألف ليلة وليلة أو نزار قباني؟

أغانينا كلها شجن، هيام، غرام، ولع، وَلَه وشغف، لكن لا علاقة حب معلنة، قبل الزواج! أو لا تجاهر بها، الحب ممنوع والعتب مرفوع!

وديع الصافي يطربنا في أغنيته: "الحب هالحرفين، مش أكثر، الله يرضى عليك يا ابني، خذ ليلى بنت ضيعتنا، ترتاح معها ولا تتعبني"!

وتابعَ يقول: أنا شخصيًا لم أرَ يومًا والدي يمسك يد أمي، فتصور! ولهذا نستغرب ونتعجب اليوم، بل نستهجن عندما نقرأ عن طقوس الاحتفالات بالأعضاء التناسلية مثلاً في الدول المتحررة مثل أوروبا واليابان، حتى في الحضارات الفرعونية والسومرية لا نأتي على ذكرها!".

حاولتُ أن أبدي رأيًا موضوعيًا لأهدّأ من روعه وابدّد أحزانَه، العمر قصير، ويمكن أن يُصاب المرءُ بجلطة أو ذبحة أو سكتة دماغية لا سَمح الله، لكن هيهات، منعني ماسكًا يدي قائلاً: "أرجوك لا تقاطعني، خلّني أكمل فكرتي، والله العظيم أنا اتذكر أن أحد زملائي عندما كنا في الثانية عشرة من عمرنا لم يستوعب العلاقة الجنسية بين والديه قائلاً: "مستحيل، هذا حرام، اشدَتحكون؟ سرسريّه!" وصرنا نضحك عليه بينما توردت وجنتاه كأنه فتاة عذراء تأتيها الدورة الشهرية لأول مرة في حياتها! سبحان الله!".

أردتُ التعليقَ على فورته، لم يسمح لي، ودّعني مستعجلاً كعادته، قال ضاحكًا: "المهم أفرغتُ ما في جعبتي! فوّخت قلبي! فشّيت خلقي! مثل ما يقول الشوام". إلى اللقاء يا صديقي.

تركني راكضًا نحو الحافلة! ابتسمتُ وضحكتُ متمتمًا بين نفسي: مجنون!

مخبّل أو مسودَن! كويلات! كما يقول العراقيون! هذا هو حال الدنيا!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

في مستهل دراستنا للاقتصاد كطلبه تعلمنا أن الغرض من الإنتاج هو سد الحاجة، وان وظيفة الانتاج هي الحصول على منتج يرضي المستهلك في الوقت المحدد وبأقل كلفه، ولو اسقطنا هذا المفهوم على قضية الأدب والفن عموماً لتراجعت دقة مفهوم "الفن للفن" و "الأدب للأدب" وبانت ركاكتها وصار جلياً إن القاعدة في الفن والأدب انما هو نشاط انساني هادف لا يقل شأناً عن الانتاج السلعي، وإن مفهوم "الفن للفن" و"الأدب للأدب" موجود لكنه يشكل استثناء وليس القاعدة، أما عن المستهلكين فهم على نوعين:

1. العامه: وهم الكثرة الغالبة، ومنهم الحفاظ وهم وفقاً لقاموس ابن أختي سجاد "الدرّاخه"  وهؤلاء قله باعتبار أن القدرة على الحفظ "الدرّخ" ملَكّه والملَّكة لا تتوافر لدى الجميع، ومنهم  متذوقو الشعر وهؤلاء يتذوقونه ويفهمونه ولكن لا يجيدون نظمه أو حفظه، وهؤلاء العامة بشقيهم الدرّاخة والمتذوقة يشكلون سوق الشعر الرئيسي بمعنى جمهور الشعر والشعراء وهم لهم مفهومهم عن الشعر واشتراطاتهم المحددة فهم يريدونه هادفاً بمعنى منتج ويشبع حاجة لديهم وليس كما ينظر له زملاءهم من أصحاب مفهوم "الفن للفن" و"الأدب للأدب"، وقدرة الشعر على اشباع الحاجة عندهم هو مدى قدرته في التأثير بتهذيب السلوك والارتقاء بالوعي والمضي به قدماً ليكون الأنسان نافع وفعال لنفسه وفي محيطه، ويشترطون فيه كما في بقية صنوف الأدب والفن أن يكون  من نوع السهل الممتنع بمعنى انه ليس عصياً على الفهم فيحتاج مختصاً ليشرح مغازيه، وفي نفس الوقت أن يصاغ بطريقة شعرية تنطوي على الأوزان والصورة معاً ويتصف بالإبهار، وعندهم ان الشاعر هو الذي يفجر فيهم مشاعر الانحياز للحق والجمال والنبل والثورة ومناهضة القبح والظلم والسوء والاستكانة، وعندهم إن الشاعر هو ذاك الذي يقترن بما يمكن أن يسمى بـ "الجدحه" أو البصمه بمفهومنا الراهن بمعنى أن الشاعر هو الذي تقترن به وليس بغيره قصيدة أو قصائد تعرف به ويعرف بها وقد تكون البصمة واحدة فقط وقد تكون بصمات فمثلاً: على امتداد العالم العربي ما ان تقول: "اذا الشعب يوماً أراد الحياة" حتى تجدهم يقولون: ابو القاسم الشابي والعكس صحيح فما أن يذكر ابو القاسم الشابي إلا وكانت "اذا الشعب يوماً أراد الحياة..." حاضرة وهذا لا يعني أن الشابي أشعر الجميع ولكن هذا أمر آخر، ونفس الحال ينطبق على السياب وجدحته "مطر..مطر"، والفيتوري وجدحته "سقف بيتي حديد، ركن بيتي حجر"، ومحمود درويش وجدحاته "سجل أنا عربي"، و"وطني ليس حقيبه وأنا لست المسافر"، وسميح القاسم وجدحته "دمي على كفي"، وهكذا...وللفحول منهم جدحات وليس مجرد جدحه كالجواهري مثلاً عدا عن الأفحل منهم جميعاً المتنبي الذي لو دخلت الى فنائه فكأنما تدخل ميدان للألعاب النارية في ليلة عيد الميلاد منين ما تلتفت مفرقعات...

أما قبل ذلك فيحترمك العامة أيها الشاعر ويجلّوك ولكن أن تستفحل براسهم... وتقول: أنا أشعر من فلان، أو متنبي عصري...؟ فسيقولون لك: أجدح  جدحتك وتعال...

2. الخاصة أو النخبة: وهؤلاء هم الشعراء والنقاد والمشتغلون بالأدب وبعض هؤلاء ينظر للأدب والفن من منطلق "الفن للفن" و"الأدب للأدب" لكنهم يشكلون الأقلية من جمهور الشعر، وهؤلاء عندهم الشعر: "جزالة اللفظ والصور الشعرية التي ينتجها وأعذب الشعر اكذبه..." كما يقولون، وأنا لا أنكر هذا لكني أسميه الاستثناء، ولا ابخسه حقه فهم مصممو مكائن إنتاج الشعر ورواد صناعته لكننا معشر العامة لا نهتم بهؤلاء بقدر ما نهتم بالذين يقدمون لنا أرغفة أو أطباق الشعر، وهنا يبرز الشاعر والفنان فالذي يستحق من العامة أن يشدوا اليه الرحال هو ذلك القادر على دمج الاستثناء بالقاعدة فيكتب للعامة وكأنه يستهدفهم وفي نفس الوقت للنخبة وكأنه متوجه إليهم وهو ما يوصف بالسهل الممتنع... و بوصفي من العامة لم ينل اعجابي شخصياً مثل عنتره في هذا الميدان ...فأشعاره في لفظها مفهومة من قبل العامة من جمهور الشعر والى يومنا رغم أنه ينتمي لفترة ما قبل الإسلام ومعلقته إحدى المعلقات المشهورة، لأنه جاء من بين العامة وربما أن الذي فجر شاعريته هو رفضه من قبل شريحة تراه أدنى في حين أنه يرى أن له ما لهم وعليه ما عليهم وكل ما في الأمر أنه يرفض اسلوب تعامل محيطه معه ويسعى لأن يحقق لنفسه القبول بينهم ومن ثم يبزهم ويتقدمهم بما ينجزه بقدراته الذاتية ليس أكثر وفي نفس الوقت يضرب بنفسه مثلاً ليحقق الارتقاء بفهم حاضنته من العامة ويأخذ بسلوكهم من الضعة والخور والدناءة الى مكارم الأخلاق:

فها هو يصف نفسه بقوله:

أَنا العَبدُ الَّذي خُبِّرتَ عَنهُ-وَقَد عايَنتَني فَدَعِ السَماعا.

وَسَيفي كانَ في الهَيجا طَبيباً -يُداوي رَأسَ مَن يَشكو الصُداعا.

ولم يقل: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا- متى أضع العمامة تعرفوني.

وهو البيت الذي سرقه الحجاج من مطلع قصيدة الشاعر سحيم بن وثيل الرياحي لينفثه سماً زعافاً في وجوه العراقيين يوم ولي عليهم.

وها هو يعلن عن موقفه من مكارم الأخلاق كإنسان طبيعي سوي ويريد من الاخرين الاقتداء به فيقول:

أَثْنِـي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فإِنَّنِـي- سَمْـحٌ مُخالطتي إِذَا لم أُظْلَـمِ

وإِذَا ظُلِمْتُ فإِنَّ ظُلْمِي بَاسِـلٌ-مُـرٌّ مَذَاقَتُـهُ كَطَعمِ العَلْقَـمِ

وَإِذا بُليتَ بِظالِمٍ كُن ظالِماً -وَإِذا لَقيتَ ذَوي الجَهالَةِ فَاِجهَلِ

فالرجل سمحاً وليس متجبراً ويريد التعامل معه بالمثل وهذا أبسط حقوقه لكنه يحذر من موقع الاقتدار من يحاول بخسه حقه أو ظلمه بأنه سيذيقه العلقم وهو قادر على ذلك ...

ولا ينكر واقعه الذي وضعه فيه قومه دون استحقاقه ويسعى للارتقاء بممكناته الشخصية فيقول:

إِن كُنتَ في عَدَدِ العَبيدِ فَهِمَّتي - فَوقَ الثُرَيّا وَالسِماكِ الأَعزَلِ

أَو أَنكَرَت فُرسانُ عَبسٍ نِسبَتي - فَسِنانُ رُمحي وَالحُسامُ يُقِرُّ لي

وَبِذابِلي وَمُهَنَّدي نِلتُ العُلا - لا بِالقَرابَةِ وَالعَديدِ الأَجزَلِ

في حين أن عمرو بن كلثوم عندما قال:

مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا- وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا

إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ-تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا

بالغ كثيراً وقال ما لم يقله حتى كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية في عصرنا الراهن...!

وعنتره عندما ناجى حبيبته عبله لم يكن متبجحاً صفيقاً فيقول: سأضرب الثريا بزحل كما يقول المتبجحون عندنا اليوم وهم لا يصلحون حتى شيالي عليقة شعير حصان عنتره، بل قال قوله بوصفه شاب يرعى أغنامه أو أبله لكنه أبي وشجاع ليس أكثر فقال:

أُحِبُّكِ يا ظَلومُ فَأَنتِ عِندي-مَكانَ الروحِ مِن جَسَدِ الجَبانِ

 وَلَو  أَنّي أَقولُ مَكانَ روحي-خَشيتُ عَلَيكِ بادِرَةَ الطِعانِ

وأيضاً لم يكن بكاءً مولول مثل قيس فيقول:

أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها- بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا

لَعَمري لَقَد أَبكَيتِني يا حَمامَةَ الـ - عَقيقِ وَأَبكَيتِ العُيونَ البَواكِيا

خَليلَيَّ إِن لا تَبكِيانِيَ أَلتَمِس-خَليلاً إِذا أَنزَفتُ دَمعي بَكى لِيا

 الأمر الذي دفع أبو نواس أن يسخر منه ومن أشباهه بقوله:

قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس- واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس

اِترُكِ الرَبعَ وَسَلمى جانِباً- وَاِصطَبِح كَرخِيَّةً مِثلَ القَبَس

لكن عنترة شأن آخر...فهاك ما يقول:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل - منّي وبيض الهند تقطر من دمي

 فودت تقبيل السيوف لأنها - لمعت كبارق ثغرك المتبسم

حياك أبو سمره...

وعنترة يعلم أقرانه مكارم الأخلاق فيقول:

وأغضّ طرفي ما بدتْ لي جارتي… حتى يواري جارتي مأواها

إنّي امرؤ سمح الخلائق ماجد… لا أتبع النفس اللجوج هواها

 وحتى في تعامله مع الخمرة يرفض أن يقول سكرت ولا يفقد توازنه واعتباره إنما مجرد انفاق المال:

فَإِذا شَرِبتُ فَإِنَّني مُستَهلِكٌ- مالي وَعِرضي وافِرٌ لَم يُكلَمِ

في حين أن غيره هذا حاله:

وإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير-  وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير...!

وعنتره حتى في تشببه بعبلة رائع فهو يتشبب بما يظهر له جليا دون يختلس النظر من خلف الجلابيب:

تُرِيكَ إذا ولّتْ سَنامًا وكاهِلًا- وإن أقبلتْ صدرًا لها يَترجرجُ

يا سلام... " وإن أقبلتْ صدرًا لها يَترجرجُ "،هذا كل ما في الأمر لم يتخطى الحدود فيقول:

ولاعَبتُها الشِّطرَنج خَيلى تَرَادَفَت- ورُخّى عَليها دارَ بِالشاهِ بالعَجَل

فَقَبَّلتُهَا تِسعاً وتِسعِينَ قُبلَةً- ووَاحِدَةً أَيضاً وكُنتُ عَلَى عَجَل

وعَانَقتُهَا حَتَّى تَقَطَّعَ عِقدُهَ - وحَتَّى فَصُوصُ الطَّوقِ مِن جِيدِهَا انفَصَل

هذا بالضبط ما اسميه الشعر المنتج أما عن شعر النخبة فتفضل:

غمُوضٌ عَضُوضُ الحِجلِ لَو أَنهَا مَشَت - بِهِ عِندَ بابَ السَّبسَبِيِّينَ لا نفَصَل

فَهِي هِي وهِي ثمَّ هِي هِي وهي وَهِي - مُنىً لِي مِنَ الدُّنيا مِنَ النَّاسِ بالجُمَل

أَلا لا أَلَا إِلَّا لآلاءِ لابِثٍ - ولا لَا أَلَا إِلا لِآلاءِ مَن رَحَل

فكَم كَم وكَم كَم ثمَّ كَم كَم وكَم وَكَم - قَطَعتُ الفَيافِي والمَهَامِهَ لَم أَمَل

وكافٌ وكَفكافٌ وكَفِّي بِكَفِّهَ - وكافٌ كَفُوفُ الوَدقِ مِن كَفِّها انهَمل

فَلَو لَو ولَو لَو ثمَّ لَو لَو ولَو ولَو - دَنَا دارُ سَلمى كُنتُ أَوَّلَ مَن وَصَل

وعَن عَن وعَن عَن ثمَّ عَن عَن وعَن وَعَن - أُسَائِلُ عَنها كلَّ مَن سَارَ وارتَحَل

وفِي وفِي فِي ثمَّ فِي فِي وفِي وفِي - وفِي وجنَتَي سَلمَى أُقَبِّلُ لَم أَمَل

وسَل سَل وسَل سَل ثمَّ سَل سَل وسَل وسَل- وسَل دَارَ سَلمى والرَّبُوعَ فكَم أَسَل

وشَنصِل وشَنصِل ثمَّ شَنصِل عَشَنصَلٍ- عَلى حاجِبي سَلمى يَزِينُ مَعَ المُقَل

حِجَازيَّة العَينَين مَكيَّةُ الحَشَ- عِرَاقِيَّةُ الأَطرَافِ رُومِيَّةُ الكَفَل

هذا الشعر ...بوصفي من العامه:

- هل استطيع فهمه ...؟ لا ...فهو مجرد هيهيه ولألأه وكمكمه وكفكفه وعنعنه وسلسله وشنصله...يجيك واحد من الخاصه يقول لك: ما أدراك أنت بأسرار الشعر...؟ أصلاً كل واحدة من هذه العنعنات والفيفيات والسلسلات واللولوات والكفكفات والكمكمات واللألأات، والهيهيات والشنصلات لها معنى مختلف عن الآخر بقلب الشاعر والمختصين...أقول له: أنا الأكثرية من المستهلكين وأنا الذي أحدد قبول السلعة أو بوارها.

- ولكن في نفس الوقت هل أستطيع ان أنفي كونه شعراً...؟ لا طبعاً...فهو عندما يلقى قربك بتمكن، وتغمض عينيك تعيش أجواء موزارت وبتهوفن...

- وهل أستطيع حفظه...؟ من سابع المستحيلات ...

- وهل يضيف الى مكارم الأخلاق...؟ يمعود هذا لو يقروه بملهى مطفأة الأنوار إلا من انارة خافته حمراء لسمعت شبق القوم وانت بالشارع.

- طيب...بوصفي من العامه وهم الأغلبية هل أنا معني بهذا الشعر ...؟ طبعاً لا...

فلا تقل لي: "المهم بالشعر جزالة اللفظ والصور الشعرية التي ينتجها فأعذب الشعر اكذبه"... فأنا من العامة وهم جل المستهلكين لبضاعة الشعر وستبور بضاعتكم إلا من كم علاكَه يقتنيها الخاصه....

فيا ايها الشعراء ...قبل أن يتفوه أحد منكم ويقول أنا أشعر من فلان وأنا متنبي العصر سيقال لك أرنا جدحتك أولاً...وخاطب العامة ثانياً فهم جل رواد سوق الشعر...وليكن شعرك هادفاً ومنتجاً وليس مجرد تمتمه أو دردمه...ولتكن مفهوما وليس مثل أغنية الشاب خالد الجزائري الذي بات اليوم عجوزاً وما زال يعتاش على وارد أغنيته الشهيره: دي دي دي واه دديدي واه ...

نأتي الى ظاهرة التسقيط التي انتشرت في الوطن العربي في السنوات الأخيرة وفي العراق مؤخراً:

عنتره الذي يقول عن عبلة:

أُحِبُّكِ يا ظَلومُ فَأَنتِ عِندي-مَكانَ الروحِ مِن جَسَدِ الجَبانِ

 وَلَو  أَنّي أَقولُ مَكانَ روحي-خَشيتُ عَلَيكِ بادِرَةَ الطِعانِ

 ويثني قائلاً:

 ولقد ذكرتك والرماح نواهل - منّي وبيض الهند تقطر من دمي

 فودت تقبيل السيوف لأنها - لمعت كبارق ثغرك المتبسم

ويتغنى بصدر عبلة الرجراج وكهلها قائلا:

تُرِيكَ إذا ولّتْ سَنامًا وكاهِلًا- وإن أقبلتْ صدرًا لها يَترجرجُ

 يقولون عنه: بعد 6 أشهر من زواجه من عبلة لم تظهر عليها أعراض الحمل، فبدأ القلق يدب في قلبه فتزوج عليها ضره فانفتحت قريحته ليجعل منهن ثمان ...

وللمتصيدين بالماء العكر أقول: من نافلة القول أن عنترة  يسلك هذا المنحى ...فمن قال لكم أنه روميو مثلاً فيفرغ قنينة السم في معدته وهو ابن الصحراء الأشم ...؟ ثم هل تريدون منه أن يقال عقيم أو عنين مثلاً وهو عنتره سيد الفوارس والذي خلط الحابل بالنابل ليتخلص من سبة لونه، أنوب يعيرونه بالعنه...؟! طبعاً يتزوج ويخلف ولسان حاله يقول: لو تزوجت منكم رجالاً لخلفت وليس فقط نساء...

أما عن عبله فقد دفعها الإصرار بالتمسك بفتاها عنتره  لأن تبحث عن يمين غليظة تقسم به لأن اسم الله لم يكن معروفاً في تلك الأصقاع  فاختارت ذمة العرب وقالت: " لو ملك عنتر مائه امرأة ما يريد سواي، ولو شئت رددته إلى رعى الجمال وحق ذمة العرب أنه يبقى لشهر والشهرين لم أخليه يدنو منى حتى يقبل يدى ورجلي، وإني معه هذا الزمان ما رزقت منه بولد"...!

***

د. موسى فرج

 

فجأة وصلت أسراب طيور اليمام وقصدت مختلف أعشاشها في مختلف أرجاء الواحة، طائر اليمام يشبه الحمام، تغريدته الشجية تملأ الواحة طيلة النهار، وصول طيور اليمام، عند أهل الواحة يقترن بنضج واستواء السنابل، وهو إشارة لاقتراب موعد الحصاد، ها أنت الان متكئ لوحدك في جوف الواحة، داخل حقلك المسيج بحائط التراب، وشجيرات الرمان تصاحب الحائط وأغصانها تحتك مع جنباته على مدِّ البصر، وتحجبه عن العين، وتتدلى فروعها على جنباته من خارج الحقل... أنت الآن مستلقي  في مساحة ظل واسعة اشتركت فيها شجرة الرمان، مع النخلات الأخوات الاربعة؛ التي  تتفرع عن جذع النخلة الأم الكبير الضاربة في القدم، وذلك يظهر جليا من خلال امتداد قامتها في السماء، وهي تبدو لك من الأسفل وأنت تتبع بعينك تجاعيد جذعها وقد عجزت عن عدها، شيء واحد أفلح بصرك بالإمساك والإحاطة به  هو جريد رأسها وهو يلامس زرقة السماء....

وأنت رافع رأسك إلى الأعلى في حالة تيه وحيرة في تتبع تجاعيد النخلة الأم، تدرك بأنك تحت سقف اشتبكت فيه مختلف أغصان أشجار الرمان واللوز والكروم وجريد النخل... سقف باللون الأخضر تتخلله زرقة السماء التي تنبعث منها أشعة الشمس التي تتحكم في رسم ظلال مختلف الأشجار والشجيرات، أشعة الشمس المتسللة بين مختلف فتحات الأغصان تجيد على طول النهار رسم مختلف اللوحات والأشكال التي تجمع بين الظل والنور، وهي لوحات بديعة، الظلال تحاكي مختلف المخلوقات، وتبدوا لك أحيانا لك على شكل مخلوقات غريبة... وفي وسط النهار عند الزوال ينتصر النور على الظل ويكون سيد الموقف، ليتضاءل دوره ويتلاشى كلما اقتربت الشمس من الغروب.

تغريدة اليمام تلقي بك في عوالم لا تنتهي، عوالم مفارقة للعالم الذي أنت فيه، إذ يختفي مفهوم الزمن ويتداخل الحاضر بالماضي والمستقبل، وتختفي مساحة ومعالم المكان، ذهنك الآن في شرود لا مثيل له، يأخذك إلى زمن لا قِبَل لك به، وربما أنك عشت جزءا أو صورة مشابه له في طفولتك، يأخذك الى مكان حيث لا مكان؛ إلا تخيُّل الصور والأشخاص والأشياء والكائنات...بعدها يقفز بك إلى المستقبل الذي لا قبل لك به، حيث يتداخل الأمل واليأس، الأمل بفرحة النهر الكبير بغدير كثير...اليأس حيث لا شيء من كل هذا إلا الرَّحيل. تغريدة اليمام تغريدة لا تشبه تغريدة كل الطيور، اليمام ينوح ويبكي أكثر ما يغرد.

تغريدة اليمام  تجعل الفرح ينبعث من دواخلك، إلا أنه فرح لا يخلو من الحزن والقنط، اليمام نفسه في حيرة من أمره، من عادة الطيور أنها تغرد فرحا بالصباح وفرحا عند الغروب، طيور اليمام ليست على هذا المنوال، فاليمامة الواحدة أو اليمامتان أو الثلاثة... في جدل لا ينتهي، في ترديد نفس التغريدة طول النهار، والغريب أن اليمام ينصت جيدا لبعضه البعض، فاليمامة الواحدة تستمع جديا للشطر الأول من التغريدة لترد عليها بتغريدة مماثلة، ربما أنها تنقضها... اليمام لا يكثر الحركة مثل باقي الطيور، كل همه أن يخلد تغريدته بالنواح لوقت طويل وهو مختبئ بين أغصان شجرة ما... قيل قديما اليمامة تبكي فقدان إخوتها.

عندما تطير اليمامة أمامك أو تقترب منك تحدق في رأسها وأجنحتها كثيرا وفي شكل جسمها النحيف... يبدوا لك من أعينها أنها في حالة من الحزن، وعندما تبتعد عنها يظهر لك عليها حالة من الفرح،  تأخذك نحوها نوع من الشفقة والرأفة، مع الطيور الأخرى الأمر مختلف، فهي تبعث في نفسك شعورا آخر غير شعور الشفقة والحنين...هذه السنة غردت طيور اليمام كثيرا، ويبدوا من تغريدتها أنها ترثي الزمن الذي مضى ولم يعد، ترثي زمنا اعتادت فيه على وفرة قوتها... يخيل إليك أنها ترثي حالة النهر الكبير، الذي لم تجده كما تركته من قبل...يا ترى هل تغريدتها هذه السنة تغريدة الوداع الأخير... وداع تتوقع معه لا عودة لها في الموسم القادم... تغريدتها هذا الموسم تغريدة حزينة أكثر من اللازم.

استيقظ حمان في وقت ما قبل طووع الفجر، ارتدى ملابسه، وقد أضاف هذه المرة من فوق عمامته "ترازة"[2] وهي قبعة مصنوعة من سعف النخيل، تقي صاحبها أشعة الشمس الحارقة، ألقى حمّان حزمة من المناجل في قعر أحد كفتي "الشواري"[3] ووضع في الكفة الأخرى حبات التمر ومستلزمات أخرى من أواني قد أعدتها زوجته بعناية... ها هو حمَّان  قد أحضر دابته من المربط، والبسها بردعتها القديمة، رفع "الشواري" على ظهر دابته، وضع رجله على المصطبة الصغيرة بالقرب من باب الدار، وإذا به يقفز إلى الأعلى مستعينا برقبة دابته، وإذا به يقع على ظهرها، ورجليه منسدلتين الى الجهة اليسرى من ظهرها، الكثير من الدواب عندما تحس باستواء صاحبها على ظهره، تنتظر هزة حركة أرجله، لتنطق في الطريق، وإلا بقية واقفة في مكانها تنتظر الإذن بالمسير... انطلق حمّان في اتجاه الحقل الكبير،  وقد ضرب فيه موعدا مسبق مع بعض شباب ورجال القرية، بعد قليل لحقت به زوجته والأولاد، وقد وجدوا بالفعل عند وصولهم الى الحقل الجماعة في انتظاره...

إنها أيام الحصاد بشكل جماعي التي انطلقت هذه الأيام في مختلف جوانب الواحة، فمن عادة الزراع في الواحة، أن يتعاونوا فيما بينهم على حصاد زروعهم، وهي عادة تسمى عندهم "التويزة أو تيويزا"[4]. اختارت زوجة حمَّان وبعض من النسوة معها، مكان فسيحا بعيدا عن الزرع ومن المتوقع أن ظل المكان سيستمر لطول النهار، وقد أوقدت النار، ووضعت عليها قدر الحساء، وشرعت في إعداد عجين خبز الفطور، وإذا بصديقتها قد تمكنت من تقشير بعض من حبات البصل، والقت بها في قعر "المهراس"[5] الخشبي الصغير، وقد أضافت عليها قطع من شحم البقر، وبعض من التوابل من بينها مسحوق الفلفل الأحمر، وشرعت في دقِّها داخله حتى سارت عجينة طيعة تلتصق بجوانب العمود الخشبي الذي تُدق به، حولت النسوة عجين الخبز الى مجموعة رقاقات عجين دائرية الشكل، ووضعت وسطها، عجينة الشحم، وها هي الآن تجمع مختلف الرقاقات من كل جوانبها، وهي طريقة تجعل عجينة الشحمة وسط عجين الخبز، إذ يتم دلكها من جديد، وتتحول الى رقاقة من عجين محشوة من الداخل بعجينة الشحمة والبصل، ويلقى بها مباشرة فوق النار، إنه فطور الشباب والرجال الذين أنهكتهم حركات جزِّ قبضات الزرع وهم في وضعية انحناء على الأرض لوقت طويل، أو جالسين القرفصاء...وهم في صراع مع الوقت إذ عليهم إنهاء حصاد الحقل في هذا اليوم، فالأيام الموالية محاصرين فيها بالدور الذي سيأتي على حقول أخرى.

قبل أن تنسدل خيوط أشعة الشمس، أصبح قدر شربة الحساء جاهزا، وقد التفت حولها الجماعة، بعد أن القوا مناجلهم بالقرب من سنابل الزرع الذي لم تصله مناجلهم بعد، عندما ملأوا بطونهم بمقبلة شرب الحساء مع حبات التمر، عادوا الى مواقعهم من الحصاد، أشعة الشمس الآن تدفعهم ليبذلوا كل ما في طاقتهم، وهم يتوقعون العودة من جديد ليتحلقوا حول خبز الشحمة الى جانب كؤوس الشاي الأخضر الممزوج بالنعناع...

عند الظهيرة وقد ازداد حر الشمس أنهي الجماعة مهمتهم ولا يتبقى لهم إلا جمع وتصفيف، سنابل القمح في مكان أقل ظلا داخل الحقل، على شكل كومة دائرية تكون فيها السنابل الى الداخل وجذعها التي جزت منها الى الخارج بهدف، أن تجف أكثر، وتفقد جزءا وزنها ليسهل نقلها من الحقل الى ساحة البيدر، الان والجماعة منهمكة في جمع وتصفيف السنابل، بالقرب منهم لا تتوقف طيور اليمام عن تغريدتها الغريبة، يا ترى هل هي في حالة فرح واحتفال بموسم الحصاد؟ أم أنها تنوح وتغرد عن الأيام الخوالي؟

أهل الواحة يعاتبون طيور اليمام كثيرا، لسبب وجيه في نظرهم، فهو يهاجر إلى مكان بعيد يستبدل به الواحة وأهلها، ولا يكون إلى جانبهم في فصل الخريف حيث الحرث وبذر البذور، ولا يحضر معهم فصل الشتاء حيث البرد القارس وسقي جداول الزروع، لكن عندما ينضج الزرع ويجهز الأكل، يحل فجأة بينهم، ويفضح نفسه بوصوله بتغريدته طول النهار. وقد قيل: تغريدة اليمام، لا تحرث معك في فصل الخريف ولا تسقي الزرع معك أيام البرد القارس، لكن تحضر لتقتات بحبات الزرع في فصل الربيع (أّشْ عْليكْ يا غَرْ،غَرْ،غَرْ...ما حرتي ما شدِّتي الماء في الليالي) الغريب بأن كل الطيور هكذا، إلا أن اليمام يحضر في الربيع بتغريدته التي لا وجود لها في مختلف الفصول إلا نادرا.

طيور اليمام بتغريدتها تلك في الموسم الماضي، كانت تميل الى النواح، ولم تعد بعد رحلتها الأخيرة، لا شيء لكي تعود من أجله، وقد سارت في اتجاه آخر وجهة أخرى، بعيدة عن الواحدة التي لم تعد لها فيها أعشاش...

... يتبع ...

****

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

.........................

[2]  "ترازة" وهي قبعة تحجب أشعة الشمس منسوجة من سعف النخيل أو غيره

[3]  هو عبارة عن قفتين مقرونتين ببعضهما. يوضع على ظهر الدابة، بحين تنسدل كل قفة الى جانب وهي متصلة بالقفة الأخرى من الجانب الآخر. وبكون الشواري تحمل فيه على ظهر الدواب مختلف حاجيات الناس وأطعمتهم، هناك مثل شعبي مفاده سمكة واحدة تفسد رائحة الشواري (حُوتة واحدة تَخنَّز شواري..) في إشارة إلى أن فساد الشيء القليل قد يسبب في فساد الكثير...

[4]  التويزة أو تيويزا:  معناها التعاون هي موروث ثقافي مغاربي تُجمع فيه وتتعاون جماعة من المجتمع أو القرية من أجل المساهمة في إنجاز عمل خير أو مساعدة محتاجين أو فقراء أو بناء منزل لشخص أو مسجد أو جني حقول القمح وأشجار الزيتون

[5]  وعاء مجوف من خشب أو نحاس يتم يُدقُّ  فيه الطعام والتوابل ..بواسطة حمود يتناسب مع حجم الوعاء

عندما تتفتح الأبواب المغلقة على الحبّ والأمل.

لقد سحرتني رواية "فرصة ثانية" للأديبة صباح بشير منذ اللّحظة الأولى، غاصت في أعماق روحي، تاركةً أثرًا لا يُمحى، وكقارئ عاديّ، لمستني كلماتها بعمق، ونقلتني إلى عالمٍ ساحرٍ من المشاعر الإنسانيّة والتّجارب الحياتيّة.

إنها تحفة أدبيّة تستحق القراءة والتأمّل، عنوانها البسيط يحمل في طيّاته دعوة مغرية للغوص في أعماقها، وقد فعلتُ ذلك بشغف لا يوصف.

أسلوب الكاتبة الأنيق، المنساب كالنهر، والمطرّز بالكلمات البرّاقة، جعلني أشعر وكأنّني أتنقّل بين حدائق غنّاء، تفوح منها عطور المشاعر الإنسانيّة والحبّ النقيّ.

لم أستطع أن أترك الرّواية من يدي حتّى أنهيتها في نفس اليوم، وكأنّني في سباق مع الزّمن لأكتشف أسرار شخصياتها.

لقد برعت الكاتبة في نسج شخصيّات مركّبة، نابضة بالحياة، تنتمي إلى عالمنا الواقعيّ بكل تعقيداته. مصطفى، هدى، عبدالله، لبنى، إبراهيم، ونهاية، كلّ منهم يحمل قصّة فريدة، تتشابك مع قصص الآخرين؛ لتشّكل لوحة إنسانيّة غنيّة بالدروس والعبر.

الرواية، في جوهرها، هي رسالة مفعمة بالأمل، تعلّمنا أنّ العلاقات الاجتماعيّة، مهما بدت معقّدة، تحمل في طيّاتها حلولًا بسيطة، وأنّ الحبّ هو المفتاح السحريّ، الذي يفتح الأبواب المغلقة ويمنحنا فرصة ثانية.

أتمنى للأديبة صباح بشير المزيد من التألّق والإبداع، وأن تواصل إثراء عالمنا الأدبيّ برواياتها وأعمالها الأدبيّة.

***

د. يوسف عراقي

 

الى صديقي يونس!

باص "الأمانة" الأحمر، "أبو طابقين"!

اليوم كنت في البريد. أرسلتُ لكم طردًا، وزنه عشرون كيلو "فقط لا غير"! انشاء الله يصلكم سالمًا غانمًا منعمًا بدون أي غارة. وأنا في الحقيقة ممتن لموظفي البريد العراقي، يوصلون كل شيء مضمونًا ويسلمونه كاملاً، كما أخبرتموني. هذه فعلاً خصلة لا نجدها إلا عند أغنياء النفس الميسوبوتاميين الأصيلين الغيارى.

أنا حقاً فخور بسعاة بريد العراق، يجوبون الشوارع بدراجاتهم ليسلّموا الأماناتِ إلى أهلها، أعتقد أن هؤلاء بقايا الرافيدينيين النشامى.

بالمناسبة انا وأصدقائي دائما نتذكر هذه المؤسسة بإيجابية، كانت تقدم خدماتٍ بريديةً ممتازةً، حدّثني هنا أحد موظفيها القدامى بفخر واعتزاز عن نظامها وأسلوب عملها، أتذكر رسائلي وطرودي البريدية، كنت أبعثها لكم ايام الدراسة من خارج العراق، كانت تصلكم كاملةً.

أما أمانة مصلحة نقل الركاب فحدّثْ ولا حرج، آه كم أشتاق إلى باص الأمانة الأحمر، بالذات "أبو طابقين"، تميزت بها بغداد في الشرق الأوسط. مؤسسة مدنية عريقة ساهمت في تطوير العراقيين وحققت مبدأ "المدينةُ تُطوّرُ الإنسانَ"، شبكة خطوط ومواصلات لم أجدها في البلدان العربية الأخرى. علامة بارزة في تطور العراق المدني وظفت آلاف العمال والمستخدمين من كل أنحاء بلاد الرافدين.

أرفق لكم مع هذه الرسالة قائمة بمحتويات الطرد، سيصلكم قريبًا، وهي على العموم ملابس و"فيتناميات" عفوًا أقصد فيتامينات وأدوية والخ من "تفاتيش" القلوب كما كانت جدتك تقول. إنسانةٌ رائعةٌ!

هل تتذكّر كيف كانت جدتك تسمي اليمن؟ "أمن"، عندما سافر أحد جيراننا إلى اليمن للعمل كمدرس، كانت تقول: "راح للأمن"، ونحن نلاشيها ونضحك! وبالمناسبة كانت هي ايضًا سعيدةً بمزاحنا معها، أليس كذلك؟ أجمل شيء أتذكره عنها أني سألتها في إحدى المرات:

- بيبي اشلون كنتم انت وجدّو الله يرحمه؟ كنتم مثل الشباب بالأفلام؟ يعني هَمْ ...؟

ردّت على الفور تلوك بالكلمات:

- أسكت لَك، عيب!

ثم أردفت مبتسمةً:

- ليش احنه وَحّد؟ كلّه شيل وبطح على السطح! وغرقت في ضحكتها، بس مو مثل الأفلام يقعدون من الصبح ...بلا ما يفرّشون أسنانَهم!

واطلقت العنان لضحكاتها وصدرها يخرخش، عقبت متنهدةً ماطّةً شفتيها السمراوين:

- ربي ضحكة خير، راحت الأيام الحلوه، سودَه عليَّ، راح عند ربه!

لم نكن نتحدث عن مثل هذه المحرّمات إلا مع العجائز وبالصدف، شويه، شويه، مثل ناقوط الحِب! هل تتذكر كيف كنا نتحيّن الفرص ونتلقّفها؟ أنت كنت تجلب سيجاير اللف لهن، وانا كنت متخصصًا بالبسويكت! كلها "رشوات" لسماع قصصهن ومغامراتهن عن الحُب بالأقساط، بينما هنا كل شيء مسموح به، طبعًا هناك حدود أيضا.

الصيف هنا جميل كما أسلفتُ، بالذات عطلة نهاية "الإزبووع" مثلما يقول المصريون أو الويك إند، ترى الناس هنا يقودون دراجاتِهم شبابًا وشيبًا، نساءً ورجالاً مرتدين أزيائهم الجميلة: النساء يلبسن السراويل، و"الجِماشه" أو الفيزون الملتصقة بالجسد المثير، تبرز مفاتنه، والتنانير القصيرة، ألوان زاهية كالأحمر والأبيض والأرجواني، مسكينه المرأة العراقية، سواد بسواد، باستثناء الجامعات، كانت أفضل مكان لعرض الأزياء في السبعينات! لكن محافظ بغداد آنئذ وشرطة الآداب كانوا لهن بالمرصاد، حتى الشباب الخنافس لم يسلموا منهم!

ماعدا ذلك فالدنيا عندنا كلها سوداء، ومع ذلك أتذكر أن سائقي سيارات بغداد كانوا يلصقون على مركباتهم قطعًا صغيرةً مكتوب عليها "الله جميل يحب الجمال"و "القلب يعشق كلَّ جميل" والخ.

لكن، انتبه، "مو كل أصابعك سوه"! المسيحيون المورمونيون وشهود يهوه الأصوليون هنا يختلفون قليلاً عن الناس العاديين، إنهم يؤمنون بالحشمة، يلتزمون بالتقاليد الدينية، لكنهم أقليّه. وهل هناك أجمل من العباءة العراقية السوداء؟ السواد يسبي العباد! إنها حقًّا جميلة، لكنها تحتاج لبعض "التنقيحات"! أنا أحب العباءة، تراث جميل بس عايزها شويه رتوش، خلّيني ساكت أحسن! وأتذكر أغنية "يا أم العبايه لِبسي عباتك!".

إذا تطلعتَ إلى وجوه الدنمركيين هنا يوم الجمعة ستشعر بها فَرِحَةً مستعدة لعطلة نهاية الأسبوع، يسرعون إلى منازلهم مشيًا وبدَرّاجاتهم، وسياراتهم مشغولين بحياتهم اليومية السلمية السليمة، إلا أن بعض العاطلين بمن فيهم بعض اللاجئين أو الأجانب القادمين الجدد إلى هذه البلاد من "البلدان الدافئة" أو "البلدان غير الغربية" لا يشعرون بهذه العطلة ولا يفهمونها، إذا لا يذهبون الى العمل ولا الدراسة في الأيام العادية.

هؤلاء الغرباء الجدد، ليس كلهم طبعًا، ممن لم يحصلوا على عمل في بداية حياتهم هنا، قد يشعرون إن أزعَجَ الأيام بالنسبة لهم هو "الويك إند"، أطفالُهم يبقون في شققهم الصغيرة المخصصة لعائلات عدد أفرادها لا يتعدّى الأربعة، تصور كيف سيكون الوضع إذا كانوا عشرة أنفار!

لكن هناك قسمًا آخرَ منهم مشغول طيلة أيام الأسبوع في العمل ليلاً نهارًا! وأجانب آخرون لا يختلف وضعهم عن اهل البلد، يعني كل واحد وظروفه! أرجوك لا تفهمني غلط! أنا لا احب التعميم، تعرفني جيدًا، ولا التعتيم، أُعطي كلَّ ذي حق حقه، أحاول ولا أدعي الكمال! لستُ "رب الكمان"! كما كان والدك يردّد!

هنا، في الدنمرك، أحيانًا ترى العائلة كلها خارجةً في نزهة: الأم والأب والأطفال أو الجدة والجد في الغابات والشوارع النظيفة، يقودون دراجاتهم مبتسمين رافعين رؤوسهم يحيّون الآخرين: هاي! هاي!

شعب الهاي، بالذات عندما تشرق الشمس، فخورون ببلادهم وطبيعتهم وإنجازاتهم وديمقراطيتهم وأسلوب حياتهم، صارَ كما يبدو لي أشبه بالدين، يحبون التظاهر بطقوسه مثل الحديث عن الجو والضرائب وإشعال الشموع وترتيب المناديل الورقية الزاهية وكؤوس الماء والبيرة والنبيذ الأحمر والحب في المساءات الهادئة.

قد يأتي شخص آخر، ويفسر هذا الأمر بطريقة سلبية كأن يقول عنهم إنهم أنانيون مشغولون بحياتهم اليوميه وغرائزهم ورغباتهم ودنياهم، وقد يزيد إنسان آخر فيقول لك: "مصيرهم الجحيم لأنهم ملحدون وكفار"، وهذا هو أخطر ما يمكن حصوله بين الشباب الأجانب، تكفير الآخرين ونبذ الحياة الاجتماعية مع اهل البلد الأصليين! قسم من هؤلاء الشباب الغرباء بمثابة قنبلة موقوته يحتار السياسيون والمتخصصون اليائسون بكيفية دمجهم في المجتمع ودرء خطرهم عليه. الله يستر من القنابل الموقوتة!

أما اللاجؤون الجدد فأغلبهم، أو قسم منهم، أعذرني لا أعرف كم هي نسبتهم، خاصة في بداية حياتهم هنا، لا يختلطون كثيرًا مع أهل البلد المنظمين المقولبين، المبرمجين، "الباردين"، البيتوتيين، وتصوراتهم عنهم غير دقيقة وغير أصليه، وإن سألتَ بعضَهم عنهم، أقصد عن المواطنين الأصليين، يجيبك: "شمعة وكأس نبيذ وحبيبة!".

هكذا يختصر بعضُهم انطباعاتِه عن أهل البلد. كل شخص يرى الأمور من زاويته!

صحيح، إن العتمة والشمعة جزء من ثقافة الإسكندنافيين، ويجيدون هذا الاسترخاء بهذه الطريقة، لكن ليس قبل أن يهدّهم التعب وينجزوا كلَّ أعمالهم. الدَنمَركيون عمومًا مشغولون بحياتهم اليومية، واوقاتهم مليئة بالمواعيد كل حسب ظروفه، وبالذات مَن لديهم أطفال. وبمرور الزمن يصبح اللاجؤون الموظفون والحرفيون منهم، مثل سكان البلد الأصليين بل أكثر، مشغولين غير مكترثين بالعلاقات الاجتماعية الواسعة. هؤلاء يصبح وقتهم من ذهب والحمد لله يعملون ليلاً نهارًا.

العمل هنا أهم شيء! من لا يعمل لا يأكل! هذا شعار الاشتراكية، و هناك أناس لا يعملون، ومع ذلك يأكلون من الإعانات، لكنهم لا يحسُّون بطعمه كما يقولون أحيانا!.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

 

في رحاب الفنّ والإبداع، يشرق نجم الفنّان الفلسطينيّ جمال بدوان، ليروي للعالم حكاية شعب يتحدّى النسيان.

بريشته تتهادى الألوان والخطوط على اللّوحات الخالدة، تلك التّي تجسّد معاناة شعبنا وآماله، وتتردّد فيها أصداء القضيّة.

تتجلّى قصّة الفنّان جمال بدوان، ابن قرية عزون في قلقيليّة، الّذي حمل على كاهله أوجاع اللّجوء والتّشرّد منذ نعومة أظفاره، وفي الثّانية عشر من عمره، خطّت أنامله أولى لوحاته على قماش خيمته المتواضعة في قلب المخيم.

لم يمضِ عامان حتّى تحوّلت كلّ أقمشة الخيام في المخيّم إلى لوحات فنّيّة نابضة بالحياة، تجسّد معاناة اللاجئين وتطلّعاتهم، وفي إحدى زياراتها الدّورية للمخيم، أُعجبت لجنة من هيئة الأمم المتّحدة بما رأت، فقرّرت تكريم الفتى الموهوب، ومنحه أوّل علبة ألوان، لتفتح أمامه آفاقا جديدة في عالم الفنّ.

منذ ذلك الحين، انطلق بدوان في رحلة إبداعيّة متواصلة، يمزج فيها الألوان المائيّة والزيتيّة؛ ليصنع لوحات تحاكي الواقع وتلامس الرّوح.

في السّابعة عشر من عمره، غادر الأردن إلى بلغاريا ليكمل دراسته الجامعيّة، ثمّ انتقل إلى أمريكا لمتابعة دراسة اللّقب الثّاني، ومنها إلى روسيا حيث نال درجة الدّكتوراه في الفنون الجميلة، واليوم، يعمل د. بدوان محاضرا في قسم الفنون بالجامعة، يشارك طلّابه شغفه بالفنّ، ويغرس فيهم قيم الجمال والإبداع.

لم يكتفِ الفنّان جمال بدوان بالعمل الأكاديميّ، بل انطلق يحمل رسالته الفنّيّة إلى العالم، عارضا لوحاته في أروقة معارض أوروبا وأمريكا.

تجاوزت معارضه الفرديّة الخمسة والسّتين معرضا، موزّعة على ثلاث وثلاثين دولة، ناهيك عن مشاركاته العديدة في معارض جماعيّة حول العالم.

كانت لوحاته بمثابة مرآة تعكس آمال شعبه، وتراثه، وهويّته، لتخاطب الضّمير الإنسانيّ بلغة الفنّ الخالدة، وقد أثمرت رحلته الإبداعيّة عن جوائز عديدة من مختلف الدّول الأوروبيّة، وَتُوِّجت بتكريم ملكيّ من ملكة هولندا وملك المغرب. كما حاز على لقب "فنّان دوليّ" من الأكاديميّة العالمية للفنّون، وهو الفنّان العربيّ الوحيد الّذي نال هذا الشّرف.

اختير مرّتين لعضويّة لجنة التّحكيم الدّوليّة لاختيار أفضل فنّان للعام على مستوى العالم، ومنحته دولة فلسطين لقب "سفير الفنّ الفلسطينيّ" بمرسوم رئاسيّ، تقديرا لإسهاماته الفنّيّة.

على أرض الوطن، أقام ثلاثة معارض؛ ليشارك أبناء شعبه ثمرة جهده وإبداعه، وليؤكّد أنّ الفنّ رسالة سامية، تتخطّى الحدود وتجمع القلوب على الخير والجمال والمحبّة.

كما تخطّت لوحات بدوان حدود المعارض لتزيّن أغلفة المجلّات، وأبرز الكتب والدّواوين الشعريّة والرّوايات، كرواية "رحلة إلى ذات امرأة" و"فرصة ثانية" للكاتبة صباح بشير، ومجموعة من الأعمال للكاتبة رُلا غانم، وللكاتبة نوال حلاوة، والكاتبة سارة الشمّاس، الأديب جميل السّلحوت، الكاتبة نجوى أبو الهيجا، د. محمود صبري عودة، والكاتب محمد العرّوقي وغيرهم الكثير من الأدباء العرب والأجانب، وفي بادرة تشجيعيّة، أعلن عن استعداده لتقديم لوحاته كأغلفة مجانيّة لكتب المبدعين الفلسطينيين.

كما تقوم العديد من المتاحف والمعارض والمؤسّسات الثقّافيّة في أوروبا بعرض لوحاته، وفي عام 2011م، سطّر بدوان اسمه في موسوعة الأرقام القياسيّة برسمه أكبر لوحة زيتيّة على القماش في العالم، بمساحة بلغت (310) أمتار مربّعة، وهو رقم قياسيّ لم يُكسر حتّى يومنا هذا.

تجوب هذه اللّوحة الفريدة العالم في جولة مكّوكية، وقد عُرضت حتّى الآن في تسع دول أوروبيّة وثلاث دول عربيّة.

يعتبر د. جمال بدوان الأب الرّوحي لمجموعة كبيرة من الفنّانين الفلسطينيين، حيث ساهم في إحضار العشرات منهم إلى أوروبا؛ ليتفاعلوا ويتبادلوا الخبرات مع الفنّانين الأوروبيين، كما دعا فنّانين أوروبيين إلى البلاد والأردن؛ للمشاركة في فعاليّات فنّيّة مشتركة، وقد سُمح له ولمجموعة من الفنّانين الغربيين برسم لوحة ضخمة في ساحة المهد، مكان مولد السيّد المسيح عليه السّلام، بقرار من رئاسة السلطة الفلسطينيّة، لتغدو هذه اللّوحة أيقونة مشهورة في الغرب لما تحمله من رمزيّة دينيّة وروحيّة، فهي نتاج عمل جماعيّ لفنّانين مختلفين بقيادة الدّكتور بدوان.

في نهايّة المطاف، يقف الفنّان جمال بدوان شامخًا على طريق الإبداع، يؤكّد أنّ الفنّ قوّة لا تقهر، تتجاوز الحدود وتنشر رسالة السّلام والمحبّة.

فليبقَ اسمه محفورًا في الذّاكرة، وليكن إرثه الفنّيّ مصدر إلهام لكلّ من يحمل في قلبه شغف الفنّ والجمال.

***

صباح بشير

 

بقلم : كاميل بيري

ترجمة : د. محمد عبد الحليم غنيم

***

الأوديسة الرومانسية لفاني فان دي جريفت أوزبورن وروبرت لويس ستيفنسون

قدم شهر العسل الذي دام شهرين لفاني وروبرت لويس ستيفنسون أساسًا لمذكراته، "مستأجرو سيلفردادو"، وعزز حبهما المشترك للمغامرة.

ملاحظة المحرر: في عام 1879، شرع روبرت لويس ستيفنسون، الشاب العشريني، في رحلة عبر المحيط الأطلسي بحثًا عن فاني فان دي جريفت أوزبورن، وهي امرأة كاليفورنية غريبة الأطوار وقع في حبها أثناء زيارته لمستعمرة فنانين في فرنسا. وصل ستيفنسون إلى الولاية الذهبية مريضًا وفي حاجة ماسة إلى الراحة والتعافي. لقد ساعدت أوزبورن في رعايته حتى استعاد صحته وأصبحت زوجته. وبفضل تشجيعها ومساهماتها، واصل ستيفنسون كتابة أعماله الكلاسيكية جزيرة الكنز والحالة الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد.

بالنسبة لشخص رومانسي، كان لويس صريحًا للغاية عندما وصف لاحقًا يوم زفافه، في 19 مايو 1880، لصديق:

لم يكن ما جذبني في زواجي هو سعادتي الشخصية؛ بل كان زواجًا في أقصى حالات الأزمات. وإذا كنت اليوم في مكاني الحالي، فذلك يعود إلى رعاية تلك السيدة التي تزوجتني عندما كنت مجرد كومة من السعال والعظام، أكثر ملاءمة لتكون رمزًا للموت منها إلى أن أكون عريسًا.

لتوفير المال، استقل الزوجان الترام بدلاً من العربة من فيري هاوس إلى نوب هيل، حيث تعيش عائلة ويليامز. كان فيرجيل [صديقه] خارج المدينة، لكن دورا [زوجته] سارت معهما من هناك إلى منزل القس ويليام أندرسون سكوت. لا بد أنهما بدوا كزوجين غريبين بالنسبة له: الفتى النحيف للغاية، وجهه شاحب باستثناء عينيه البنيتين المتقدتين، والمرأة الداكنة التي تمتلك عينين نافذتين أيضًا وشعرها المجعد الرمادي، والتي لم تكن أعلى من قلبه. تلاعب الزوجان بالحقائق التي قدماها لسكوت لسجل الزواج. كانت فاني صادقة بجرأة بشأن عمرها، أربعين عامًا، لكنها أعلنت بلا خجل أنها أرملة. ادعى لويس أنه يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، مما قلص الفجوة العمرية بينهما بعام. ومع قيام دورا بدور وصيفة العروس ووصيفتها، تبادلا الوعود وخواتم الفضة البسيطة. ثم ذهب الثلاثي إلى مخبز نمساوي لتناول  " الآيس كريم الرائع".

أصبح فاني ولويس الآن متزوجين رسميا. وقضيا ليلة زفافهما في فندق القصر، وهو الفندق الأكبر والأكثر فخامة في غرب الولايات المتحدة. وصلا بالعربة، ونزلا تحت السقف الزجاجي الرائع إلى الرواق المفروش بالرخام. تجولا على الشرفات المزخرفة المطلة على الفناء، المكان المرموق في سان فرانسيسكو حيث يمكن رؤية الآخرين ورؤيتهما. قد يظن أي شخص أنهما تخليا عن أسلوبهما الغريب والبوهيمي. لكن هذه كانت آخر رفاهية استمتعا بها لبعض الوقت. بعد أيام قليلة، وقد فرغت جيوبهما، غادرا لقضاء شهر عسلهما الغريب. سيقضيانه في منجم فضة مهجور.

توجهت فاني ولويس ولويّد [ابن فاني من زواجها السابق] وتشوتشو، كلبهما، إلى وادي نابا، حيث فر عدد من المصابين بالسل بحثاً عن القوة الشفائية المفترضة للهواء النقي ومياه الينابيع على جبل سانت هيلينا. وعندما سمعوا عن مخيم تعدين مهجور أعلى الجبل يمكنهم الإقامة فيه مجاناً، تمكنوا من تسلق المنحدرات الصخرية الحادة بواسطة عربة ذات عجلتين، حتى اضطروا لتسلق سلم خشبي مثبت على المنحدر للوصول إلى مكان إقامتهم المستقبلي.

كان منجم سيلفاردو قد حُفر في الأرض قبل ثماني سنوات فقط. لكن المشروع انهار دون أن يحقق النجاح المأمول، مما أحبط الخطط المتفائلة لمدينة مزدهر تحمل أسماء شوارع مثل روبي، وجولد، وجارنيت. على منصة مثلثة مغطاة بالركام، تم تثبيت ثلاث أكواخ خشبية في جدار الوادي مثل درجات تحت نتوء من الصخور الحمراء.كان المبنى الأول عبارة عن مكتب للخبراء. والآن لوح باب واحد، محطم ومتشظي، ملتوٍ هناك في النسيم. كانت أغصان أوراق الغار تتسلق عبر إطارات النوافذ الفارغة، وكان رذاذ من البلوط السام يزدهر من خلال ثقب في الأرضية. كانت السقيفة الثانية والثالثة تحتويان على أسرّة بطابقين لعمال المناجم - ثمانية عشر سريراً في المجموع - والمزيد من القمامة. طوال مدة إقامتهم، كان على المتزوجين حديثًا ولويد السير خارجًا وتسلق لوح خشبي إلى مدخل مفتوح معلق في الهواء للوصول إلى غرفة نومهم المشتركة.68 robart lues

مع وجود قطع الخشب والحديد مبعثرة حول المباني، كان المكان قذراً بكل معنى الكلمة. في مذكراته عن هذه التجربة، بعنوان "المستوطنون غير الشرعيين في سيلفرادو"، يعترف لويس بأن رؤيته لمدينة أشباح التعدين كانت أكثر رومانسية بعض الشيء ــ "مجموعة من المنازل المجاورة على مساحة خضراء في القرية، يمكننا أن نقول إنها فارغة تماماً، ولكنها مكنوسة ومطلية بالورنيش؛ وجداول مياه تتدفق عبرها أسماك السلمون المرقط؛ وأشجار الدردار أو الكستناء الضخمة، التي تطنطن بالنحل وتعشش فيها الطيور المغردة".

كانت فاني، التي عملت في معسكرات تعدين الفضة، أكثر واقعية من غيرها. وبعد أن قطع لويس شجرة البلوط السامة التي كانت تنمو عبر الأرض، تولت هي المهمة. وصنعت الأبواب والنوافذ من الإطارات الخفيفة والقطن، واستخدمت الجلود من الأحذية المهملة كمفصلات للأبواب. ومن بقايا الخشب وصناديق التعبئة، قامت بتثبيت قطع الأثاث. أصبحت فوهة المنجم ثلاجة لها لتخزين الخوخ المجفف والنبيذ والحليب الطازج الذي كانت تحضره من الجبل يوميًا. علّقت هناك الحمام والبط البري وغيرهما من الطرائد التي اشترتها من الصيادين المحليين. كما تم نقل موقد وقش للأسرة إلى الجبل.

عندما أصبح المكان صالحا للسكن— "الأسِرَّة مرتبة، الأطباق على الرف، دلو الماء اللامع خلف الباب، الموقد يصدر طقطقات في الزاوية"—وصفه  لويس بأنه مثال رائع على "نظام الإنسان،  الأماكن الصغيرة النظيفة التي ينشئها ليعيش فيها.". لكن إبداع المرأة هو من أنشأ هذا "المكان الصغير النظيف" .أما لويس فكان ما يطلق عليه الاسكتلنديون الرجل "عديم اليدين". وعندما كتب: "لقد أصلحنا أسوأ الأضرار"، يمكننا أن نفترض أن نفترض أن فاني هي من استخدمت المطرقة والمنشار. وكان هذا هو الأسلوب الذي عملا به معاً. فكلما شعر لويس الذي لا يمكن كبته برغبة في الانتقال ـ من أجل صحته، أو لمتابعة حلم، أو لمجرد الملل ـ كانت فاني تجعله يحدث. وفي هذه الحالة، حول خيالها منجماً مهجوراً إلى مسكن مريح؛ وأضفى خياله عليه صفة أسطورية في رواية "المستوطنون البسطاء في سيلفرادو".

في قصرهما  الخاص في الهواء الطلق، كانت فاني ولويس قادرين على اللعب بالأدوار الصارمة للجنسين التي كانت سائدة في عصرهما. فاني، وهي على ركبتيها تدق مسمارًا في مكانه، قد ترفع نظرها لتجد لويس مسترخيًا تحت أشعة الشمس، مرتديًا شالها وقبعتها بطريقة معكوسة، حيث كان الريش يتدلى فوق أنفه. ورغم أن مهارات فاني في الأعمال اليدوية منحتها مكانة غير تقليدية في المنزل، إلا أن ذلك لم يكن دائمًا في صالحها كشخص مبدع. موهبة لويس في الكتابة منحته الدور الأسمى في عائلتهما. لكنه كان يرتدي تاجه برشاقة وأناقة، دون أن يفرض سلطته المنزلية بطريقة صارمة أو متعالية.

كانت فاني تقدر أن لويس لم يكن زوجًا تقليديًا، يصدر الأوامر ويتوقع طاعتها على الفور. لاحظت هذا النهج المرن في سلطته منذ بداية زواجهما، حتى في تعاملاته الطريفة مع كلب العائلة. في رسالة إلى دورا، التي تُعد تقريبًا المراسلة الوحيدة التي نجت من تلك الفترة، وصفت فاني كيف كان لويس يوبخ الكلب تشوتشو بلا جدوى عندما كان الكلب يبعثر نعاله في كل مكان: "الفرق بين شدة لويس في الانضباط نظريًا، وتسامحه الفاضح عمليًا فيما يتعلق بتربية تشوتشو، أمر مسلٍ. لنأمل أن يكون الأمر نفسه مع زوجته."

كان لويس يشعر بالتوتر بسبب شبح الزلازل في سان فرانسيسكو، لكن في سيلفيرادو، كان هو وعائلته الجديدة يعيشون حقًا على أرض غير مستقرة. كانوا بالكاد يستطيعون المشي خارج المنزل دون أن يغوصوا في الأرض أو ينزلقوا أو يمزقوا أحذيتهم على الصخور الحادة. كانت الأنفاق والممرات المنجمية تلتف تحتهم في الأرض. في أي لحظة، كان من الممكن أن تنهار مسكنهم المؤقتة في أحد الممرات أو تتهاوى بهم إلى أسفل التل. في الليل، كانت عواءات الذئاب والثعالب تبدو قريبة بشكل مقلق من خلال الشقوق في الجدران والأبواب المصنوعة من القماش. خلال النهار، كانت الأفاعي الجرسية تصدر أصواتًا "مثل العجلات الدوارة" من كل جانب. لكن لمدة شهرين، استطاعت فاني أن توفر للويس الراحة التي كان يتوق إليها.

بعد القيام ببعض الأعمال الصباحية، كان لويس حراً ليستريح ويتجول ويكتب. على ما يبدو، لم يمنعه التعافي من التدخين، حتى عندما كان يتعين نقله إلى منتصف الجبل ليستنشق الهواء النقي. كان شرب الكحول أيضًا جزءًا من الروتين اليومي. كانت فاني تقدم له مشروب الروم المثلج الممزوج بالقرفة في منتصف الصباح ومنتصف بعد الظهر كل يوم. وفي مصنع النبيذ شرامسبيرج، تذوق ثمانية عشر نوعاً من النبيذ في جلسة واحدة ـ وهو إنجاز مذهل حتى بالنسبة لرجل يتمتع بصحة جيدة.

بعد شهرين تقريبًا، هجر المستوطنون مكانهم، قبل أن يبدأ الضباب الرطب الموسمي في التسلل إلى الوديان والشقوق الجبلية ورئتي لويس. كانت صحته قوية بما يكفي للقيام برحلة عبر المحيط، وكان يتوق لرؤية اسكتلندا ووالديه. وبمساعدة فاني، تحسنت علاقته بهما.

***

.............................

* مقتطف من كتاب شاطئ متوحش: ملحمة رومانسية لفاني وروبرت لويس ستيفنسون للكاتبة كامييل بيري، والمقرر نشره في 13 أغسطس 2024، عن دار فايكنج، إحدى إصدارات مجموعة بنجوين للنشر.

* في الصورة: الكاتب روبرت لويس ستيفنسون في صورة مع النساء اللاتي ساعدنه في تطوير مسيرته الأدبية على الرغم من أمراضه المتكررة. من اليسار: زوجته فاني ستيفنسون، وابنته بالتبني ومساعدته الأدبية إيزوبيل أوزبورن، ووالدته مارجريت إيزابيلا ستيفنسون.

 

الى صديقي يونس!

نخلة چاسبية أُم اللبن!

 لا يمكن مقارنة الطبيعة هنا بما موجود عندنا في بغداد، يؤسفني أن أقول لك إني ومثلي آلاف الشباب، لم ننعم برؤية بساتين ديالى الجميلة ولا الموصل الحدباء أم الربيعين، ولا مصايف صلاح الدين ولا جبالٍ في كردستان، مشهورة بجمالها، ولا بادية السماوة، سمعنا عن الصيد فيها من الآخرين صدفةً، ولا أهوار الجنوب العامرة بالأسماك وطيور الخضيري المهاجرة من أطراف الدنيا، لكن الحمد لله لم أرَ اراضيَ قاحلةً جرداءَ سبخةً أهلكت أصحابَها الطيبين كالحي الوجوه وحولتهم إلى "لاجئين" في بغداد، لكنها لا أعتقد تختلف كثيرًا عن عاصمتنا، المحترقة بشمسها، بل "شوتها شويًا" والحرارة تنبعث من أسفلتها وترابها، ولم تبقِ لا على ماء ولا خضراء ولا وجه حسن ولا هم يحزنون. لكني أعشقها وسأبقى أصرخ بغدااااد، بغداااد!

يوم أمس التقيتُ بشاعر عراقي شاب لكنه "آيل" للسقوط، طالَت فترة انتظاره هنا بدون أن يحصل على الإقامة، متعب نفسيًا، إنه مناضل البابلي، اسم على غير مسمّى، بائس حزين ويائس، يسمّيه بعضُهم متهكّمين به "بائس الحزين" غسلَ يديه من العراق و حكّامه، كان يسخر من أحد العراقيين المتحمسين، قال لمناضل: "آه لو كانت الأمور بيدي لخصصت مكافْأة أو أجرة شهرية لكل مَن يزرع شجرة فيها ويسمّيها باسمه ونصدر لها بطاقة خاصة بها ويسقيها بنفسه، مثلا كالبتوسة دحّام وعبّودي!، نخلة چاسبية أُم اللبن! أو سِدرة فطيمه المعيدية بائعة قيمر العرب (القشطة)، تَصوّرْ، هل يبدو الأمر مضحكًا؟ "والله شوف عينك" إذا مو كل بغداد صارت خضراء؟ ستحصل منافسة شديدة بينهم ويحمى الوطيس!" ويبدو أنه طاب له أن يراني أيضًا أتطلع إليه، أصغي إليه بصمتٍ واحترامٍ وعيناي مبحلقتان به، استمر يقول:

"آخ لو أصير أمين العاصمة، "أسَرفُن رداني" أو أشمّر عن ساعديّ وأمشي بملابس العمال"، أجمع القمامةَ بيدي، عمل شعبي مرة في الأسبوع، اسمه عمل شعبي بس أسوّيه إلزامي، اللي يعجبه أهلاً وسهلاً  وأعطيه مكافأة، واللي ما يعجبه ما نسمّي باسمه حتى شجرة قَوَغ! لو تشتغلون لو ماكو! أخلّي بغداد تزهي، أبني مترو، وأفتح شوارع عريضة محاطة بالنخيل والأشجار الباسقة و"داير مدايرها" نافورات أحلى من الشانزليزيه الفرنسي! هاآآ، لَعَد احنه وحّد؟! اشناقصنا؟ اشمالنه خويه؟".

كلام جميل وصحيح ورومانسي! وأنا أيضًا كانت لديّ هذه الأمنية منذ الصغر، لكن يا خساره ما عمّرت الحاره! والدي كان أيضًا يتمنّى نفس الأمر، لكن هيهات! مجرد أحلام وردية في عالم الصراعات!69 zouheer yasen

ألا يبدو كل هذا الحر على ملامح وجوه العراقيات والعراقيين؟ ألا تلاحظ أن بشراتنا تفتقر إلى النضارة ونحن كنا في عز الشباب؟ "أنت لِسّه شاب صُغَيّر!" كما يقول يوسف وهبي، هل أنا قاسٍ يا يونس؟ هل أنا حانق أو غضبان؟ أبدًا أنا منفعل ومشتاق لبلادي وحزين عليها، لماذا لا تتطور؟ كل الشعوب صار براسها خير إلا نحن! "إلا أنت، إلا أنت! إلا أنت!"، أعتقد هذه أغنية قديمة لمحبوبتك نجاة الصغيرة: "إلا أنت، فيها إيه الدنيا غيرك؟" لا أدري إن كان هذا صحيحًا أم أني صرت اخلط الأمور كعادتي، سامحني! سامحني! "إلا أنت، فيها إيه الدنيا دِيّه...فيها إيه الدنيا دِيّه...إلا أنت؟ كل غالي يهون عليّ إلا أنت..." أيها العراق الحبيب، إلا أنت! إلا أنت!

هل تتذكر أحد أصدقائنا من رفاق الدرب نعمة حينما قال لك: انتم تعيشون في رغد ونعيم، عندكم حديقة وبيت محاط بالكاليبتوس، بينما أنا أسكن في غريفة واحدة وصغيرة مع كل عائلتي، نحن نستيقظ الصباح يوميا على روائح المياه الآسنة مقابل بيتنا، تزكم أنفاسنا في الليل ونفتح عيوننا على مناظر بائسة وكالحة متشحة بالسواد، يا عزيزي أنت في حقيقة الأمر لا أخي ولا زميلي ولا رفيقي، أنت عدوي الطبقي!

والله حَقّه، لولا تنكره لصدقاتٍ تقبّلها من زملائه "البرجوازيين" أعدائه الطبقيين عندما مرّ في أحلك الظروف! ومع ذلك نَطقَ كلمته الأخيرة وبدا الحقد على نظراته رغم محاولته إخفائها بابتسامة باهتة بلهاء وشفتاه ترتجفان على أنياب كأنه ضبع سائب في البراري، بل وحش كاسر، شرس من الضواري قال مداريًا الموقف: "نعم، أنت رفيقي، لكن لازم نتعلم فن الحقد الطبقي ونتأكد من انسلاخكم من طبقاتكم! وهذا ليس له علاقة بكم كأشخاص"، يا له من جاحد! هل تتذكره، نعمة هذا كان يساريًا متزمتًا بامتياز لدرجة أنك بالذات كنت تسميه "نقمة"، لا يختلف عن الكثير مِمّن يطلقون عليهم اليوم تسميات مثل المتطرفين والأصوليين والمتشددين والسلفيين، كان يمكن أن يكون جهاديًا، كان ينادي أيضًا بالجيفارية ونظرية خلق البؤر الثورية، أفلح هذا الخط في كوبا بينما وُئدت حركتُه وقُتل قائدُه جيفارا في بوليفيا بعد أن خانه فقراءٌ جاء ليحرّرهم! فما الفرق بين هذين النهجين؟ اليساريون ذهبوا إلى إسبانيا دفاعًا عن الجمهوريه، والجيفاريون إلى بوليفيا لتصدير الثورة، والجهاديون اتجهوا إلى أفغانستان ليساندوا فئة ضد أخرى ولينصروا إخوتهم في الدين ضد الملحدين الروس. يعني إذا كل واحد يعطي الحق لنفسه سيصبح العالم غابةً! كلّهم مناضلون!

أجل، هكذا كان صديقنا المسكين نقمة عفوا أقصد نعمة، فقيرًا متحمسًا ولبقًا ومحدّثًا، مقنعًا في حواراته ولديه كاريزما، لكنه كان مثل بعض رجال الدين "الموامنه" منظّرًا اتكاليًا، "عِشتي" يعيش على الآخرين، بل "عَلَقة" يعتاش عليهم، يشكو الفقر والعوز ولم يجرب مرّةً أن يمسك المعول بيديه ليكسب خبزه بعرق جبينه.

أتذكّرُ أني أجبتُه بأنك زرعتَ الأشجار بيديك هاتين النحيفتين يا رفيقي، لِمَ لَمْ تَقُمْ بنفس الشيء أمام بيتكم؟ من يمنعك من القيام بذلك؟ لم يجبني ولم ينبس ببنت شفة، بل اكتفى بالنظر إليّ محركًا يديه حائرًا ماذا يقول وابتسامة صفراء ترتسمُ على شفتيه! وسبحان الله كان نعمة اسمًا على غير مسمى، أول المنسحبين المنبطحين المتطوعين للخِسّة والحِطّة والنذالة والعار والتعاون مع الأجهزة بدون أن يجبره أو يضغط عليه أحد.

أصلاً، لم يكن لدى هذا المسخ ما يبيعه غير الغدر، ولم نكن لنغضب عليه لو تعرض للتهديد اوالوعيد والترهيب، ناهيك عن التعذيب، لكن أبدًا لم يحدث مثل هذا الأمر لصاحبنا "الهمام"، كان يتبجح بالبطولات ويدّعي ما ليس له به ويزايد علينا بتنظيراته.

نعم، لم نكن لنغضب ولا نحقد عليه لو اكتفى هذا المأجور الوصولي المسكين بتغيير فكره وموقفه منا، لكنه تطوع، بل تمادى وتفنن ليلحلق الضرر والأذى بالآخرين بدون ان يطلب منه أحد ذلك. أجل هذا هو نعمة المزايد، يتميز بأسوأ مفردات تبدأ بالخاء: أول الخاسرين وأسوء الخاسئين وأذل الخانعين والخائبين والخائنين لقضيتنا، كوفِىء فيما بعد وفجأة بزمالة دراسية إلى بريطانيا، بينما كان الآخرون يتعرضون للضرب والحبس والإهانه ومع ذلك لم يتردّدوا في النضال من أجل أهله الفقراء، لطالما ادّعى نعمة الانتماء لهم. هل هذا ميسوبوتامي كما كان يتمنطق ويزايد ويتبجح؟ هل ينتمي هذا التافه الدَعّي الى مابين النهرين؟ اي مفارقة هذه؟ هل تتذكر كيف أهنّاه واحتقرناه وهشّمناه، عفوًا أقصد همّشناه عندما عاد من بريطانيا إلى العراق؟

كان يتصور أننا سنستقبله بالورود أو سننسى فعلتَه السوداء، لكننا لم نحقد عليه في دواخلنا بل أهملناه، والله انا شخصيًا كنت أعطف عليه وركنته في زاوية "الكراكيب"، بل شطبت اسمه ومسحته ومحوته من ذاكرتي، اجتثثته، تمنيتُ له ان يحقق سعادته الشخصية كما يريد، لكن بالتأكيد ليس على حساب الآخرين! الكلاب تنبح والقافلة تسير!

سَوْرري! سَوْرري! آسف عيني آسف! آسف على هذا الاستطراد المتشائم! لكن الثوري المبدأي، آسف حبيبي آسف، أزعجتك بهذه القصه السلبيه!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

للأدباء والنقاد والمثقفين ومحبي القراءة في مجال النقد الأدبي.. مجموعة من أهم الإصدارات لواحد من أهم نقاد مصر. إنه الدكتور مصطفي ناصف، الذي عاش في الفترة بين (1921: 2008) وتوفي عن عمر جاوز 86 عاماً، أنجز خلالها عداً من أهم المؤلفات النقدية التي أثرت مكتبتنا الثقافية..

 لقد قررت الهيئة المصرية العامة للكتاب التعاقد على نشر أهم أعمال الدكتور مصطفي ناصف أحد أبرز الداعين إلى تجديد مناهج النقد العربي. وهو الأمر الذي يشير إلى مدي اهتمام الهيئة بحركة النقد وبالمؤلفات النقدية المؤثرة في تلك الحركة..

 والحق أن الحركة النقدية بالفعل تحتاج إلى اهتمام وتطوير ودعم. خاصة في ظل كثرة المعروض من الأعمال الأدبية مع ضعف قيمتها ومستواها في معظم الأحوال. ويصير من السهل في ظل انعدام تأثير الحركة النقدية علي جمهور القراء والمثقفين أن تتسلل إلى ساحة النشر أعمال مغرضة أو ملتوية تنتمي لأجندات فكرية تهدف لإفساد الوعي وتوجيهه نحو اتجاهات تخدم مصالح تلك الأجندات المشبوهة.

 نعم نحن لدينا جهات رقابية تمارس دورها في فلترة الوجبات الفكرية المقدمة للجمهور، لكنها لن تستطيع وحدها كبح جماح هذا الكم الهائل من الإصدارات. وهنا يصبح للنقد دور حيوي جماهيري في التمييز بين الغث والثمين، وفي توجيه دفة الثقافة نحو الاتجاه السليم. ثم هناك دور ثاني لا يقل أهمية وضرورة. وهو الدور الذي يخص الأدباء أنفسهم. إذ يقوم النقد الأدبي الرصين بعدد من المهام الضرورية لكل أديب، منها التقييم الذي يجعل الأديب شاعراً كان أو روائياً يدرك موقعه ومستواه بالنسبة لأقرانه، فيحاول أن يطور قدراته باستمرار. ثم إن النقد المستمر لأعمال الأديب يجعله قادراً على استدراك أخطائه وهفواته في أعماله التالية، كأن النقد يمثل بالنسبة للأدباء بوصلة تضمن لهم السير في الاتجاه الصحيح.

 تكمن أهمية الإصدارات التي تنوي هيئة الكتاب نشرها للناقد الأكاديمي البارز الدكتور مصطفي ناصف في كونها تمثل اتجاهاً نقدياً متفرداً يدعو للتجديد. إنه لم يكن مجرد ناقل للمناهج النقدية الغربية، بل كان ينظر إلى الإنتاج الفكري الغربي في مناهج النقد وفلسفاته بعين عربية وبنظرة علمية تنتقي ما يصلح لبيئتنا العربية وتتجنب كل ما يتنافَى مع بيئتنا وخصوصيتها الحضارية وتاريخها الثقافي.

 فأما الدكتور مصطفي عبده ناصف، فهو أديب وناقد مهم عاش خلال فترة امتدت من العهد الملكي، حتى عصر مبارك. وحصل على ليسانس وماجستير الآداب في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، عين شمس حالياً، عام 1952، ووصل أن أصبح أستاذ كرسي عام 1966. وله عدد كبير من المؤلفات النقدية المهمة منها: (النقد العربي. نحو نظرية ثانية)، (نظرية المعني في النقد العربي)، (نظرية التأويل)، (ثقافتنا والشعر المعاصر)، (اللغة والبلاغة والميلاد الجديد)، (محاورات مع النثر العربي)، (بعد الحداثة: صوت وصدي)، (دنيا من المجاز) وغيرها من المؤلفات الرائعة التي وصلت لنحو 23 كتاباً هي من أهم المؤلفات النقدية في مكتبتنا العربية.

 وبسبب تميز هذه المؤلفات وأهميتها، حصل ناصف على عدد من الجوائز في مصر وخارجها؛ إذ حصل على جائزة الدولة التقديرية، وجائزة أفضل كتاب في النقد الأدبي، وجائزة نقد الشعر من مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين في الكويت، وجائزة الدراسات الأدبية والنقد من مؤسسة سلطان بن علي العويس بالإمارت. واختتمها بحصوله على جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب عام 2007، قبل وفاته بعام.

استطاع الدكتور ناصف صياغة منهجية نقدية خاصة يستقرئ من خلالها الأدب العربي القديم ليضعه في ميزان النقد الحديث، محاولاً تخليصه من أسر المحسنات البديعية والزخارف البلاغية موضحاً تطوره فكرياً ولغوياً. ثم أعاد قراءة أدبنا على ضوء استيعابه المحيط بمناهج النقد الحديث. وهو ما أوصله في النهاية لرسم خط أدبي ونقدي ميزه عن غيره من النقاد والأدباء.

امتلك مصطفي ناصف أسلوباً بارعاً في الكتابة النقدية والأدبية، ومنهجاً فريداً في معالجة وشرح أساليب النقد على ضوء منهجه الخاص الداعي للتطوير والتجديد. هكذا استطاع أن يحسم تلك العلاقة الجدلية بين مشروعات الفكر الحداثي الغربي وبين ثقافتنا الشرقية، وأن يصنع من هذا المزيج خطاً ثالثاً ينتمي في جوهره لتراثنا الثقافي ذي الخصوصية والتفرد.

 ولعل أهم ما ميز كتابات مصطفي ناصف أنه لم يخضع للأسلوب النقدي السائد في محيطه الأكاديمي، ولم يخاطب جمهوره من القراء من برج عاجي متعالي عليهم، بل حاول أن يكيف قلمه لخدمة القضية الفكرية والثقافية بإخلاص وتجرد.

 مشروع فكري مهم هذا الذي تنوي الهيئة رعايته، وإنني واحد من بين المترقبين لصدور هذه المؤلفات التي أثق أنها ستثري مكتبتنا من جديد بمؤلفات رصينة هادفة تستحق القراءة والاقتناء.

***

د.عبد السلام فاروق

قبل فترة تداولت وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، خبرا مؤسفا عن عملية همجية، تمثلت في رفع تمثال الملك السومري كوديا المقام في مدينة الدواية، شمال محافظة ذي قار، بل وسحله بعملية مهينة، والتمثال كما اشارت بعض التقارير، من عمل الفنان النحات أحمد حسن، من أهالي مدينة قضاء الشطرة، الذي قام بعمل نسختين من التمثال، وأهدى الاولى لبلدية الدواية في مدينته الناصرية والثانية لمتحف ذي قار الحضاري..

فمن هو الملك غوديا؟

يعتبر الملك غوديا، المعروف عالميا، أشهر ملوك سومر وهو الملك الثاني عشر لسلالة لكش (حكم 2124 ــ 2144 ق م) وتعاظمت الدولة في عهده وقام بتطوير نظام الري والتجارة الخارجية مع لبنان وشبه الجزيرة العربية ومصر، وهو لم يكن من مدينة لكش، الا انه نجح في صعود سلم المناصب والزواج من ابنة ملك لكش اوربابو (2144 - 2164 ق م) . وتميز عصره بالإصلاحات الاجتماعية فقد سمح للنساء بتملك الارض، واهتم بالفنون والآداب، وسعى لتطبيق القوانين. أيضا تشير الأبحاث الى أنه أول من بنى معبداً مقدساً في التاريخ، ومعنى أسمه باللغة السومرية (الرسول) أو (المُنادى - من قبل الإله-)، لذلك يصنفه بعض الباحثين على أنه (نبي).

الانباء ذكرت ان رفع تمثال الملك أو النبي غوديا تم بحجة أنه (صنم) ولا يجوز وجوده وتمت الإشارة الى محاولة استبداله بنصب ذو دلالات دينية اسلامية.

وسرعان ما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالغضب واستياء شديد من هذا السلوك الذي يهين رموز الفكر والثقافة ويهين تأريخ البلاد، ورفض واستنكر ناشطون العملية واعدوها جريمة بحق معالم اثار وتأريخ البلد، ومن جانبها استنكرت ورفضت مفتشية اثار وتراث ذي قار، عملية رفع التمثال ودعت المسؤولين في المحافظة، في بيان لها الى ( محاسبة مرتكبي تلك الجريمة، وحماية تماثيل ونصب المحافظة)، وسرعان ما تراجعت السلطات المحلية في قضاء الدواية عن قرارها برفع التمثال، وتواصلت مع النحات لإعادة ترميمه ونصبه في مكانه السابق وأدعت بأن الساحة خضعت لأعمال ترميم.

أن هذه الحادثة تقدم لنا درسا يمكن التوقف عنده مليا، فالسلطات الحكومية، التي فاتها ان وجود هذا التمثال وغيره، هو دليل اعتزاز اهل المدينة بتاريخها وحضارتها، اضطرت امام الرفض والاستنكار الشعبي للاستجابة للضغوط وإعادة نصب التمثال. ان حادثة تمثال الملك غوديا تقول لنا بأن تنسيق وتوحيد الجهود والرفض والاحتجاج يمكن ان يأتي بثماره ليس في قضية رفع تمثال فقط، بل وفي ملفات وقضايا اهم تخص حياة الناس ومستقبلهم.

ويضع أيضا امام الجهات الحكومية المعنية مسؤولية حماية اثار ومعالم الحضارة لبلادنا امام دعوات الجهل بحجج واهية لا تصب في خدمة البلاد وتاريخها ومستقبلها. ان المواطن العراقي يشعر بالخجل عند زيارته لبعض من متاحف العالم التي تحوي بعضا من اثار بلادنا، ويلمس جيدا حسن الاهتمام والطرق الحضارية للمحافظة عليها، والمستوى العالي من الرعاية التي تلاقيها على ايدي أهل البلاد “الكافرة” كما يقول بعض ابناء بلادي، فهل يعقل ان تكون على حق، تلك الأصوات التي تعتقد ان من الحسنات قيام الاوربيين بسرقة اثارنا، لأنهم يحفظوها لنا سليمة وبأحسن حال ويعرّفون بها، بينما نقوم نحن بإهمالها وأهانتها؟

***

يوسف أبو الفوز

عند الظهيرة في الدور السفلي من البيت (الدار)[2]، وسط الفتحته التي يمر من داخلها شعاع الضوء القادم من الأعلى، وهو يتسرب من بين السَّواري[3] الأربعة الرافعة لأسقف الدار، في منظر شبيه بذلك الذي ألفه البعض داخل قاعات المسارح المغطاة، عندما ينطفئ الضوء ولا يتبقى إلا دائرة ضوئية صغيرة يظهر من خلالها العارض وهي تلاحق جسده المتحرك فوق منصة المسرح، هكذا تبدوا لك السيدة فاطمة، وسط دائرة واسعة من الضوء، وأنت عند المدخل الرئيسي للبيت، قادم من الخارج حيث أشعة الشمس الكاشفة لكل شيء، لكن بعد لحظات تتعود عينك على طبيعة إضاءة المكان، وتدرك بأن فتحة البيت قد شكلت دائرة أكثر إضاءة في وسط ساحة البيت (رَحْبة الدار) ويتوزع الضوء من خلالها على جنباته بشكل خافت. فالجنبات يوجد بها أشياء وأغراض وربما جالسين من أهل البيت، لا تبصرهم بشكل واضح إلا بعد أن يتأقلم بصرك مع إضاءة المكان، المنبعثة من رَحْبة الدار المفتوحة على السماء. وهذه حالة شائعة عند أهل الواحة، إذ يقول لك صاحب الدار أنت مصاحب معك أعين الشمس، بعد قليل ستبصر كل شيء تحت الضوء الخافت الذي يقلُّ ويكاد ينعدم كلما ابتعدت عن فتحة البيت (رَحْبة الدار).

وأنت داخل العتمة في أبعد نقطة من الضوء بالقرب من باب الغرفة المخصصة لتخزين مختلف مستلزمات العيش من تمر وزيت وسمن وعسل وفول وعدس وخضروات... (بيت الخزين) وهو بيت يعمه الظلام طيلة النهار والليل، فعندما تفتح بابه لا تبصر أي شيء، وعندما تتلمس الحائط من بعد فتح الباب تجد بالقرب منك كوة الشمع أو القنديل، عندما توقد إحداها يظهر لك تحت الضوء الخافت ما شاء الله من قُلَل الفخار المحكومة الإغلاق، كل واحدة تخزن إما الزيت أو السمن أو شحوم البقر أو الغنم... وفي زاوية بجانب الحائط كومة من البصل والتوم...بيت الخزين دائما محكم الإغلاق وتتولى هذه المهمة جدة الأسرة، أو من هي أكبر سنا في الأسرة، الوحيد الذي يدخل الى بيت الخزين ويخرج دون حسيب أو رقيب هو القط، إذ تترك له فتحة تحت الباب، فمهمته أن يطارد الفئران وغيرها من الحشرات...أدرك أهل الواحة منذ القدم أهمية حجب البعض من الأطعمة عن الضوء حتى لا تفسد من بينها زيت الزيتون.

أنت في موقعك من البيت تبصر بشكل واضح من داخل بقعة الضوء، وسط (رَحْبة الدار) السيدة فاطمة وهي جالسة على الأرض ممددة رجلا وثانية أخرى، شعرها ملفوف بخرقة بيضاء من الثوب، أكمام قميصها واسعة وقد شدتها إلى أعلى مرافق اليد، الجزء العلوي من ردائها الذي يظهر من أعلى القميص مثبت "بخلالة"[4] فضية من جهة كل كتف، وهي تلمع على كتفيها كلما تعرضت لأشعة الضوء. إلى جانب الرجل الممددة وأمام الرجل المثنية، بساط من جلد خروف مدبوغ (هيدورة)، يبدو أنه كان خروفا متسع البنية الجسدية، جانب الصوف من البساط مفترش على الأرض مباشرة، والجانب المدبوغ منه، على سطحه رحى حجرية قطرها لا يقل على أربعين سنتميترا، وقد ثبِّت على أحد جانبي فكُّها العلوي عود أملس من الخشب بحجم قبضة اليد وزيادة، وبالقرب منه يظهر عود خشبي آخر منبعث من مركز شعاع الفك السفلي، ويخترق شعاع الفك العلوي، بشكل يسمح له بالدوران، يسمى بقطب الرحى، ففيه توضع الحبوب بقدر ما تمسكه اليد الواحدة، وتتسرب ببطيء نحو الفك السفلي، لتأتي بين الفكين، إذ يبقى الفك السفلي للرحى ثابت ولا يتحرك، وهو أكثر وزنا من الفك العلوي الذي يفترض فيه أن يسمح وزن بدورانه، بشكل سهل ومرن وسريع.

ها هي فاطمة تمسك بصلابة العود الذي يتحكم في النصف العلوي من الرحى، وتديره في اتجاه اليمين، وهي تضع بين الحين والآخر حبات القمح وسط قطب الرحى، وبعد لحظات يتسرب الطحين من جنبات فكي الرحى على سطح البساط الجلدي، فاطمة ستطحن ما وزنه ثلاثة كلو غرام من القمح... علاقة فاطمة كغيرها من نساء القرية وطيدة بالرحى، فعلى إيقاع الرحى يدور كلام طويل بين النساء، في مختلف البيوت والدروب، وعلى إيقاعها يتبدد ما بهن من أحران وأحاسيس وشجون، كما أن الاستعداد لمختلف الأفراح على رأسها الأعراس تكون الرحى أول من يعلم بها وهي تدور كل صباح في هذا البيت أو ذلك، ومن وراء باب هذا الزقاق أو ذاك أو وسط ذلك البهو أو ذاك... صوت الرحى وهي تطحن الحبوب، ينبعث من وراء أبواب البيوت داخل مختلف قصبات الواحة وقصورها، مصحوب أحيانا بأهازيج وأشعار تنشدها النسوة فيما بينهن وبالأخص إن اجتمعن أربعة أو أكثر وهن يتعاون فيما بينهن على تدوير الرحى وقد تتعاون امرأتان على تدوين فك الرحى الكبيرة الحجم.

عندما تتأمل في الرحى وهي تدور، تذكرك بدورة الزمن، ويأخذك الفضول لمعرفة تاريخ الإنسان القديم، وهو يستعمل الحجارة في كل شيء، وقد تكتشف بعض من غرور الإنسان الذي تصور أنه استغنى عن الحجارة والتراب... في حياته، ولكن عندما تتمعن في الحياة من حولك، تجد كل شيء يعود في الأخير إلى الأرض...الإنسان القديم طوع الحجارة لصناعة لوازم الحيات وبعها طوع المعادن من أجل ذلك...إنه نفس الطريق، فالإنسان اليوم يطوع المادة من حجارة ومعادن بطريقة مختلفة إلى درجة ينسى ويتناسى معها أصلها الذي جاءت منه...أليس أصل الإنسان نفسه من تراب!! ومن هذا الذي ادعى أنه جاء بمادة خارجة عن هذا الكون الذي نحن فيه!! إنه أمر مثير للاستغراب أن تختفي مختلف الوسائل الحجرية...وتبقى الرحى على طول الزمن حتى وقتنا الحاضر... فهي في دائرة الاحتياط في كثير من الواحات...

أنهت فاطمة عملية الطحين، وجمعت مسحوق حبات القمح من جنبات الرحى، وإذا بها تسحب الرحى من البساط، بعد إزالة ما تبقى بداخلها من مسحوق الطحين، سحبت الفك العلوي لوحده، ومررت يدها على الفك السفلي، لتزيل كل ما تبقى من مسحوق الطحين، ويدها تلامس خشبة قطب الرحى، وبعدها، سحبت الفك السفلي ووضعته جانبا بالقرب من الفك العلوي، وبعدها جمعت البساط الجلدي من جوانبه الأربعة، وبسطته مجددا، وقد ظهرت كومة من الدقيق الشديد البياض، تلمع بينه قليل من قشرة القمح الصفراء، وقد اقبلت فاطمة على غربلة الطحين بهدف فصل لباب مسحوق القمح عن قشرته... فما طحنه يكفي لإعداد خبز الغداء وفتل كسكس العشاء.

عند هذا الوقت بعد الظهيرة بقليل، يعود الرجال من حقولهم، وهم محملين، بما جلبوه منها من حشائش لإطعام بقراتهم ونعاجهم وماعزهم...ليس هناك فاكهة يتم جلبها من الحقول في الأيام الأخيرة من فصل الربيع، دون فاكهة المشمش وهي فاكهة تنضج بسرعة ورائحتها تملأ جنبات الحقول وقد تتساقط بشكل سهل تحت الأشجار إن لم يتم جنيها في الوقت المناسب، فبعض أشجار المشمش في الواحة وخاصة ذات الفروع الطويلة والأغصان الممتدة، التي تلقي بظلالها على الطرقات والمسالك الرئيسة في الواحة، تكون فاكهتها مشاعا وفي متناول الجميع من المارة، أو الجالسين الذين يستظلون بظلها البارد. في هذا الوقت من السنة تبدأ أزهار شجيرات الرمان بالتحول من زهرة حمراء اللون من كلا الجوانب إلى حبة رمان صغيرة مكورة الشكل. وهو الأمر نفسه مع شجرة اللوز وقد فقدت الكثير من أوراق زهرها الجميلة إذ تحول الجزء الكبير منها إلى مشروع حبات لوز صغيرة.

بعد لحظات اجتمع البعض من أفراد الأسرة في دائرة حول حبات من التمر يلتصق بعضها ببعض وهي مستلقية داخل طبق مصنوع من سعف النخيل، ويبدو على جنبات بعض منها بعض الخدوش، بفعل اقتلاعها بوتد خشبي صغير، من قعر خابية[5] الفخار الطينية، وقد ضغطت بداخلها منذ أشهر، فخابية التمر يصل علوها إلى حزام الرجل وقطرها يقارب المتر الواحد... قد تؤكل حبات التمر مع قليل من اللبن، وقد امتدت أصابع الأيادي من كل جهة، لتمسك بالتمر وهي تفكّ بعضه عن بعض... وإذا بأحد الأبناء قادم وهو يحمل معه سلة صغيرة من القصب من فاكهة المشمش، وقد أنزلها الى جانب طبق التمر وسط المتحلقين حوله، أعرض الجميع عن التمر وأقبلوا على المشمش...

إعداد خبز هذا اليوم ليس من مهام فاطمة، وها هي الآن قد أفرغت الدقيق وسط قصعة صغيرة من الفخار، وذهبت به في اتجاه غرفة تهييئ الطعام، في الدور العلوي من البيت، حيث تصطف ثلاثة كوانين وبالقرب منها فرن صغير...صحون فخارية صففت داخل كوة منقوشة على الحائط وبالقرب منها مجموعة من "الزلايف"[6] الخضراء والصفراء اللون... بعد أذان العصر بوقت ليس بالقليل أخذت فاطمة القصة الكبيرة المقعرة الشكل، ووضعتها على الأرض، وأفرغت وسطها جزءا من الطحين الذي أعدته عند الظهيرة... وأضافت قليل من الماء و...وشرعت في فتل حبات الكسكس، وهي مهمة تتطلب منها وقت يقترب من الثلاث ساعات ما بين دلك وفتل وبرم وتفوير.. قدرِ طهي الكسكس يتكون من طبقتين الطبقة السفلى وهي القدر الذي يطهى فيه المرق، والطبق العليا وهو "الكسكاس" الذي توضع فيه حبات الكسكس، وهو متقب كله من وسطه ويسمع للبخار ليتدفق إلى الأعلى ويخترق حبات الكسكس ...

في هذا الوقت قبل أن تصل الشمس إلى نهاية المسافة التي تقطعها كل النهار، أو بالأحرى، الأرض التي تدور حول الشمس، لم ينفك بعد، مجلس النساء في الدور السفلي من البيت من وراء باب المنزل من جهته الخارجية، وراء باب الدرب الذي يأخذك إلى الطريق الرئيسي داخل القصبة، مع أذان العشاء أنهت فاطمة مهمتها...يا الله كل هذا العناء منذ الظهيرة من أجل تهييئ طبق من الكسكس...هكذا هي نساء الواحة أيام زمكان، وهي تتناوب على إعداد الخبز والكسكس كل يوم...

أهم شيء لا حظته فاطمة أن مخزون قمح الأسرة لم يتبقى منه إلا القليل، وربما يكفي حتى موسم الحصاد، وأهل الواحة على أبوابه، ولكن هل الواحة لازلت تنعم وتأتي بما يكفي أهلها من حبوب القمح...في زمن اتضح فيه أن النهر الكبير قلَّ ماؤه ... فكيف يا ترى سيكون عليه الحال في فصل الصيف وما بعده؟

... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

.............................

[2] الدار: جمع دور وديار وديارات، ما يدار على الجدار، ويشمل مسكن الإنسان وتوابعه من مسكن حيوانه...

[3] أعمدة مبنية من الطوب المصنوع من الطين... وهي الأعمدة التي ترفع البيت إلى الأعلى والجمع السارية سوار، وتطلق أيضا على عمود من الخشب ينصب عليه الشراع.

[4] الخلالة: حلية فضية نسائية تضعها المرأة لتشد بها أطراف ردائها الذي يسمى بـ”الحايك” جهة الكتف، بشكل يجعلها بارزة. وتوجد الخلالة في شمال أفريقيا، لكن بتنويعات مختلفة

[5] الخابِيَةُ: جرَّة عظيمة، وعاءٌ يُحفظ فيه الماءُ أو التمر...

[6] وقد اختار أهل الواحة هذا الاسم، للصحن الذي نمسكه باليد الواحدة أو اليدين، ونقرّبه من أفواهنا لنشرب من خلاله مختلف الشربات من بينها شربة الحساء، فالاسم يعود إلى الفعل (زلف) فأَزْلَفَهُ قَرَّبَهُ وَازْدَلَفَ إلَيْهِ اقْتَرَبَ (وَمِنْهُ). الزلافة، سميت كذلك لأنها تقرب إلى شاربها وتقدم له، يقال زلف الكأس: أي قربه وقدمه، وقال الله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)﴾ (الشعراء)

 

الرسالة الثانية /3: الرسالة الجَلجَلوتية!

آب/ أغسطس 1992

عندنا يعاملون البشر مثل البهايم

***

عزيزي يونس!

حدثني أحد أصدقائي، قال:

في إحدى المرات عندما كنا في بداية التسعينات ننتظر في معسكرات اللاجئين الحصولَ على الإقامة، فوجئت بشاب طويل القامة ضخم الجثة يأكل فيها السبع كما يقال، والله أتذكر أنه كان على جَمال رجولي يجلب انتباه حتى الرجال، فيه العينان الواسعتان الكحيلتان اللامعتان السوداوان، والسن الباسم والشعرالكث، والطول والرشاقة، والشياكة والأناقة والقيافة، والله العظيم لو كنت مخرجًا مسرحيًا لأعطيته دور قائد عسكري أو روحي، ملهم، يقود الجماهير، لكنه لم يكن كذلك، سبحان الله، كاد أن يطير من الفرح، لم يستوعب "صدمةَ" الخبر المفرح، صار يتراكض ويتراقص ويدبك ويهز وسطه ويدورهنا وهناك جذلاً فاقدًا السيطرة على جسمه ويهذي ويجمجم بكلمات غير مترابطة كأنه يعاني من نوبة فرح جنوني لا يدرك ماذا يفعل وكيف يسيطرعلى مشاعره كأنه نشوان سكران يتهاوى أصيب بهيستيريا، سألت الآخرين بهدوء وثقة بالنفس كأني مديرهم أو مسؤول نزلتُ عليهم مشرفًا "من فوق"، أو من كوكب آخر لا يعلم ماذا يجري هنا: يا جماعة الخير، اشصار بيه، هذا الشاب؟ ربح مليون ؟"، قالوا لي إنه حصل على إقامة، "هَلّا وصلت إقامته"، هَمهَمتُ مستفسرًا: "وصلت إقامته؟ بالسيّارة؟ شر البلية ما يُضحك! إن لله في الخلق شؤون، وشنو يعني إقامة؟"، بينما كانت عيناي تتطلعان بسخرية إليه وهو يتابع دبكاتِه ورقصاتِه، والآخرون يضحكون.

تَمتَمَ أحد كبار السن من طالبي اللجوء الفلسطينيين، كان جالسًا إلى جانبي، يبتسم: "حقه يفرح ويرقص كمان، ما هُوْو أردني، المفروض يزغرد لأن الأردنيين ما بيحصلوا على الإقامه بسهوله زيكم العُراقيين، أنت مش عارف؟ وإلا؟ إحنه الفلسطينيه قبل كانوا بيعطونا الإقامه بنص ساعه، هسّاع صاروا يأخّرونا، أكثريتنا هنا صار لنا ثلاث سنين ننتظر، عشان هيك هُوْو فرحان، أصلاً ما كان بيتوقع ياخذها، لأنّه أردني، وزي ما خبرتك ما بيعطوش للأردنيين إقامه عشان بلدهم آمن، وفيه دمقراطية واحترام لحقوق الإنسان، هُوو صار له أربع سنين ينتظر، لكن هُوو ما كان سائل عليها، يشتغل هنا وهناك، جزار وخضرجي، يجي هون للمعسكر بس يستلم معاشه شهريًا ويروّح، إيه شو بدّه يعمل؟ يروّح على بلاده؟ مش معقول يترك هالبلاد الخضراء الحلوة والشغل والرفاهية ويروح، لا عنده شهاده ولا شغل ولا عمل هناك، ما تقول لي وطن! لا وطن ولا بطيخ، شو فائدة الوطن إذا ما فيه لقمه الواحد يأكلها؟ مستحيل! مضبوط كلامي والاّ لا يا باشا؟".

وَجّه سؤاله الأخير متطلّعًا إليّ بعينين حزينتين مستفسرتين بينما أخرج سيجارتين من علبته، قدّمَ واحدة لي وأخرى وضعها بين شفتيه الذاويتين ليدخنها، وصدره يخرخش ويسعل وهو يتمتم بين نفسه كأنه يشك بما يقول: "أنا عارف! والله الواحد يحتار شو بيحكي، الوطن عزيز، لكن الظروف تحكم الناس، والاّ شو يخلّي واحد شاب مثل هذا يترك أهله وديرته"؟

تناولتُ السيجارة شاكرًا وأنا أتطلعُ إلى تضاريس الجغرافية والتاريخ والرحيل والقدوم والمغادرة والوصول والسفر البادية في ملامح وجه هذا الفلسطيني المبتسم الهادىء، وكأن المثل العراقي "المبلّل ما يخاف من المطر" ينطبق عليه، هو بالأساس لاجىء في لبنان ليس له حقوق. واستمرَّ يتكلم بصوتٍ خافتٍ كأنه يعاتب نفسه "شوف كانت هناك بناية قديمه عالية، هي مش كثير تعبانه، بس هم درسوا الموضوع وقرروا يهدّموها ويبنوا مكانها عماره جديده، حاطّين صوره كبيرة تورجيك كيف راح يصير شكلها في المستقبل، ماشفتها؟ في شارع الكومونه، وفعلاً هدموها، على اساس هي خرابه! ههه! وراح يبنوا سوبر ماركت جديد وشقق سكنية ولا احلى منها! واحنه؟ خراب وسراب وشتائم وسباب!

عندنا يعاملون البشر مثل البهايم، هذا هيك عمل وهذه هيك عملت! وعلى اقل حاجة تبدأ اتهاماتهم وتخوينهم وتكفيرهم! شو بدّي أقول؟ أنا عارف؟ والله مش عارف شو أحكي؟ هَيْهم الناس إهنِي عايشين أحسن حياة ومرتاحين! ليش احنه هيك وضعنا؟ ليش ما نصير مثلهم؟ نبني ونعمّر بلادنا وبيوتنا؟ شوف يا مَحلى شوارعهم وبيوتهم، واحنه خراب وتراب، نكد بنكد، حروب إلها أول ما إلها آخر من داحس والغبراء حتى يومنا هذا، وأطفالنا وشبابنا يُقتلون قدّام أعين كل البشر، لكن لا مهزوز ولا محزوز، ولا نعرف شو راح يحصل بالباقين تهجير قسري أم "تحرير" أمري! وإلى متى نبقى بها الحال! الله اعلم!

كادت عيناي أن تدمعا، لو كان الأمر بيدي لفضّلتُ هذا الفلسطيني على نفسي وأعطيته الإقامة بدلاً عني، هذا طبعًا إن منحوني إيّاها بسرعة باعتباري عُراقيا كما يقول. أفكّر في كلامه وأقول لنفسي لا وطن بلا عمل ورعاية وحماية، ولا اندماج في مجتمع يدير للإنسان ظهره!

دعنا في المهم يا حبيبي يونس، نتذكركم في كل مناسبة وغير مناسبة، في كل لقمة نضعها في أفواهنا متردّدين بمضغها أو لوكها، وفي كل مرة نضحك قليلاً، نقطعها ونتوقف عن الابتسام خوفًا من لومة لائم أو تأنيب الضمير.

الطبيعة والمرابع الخضراء والسواقي والأنهار والأهوار لم نرها في بلاد الرافدين إلا في دروس الجغرافية والتعبير، هل تتذكر معلّم اللغة العربية عبد الحسين الحمداني؟ الطويل القامة ذا الشفتين، المتدليتين والنظارة السوداء، كان بارعًا في تدريس العربية ،علّمنا عبارات لم نكن نشعر بها، نصحنا أن نستعملها في موضوعات مثل: "صِف رحلة"، كنا نسميها كلائش: ولبسَت الأرض حلتها الخضراء متشحة بأحلى الألوان الزاهية، مرتدية أجمل الأزياء، أو: أخذت السيارة تنهب بنا الأرض نهبًا بينما كنا نتطلع من نافذتها إلى الأبقار والأغنام  والخيول والدجاج والبط والنوارس والطيور الأخرى وعصافير الدوري في المراعي والمروج والبساتين العامرة بالنخيل المتفاخرة بأعثاقها، نشم عبق الروائح الطيبة العطرة مع مهب الرياح الدافئة بشمس الربيع الساطعة ووجوه الفلاّحات مبتسمةً.

حلوووو! هلو عيني! هلو داد هذا شلون نفخ! كنّا في الصف السادس الابتدائي، وكان علينا أن نصف مناظرَ طبيعيةً لم نطلع عليها يومًا، بأجمل العبارات والألفاظ والصفات الجميلة الجاهزة!

بشرفك انت شفت مثل هذه الطبيعه في بغداد بحياتك؟ أنا شخصيًا لم أرَ أرضًا خضراءَ، أقصد بساتين وغابات غنّاءة وأشجارًا باسقة في بغداد إلا ما ندر، مثلاً في منطقة صدرالقناة ومقبرة الإنجليز أو الأتراك، لم أعد أتذكر، كنا، المفروض ندرس فيها، وأشجار الكاليبتوس في شوارع بغداد القديمة، مثل الوزيرية والصرّافية وراغبة خاتون وطبعًا كورنيش الأعظميه وبيت المميّز على الشط، كنا نسبح فيه وكاد أن يغرق فيه أحد زملائنا نوري النحيف الصُغيّر "الزعيجون" لولا أن أنقذه صاحبه صباح، هل تتذكر تلك الحادثة؟ والعطيفية، الله ما أجمل تلك الظلال في الظهيرات القائظة، وفي حدائق منازل يسكنها ناس محظوظون.

ولا أزال أتذكر مدى فرحي عندما زرعوا "الثيّل" الأميركي الأخضر في السبعينات على "سفحِ" سدّة ترابية كان يمر عليها القطار ما بين أكاديمية الفنون الجميله والجسر الصغير قرب كلية التربية ودار الكتب في بغداد، تحول لون التراب إلى أخضر جميل زاهٍ غمرني بالسعادة.

يا ترى هل لا تزال سدّة القطار خضراء؟ عشرون سنة تفصلني عنها، منها ثماني سنوات حرب مع الجارة إيران!

لا أزال أتذكرهذه السدّة الخضراء، أحنُّ إليها كلما أشتاق إلى أمّي.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

في (20 تموز 24) دعيت لمشاهدة عرض فلم (اخفاء صدام حسين) يحكي قصة اختفاء صدام حسين من يوم هروبه من بغداد الى يوم القاء القبض عليه.

يبدأ الفيلم بظهور فلاح جالس على الارض بكامل اناقته الفلاحية يروي لنا بطلاقة وسلاسه وكأنه (يسولف سالفه) للجالسين في ديوانه، ظننته ممثلا لأجادته السرد والنطق السليم وصدق الأنفعالات، فيما كان هو الفلاح (علاء نامق) الذي اخفى صدام 235 يوما حاسما في حياة صدام، وخطرا رهيبا على حياة علاء واسرته من 150 ألف جندي أمريكي يبحثون عن صدام ورصدوا 25 مليون دولارا مكافأة لمن يدّلهم عليه.

علاء نامق

وكنت تساءلت: من اين جاءت الفكرة؟وهل ان الفلم وثائقي ام سياسي؟ وهل سيتصف بالمصداقية؟.. وأخرى، فعرفت ان المخرج شاب كردي اسمه (هلكوت مصطفى) كان قد هرب زمن النظام السابق الى النرويج، وقدحت الفكرة لديه فقصد العراق عائدا ليلتقى الفلاح (علاء نامق).

كان علاء هذا قد رفض المشاركة في افلام او برامج تحكي قصة اخفائه لصدام خوفا على نفسه وعائلته، وحرصا على تبرئة عشيرته من مزاعم واتهامات باطلة، واخرى روجت لأمور غير حقيقية تخص استضافته لصدام، كما قال. وحين التقى به المخرج عام 2012 .. اتفقا على تقديم القصة في قالب انساني بعيدا عن السياسة، واستغرق العمل على الفيلم أكثر من عشر سنوات، وأنتج بالشراكة بين شركة (هني) والحكومة النرويجية وشبكة رووداو الإعلامية. وكان أول عرض دولي له في تشرين الثاني 2023 في أمستردام، وأول عرض له في العالم العربي كان في جدة بالمملكة العربية السعودية، ودخل في مسابقة الأفلام الطويلة في النسخة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الذي عُقد في الفترة من 30 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 9 ديسمبر/ كانون الأول 2023.

دراما .. بفلم وثائقي

وصف فيلم (اخفاء صدام حسين) بانه وثائقي، لكنني وجدته انه تجاوز التوثيق الى دراما تحكي محنة رجل مطارد.. يهرب متخفيا من مكان الى آخر.. ليستقر في مكان وجد فيه وفي صاحبه ما يشعره بالأمان، ما يعني انه يطرح قضية أنسانية خالصة.. في بيئة عشائرية عراقية لها تقاليدها في التعامل مع الضيف.

يبدأ المشهد الأول بمنظر لمزارع في منطقة (الدور).. وفلاّح(هو علاء) يرعى غنمه فيها.. يأتيه اخوه يخبره بمجيء ضيوف الى بيته، ويفاجأ ويندهش ويخاف حين يرى ان الضيف هو صدام حسين!. وهنا يكون علاء في (ورطة) بين أن يخفي صدام عنده وبين خطر ان يقتل هو وعائلته واطفاله الثلاثة. ويلخص لنا (علاء) حل الورطة بأن تقاليدنا العربية الأصيلة توجب ان نحمي الضيف رغم أن (الضيف والدخيل.. بلوه!) فكيف اذا كان الضيف صدام حسين الذي يبحث عنه 150 الف جندي امريكي! ما يعني ان العشيرة العراقية تحمي ضيفها والدخيل عليها، وحقق ذلك بأن بنى له غرفة ومطبخا خاصا به، وحفر له خندقا على شكل حرف ( T) ساواه بالارض وغطاه بالزهور، وجعل الاغنام تمر عليه كأي ارض في المزرعة.

صدام وعلاء.. صارا أصدقاء

تتوثق العلاقة بين رئيس جمهورية العراق.. صدام حسين، والفلاح البسيط علاء، الذي يدفعه فضوله الى أن يسأله: سيدي.. ليش انت اختاريتنه بالذات؟ فيجيبه صدام بأنه تنقل كثيرا من بيت الى بيت، وانه حلم بأن قال له احدهم: روح لبيت (نامق) بالدور.. فقصدتكم. فيجيبه علاء بأنه سيفديه بروحه.. فصار حارسه وطباخه وامين سرّه.. ويأنسه، فيأخذه الى المزرعه ويشاركه برعاية اغنامه، واصطحبه مرة الى جبل حمرين، بل انه عرض عليه أن يزوجه قائلا له( سيدي، بتقاليدنه لازم الرجال يتزوج.. شتكول نزوجك مرة من عشيرتنه!)

ومن المشاهد المؤلمة انسانيا، ان صدام طلب ذات يوم من علاء ان يأتيه بخروف.. فجائه به وذبحه وعلقه واخذ يقطّعه. وقال لعلاء.. اليوم يجون اولادي.. عدي وقصي، وهذا الخروف ذبحته لهم. وجاءا فكان لقاءا يثير انفعال التعاطف الأنساني وينسي المشاهد انهما مجرمان ايضا!.

وفي حوار لطيف بينهما يقول له علاء: سيدي.. الأمريكان نطوا 25 مليون دولار مكافأة للي يدليهم عليك.. شتكول.. نستلمها هسه لو ننتظر يزيدوها!.وكان صدام، رغم خبرته الاستثنائية بمعرفة نفوس من حوله.. على (يقين)انهم مهما زادوا فأن (علاء) لن يبوح بسرّه.

اشكاليات

واجه الفلم اشكاليات تتصدرها شخصية صدام حسين بوصفه رئيس الجمهورية العراقية. فهو بنظر معظم العراقيين.. دكتاتور، طاغية، مجرم بحق الشعب الكوردي ومرتكب جرائم بشعة ضد الشيعة توثقها مقابرجماعية، فضلا عن جرائم بقتل معارضين له من الطائفة السنية.. وبالتالي فانه لا يستحق أن(يجمّل) وجه طاغية و يعمل من اجله فيلم. والأشكالية الأكبر، أن المشاهد لأحداث الفلم تجعله يتعاطف مع محنة انسان مهدد بالتصفية، فكيف اذا كان هذا الأنسان هو (صدام حسين) الذي يعد بطلا بنظر العرب، وقف بوجه امريكا، وقاوم معتدين غزاة احتلوا العراق؟

فيما رأى آخرون أن المخرج الكردي (لمّع) صورة دكتاتور قتل الالاف من شعبه الكوردي ودمر العراق، وان (علاء) اساء للفلم بسعيه الى فرض رأيه على المشاهد بأن صدام رجل طيب.

والاشكالية الثانية، ان الفلاح (علاء) قدم صورة جميلة لشخصية صدام حسين كأنسان وليس كرئيس دولة. فبعد ان كسبه صديقا وجده انسانا طيبا يحمل مشاعر انسانية، متواضعا لدرجة أنه قام في الحمام بجلف ظهر علاء بالليفة والصابون ردا على قيام علاء بجلف ظهر صدام، فيما الفكرة الشعبية(العراقية) المأخوذة عنه أنه مجرم لا يمتلك أية مشاعر انسانية.

واذا جمعنا هاتين الأشكاليتين فأن الشعب الكردي وملايين الشيعة في العراق لن يقبلوا بعمل فني يجمّل صورة طاغية قتل عشرات ان لم يكن مئات الآلاف منهم.

والأشكالية الأخيرة: هل كان ما رواه الفلاح (علاء ) من احداث في اخفائه لصدام 235 يوما.. يتمتع كله بالمصداقية؟. وهل كان(علاء) فعلا فلاحا بسيطا كما وصف، أم انه يتملك مواصفات جعلت الفضائيات العربية التي اجرت معه لقاءات تكتب أمام اسمه (الفنان)؟!.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

بعد صلاة العصر لا تخلو جنبات باب القصبة من الجهة الخارجية، كالمعتاد من جلسات بعض من أهل القرية، وهم مصطفين على المِصْطَبَة (الدُّكَّانُ)1 من تحت أصوار الأبراج العالية الممتدة إلى الأعلى من جنبات الباب الرئيسي، وفي نفس هذا الوقت تتجمع نسوة القرية من وراء أبواب دروب القصبة، فأهل الواحة لا يملون تبادل الحديث فيما بينهم، فالبعض منهم يتتبع أخبار البعض الآخر... فجأت رأوا من بعيد ناقة "عبد الفتاح" محملة بلوازم الرحيل، نطق بعضهم بكلمات مختصرة وهو يشير برأسه إلى الناقة، نحن في فصل الربيع، الرجل كما عودنا يجوب الصحراء في اتجاه الواحة الشرقية، سيلزمه أسبوع من السفر، فهو لا يهدأ له بال ولا يطيب له خاطر، إلا بعد رحلته هذه، وقد عودنا أنه يعود وهو يتدفق شعرا وحكما... رد عليه الآخر، كأنه يتتبع أزيز النحل وهو يطير من زهرة إلى أخرى في جوف الصحراء، رد عليه ثالث إنه يحرص كل الحرص أن يكون وحيدا في رحلته، لا يرغب في أن يصطحب معه أحد، وإن لحق به أحد يعود أدراجه، رجل غريب الأطوار، قبل رحلته بأيام يصوم على الكلام ويتجنب الجلوس في مختلف الجلسات، وبعد رحلته يعود محملا بقليل أو كثير من شهدة ُ النحل وكثير وقليل من النباتات العطرية النادرة، ويقبل على الجلوس مع الناس وهو يلقي بالحكم والأشعار التي لم نسمع بها من قبل، ربما أنه يجالس في الصحراء أحدا لا نعرفه.

امتداد الصحراء واتساعها على طول البصر، في مجالات منها تحد بصرك زرقة الجبال كالأعمدة ترفع السماء إلى الأعلى، وفي مجالات أخرى تحد بصرك كتبان الرمال منها المنبسط ومنها المرتفع، وفي جنبات أخرى تمتد عيك على مسافة بعيدة المدة من الحصى الأسود اللون، وفي جنبات أخرى تجد نفسك أمام منبسط كبير لا نهاية له من التربة الحمراء اللون والناعمة الملمس السريعة التفتت المتصدعة الشقوق من أعلى سطحها. شجيرات الطلح والسدر مبعثرة على طول البساط هنا وهناك، بجوارها مختلف نباتات الصحراء التي تستوطن السهوب والشعاب والمنحدرات الضيقة والمتسعة.

توهمك الصحراء من خلال انبساطها المفتوح من كل جانب بأنك أحطت بمعرفة المكان الذي يبدوا لك لأول وهلة بأنه فارغ وتقول في نفسك لا شيء في الصحراء إلا الفراغ، ولكن بعد تأمل عميق يجذبك الفراغ إليه ويلقي في عالم ما وراء الذات والحيات والكائنات. الإساس بالفراغ هو الفخ الكبير الذي تضعه الصحراء امام الذين يرتادوها صباح مساء، من ذوي النفوس الراغبة في التعالي والارتقاء، القليل منهم من يشعرون بدواخلهم بجاذبية الفراغ، وهي جاذبية تحفر فيما وراء وجود الذات والوجود. الفراغ إذن هو طريق ومسلك نحو ما وراء الأشياء... مرة أخرى توهمك الصحراء بأن الفراغ هو المكانُ الخالي، وحقيقة الأمر أن الفراغ من داخله امتلاء لا نظير له ولا قبل لنا به، فمن الخطأ الشائع أن كثير من الناس يعتقدون بأن الفراغ فارغ، الصحراء تعلم مريديها بأن "الفراغ هو ألا ترتبط بشيء، ألا تبحث عن شيء، وألا تنتظر شيئا، هو منطقة حرة لتأسيس تعال، ينطلق من توقيف الأحكام وتعليق الكون، ومن جعل ذات الواقف تكتشف ما يحجبها عن نفسها"2

الرسل والأنبياء مدينون كثيرا للصحراء بنعمة الفراغ الممتد إلى أبعد مدى من رؤية البصر الذي ينتهي بكوة شعاع ضوء خافت، والعجيب في كوة الضوء هذه أنها تنبعث من دواخل الذات المتماهية مع الفراغ الممتلئ، ويمتد شعاعها كخيوط الحرير، ليظهر في الأفق البعيد، ويلقي بنوره على المكان من كل جانب، حينها ترى الذات رؤية القلب والعين والبصر والبصيرة ما لم تراه من قبل، وما لا تراه غيرها. لأن الرؤية بالعين تابعة لذكاء الإنسان وبصيرته، فكلما اتسعت بصيرته وذكاؤه وارتقى في معارج عالم الروح، إلا زادت بصيرته وبصره ورؤيته للأشياء. التي نراها كما هي هامدة بفعل الضوء، فالتماهي مع نعمة الفراغ يأخذ صاحبه إلى رؤية ما وراء الأشياء. فعين الإنسان إذن، مرتبطة بقلبه وبصيرته، وهي رؤية قادرة على أن تتجاوز المكان والزمان، عكس الحيوانات المنحصرة الرؤية في المكان والزمان.

لا فراغ في الصحراء إذن، وأنت الآن بعد رحلة يوم كامل، قد اكتشفت جزء صغير من خباياها، أنزل الآن من أعلى ناقتك، وضع عنها عمل أغراضك بتأني، وقبل ذلك قدها نحو ذلك المنبسط المخضر، ليهل عليها الحصول على قوتها، الآن الشمس تميل إلى الغروب، لا داعي لكي تستظل بشرة الطلح هذه القريبة منك، ابتعد عنها، البعض من الزواحف تنصب بجانها فخاخها لتصطاد بعض من فرائسها، أعقل ناقتك وليس لك دونها ولس لها دونك الآن، عليك أن تجمع قليل من الحطب قبل أن يعم الظلام المكان، لتوقد النار من أجل كأس الشاي العذب، لا تقترب من لهيب النار كثيرا، رشفات كأس الشاي هذه وأنت تتمتكها، تلقي بك مرة بعد مرة في دوائر الفراغ العميق، وأنت في انتظار أن يخطر في بالك وذهنك ما تتوقعه وما لا تتوقعه حول ذاتك والوجود والإنسان والكائنات والماضي والحاضر والمستقبل، لا شيء هنا إلا ناقتك وهي الآن تحدق بعينيها فيك، لا ينقصها إلا أن ترد عليك بكلام فصيح، وهي تسمع حوارك مع نفسك بصوت مرتفع. وأنت على هذه الحال مثل من يلقي بالدلو من الأعلى ماسكا بالحبل في يده، ينتظر لتوان صدى الدلو وهو يصطدم بسطح الماء في قعر البئر، ليسحبه بتَأَنٍّ وتمهُّل حتى يصل به إلى الأعلى ويسكبه بحرفية في قربته الجلدية، وقبل طله توقع وانتظار ليتذوق طعم الماء هل هو عذب بما فيه الكفاية أم هو مالح من الصعب شربه. لا تنسى بأن قوتك هذه الليلة هو ما تبقى من رغيفك الذي أعددته زوالا، لا تخشى شيئا لازال لديك ما يكفي من الماء، وقد أخذت الاحتياط. قم الآن وأخطو ثلاث خطوات من المكان الذي أنت فيه، وأغرز رأس عصاك الخشبية في الأرض، ومررها وأنت تخط طوقا كبيرا من حولك، بقطر ست خطوات، أنت الآن داخل حصنك المنيع.

لا تخشى شيئا، الزواحف والحشرات، لا يمكن لها أن تخترق حصنك الذي نقشته بعصاك على الأرض، في حالة اقترابها منه ستغير الاتجاه دون اقتحامه، ضع خنجرك وهو سلاحك بالقرب من وسادتك، لا تنسى أن تمد يدك إلى سبحتك، ممرِّر حباتها في اتجاه اليمين...أنت الآن تغط في نوم عميق، ناقتك من خارج الطوق مضطجعة تميل برقبتها ورأسها ذات اليمين وذات اليسار، وهي تنظر إليك، كأنها تنتظر طلوع الفجر، لتنبئك بطلوع يوم جديد وبداية تأمل جديد. حالتك هذه في أعين الآخرين تستدعي الاستغراب، لا يرون فيك إلا أنك شخص غريب الأطوار، لأنك ذو طَبْع يصعُب فهمُه، لأنه طبع منفلت عن المفهوم العام.

عند انفلاق الصبح، أعدّ عبد الفتاح فطوره، وبعدها أخذ يستطلع أجواء المكان ليحدد وجهة رحلته، بعض من الخنافيس بالقرب منه حمراء اللون وسوداء اللون تنسحب بسرعة في عودة إلى مخابئها، قبل أن تطل شمس الصباح، ظهرها مليء بقليل من الندى، وهذه طريقتها في جلب ما تحتاجه من الماء، وتصميم ظهرها مصمم ليساعدها على هذا الأمر، فهي تشرب من الندى الذي يتحول إلى قطرات صغيرة جدا من الماء المتكاثفة على ظهورها، فشروق الشمس قد تفقدها الندى الذي حملته طيلة الليل، ها هي الآن تتحرك بسرعة ويمتلكها الخوف من أن تقع فريسة لأحد سحلية الصحراء أو طيور الصباح.

توقف عبد الفتاح عن المسير، وإذا به يرى بالقرب منه سحلية نحيفة جدا، تمد لسانها الطويل، وتلعق عينيها الواسعتين، قال في نفسه إنه الصباح وهي الآن تغسل وجهها، السحلية مثل الخنفساء إنها تلعق قطرات الندى على أعينها وهذه طريقتها في الشرب. استمر عبد الفتاح في المشي، ها هو الآن داخل منحدر تتخلله قرب شعاب وسهوب ضيقة مليء بمختلف النباتات وإذا به يجد الأثر الذي سيبدأ تتبعه، إنه أزيز عشرات النحل التي تتنقل بين زهرة وأخرى، عليه الان أن يدرك الاتجاه الذي قادمة منه وعائدة إليه، تسمر في مكانه رفع رأسه نحو السماء رأى يمينا يسارا ... دارت في ذهنه كل التخمينات، وإذا بمجموعة من طيور الوروار محلقة في السماء في نفس الاتجاه الذي توقع أن يسير نحوه.

ها هو الان على ظهر ناقته في الوجهة التي أختارها ويتوقع أن يصل قبل الظهيرة إلى المكان الذي يتوقعه، أشعرة الشمس الآن قد أحاطت بالمكان، اختفت مخلوقات كثيرة مما لا يعد ولا يحصى من الحشرات والزواحف والثديات... وظهرت أخرى، عبد الفتاح لخبرته ولرحلاته المتكررة التي جاب فيها منطق أخرى من الصحراء، يعرف كيف يصل إلى بعض من عيون الماء، سار يعرف مواقع المروج الخضراء، يعرف كيف يتجنب ويراوغ كثبان الرمال المتحركة... الفتحات بين الجبال التي تظهر من بعد ترشده لتحديد النقطة والمكان الذي هو فيه، عبد الفتاح يملك خريطة طبوغرافية بشكل تلقائي معه وهو في جوف الصحراء لا يخشى عليه.

 الرجل سار يتخفف من القيل والقال والكلام الفارغ الذي يملأ جزء كبير من حياة أهل الواحة، وهو يكاد الآن، ينسى كل الكلام الفارغ الذي اعتاد عليه طيلة أشهر وهو داخل الواحة، أهل الواحة من عادتهم أنهم يجمِّعون كثيرا من الكلام، دون أن يفرزوا بعضه عن بعض.

التقطت أذن عبد الفتاح أصوات طائر الوروار، تحرك سريعا في اتجاه الصوت، ها هو الآن داخل الشعاب الكبير لأشجار الطلح، بالقرب من منبع صغير للماء، وقد سبقه سرب من طائر الوروار، إذ وجده يجهز بمناقيره على كثلة من النحل وقد تجمعت بين أغصان شجرة طلح كبيرة ومتسعة الفروع بشكل لا يصدّق. امتلك عبد الفتاح الغضب، وارتأى أن يناصر النحل بأي ثمن، ترك ناقته بعيدا لتطعم نفسها بنفسها، بعد أن حط رحيله من أعلى ظهرها، وإذا به يلتقط الحجارة ويلقي بها على طيور الوروار ليبعدها عن النحل، ولا ما نع عنده إن أصيب بعضها بسببه.

 بعض أشلاء النحل تساقطت إلى جانبه، وبعض من جنيحات النحل التي انفلتت من مناقير طيور الوروار أخذها الهواء بعيدا. تشتت سرب الوروار في السماء وحلق بعيدا، رمى عبد الفتاح ما تبقى من الحجارة من يده، سار نحو جذع شجرة الطلح، ووجد بجانبها على مساحة صخرية ضيقة نحلة لازالت تترنح، وهي لم تفارق الحياة بعد. عاد الرجل إل هدوئه ورويته، يا الله أنا أريد العسل وطائر الوروار يريد حشرة العسل، الوروار يجهز على حشرة العسل وأنا أجهز عن طائر الوروار، الطائر الجميل المنظر والألوان وصوته العذب الشجي... يا الله.

 انجذب عبد الفتاح نحو حشرة النحل وانجذب في الوقت ذاته نحو طائر الوروار، أيهما أولى بالنسبة إليه؟ وإلى جانب من سيكون في هذه الثنائية الضدية...؟ أحتار الرجل كثيرا، وهو متكئ إلى جذع شجرة الطلح تلك، وقليل من قطرات العسل تنهمر عليه، كلما هز بجذعها، لم يرقه جني شهدت العسل، ولم يعد يرقه أن يطوف بين الأشجار في عين المكان، لعلها تحمل قليل من شهد العسل.

ها هو الآن يُعدُّ رغيف غدائه، في المكان الذي اختاره لنزوله، وقد جمع كثير من الأحجار الملساء الصغيرة الحجم صففها على شكل دائرة لا يتجاوز قطرها أربعين سنتيمترا، وقد أحاطها بالحطب وأبرم فيه النار، وبعد دائق سحب النار جانبا، وظهرت الأحجار المصطفة، وإذا به يلقي عليها الحجين... وقد عجل بإعداد إبريق من الشاي الأخضر، أضاف عليه حبات عِلْك الطلح التي اقتلعها في حينه من بين أغصان الشجرة التي بجانبه، وأضاف عليه جزء قليل من شهدة العسل، سكب الشاي من أعلى في قاع الكأس وهو متكئ على جانبه الأيمن، رشف الرشفة الأولى والثانية...لازال مشهد النحلة التي كانت تترنح من قبل أمامه عالقا بذهنه، وقد خطر عليه مرة أخرى ذلك المشهد المثير لطائر الوروار وهو يجهز  بمنقاره الذي لا يخطئ الاتجاه على النحلة تلو الأخرى، الرشفة الثالثة والرابعة جعلته يتجرد بالكامل من الصورة السطحية لكلا المشهدين، وإذا به يرتمي في الفراغ من وراء ضربة منقار الوروار بعد أن التقط النحلة في الهواء، ماذا بعد موت النحلة التي تترنح، ليس من السهل أن ترتمي في الفراغ، حيث النظر والتأمل في "ما وراء الأحكام [وما وراء الأحداث] وما وراء الضدية المنتجة لحجب الثنائيات، تجربة الفراغ سحيقة الغوْر، ترومُ بلوغ الأقصَى الذي يتحدد فيها بوصفه مخاطرة وخلاصا في آن."3 

مع الرشفة الأخيرة لكأس الشاي، تحول الفراغ إلى امْتِلاء، الأفكار تتقاطر مثل تقاطر قطرات العسل، يا الله من حماقتي أنني أجهزت بالحجارة على طائر الوروار، النحلة نفسها تجهز كل صباح على رحيق الأزهار، وأنا قادم لأجز على شهدة عسلها، لا عليك أيها الوروار أنت تتغذى على الدبابير والجراد ومختلف الحشرات وعلى النحل أيضا. الحقيقة أن قلقي من طائر الوروار ليس حبا في حشرات النحل، وإنما حبا في عسلها، من الحمق أن اطارد طائر الوروار أنا وغيري مدينين له، بالكثير كما اننا مدينين للنحل... حلاوة طعم العسل لا تقل شأنا عن تغريدات وجمالية ريشات طير الوروار...الآن يحلو لي أن أجني شهد العسل...

استوطن عبد الفتاح في المكان لثلاثة أيام، فالمنبع الصغير وفر له حاجته للماء ولناقته، وقد جنى ما وصلت إليه يداه من شهد العسل، وقطف الكثير من زهور وعطور الصحراء، وسار في طريقه في اتجاه الواحة الشرقية المقابلة للواحة القادم منها، سيقايض العسل بمستلزمات أخرى يعود بها إلى الواحة التي يقطنها، بعد مكوثه أسابيع في الواحة الشرقية.

ومن هذا الذي يختزل الصحراء في الفراغ، حيث لا فراغ، تواضع الصحراء يجعلها تخفي ما تمتلئ به، كل الحضارات والثقافات مدينة للصحراء بالكثير، الصحراء حزام حزمت به الأرض نفسها منذ الأزل وهي صلة وصل بين شمالها وجنوبها، من خَبِر الصحراء قد خبر جزءا كبيرا من العالم والإنسان اسمحوا لي كثيرا أن أقول لكم الرسل والأنبياء خَبِروا الصحراء كثيرا...  

... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

.........................

1- مكان مرتفع قليلًا عن الأَرض مُعدّ للجلوس خارج الدَّار غالِبًا.

2- أنظر: الصوفية والفراغ، خالد بلقاسم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.1، 2012م

3- أنظر: الصوفية والفراغ، خالد بلقاسم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.1، 2012م (مقدمة الكتاب)

 

الفنان التشكيلي عمّار بلغيث ومشروعه الفني الذي عمل على انجازه بكهف بمنطقة "المدينة" بمدينة الدهماني.. ذات حالمة مهمومة بالفن والتنشيط الابداعي والجمالي.. لفنان هاجر لفترة بالخليج وأنفق على مشروعه الكثير..

ها هو الفن في تلويناته المتعددة حيث الفكرة التي تقود القلب منذ نصف قرن وبعد تجربة بتونس وخارجها.. هي لعبة الفن في الجغرافيا والزمان والمكان والوجدان قولا بما به يسعد الكائن وهو يرى بعين القلب شيئا من حلمه وهواجسه وأغنياته العالية التي كثيرا ما تمنى احتضانها على الأرض وبين الجبال.. جبال الكاف العالية ونسائمها الصيفية وفي كل الفصول وفق رغبات شتى هي فكرة حاله ورؤيته للأسياء والآخرين والعالم.. ولذاته المثقلة بالابداع والامتاع والمؤانسة..

الفنان التشكيلي عمّار بلغيث صاحب التجارب الفنية والخبرات حيث عرفه مجايلوه من الفنانين التونسيين منذ حوالي نصف قرن بشغفه الفني وحلمه اللا نهائي على غرار عمله الفني ضمن تجربة عرفت باللامنتهي.. هو يحمل مشروعا فنيا عمل على انجازه بكهف بمنطقة " المدينة " من مدينة الدهماني الكافية.. هو فنان مسكون بالهاجس الثقافي والابداعي وقد تشبث بجهته لابراز خصوصياتها الفنية والحضارية وعلى عكس غيره لم تستهوه العاصمة والعواصم والمدن الأخرى بل انه أراد أن يستثمر ثقافيا في مسقط رأسه وكان مشغولا بفكرة كهف الفنون لتنشيط الحياة الثقافية بالجهة ولتشجيع المواهب من خلال الورشات ولابراز دور الفنون في حياة الناس.. ومنذ سنوات أصبح الكهف مجالا للزوار وقد طالب الفنان بلغيث بادراج الكهف ضمن المعالم باليونسكو. وهو الآن بصدد الاعداد لتظاهرة ثقافية فنية كبرى بكهف الفنون..38 amar balgheeth

عمارة بلغيث لم يجد الطريق مفروشة بالورود وممهدة بل انه لاقى العديد من الصعوبات والعراقيل ولكنه كان مصرا ومقتنعا بفكرته ولذلك نراه الآن يحصد النجاحات وصاحبنا هذا الفنان المختلف له أكثرمن أربعة عقود في تجربته بين المشرق وتونس وله قصة عشق وهيام بالفن التشكيلي.

عمارة بلغيث انسان مرابط في كهفه ينجز الفكرة ويبحث عن غيرها وحياته في حيز كبير منها تكمن في "كهف الفنون" بالدهماني والذي بعثه منذ سنوات بعد اقامة لسنوات بالخليج العربي وكانت له تجارب أنشطة وشراكات منها الشراكة مع المركب الثقافي الصحبي المسراطي بالكاف ضمن مشروع "محمية للمبدعين" التي كانت في هذا الاطار من التعاون والتفاعل الثقافيين.

وقد شهد المركّب الثقافي عددا من الفعاليات منها معارض مخصصة للفنان عمار بلغيث ولمختلف انتاجات الاطفال في مسابقة " أطفال المحمية.. هم فنانون أيضا.. " هذا فضلا عن المعارض المهتمة بالمنتوجات التقليدية لعدد من الجمعيات الحرفية بالجهة وخصص يوم كامل لعدد من ورشات الرسم وذلك باشراف وتسيير من قبل فنان سيكافينيريا المتميز وصاحب كهف الفنون وشريك المبادرة المذكورة الفنان عمار بلغيث.

وبالنسبة لورشة الفوتوغرافيا فيسبرها الفنان صالح القلعي وذلك بالمركّب الثقافي خلال يومين كما كان هناك مجال لورشة تهتم بمعالجة الصورة باشراف السيد ماهر العمدون وقام الأستاذ الأزهر الفرحاني بتنشيط ورشة فن الممثل كما قدّم عرض الراشدية للأستاذ معز التيساوي وخصص مجال للعرض الفرجوي (كيف الكاف) وقدمت كذلك مجموعة من العروض المسرحية خلال الأيام المفتوحة للتعريف بهذا العمل الكبير الممهور ب "محمية المبدعين" ومن العروض نذكر "مريض الوهم" للأزهر الفرحاني وهي من انتاج مؤسسة المركب الثقافي الصحبي المسراتي وعرض مسرحية "أرض الفراشات" لمركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف فيما خصص يوم للعرض الموسيقى والشبابي ضمن موسيقى الراب للثلاثي لارتيستو وغستمان وريان قلعي وذلك بفضاء مسرح الجيب بالكاف..39 amar balgheeth

في هذا السياق الثقافي كان التعاون ضمن فعاليات الكاف محمية المبدعين وذلك مع المركب الثقافي الصحبي المسراطي وتضمن برنامج هذا المشروع الرائد حرصا على بعث وايجاد مجال ثقافي يساند ويرعى 20 فنانا من أبناء الجهة ضمن السياقات والمجالات الثقافية والفنية والابداعية المختلفة حيث العمل مع الشبان بالجهة (أعمارهم بين 15و30سنة) وذلك عبر ترميم واعداد المحمية الثقافية وضمن البرنامج دورة تدريبية في الرسم لتنمية وبناء المهارات الفنية لـ20 تلميذا والحصول على 40 لوحة فنية قابلة للعرض لنشر الوعي الفني والجمالي والحس النقدي ل 500 تلميذ من أرياف الجهة والجهات القريبة منها مثل جندوبة والقصرين وباجة وتم تنظيم 10 زيارات كل أسبوع وبعث محضنة ضمن المحمية الثقافية ل25 فنانا من الشبان لاقتراح مشاريع ثقافية وتم التأطير من قبل فنانين محترفين والمحصلة ترشيح 5 مشاريع فنية لفائدة فضاءات الكاف الثقافية.

هو مشروع مهم ساهم في احياء الحركة الثقافية على نطاق واسع والدفع مجددا بالسياحة الثقافية بالجهة حيث تمت دعوة 5 من الفنانين المحترفين العرب والدوليين للاطلاع على المشروع وتجربة المحمية الثقافية وتنشيطها فنيا وثقافيا عبر عدد من الفعاليات الى جانب الندوات والمجالس ضمن العناية بحوالي 3000 من رواد هذه التجربة وجمهور الكاف.

عمارة بلغيث الانسان والفنان المرابط في بكثير من حرقة الفن والابداع والامتاع يحاول الألوان ويحاورها كطفل سابح في سماء البراءة.. لا يلوي على غير القول بالتلوين وتنوع الأشكال وتعددها نحتا للخصوصية وتأصيلا للكيان.

***

شمس الدين العوني

بقلم: هالة عليان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- أنت مختلفة:

عندما وصلت إلى عيد ميلادي العاشر، كنت قد عشت في ثلاث قارات. بسبب حرب الخليج، والدراسات العليا لوالدي، والضرورة المالية، انتقلت عائلتي عبر العالم إلى الغرب الأوسط. كنت عربية، محبة للكتب، ومذعورة على الدوام. كل هذا لأقول - لم أكن أرغب في شيء أكثر من التأقلم. وعلى مدى العقد التالي أو نحو ذلك، ظل هذا هو هدفي المحموم. أي شخص يريد أن يرى دليلاً على هذا الشوق يحتاج فقط إلى تصفح الكتب السنوية الخاصة بالمدرسة المتوسطة والثانوية.

لقد قمت بتسوية شعري. قصصت شعري. لقد صبغت شعري باللون الأشقر. اكتسبت وزنا. وفقدت وزنا. طلبت من الجميع أن يدعوني هولي. تظاهرت بأنني لم أقرأ "آنا كارنينا" قط. (قرأتها أربع مرات). تظاهرت بأنني شاهدت داوسون كريك وجيلمور جيرلز. (لم أشاهد أي حلقة حرفيًا)

لقد استغرق الأمر مني وقتًا طويلاً للتوقف عن التظاهر والنظر إلى الوراء وأن أدرك أن ذلك ربما كان ببساطة بسبب الإرهاق وليس بسبب شعور معين. ولكن بمجرد أن فعلت ذلك، لجأت إلى تقاطع الاختلاف والكتابة. وهذه نعمة الاختلاف ونقمته؛ في الحياة اليومية، قد يكون هذا أمرًا متعبًا، لكن في الفن، يصبح عملته الخاصة. بالنسبة للكثيرين منا، فإن الاستماع إلى أولئك الذين أسكتهم التاريخ (وحاول في كثير من الأحيان محوهم) لا يمكن أن يكون أقل من مجرد الارتياح.

لذا يا هالة الصغيرة: خذي ما يجعلك مختلفة واحكي تلك القصة. الأشخاص الذين يحتاجون إلى قراءتها سوف يتردد صداهم، وأولئك الذين لا يحتاجون إليها، حسنًا، لن يجلسوا بجانبك في الكافتيريا على أية حال.

2- المجتمع يساعد:

عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري، فقدت شخصاً أحببته والذي توفي وهو في سن صغيرة جداً. توفي يوم الاثنين. في الجمعة التالية، كنت أتجول في شوارع القرية، مشوشاً تماماً ولا أعلم ماذا أفعل بنفسي، عندها وجدت ميكروفون مفتوح في مقهى كورنيليا ستريت. دخلت. كتبتت قصيدة قصيرة ورديئة على منديل ورقي و، بنبض الأدرينالين الخالص، قمت بتسجيل اسمي وأدائها.

ربما كانت تلك إحدى أهم اللحظات في حياتي. عدت كل أسبوع. لقد كتبت قصائد أقل فظاعة. مع مرور الأشهر، التقيت ببعض الأشخاص الأكثر لطفًا وذكاءً وذو قلوب كبيرة من خلال تلك الميكروفونات المفتوحة. التقيت بالناشرين المستقبليين لمجموعتي الشعرية الأولى.

الأهم من ذلك كله، اكتشفت شعورًا بالانتماء. كنت قد انتقلت إلى نيويورك قبل بضع سنوات، وما زلت أشتاق إلى بيروت كما يشتاق العاشق إلى حبيبته. كنت أفتقد عائلتي، وحاناتي المفضلة، وحرم جامعتي القديمة. لكنني وقعت في حب تلك القاعة المظلمة، المضاءة بالشموع، وجدت نفسي أعود إلى تلك الغرفة المليئة بالسرد والتصفيق بإخلاص شديد كما يفعل المصلون.

3- الكتابة هي العمل:

لقد استغرق الأمر وقتًا طويلاً لفهم ذلك، لأن الكتابة هي أيضًا كائن سحري، متقلب، مثير للغضب، نادرًا ما يبدو أنه ملك لي. ونعم، ربما تكون، بالنسبة للكثيرين منا، الكيمياء الأكثر نقاء وبساطة التي يمكن أن نصادفها على الإطلاق.

ولكنها عمل أيضًا. عليك أن تعاملها باحترام. الفكرة ليست كتابا. يمكن أن تكون المسافة بين الاثنين أرضًا طويلة وحيدة لا يمكن عبورها إلا بالكتابة الفعلية.

كل شخص لديه روتينه الخاص. بالنسبة لي، 30 دقيقة في اليوم، لا أكثر ولا أقل. أحيانًا أكتب تلك الدقائق الثلاثين في مترو الأنفاق، وأحيانًا على مكتبي، وأحيانًا على هاتفي، لكنها دائمًا ما تكون 30 دقيقة. إذا فاتني يومًا، أسامح نفسي، لكني أعوضه في اليوم التالي. لقد تعلمت أن الكتابة تشبه الذهاب إلى الصالة الرياضية، مثل بناء أي عضلة. إنها تحتاج إلى انتظام وللكثير منا، إلى طقوس.

4- سوف تسمعين لا كثيرا:

مثل - كثيرًا. مثل - ستكون هناك أسابيع وشهور حيث تسمع فقط الرفض. أتلقى رسائل عبر البريد الإلكتروني بانتظام تشتكي من أن عملي ليس بالضبط ما يبحثون عنه.

في المرة الأولى التي تلقيت فيها رسالة من هذا النوع، أصيبت بصدمة كبيرة. كان غروري الشاب واثقًا للغاية من أن المجلة لن تحب عملي فحسب، بل ستكون متأثرة بفهمي الدقيق للحالة الإنسانية، وإتقاني للغة والصورة، حتمًا سيطلبون مني المزيد من الأعمال.

لقد رفضوا عملي. وقد تعرض غرورتي لبعض الكدمات التي كنت في أمس الحاجة إليها في ذلك اليوم. ثم المزيد من الكدمات، ثم المزيد، حتى بدأت أفهم: إذا كنت ستكتبين، فعليك أن تجدي سببًا للقيام بذلك، لا علاقة له بالمال أو التقدير أو الجوائز.

أدرك أنني أقول ذلك من موقع الحظ والامتياز، بعد أن تم نشر أعمالي. ولكن هذا لا يغير حقيقة أن ممارسة هذا العمل يجب أن تأتي من حب العمل نفسه، من خلق عوالم وحياة لم تكن موجودة من قبل، ومن شغف في فقدان نفسك في رغبة في سرد قصة معينة، ومن الرضا في لحظة "أها"، عندما تتصل كل الأمور في مكانها، وتصبح جميع تلك الطرق المسدودة والمسودات الخامة فجأة تستحق الجهد.

5- الشك الذاتي هو جزء من العملية:

تصالح مع الأمر يا صغيري. دع الشك الذاتي يدخل إليك، لكن لا تجهز له سريرًا.

لا يوجد طريق صحيح لفعل هذا العمل. أي شخص يخبرك بغير ذلك يحاول ترويج نسخته الخاصة من "الصواب". بعض الكتاب يفعلون ذلك فقط من أجل أنفسهم، دون أي رغبة في جمهور. آخرون يزدهرون في الاندماج بالمجتمع والقراءات العامة. بعض الكتاب يرغبون في رؤية أعمالهم في كتاب، بينما يحرص آخرون على الظهور على المسارح.

ما يشتركون فيه جميعًا هو تكريم ذلك الجزء من نفسك الذي يدفعك للإبداع، إيجاد ذلك الجائع الصغير والهادئ داخلك ومنحه صوتًا.

6- الخوف والشجاعة وجهان مختلفان لعملة واحدة:

كل جملة عن الشجاعة تبدأ بالخوف. إذا قمت بشيء لا تخاف منه، فهذا لا يعتبر شجاعة. قد يكون الأمر متهورًا أو عفويًا أو غير قانوني، لكنه ليس شجاعة.

هذا وقت مثير للاهتمام للخوف. إننا نعيش في عصر الحدود، في لحظة إما أن يتمسك الناس بتلك الحدود أو يحاولون تفكيكها. إنه وقت أصبحت فيه اللغة أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث يمكن استخدام الكلمات لإثارة الخوف أو مقاومته، حيث يحاول الناس تجريم كلمات مثل "مهاجر" و"متحول" و"أسود".

استعادة اللغة. السماح للكتابة بتجاوز تلك الحدود. لقد كان التعبير الإبداعي دائمًا بمثابة ملجأ يبني تحته الأشخاص الوحيدون والمصابون بحزن القلب نيرانًا صغيرة لتدفئة أنفسهم. كن فخورًا بنفسك لكونك جزءًا من هذا التقليد.

7- سوف تذكرك الكتب بمن أنت:

أعيد قراءة الكتب بلا خجل. هذا يثير جنون الناس. "هل تقرأين ذلك مرة أخرى؟" كانت تسألني أمي بدهشة عندما كنت صغيرة. "لكنّك تعرفين ما سيحدث بالفعل!" يمكن بسهولة تحديد كتبي المفضلة بفضل عادتي الغريبة والمستمرة في تمزيق زوايا الصفحات الصغيرة ومضغها أثناء القراءة. (كما تعلمون، مثل العلكة).

بالنسبة لبعض الناس، القراءة هي معادلة مباشرة وفعالة من حيث التكلفة: معرفة كتاب واحد مطروح منها الوقت يساوي القيمة الصافية. ليس بالنسبة لي. طوال فوضى طفولتي المتنقلة، حيث انتقلت عائلتي بين مدن الشرق الأوسط والمدن الأمريكية، كانت الكتب المتغير الأكثر ثباتًا في حياتي. بالنسبة لفتاة وحيدة، أصبحت الكتب رفاقًا، جغرافيا مألوفة ليتم زيارتها مرة أخرى.

لا تفهموني خطأ - يمكن أن يكون الكتاب الجديد ساحرًا. أحب ذلك الشعور باكتشاف كاتب يشعل شعورًا بالتآلف. لكن إعادة قراءة كتاب تشبه استئناف ذات سابقة: فهي تكشف عن الطرق التي تغيرت بها، لكنها تطمئنك أيضًا بثباتك الداخلي.

أثناء الحرب في بيروت في الصيف الذي سبق سنتي الأولى، أعدت قراءة درويش وسيكستون لأنني كنت واقعًا في الحب وخائفة. في أعماق عامي التاسع والعشرين الجامح والصعب، أعدت قراءة كتب هاري بوتر. أعيد قراءة الكتب القديمة، من تولستوي إلى كتب نادي جليسات الأطفال، كرفاق، لأتذكر أنه حتى لو كان بيتي ومدينتي وشوارعي غير مألوفة، فلا يزال هناك شعور بالصلابة في العالم.

عندما انتقلت إلى مانهاتن، وجدت نفسي أتجول في ممرات متجر دوان ريد، حيث كان كل رف منظم من كريمات الوجه والشامبو يثير نوبة جديدة من الدموع. لقد افتقدت انقطاع الكهرباء والفوضى في المدينة التي تركتها خلفي. في تلك الليلة، في غرفة نومي المستأجرة في مورنينجسايد هايتس، قمت بنكت وتفتيش حقائب السفر حتى عثرت على نسختي البالية من كتاب "مترجم الأمراض" وتحولت، للمرة الألف، إلى الصفحة الأولى.

(تمت)

***

.................................

الكاتبة: هالة عليان (من مواليد 27 يوليو 1986) كاتبة وشاعرة وعالمة نفس أمريكية من أصل فلسطيني متخصصة في الصدمات والإدمان والسلوك عبر الثقافات. تغطي كتاباتها جوانب الهوية وآثار التهجير، خاصة داخل الشتات الفلسطيني. وهي أستاذة في جامعة نيويورك، لها رواية (بيوت الملح)  الحائزة على جائزة دايتون للسلام الأدبي وجائزة الكتاب العربي الأمريكي، ووصلت إلى المرحلة النهائية لجائزة تشوتوكوا. وصلت روايتها الأخيرة، مدينة مشعلي الحرائق، إلى نهائيات جائزة أسبن ووردز الأدبية لعام 2022. وهي أيضًا مؤلفة أربع مجموعات شعرية حائزة على جوائز، بما في ذلك ديوان (السنة التاسعة والعشرون). نشرت أعمالها في مجلة The New Yorker، وأكاديمية الشعراء الأمريكيين، وLit Hub، وThe New York Times Book Review وأماكن أخرى. أحدث مجموعاتها الشعرية، (القمر الذي يعيدك) صدرت مؤخراً عن دار إيكو. تعيش في بروكلين مع عائلتها.

* رابط المقال على: موقع لايت هوب / Lit Hub  بتاريخ 12 يونيو 2024

https://link.lithub.com/view/602ea751180f243d6532c4cel917m.2jq/7e7bb173

 

عاد القطيع وقد اشتاقت الأمهات إلى صغارها فهي لم تصحبها معها إلى المرعي لعدم قدرتها على المشي طيلة النهار، مرياع القطيع، نعجة كبيرة الحجم يبدوا عليها كأنها جدة كل الخراف وأمهاهم. تتقدم جموع النعاج بثقة كبيرة رأسها إلى الأعلى من ورائها ثلاث نعاج أخربات، يبدو القطيع وأنت تنظر إليه وهو أمامك، على شكل مثلث حاد الزاوية متوازي الأضلاع ومتسع القاعدة... وبهذه الطريقة الهندسية يسهل على القطيع أن يتحرك بسرعة، كما يسهل عليه اختراق أي زوبعة قد تظهر أمامه بشكل مفاجئ تتصاعد في السماء وهي محملة بالرمال، فإذا به يمر بداخلها مثل الذي يسبح في البحر، وينغمس تحت موجة من أمواجه،

الغبار تتصاعد من وراء القطيع، بفعل الحوافر الصلبة التي تدك الأرض دكا، وتخلف من ورائها أنواعا مختلفة من صدى الحوافر، فعندما تعبر الرمال يكون صدى صوتها خافتا يكاد لا يسمع، وعندما تعبر مساحة واسعة من الحصى، يتحول صدى صوت الحوافر، الى محاكات لأصوات الحجارة الصغيرة وبعضها يلتطم ببعض، مثل ذلك الصوت التي تصدره حبات من الحصى ونحن نمررها من بد إلى أخرى.

كلما اقترب القطيع من القصبة التي تطل على الواحة، الا وتعالت أصوات النعاج والماعز. الكلاب كعادتها تختفي عن الأنظار عند الاقتراب من نقطة الوصول، الشمس تميل إلى الغروب... وإذا بالقطيع فجأة يفقد شكل المثلث، ويتحول إلى شكل دائري، النعجة المرياع تتوقف الان وسط الساحة، أمام الباب الرئيسي للقصبة وتلتف حولها مجموعة صغيرة فقط. يتفكك القطيع بعضه عن بعض يتحول بشكل تلقائي في أسرع وقت إلى مجموعات صغيرة متعددة، البعض من الخرفان ينتقل من مجموعة إلى أخرى ليستقر به المطاف في إحدى المجموعات، اتضح الآن أن كل مجموعة بداخلها نعجة مرياع يتجمع حولها أفراد المجموعة. هناك لغة بين أفراد القطيع توحي لك كأن افراده يودع بعضهم بعضا، كأنهم يضربون موعدا في اليوم الموالي، بعدها يتقدم صاحب كل مجموعة من اهل الواحة ليسوق مجموعة نعاجه ومعزاته أمامه، تتسلل المجموعات بين دروب وأزقة القصبة، كل منها يعرق بيت صاحبه.

لا يخلو قطيع الغنم من عدد من الماعز، وهذا لا يعني أن الماعز والغنم أي النعاج والخرفان، يمتلكون نفس الخصائص والمميزات، الماعز يبدوا عليه نوع من الذكاء، إذ يتجه بشكل سهل نحو الوجهة المناسبة، يسير وراء المرياع وفي الوقت ذاته، لا يسلم له بكل شيء، إن أحس بخطر يداهمه، يغادر القطيع ويترك الاتجاه الذي يسير فيه المرياع (أي الخروف أو النعجة التي تتقدم القطيع)، ويستعد للدفاع عن نفسه، له القدرة ليميز بين الذئب (ابن آوى) وبين الكلاب، النعاج والخرفان ليس لها القدرة على ذلك، الماعز يتسلق أعلى الأشجار ويمسك بأوراقها، يقفز من حافة جبل إلى آخر، يميز بين صوت راع وراع آخر، عندما تنادي عليه يستجيب، تشير عليه ويفهم الإشارة... لو اختار الهروب والتخلي عن القطيع لأقبل على ذلك.... كل ما في الأمر أن النعاج والخرفان تبدوا بلهاء بالمقارنة مع الماعز، وليس من العجب أن نجد الكثير من أهل الواحة يقدمون حليب وجبن الماعز عن أي حليب آخر، فمنهم من يرى أن حليب الماعز يقوى الذكاء عند الأطفال، ويمنحها قوة وقدرة عندما تكبر على تسلق الأشجار...

ومن الغريب عند أهل الصحراء منذ القدم، أن يحيطوا الماعز بكثير من الحكايات والأساطير، بينما الخراف كانت موضع تقديس، كثيرة هي من النقوش التي يفهم منها أن أهل الصحراء قديما وغيرهم، قد قدسوا "الكبش" أو الخروف، وكيف له أن يحظى بهذه المكانة؟ هل حظي بها للطفه ووداعته أم لبلادته؟ الخراف في مقدمة الأضاحي والقرابين؟ يتخيل الكثير من الناس بأن فداء ابن نبي الله إبراهيم كان بكبش، ودليلهم على ذلك ما ورد في القرآن قال تعالى: " وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)"(الصافات)، ما هو وجه العظمة في هذا المخلوق المتعدد الأسماء "الكبش" "الخروف" "الضأن"، أية عظمة هذه الخراف ترى الذئب (ابن آوى) وتقبل عليه لتعانقه، هل هناك حماقة أكثر من هذه؟ احتمال كبير أن يكون الذبح العظيم حيوان آخر، إنه ذبح عظيم، وليس كبش عظيم!! صحيح ومما لا شك فيه، أن الخروف لا يغدر بأحد، وقد نال الغدر منه كثيرا، حتى الرعاة يصاحبون الخرفان بهدف ذبحها!!

تورط أهل الصحراء في تقديس الخروف، منذ زمن ما قبل التاريخ، المجسمات والنقوش تفصح عن هذه الحقيقة، فمنطقة الصحراء الكبرى وشمال إفريقيا تميّزت بتكرار غريب لرسوم ونقوش الكباش على مختلف الصخور، وهذا يعني أن أهل الواحة قديما لهم يد في ذلك. كان الخروف موضع قداسة في الصحراء، وهي مكانة لم ينالها غيره من الحيوانات، بما فيها الجمال "سفن الصحراء" فهيأتها موضع كثير من الاستغراب والفضول، إنها موضع للتأمل والنظر.[1] فأسنمتها تحاكي شكل الجبال في الطبيعة، أرجلها دون حوافر، شكل أرجلها وهي تدفع بالصدر البطن إلى الأعلى، انحناء رقبتها، رموش أعينها التي لا تهزمها ذرات الرمال، لسانها الذي يلتهم الأشواك قدرتها على تحمل العطش... هناك أمر لا نعرفه قد جذب أهل الصحراء نحو ""الكبش" "الخروف" ليرون فيه موضع قداسة، ربما لكونه يتصف بالوداعة والطاعة، وهو سهل المنال ليكون قربانا وأضحية عن صدق طواعية منه، ففي الوقت الذي يتصف فيه الخروف بالوداعة، تتصف فيه الذئاب بالغدر، القربان والأضحية، ما هي إلا تعبير رمزي عن الطاعة والخضوع والانقياد، وليس هناك حيوان يحمل هذه الرمزية أكثر من الخروف، القربان والأضحية تعبير رمزي يرفع من قيمة الوداعة والصدق والوفاء، ويحط من قيمة الغدر.  ومن هذا الأحمق الذي يختار أن تكون أضحيته وقربانه ذئبا (ابن آوى) وهو يمسك به في الصحراء بعد أن ينصب له فخا من المؤكد أن يقع فيه، أو يتسمّر لوقت طويل بالقرب من جحره، ليصيبه بسهم من سهامه!! لقب الخروف عند أهل الواحة لقب مزدوج، يرمز إلى اللطف والوداعة والتواضع،[2] ويرمز إلى الإتباع والانقياد دون رأي ولا نظر. بينما الذئب لا يحتمل إلا رمزا واحدا وهو الغدر.

الجن عند أهل الواحة، لا يتقمص صورة الخروف، بقدر ما يتقمص صورة الجدي أي الماعز، أو أي مخلوق آخر، فإذا ظهر لك ماعز كله بلون أسود وأنت وحدك في الطبيعة، فأحذر أن تتبعه، سيوهمك أنك ستمسك به، سيقودك خطوة بعد أخرى، إلى مكان حيث لا أحد، ستجد نفسك في الخلاء لوحدك في ضياع دون أن تمسك به. تحكي الأسطورة أن شابا مفتول العضلات اسمه "حمودة" في يوم من الأيام، خرج لوحده من القصبة، وترجل داخل الواحة في اتجاه النهر الكبير، وإذا به يجلس بجوار بركة صغيرة من ماء النهر، بالقرب من المجرى الرئيسي للماء، امتدت يده لتلامس سطح الماء، فبدل أن يرى انعكاس ملامح وجهه على سطح الماء كالمعتاد، ظهر له انعكاس رأس ماعز جميل المنظر، يقف بالجانب الآخر من البركة، رفع الشاب رأسه ببطيء، نظر بعيدا الى الجانب الآخر من البركة، وإذا بعينيه تبصر جديا قصير القامة، صغير السن شعره أسود غامق ولامع، عينان برّاقتان، أذناه لست بالقصيرة ولا بالطويلة، قرونه فضية... جذاب المنظر، انجذب حمودة نحجو الجدي، إنه انجذاب غير طبيعي، حدث بشكل سريع وبدون تردد، مثل انجذاب مسمار نحو المغناطيس، بشكل تلقائي، هكذا هو حمودة أمام الجدي، كله رغبة أن يمسك به، دون أن يخطر بباله أن الجدي جرّه وجذبه إليه جذبا.

غمس حمودة رجليه في الماء عبر البركة إلى الجهة الأخرى، ابتعد الجدي منه قليلا ووقف والتفت يحدق بعينيه، وإذا بحمودة يلحق به، كلما اقترب من الإمساك به إلا وابعد عنه قليلا، المسافة بينهما لا تتجاوز عشرة أمتار، تتمدد وتتقلص، لم يخطر في بال حمودة بأن الجدي هو من يتحكم في المسافة الفاصلة بينهما، كلما ضاقت بينهما، إلا ومد يده ليمسك بالجدي من أعلى ظهره، الجدي يجري وحمودة يجري من ورائه، لمسافة طيلة، في الأخير وسط كثبان الرمال، قفز حمودة بكل قوة عالية وإذا به يجد نفسه من أعلى ظهر الجدي، فأمسك بيده اليمنى بالشعر الأسود المتدلي من رقبة الجدي، وامتدت يده اليسرى لتمسك بإحدى قرونه، وتلحقها اليسرى لتمسك بالقرن الآخر. الجدي الآن لا قدرة له على الهرب.

استرجع حمودة أنفاسه، وهو ماسك بقرون الجدي، بعد ذلك رفعه إلى الأعلى ووضعه بين كتفيه، إلى الوراء من قفا رأسه، وأرجله الروائية متدلية إلى الأسفل من جهة الكتف الأسر، أما رأس الجدي فهو متدلي بعد الأرجل الأمامية الى جانب الكتف الأيمن. اليد اليسرى تمسك الآن الأرجل الخلفية بالقرب من حوافر الجدي، واليد اليمنى تقبض بصلابة على الأرجل الأمامية بالقرب الحوافر، كلما تحرك الجدي ما بين أكتاف حمودة، إلا وجذبته حمودة من كلا أرجله الخلفية والأمامية الى الأسفل. كل ما يفكر فيه حمودة، هو الوصول الى باب القصبة، والجدي على كتفيه، ليعلن في الملأ أنه وجده تائها بالقرب النهر الكبير، ربما يظهر صاحبه، أو يتم ذبحه وتوزيعه على الجيران، أو ينضاف الى عشرت النعاج وهم في طريقهم نحو القطيع... بعد عناء وتعب شديد، ها هو الآن بالقرب من باب القصبة وسط الساحة، حافي القدمين، قميصه لا يتجاوز ركبتيه، خنجره مثبت على الحزام الذي يلف خصره بإحكام، أكمام القميص واسعة بشكل ملفت للنظر، الجدي من أعلى كتفيه يرفع رأسه ويدليه نحو الأسفل حينا آخر.  ها هو الآن، يفتح فمه ويخرج أسنانه ولسانه، ويلف رقبته في اتجاه رأس حمودة، ويهمس له في أذنه اليمنى " حمودة أنظر إلى أسناني" (حمودة شُوفْ سِنيَّ)

نعم كلّمه بهذه العبارة التي التقطتها أذن حمودة في المرة الأولى والثانية... منكم من لا يصدق هذا... لا يعقل لجدي أن يتكلم مع إنسان... لكن حمودة حدث له هذا، إنها حالة تخصه لوحده دون غيره، ربما هي حالة نفسية يمر بها حمودة وهو يتخيل نفسه يسمع كلمات جدي يخاطبه...اليس في علمكم بأن طير الهدهد كلم سليمان... يا الله، سليمان نبي الله، هذا أمر لا يستقيم، فلا مقارنة مع وجود فارق...

لم ينتظر حمودة تكرار المقولة للمرة الثالثة، وإذا به يرفع الجدي من كتفيه إلى أعلى رأسه، وينزله ويحطه على الأرض، وهو ممسك بكلا أرجله الأمامية والخلفية، أحكمه مرة أخرى بوضع ركبتيه على صدره وظهره، مرر يده بشكل نحو الخنجر وقد تمكن من أن يستله من مكانك بشكل سريع، أقترب من رقبة الجدي وهو مثبت على الأرض، حمودة الآن يتردد في سمعه صوت الجدي وهو يقول " حمودة أنظر إلى أسناني"(حمودة شُوفْ سِنيَّ) لا جواب عند حمودة، وقد ابتكر جوابا بشكل عفوي، والخنجر يمتد إلى رقبة الجدي "وأنت أنظر إلى الخنجر بأيدي" ( وأنت شُوفْ جَنْوِيَّ بِدِّيَّ)[3] وإذا به يمرر الخنجر يمينا وسيارا على رقية الجدي، فجأة وجد خنجرة يمرر فوق التراب، اختفى الجدي، ولم يعد له أثر... ركبتي حمودة الآن منثنيه على الأرض، وإذا به يقف ويدخل الخنجر في غمده ويضرب كفا بكف...هكذا تقول الأسطورة حمودة نفسه سار يتقمص صورة وشخصية الجدي، إن رغب في ذلك. فلم يعد يطيق الناس كثيرا، عندما يمر أمام جماعة من الناس، لا يحتملهم، يتقمص صورة الجدي. سار الأمر مشاعا بين أهل الواحة، عندما ترى جديا أسودا، احذر أن تلقيه بحجر، أنت لا تعرف هل هو جدي فعلا، ام إنسان يتقمص صورة جدي، إنها حماقات من يسلمون بأن الأرواح تخرج من جسد لتسكن جسدا آخر، والغريب أن تجد من الذي يدعي قدرته استحضار الأرواح بالضرب على الطبول، بإيقاعات مختلفة، وبالاجتماع حول وجبة لحم جدي أسود. الخروف لا نصيب له ولا قدرة عندهم في استحضار الأرواح.

الأساطير من شأنها أن ترتحل عبر الزمن من مكان إلى آخر، من ثقافة إلى أخرى، والغريب فيها أنها تتلبس بخصوصيات المكان والزمان والمحيط، كذلك هي أسطورة الجدي عند اليونان فقد ألقت بظلالها عبر التاريخ وسافرت عبر الزمن من مكان إلى آخر. وتمثلت في مختلف الحكايات الشعبية.

أهل الواحة يميلون لسرد مختلف الحكايات، الطولة منها والقصيرة، بالرغم من أنهم لا يصدقونها، ولكن عند ما يخلوا الفرد الواحد منهم بذاته، دون أن يكون معه أحد، وهو في طريقه إلى عمله، أو قادما من حقله البعيد عن القصبة أو القصر الذي يسكن بداخله، فقد تستحوذ عليه مختلف الحكايات والأساطير، من النادر أن تجد رجل في الواحة أو في جنبات الصحراء يطار جدي لوحده، فضاء الصحراء بطبعه ينسجم مع مختلف الإيحاءات والتصورات الغريبة، وهذا لا يعني أن أهل الصحراء و الواحة لا يكسبون قطعان الماعز، فعلى العكس من ذلك، الأسطورة تعود على الجدي الواحد، اما إن تجاوز الواحد، فقد تحللت الأسطورة والحكاية من معناها.

... يتبع ...

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

........................

[1]  قال تعالى: "أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)" (الغاشية)

[2] ورد في (إنجيل يوحنا 1: 29) "وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!"

[3]  جَنْوِيَّ، وهي الخنجر أو السكين، نسبة الى جنوة وهي الآن مدينة داخل التراب الإيطالي، قديما كان المغاربة يستوردون نوعا من السكاكين جنوة، وقد سمي السكين نسبة إلى اسم المدينة في العامية المغربية جَنْوِيَّ.

 

لقد عرف البشر القلم منذ آلاف السنين بل يذهب الكثير من علماء تفسير القرآن الكريم أن القلم أول ما خلق الله سبحانه مستشهدين بعدد من الروايات واستدلوا بحديث عبادة بن الصامت الذي رواه الإمام أحمد وأبو داوُد والترمذي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقد كان للقلم دور كبير في توثيق تاريخ البشر سواء من الحضارة السومرية وألواح الطين والخط المسماري أو الحضارة الفرعونية وأقلام نبات القصب وورق البردي وما بين تطورات صناعته بين الألمان والإ نجليز ودخول اليابان على خط التصنيع للأقلام، حتى أصبح القلم اليوم قيمة رمزية فاخرة ، سواء كان القلم ذهبيا أو فضيا أو برونزيا فإن الأثر الذي يتركه الحبر في العقول هو الرهان، ولطالما صعب أو استحال قياس الأثر الإنساني للأعمال الفنية فإن التحدي الذي سيواجه النقاد في الجائزة كبير بلا شك؛ وهم أهل له. والأمر الأكثر إثارة هو الفجوة الحسية والمعرفية بين الأجيال وكيف يمكن تلبية ذائقة الجماهير الشابة التي تتغذى على الثقافات المختلفة والمتنوعة، وهل من الممكن أن تكون مثل هذه المبادرات العظيمة نقطة تحول في المجتمع لنشهد ولادة كُتاب محليين بمعايير عالمية؟ أو حتى صناعتهم لهذه المناسبة التاريخية

لقلم اهمية في القرآن الكريم، قوله تعالى اقسم بالقلم "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، الذي بواسطته الناس يكتبون فينقشع الجهل ويستبدل بالعلم "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وهذا شرف للعلم وتعلمه الذي له اثر على القلوب والعقول والدين وانارة البصائر ويميز الانسان عن غيره من المخلوقات باستخدامه اداة الكتابة. ويربط القلم هذه الاثار فقد قرن النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم الدين بالعقل حيث قال (انما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين من لا عقل له). ومن القاب القلم مذيع العلم. وسورة القلم من السور المكية التي نزلت بعد سورة العلق وهذا يدل على ارتباط العلم بالقلم. وهي من اوائل سور القرآن التي نزلت التي منها سورة العلق وفيها اشارة الى اهمية القراءة وارتباط ذلك بالقلم فلولا القلم لما استطاع الانسان ان يقرأ. عن النبي صلى الله عليه واله وسلم: ان اول شئ خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال له اكتب، وفي تفسير لاية "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" وهنالك ايات قرآنية اخرى تشير الى اهمية العلم "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ان القلم هو اللوح المحفوظ الذي تكتب فيه الملائكة اعمال الكائنات خيرا وشرا

للاسف بدأ الناس والادباء ورجال الصحافة وطلبة الجامعات يتخلون تدريجيا عن الكتابة بالأقلام في عصر التكنولوجيا، حتى صاروا يتوقعون مع ازدياد الاعتماد على تقنيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وبدأ الاستغناء عن الكتابة الورقية، وحلت مكانها اجهزة الكمبيوتر والموبايل والايباد، رغم ان الابحاث العلمية تؤكد أن استخدام الكتابة اليدوية في التعليم يعزز التفكير، وينشط الدماغ، المعلومات البصرية والحركية، التي يتم الحصول عليها من خلال حركات اليد التي يتم التحكم فيها بدقة عند استخدام القلم، تساهم بشكل كبير في أنماط الاتصال في الدماغ التي تعزز التعلم

ولعل هذه الحقبة الزمنية تعيد هيبة "القلم" وإعادة صياغة مواد تعليمية داعمة للكتابة، حيث يندر أن تجد في الجامعات لدينا مقررات خاصة بالكتابة، بل يمكنك أن تشاهد بالعين المجردة انهيار المنظومة اللغوية لدى بعض أفراد الأجيال القادمة خاصة من لا يتقنون لغتهم الأم ولا لغة أخرى عباراتهم مشوهة بدون معنى، وهذه بلا شك مسؤوليتنا جميعا. أخيرا، لا تتنازل عن قلمك ولا تجفف حبرك إن كان ما يخطه لا يروق للناس ولا تتخلى عن صفحتك حتى لا تجد عدوك يملأ عليك ما يريد.

سأل صحفيٌّ نجيب محفوظ كيف تكتب الرواية؟ فرد عليه فوراً بالورقة والقلم يا ابني، رُوي عن جرير أنه كان يتمرّغ في الصهريج وهو يعاني لحظات تصيُّد أبيات الشعر، وروي عن الجواهري أنه يصاب بنوع من اللوثة ولمسات الجنون حين ينهمك في كتابة الشعر إلى أن تلين الفكرة العنيدة (حسب كلمة السياب الذي روى أيضاً حالته مع ميلاد القصيدة)، مما يعني إن تصيُّد إيقاعات الشعر ومجازاته مثلها مثل تصيُّد حبكات الرواية، ومثل تصيد شوارد الأفكار، وكلها شوارد تقلق وتؤرّق وتشعل روح مُنشئها وتؤلمه بمثل ما تسهر عيون الخلق عليها بعد ذلك حسب المتنبي، وذلك بعد أن تستقل عن صاحبها وتطوف عوالم الحياة والناس، وينام صاحبها الذي قلق وتألم منها فتتولى إيلام القراء وتعذيب مشاعرهم وأفكارهم في تتبع شواردها ".

***

نهاد الحديثي

فارقت الحياة يوم السبت 3  آب  2024م في بلاد المغرب العربي، بعد تعرضها لجلطة حزن على فراق زوجها وحبيب عمرها: فراس عبد المجيد رشيد

وصبيحة شبر كاتبة عراقية، بدأت الكتابة في الصحف العراقية عام 1960، نالت لقب أفضل كاتبة في العالم العربي من المجلس العالمي للصحافة عام 2009.

السيرة الادبية

1- كتبت القصيدة العمودية اثناء الدراسة الابتدائية

2- نشرت المقالات في الصحافة العراقية منذ عام 1960

3- تخرجت من جامعة بغداد كلية الآداب – قسم اللغة العربية عام١٩٧٠

4-أصدرت مجموعتها القصصية الأولى بعنوان (التمثال) من مطبعة الرسالة في الكويت عام 1976

5 - غادرت العراق عام 1979 بسبب اشتداد الهجمة الدكتاتورية على القوى التقدمية

6– كتبت في الصحف الكويتية بين عامي 1979 – 1986 باسم مستعار (نورا محمد)

7 – استقرت في المغرب عام 1986 8 – نشرت القصص في الصحف العربية بين عامي 1986 الى 2004

9 – أصدرت مجموعة القصصية الثانية بعنوان (امرأة سيئة السمعة) من وكالة الصحافة العربية للمطبوعات في مصر

10 – كتبت في الجرائد الالكترونية مثل الكاتب العراقي – الحوار المتمدن –فضاءات – بنت الرافدين - واتا – منتدى شروق- انانا- ازاهير- اقلام – الوراق- البيت العراقي

11 – نشرت المجموعة القصصية الثالثة  عنوانها (لائحة الاتهام تطول) صدرت في  2007

 12- رواية مشتركة عنوانها(الزمن الحافي) مع الروائي العراقي سلام نوري صدرت في بغداد – 2007

ا13 – عضو في الجمعيات والمؤسسات الاتية :مؤسسة تراي الثقافية – جمعية جمع المؤنث الثقافية في المغرب – اتحاد كتاب النت العرب – الهيئة الادارية لجمعية الرافدين الثقافية العراقية في المغرب - جمعية واتا للمترجمين واللغويين والمبدعين- هيئة التحرير لمجلة انانا- رابطة الكاتب العربي

14- مشرفة على الأدب في المنتديات  شروق – انانا- واتا-نور الشمس

  15- أجرت حوارات مع المنتديات الاتية:شروق مرتين- واتا- نور الشمس- -;- اوتار -صخب أنثى- المبدعات العربيات- مجلة شارع المتنبي- انانا – تعابير- مجلة المثقف من قبل الشاعر يوسف الشرقاوي- مجلة اويا الليبية بواسطة الشاعر صابر الفيتوري

16- كرمت من قبل جمعية المترجمين واللغويين العرب، يناير 2007، انانا نوفمبر 2007 – مهرجان المريسة المغربي4337 صبيحة شبر

السيرة المهنية

 1- أستاذة اللغة العربية في مدرسة الرصافي العراقية في الكويت بين عامي 1972- 1977

2- أستاذة اللغة العربية في مدرسة واسط (في العراق) بين عامي 1977 – 1979

3- استاذة اللغة العربية في مدرسة الأمل (للراهبات العراقيات في الكويت) بين عامي 1980 – 1986

4 - أستاذة اللغة العربية في مدرسة جبران خليل جبران المغربية الخاصة بين عامي 1986 – 1992

5- أستاذة اللغة العربية والتربية الإسلامية في المدرسة العراقية في الرباط منذ عام 1992 وحتى وفاتها ...

قصص قصيرة

الثمثال، من مطبعة الرسالة في الكويت عام 1976.

امرأة سيئة السمعة، من مطبعة وكالة المطبوعات العربية في مصر عام 2005.

لائحة الاتهام تطول، صدرت عن دار الوطن للطبعة في الرباط، عام 2007.

التابوت، صدرت عن دار كيان في مصر عام 2008.

لست أنت، صدرت عن دار ضفاف.

غسل العار، دار فضاءات، عمان.

روايات

الزمن الحافي رواية مشتركة مع الأديب العراقي سلام نوري.

العرس رواية صدرت عن العراق في عام 2010.

فاقة تتعاظم وشعور يندثر، 2014.

أرواح ظامئة للحب، 2015.

هموم تتناسل وبدائل، 2015.

أدتك قلبي، 2017.

جوائز

نالت لقب أفضل كاتبة في العالم العربي من المجلس العالمي للصحافة عام 2009.

كرّمتها وزارة الثقافة العراقية عام 2010 ضمن المكرمين لحصولهم على جوائز عربية وعالمية

* بدأت الأستاذة صبيحة شبر النشر في المثقف منذ سنة 2010م.

تغمد الله الفقيدة برحمته الواسعة وألهم ذويها الصبر والسلوان.

***

.......................

السيرة الذاتية نقلا عن صفحة ا.م.د ماهر جبار الخليلي بالفيسبوك

تسمى عادة مثل هذه (الدراسة مقارنة) وتكون عادة بين  ظاهرتين أوعالمين أو شاعرين وهكذا، والمقارنة كما يصفها العلماء ام المعرفة، المقارنة هذه بين شاعرين كبيرين، احدهما عراقي هو الشاعر بدر شاكر السياب والثاني شاعر مصري هو امل دنقل، ولد السياب في قرية من قرى جنوب العراق (جيكور) وولد الثاني في قرية جنوب مصر (القلعة)  لكن السياب كان هو الاسبق من الناحية الزمنية فقد ولد 1926 بينما ولد امل عام 1940، كلاهما عانا من آلام الفقر والمرض والغربة فكان هذا هو الخيط الذي جمع بين الشاعرين حتى رحيلهما عن الحياة، وقد نعكست ظروفها الاجتماعية الصعبة على نتاجمها الشعري فكانت قصائد وجدانية تغرق في النزعة الانسانية وذات مواقف متشابهة من الحياة والموت والتي تعكس حياة الشاعرين في البيئة القروية والآفاق الاجتماعية والنفسية لكل منهما، حتى ان امل دنقل قد اطلق عليه النقاد لقب سياب مصر غير ان اللقاء والافتراق لم يكمن تاماً بينهما فثمة اوجه شبه واوجــه اختلاف رغم التشابه في ظروف البيئة القروية القاسية فالفارق بينما هو فارق التجربة فقط فقد كان السياب اعمق تجربة كونه لم يتخلى عن رغبته في الحياة حيث ظهر هذا جلباً في قصائده مثل: انشودة المطر وحفار القبور .. إما امل دنقل فقد غيم على اشعاره شبح الموت الذي اعتبره الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود . لقد اصدر السياب اول مجموعة شعرية له عام 1946 باسم "ازهار واساطير" وكانت اول قصائده (هل كان حباً) إما امل فكانت مجموعة الشعرية  الاولى عام 1969 تحمل اسم (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) صدرت بعد انتكاسة العرب في حرب 5 حزيران 1967 .

ان شعراء كثيرين ارتبطت اسماؤهم بمآسي عصرهم واوطانهم مثل: لوركا، ناظم حكمت، الجواهري، البياتي، وكذلك السياب وامل دنقل لقد كان كل من السياب ونقل يحب وطنة وتغنى  به بل يحن إلى قرية وامال كل منهما إلى الملحمية في الشعور، وتضمنت قصائدهم الاساطير  الأغريقية التي نراها واضحة في قصائد السياب و دنقل،  ووقف الاثنان إلى صفوف الجماهير الفقيرة التي كانت تعاني الحرمان وشظف العيش ايام السيطرة البريطانية على كل من العراق ومصر ففي أثناء وجود السياب في بغداد في الأربعينيات لدراسة اللغة الإنكليزية انتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي على الرغم من ان بيئة بغداد كانت تؤرقه وهكذا كان الحال عند امل دنقل عند ما حل في القاهرة، لقد مات السياب عام 1964 وهو في قمة النضج وفي عمر مبكر (38) عاماً وكذلك امل دنقل توفي وهو قمة النضج عام 1983 (43) عاماً . كتب السياب قصيدته والتي تضمنها ديوانه في بيروت والمؤرخة 19 / نيسان 1962 اي قبل وفاته بعامين يقول فيها:

من مرضي

من السرير الأبيض

من جاري انهار على فراشه وحشرجا

يمصّ من زجاجة أنفاسه المصفّرة

من حلمي الذي يمدّ لي طريق المقبرة

أكتبها وصيّة لزوجتي المنتظرة

و طفلي الصارخ في رقاده أبي أبي

وامل دنقل قبل وفاته بأيام كتب قصيدته الاخيرة: يقول وهو راقد في المستفى في غُرَفِة العمليات:

كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ،

لونُ المعاطفِ أبيض،

تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات،

الملاءاتُ،

لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن،

قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ،

كوبُ اللَّبن،

كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.

كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!

فلماذا إذا متُّ..

يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..

بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟

هل لأنَّ السوادْ..

هو لونُ النجاة من الموتِ،

لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ،

صورتان تعكسان روى التشابه بين السياب وامل دنقل.

***

غريب دوحي

 

كما تستطيع السريالية أن ترسم لوحة تقف أمامها بالساعات متأملاً فى محاولة لفك شفراتها السرية العميقة.. هكذا تفعل إذا تحولت فى يد الرسام إلى قصيدة ألفاظها مجرد رموز لمعانٍ أبعد..

هذا ما يفعله الشاعر والفنان التشكيلي (محمد مهدى حميدة) حينما يكتب أدباً شاعرياً بمفردات تجردت من سائر قيود الشعر الموسيقية واللغوية ، وتحررت من أثوابها الجاهلية البالية وارتدت بدلاً منها أردية معاصرة تنطلق بها فى رحاب آفاق صور شعرية مرسومة كقطع الفسيفساء، تجتمع معاً لترسم صورة يفهمها كل منا على هواه كأنها مرايا تعكس أحوالاُ نفسية عدة.. هنا يلتقى الشعر بالفن التشكيلي معاً فى لحظة نادرة تختفى فيها الفروق بين ما هو مكتوب بالقلم وبين ما ترسمه ريشة الفنان..

  بدأ محمد مهدى حميدة حياته الإبداعية كفنان تشكيلية أكاديمى بعد أن نال الماجستير فى تاريخ الفن من كلية الفنون الجميلة بجامعة القاهرة ، وأصدر كتابين حول الفن التشكيليى من إصدار دار سعاد الصباح بالكويت ودائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. قبل أن تجذبه عوالم الكتابة الأدبية ويبدأ فى تأليف عدد من المؤلفات الأدبية التى نال عنها عدة جوائز فى كل من مصر والكويت والإمارات..

  أصدر مجموعته الشعرية الأولى فى العام 2012 تحت عنوان"صناعة الأنقاض" ، ثم أتبعها برواية "امرأة خضراء" بالشارقة عام 2014. ثم مجموعته الشعرية "قناص جبل الرماد" عام 2015من إصدار دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. وقد قرأت تلك المجموعة الأخيرة والتى أراها امتدادا لفنه التشكيلي لا الأدبي، إذ تعج بالأخيلة غير المكتملة والصور التى تتداعى دون أن ترسو بك على شاطئ الوعى وإنما هى صور متحركة بحركة لفظية مستمرة تنقلك من معنى إلى معنى مناقض كأنها أمواج صاخبة لا تهدأ..

  القصائد تتفاوت فى أحجامها الشكلية تفاوت اللوحات المربعة والمستطيلة والقصيرة والأقصر كأنك أمام كتل لونية تتنازعها الجدران..يبدأ الديوان بقصيدة (العدميون) وكأنها بداية لونية رمادية ذات ظلال موحية بعوالم شاعرية تفيض بالغموض وتضع الخلفيات اللونية فى دائرة الضوء بينما تتقلص مساحات المباشرة والصراحة والوضوح.. وتساهم التعبيرات المتقاطرة من النص على تأكيد مدلول العنوان دون التخلى عن مساحات الغموض الممتدة عبر الكلمات والتعبيرات من نوع (اجتهدنا فى محو أشكالنا من عيون الناس- النائمين فى تلابيب الطيف- مستسلمين كلياً للتلاشى..) .. تلك القصيدة هى مدخل تدرك منه أنك مقبل على عوالم غير تقليدية من اللفظ الظلى كأنه لوحة غائمة لا تدرك تفاصيلها إلا إذا ابتعدت وضيقت عينيك لترى ما يختفى خلف الظل اللفظى من معنى مراوغ..

تتدافعك بعدها عناوين القصائد تدافع الأحلام المبتورة والرؤى السريعة كأنها نظرتك عبر نافذة قطار.. فتقرأ ( دودة القز الأخيرة- أعين ماكرة- عشاق المقهى- قصيدة غابرة- بلا عينين تقريباً- أسماك ملونة- دائرة- بلورة- كائن الجهات- ضحك-الغابة- حياة- كورتاثر- أصدقائى- فيما يبدو- حرير- جغرافيا- خريطة- سيناريوهات وشيكة- عبور) لتدرك أنك لست أمام فكرة واحدة جامعة ولا رؤية أم تتفتت إلى نسل من نفس النوع، وإنما هى فراشات متطايرة ذات أشكال وألوان غير تقليدية.. وهكذا تدرك دقة الاختيار فى كونها (مجموعة شعرية) ذات أطياف متعددة ،وليست ديواناً من نبع مشترك. ثم إنك تكتشف أمراً غريباً ليس معهوداً بين مختلف المجموعات الشعرية ، وهو أن عنوان المجموعة ليس موجوداً بين القصائد!! فلا توجد قصيدة من قصائد الكتاب اسمها (قناص جبل الرماد) وهذا ما يدفعك للتفكير أن المؤلف يقصد ذاته بهذا العنوان .. وأنه قناص من نوع جديد لا ينقب عما يبحث عنه الجميع فى كهوف من جبال الذهب أو فى ينابيع النور وبين الورود وأشجار الزيزفون، بل هو يكتشف لنا خبيئة "جبل الرماد".. فهو جبل رمادى طيفى يتغير شكله وحجمه باستمرار ولا يثبت ولا يستقر إذا قررت الوقوف بقدميك راسخاً فوقه..مثل هذا الجبل سرعان ما يتفتت فى يدك إذا حاولت إمساكه، لذا لا تحاول أبداً أن تقلد كاتباً استطاع بريشته أن يقتنص جبلاً من رماد!

***

د. عبد السلام فاروق

 

طيلة أيام فصل الربيع وقبله بأيام، يقضي أهل الواحة وقتا طويلا، وهم يقتلعون مختلف الأعشاب والنباتات الدخيلة على زروعهم، حيث يظهر النصف العلوي من الرجال والنساء أحيانا، بينما النصف السفلي تحجبه عنك سيقان الزرع، وكلما انحنى بعضهم، إلا واختفى عنك داخل الزرع، ولم تعد ترى له أثر، وإذا به لوهلة قليلة ويده ترفع قبضة مما اقتلعه من النباتات، بعد جذبها بقوة وصلابة إلى الأعلى، وهي حركة تجعل صاحبها، على استعداد ليستوي واقفا بعد هزيمة جذور النباتات التي تكون أكثر تمسكا بتربة الأرض المبلّلة.

في أول وهلة يمتلكك نوع من التعاطف، مع مختلف هذه النباتات التي تقتلع من الجذور بهذه الطريقة، أليس لها حق النمو، لكن بعدها يخطر ببالك سؤال مفاده؟ من أُعدت من أجله الأرض وأفرشت له لينمو ويثمر؟ الزرع أم غيره من النباتات؟ يأتيك الجواب حينها بأن مختلف تلك النباتات، دخيلة على الأرض، ويمتلكها الطمع، وإذا بها تضرب بجذورها في عمق التربة أكثر من جذور الزرع، بهدف محاصرته من، والتضييق عليه، إنها خطة خفية تهدف إلى الاستلاء على المكان، فعنما تتسع جذورها تحت التربة، تصير سيدة الموقف، إنها حرب الجذور، من افتقد جذوره فلا مستقبل له. المزارعون يفهمون هذه القاعدة جيدا، فلا رحمة ولا تساهل عندهم مع النباتات الدخيلة، وقد مرت معهم الكثير من التجارب، من بينها، منهم من كان يظن خيرا في بعض النباتات الدخيلة، وقال في نفسه من حقها أن تنموا إلى جانب الزرع، إنها نباتات لطيفة، وقد تتعايش مع الزرع، ترتوي بالماء مثله، وتستمتع بأشعة الشمس كما يستمتع... لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، عندما يتمكن نبات من النبتات أن يترعرع وتشتبك جذوره مع جذور الزرع، لا محالة أنه سيتقوى وتتسع مساحته، ويصبح سيد الموقف، والزرع إلى جانبه  يصبح ضعيف الهيأة والمنظر.

أمر عجيب، ما يجري في الطبيعة، يصدق على الإنسان، في الواحة وفي كل مكان. ولا شك، قد بلغك حديث وقصة ذلك الشعب الذي كان قدره أن يعيش، اختيارا منه، حياة الشتات في مجال واسع عبر العالم، وهو قدر أختاره لنفسه عن طواعية دون أن يكرهه عليه أحد، إذ وجد في الشتات مسلكا للعيش الرغيد، ووجد لنفسه مجالا واسعا من الحرية، فأهل الواحة يعرفون هذه القصة جيدا، إذا عاش هؤلاء بين ظهورهم لوقت طويل. وقد استغل هؤلاء فجوة من الزمن والتاريخ، وإذا بهم يتسللون من كل مكان بأسماء مستعارة حينا، وبوجوه مقنعة حينا آخر، إلى أرض ليست لهم، وقد أعانهم ودفعهم آخرون ليكونوا لهم خدما من أجل تحقيق مصلحة خاصة بهم، وبعد أيام وسنوات ادعوا بأن الأرض أرضهم، وأشجار الزيتون والنخيل لهم، دون غيرهم من الذين استضافوهم، ومن حمقهم وجنونهم، أنهم يمانعون في أن يعيش معهم أهل الأرض الذين استضافوهم أول مرة، وإذا بهم يضربون بجذورهم في قاع الأرض التي ليست لهم، وهم في خوف مستمر، من حالة الاقتلاع التي ستلحق بهم، لأنهم على يقين بأن وجودهم يرتبط بدعم غيرهم، ولا شك أن دورهم الذي يدعمون من أجله سينتهي عاجلا أو آجلا، وقد تتعالى الآن صرخات البعض منهم، لا حياة رغيدة لنا إلا في الشتات. فمصير النباتات الدخيلة إلى زوال واندثار وشتات، أما بذور الزرع فهي محفوظة على طول الزمن، ولم نسمع يوما ما أن بذور الزرع قد اختفت واندثرت، داخل الواحة وخارجها، بينما النباتات الدخيلة فهي إلى زوال، بفعل قوانين الطبيعة، وبفعل الزراع الذين يقتلعونها من الجذور.

مختلف النباتات التي تم اقتلاعها من الجذور، يتم تجميعها وحزمها بحزام من سعف النجيل، ويرفعها الرجل على رأسه، يد تمسك بالحزمة من فوق الرأس، ويد أخرى إلى الأمام مرة وإلى الوراء مرة أخرى، فالرجل على هذه الحال وهو يحمل على رأسه ما يتجاوز ثقله الخمسة عشر كلو غرام وأكثر، ما كان على المارة إلا أن يفسحوا الطريق أمامه، وهو على هذه الحال، سيقطع أقل أو أكثر من أربعة كلومترات، ها هو الآن، يدفع خطواته إلى أبعد مدى، وإذا به وصل إلى جدار على جانب الطريق بعلو مترين، إنها فرصته التي يتوقعها في خاطره ويتمنى أن يصل إليها، قبل أن يرفع الحزمة على رأسه، ها هو الآن يقترب بجانبه الأيمن إلى الجدار، وإذا به يتكئ عليه، وبحرفية عالية يجعل الحزمة تتسرب من فوق رأسه لتأتي على سطح الجدار، يجلس الآن ليستريح ويسترجع طاقته ويعود بعدها ليستمر في طريقه بعد أن يعيد الحزمة على رأسه. وعند وصوله يلقي بها وسط ساحة الدور السفلي من البيت، ويفك الحزام، وإذا بالنعاج والماعز المضطجعة، في أحد جنبات المكان، تقفز من مكانها وتقصدها وهي تتسابق نحوها بشكل جماعي، يغلق الرجل الباب، تاركا النعاج والماعز وراءه وهي تستمتع بوجبتها المفضلة.

عندما تكلف نفسك بجلب القوت والكلأ إلى الماعز والنعاج، فأنت تعودها على التواكل والكسل وكثرة الصياح، فكلما أحست بحركة من يمشي بالقرب منها وراء الباب، أو سمعت كلام متحاورين بالقرب منها، إلا وأكثرت من الصياح بشكل مرتفع، فعنما يتداخل صوت "ثغاء" النعاج والخرفان بصوت "نبيب" الماعز فأنت أمام إيقاع موسيقي يجمع بين، صوت الماعز الرقيق والسريع، وبين صوت يتصف بالبطيء والثخانة وهو صوت الخرفان والنعاج، وقد ينضاف إليها صوت خوار بقرة الجيران...

الماعز والنعاج في هذه الحالة تضعك في حالة من الحرج، فأنت لم توفي لها بطلباتها، شيء يصد صياحها، وهو الجري داخل المراعي الفسيحة، ففصل الشتاء الذي يحلو لها فيه أن ينكمش بعضها في بعض، بفعل البرد القارس، قد ولى وانتهى، حتى أصوافها من أعلى ظهورها تسبب لها نوع من الانزعاج، وكم هي في حاجة لتتخلص منها. هذا النوع من النعاج والماعز، عندما تصاحبه إلى المرعى ففي اليوم الأول، سيتيه في المكان، ولا يعرف إلا الجري تلو الجري، لا يعرف كيف يمدد رقبته ورأسه إلى الأرض، وأعينه تقوده إلى كل لون أخضر من أعشاب الأرض، سيجد نفسه عاجزا عن تتبع الكلأ وجزه أو اقتلاعه بالأسنان والشفتان من الأرض، هذا النوع تعود أن يأتيه الكلأ بدل أن يأتي هو إليه، تعود على مضغ واجترار الكلأ بدل جزه واقتلاعه... يا الله هذا النوع في حاجة إلى دروس وتدريب على الرعي.

أهل الواحة، في القصور والقصبات لا يفوتون فرصة رعي نعاجهم وماعزهم، فإلى جانب ملكية الحقول والبساتين، يملكون عشرات النعاج والماعز، إلى جانب بقرة أو اثنتين بالنسبة للأسرة الواحدة، ففي فصل الربيع يجمعون نعاجهم وماعزهم وإذا بها تتحول إلى قطيع كبير، يتولى مهمة رعيه ثلاثة أشخاص أو أربعة من أهل القصر أو القصبة، يصطحب القطيع إلى المرعى في الصباح الباكر ويعود به في المساء قبل غروب الشمس، ليتولى مهمة الرعي في اليوم الموالي أشخاص آخرون بالتناوب. بينما الذين يمتهنون الرعي وهو حرفتهم الوحيدة، إذ يتناوب أهل الأسرة الواحدة على مدار السنة على رعي قطعانهم وهم يجوبون جنبات الواحة في الصحراء.

يظن البعض أن مهمة الراعي مهمة سهلة ولا تكلف صاحبها شيئا، وكثير من سخروا من مهمة الرعي والراعي، ففي نظرهم، الراعي يتكئ تحت ظل شجرة ويعزف كثيرا على الناي، وقطيع غنمه إلى جانبه، طعامه مخبأ في محفظته بالقرب منه، قد يحلب الحليب بالقدر الكافي كما يريد. فهذه صورة رومانسية جميلة، فالراعي يستحق هذه الصورة وأكثر، لكن حقيقة الأمر شيء آخر. الرعي بين الجبال والتلال العالية والهضاب المخضرة، يختلف كثيرا عن الرعي في الصحراء، فمن بين ما ينتبه إليه الراعي في الجبل، هو الحذر كل الحذر من أن يتجه القطيع في فخ منطقة وعرة منحدرة جنبات الجبل فينزلق بدفع القطيع بعضه بعضا، ويسقط من الأعلى نحو الأسفل وسط الوادي. بينما الراعي في الصحراء أهم ما ينتبه إليه، هو ألا يتفرق قطيعه ويأخذ اتجاهات مختلفة، ويبتعد بعضه عن البعض الآخر، وهي حالة قد تجعل البعض منه يتيه في الصحراء، الراعي في الصحراء يحرص على التحكم في اتجاه القطيع، وإلا تشتت أمام أعينه، ويصعب عليه تجميعه، فالقطيع الكبير، يصحبه أربعة أفراد أو ثلاثة واحد يسر ببطيء على يمين القطيع وآخر على يساره، وواحد أو إتنان من الخلق.

يتقدم القطيع الخروف أو النعجة "المرياع" فالقطيع يحبه ويسير خلفه دائما، لا ينبغي الاعتماد كليا على "المرياع" فهو لا يلتفت إلى الوراء، أحيانا لا يهمه هل القطيع يلحق به أم فارقه في السير نحو اتجاه آخر. "المرياع" بقدر ما يتبعه القطيع ويجتمع حوله، ويسير وراءه، يحتمل أن يأخذ القطيع إلى نقطة ضياع وتيه في الصحراء، "المرياع" يعتمد عليه بأنه يتقدم القطيع، لكن هل هو على وعي إلى أين يقود القطيع؟ والقطيع هل هو على وعي إلى أين يتجه به مرياعه؟ والغريب أحيانا، عندما تجد القطيع في بقعة خضراء وسط شعاب الصحراء، وإذا بالمرياع يأخذها في اتجاه كثبان الرمال!!  يا الله مرياع بليد يقود أخوته لتبتلع حبات الرمال!! وكيف للقطيع أن يلحق به؟ الرعاة في الصحراء لا ثقة لديهم في المرياع، حقيقة الأمر أنهم يستغلونه وهو يتقدم القطيع.

في الزوال يجتمع الرعاة تحت ظل شجرة عالية من الطلح، وأعينهم على القطيع، يخرجون من محافظهم الجلدية المحمولة على أكتافهم، حبات التمر، يعدون الشاي، بعد إيقاد النار، يأكلون قليلا من الخبر المدهون بقليل من العسل. المكلف منهم بحمل "قربة" الماء استراح الآن من عبئها طيلة الوقت، السماء صافية، الجبال البعيدة تبدو بلون أزرق يلتقي بزرقة السماء، من الجانب الآخر تبدوا كثبان الرمال المسطحة هذه المرة ممتدة الأطراف، لا حدود لها، فزرقة السماء تلتقي بلونها الذهبي. الرعاة في جلستهم وحديثهم المستمر، أقترب منهم أحد كلابهم وإذا بهم يصرفونه، بعيدا... وإذا به ينبه بالقرب منهم ويكثر في النباح، قام البعض منهم من مكانه ولمحت أعينه (ابن آوى) وأهل الواحة يعرفونه باسم الذئب، يتسلل من بعديد إلى وسط القطيع، انطلقت الكلاب وهي تجري نحوه، وقد طاردته بشراسة، اختفى بدوره هاربا بين الشعاب وأشجار الطلح والسدر، اختفى ولم يعد له أثر. مرياع القطيع لا يعلم شيئا عن الخطر الذي كان يهدد القطيع، وقد وجهه الرعاة الآن في اتجاه طريق العودة نحو الواحة وقصورها، خطة الذئب (ابن آوى) معروفة عند الرعاة من أهل الواحدة، إنه يتسلل داخل القطيع ويقتل ما تمكن من قتله، ليختفي بعد ذلك، ويعود بعد أن يخلو المكان إلى فرائسه، الذئاب في الصحراء تكون أكثر جشعا، إن اختلت لظرف معين بالقطيع فقد تأتي عليه بالكامل، الذئب ليس كباقي المفترسات، فهو لا يكتفي بقتل واحدة، يحلو له قتل القطيع بأكمله. إنه سلوك مثير للاستغراب، قتل العشرات من النعاج وفي الأخير أكل واحدة!! ولهذا فالذئب موضوع للحكايات عند أهل الواحة.

الرعاة الذي يحترفون الرعي طيلة فصول السنة، وهم يرتحلون من مكان إلى آخر، بين شعاب وكثبان رمال الصحراء، أكثر ما يواجههم هو الخطر الحاذق بهم من كل جانب تسلل الذئاب الى قطعانهم، ولهذا يملكون ما يكفي من الكلاب لتصدّ أي هجوم محتمل. لكن مشكلتهم هذه الأيام لا تكمن في خطر الذئاب، إنها مشكلة الكلأ الذي ضاقت مساحاته في جوف الصحراء، نتيجة فقدان قطرات الماء، التي تخلف وراءها  بعض من السيول هنا وهناك...وهم في هذه الحال يوجهون قطعانهم، اتجاه الواحة لتقتات على ما تبقى النباتات والشجيرات جانب النهر الكبير، وهي حالة يتضايق منها البعض من أهل القصور والقصبات داخل الواحة، اليوم لم يعد لحياة الترحال وجود إلا فيما هو نادر، كما أن الرعي سار محدودا، في مجالات ضيقة.

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

كان ويليام بتلر ييتس، أحد أعظم شعراء القرن العشرين، يستكشف في كثير من الأحيان موضوعات تتعلق بالشيخوخة في شعره. ومع تقدمه في السن، أصبح ييتس منشغلا بشكل متزايد بفكرة الفناء ومرور الوقت، وهو ما يتضح في العديد من قصائده. ومن خلال لغته القوية والمثيرة، يلتقط ييتس تعقيدات الشيخوخة والحكمة التي يمكن أن تأتي معها. في هذه المقالة، سأستكشف كيف يصور ييتس الشيخوخة في شعره، مع التركيز على الموضوعات والتقنيات الرئيسية التي يستخدمها الشاعر.

غالبا ما يصور ييتس الشيخوخة كوقت للتأمل والاستبطان في شعره. في قصائد مثل "الإبحار إلى بيزنطة" و"بين أطفال المدارس"، يتأمل حدود الشيخوخة والرغبة في التسامي. يقدم ييتس الشيخوخة كوقت يجب على المرء فيه مواجهة حقائق الفناء والتصالح مع مرور الوقت. من خلال الصور الحية واللغة المجازية، ينقل ييتس التعقيدات العاطفية والنفسية للشيخوخة.

علاوة على ذلك، يستكشف ييتس بشكل متكرر فكرة الإرث والتأثير الذي تخلفه تجارب الحياة على الأجيال القادمة. في قصائد مثل "هجران حيوانات السيرك"، يتأمل ييتس الخيارات التي اتخذها في حياته والإرث الدائم الذي سيتركه وراءه. بالنسبة لييتس، تصبح الشيخوخة وقتا للتأمل في الماضي والتفكير في مكانة المرء في العالم. من خلال شعره، يشجع ييتس القراء على التفكير في الطرق التي ستشكل بها أفعالهم وخياراتهم إرثهم.

ومن الموضوعات الرئيسية الأخرى في شعر ييتس التوتر بين الشباب والشيخوخة. في قصائد مثل "عندما تكبر"، يقارن ييتس بين جمال وحيوية الشباب وحكمة وخبرة الشيخوخة. يستكشف كيف تتقاطع هاتان المرحلتان من الحياة وتؤثران على بعضهما البعض، مسلطا الضوء على الطرق التي يمكن أن يؤدي بها العمر إلى فهم أعمق للعالم. تعمل قصائد ييتس كتأمل في مرور الوقت والتغيرات الحتمية التي تأتي مع الشيخوخة.

كما يتعمق ييتس في فكرة التحول في الشيخوخة، ويصورها كوقت للنمو الروحي والتنوير. في قصائد مثل "المجيء الثاني"، يستكشف ييتس الطبيعة الدورية للحياة والقوة التحويلية للشيخوخة. يقترح أن الشيخوخة ليست نقطة نهاية، بل هي بداية جديدة، وقت يمكن للمرء فيه تحقيق فهم أعمق لنفسه والعالم. من خلال شعره، يقترح ييتس أن الشيخوخة يمكن أن تكون وقتا للتجديد والولادة الجديدة، وفترة من النمو الشخصي والروحي.

وعلاوة على ذلك، غالبا ما يستكشف شعر ييتس التحديات الجسدية والعاطفية التي تصاحب الشيخوخة. في قصائد مثل "حوار الذات والروح"، يتناول التدهور الجسدي الذي يأتي مع الشيخوخة والشعور بالخسارة التي يمكن أن تصاحبها. يضفي تصوير ييتس الخام والصريح للشيخوخة شعورا بالضعف والإنسانية على شعره، مما يسمح للقراء بالاتصال بالتجربة العالمية للشيخوخة. من خلال عمله، يواجه ييتس الحقائق القاسية للشيخوخة بصدق وتعاطف.

كما ييتس يستخدم الرمزية والأساطير لنقل تعقيدات الشيخوخة في شعره. في قصائد مثل "ليدا والبجعة"، يستعين بالأساطير والخرافات القديمة لاستكشاف الموضوعات الخالدة للحب والخسارة والخيانة. من خلال نسج هذه القصص القديمة في عمله الخاص، يخلق ييتس شعورا بالخلود والعالمية، ويربط تجارب الشيخوخة بالعواطف والتجارب الإنسانية الأوسع. يضيف استخدام ييتس للرمزية والأساطير عمقا وتعقيدا لاستكشافه للشيخوخة في شعره.

وعلاوة على ذلك، غالبا ما يتميز استكشاف ييتس للشيخوخة بإحساس بالحنين والشوق إلى الماضي. في قصائد مثل "البجع البري في كول"، يتأمل في مرور الوقت والتغيرات التي تأتي مع الشيخوخة. يعبر ييتس عن شعور عميق بالحزن والندم على طبيعة الحياة العابرة، ويلتقط المشاعر المريرة التي غالبا ما تصاحب الشيخوخة. من خلال لغته المؤثرة والمتأملة، ينقل ييتس الحنين الحزين إلى الماضي الذي يمكن أن يحدد تجربة التقدم في السن.

يتميز تصوير ييتس للشيخوخة بإحساس بالقبول والاستسلام. في قصائد مثل "البرج"، يتأمل في حتمية الشيخوخة والحاجة إلى التصالح مع الموت. لا يتجنب ييتس حقائق الشيخوخة، لكنه يواجهها وجها لوجه بشجاعة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الهوية هي موضوع مركزي في شعر عزرا باوند وتي إس إليوت، وهما اثنان من أهم وأكثر الشعراء تأثيرا في الحركة الحداثية في أوائل القرن العشرين. لقد تعمق الشاعران في مسائل الذات والفردية والبحث عن المعنى في عالم سريع التغير. في أعمالهما، يستكشفان التعقيدات والفروق الدقيقة للهوية الشخصية، والتي غالبًا ما تعكس التفتت وخيبة الأمل في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى.

لقد تصارع باوند وإليوت مع فكرة الذات الحديثة ككيان معقد ومتعدد الأوجه. في أعمال مثل "الأرض الخراب" و"أغنية حب ج. ألفريد بروفروك"، يستكشف إليوت الطبيعة المجزأة للهوية في مجتمع مجزأ. غالبا ما تطارد شخصياته شعور بالاغتراب والانفصال عن أنفسهم والعالم من حولهم. وعلى نحو مماثل، يدرس باوند فكرة الذات المكسورة في قصائد مثل "الأناشيد"، حيث يجرب أصواتا ووجهات نظر متعددة لنقل شعور بالارتباك والضياع.

كما يستكشف الشاعران دور التقاليد والتراث في تشكيل الهوية الشخصية. وقد استعان باوند بشكل كبير بالأدب الكلاسيكي والشعر الصيني في أعماله، مما يعكس إيمانه بأهمية الاستمرارية الثقافية والجذور. وفي قصائد مثل "هيو سيلوين ماوبرلي"، يتأمل في التوتر بين الماضي والحاضر، والنضال من أجل التوفيق بين متطلبات التقاليد وضرورات الحداثة. وبالمثل، يشير إليوت إلى مجموعة واسعة من المصادر الأدبية والثقافية في عمله، مستمدا كل شيء من دانتي إلى شكسبير إلى الكتب المقدسة الهندوسية لإنشاء نسيج غني من الإشارات والإشارات التي تتحدث عن تعقيد الهوية الشخصية.

بالنسبة للشاعرين، فإن البحث عن الهوية هو أيضا بحث روحي ووجودي عميق. في قصائد مثل "الرباعيات الأربع"، يتصارع إليوت مع أسئلة الإيمان والفداء والبحث عن المعنى في عالم يبدو غالبا خاليا من الغرض. غالبًا ما تكون شخصياته في رحلة روحية، تسعى إلى تجاوز حدودها الأرضية والاتصال بشيء أعظم منها. وعلى نحو مماثل، غالبًا ما يكون استكشاف باوند للهوية مشبعا بإحساس بالبحث الميتافيزيقي، حيث يتعمق في أسرار الوعي البشري وطبيعة الوجود نفسه.

يرتبط موضوع الهوية ارتباطا وثيقا أيضا بمسائل اللغة والتواصل في أعمال باوند وإليوت. كان كلا الشاعرين مبتكرين في استخدامهما للغة، حيث جربا الشكل والإيقاع والصور لنقل الطبيعة المراوغة غالبًا للهوية الشخصية. تعد قصيدة "في محطة المترو" لباوند وقصيدة "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك" لإليوت مثالين قويين لكيفية استخدام اللغة لالتقاط تعقيد وغموض التجربة الفردية. في أعمالهما، تصبح اللغة وسيلة لاستكشاف حدود التعبير عن الذات والتحديات التي يفرضها نقل ما لا يوصف.

فضلا عن ذلك، يتعامل باوند وإليوت أيضاً مع فكرة الهوية باعتبارها بناء اجتماعيا، تشكله ضغوط وتوقعات المجتمع. وفي قصائد مثل "الأرض الخراب" و"الأناشيد"، يستكشفان الطرق التي يمكن بها للقوى الخارجية أن تشكل الهوية الفردية وتفرض قيوداً على الحرية الشخصية. كان الشاعران منسجمين تماما مع الاضطرابات السياسية والاجتماعية في عصرهما، وتعكس أعمالهما اهتماما عميقا بالطرق التي يمكن بها لهياكل السلطة أن تؤثر على الشعور بالذات وتشوهه.

وفي الوقت نفسه، يحتفل الشاعران أيضا بإمكانية الوكالة الفردية وتحديد الذات في مواجهة الضغوط الخارجية. وفي أعمال مثل "الرجال الجوف" لإليوت و"الأغنية الخامسة والأربعون" لباوند، يقدمان رؤى قوية للمقاومة والتمرد ضد قوى المطابقة والسيطرة. غالبا ما تؤكد شخصياتهم على هوياتهم الفريدة في تحدٍ للمعايير المجتمعية، وتحتضن تعقيداتهم وتناقضاتهم كمصدر للقوة والمرونة.

يقدم شعر عزرا باوند وتي إس إليوت استكشافا غنيا ومعقدا لموضوع الهوية في جميع أشكالها العديدة. من خلال استخدامهم المبتكر للغة، وانخراطهم العميق في التقاليد والثقافة، ورؤاهم الروحية والوجودية العميقة، يدعون القراء إلى التأمل في طبيعة الذات والبحث عن المعنى في عالم يبدو غالبًا فوضويًا ومجزأ. في أعمالهم، تظهر الهوية كظاهرة متغيرة ومتطورة باستمرار، تتشكل من خلال العديد من التأثيرات والتجارب. يتحدانا باوند وإليوت لاحتضان تعقيدات هوياتنا، والبحث عن الحقائق التي تكمن تحت السطح، والعثور عليها.

***

محمد عبد الكريم يوسف

هناك كلمة خرجت ودرجت على لسان البعض.

(الساحة التشكيلية المحلية غنية بآلاف الفنانين وهم في تزايد يومي).

وأنا أرى أن هؤلاء البعض هم  أصحاب الآراء المتبدلة وفق ما يتطلبه الموقف وما تقتضيه مصالحهم الموهومة والمزعومة.. هي كلمة مطعمة بحس وطني زائف فهي تخلق دفاعاتها عبر استعارتها جملاً قد تصلح لخطاب وطني شعبوي تعبوي ولكنها تتنافي مع الحقيقة والواقع فهي لا تنتمي سوى للخيانة العظمى وللمحاولات البائسة واليائسة في عرقلة عجلة التشكيل وعجلة التطور والحياة.. فحين يقتضى الموقف وتقتضي مصالحهم الموهومة هذا  لن يكون أمامهم سوى اتهام  الناقد بالقصور والتقصير لأنه لم يشمل تلك الآلاف المؤلفة في دراساته.

إن تجاوزنا تعريف الفن والفنان وشملنا كل رسم لوحة أو قدم عملاً ضمن تلك التسمية..فحن لا نستطيع أن نتجاوز مفهوم الابداع الذي لا يمكن قياسه سوى من خلال الساحة الأكثر اتساعا..أما     ً

لماذا ينتمي هذا الخلط للخيانة؟

هو ينتمي للخيانة من ناحيتين..أولهما: هو يفقد تلك الكلمة رهجتها وقيمتها ومعناها ومحتواها فهذا اللقب الذي الذي كان الحافز وكان المكافئة الأجمل لطالب الفن بعد مسيرة تكللت بالنضج..هذا اللقب سوف تسقط قيمته عند العامة حين يعطى لمن هب ودب.

ثانياً: حين يوضع هذا اللقب في غير موضعه بغض النظر عن الدوافع.. لن تعكس نتائجه سوى الكثير من الملل والكسل والتقاعس والغرور..

وحين يتعلم الفنان من خلال تجربته وفي مخاض اللوحة ألا يُحَمِل عمله ما لا يستطيع تحمله.. حينها سيعي  ما أقصده.. وسيعي تماماً حجم الضرر الذي كان من الممكن أن يلم به لو أنه استسلم للبريق الخادع لتلك الكلمة.. أو لأي كلام غير مسؤول من قارئ لم يدرك المعنى ولم يعي من مفهوم الناقد والنقد سوى الشكل الظاهري للكلمة.

إن لم يكن الفنان محصناً و متمكناً وذا فكر وتجربة فهو سيسقط في براثن المديح الكاذب ولن يتطور عمله بالمطلق.. والحقيقة أن (دوافع بياعوا العبارات الكاذبة لا تنتمي سوى لزيادة رصيدهم الشعبي).

وحين يقصد أمثال هؤلاء الكتابة النقدية..حينها سيقعون في فخ النمطية لأنهم أساساً غير مؤهلين للخوض والنبش في القيم التعبيرية والجمالية وغير قادرين على الكشف عن القيم الإبداعية المكتنزة في عمق التجارب.

(ولأنهم يتجولون على السطح ولا يستطيعون تجاوز القشور ستبقى كتاباتهم موصومة بالتشابهات سواء كتبوا عن فنانين مخضرمين أو شباب).

لا يوجد نص نقدي ينطبق على جميع الفنانين ولكل فنان نصه المنبثق عن تجربته وعن قدرة الناقد على الكشف عن بعض الخفايا حتى لصاحب التجربة.

وكأني أسمع سؤالاً يكاد يختنق بين الحلق واللسان؟

هل تقصد أن طلاب الفن يجب أن يبقوا بعيداً وبمنأى عن الناقد؟

أقول طالما هم في طور التجريب ولم تصل تجاربهم لمرحلة النضج بعد.

فمفهوم الناقد سيكون مختلف هنا لأن النقد مرتبط بالإضاءة على التجارب التي حققت النضج..وملامح ما يود إيصاله الفنان هو مسطرة الناقد..فإن لم تتبلور تلك التجربة من تلقاء ذاته ستكون تابعة ولن تحقق كينونتها

..هم يحتاجون لمعلم ولكن..عظامهم لازالت طرية وأفكارهم لم تتبلور بعد. وأي تأثير خارجي سيكون خطيرا إن اتسم بتجاوب أعمى ببغائي..ولن يكسبهم هذا التأثير غير التقليد.. وسيبقون بمنأى عن الفردية والفرادة لاحقاً..إذاً  يفترض أن تكون تجربتهم الذاتية والحياتية والفنية هي المعلم الأول لهم.. ثم التأمل الملاحظة المتابعة.. والقراءة الفاعلة والفعالة وليست تلك التي تمر مرور الكرام..حينها.. كل  ما حولهم يتحول إلى معلم.. وقبل كل هذا هم أنفسهم الناقد والفنان والمعلم.

وأقول أحيراً  لنكن بالصورة التي فطرنا عليه ننموا ونكبر من خلالها حينها لن تزدنا قسوة الحياة والمسؤوليات سوى رأفة ورقة ومحبة ولن تزدنا سوى إصرارا على مواصلة درب الحلم الذي يحركه ذلك الحب الدفين الذي كان ولازال  ينبض في ذاكرة الروح.. هو الحب الدافع والرافع لتلك الرغبات العارمة.. لمواصلة العطاء وترميم الجروح.

***

الفينيق حسين صقور

...........

* مقتطف من ملف الناقد والفنان

 

تبدوا السنابل من بعيد مستوية على سيقانها، الكثير منها منحنية الرأس، تميل يمينا ويسارا، مع نسمات الهواء العليل، وقد بدأت تتخلى عن اللون الأخضر وتستبدله باللون الأصفر، حباتها تبدوا ظاهرة المعالم تكاد تنسلخ عن قشرتها الصغيرة، بفعل امتلاء بطونها، وفي الصباح وعند الغروب تتحول إلى مرآة عاكسة لأشعة الشمس. أنت الآن وسط السنابل وهي تحيط بك يمينا ويسارا، وإذا بك تبسط كفك وتمرِّره من فوقها من الأعلى، وتحس بخشونة حسكها وسفاها، وهو شعيرات تحمي حباتها أن تكون لقمة سهلة المنال، أمام مناقير مختلف الطيور، الكبير منها والصغير، فالحسك والسفا يعلق في حلق من سولت له نفسه أن حبة القمح هذه سهلة المنال، فهو يتقوى ويزداد خشونة عندما تنضج السنابل وتمتلئ بطون حباتها. الدواب، الحمير منها والبغال والأحصنة لا تقبل على ذلك إن أتيحت لها الفرصة، فهي تحتاط كثيرا من أن يعلق حسك وسفا السنابل في أحْلاقها، ولا تتخلص منه إلا بمشقة التنحنح، بتَرَدّد صَوْتها فِي حَناجرها، بشكل مرتفع ومفاجئ، لوقت طويل، وقد تتجاوز هذه الحالة بشرب الماء والإقبال على أكل عشب أكثر ليونة. والعجيب أن الدواب تأخذ الدرس، إذ تجدها في المرة الموالية تأني على السنابل من سيقانها ومآزرها وتتجنب حباتها المليئة بالحسك والسفا.

تخلف بذرة حبة القمح أو الشعير الواحدة بضعة سيقان، تلتف حولها أوراق كالمآزر من كل جانب عند كل عقدة من الساق، وبعدها تخرج السنبلة الملفوفة وسط الساق من بين المآزر أي الأوراق، ظاهرة للعيان، فأول ما يظهر معها هو شَطْؤها أي حسكها أو سفاها، وعندما تكون السنبلة في هذه المرحلة المتقدمة من العمر، فهذا يعني أنها قريبة من أن تستوي على سيقانها، وهي على هذه الحال فحباتها فارغة وشَطْؤها لين بعض الشيء، وكلما امتلأت حباتها، إلا وخرج شَطْأها عاليا، وأخرج الساق مآزره وأبعدها عنه وبالأخص السفلية منها، وفي هذه الحالة العمرية تظهر حبات السنبلة بشكلها السميك أي الغليظ  وهي مستوية على سيقانها بشكل بارز، وليس هناك وصف دقيق لهذه الحالة المتجددة في الطبيعة، التي يصاحبها الزراع طيلة المسم أكثر من هذه الآية قال تعالى: ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ (الفتح/29)

أهل الواحة يتباهون بزروهم، عندما تستوي على سيقانها، فمنهم من يضرب به المثل، ويقصده الناس لمعرفة السرّ الذي جعل سنابل حقوله مستوية ومثمرة. الكثير منهم يمتلكه التواضع ويفصح عن تجربته الناجحة، ويعمل على تعميمها على الآخرين، ولا يمانع إن قصده الزراع في الموسم القادم ليقترضهم بذور الزرع. والبعض منهم يملكه الغرور، ويظهر بين أهل الواحة بأنفة وثقة زائدة في النفس، ظنا منه أنه ملك قوت وطام عياله طيلة العام وزيادة، فحقول زرعه المستوية ستملأ بيت خزين الحبوب داخل داره، فهو لا يريد للزراع الآخرين مثله أن يستوي زرعهم كما استوى زرعه. وهو على هذه الحال، يتجنب أن يخوض في حديث حول الزرع والزراع، وعلى حذر أن يفك أحد شفرة لسانه ويبوح له بالسر من وراء استواء زرع حقله.

رجل من هذا النوع من الرجال، يظهر بأكثر من شخصية، في أيام الحرث والزرع يكون أكثر تواضعا، ويميل إلى مخالطة غيره من الزراع، ويجالسهم كثيرا، ويكثر الحديث حول بذور الزرع وأنواعها، ويسترق السمع من هنا وهناك، لمعرفة طبيعة البذور التي استقدمها أهل الواحة من الواحات المجاورة، يشتكي كثيرا بأنه لا يملك ما يكفي من البذور، وحقيقة الأمر أنه يملك ما يكفيه ويكفي جيرانه من أهل الواحة. فهو حريص كل الحرص أن يأتي زرع حقله مثمرا، ولا يهمه زرع حقول الآخرين، تبدأ ملامح شخصيته بالتغير والتبدل بدءا بالابتعاد عن مخالطة الزراع مثله، وعندما تبدأ السنابل في الاستواء على سيقانها، يكون الغرور قد استحوذ على شخصه، فهو يشعر أنه لم يعد في حاجة لأحد، ويتوقع أن سنابل حقله ستستوي وتثمر كما هو معتاد.

لا ندري هل لحسن حظه أو لسوئه، أن حقله بعيد عن الساقية الرئيسة للواحة، يقع في آخر جنبات الواحة، وهو منحدر بشكل بين في اتجاه النهر الكبير، وتربته تربة ممزوجة بالرمل سهلة الانجراف. في ليلة من الليالي تسلل خفية، ليتفرد بسقي زرع حقله، دورن زرع الآخرين، فإذا به يصرف الماء في اتجاه حقله، بعدما أن أحكم إغلاق كل بالوعات مصاريف الحقول الأخرى. تعب الرجل كثيرا نتيجة الإنحناء لوقت طويل دون توقف، وهو يسحب التراب من هنا وهنالك بمعوله الكبير، قال في نفسه، هذه مقدمة الليل، سأترك الماء ينساب إلى الحقل، وأعود إلى البيت للراحة والنوم، وفي الصباح الباكر، أعود إلى الحقل لأجده في حالة من الارتواء. لكن حدث ما لم يتصوره في الحسبان، ازداد منسوب الماء في الساقية الرئيسة بشكل كبير، نتيجة قطرات من المطر في أعلى الواحة، تحول إلى سيل خفيف زاد من منسوب الماء داخل النهر الكبير. قبل أن يطل نور الصباح، جرفت المياه المنسابة بكثرة، تربة سطح الحقل نحو منحدر الوادي مصحوبة بما عليها من السنابل، وحتى تلك التي لم تجرفها المياه سارت مضطجعة على الأرض لا تقوى على الوقوف.

مشكلة الرجل لا تكمن فيما حل به، نتيجة حادثة إتلاف زرع حقله الذي جرفته المياه، بسبب ما أقدم عليه، فالناس في الحياة بما فيهم أهل الواحة عرضة لمختلف ما يرغبون في حدوثه، أكبر مشكلة عند الرجل أنه لم يتبقى له شيء من الصالحات من الأعمال يذكر به ما بين أهل القرية، لم يقدّم خيرا لحياته، بين أهل الواحة، ولم يجد الزراع شيئا من الباقيات الصالحات تذكرهُم به ويتذكَّرونه بها1.  إذ تحول إلى نكرة بينهم، نتيجة ازدواجية شخصيته.

لما علم أهل الواحة بأمره، سار حديثا فيما بينهم وهم مقبلون على أيام شواء السنابل، فعندما تمتلئ بطون حبات السنابل ويغلب عليها اللون الأصفر، يتم قطفها مع النصف العلوي من ساقها، فالفارغة من السنابل رؤوسها إلى الأعلى، بينما الممتلئ تتصف بالإنحناء وقد صدق الشاعر حيث قال:

ملئ السنابل تنحي بتواضع

 والفارغات رؤوسهن شوامخ

عندما يتم قطف قبضة اليد، يتم تصفيف السنابل بشكل متوازي، وبعده تحزم بخمسة سيقان تلف بشكل دائري من تحت عنق السنابل، وبعد حزم ما يكفي من حزم السنابل، التي يسميها أهل الواحة بـ"الشواطة" يتم وضعها على لهيب النار، لوقت قصير، يُمكِّن النار من حرق سفا السنابل أي شَطْأها الخشن، وحرق القشرة الخارجية لحباتها، حتى تظهر بلونها الذهبي تطل من السواد بفعل الاحتراق، وتلك علامة على أنها استوت في الشواء، وإذا شغلك شاغل عنها فقد تتحول حباتها إلى سواد ورماد. بعدها تفصل السنابل عن سيقانها،  وتوضع وسط طبق مصنوع من سعف النجيل، لا يقل قطره عن خمسون سنتيمتر، وتمعك وتدلك باليد، حتى يختفي شكل السنابل، بانفصال  حباتها عن قشرتها بالكامل، وتتحول إلى كومة من الحب والقشور، وبعدها يمسك الطبق بين اليدين ويتم تحريكه بطريقة فنية سريعة، تجعله متأرجحا من الأسفل  إلى الأعلى، وهي حركة تجعل حبات القمح وقشورها وسفاها ترتفع إلى الأعلى، ليذهب السفا والقشور بعيدا، بفعل نسمات الهواء، وتسقط خارج دائرة الطبق، وتعود حبات القمح لوحدها داخل دائرة الطبق، وبهذه الطريقة المتكررة لبعض من الوقت تفرز حبات القمح عن غيرها من القشور والسفا، وبهذا الشكل يكون شواء القمح جاهزا للأكل بعد أن يضاف عليق قليل من الملح والتوابل.

ظاهرة شواء السنابل عند أهل الواحة، حالة يستأنس بها الشباب فيما بينهم، فمنهم من يتولى مهمة إشعال النار وإحضار حطبها، ومنهم من يتولى إحضار السنابل، ومنهم من يتولى مهمة فرز الحبوب عن قشورها وسفاها... وقد يتحلقون على وجبة الشواء عندما تنضج ويتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم، وإذا كانت هذه حالة الشباب فهي الحالة نفسها تتكرر مع مجموعة من النسوة والفتيات، أما الأسر فقد تتكلف الجدة أو الجد بإدارة جلسة شواء السنابل من أولها حتى آخرها. والحقية أن شواء السنابل عند أهل الواحة لا تعد وجبة بذاتها، فهي تأتي بعد وجبة الفطور ما قبل الزوال، أو بعد الغداء قبل غروب الشمس، كما أن أيامها قليلة ومعدودة، فإذا جفت حبات السنابل فلم يعد معنى لشوائها. والحقيقة أن جلسات الشواء ما هي إلا تعبير عن فرح أهل الواحة باستواء ونضج زرعهم، فهم يستعجلون تذوقه، كما أنها فرصة تنسهم بعضا من مشقة الحرث.

الزرع في الواحة هذا الموسم، لم يثمر كما كان من قبل، قليلة هي السنابل المستوية على سيقانها، فالمرفوعة الرأس منها أكثر من تلك المنحنية، السنابل ثابتة في مكانها، لا تميل يمينا ويسارا، مع نسمات الهواء العليل، بطون حباتها تبدوا غير ممتلئة بما يكفي مآزرها تلفها من كل جانب... ومن هذا الذي يفكر في جلسة شواء السنابل، أية سنابل هذه وأي شواء هذا...فأثر قلة الماء وندرته واضحة المعالم...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

.....................

1- قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾ (الكهف)

تلعب السحر الأسود والتعويذات دورا مهما في ألف ليلة وليلة، المعروفة أيضا باسم ألف ليلة وليلة، وهي مجموعة من الحكايات الشعبية في الشرق الأوسط تم تجميعها خلال العصر الذهبي الإسلامي. طوال القصص، نتعرف على السحرة والساحرات والجن الذين يمتلكون قدرات سحرية قوية تشكل حياة الشخصيات. تهدف هذه المقالة إلى التعمق في تصوير السحر الأسود والتعويذات في ألف ليلة وليلة والآثار المترتبة عليها على الشخصيات والسرد ككل.

في ألف ليلة وليلة، غالبا ما يرتبط السحر الأسود بالقوى المظلمة والشريرة التي تسعى إلى إيذاء الآخرين. يتم تصوير السحرة والساحرات وهم يستخدمون قواهم للتلاعب بالأفراد والسيطرة عليهم لتحقيق مكاسبهم الخاصة. على سبيل المثال، في قصة علاء الدين والمصباح العجيب، يخدع الساحر علاء الدين لاستعادة مصباح سحري من كهف، فقط لمحاولة سرقته لنفسه لاحقًا. تسلط هذه الخيانة الضوء على الطبيعة الخادعة للسحر الأسود وإمكاناته في التسبب في ضرر لأولئك الذين يقعون ضحية لسحره.

من ناحية أخرى، يتم تصوير التعويذات كأشياء أو تعويذات لها القدرة على التأثير على سلوك أو رغبات الآخرين. في ألف ليلة وليلة، غالبًا ما تُستخدم التعويذات لجلب الحب أو الحظ السعيد أو الحماية للشخصيات. على سبيل المثال، في قصة الصياد والجني، يستخدم الصياد تعويذة لاستدعاء جني يمنحه ثلاث أمنيات. يمنح هذا التعويذ الصياد القدرة على تغيير ظروفه وتحسين حياته، مما يُظهر الجانب الإيجابي للقدرات السحرية.

يعكس استخدام السحر الأسود والتعويذات في ألف ليلة وليلة الإيمان بالقوى الخارقة للطبيعة ووجود عالم خارج عالمنا. طوال القصص، يواجه الشخصيات الجن والشياطين والكائنات الصوفية الأخرى التي تمتلك قوى تتجاوز الفهم البشري. تضيف هذه العناصر السحرية عنصرا من الغموض والعجب إلى الحكايات، فتأسر القراء بحكايات المغامرة والسحر.

كما يعمل السحر الأسود والتعويذات كوسيلة لاختبار سلامة الشخصيات الأخلاقية وقدرتها على الصمود. في العديد من القصص، يواجه الشخصيات إغراءات وتحديات تختبر قوة شخصيتهم وقدرتهم على مقاومة إغراءات السحر الأسود. على سبيل المثال، في قصة الحصان الأسود، يجب على الأمير مقاومة إغراءات الساحرة التي تسعى لإغوائه بتعاويذها السحرية. إن قدرته على البقاء وفياً لقيمه ورفض تقدم الساحرة تؤدي في النهاية إلى انتصاره على الشر.

وعلاوة على ذلك، فإن استخدام السحر الأسود والتعاويذ في ألف ليلة وليلة يسلط الضوء على ديناميكيات القوة التي تلعب دورا في القصص. غالبًا ما يشغل الشخصيات الذين يمتلكون قدرات سحرية منصب سلطة أو نفوذ على الآخرين، باستخدام قواهم للسيطرة على من حولهم أو التلاعب بهم. يخلق هذا الخلل في القوة التوتر والصراع داخل السرد، مما يدفع الحبكة إلى الأمام ويضيف تعقيدا إلى علاقات الشخصيات.

في الوقت نفسه، يرمز استخدام التعويذات والأشياء السحرية في ألف ليلة وليلة أيضًا إلى رغبة الشخصيات في التحول والتغيير. يبحث العديد من الشخصيات عن أشياء أو تعويذات سحرية على أمل تغيير ظروفهم أو تحقيق رغباتهم. سواء كان الأمر يتعلق بالحب أو الثروة أو السلطة، فإن الشخصيات مدفوعة بشوق إلى شيء يتجاوز واقعهم الحالي، مما يدفعهم إلى البحث عن مساعدة القوى الصوفية.

بشكل عام، يضيف تصوير السحر الأسود والسحر في ألف ليلة وليلة عمقا وتعقيدا إلى القصص، مما يثري السرد بموضوعات القوة والإغراء والتحول. من خلال استخدام العناصر السحرية، تستكشف القصص الحدود بين الخير والشر، والخارق للطبيعة والدنيوي، والرغبة البشرية في التغيير والتسامي. في النهاية، يعمل وجود السحر الأسود والسحر في ألف ليلة وليلة على جعل القصص أكثر جاذبية وفتنة، ويجذب القراء إلى عالم من السحر والعجب.

***

محمد عبد الكريم يوسف

تتصادم الصور المختلفة والأحداث، تولد هستيريا تتشابك فيها الخيوط وتنفعل العبارات. الأيام لا ترغب في ولادة حملها الثقيل، باقية حبلى بالأخبار وسوء الطالع. البعض يعلق على شماعة فهمه كل التفسيرات فالضلوع بالتفسير والمبررات مهنة متداولة يمتهنها كل لحظة عدد كبير، ماضيه متناقض مع حاضره كتناقض المشرقين. فسحة هناك وأخرى هنا تشغل الذاكرة وتبعدها من تصادم المتناقضات.. ميزانية الدولة كفيلة بملاعق الذهب الممتلئة شهدا، لكنها عاجزة أن توفر كسرة تعليم لرمق الأمية المتفشي وغسيل الأدمغة المنظم.. التناقض سمة فيزيائية تجيز للمرء أن يلعن سيده إن انتهت سيادته وتسمح بقتل أصحاب الجلالة.. صراخ صامت مختبئ تحت قبة التفكير لا يتحمله ما يدور في الأفلاك الهائمة بنظام صارم هو الوحيد الذي لا يخالف الطقوس، دوران الساعة يرفض العودة الى الوراء، والى قبل قليل، لا يأبه بما نريد، لكن الذاكرة تجبرنا أن نغازل البعد بكل شوقنا اليه، يغادروننا معفرين بلون الوطن وبعضهم بلون عسعسة الليل ممتزجا بحمرة مختلطة بغبار الانفجار. نعود للمكان نحمل ذاكرتنا ودموعنا التي نشحنها كل يوم متأهبة لحدث جديد. إنها سرياليتنا وسريالية الوطن الذي خالف الطبيعة.

***

وداد فرحان

 

"في ألف ليلة وليلة" هي مجموعة من الحكايات الشعبية القديمة في الشرق الأوسط والتي تناقلتها الأجيال. تروي هذه الحكايات شهرزاد، الملكة الشابة التي يجب أن تحافظ على اهتمام زوجها القاتل الملك شهريار، من خلال سرد قصة جديدة له كل ليلة. وبذلك تنقذ حياتها وتفوز في النهاية بقلب الملك. القصص نفسها متنوعة وآسرة، تتراوح من المغامرات الملحمية إلى المآسي الرومانسية إلى الأمثال الأخلاقية.

من أشهر القصص في "في ألف ليلة وليلة" قصة علاء الدين ومصباحه السحري. تتبع هذه الحكاية مغامرات شاب فقير يكتشف مصباحًا يحتوي على جني قوي يمنحه أمنياته. ومن خلال المكر والشجاعة، يتمكن علاء الدين من التغلب على خصومه والفوز بقلب الأميرة. القصة هي مثال كلاسيكي لقوة المثابرة والحيلة.

من القصص الشعبية الأخرى في المجموعة قصة علي بابا والأربعين لصًا. تدور أحداث هذه القصة حول مغامرات حطاب متواضع يكتشف كهفًا مليئًا بالكنوز التي تخص عصابة من اللصوص. ومن خلال التفكير السريع والشجاعة، يتمكن علي بابا من التغلب على اللصوص والاستيلاء على الكنوز لنفسه. القصة هي شهادة على قوة الذكاء والشجاعة في مواجهة الخطر.

تنتشر موضوعات الأخلاق والعدالة في جميع القصص في "في ألف ليلة وليلة". تتميز العديد من القصص بشخصيات يجب أن تواجه معضلات أخلاقية وتتخذ خيارات صعبة من أجل التغلب على الشدائد. من خلال أفعالهم، يوضح الشخصيات أهمية الصدق والولاء والرحمة. يتم نسج هذه الموضوعات في جميع القصص وتعمل كدروس قيمة للقراء من جميع الأعمار.

بالإضافة إلى الدروس الأخلاقية، فإن القصص في "في ألف ليلة وليلة" مليئة أيضًا بعناصر خيالية ومخلوقات سحرية. تملأ الجن والسجاد الطائر والسحرة الأقوياء القصص، مما يخلق شعورًا بالدهشة والسحر للقارئ. وتضيف هذه العناصر إلى ثراء وعمق القصص، فتخلق عالمًا نابضًا بالحياة وجذابًا للقراء لاستكشافه.

ومن أكثر الجوانب المقنعة في "في ألف ليلة وليلة" تصوير الشخصيات النسائية القوية والمستقلة. ففي جميع القصص، تُصوَّر النساء كأفراد أذكياء وذوي حيلة وشجاعة وقادرات على التغلب على الشدائد والتفوق على نظرائهن من الذكور. وشهرزاد نفسها هي مثال رئيسي لشخصية أنثوية قوية تستخدم ذكائها وذكائها للبقاء على قيد الحياة وتغيير قلب الملك في نهاية المطاف.

كما تعرض القصص في "في ألف ليلة وليلة" نسيجًا غنيًا من التأثيرات الثقافية والتاريخية. وتستمد القصص من مجموعة متنوعة من الثقافات والتقاليد الشرق أوسطية، وتدمج عناصر من الفولكلور الإسلامي والأساطير الفارسية والأساطير العربية. ومن خلال هذه التأثيرات، تقدم القصص للقراء لمحة عن عالم الشرق الأوسط النابض بالحياة والمتنوع.

بشكل عام، "في ألف ليلة وليلة" عبارة عن مجموعة خالدة من القصص التي لا تزال تجذب خيال القراء في جميع أنحاء العالم. من خلال شخصياتها الجذابة وقصصها الجذابة وتأثيراتها الثقافية الغنية، تقدم القصص للقراء نافذة على عالم خيالي مليء بالمغامرة والسحر والدروس الأخلاقية. تظل المجموعة شهادة على قوة سرد القصص والجاذبية الدائمة للخيال البشري.

***

محمد عبد الكريم يوسف

قد كانت العطور جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الإنسانية لعدة قرون، حيث تأسر حواسنا وتثير العواطف، وهي تحمل عميقة في حياتنا، وهي الأكاسير الجذابة المعبأة في زجاجات رائعة، كانت جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية لعدة قرون. في الحضارات القديمة مثل مصر واليونان وروما، ارتبطت العطور بالطقوس والاحتفالات الإلهية وبعيدًا عن مجرد الروائح، تجسد العطور نسيجًا ثقافيًا غنيًا، وتقدم العديد من المزايا وتمارس تأثيرًا نفسيًا عميقًا على الأفراد. وتُعتبر صناعة العطور صناعة ضخمة وذات قيمة اقتصادية كبيرة، فوفقًا لتقديرات احدى شركات العطور، كانت قيمة سوق العطور العالمية في عام 2020 تقدر بنحو 70 مليار دولار أميركي،ومن المتوقع أن تستمر في النمو، حيث يشهد سوق العطور نموًا مستدامًا، وذلك بفضل الزيادة المستمرة في الطلب في مختلف أنحاء العالم، ويسهم التوسع في الثقافات المتعددة وتزايد الوعي بالعطور وتأثيرها في زيادة الطلب على المنتجات العطرية، وتشهد صناعة العطور التجارة العالمية الواسعة، حيث تستورد وتصدر البلدان العطور والمكونات العطرية بكميات كبيرة، وتعتبر مصدرًا مهمًا للتوظيف وخلق فرص عمل، كما تسهم العطور في القيمة المضافة للعديد من الصناعات الأخرى مثل السياحة

يقول كريستيان ديورمصمم الأزياء الفرنسي الشهير العطور هي الصمت الذي يتحدث إلينا، حتى لو كنا لا نسمعها، والتأثيرات النفسية للعطور تعتمد على الروائح المحددة وتركيبتها الكيميائية، والذكريات والتجارب الشخصية المرتبطة بتلك الروائح، والثقافة والتراث الاجتماعي الذي يؤثر على تفسير العطور واستخدامها، فيمكن أن تكون لها تأثير قوي على الإحساس بالانتماء والمشاركة في الحدث، يقولون ــ ان العطور هي الأصوات الصامتة للغة الجمال، فهي تتحدث بلا كلمات وتروي قصصًا بلا حروف، وتترك أثرًا لا يمحى في ذاكرتنا، فعندما تشم عطرًا مميزًا، فتأكد أنه يحمل قصة فريدة وينبض بأناقة لا تضاهى،؛ للعطور أيضًا تأثيرات نفسية عميقة على الإنسان، فرائحة معينة قادرة على إحداث تأثيرات مختلفة على المزاج والعواطف وزيادة الإيجابية العاطفية، فبعض الروائح المنعشة والحيوية مثل الحمضيات تساعد في تحسين المزاج وتعزيز النشاط والانتعاش، واللافندر والبخور يعرف بتأثيرها التهدئة والاسترخاء، وتستخدم في العلاج العطري وفنون الاسترخاء لتهدئة العقل وتخفيف التوتر والقلق، والروزماري والنعناع التي يقال إنها تعزز التركيز وتحسن الذاكرة، ويتم استخدامها في بعض الأحيان في الدراسة والعمل لتعزيز الأداء العقلي، والزهور البيضاء والسوسن تعتبر مهدئة ويمكن أن تساعد في تحسين المزاج والتخلص من الاكتئاب الخفيف

والعطر يعبر عن ثقافة الانسان، ولها تأأأثير كبير عليه وتعكس تاريخ حياته في احيان كثيرة، حيث تعود الجذور إلى العصور القديمة، فكانت تستخدم في الاحتفالات المتعددة، ومنذ ذلك الحين تطور استخدامها ليشمل مختلف جوانب الحياة اليومية، فهي تختلف استخداماتها بين الشعوب، ففي الثقافة اليابانية يفضل الكثير من الناس استخدام العطور الخفيفة والرقيقة والتي تتميز بالانتعاش، بينما في الثقافة العربية يفضل استخدام العطور الثقيلة والعميقة والتي تدوم طويلاً، ويُعتبر استخدام العود والعنبر عند الشرقيين رمزًا للتقاليد والفخامة، بينما يُعتبر استخدام اللافندر والورود في الثقافة الغربية رمزًا للرومانسية والأناقة،وفي بعض الثقافات يُعتقد أن العطور تحمل قوى سحرية وروحية وتستخدم في الطقوس الدينية والشفاء، في حين تُعتبر في ثقافات أخرى مجرد وسيلة للتجمل والتعبير الشخصي، وهناك اختلافات جينية بين الأفراد تؤثر على استجابتهم للروائح، وقد يتسبب ذلك في تفضيل بعض الروائح عن غيرها وتوجهات ذوقية شخصية في استخدام العطور، العطور هي الرمز الأقوى للذكريات فهي الأحاسيس المرئية، وهي الشعور بالجمال الذي لا يستطيع الكلام وصفه، وهي حكاية لا تُروى بالكلمات، بل تُشم وتُعيش، تحمل في طياتها الأحاسيس والأحلام والحب، وتجعل الحياة أكثر سحرًا وإثارة، وهي لغة الأنوف، وكل منا له قصته الخاصة معها، فهي التي تُطلق عواطف الإنسان وتعزز جماله الداخلي، وهي الذاكرة التي تستمر في البقاء معنا لفترة طويلة.

تحتل العطور مكانة مهمة في الثقافة الإنسانية، حيث تقدم العديد من المزايا وتؤثر على حياتنا على مختلف المستويات. إنها تعزز جاذبيتنا الشخصية، وتعزز ثقتنا، وتوفر وسيلة للتعبير عن الذات. تساهم العطور في النسيج الثقافي للمجتمعات ولها تأثير عميق على رفاهيتنا ونفسيتنا. لذلك، في المرة القادمة التي تبحث فيها عن زجاجة العطر الرائعة تلك، تذكر العالم المعقد الذي تمثله والتأثير التحويلي الذي يمكن أن يحدثه على حياتك، تتمتع بعض العطور بخصائص علاجية ويمكن أن تؤثر بشكل إيجابي على صحتنا فهي، معروفة بتأثيراته المهدئة كأداة للاسترخاء وتقليل التوتر وتحسين حالتنا العقلية والعاطفية بشكل عام، ويمكن  لرائحة العطر الآسرة أن تثير الفرح والإثارة والسرور، مما يضيف طبقة من الثراء الحسي لحياتنا

تحتل العطور مكانة خاصة في العديد من الطقوس والاحتفالات الثقافية. يتم استخدامها في الممارسات الدينية، مثل طقوس المسحة والتطهير، وكذلك المناسبات الاجتماعية، بما في ذلك حفلات الزفاف والاحتفالات والتجمعات الرسمية. أصبح فن صناعة العطور جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية، حيث يعرض الإبداع والحرفية لمجتمع معين

***

نهاد الحديثي

 

يحلو لأهل الواحة طيلة أيام الربيع أن يترددوا على النهر الكبير، الوريد الذي يمد الواحة بالحياة، ويجعل منها حياة مفارقة للحياة والعيش داخل جوف الصحراء. جنبات النهر تتسع وتضيق على طول النهر، بعض بركه المائية يصل عمقها الى أربعة أمتار، وقد اكتسبت عمقها بفعل قوة اندفاع صبيب الماء، نتيجة السيول التي تصب في الوادي، زمن وفرة الماء  بفعل كرم السماء، النهر يبدوا  في بعض من جنباته هادئا يتحرك في صمت، إلى درجة يبدو لك أن مياهه راكدة ولا تتحرك، وذلك فخ  وكمين لمن رغب في عبوره إلى الجهة الأخرى، وفي جنبات أخرى يتسع عرضا بشكل كبير، ويتحول بذلك إلى فراش منبسط من الماء يعكش أشعة الشمس، وتعيق جريانه مختلف الأحجار المتوسطة الحجم، ويصدر بذلك  إيقاعا موسيقيا بفعل خرير المياه، وهي فرصة سهلة لمن رغب في عبوره بسلام.

في الصباح الباكر أو عند الغروب وأنت بين الحقول يصلك صدى سنفونية خرير مياه النهر، إذ تشدك إليها كثيرا، ولا تمانع أن تقترب أكثر، لتحجز مكانك على ظهر صخرة ملساء، إلى جانب صخور مماثلة، كأن النهر يستقبل ضيوفه بعناية ويوفر لهم سبل الراحة، إذ لا يعقل أن تطيل الاستماع لسنفونية النهر وأنت واقف، الضيافة والترحاب يقتضي تصفيف كراسي للجلوس. صوت خرير سنفونية العزف في الوادي تكاد تتوقف وسط النهار. النهر يحلو له العزف في الصباح وعند الغروب، تلتفت يمينا أو يسارا وتفاجئك شجيرات "الدفلة"[1] جانب الوادي وهي تميل يمينا ويسارا، على إيقاع خرير النهر، وهي تلقي بالبعض من أزهارها المتعددة الألوان بالأبيض حينا وبالقرنفلي حينا وبالأحمر...

هناك شيء ما يجذب الإنسان إلى خرير الماء، خرير الأنهار، خرير الشلالات، حتى خرير الماء وهو يسكب في إناء للشرب يحدث في الأذن إيقاع لا مثيل له. خرير الماء إيقاع ونوطة موسيقية تخترق العالم شرقا وغربا، كأن الماء يؤكد لنا من خلال خريره أنه لا حياة دونه... خرير الماء يوقد شعلة دافئة في النفس، ويلقي بها في عالم لا قبل لها به، إنه تذكُّر تلقائي وغير واعي للنشأة الأولى، وهي نشأة امتزج فيها الماء بالتراب، وتحول بذلك إلى طين، ألم يخلق الإنسان من طين![2]  الكثير من الناس شرقا وغربا عبر مختلف الثقافات يقصدون أمكنة خرير المياه، ومنابعها للشفاء من الحزن الشديد وضيق النفس... كما يقصدونها للتنزه والاستجمام، وقد لعبت النوافر دورا في إحداث خرير المياه في مختلف الحضارات، وهذا دليل على تلازم خرير الماء مع نفس الإنسان بوعي منه أو بدونه.

الجزء الكبير من جنبات الوادي مليء بالغطاء النباتي الذي اختاره النهر مصاحبا له على طول مجراه، إنها شجيرات قصيرة ومتماسكة وكثيرة الفروع والأغصان تسمى "الفرسيك" بين ثنايا، تفرخ العديد من الطيور بيوضها، وتضع الأرانب صغارها... وأنت على حين غرة يفاجئك طير دجاج الماء،[3] مندفعا بسرعة بين أغصان شجيرات "الفرسيك" في اتجاه النهر، وينغمس في الماء ويذهب بعيدا. تظهر لك بعيد بقع بيضاء على سطح الماء، عندما تقترب منها أكثر تدرك بأنها بضعة لقالق تبحث عن قوتها وسط الماء، طيور اللقلاق لا تبالي بمن يقترب منها، ولا توليه اهتماما كباقي الطيور، من نقط ضعفها أنها تبقى ثابتة في مكان واحد لوقت طويل كلها انتباهها مفرغ في اتجاه الماء، وإذا بها بحركة سريعة تخطف بمنقارها ثعبان أو ضفدعة أو سمكة.

استهداف اللقلاق بحجارة من بعيد أمر سهل المنال، ولكن من هذا الذي سيقبل على ذلك، و طائر اللقلاق "بلاّرج" موضوع تحيط به الأسطورة والقصص عند أهل الواحة، تقول الحكاية الشعبية أن اللقلاق كان رجلاً ورعًا لكن حدث ذات مرّة أنّ توضّأ باللبن فمسخه الله لقلاقًا، رجل يتوضأ باللبن، ما هذه المفارقة العجيبة؟ وتحكي الحكاية الشعبية أيضا، أن اللقلاق كان إذا رأى قوافل الحجاج رافقهم وأنس بهم واقترب منهم بلا خوف، فأطلقوا عليه لقب الحاج. كثيرة هي الحكايات حول "بلاّرج" فهو رمز للبساطة والزهد، فعشه يكون في مكان عال مكشوف، ويروى أن طائر "النّسر" سأل "اللّقلاق" عمي اللّقلاق لماذا عشك هكذا، مكشوف في مكان عالي، تأتي عليه هبوب الرياح، وتأتي عليه الأمطار... لو اتخذت مكانا مهيبا لعشّك مثلي، يحميك من حرّ الصيف ويحجب عنك قطرات الأمطار... كان جواب "اللّقلاق" أنا هكذا أتحمل مرور كل صعاب الطبيعة من حر وبرد وأمطار، أعاني بسببها كثيرا، لكن كل الصعاب تمرُّ كما يمرُّ الزمن... ورد عليه "النّسر"، نعم كل الصعاب تمرُّ بهذه الطريقة، على البخلاء مثلك... يا ترى هل البخل من شيّم اللقلاق؟  فمن ميزته أنه يتعايش مع طيور أخرى، كالحمام وبعض أنواع العصافير، بأن تبيض في عشها وتعيش برفقة فراخها من دون أن يسبب لها أذًى، فهو صديق للجميع.

في جميع الأحوال طائر اللقلاق عند أهل الواحة محطة عناية واحترام، وقد حفظ التاريخ لأهل الواحة دورهم المباشر أو غير المباشر، في بناء دار تطبيب طيور اللّقلاق وجبر كسورها "دار بلاّرج".[4] عناية أهل الواحة، بوضع وحالة طائر بلارج، في حد ذاتها عناية بكل أنواع الطيور. السؤال هنا كيف أدرك أهل الواحة منذ القدم بأن مصيرهم يتوقف على مصير مختلف الطيور؟ (المصير المشترك بين مختلف الكائنات في الوجود)، فكرة تبدوا للوهلة الأولى أنها فكرة بسيطة، وهناك من يرى بأنها فكرة ساذجة، ولكن حقيقة الأمر أنها فكرة تعانق الوجود، ببساطة أهل الواحة لهم فلسفتهم الخاصة في فهم وجود الإنسان، حياة الواحة داخل الصحراء جعلتهم يخبرون معنى الوجود وماهيته، وذلك يظهر واضحا وجليا من خلال أشعارهم.

وأنت الآن تخطو خطواتك بحذر، على جنبات الوادي، وإذا بك أمام مكان منبسط ومتسع امتزجت فيه الرمال بالماء، وأنحصر مجرى النهر في أقصى ضفته البعيدة عنك، الرمل مبللة و وتوحي لك بأنها صلبة قابلة لتتحمل ثقل خطوات من يمشي على سطحها، وقد تغريك وتجذبك حباتها وخطوطها المتعرجة، وهي سوداء اللون تتخللها بلورات رقيقة منها الشفافة واللامحة...إن تجرأت واقتحمت المكان ستجد نفسك بداخل فخ لم يخطر ببالك، ستسحبك الرمال المبلّلة الى الأسفل بشكل سريع، ستغوص أقدامك حتى ركبتيك، في فخ الرمال المبلّلة بالماء، وستجد نفسك في حاجة لجهد مضاعف لتستلّ رجلك بعد الأخرى، من عجينة الرمل، سيمتلكك الخوف ويخيل إليك أن الرمال ستسحب كل قامتك إلى الأسفل، ويخيل لك بأنها نهايتك، بعد جهد جهيد، تتمسك بشجيرات "الفرسيك" وشجيرات الدّفلة على جنبات الرمال المبللة، وستكون مساعدة لك في الخروج من ورطتك.

ومن هذا الأحمق من أهل الواحة الذي يضع نفسه في هذا الموقف؟ لحسن حظك، لم يراك أحد، وأنت على هذه الحال. لو بصرك أحد منهم لكنت موضوع لسخرية الجميع، ابتعد عن هذا المكان إلى مكان آخر، عد إلى سريعا إلى مكان خرير المياه، أغمس أرجلك في الماء، وهي الآن تلامس حبات الحصى والحجارة الصغيرة، أفركها جيدا وأزل عنها حبات الرمل العالقة بها، أغسل وجهك، لا تكتفي بهذا، أكمل الوضوء فغروب الشمس يقترب، صلي المغرب في عين المكان، وعد إلى مقر سكناك داخل القصر في جوف الواحة أو في القصبة التي تطل من أعلى الربوة على نخيل الواحة.

مع الأسف نهر بهذه الضخامة والفخامة، يتحول حاله إلى برك صغيرة من الماء، مثل أكواب بالية متباعدة مليئة بالماء على طاولة بئيسة، وربما سيتحول غدا قعره إلى كوب فارغة. هذا ما يخشاه أهل الواحة وقد هاجرت طيور اللقلاق "بلاّرج" وقد حل موعد عودتها، ولم تعد بعد...

...يتبع...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

........................

[1]  الدفلة أوالدِّفْلَى الزيتية أو خَرْزَهْره أو ورد الحمار... شجيرة صغيرة يصل ارتفاعها إلى 2.5-6 متر، وهي ذات شكل قائم التفريع وأفرعها غزيرة ومقوسة. لها أزهار ذات لون أبيض أو قرنفلي أو أحمر أو أرجواني.

[2]  قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)﴾ (السجدة)

[3]  دجاجة الماء هي دجاجة تستوطن في المغرب العربي ومصر والشام، وتمتد شرقاً للعراق حتى منطقة الخليج العربي.. وهو من الطيور المائية حجمه قريب من حجم البطة الصغيرة. يعشش على ضفاف الأنهار والمسطحات المائية وبين النباتات النهرية.

[4] ما بين 1803م و1804م بمدينة مراكش، عمد الأمير مولاي عبد السلام، نجل السلطان المغربي محمد بن عبد الله (-1790م) إلى تحويل منزل كبير في المدينة العتيقة (دار بلارج) إلى حبوس موقوف للعناية باللقالق معتلة الصحة، ورغبة منه في توفير أفضل الظروف لعلاجها، خصص للملجأ مداخيل كراء أحد «الفنادق». بيت بلارج لازال مزارا سياحيا إلى اليوم. ويرى الباحث المغربي محمد أيت العميم أن هناك دار مماثلة (دار بلارج) زمن الموحدين (1123م – 1268م)، أحدثت لنفس الغاية بمدينة فاس.  وقد كتب الكاتب الإسباني خوان غويتسولو قصة بعنوان «الرجال اللقالق»

أنشد أحمد بن شقرون:

إِذَا عَطَبَ اللّقْلاَقُ يَوْمًا فَإنّهٌ *** بِمَالٍ مِن الأوْقافِ يُجْبَرُ مِنْ كَسْرِ.

عندما قرأت رواية سبعون "لميخائيل نعيمة" حلقت روحي عاليا، وشعرت بخفة وتسامي وبهجة ملئت سماء قلبي. أبهرني بأسلوبه الرشيق العذب، لمست عبق صدقه وتواضعه، مراقبته المستمرة لنفسه تأملاته صلته بالكون والطبيعة، تفرده ونضاله وصبره، اختياره للأدب ومواصلة الكتابة رغم حصوله على بكالوريوس حقوق من جامعة واشنطن، مسايرته لشغفه في فك طلاسم النفس، وخبايا الروح، وغموض الفؤاد الهمتني. فعندما ينتابني الشوق والتوق لمسك القيم العليا في زمن تهالكت فيه المنظومة الأخلاقية حيث اشعر أحيانا بالغربة، وأحيانا ثانية ينتابني بعض الشك والتساؤل هل انا غير واقعية؟ هل ان الصدق والطيبة والانفتاح على خلق الله ومحبة الناس وتجسيد الذات بلا اقنعة ضعف وقلة مهارة في فن عيش الحياة؟ فجاءت رواية سبعون وهي سيرة ذاتية لتمد لي يد ممتلئة بالطمأنينة والتسامي ولون لحياة حرة كريمة كان صاحبها هو بقدسيته وقوته وضعفه وحيرته وتساؤلاته، وتيهانه، وطريقه، ورشده.4303 ميخائيل نعيمة

سحرتني هذه العبارات "ستكون لي خلوتي، وستكون لي فيها سياحتي بعيدة في العالم اللامتناهي، وسأعود من سياحتي باليقين الذي تطمئن اليه النفس من حيث وجودها والغاية من وجودها. وذلك لن يتم لي الا بغربلة النفس من شوائبها. واذ انا احسنت الغربلة تناثرت عن كاهلي اعباء كثيرة. فانجلت باصرتي وبصيرتي، وأصبح في امكاني ان اعكف على تنظيف بيتي الروحي وترتيبه وان اتبين هدفي من وجودي، ثم ان امضي في شق طريقي الي ذلك الهدف".

هذه الرواية صاحبتها وصاحبتني بأجزائها الثلاثة لمدة أكثر من شهر، وحين انتهيت منها شعرت بحزن يشبه الحزن الذي يحل لحظة وداع صديق صدوق دافئ قريب للقلب، مؤنس، خفيف الظل مر الوقت برفقته بسرعة البرق، وظلت الروح بتوق وترقب للقاء اخر هكذا كان حالي مع سيرة "ميخائيل نعيمة".

أقف بصمت وتدبر وتامل امام مقاربته لمكنون الانسان بالبحر وطبقاته وابعاده واعماقه، وارتعاشاته وانتفاضاته، وتبخراته وتجمداته، وما ينطلق منه ليعود اليه من ينابيع وجداول وانهار.

اشعر بروحي كفراشة تتنقل بين موضوعات الرواية وكأنها حزمة ورد انهل من رحيقها غذاء لروحي. وانا اقرأ اشعر إنني اتنقل بين لوحات فنية يكمن فيها الكثير من الجمال، ما ان انتقل من لوحة الا وشعور الغبطة والنشوة يغمر قلبي، لجمال النصوص طعم يفتح شهية القلب والذهن لالتهام المزيد، أقف بكل اجلال امام هذه اللوحة التي يصف فيها وجود وشعور الام بأبهي وصف فيقول "يا لقلب الام! انه من غير هذا العالم، ومن عنصر ابقي وانقي وأشرف بما لا يقاس من اللحم والدم. انها النفحة العجيبة التي بها تحيي الاكوان وتتماسك، والمحور الازلي، الابدي الذي عليه تدور، وانه لأوسع من الزمان والمكان، والأقوى من الانحلال والزوال".

في رواية سبعون التقط الكثير من العبارات والجمل كأني التقط درر متناثرة هنا وهناك يدهشني ظاهرها وباطنها ومن هذه الدرر تلك العبارة التي لامست روحي " الفرح ليس وقفا على الأغنياء. والكدر ليس منحصرا في الفقراء. انهما في الفكر والقلب أولا، والحياة عادلة في توزيعها الفرح والترح على بنيها. وقد لا تكون المدنية اجمالا غير ارهاق للإنسان وانحرف به عن طبيعته وطريقه القويم". وهذه العبارة التي تتوافق وتنسجم مع مآلات روحي " أنى لأ وثر القلة مع صفاء الذهن والقلب على الوفرة مع اضطراب العقل والقلب معا. وان يكون لي هدف نبيل فأدب اليه دبيب النملة وأدركه لخير عندي من ان اطير بجناحي نسر من هدف خسيس الى هدف اخس".

في نهاية سياحتي في عالم ميخائيل نعيمة وجولاتي في تفاصيل الاحداث وتنقلاتي بين مواقف الأيام والمها وافراحها اربت على كتف روحي برويه وهدوء لأطمئنها أني عائدة لها.

***

د. حميدة القحطاني

في المثقف اليوم