أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

بين الماضي والحاضر

في أول يوم (أحد) من شهر (أذار/ مارس) من كل عام يقام في السويد سباق التزلج الرياضي الريفي والذي يطلق عليه سباق فاسالوبّيت (Vasaloppet)K والذي بدأ اعتماده كسباق رياضي سنوي وتقليد شعبي منذ عام (1922) لغاية اليوم؛ يشارك في السباق ألاف المتسابقين من النساء والرجال ومن مختلف البلدان والاعمار.
وقد اتخذ هذا الاعتماد للسباق تكريماً لمؤسس المملكة السويدية الحديثة (الملك غوستاف فاسا Gustav Vasa) والمولود في السويد عام (1496م) والذي يعتبر أحد أهم ملوك السويد وله الدور المهم والبارز والكبير في استقلال السويد من سلطة مملكة الدنمارك؛ نصب ملكاً للسويد في (6 يونيو/ حزيران
ولهذا السباق الرياضي السنوي (فاسالوبّيت) قصة وحكايا رافقتها أحداث مهمة بتاريخ مملكة السويد!
فتشير مصادر التاريخ، في القرن السادس عشر الميلادي، كانت السويد جزءً من (أتحاد كالمر) وهذا الاتحاد كان يضم ثلاثة دول (إسكندنافية) وهي (السويد والدنمارك والنرويج) وجميعا تتبع حكم ملك الدنمارك (كريستيان الثاني) لم يكن السويديين راضين على حكم الملك الدنماركي، فحدثت اضطرابات كثيرة في السويد، لخلافات كبيرة بين الفصائل النبيلة السويدية والدنماركية حول من يحكم السويد.
وفي تلك الاثناء قاد أحد الحكام السويديين (ستين ستورة الأصغر) المقاومة ضد الدنماركيين، لكن هزمت قواته وخسر المعركة، لصالح ملك الدنمارك (كريستيان الثاني).
بعدها بفترة في نوفمبر من عام (1520) دعا ملك الدنمارك (كريستيان الثاني) عدد كبير من النبلاء السويديين وكذلك معهم رجال دين وقادة من الفرسان من السويديين لحفل احتفال أقامه في (ستوكهولم) بعد تتويجه ملكاً على السويد.
وعند حضورهم كان الملك (كريستيان الثاني) قد أعد خطة (مكيدة) لاعتقالهم جميعاً، وتم له ذلك، فأمر بإعدامهم جميعاً وكان من ضمن الحضور الذين تم اعتقالهم واعدامهم والد (غوستاف فاسا) النبيل والمستشار الملكي (إريك يوهانسون فاسا) ويقدر عدد من تم اعدامهم (بقطع رؤوسهم) بهذه المجزرة في (ساحة ستوكهولم الرئيسية) بأكثر من (80) شخصاً، تصف هذه الحادثة كثير من الكتابات السويدية بـ (حمام الدم) فقد تدفقت وسالت دمائهم في الساحة والشوارع!
فعل ملك الدنمارك (كريستيان الثاني) تلك المجزرة من اجل القضاء على (المقاومة السويدية) الثائرة ضد حكم الدنمارك لهم.
فيما يصف كتاب صغير (بين يديّ) مكتوب باللغة السويدية (القراءة السهلة) بعنوان (أنا، غوستاف فاسا) الكتاب عبارة عن سيرة ذاتية عن حياة الملك (غوستاف فاسا) بقلم الكاتب السويدي (هانز بيترسون 1922- ت 2022) تتخلل صفحات الكتاب مجموعة من اللوحات الملونة التي تصور الاحداث التي مر بها، وفترة توليه منصب ملك السويد، الرسومات بريشة الفنان السويدي (جولي ليوناردسون) ففي الصفحة (11) من الكتاب يتحدث (غوستاف فاسا) عن المجزرة ويصف مشاعره اثناء ذلك اليوم (ترجمتها من اللغة السويدية إلى للغة العربية) يقول:
(حمام الدم في ستوكهولم
لقد كنت على حق في قلقي، وانتهت الحفلات الكبيرة في حمام دم.
تم قطع رأس والدي، في ساحة ستوكهولم الكبيرة، مع ثمانين رجلاً بارزاً أخرين،
تدفقت الدماء في الشوارع باتجاه سكيبسبرون.
تم نقل أختي مع والدتي وجدتي إلى سجن في الدنمارك.
من الصعب أن أصف غضبي ويأسي؛ مرة أخرى حنث كريستيان بوعوده.)
بعد المجزة صادر الملك (كريستيان الثاني) جميع ممتلكات النبلاء المعدومين، فيما كانت هنالك رود فعل غاضبة ومستنكرة زادت من حنق وغضب وكراهية الشعب السويدي ضد سلطة الدنمارك؛ فيما أستخدم (غوستاف فاسا) هذا السخط الجماهيري للتحشيد للثورة ضد الدنمارك.
بعد هذه المجزرة هرب (غوستاف فاسا) الى منطقة (دالارنا) وهي من المناطق الجبلية في السويد، وبدأ بتجميع قوات كجيش من الفلاحين والمقاتلين السويديين لقتال الدنماركيين.
خلال رحلة هروبه متخفياً من (القوات الدنماركية) التي تتعقبه، خلال هذه الفترة تحدث له أشياء وصعوبات عديدة، فالسلطات ملك الدنمارك وضعت مكافئة كبيرة لمن يرشدهم عليه.
في (دالارنا) وجد صعوبة ورفض في تقبل السكان للإنظام للمقاومة التي دعا اليها لتحرير السويد من قبضة الدنمارك، وعندما أيقن ان السكان ترفض مساعدته، دفعه ذلك للهروب والفرار نحو (النرويج) فغادرهم قاطعاً طريقاً خطراً جداً عبر الغابات والثلوج والبرد مستخدماً زلاجات الثلج.
وحدث بعد ذلك أن غيروا سكان (دالارنا) رأيهم واتفقوا بمساعدته ومساندته بعد أدراكهم على أهميته كقائد لهم، فقرروا دعمه والتخطيط لإبلاغه فأرسلوا أثنين من أفضل الرجال المتزلجين للحاق به وإعادته.
وعندما لحقوا به كان (غوستاف فاسا) كان قد قطع مسافة (90) كم ووصل لمدينة (سالين) فأعادوه معهم الى مدينة (مورا) وهي من الرحلات الخطرة عبر الجبال والغابات الكثيفة المغطاة بالثلوج.
فسارع (غوستاف فاسا) يعمل بجد وهمة وعزيمة بتنظيم مقاومة السويديين ضد الدنماركيين، والتي انتهت بانتصاره وتتويجه ملكًا عام (1523)
نعود لموضوع سباق التزلج الريفي على الثلج والذي أصبح تقليد رياضي سنوي وكذلك يخلد ذكر مؤسس مملكة السويد (الملك غوستاف فاسا) وكذلك يعد هذا السباق الآن (السباق الأكبر) في العالم.
صبيحة يوم الأحد (2 أذار/مارس 2025) عند الساعة الثامنة صباحاً انطلق حوالي (15800) مشاركاً في السباق، والذي يتنافس فيه المحترفون والهواة، بدأ السباق من قرية (بيرغا) التابعة لمدينة (سالين) حتى خط النهاية في مدينة (مورا) قاطعين مسافة (90) كم عبر الغابات والجبال والمنحدرات والثلوج والمسالك الصعبة، وفي طريق المتسابقين هنالك نقاط تفتيش سبع وتسمى (نقاط تفتيش فاسالوبيت الكلاسيكية ) موزعة على طول خط السباق؛ الأف من الناس جاءت لهذا المكان لتشجيع المتسابقين وللتفرج والنزهة والاستمتاع بهذا الحدث الكبير والذي يعد بحق (مهرجان شعبي) كما تطلق عليه الصحافة السويدية، وكذلك يتابع هذا السباق (المهرجان الشعبي) ملايين المشاهدين عبر محطات التلفاز الفضائية في مختلف انحاء العالم، وتشير الاحصائيات الى أن عدد المشاركين في هذا السباق منذ انطلاقه في عام (1922) لغاية نهاية هذا العام بـ (600) ألف متزلج، وهذا السباق هو رقم (101).
كنت اتابع من بيتي في (مالمو) عبر شاشة التلفاز بثاً مباشراً من قرية (بيرغا) التي أحشد بها ألاف المتسابقين والمتفرجين، وقائع هذا السباق، اغتنمت الفرصة وأخرجت من مكتبتي كتاب:
Jag, Gustav Vasa
لأعيد قراءته مستمتعاً بالمعلومات المهمة التي دونت في صفحاته عن تاريخ تأسيس مملكة السويد وحياة ونضال ملك السويد غوستاف فاسا.
في نهاية سباق التزلج الريفي الذي استمر قرابة الأربعة ساعات متتالية فاز بسباق الرجال:
المتسابق السويدي الشاب (ألفار ميلباك) بزمن قدره: 3.28.45
بفارق ثانية واحدة عن المتسابق الثاني، ويعد الفائز الأول (ألفار ميلباك) بهذه المسابقة لهذا العام أصغر فائز على الأطلاق منذ تأسيس هذا السباق، والذي يبلغ من العمر (18) عاماً و(345) يوماً.
فيما فازت بسباق النساء بطلة العالم والأولمبياد بسباقات التزلج المتسابقة السويدية (ستينا نيلسون) من مواليد (1993) والتي تشارك لأول مرة بهذا السباق، والتي فازت بزمن قدره: 3.54.00 بفارق كبير عن منافستها الثانية بخمسة دقائق.
***
يَحيَى غَازِي الأَميرِي
مالمو في 2025.03.03

سألني أحدُهم: لماذا تكتبُ الشّعرَ؟
وسألني آخرُ: ما نفعُكَ من كتابةِ الشعر؟
وآخرُ: ماذا جلبَ لكَ الشعرُ؟ أما كان لك شُغلٌ بغَيره؟
قلتُ مع نفسي (قبل أن أجيبه): لو كان هذا شاعراً، ما سألني هذا السؤال. ولو كان ناقداً حقيقياً، ما سألني.
عدتُ إليه فكان جوابي (على سذاجته)، والحق أقول، أنني لم أكن أعلم ما الجواب، إلا أنني قلت له: أكتبُ الشعرَ للشعرِ. أكتبُ الشعرَ لنفسي.
حينما يتثاءبُ الإنسانُ، فاعلم أنه بحاجةٍ إلى النومِ، وحينما يستأذنك في الذهابِ، فاعلم أنه ربما تعبَ من الجلوسِ إليك. وأنا حينما أقضي ساعاتٍ طوالًا في كتابةِ قصيدةٍ ما، فاعلم أنني بحاجةٍ لأن أكتبَ القصيدةَ. أكتبُها لأنني أبوحُ بمكنونِ عواطفي فأضعها على محكِّ الأفكار وكأنني أعرضُها للجمهورِ وأقول: هذا ما أحببتُ إخبارَكم بهِ فلا تتأملوا ولا تفكروا كثيرًا.
ربما هي من بابِ الفرديةِ، وعرضِ الأنا للآخرينِ بصناعةٍ ذاتيةٍ. ربما هي محطةٌ من محطاتِ إراحةِ العقلِ ومحاكاةِ الأفكارِ. ربما وربما...
ثم سألني سؤالاً آخرَ: لِمَن تكتبُ الشِّعرَ؟
فوجدتني متحررًا في الإجابةِ نوعًا ما، وحالي في معرِضِها أيسرُ، فقلتُ في جوابي: لكم!!! ولي كذلك!!!
قال: وما قصةُ الشيطانِ الذي يعتري الشاعرِ، وهل هذا من خرافاتِ الفلكلورِ الإنسانيِّ؟
قلتُ: إنها من الأساطيرِ القديمةِ التي راجت عن اليونانِ قبل آلافٍ من السنينِ. شيطانُ الشعرِ كان يُطلقُ على أحد الآلهةِ اليونانيةِ المسمى "أبوللو"، وهو إلهُ الشعرِ، أو شيطانهُ لأنه كان يرمزُ إلى الشر. لكن، دعني أقول لك، إن الشيطان في الشعرِ ليس إلا حالةً من الفوضى التي تصيبُ العقلَ حين يُحاصرُ بفيضٍ من المشاعرِ والأفكارِ، مثل طوفانٍ لا يتوقفُ. إنه ليس كائنًا ماديًا يتلبسُ الشاعرَ، بل هو تجسيدٌ للإرهاقِ النفسي والفكري الذي يرافقُ عمليةَ الإبداعِ، تلك اللحظةَ التي يشعرُ فيها الشاعرُ أن كلماتِ القصيدةِ تفرُّ من بين أصابعهِ، وأن الجملَ لا تنسابُ كما ينبغي، وتختلطُ الصورُ لتصبحَ لغزًا يضيقُ به العقلُ قبل القلمِ.
الشعرُ، كما أراهُ، ليس مسألةَ إلهامٍ عفوي أو شيطانٍ متمردٍ يوسوسُ للشاعرِ. إنما هو، ببساطةٍ، حالةٌ من التوهجِ الداخلي، لحظةٌ يتمُ فيها التقاطُ خيطٍ رقيقٍ من الإلهامِ وسطَ العدمِ. الشاعرُ، في تلك اللحظةِ، لا يكتبُ للمكاسبِ أو للثناءِ، بل لأنه لا يستطيعُ أن يطفئَ تلك النارَ التي تشعلُ فيهِ كل فكرةٍ، وكل لحظةٍ حياةٍ. إنه لا يكتبُ ليُعجبَ أحدًا، ولا ليحظى بشرفِ التقديرِ. يكتبُ، ببساطةٍ، لأنه يحتاجُ إلى الكتابةِ؛ لأن الكتابةَ هي منفذهُ الوحيدُ ليفهمَ نفسه، ولينقشَ وجوده في الحياةِ على ورقٍ لا يشيخُ.
ومن هنا تأتي الإجابةُ البسيطةُ على السؤالِ الذي لا ينتهي: لماذا تكتبُ الشعر؟
أكتبُ الشعرَ لأنني أحتاجهُ. أحتاجهُ كما يحتاجُ الإنسانُ إلى التنفسِ، وكما يحتاجُ الطائرُ إلى السماءِ. هو لا يطلبُ مني أن أبررَ وجودهُ، بل هو موجودٌ فيّ بشكلٍ طبيعيٍ. مثل الندى الذي يتساقطُ صباحًا على الزهورِ، لا يسألُ عن جدوى وجودهِ، ولكنه يحيي الأرضَ، ويُطهر الروحَ من شوائبها.
الشعرُ، في نهايةِ المطافِ، ليس مجردَ كلماتٍ تتناغمُ مع بعضها، بل هو كائنٌ حيٌ يتنفسُ عبرنا.
وحينما تسألني لِمَن تكتبُ الشعر، سأقولُ لك: أكتبُه لأولئك الذين يفتحون أعينهم على العالمِ في لحظةٍ من الوعيِ، لأولئك الذين يتذوقون الجمالَ في أبسطِ الأشياءِ وأعمقها. أكتبُه لمن يقرؤون بين السطورِ، لمن لا يخشون من مواجهةِ القسوةِ والضعفِ، من يعترفون بخطاياهم دون خوفٍ أو ترددٍ، ومن لا يهابون من الجلوسِ مع أنفسهم في صمتٍ طويلٍ. هؤلاء هم الذين يفهمون ما بين الكلماتِ، الذين يعرفون أن الشعرَ ليس ترفًا، بل هو متاهةٌ تحتاجُ إلى بصيرةٍ عميقةٍ كي تجدَ المخرجَ.
ولكن هناك أيضًا أولئك الذين يسألون عن نفعِ الشعرِ، وكأن الشعرَ يجبُ أن يخدمَ غرضًا ماديًا أو اجتماعيًا محددًا. ما نفعُ الشعرِ، يسألون، وإذا لم يعطِك شيئًا ماديًا، فماذا أنت رابحٌ منهُ؟ أما كان لك شُغلٌ في أعمالٍ أخرى؟ والجواب، ببساطةٍ، هو: الشعرُ ليس بضاعةً تُباعُ في الأسواقِ، ولا سلعةً تُعرضُ على رفوفِ المحلاتِ. الشعرُ هو الفنُّ الذي لا يُرى سوى من خلالِ الوعيِ الذي يراهُ، ومن خلالِ الروحِ التي تتفاعلُ معهُ. فالشعرُ هو الطيرانُ في سماءٍ غيرِ مرئيةٍ، هو الصعودُ إلى قمةِ جبلٍ بعيدٍ دون أن تلمسَ قدمُك الأرضَ، هو إبحارٌ في بحرٍ هائجٍ دون أن تعرفَ أين ستنتهي رحلتك.
الشعرُ لا يُقاسُ بالنتائجِ أو الجوائزِ التي قد تُمنحُ لهُ. ليس هو قيمةٌ تُقاسُ بما تحقق من ربحٍ أو شهرةٍ، بل هو البحثُ عن الجمالِ في أقسى الظروفِ، هو الهروبُ من الضغوطاتِ اليوميةِ والاتصالُ المباشرُ مع الذاتِ العليا. لا تكتبُ الشعرَ لتربحَ، ولا لتثبتَ شيئًا للآخرين. تكتبُ الشعرَ لأنك، ببساطةٍ، تجدُ في الكتابةِ سلامًا لا تجدهُ في أيِّ مكانٍ آخر، تكتبُ الشعرَ لأنك لا تستطيعُ العيشَ دون هذا الصدى الداخليِّ الذي يخرجُ من الأعماقِ ليعبرَ عن كل ما يجولُ في داخلك.
وأخيرًا، عندما يسألني أحدهم: ماذا جلبَ لك الشعر؟ سأقولُ ببساطةٍ: جلبَ لي الحياةَ، جلبَ لي فهمًا أعمقَ لوجودي. جلبَ لي من يشاركوني هذا الفضاءَ الذي لا يدخلهُ إلا من يعرفُ أن الأدبَ ليس مجردَ كلماتٍ على ورقٍ، بل هو صوتٌ داخليٌ لا يتوقفُ عن الترديدِ. الشعرُ هو أن نعيشَ اللحظةَ بكلِّ تفاصيلها، دون التعلقِ بالنتائجِ أو بالمكاسبِ. هو أن نتنفسَ الكلماتِ ونسمعها تخرجُ منا، ثم نتركُها تُحلّقُ في فضاءٍ شاسعٍ، يُدركهُ من يملكُ القدرةَ على الاستماعِ.
***
بقلم د. علي الطائي

حين دنت منيته واجتمع الأتباع حوله داعين له بالسلامة وتجاوز محنة المرض التفت اليهم قائلا (الأرض جائعة وتطلب لقمة دسمة) ولم تمر أيام قليلة حتى فارق الحياة وكان هو اللقمة الدسمة التي أرادت الأرض ان تفرح به وتزداد خصوبة من فيض عطائه وعظيم فكره، وبهذه الجملة المعبرّة عن حكمة وحياة زاخرة بالتجارب ودع الحياة في مدينة قونية التركية امام العارفين والمتصوفين (جلال الدين الرومي 1207 ــ 1273م) أحد أبرز أعلام التصوف الفلسفي في التاريخ الإسلامي تاركا وراءه إرثا جماليا وانسانيا جليلاً، وعلى الرغم من تواضعه ولم ير ضرورة من إشادة القبور الضخمة وكان يقول (ان الضريح الحقيقي يجدر بناؤه في القلب) الّا ان الأمور لم تجري حسب رغبته، فالأتراك ولشدة تعلقهم برمزهم المقدس العارف " جلال الدين الرومي" خالفوه الرأي وشيدوا له عام 1926 ضريحا ضخماً في مدينته قونية ــ 460 كم عن اسطنبول ــ وعلى مساحة تقدر بـ 6500 متر مربع وصار اليوم مزاراً معروفا في تركيا، ويروى ان في يوم تشييعه هرع سكان قونية جميعاً لحمل نعشه على اكتافهم دون تمييز بين عِرق وعِرق ولا بين دين ودين وكان اليهود والنصارى يتلون التوراة والانجيل، والمسلمون ينحّونهم فلا يتنحون وبلغ ذلك حاكم المدينة، فقال لقساوستهم ورهبانهم: مالكم ولهذا الأمر والجنازة لعالم مسلم؟ فقالوا: به عرفنا الحقيقة، هكذا صار جلال الدين الرومي مصدر إلهام لكل الناس وثروة نفيسة لكل الشعوب المثقفة لما في فلسفته من موعظة وحث على التسامح بين الناس بعيدا عن قومياتهم ومذاهبهم .
عاش الرومي شخصية متعددة الابعاد فهو شاعر ومتصوف وقديس ومرشد روحي وكان زاهدا بالمال والملذات ماعدا الحب، فهو لا يحسد احد على ماله او ملكه بل يكفيه فخرا انه اسير الحب حيث يقول (بارك الله لعبيد المادة وعباد الجسم في ملكهم وأموالهم، لا ننازعهم في شيء، أمَّا نحن فأسارى دولة الحب التي لا تزول ولا تحول) فهو يرى للحب مفعول سحري اذ « يحوِّل المُر حلوًا، والتراب تبرًا»، معتبرًا أن تلك العاطفة السامية تصل بالإنسان إلى حالة من السعادة قد لا يصل اليها بالطاعات والعبادات فقط وينصح ان تكون عماد العبادة هو نظافة القلب وسلامته من الأحقاد والبغضاء (توضأ بالمحبة...فالصلاة لا تجوز بقلب حقود) ويعطي للحب صفة الخلود في قوله (وكل شيءٍ إلى زوال ويبقى الحب) ويجد نفسه (مولود للعشق) ويعتبر الحب هو رديف الحياة لذا ينصح (لا تكن بلا حب، كي لا تشعر بأنك ميت، مُت في الحب وابق حيا للأبد) ويرى ايضا انه (من دون الحب .. كل الموسيقى ضجيج، كل الرقص جنون، كل العبادات عبء) .
ان جانبا كبيرا من ثقافة الرومي وفلسفته العميقة تناولت الحب على انه وسيلة لبلوغ السمو والرفعة، كما يرى ان جميع من جهلوا الهوى اموات ويعيب على تجار الحروب (إنهم مشغولون بالدماء.. بالفناء، أما نحن فمشغولون بالبقاء، هم يدقون طبول الحرب، نحن لا ندق إلا طبول الحب) وكان يؤمن بأن الحب هو جوهر الوجود الانساني ويراه نعمة ومصدرا للسعادة والسلام الداخلي وله قوة سحرية في السمو بالأرواح واحاطتها بالقدسية حيث يقول عن قوة تأثيره:


لو أن زهرة نبتت لي
في كل مرة فكرت فيك
لمشيت في حديقتي إلى الأبد
ما لمس الحب شيئا إلا وجعله مقدسا
الحب لا يمكن ان تتعلمه او تدرسه
الحب يأتيك كنعمة .. !

بهذه اللغة البسيطة والعاطفة الصافية والبصيرة المتنورة تمكن الرومي ان يصل بإرثه إلى جموع واسعة من الناس واصبحت قصائده وعلى مدى عقود طويلة مصدر الهام العديد من البشر في العالم واهتمام المنظمات الدولية المعنية بالثقافة.
***
ثامر الحاج امين

من مُسوغات مَفْسدةَ يومي حين سألتني ذاكرتي: في أي يوم نحن؟ ابتسمت دون قهقهة، وأنا أقف عنوة عند موازن ذاكرتي وقد أتلفت بوصلة الاتجاهات الأربعة. لم أفكر بالتخمين عن إجابة مُنمقة ومُرصعة بالبيان والتبيين، بل بقيت عند فسحة الارتجال الفطري أتناول كلامي، وبلا مكملات من علم الكلام. لم تكن إجابتي عن ذاك السؤال البئيس في زمن الذكاء الاصطناعي موضع إفادة تامة، بل قلت بنباهة الأحمق المغفل: نحن في يوم ما!!!
ابتسم التذكر بالشراهة الموغلة في الغبطة، والتشفي من داء ذاكرتي الفزعة، والمتعبة من اليقظة المستديمة. كنت حينها لا أزال أُرتق العلاقة بين ذكرياتي الماضية، وذاكرتي الحاضرة، لكي يتسنى لي التذكر حين أمسي لفراشي مساء أني أضعت يوما من حياتي الفانية.
في حديث مُنعش بالمنبهات التنشيطية قالت ذاكرتي: لا تسرع (يا أنا) في خطى الهرولة والجري نحو خط النهايات، فكل ما في الغابة يسقط فريسة الموت نتيجة السرعة والتسرع في اتخاذ القرارات المربكة!!! لا يمكنك (يا أنا) إيقاف عقارب الساعة في الماضي، والبكاء على الأطلال المهشمة، وبيت الحبيبة التي تسللت ليلا من فراشك هروبا، ورحلت في صبح النفعية والانتهازية بعيدا.
حين رأيت القمر ليلا يتشكل إبداعا فنيا مع الغيوم الداكنة المتقطعة، فرحت من تلك الأشكال المتموجة، ومن نوعية رسومات حيوانات الظل البيضاء، ومن إنس التحكم في رقاب العباد بالنياشين المرتخية.
كنت في كل مرة أُحس بالخوف وأتراجع الخطى وراء من رسم الدب الأسود، لكني أبيت أن أسقط أرضا للتمويه والتخفي في عدة مرات، مادام الغول الفتاك يربح النزال عند الفرار ويزيد من سرعته في ركض الصيد.
في ليلة القمر القريب من الأرض السفلية، يموت الشر ليلتها وراء السد العتيد، ولم يقدر لا (يَاجُوجُ) ولا (مَاجُوجُ) من نقب قطر حديد ذي القرنين. فلعنة الحقيقة ليلتها بات بادية، وبلا ماكياجات، إنه يوم نهاية التخمين والتفكير في أي يوم نحن؟ مادامت الأيام تتناسخ بالثبات ونحن بالتحول نتغير. فمن كان يضع الأقنعة البلهاء ليلتها، قد يماثل في الأسطورة الوُحوش الآدمية من الأكلة لحوم البشر في يوم الاستيقاظ على نور شمس حارقة.
***
محسن الأكرمين

العمل الإبداعي هو ذاك القادر على اختراق جدار الصمت وعلى الولوج إلى قلب المتلقي وأفكاره مهما كانت وتحريض السؤال أياً كان
نحن كائنات حية وحركية وقودها المشاعر ومكبحها عقل واع ومدبر وماهر غياراتها بالمجمل تشاركية.. فإن كان الحدس موجهاً فهو وليد إلحاح معند للذاكرة حتى وإن استعصى القبض على أسبابه.
الجمال الداخلي هو جدار طاقي يحمينا من شرور أنفسنا وشرور العالم من حولنا وهو يوجهنا لتفريغ الشحنات الإنفعالية عبر أعمال إبداعية وأنشطة إنسانية بناءة.
و في مضمار التشكيل أقول:
العمل التشكيلي الذي يستوفي شروطه هو ذاك الذي يحقق التوافق ما بين قيمه التعبيرية والجمالية فلا وجود لقيمة فيه بعيداً عن الأخرى ولا يمكن أن يرقى ذاك العمل لمستوى الإبداع إن لم يستوف جميع مقوماته..
في التلقي
اللوحة التشكيلية خاضعة للمؤثرات اللحظية المرتبطة بالظروف الداخلية والخارجية (النفسية - والجسمانية). وهو خاضعة لتلك المؤثرات ذاتها لحظة التلقي المؤثرات المحيطة بالمتلقي. وهذا يغني العمل لتتنوع وتتعدد القراءات بعدد من مرَّ على اللوحة من زوار.
أنا كفنان إن لم تكن لي رؤيتي وفلسفتي الخاصة بالحياة فإن أية رؤية فنية أدعيها هي محض استعارة غير نابعة من الذات وبالتالي فهي لا تحمل أية خصوصية الإبداع هو رسالة موجهة لعالم آخر ولزمن آخر قادر فك شيفرته واللوحة الإبداعية لا يمكن قياسها سوى من خلال الدائرة الأكثر اتساعاً ومن خلال مساطر قادرة على قياس ما يتمتع به العمل من فرادة وخصوصية وقدرة على التجدد والإدهاش.
بذور العمل الإبداعي لا يمكن أن تسقى عبر المنافسة فأنت كفنان حالة فريدة لا يمكنك أن تنافس غير ذاتك ومن خلال ذاتك المتواصلة مع طقوس العمل الخاصة بها.
أما المنافسات والمسابقات فلا أساس لها في التشكيل وأعتقد أن من كرسوا جائزة أفضل عمل وأغلى لوحة وغيرها كانت غايتهم محاولة تضخيم وتعظيم فنان على حساب آخرين.
وهي محاولات لتحطيم وإلغاء الإبداع الحقيقي عبر تكريس الانتباه لما هو دون.. وأنا لا أعمم هنا.. تقييم العمل الفني مهمة ليست سهلة وتحتاج لناقد تشكيلي قادر على سبر أغوار العمل والكشف عن القيم الابداعية فيه والأهم من هذا وذاك قادر على تبرير خياراته للعلن وبكل شفافية.
الأطفال أكثر قدرة على تقييم الأعمال الفنية وأعتقد هذا لسببين أولهما أن الطفل يستند لانطباعه الأول في الحكم ويعبر عن رأيه بدون خوف ودون أن يكون تابعاً لأية جهة.. ثانيا الطفل يطلق آراءه بعفوية وتلقائية فهو غير مؤدلج أو محاصر بذاك الكم الهائل من المعلومات المشوشة.
هناك اتهام يصر عليه البعض من غير المواكبين وغير القادرين على استيعاب ماهية الفن ومفهومه المتبدل عبر الزمن يلخصه سؤالهم الدائم لماذا أغلب الفنانين الشباب يصرون على تقديم أعمال لا يفهمها أغلب الناس؟.
والحقيقة هو ليس إصراراً بقدر ما هو استيعاب للتجربة التشكيلية منذ بداياتها وحتى الآن وهو شعور ذاتي وضمني بالإشباع منها وهو وعي تام لمفهوم الإبداع وبالتالي فهم أبناء زمنهم ... من تلك التراكمية تتشكل رغبتهم العارمة في الاختلاف وترك أثر غير مسبوق للأجيال القادمة.
هم يحرقون المراحل وقد استوعبوها في مخيلتهم قبل هذا.. ثم ماذا.. تأخذهم تجاربهم لأماكن غير مألوفة. تجاربهم هذه تحتاج لزمن كي تنضج ومن ثم تعرض.. هي تحتاج أيضاً لمتابعة حثيثة من قبل قارئ أو متلق مهتم وأكثر انفتاحا. تلك هي سمات الإبداع الحقيقي فهو دائما وأبداً سابق لزمانه.
ووقع العمل تقرأه في عيون المتلقي قبل أن تلمسه في أسئلته وعباراته العفوية والسؤال الأكثر وضوحاً ودلالة على ما ذكرت (عملك جميل ومميز.. شيء ما يشدنا إليه لا نعرف ما هو.. لكننا لم نفهم شيئا فهلّا شرحت؟!!).
ربما اعتاد المتلقي أعمالاً مقاربة للواقع أو محشوة بالكثير من الأفكار لذلك كان يطلب دائماً وأبداً الشرح والحقيقة أن التشكيل كان ولايزال نخبوي يتطلب متابعة دائمة ولا يمكن اختصاره في إجابة.. ولكن يبقى السؤال هو المفتاح.
وتبقى الإجابة دوماً: العمل الإبداعي هو ذاك القادر على اختراق جدار الصمت وعلى الولوج إلى قلب المتلقي وأفكاره مهما كانت وتحريض السؤال أياً كان.
***
الفينيق حسين صقور

صَدَرَ الجُزْءً الثَّانِي لِ"حَيِّ بْن يَقْظَانَ: المَتَدَبِّرُ الَّذِي تَعَلَّمَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ" عَنْ دَارِ فَضَاءَاتِ لِلنَّشْرِ وَالتَّوْزِيعِ الأُرْدُنِيَّةِ، فِي اِنْتْظَارِ الجُزْءِ الثَّالِثِ وَالأَخِيرِ، وَذَلِكَ فِي بَدَايَةِ سَنَةِ (2026)، بِحَوْل اللهِ تَعَالَى. وَالكِتَابُ الشِّعْرِي الصَّادِرُ هَذِهِ السَّنَةِ يَضُمُّ بَيْنَ طَيَّاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ (544) صَفَحَةٍ مِنَ الحَجْمِ الكَبِيرِ.
وَهَذَا مُقْتَطَفٌ مِنْ نَصِّ الكِتَابِ:
بَاتَ الحَفِيُّ كَئِيباً كَلَيْلِهِ، وَقَلِقاً فِي وَضَحِ نَهَارِهِ المُرْتَبِكِ.
مَا عَادَتِ الكَيْنُونَةُ آيَةَ اِعْتِقَادِهِ، وَمَا عَادَتِ البُسْرَةُ تَتَفَتَّقُ عَنْهُ وُعُورَةُ المَعَالِيج،
وَمَا عَادَ يَقِينُهُ يُرْعِبُهُ، وَمَا عَادَ شَكُّهُ يُحَيِّرُهُ، وَمَا عَادَ يُقْنِعُهُ شَيْءٌ،
وَمَا عَادَ يَرَى فِي [الظَّاهِرِ] بَسَاطَةَ التَّسْلِيمِ،
وَلاَ فِي [البَاطِنِ] تَوَاطُؤَ التَّنَاوُشِ المُشْرَئِبِّ فِي رِحَابِ التَّأْوِيلِ.
حَشْدٌ مُكْتَظٌّ بِأَطْيَافِهِ، وَالأَفْيَاءُ أَطْرَافُ الغَيْبِ، فِيمَا المَغِيبُ سِيرَةُ الشَّفَقِ، حَيْثُ بَاتَ النِّدَاءُ وَشْماً عَلَى ذَقَنِ الطَّنَسِ، ثُمَّ مَا بَرِحَ الوُجُودُ أَكْثَرَ وُضُوحاً مِنْ مَرَايَا السَّحَرِ. هَا هُوَ العَاطِسُ مَارِجُ الغُشَاشِ، تَرَاهُ يَتَهَجَّى مَقَالِيدَ البَرِيمِ الصَّارِمِ، عِنْدَمَا يَشْرَعُ خَفَقَانُ الرَّأْمَةِ فِي صَلاَةِ الإِسْرَاءِ، حِينَمَا يَتَهَيَّأُ الزَّاهِلُ مِشَارَ المُجُجِ، وَتَخُوضُ الآصِرَةُ مَجْرَى السَّلَفِ الصَّالِحِ، رَغْمَ أَنَّ السُّلاَلَةَ سَيْلُ المَسَالِكِ، مِثْلَمَا هُوَ الوِثَاقُ يَرْمِي جِعَارَهُ فِي شَرَكِ الدُّجَى، وَمَا فَتِئَ الحِصَارُ يُرَتِّبُ خَرَائِطَهُ فِي نُدُوبِ الأَسْرَى، وَظَلَّ القَهْرُ مُقْرِفاً فِي غَبْرَائِهِ، يَقْتَفِي صَهِيلَ القِفَارِ الفَاقِرَةِ، وَأَضْحَى الهَبُوغُ قَطْرَ اللَّيَالِي الغَابِرَةِ فِي أَسْفَارِ المَقَامَاتِ، وَصَارَتِ اليَقَظَةُ أُحَاحَ السُّؤَالِ الفَاتِرِ، وَتَلاَشَى الهَشِيمُ فِي مَمْشَى الجَعْفَرِ الحَائِرِ، وَسَاحَ زَغَبُ الزَّغْرَبِ فِي أَعْطَافِ الخَدِيرَةِ، وَاِكْتَسَحَ الرِّيشُ فِرَاءَ النِّعْمَةِ، وَأَشْرَقَ المَدَى عَلَى عَبِيرِ عَبَق العَفِيرِ وَالزَّعْتَرِ، وَانْشَرَحَتِ الرُّوحُ فِي قَدَعِ العَبْرَةِ المُتَحَجِّرَةِ، وَرَاحَ الصَّمْتُ يَلْتَفُّ حَوْلَ طَوْدِ المَعْبَدِ القَابِعِ فِي مَكْمَنِ رُطُوبَتِهِ، وَتَنَاثَرَتِ التُّرَبُ فِي ضَوْعِ الأَضْرِحَةِ المَشْفُوعَةِ بِدِيبَاجِ القَشِيبِ، وَمَاجَ الحَفِيرُ فِي قَرَارِ الأَغْوَارِ الشَّارِدَةِ، وَفِي مُنْتَهَى شَاهِدَةِ الجَدَفِ.
***

 

في الذكرى العاشرة لإصدار ديوان حليب وعسل، تعود فريندا جاجوتا لاستعراض حليب وعسل لروبي كور.
بقلم: فريندا جاجوتا
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***

أصبح الأمر قهريًا في هذه المرحلة: عندما يحتوي ملصق سيارة على الكثير من الفواصل ("ابني / خدم في / الجيش")، أو عندما يرسل صديق لي رسالتين أو أكثر تحتويان على نصوص مثيرة للجدل بشكل خفيف عن ليلته ("من الجيد التقاط صورة عارية / في حدث فاخر")، يذهب عقلي مباشرة إلى "روبي كور". أصبحت الشاعرة مشهورة منذ 11 عامًا عندما نشرت مجموعتها الشعرية الأولى حليب وعسل بنفسها في سن الثانية والعشرين. وفي الوقت نفسه تقريبًا، انتشر مشروع مدرسي آخر لها، وهو مجموعة من الصور التي تُظهر بقع الدورة الشهرية الخاصة بها بفخر، بعدما حاولت إنستغرام فرض رقابة على الصور. لفت عملها انتباه الناشر المستقل أندروز مكمييل، الذي أعاد نشر حليب وعسل في عام 2015. وفي غضون عام، تم بيع أكثر من نصف مليون نسخة منها - ما يعادل تقريبًا 17 مرة العدد الذي يعتبره الناشرون ناجحًا لكتاب شعر - وشاركت الصور في العديد من حسابات إنستغرام حول العالم. اليوم، تجاوزت مبيعات الكتاب الستة ملايين نسخة، وأُطلق عليها لقب "منقذة" و"مخربة" الشعر المعاصر.
عملها سهل الانتشار في الميمات لأنه منتشر، ميكانيكي، وجاد في ذاته: اقلب إلى أي صفحة وستجد قصيدة تتبع القالب التالي "كنتُ X لكنك [كنتَ Y شيء لا يستطيع التقدير]" ("كنتُ موسيقى / لكنك قطعت أذنيك") أو قصيدة عن شعر الإبط تُقال بجاذبية رغبة محتضرة. أصبحت الإشارة الهزلية إلى عملها اختصارًا بين جيل الألفية المهووس بالإنترنت لنوع معين من الوعي السياسي: فراغ سياسة الهوية النيوليبرالية، والطريقة التي يبالغ بها الإنترنت في تضخيم غرورنا بينما يعفن عقولنا.
رؤية كور للمستقبل لا يمكن إنكارها. صممت عملها ليتناسب مع إنستغرام، المنصة التي ستصبح المسيطرة على انتباهنا، والتي ستؤثر في معايير جمالنا وقراراتنا الانتخابية، وتعمل كوسيلة رئيسية لتمثيل الذات لدى الشباب حول العالم. كما تحدثت بصراحة عن الاعتداء الجنسي وحرية الجسد قبل عدة سنوات من حركة #أنا_أيضًا وقضية الاعتداء الجنسي لجين جوميش في كندا التي أظهرت مدى انتشار العنف الجنسي وكيف كانت النساء بحاجة شديدة لمشاركة قصصهن حول ذلك. لم تكن أول شاعرة على إنستغرام، لكنها ربما كانت الأكثر نجاحًا في تعبئة سياسة الهوية لتتناسب مع الطريقة التي بدأنا في التواصل بها في عام 2014، وفي تقديم شعور للشابات بالانتماء إلى مجتمع عبر الإنترنت مرتبط بتهميشهن.
لكن رؤية كور المستقبلية لا تشير بالضرورة إلى عمل عالي المستوى. في العقد الماضي، أصبح من الواضح بشكل كبير أن الإنترنت يدمر قدرتنا على التركيز، ويقلل من قدرتنا على التعامل مع الآراء الدقيقة، ويشجعنا على رؤية العالم من خلال عدسة الذات على حساب المجتمع. عند قراءة الإصدار الجديد من حليب وعسل بمناسبة مرور عشر سنوات على نشره، من الواضح أن عمل كور لا يمكن فصله عن الآلية التي جعلتها مشهورة، وهي آلية لا تفعل الكثير لدعم التنظيم المجتمعي الحقيقي أو التغيير السياسي الجوهري. الإيديولوجيات السياسية التي تروج لها كور تتعارض جوهريًا مع المنصة التي تختار مشاركتها عليها.
في عام 2019، وصف رومان علام في ذا نيو ريبابليك كور بأنها شاعرة العقد بسبب قدرتها على تكييف عملها مع الإنترنت. يلاحظ علام أن كور تكتب نثرًا مقتضبًا ومضغوطًا، "جزئيًا لأنها تفكر ضمن حدود شاشة الهاتف الذكي." وهو افتراض تؤكد عليه كور في الطبعة الجديدة من الكتاب، حيث تشارك التنسيقات الفنية المختلفة التي جربت نشرها على تمبلر ومن ثم إنستغرام—مثل مقاطع الفيديو الموسيقية، وملفات الصوت، والنصوص المباشرة—قبل أن تستقر على قصيدتها المميزة التي تتكون من خمس إلى ست أسطر مصحوبة برسمة رسمتها كور بنفسها.
بالنسبة لكور، يمثل الإنترنت أيضًا شعورًا بالأصالة. كانت عازمة على التحكم في رؤيتها (التي تعرفها، في إحدى المقابلات، بتصميم الغلاف وحجم ولون الورق). كان النشر الذاتي، ثم الحصول على الاهتمام من مشروع أصبح فجأة ويُعرف بشكل مستقل، وسيلة لكور للوصول إلى قرائها مباشرة وبناء سمعة خارج البيروقراطية والهرمية للنشر التقليدي. هذه الطريقة التي تشبه "المنتج المحلي من المزرعة إلى المائدة" إلى جانب اللغة المباشرة التي تستخدمها أدت إلى الثناء عليها بأنها جعلت الشعر في متناول جيل جديد من القراء.
لكن من الصعب تجاهل كيف أن نثرها المبسط، الذي يُقصد به أن يُقرأ ويُستهلك بسرعة قبل أن يجذب إشعار على الشاشة انتباه القارئ بعيدًا، يؤدي أيضًا إلى تبسيط الإيديولوجيات السياسية والطموحات الفنية. في إحدى قصائدها الشهيرة، تؤكد أن "نسائي" جميلات مثل "النساء في / بلدك". تعترض كور على معايير الجمال التي جعلت النساء ذوات "الجلد بلون الأرض" و"العيون مثل اللوز" يشعرن بأنهن أقل جمالًا من نظيراتهن البيضاوات. ومع ذلك، بعد بضع صفحات، في قصيدة فيروسية أخرى، تكتب: "أريد أن أعتذر لجميع النساء / اللاتي دعوتهن جميلات / قبل أن أدعوهن ذوات عقول أو شجاعة." من غير الواضح إذا كانت تشعر أن جميع النساء جميلات، أو إذا كانت تعتقد أنه يجب علينا تحدي الجمال كعلامة على القيمة تمامًا. ولزيادة الأمر تعقيدًا، فإن اللغة التي تستخدمها لوصف النساء من ذوات البشرة البنية، وخاصة وصف "العيون مثل اللوز"، قد تم انتقادها على نطاق واسع لأنها تفرط في تمييز ملامح النساء الآسيويات.
في مكان آخر، في قصيدة عن شعر الجسم، تمارس كور نوعًا ضعيفًا من "الفكر النسوي الاختياري" الذي يبرر مشاعر قرائها الفردية المتنوعة على حساب غياب الأيديولوجية السياسية الصارمة والمتسقة. في قصيدة بعنوان "أنت تنتمين لنفسك فقط"، تكتب: "إزالة كل الشعر / من جسمك أمر مقبول / إذا كان هذا ما تودين القيام به / كما أن إبقاء الشعر / على جسمك أمر مقبول / إذا كان هذا ما تودين القيام به." من الناحيتين الأسلوبية والسياسية، تجعل المنطق الدائري الكلمات بلا معنى. إنها قصيدة تنتهي حيث بدأت تمامًا، لا شيء مهدد، لا شيء متعلم: أي قرار ممكن أن يتخذه القارئ قد تم تقنينه، سواء كان يقوض التوقعات الأبوية بشأن شعر الجسم أو يلتزم بها بدقة. تتخيل كور يوتوبيا زائفة حيث توجد خياراتنا في فراغات، غير متأثرة بالضغوط المجتمعية وغير قادرة على تجسيد التوقعات الإشكالية.
في أحد الأقسام اللاحقة من الإصدار الجديد، تركز كور على الشفاء، الذي تطرحه كأمر لا مفر منه بدلًا من كونه عملية تتطلب على المستوى الشخصي جهدًا كبيرًا، وعلى المستوى الاجتماعي تحتاج إلى تقليص أو إنهاء القمع الهيكلي. في هذا القسم، تذكر القارئ أنه لا يمكنه أن يحب شخصًا آخر إلا إذا تعلم أن يحب نفسه أولًا. إنها فكرة تهدف إلى تشجيع الناس، وخاصة النساء اللاتي تم تهيئتهن للوجود في خدمة الآخرين، على إعطاء الأولوية لأنفسهن. لكنني متشكك في التصنيفات الواضحة التي تخلقها هذه البلاغة بين "الأشخاص الذين يحبون أنفسهم" و"الأشخاص الذين لا يحبون أنفسهم." إنه تمييز صارم وعقابي وهرمي يتجاهل حقيقة أن الشفاء ليس خطيًا أو حاسمًا. كما أنه يضع كامل العبء على الفرد دون أن يعترف بأن الصدمة يمكن أن تكون مستمرة في عالم لا يزال يسبب الأذى.
تركيز كور على الترتيب والنظافة—من خلال تصنيف الأشخاص في هذه الفئات الإرشادية، والبحث عن نهاية نظيفة وسريعة لكل فكرة أو سرد—يضر حقًا بالفوضوية الجذابة للحياة، بينما يتجاهل أيضًا العمل المتواصل الذي يتطلبه كل من النمو الشخصي والمقاومة. هي ترى الألم والشفاء كمرحلتين حياتيتين متميزتين يمكن القفز بينهما، وتتغاضى عمومًا عن عملية معالجة الصدمة أو تغيير الأنظمة القمعية.
وجدت نفسي مفتونًا بالهمسات التي تحمل الضعف والحيرة التي ظهرت في قصيدة "الانتماء"—"ليس لدي أية فكرة إلى أين أنا ذاهب / في معظم الأيام أنا غريب عن نفسي"—فقط ليتم سحق عدم اليقين قبل أن يتم استكشافه بشكل صحيح. بنهاية القصيدة، بعد بضع أسطر فقط، تكتب: "أنا في المكان الذي من المفترض أن أكون فيه"، معيدة استخدام اختيار الكلمات الذي يمكن أن تجده، تقريبًا حرفيًا، في أغنية من فيلم ديزني الأصلي كامب روك لعام 2008.
هناك حزن وألم غير محلول في الكتاب، خاصة في القسم الذي يحمل عنوان "الألم"، الذي يتحدث عن الاعتداء الجنسي والصدمات المتوارثة في عائلة كور. القصائد قد تكون غامضة بشكل مربك: "الفكرة أننا / قادرون جدًا على الحب / لكننا لا نزال نختار / أن نكون سامين." وأحيانًا، تروي القصائد قصة تمتد لعقود دون أن تقدم الكثير من الداخل النفسي: "عندما تفتح أمي فمها / لإجراء محادثة على العشاء / يدفع والدي كلمة 'اسكت' / بين شفتيها ويخبرها أن / لا تتحدث أبدًا وفمها ممتلئ / هكذا تعلمت النساء في عائلتي / أن يعشن وفمهن مغلق."
لكن "الألم" هو أيضًا القسم الذي يتم فيه تحديد مرتكبي العنف بأسمائهم بشكل أكثر تحديدًا. هنا يظهر شعور كور القوي بالاقتناع الأخلاقي، ولغتها المباشرة وغير المتراخية، بشكل أكثر تأثيرًا. كور وأنا في نفس العمر. عندما أتذكر بداياتي في العشرينات، عندما تم إصدار الحليب والعسل، أشعر بالانزعاج من كم المعلومات التي كانت تفتقر إليها أنا وأقراني بشأن الاستقلال الجنسي. كثير منا لم يكن يعلم أن الاعتداء الجنسي قد يحدث في العلاقات، أو أننا مسموح لنا بتغيير آرائنا حول ما نريد في أي لحظة. كانت قصيدة تقول ببساطة "الجنس يحتاج إلى موافقة شخصين" ستكون بالفعل بمثابة كشف. لا أعتقد أن الملايين من القراء الذين وجدوا الراحة في أعمال كور في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين قد تم خداعهم تمامًا من خلال تسويق إنستغرام—بعضهم على الأرجح شعروا بشعور من الراحة لأن كاتبًا ما كان يتصدى بقوة وببساطة للرسائل الخفية والمنتشرة التي تقول إن أمان المرأة له وزن أقل بكثير من رغبة الرجل. كما أن وضوح كور الأخلاقي الثابت برز مؤخرًا: في عام 2023، عندما رفضت دعوة لحضور فعالية ديوالي في البيت الأبيض احتجاجًا على تواطؤ إدارة بايدن في الإبادة الجماعية في غزة. كانت خطوة بسيطة نسبيًا، لكنها قوبلت بتناقض صارخ مع لا مبالاة العديد من أقرانها.
حقيقة أن الحليب والعسل كُتب مع وضع وسائل التواصل الاجتماعي في الاعتبار تعني أن القصائد يمكن أن تقف بمفردها. الكتاب مُنظم في أقسام موضوعية، لكن القصائد الفردية تكون في الغالب مكتفية ذاتيًا. تقرأ وكأنها تغريدات تتجول عبر خلايا التغريدات الخاصة بك—ربما منظمة بيد خفية من خوارزمية، لكن غير مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسرد أطول. كتبت كيارا جيوفاني في 2017 أن هذا الغياب عن الترابط يسمح للعمل أن يُفصل عن سياقه ويستهلكه مجموعة واسعة من القراء، لم يتحدَّ أي من وجهات نظرهم بشكل كبير: النساء البيض، اللاتي لم يكن عليهن التفاعل مع المرات القليلة التي تكتب فيها كور بشكل صريح عن العرق، رأينها كـ"قديسة حزن جيل الألفية"، كما تكتب جيوفاني، في حين كانت النساء من ذوات البشرة الملونة يرونها كإجابتهن على بياض صناعة النشر المُغترب.
ومع ذلك، على الرغم من أن أعمالها تركز في الغالب على الذات ولا تثير المجتمع إلا بأوسع معانيه، فإن كور تكتب عن أهمية بناء المجتمع في الكتاب: "أحيانًا يتطلب الأمر أزمة لنتذكر / أن حياتنا تعتمد على بعضنا البعض / سوف ننتهي إلى لا مكان / إذا حاولنا أن نفعل ذلك بمفردنا." هي تعتبر جميع الأشخاص الذين شاركوا في إنتاج الحليب والعسل جزءًا حيويًا من نجاح الكتاب. في قسم استرجاعي جديد من الحليب والعسل بعنوان "الرحلة"، تشكر كور جميع من شاركوا في العمل، من المطابع إلى بائعي الكتب إلى "الناس الذين يحملون الصناديق الثقيلة إلى المصانع" إلى "سائقي الشاحنات الذين يوصلون الورق". تكتب: "أحبكم. في هذه الحياة، نجاحاتنا ليست ملكًا لنا؛ إنها تراكم ما يمكن لمجموعة من الأشخاص القيام به عندما يؤمنون بشيء." وفي مقابلة في 2017، أخبرت ذا كت: "الأمر حقًا يتطلب مجتمعًا هائلًا [...] بعض الرجال أو النساء العشوائيين الذين يقودون هذه الشاحنات يساعدون ملايين الأشخاص على أن يكون الكتاب في أيديهم."
بالطبع لا ضرر من الاعتراف بكل الأشخاص الذين يشاركون في إنتاج وتوزيع كتابها. وذلك الشعور الفوري بالانتماء الذي تشعر به مع سائقي الشاحنات تحديدًا منطقي على المستوى الشخصي، نظرًا لأن والدها كان سائق شاحنة. لكن في عملية كبيرة مثل تلك المطلوبة لتوزيع ملايين النسخ من الحليب والعسل، أتساءل كيف تعمل فكرة المجتمع التي تثيرها. هل يشترك جميع العمال المشاركين في صنع كتابها بالتساوي في أرباحها وشهرتها؟ كما أنها كانت قد نشرت الكتاب في البداية بنفسها عبر منصة CreateSpace من أمازون. وفي نفس العام، أفادت صالون أن الشركة استخدمت تقنيات المراقبة لمراقبة موظفيها، وفصلت أحدهم لأنه "أضاع" عدة دقائق من الوقت أثناء ما كان على الأرجح نوبة عمل امتدت 11 ساعة. هل كور في مجتمع مع هؤلاء العمال أيضًا؟ هل سيقولون أنهم في مجتمع معها؟ هذا بالطبع معيار صعب على أي شخص أن يلتزم به، لكن هذا هو المعيار الذي اختارته كور للإشارة إليه في طريقة تسويقها لعملها. هذه الأسئلة أيضًا تتعلق بالأخطاء الناتجة عن استدعاء مجتمع غير معرف بشكل دقيق.
على مدار العقد الماضي، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الإنترنت يعزز التعبير عن الذات على حساب الترابط الحقيقي. كتبت جيا تولينتينو في مقالها عام 2020 عن الإنترنت أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يشعرون بالحاجة الملحة للنشر، لأنه السبيل الوحيد للظهور على الإنترنت. نحن نشجع خصيصًا على مشاركة المحتوى الذي يجعلنا نظهر وكأننا جيدون موضوعيًا: أفضل زوايانا، أكثر الروايات إطراءً عن أنفسنا، الرسوم البيانية المنشورة بسرعة والتي تُعرض على أنها عمل سياسي ذو معنى. في الوقت نفسه، فإن الخطاب المعتمد على مساعدة الذات والذي يتم مشاركته معنا مصمم لإرضاء أكبر جمهور ممكن. نحن مغمورون دائمًا بنصائح من مدربي الحياة الافتراضيين الذين يفترضون أننا جميعًا قد تعرضنا للأذى بنفس القدر، بغض النظر عن من نحن أو ما فعلناه فعلاً. هؤلاء المتحدثون يشجعوننا على وضع حدود حاسمة مع أحبائنا، للتفكير أكثر فيما نُستحقه بدلاً من ما ندين به للآخرين، وقطع العلاقات مع أي شخص يظهر خلافًا. عندما كنت أمر بعملية انفصال سيئة بشكل خاص، كنت أرى مقاطع ريلز من معالجين نفسيين مزعومين يؤكدون لي أنني أنا الجائزة وشريكي السابق هو المشكلة. كان هذا يساعد نوعًا ما—حتى أدركت أن شريكي السابق ربما كان يتلقى نفس الفيديوهات عني.
كما أن مقاييس العنف قد تم تسطيحها، وتم تغطية الديناميكيات السلطوية. مصطلحات مثل "العمل العاطفي" كانت تُستخدم سابقًا لوصف الضغط الذي يشعر به العامل لأداء اللطف في صناعة مثل خدمة الطعام، حيث يرتبط مقدار المال الذي يكسبه بشكل غير عادل بكيفية إعجاب العملاء به. اليوم، تم تحريف هذا المصطلح على الإنترنت، وأصبح يُستخدم لوصف موقف تافه مثل الرد على رسالة نصية من صديق عندما لا ترغب في ذلك. هذا التغيير في التعريف يفهم بشكل خاطئ جوهر أهمية المصطلح: بينما يقوم رئيس العمل الذي يطلب العمل العاطفي بإساءة استخدام سلطته على العامل، فإن صديقًا يطلب منك الرد على رسالته النصية من غير المحتمل أن يكون لديه القوة لتعطيل قدرتك على دفع الإيجار أو سحب رعايتك الصحية إذا لم ترد. ورغم أنه لا ينبغي أن يكون هناك توقع بالتبادل العاطفي في مكان العمل، إلا أنه أحيانًا يجب أن تكون هناك مسؤولية عاطفية تجاه أحبائنا.
على مدار العقد الماضي، اتسع الفجوة بين كيف نرى ونقدم أنفسنا (مثاليين) وكيف نرى بقية العالم (قادرين على إلحاق الأذى بنا في أي لحظة) إلى درجة أن بناء المجتمع المستدام يبدو صعبًا. لا يوجد إطار للمساءلة الحقيقية عندما يمكن للمعتدين على العنف أن يسرقوا لغة (الحدود وحب الذات) التي قد تكون مفيدة فعلًا للناجين من العنف. ولا يوجد حافز للعناية ببعضنا البعض عندما يتم طمأنة الأكثر امتيازًا بيننا بأن الواجب الوحيد المستدام لديهم هو العناية بأنفسهم.
في إحدى القصائد، تكتب كور: "أنت / تحب نفسك / هي الثورة"، والتي، إذا نُشرت على إنستغرامها، يمكن أن يقرأها مدير تنفيذي يستغل عمل عماله، أو امرأة شابة تعرضت للاعتداء الجنسي في حفلة تابعة لإحدى الجمعيات الطلابية، أو فتاة تعيش في بلد يتم قصفه بأسلحة صنعها شركة المدير التنفيذي. بسبب موقع ولادتهم أو جنسهم، تم حرمان بعض هؤلاء النساء من الوصول إلى الحقوق الأساسية: الرعاية الصحية، الطعام والماء النظيف، والقدرة على العيش بسلام حتى يمتن من أسباب طبيعية. تأمين الوصول إلى هذه الحقوق يتطلب تغييرات جذرية على مستوى النظام: إنهاء حياة الجمعيات الطلابية وثقافة الاغتصاب بالإضافة إلى الاستعمار الاستيطاني المدعوم من الولايات المتحدة، على سبيل المثال.
هذه التغييرات كبيرة وأيديولوجية لدرجة أنه يمكننا أن نطلق عليها ثورات بحق. لكن العمل الهائل للوصول إلى هناك—التعبئة الجماهيرية، تعليم الناس أن تحررنا مترابط، والمطالبة من المدير التنفيذي أن يوقف سلوكياته الاستغلالية—لا يمكن أن يتم بمفرده. كور ليست مسؤولة عن منحنا الدليل لتغيير العالم، ولكن عندما تدعي أن حب الذات هو بداية ونهاية الثورة، فإنها تساهم في خنق خيالنا الجماعي. هي تخبرنا أن السعي وراء مشاعر السعادة الفردية والزائلة مع الحفاظ على الوضع الراهن هو كافٍ. تقول كور ذلك أفضل من أي وقت مضى: "تغيير الآخرين / ليس مسؤوليتي / أنا المشروع الوحيد / الذي أحتاج للعمل عليه."
***
...................
الكاتبة: فيريندا جاجوتا / Vrinda Jagota كاتبة مقيمة في بروكلين. لها مقالات في Pitchfork، وNPR Music، وThe Cut، وTASTE، إلى جانب منشورات أخرى.

تعتبر رواية عناقيد الغضب تحفة من أروع روئع جون شتاينبك أو ستاينيك، ولكن شتاينبك كتب أعمال روائية قصيرة وقصيرة جدًا، وهو الشكل الذي لجأ إليه في بعض أعماله ونظر إليه بوعي أكبر، ومع التجريب المستمر جعل هذا الشكل كآنه ملكًا له.بهذا التعبير يصف المحرر جاكسون جيه ـ بينسون لكتاب الروايات القصيرة جدًا لجون شتاينبك، ويرى جيه ـ بينسون، أن الكتابات الروائية المكثفة، القصيرة والموجزة تظهر من أفضل كتابات شتاينبك . تستعرض هذه المجموعة وتنظر إلى ما هو أبعد من التصنيف والنقد الكثير على كتابات شتاينبك وقد تعرضت إلى نقاط القوة والضعف الحقيقية في الأعمال. في هذا يوضح النقاد المساهمين أنه أبدع حتى في الروايات القصيرة جدًا إلا أنها غالبًا ما تم انتقادها لتوجهه في هذا النوع الذي كان غريبًا وكانت بعض الروايات يصل عدد صفحاتها إلى الاف الصفحات، لكن شتاينبك أبدع بعبقرية مذهله في خلق الكثير من العمق والتعقيد في كل أعماله وخاصة التي تميزت بالقصر والإيجاز والتكثيف الشديد.
الإيجاز والقصر لم يمنع أن تتحول بعض أعماله إلى أفلام عالمية: حولت روايته عناقيد الغضب وهي تقريبًا 500 صفحة تعتبر قصيرة في ذلك الزمن، إلا تحولت إلى فيلم شعبي من اخراج جون فورد في 1941.
كما تحول كتابه شرقي عدن إلى فيلم في 1955 من بطولة الممثل جيمس دين.
وأصبح كتاب المهر الأحمر أيضاَ فيلمًا هوليووديًا في 1949 ومرة أخرى عام 1973 من بطولة هنري فوندا.
أورد لكم ملخص الكتاب النقدي وهو متوفر على منصات الكتب الدولية

The Short Novels of John Steinbeck
Critical Essays with a Checklist to Steinbeck Criticism
Book
Pages: 360
Editor: Jackson J. Benson
Contributors: Joseph Fontenrose, Robert Gentry, Anne Loftis, William Goldhurst, Mark Spilka, Howard Levant, Tetsumaro Hayashi, John Ditsky, Peter Lisca, Jackson J. Benson, John H. Timmerman, Michael J. Meyer, Roy S. Simmonds, Charles R. Metzger, Louis Owens, Richard Astro, Carroll Britch, Mimi Reisel Gladstein, Robert E. Morsberger, Clifford Lewis
Subjects
Literature and Literary Studies > Literary Criticism
The Grapes of Wrath is generally considered Steinbeck’s masterpiece, but the short novel was the form he most frequently turned to and most consciously theorized about, and with constant experimentation he made the form his own. Much of the best—and the worst—of his writing appears in his short novels. This collection reviews what has been categorized as the “good” and the “bad,” looking beyond the careless labeling that has characterized a great deal of the commentary on Steinbeck’s writing to the true strengths and weaknesses of the works. The contributors demonstrate that even in the short novels that are most often criticized, there is more depth and sophistication than has generally been
***

حميد عقبي
......................
* وفي هذا رابط خمس روايات قصيرة جدًا للكاتب جون شتاينبك، هذا الكتاب مجاني، نص وصوت
https://archive.org/details/in.ernet.dli.2015.126732/page/n1/mode/2up?view=theater
الخمس الروايات القصيرة جدًا، عدد صفحات الكتاب 547، نتمنى لكم قراءة ممتعة.

ليست تلبانة مجرد قرية في قلب الدلتا، بل هي سِفرٌ ممتد عبر العصور، يحكيه النيل حين يفيض، فيجلب الخير، أو حين يشح، فيختبر صبر أهلها. اسمها ذاته يحمل دلالة على علاقتها بالماء والتاريخ، فـ"تل لبانة" تعني القرية التي نشأت فوق ربوة عالية، احتمت بها من فيضان النيل، وظلت شاهدًا على تقلبات الزمن.
هي مسرحٌ لصراعات الإنسان مع الطبيعة، مع السلطة، ومع ذاته. بين مروجها وأزقتها، تدور الحكايات عن فلاحين بسطاء جابهوا المماليك والعثمانيين، عن متمردين احتموا بالغيطان، وعن رجال حلموا بالهجرة، فابتلعتهم المدن والمهجر، لكن قلوبهم ظلّت معلقة بتلك الأرض.
"تلبانة في ظلال التاريخ"
في الأزمنة الغابرة، كانت تلبانة جزءًا من نسيج الدلتا الخصيب، حيث كانت القوافل التجارية تتوقف على ضفاف الترع، وعاش الفلاحون وفق إيقاع النيل، يحصدون حين يمنحهم الماء، ويجوعون حين يغضب. وفي العصر الإسلامي، أصبحت القرية مجتمعًا زراعيًا متكاملًا، تلتف بيوتها حول المساجد والكتاتيب، ويتوارث أبناؤها الأرض كما يتوارثون الحكايات.
لكن مع وصول المماليك، تحولت القرية إلى ميدان للظلم، إذ أثقلت الضرائب كاهل الفلاحين، وأصبح الوجهاء أدوات بيد الحكام. ثم جاء العثمانيون، ولم يكن حال الفلاحين أفضل، باستثناء ظهور "المطاريد"، أولئك الرجال الذين فروا من بطش الضرائب وتحولوا إلى مقاومين في الخفاء.
في إحدى ليالي الشتاء، جلستُ في حجرة الجلوس في بيتنا، واستمعنا إلى محمد أفندي عقل، ناظر الخاصة الملكية ومن كبار وجهاء القرية، وهو يحكي عن أسطورة "الزير سالم"، الذي يقال إنه مرّ بهذه الأرض، أو أن تلبانة أنجبت رجالًا يشبهونه. تحدّث عن "حسن المطاردي"، أحد أبناء تلبانة، الذي رفض الخضوع، فحمل سلاحه وهرب إلى الوسيات الاقطاعية، يغير على قوافل الحكام، ويسترد بعضًا مما سُلب من قريته. وحين أُلقي بجسده في النيل، لم تمت حكايته، بل بقيت تُروى على لسان الأجيال، كأنها تعويذة تحميهم من النسيان.{تلبانة في العصر الحديث: من الثورة إلى الاغتراب}
حين اندلعت ثورة 1919، كانت تلبانة حاضرة، خرج رجالها يهتفون ضد الاحتلال البريطاني، واحتضنت الحقول الفدائيين الهاربين، في مشهد يذكّر بحكايات المطاريد القدامى. وفي ثلاثينيات القرن، سقط شهداء من تلبانة؛ منهم من ضحى في مواجهة عسكر الهجانة ومن أجل صد تزوير الانتخابات في العصر الباؤد للملكية والقصر. ومع كل موجة من المتغيرات السياسية والحروب الحديثة، ظلت تلبانة تشهد تضحية أبطالها، شاهدة على بطولات لم تُمحَ من ذاكرة الأرض. وبعد سنوات، دخلت القرية في زمن التحولات، بين الإصلاح الزراعي الذي وزّع بعض الأراضي، والهجرة المتزايدة إلى المدن، حيث بدأ شبابها يرون في المصانع وورش القاهرة فرصة أفضل من محراث آبائهم.
لكن التحوّل الأكبر جاء في سبعينيات القرن الماضي، مع موجة السفر إلى الخليج وأوروبا. لم يعد "الحلم" مرتبطًا بالأرض، بل بمغادرتها. صار الرجال يرحلون بحثًا عن حياة أخرى، والنساء ينتظرن أخبارهم عبر رسائل بعيدة، وكأن الزمن قد قسم أبناء تلبانة إلى فريقين: من بقي ليحافظ على الجذور، ومن رحل بحثًا عن ثمار أخرى.
(حين عاد فاروق فهمي إلى تلبانة)
بعد عشرين عامًا من الغربة، عاد فاروق إلى قريته. لم يكن الفتى النحيل الذي غادرها ذات فجر، الي أمريكا بل رجلًا يحمل على كتفيه ثقل السنين.
حين دخل الحارة القديمة، وجدها قد تبدّلت. البيوت الطينية تحولت إلى بنايات رمادية بلا روح، المقهى الذي كان يجمع الرجال لم يعد كما كان، حتى ضفاف الترعة، حيث كان الأطفال يقفزون في الماء صيفًا، صارت مكبًا للقمامة.
سأل عن الشيخ عبد اللطيف ، الحكيم الذي كان يجلس عند باب المسجد، فقيل له إنه رحل منذ سنوات. بحث عن عبد الرازق، صديق الطفولة، فأجابه أحدهم بأنه سافر إلى الخليج ولم يعد.
جلس وحده امام شاطيء الترعة في القرية، يحدّق في الفراغ، يستعيد أصوات الماضي. كاد يسمع هتافات الثورة، وضحكات الفلاحين، وحكايات " المطاريد". شعر بالغربة، لكنه أدرك أن تلبانة ليست مجرد مكان، بل روحٌ تسكنه مهما ابتعد.
في تلك الليلة، وبينما كان القمر ينعكس على ماء الترعة، همس لنفسه:
"التاريخ لا يموت، لكنه أحيانًا يختبئ خلف الجدران."
وفي الصباح، قرر ألا يرحل مجددًا. ولكن كان بين أمرين ترك الاسرة والزوجة في أمريكا والأولاد او ان يعيش مع ذكريات الماضي فقرر الرحيل وثمن الغربة ،،،
***
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري
(من مجموعة قصصية للكاتب)

 

نجد مع هذا المقال غلاف كتاب روايات قصيرة جدا كاملة: أالكاتب الروسي أنطوان تشيخوف والذي تُرجم للإنجليزية ونُشر في يونيو 2004، تجدونه متوفر على منصات عالمية لكتب مثل أمازون، يتكون الكتاب من خمس روايات قصيرة جدا كاملة، تم وصف النوع وجعله على الغلاف، يمكنكم الأطلاع على نص الناشر وسأضع النص باللغة الإنجليزية:

The Complete Short Novels
juin 2004
Édition en Anglais de Anton Chekov (Auteur), Richard Pevear (Introduction, Traduction), Larissa Volokhonsky (Traduction)
Présentation de l'éditeur:
Chekhov, widely hailed as the supreme master of the short story, also wrote five works long enough to be called short novels. The Steppe-the most lyrical of the five-is an account of a nine-year-old boy's frightening journey by wagon train across the steppe of southern Russia to enroll in a distant school. The Duel sets two decadent figures-a fanatical rationalist and a man of literary sensibility-on a collision course that ends in a series of surprising reversals. In The Story of an Unknown Man, a political radical plans to spy on an important official by serving as valet to his son, however, as he gradually becomes involved as a silent witness in the intimate life of his young employer, he finds that his own terminal illness has changed his long-held priorities in startling ways. Three Years recounts a complex series of ironies in the personal life of a rich but passive Moscow merchant, engaging time as a narrative element in a way unusual in Chekhov's fiction. In My Life, a man renounces wealth and social position for a life of manual labour, and the resulting conflict between the moral simplicity of his ideals and the complex realities of human nature culminates in an apocalyptic vision that is unique in Chekhov's work.

لست مترجمًا أدبيًا لكي فهمت من خلال هذا التقديم أن تشيخوف، الذي يُعتبر على نطاق واسع السيد الأعلى لفن القصة القصيرة، كتب أيضًا خمسة أعمال طويلة بما يكفي لتُسمى روايات قصيرة جدًا. مثل عمله"السهب" وبحسب رأي الناشر يراها الأكثر غنائية بين الخمسة الروايات، هذه الرواية هي سرد لرحلة مخيفة لصبي في التاسعة من عمره عبر عربة تجرها الخيول عبر سهوب جنوب روسيا للالتحاق بمدرسة بعيدة. ثم "المبارزة" تضع شخصيتين منحطتين ـ شخص عقلاني متعصب وشخص ذو حس أدبي ـ على مسار تصادمي ينتهي بسلسلة من الانعكاسات المفاجئة. وفي "قصة رجل مجهول"، يخطط راديكالي سياسي للتجسس على مسؤول مهم من خلال العمل كخادم لابنه، ولكن مع تورطه تدريجيًا كشاهد صامت في الحياة الشخصية لصاحب العمل الشاب، يجد أن مرضه المميت قد غير أولوياته التي كان يحتفظ بها لفترة طويلة بطرق مذهلة. ورواية "ثلاث سنوات" تسرد سلسلة معقدة من المفارقات في الحياة الشخصية لتاجر موسكو الثري ،لاحظ الناشر أن استخدم الزمن كعنصر سردي جاء بطريقة غير معتادة في أعمال تشيخوف. في رواية "حياتي"، يتخلى رجل عن الثروة والمكانة الاجتماعية من أجل الحياة في العمل اليدوي، ويتصاعد الصراع الناتج بين البساطة الأخلاقية لمثله العليا والتعقيدات الواقعية للطبيعة البشرية إلى رؤية مفجعة وفريدة من نوعها في أعمال تشيخوف.
اعتقد هذا الكتاب لم يترجم إلى العربية، وهذا النموذج من ضمن أكثر من عشرين نموذج لكتب تم وضع مصطلح رواية قصيرة جدًا على أغلفتها، مصطلح (رواية قصيرة جدًا) ليس أكتشافًا عربيًا تم في 2015 ولا في 2019 ولا في 2023، أن واحد من الذين كانوا يجهلون بالمصطلح وحضرت ندوة لناقد عرافي مقيم بالسويد وصفقت له كما صفق الآخرين وكانيؤكد أن المصطلح ملكية فكرية سجلها في السويد وبعد ذلك بحثنا ووجدنا كاتب عراقي مقيم بالعراق نشر رواية في 2019 وكتب على غلافها (رواية قصيرة جدًا)، نظمنا ندوات نقدية لنغوص في هذا النوع وليس لمنحة براءة اختراع لكن الرجل أصبح يمنح نفسه لقب الرائد ومخترع الرواية القصيرة جدًا ولا يسمع ولا يرى إلا نفسه، المهم لا يمكننا أن نتمسك بجهلنا من أجل فلان المخترع والرائد، الألقاب المزيفة والفخمة توجد بالأطنان على منتديات كثيرة على فايسبوك، يمنحون شهادة دكتوراة، حتى أن سيدة اسمها الحاجة عيشة تمنح شهادات دكتوراة وتعين سفراء وصاحبنا المخترع يمكنه التواصل معها وهي سترحب به، أما المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرحلا نمنح هذه الألقاب وقد نرتكب أخطاء، نسارع بمراجعة أنفسنا ونصحح معلواتنا ونعتذر عن أي خطاء، المكابرة والتمسك بالجهل كارثة هدامة، ولا يوجد إبداع كامل ومنزه.

The Complete Short Novels
juin 2004
Édition en Anglais de Anton Chekov (Auteur), Richard Pevear (Introduction, Traduction), Larissa Volokhonsky (Traduction)

Éditeur ‏ : ‎ Everyman (17 juin 2004)
Langue ‏ : ‎ Anglais
Relié ‏ : ‎ 560 pages
ISBN-10 ‏ : ‎ 1857152778
ISBN-13 ‏ : ‎ 978-1857152777
***


حميد عقبي

حدثني صديقي، وهو من عقول الأدب الراجحة وأقلامه البارعة، فقال:
"يا صاح، إنَّ أهل الأدب في هذا الزمان غرباءٌ في أوطانهم، وإن العراق -وهو منارة الحرف ومهد الفكر- شاهدٌ على ذلك. فهل سمعتَ بمأساة قلمٍ نزف دون أن يُجبَرَ كسرُه، أو بكاتبٍ هام في أرضه دون أن تُرفع له راية؟"
قلتُ: "هاتِ ما عندك، فإنك قد أثرتَ في قلبي فضولاً، وألهبتَ في عقلي شوقاً لمعرفة هذا الحديث."
فقال:
"يا صاح، أليس العراق هو الذي تفجرت من أرضه ينابيع الفكر، وتفتقت في سمائه نجوم العلم والأدب؟ لكن العجب كل العجب أن يُرى الأدباء في هذه الأيام غرباء في أرضهم. فبدل أن يُحملوا على الأكتاف، تراهم يغرقون في زحام الحياة، ويُهمَّشون كما تُهمَّش الورقة في بحرٍ من الأوراق البالية."
ثم أردف قائلاً:
"ألم ترَ كيف أنَّ الأدب في العراق صار كالغريب الذي ينادي في صحراء لا مجيب فيها؟ ترى الشاعر يسكب روحه في قصيدة، فتُقرأ همساً إن قُرئت، وترى الكاتب ينحت أفكاره من صخر، فلا يلقى إلا التجاهل أو الإنكار. وكأنما صار الأدب وصاحبه عبئاً في وطنه، بعد أن كان تاجاً يُوضع على جبينه."
فقلت: "وما السبب يا صاح؟ أهو زهد الناس في الأدب، أم انشغالهم بأمور الحياة؟"
قال:
"بل الأمر أدهى وأمر. فقد صار الأدب غريباً لأن من بيده الأمر لم يعد يرى في الحرف نوراً، بل رآه وهماً. ولو قدَّروا مكانة الأدب، لكان العراق اليوم كما كان بالأمس، منارة الشرق ومأوى الفكر. ولكنَّهم قد تركوا الكلمة تموت في أفواه قائلها، وأهملوا الكتاب حتى علاه الغبار."
فقلت: "وهل من أملٍ يا صاح؟"
قال:
"الأمل في القليل الذين يحملون مشعل الأدب كمن يحمل شمعةً في ظلامٍ دامس. الأمل في من يؤمن أن الحرف أقوى من السيف، وأن الثقافة مفتاح النجاة. فإن عاد العراق إلى أدبه، عاد المجد إليه، وإن بقي غريباً عن أهله، بقي في غربته أسير الظلام.
وما زال يفيض بحديثه، كأنه السحاب يمطر بعد طول جدب، وقال:
"يا صاحبي، ألم ترَ كيف صار الأدب في بلدي كطائرٍ مكبَّلٍ لا جناح له؟ تُقصّ أجنحته وهو بعد لم يعلُ، ويُقمع صوته قبل أن يُسمع. ترى الكاتب يَسهر على مدادِه، يُضيء لياليه بفكره، فإذا أشرقت شمس يومه، وجد حروفه طيفاً عابراً لا يلتفت إليه أحد. والشاعر، ذلك الذي كان صوته يهزّ العروش، صار لحنه نغماً خافتاً في ريحٍ عاتية."
قلت له: "ألا ترى أن هذه الغربة قديمٌ عهدها؟ ألم يكن المتنبي نفسه غريباً في وطنه، يجوب الآفاق طلباً لمن يسمعه؟"
فقال:
"بلى، ولكن غربته كانت كريمة، يتغنّى بها التاريخ، ويُنصفها الزمان. أمّا غربتنا اليوم فهي ذلٌّ مقيم، وعتمةٌ بلا أفق. كان المتنبي غريباً وهو سيد كلمته، أمّا أديب هذا الزمان فهو غريبٌ مهزوم، كأنه يعتذر عن حرفه، ويخجل من قلمه. فيا حسرتاه على الأدب الذي كان نبراس الأمم، ويا أسفاه على وطنٍ أهمل ثروته العظمى: الكلمة!"
فقلت: "وما عسى الأدباء فاعلين في هذا الزمان الذي انقلبت فيه الموازين؟"
قال:
"الأدباء يا صاح، هم كالنخل في العراق، قد تُقصّ سعفاتهم، لكنهم باقون، راسخون بجذورهم في أعماق الأرض.
وإن تنكّر لهم أهل زمانهم، فإن التاريخ لا يُخطئ بوصلته.
الكلمة الحقّة لا تموت، وإن طال بها الأجل،
والحرف الصادق يظلُّ حيّاً، وإن اجتمع أهل الأرض على وأده.
فليكتبوا يا صاح، وليُشعلوا ظلام لياليهم بنور أقلامهم.
لعلّ في المستقبل بصيص أمل، ولعلّ طفلاً يتعلم من دفاترهم، فيعيد للحرف بهاءه، وللأدب مجده."
ودّعني وقد ترك في قلبي أثراً عميقاً، وفي عقلي فكرَةً عظيمة: أن الأدب لا يغترب حقاً، إلا حين يصمت أهله، وأن العراق – وإن جفا الأدبَ في زمانٍ – سيظل حاضنة الحرف ومنارة البيان، ولو بعد حين.
***
بقلم: د. علي الطائي

إلى من يعنيه الأمر من قُرّاء الزمان وأصحاب الأذهان
كيف آل حال الناس إلى هذا الهوان؟
كنا شعوبًا تتفاخر بجسور القلوب، وتتسامر بألحان الوداد، حتى أضحينا كأشباح تذرّها رياح العزلة على أطراف عالم افتراضي كاذب.
قد اجتمعنا حول الموائد يومًا بأرواحنا قبل أجسادنا، وها نحن اليوم نتقابل عبر شاشات لا ترى أعيننا حقًا، ولا تسمع قلوبنا نبضها.
أيّها الإنسان، كيف رضيت أن تختصر صوت الحياة في رموز باردة، وأن تُجَرّد كلماتك من حرارة الإحساس لتصبح سطورًا مبهمة؟ هل تعتقد أن "الإعجاب" يكفي ليُعيد دفء المودة؟ أو أن "تعليقًا" يرقى لمقام الحضور؟
لقد كانت الحكايات يومًا زاد الأرواح، وكانت الأحاديث الدافئة تُعيد ترتيب الفوضى داخلنا، لكننا اليوم نفرّ من البوح، ونختبئ خلف أقنعة زائفة، نسميها "حسابات".
أفي هذا الركض المحموم نحو السراب، لا نخشى أن نفقد أنفسنا؟
إننا نعيش في زمن انقلبت فيه الموازين؛ حيث تكاثرت طرق الاتصال، لكنّ التواصل قد انقطع، وحيث تسارعت الأخبار، لكنّ الحقائق أضحت ضبابًا كثيفًا.
أيها الرفيق الذي تُناديه روحي في غياهب هذا التيه، عُد بنا إلى بساطة اللقاء، إلى دفء الأحاديث التي تُشفي القلوب، إلى صدق العيون التي تُخبر بما تُخفيه الكلمات. دعنا نستلهم الماضي لنعيد ترميم حاضرنا، ونعيد بناء جسور تقودنا إلى أنفسنا.
يا صديقي، ليست الحياة سوى مرآة لما نبثّه فيها. فإن زرعنا فيها أشباح الوحدة، حصدنا فراغًا أبديًا. وإن غرسنا فيها بذور الحبّ والتواصل الحقيقي، تنفسنا حياةً بألوانها الحقيقية.
إلى من يعنيه الأمر من قرّاء الزمان وأصحاب القلوب التي لا تزال تنبض بالحياة، كيف انقلب حال الإنسان، وهو الذي خُلق ليعمر الأرض بالحب والتواصل، فإذا به اليوم يزرع الشوك في حدائق اللقاء، ويغلق أبواب القلوب بأقفال العزلة؟ كأننا نسير عكس الفطرة، نسابق الرياح نحو جزرٍ بعيدة نُسميها "الحداثة"، لكنّها في الحقيقة ليست سوى أوهام تُبعدنا عن حقيقتنا.
أيّها القارئ المُفكر، تأمل هذا الزمن الذي نعيش فيه: زمن كثرت فيه الوسائل وقلّت الغايات، زمنٌ تزاحمت فيه رنات الهواتف، لكنّها أخرست أصوات المشاعر. أتراه تقدمًا أن نُقابل أحبابنا برسائل مقتضبة؟ أن نُعبّر عن الحزن بوجه كئيب أصفر؟ أو عن الفرح بقلبٍ أحمر جامد؟
كنا في السابق نشكو المسافات، ونتحسر على الغائب، لكنّنا رغم ذلك كنا نعيش قربًا لا تقيسه الجغرافيا. كانت القلوب قريبة، وكان للكلمات أثرٌ لا يُنسى، وكأنّ كل حرف يخرج من الروح ليصل إلى الروح. أما اليوم، فقد أضحت الكلمات سلعًا نشتريها من قواميس مكررة، وأصبحت الأحاسيس قوالب جامدة نُرسلها بضغطة زر.
ما الذي حدث لزمن كان اللقاء فيه عبادة، والمجالس محاريب ودٍ يتقرب فيها الناس إلى بعضهم؟ أفي زحمة هذا العصر، نسينا أن الإنسان إنسان لأنه كائن اجتماعي؟ كيف نرضى أن نستبدل دفء اللقاء الحقيقي ببرد الرسائل النصية؟
أيّها الإنسان، إنّ ما يجري اليوم ليس مجرد تدهورٍ في التواصل، بل هو فقدانٌ لمعنى الحياة. حياتنا لم تُخلق لنعيشها منفردين في عزلة إلكترونية، بل خُلقنا لنعبر عن أنفسنا، لنسمع ونُسمع، لنشعر ونُشعر. قد نظن أنّنا نربح الوقت بتسارع الرسائل، لكننا في الحقيقة نخسر الزمن، نخسر لحظات كان يمكن لها أن تكون خالدة في ذاكرتنا.
لنا في الماضي دروس لا تنتهي. تأمل كيف كان الأجداد يجتمعون تحت ظلال الأشجار، يتحدثون عن أحلامهم، يروون قصصهم، ينسجون من كلماتهم روابط تتجاوز الزمن. لم تكن لديهم هواتف ذكية، لكنّهم كانوا أذكى في فهم جوهر العلاقات. لم تكن لديهم شبكات اجتماعية، لكنّهم كانوا شبكة حقيقية من الأرواح المتصلة بالحب.
أيّها القارئ العزيز، هل نسيت دفء المصافحة؟ هل نسيت كيف لرؤية الابتسامة أن تُبدد أحزانك؟ هل غابت عنك تلك اللحظة التي تتلاقى فيها الأعين، فتقول ما تعجز عنه الكلمات؟ إننا بحاجة إلى أن نعيد اكتشاف هذه المعاني لنعود إلى بساطة الأشياء، إلى دفء اللقاءات، إلى حكايات تُحكى لا تُكتب، إلى أحضان حقيقية لا تُختصر برمزٍ أصفر يضحك أو يبكي. لنفتح قلوبنا مجددًا، ونسمح للإنسان الذي بداخلنا أن يتنفس بحرية.
في الختام، إن الحياة قصيرة، لكنّها لا تُقاس بطولها، بل بما نتركه فيها من أثر. لنكن كالشمس التي تُنير من حولها، لا كالشاشات التي تُضيء ظاهريًا لكنها تخفي ظلامًا داخليًا. فالسعادة ليست في عدد المتابعين، بل في عدد اللحظات التي نعيشها بصدق مع من نحب.
***
بقلم: د. علي الطائي
15-2-2025

في صباحٍ ضبابي من تلك الأيام الخوالي، كانت شمس الشتاء الخجولة تلامس مياه الترعة الصغيرة التي تنساب من ماسورة تحت مركز شباب القرية القديم، آتيةً من الترعة العمومية التي تحتضن تلبانة كذراع أم حنون. كانت أشجار الكافور العتيقة تفوح برائحتها النفاذة، فيما تقف شجرة غريبة تميل بانحناءة أشبه بذراع يحتضن الصغار الذين يتسلقونها بحذر أو يجلسون عليها في انتظار القطار الفرنساوي.

على الجانب الآخر، عند كوبري المحطة، تقف قهوة الحاج يوسف، تلك البقعة التي تحمل روح القرية بكل تفاصيلها. قهوة صغيرة لكنها ممتلئة بالحياة، تتوسطها مصطبة عريضة مغطاة بحصيرة، كأنها أريكة ريفية تجمع بين المارة وأهل المكان. يجلس عليها رجال لهم سمات الوقار والخبرة، عماماتهم تلف رؤوسهم بإحكام، وأيديهم تلاعب فناجين الشاي الثقيل أو أكواب الشيشة المتراصة بجانبهم. كان بينهم العمدة، والمأذون، وبعض وجهاء القرية، يتبادلون الحديث عن أخبار المواسم والمحاصيل، وقرارات الحكومة التي تصلهم عبر صوت مذياع خشبي متهالك يصدح بأغاني عبد الحليم حافظ، وأم كلثوم وزمن الفن الجميل    وبين نشرات الأخبار.

في ركنٍ آخر، يجلس شيخ الخفراء، رجل طويل القامة ضخم الجثة بملامح صارمة، يعتمر طاقيته الصوفية، وعصاه الغليظة تستند إلى كتفه، يتابع بعين يقظة كل من يمر، وكأن الأمن كله مستقر تحت ناظريه. بجانبه، تدور معركة حامية على طاولة الطاولة، الزهر يتقافز فوق اللوح الخشبي وصوت الأحجار يضرب السطح مصحوبًا بضحكات ساخرة وتعليقات ماكرة بين اللاعبين، بينما على الطاولة المجاورة، جلس آخرون يتناوبون اللعب على رقعة الدومينو، يطرقعون القطع بحماس، ورؤوسهم تنحني في تفكير عميق قبل أن يلقوا بحجر جديد في اللعبة.

بجانب الطاولة، كانت زجاجات الكازوزة ترتص فوق الطاولات الخشبية، تتلألأ بألوانها الحمراء والصفراء، بينما يرفعها البعض إلى شفاههم في ارتواء بعد جدال طويل أو مباراة ساخنة.

وفي زاوية القهوة، اعتلى عمي فتوح البدوي المصطبة، شيخ الزجالين في القرية، يعتدل في جلسته، يأخذ نفسًا عميقًا من نرجيلته، ثم ينطلق صوته مجللًا بأبيات الزجل، فيتوقف الجميع، حتى لاعبو الطاولة والدومينو، منصتين إلى كلماته التي تتهادى كأمواج النيل في يوم صيفي، بعضها مليء بالحكمة، وبعضها محمل بالنوادر والضحكات.

على رصيف المحطة، كان القطار الفرنساوي يأتي في موعده، ينفث دخانه الأسود، وتخرج من نوافذه وجوه غرباء وعائدين، بعضهم يحمل حقائب السفر، والبعض يحمل رسالة انتظار. وبمجرد أن يتوقف، ينطلق بائع العرقسوس بندائه الرتيب، تتبعه خطوات بائع الجرائد، عمي نصر، الذي كان أشبه بمذيع متنقل، يوزع الصحف مصحوبة بتعليقاته الساخرة عن حال البلد والسياسة. وبينهما، يمر بائع الحامد بعربته الصغيرة، يحمل ألواحه المكدسة بالحمص والفول السوداني، يوزعها على الأطفال الذين يلتفون حوله بضحكاتهم المتقطعة.

كان هذا المشهد هو قلب القرية النابض، حيث تختلط الأصوات بروائح القهوة والعرقسوس والتبغ، حيث يلتقي الأباء كل صباح حتى العصر، يتبادلون الأحاديث، بينما الزمن يدور ببطء في ظلال الريف الحنون.

كنا نحلم بها ونحن غرباء في القارة العجوز، أوروبا. كان الحنين يراودني رغم عبق التاريخ في الفن المعماري في مدن مثل روما، ولكن ستبقى تلبانة، رغم القشرة السطحية من الحضارة، محفورةً في الوجدان والحنين.

تلبانة كما كانت… تسكن الذاكرة ولا تفارق القلب.!!

***

محمد سعد عبد اللطيف

من مجموعة قصصية للكاتب: يوميات كاتب في الأرياف

 

في زمن يُقال فيه إن الورق يندثر ويُستبدل بالرقمنة، تُطل الصحيفة، هذا الأثر الحجري لعصر الحداثة، لتذكّرنا بعبثية المصير الإنساني. كما لو أن كامو يهمس من بعيد: "الإنسان يتمرّد، إذن هو موجود"، فالصحيفة تتمرّد على تقادمها بإيجاد حياة أخرى في جيوب العمّال وعلى طاولات المطاعم وفي لفائف السجاد.
ألم يكن عمّال المصانع، ببدلاتهم الصوفية وصحفهم المطوية على الصدر كدرع ضد ريح الشمال، يطبّقون عمليًا نصيحة ميكافيلي بأن الغاية تبرر الوسيلة؟ لم تكن الصحيفة آنذاك أداة إعلام فحسب، بل كانت درعًا واقيًا، خشبة خلاص ضد قسوة الطبيعة. كم من صحيفة خاضت معركةً لم تقرأ فيها كلمة واحدة، ومع ذلك ربحت الحرب ضد البرد.
وفي زمن الحرب، حين كانت المجاعة أصدق من البيانات الصحفية، تحولت الصحف إلى وقود تحت وطأة الضرورة. كما يقول ماركس: "الإنسان يصنع تاريخه، لكن ليس كما يشاء". فإذا لم تقرأ الجريدة، أحرقتها، وإذا لم تحرقها، أكلتها العثّة – وهي حشرة صغيرة من رتبة الفراشات، تشبه الفراش ولكنها أصغر حجمًا وأقل جمالًا. تعيش العثّة عادةً في الأماكن المظلمة والرطبة، وتشتهر بقدرتها على إتلاف الملابس، السجاد، والأقمشة المصنوعة من الصوف أو القطن، لأنها تتغذى على المواد العضوية الموجودة في الألياف- ولعل الصحف التي قُدّر لها أن تنتهي في المراحيض بدل العقول كانت الأكثر صدقًا، لأن وظيفتها حينها كانت أكثر فائدة من وعود الساسة التي طُبعت عليها.
ثم تأتي سخرية القدر في كرنفال فياريجيو الايطالي، حيث تتحول الصحف إلى دمى مضحكة لسياسيين أكثر هزالة. هنا يتجلى قول نيتشه: "الإنسان شيء يجب تجاوزه". يتجاوز الورق ذاته من وسيلة إخبارية إلى وسيلة ترفيهية، لكنه لا ينجو من دائرة عبثية مكتملة: من الصحافة إلى الورق المعجّن، إلى الفولكلور، إلى السياحة، ثم عودة إلى الصحافة. وكأن الصحف تعيش نسختها الخاصة من أسطورة سيزيف.
وإذا كانت الصحف القديمة تحمي السجاد من العث، فربما لأنها تحتوي من السموم السياسية ما يكفي لتسميم الحشرات. ومن الطريف أن تكون الصحف اليسارية أشد كفاءة في هذا الأمر من الصحف اليمينية، كأن العثّ ينحاز أيديولوجيًا. ألم يقل سارتر: "الجحيم هو الآخرون"؟ حتى العثّ له ميول سياسية!
أما استخدام الجريدة كورقة للف الكستناء الساخنة أو كحماية للأرضيات من رذاذ الطلاء، فهو تذكير عبثي بفكرة ماركوز: "السلعة تُعيد تعريف ذاتها في دورة الاستخدام". فالصحيفة لم تمت، بل أعادت تشكيل نفسها في دورة من العبودية والاستهلاك.
حتى في المطار أو القطار، تظل الصحيفة سلاحًا اجتماعيًا متعدد الاستخدامات. ترفعها عاليًا كراية للتعريف بنفسك، أو كحاجز دفاعي لصد متطفلي المقاعد المجاورة. وكأنك تقول بصمت مع شوبنهاور: "الجدران تحميني من ضجيج العالم".
وفي النهاية، أليس من قمة العبث أن تظل الصحيفة، بعد كل هذا التاريخ من الاستخدامات النبيلة والدنيئة، أكثر فائدة حين يعاد تدويرها؟ إنها دورة حياة ساخرة تليق بهيغل، حيث كل نفي هو مقدمة لإثبات جديد.
فلتُحفظ الصحف، لا كأرشيف للأخبار، بل كأرشيف لعبث الإنسان ومقاومته لأقداره.
***
الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

بعد منتصف الليل، حين تهدأ الضوضاء وينحسر ضجيج الحياة اليومية، تتحول قريتنا إلى مرآة للأرواح التي مضت، وتطفو الذكريات على سطح الظلام. الكلاب تعوي عند أطراف المقابر، كأنها تحرس أسرار الموتى أو تروي لنا حكايات لم نسمعها من قبل. أسير في الشارع الممتد ناحية "الدائرة"، حيث كانت تلتقي طرقات القرية، وأتأمل هذا الليل الشتائي البارد الذي يلف الأشياء بهدوء مهيب.
أتلفّت يمنةً ويسرة، فأرى البيوت التي كانت يومًا ما تعج بالحياة. أين أصحابها الآن؟ تلك الديار التي ضحكوا فيها، احتفلوا، بكوا، وتخاصموا، أصبحت مجرد جدران صامتة تحنّ إلى من سكنها. اليوم فقط، استقبلت مقابر القرية جثمان رجل وامرأة، كما تفعل كل يوم. نخرج جميعًا لتقديم واجب العزاء، ثم نعود إلى منازلنا، نتساءل: من سيعزينا حين يأتي دورنا؟
عند المقابر، تتجلى الحقيقة الكبرى: نحن مجرد عابرين، نظن أننا خالدون حتى نصبح ذكرى على لسان من بعدنا. يتراءى لي شريط من الذكريات، وأتذكر أستاذنا الراحل محمود عبد العزيز حسين، الذي كان يعمل في مؤسسة الأهرام. في زمنه، كان منزله فيلا تميّزت عن بيوت الطين التي كانت تحيط بها، لكنه اليوم مجرد ذكرى، مثل غيره.
ثم تأخذني الذكريات إلى أيام الطفولة، إلى حوش المدرسة الابتدائية، حيث كانت القرية بأسرها تتدفق للإدلاء بأصواتها في الانتخابات. أستعيد مشاهد الصراع على كرسي مجلس الشعب، والوجوه التي كانت تملأ المكان بالحماس والتنافس. أتذكر مهرجانات كرة القدم السنوية، وأصوات الهتافات التي كانت تدوي في الأرجاء، كأنها كانت إعلانًا للحياة.
ولكن، أين هم الآن؟ أين نحن؟ كم يبدو غريبًا أن نتشبث بالحياة، نخوض معاركنا الصغيرة، كأننا سنبقى إلى الأبد، غير مدركين أن النهاية تتربص بنا بصمت. نقاتل من أجل وهم السلطة، نتنازع على أشياء زائلة، ثم نختفي كما اختفى الذين سبقونا. أمام المقابر، تتلاشى كل الفوارق؛ لا غني ولا فقير، لا قوي ولا ضعيف، كلهم سواسية تحت التراب.
أقف هناك، في هذا السكون، وأسرح في الفلسفة الوجودية: ما نحن إلا لحظات تمضي، أسماء تكتب على شواهد، وصدى يتردد في ذاكرة من تبقى. الموت ليس مجرد نهاية، بل هو المرآة التي تعكس زيف صراعاتنا. وبينما أعود أدراجي، أترك خلفي أسئلة بلا إجابات، وأمضي، مثل الجميع، في طريقٍ لا رجوع منه.
ربما الحياة ليست سوى حلم عابر، والموت هو الصحوة الكبرى. نحن نعيش بين ولادة غير مخيرة ونهاية لا مهرب منها، وبينهما نخوض معاركنا اليومية دون أن ندرك أن الزمن لا ينتظر أحدًا. وفي النهاية، تبقى الحقيقة واحدة: لا شيء يدوم، سوى الأثر الذي نتركه في قلوب الآخرين.
يقول أحد الحكماء: "الحياة حلم يوقظنا منه الموت." فهل نحن مستعدون لتلك اليقظة؟
***
من يوميات كاتب في الأرياف
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري

 

كتاب جديد للدكتور عبد العزيز عيادة الوكاع

صدر للكاتب د. عبد العزبز عيادة الوكاع كتابه الجديد (المعنى البلاغي والبيان اللغوي في النص القرٱني.. دراسة دلالية للفظة عبد) عن دار غيداء النشر والتوزيع عمان/الاردن..

 وليس بغريب على مهني متخصص وأكاديمي متمكن، مثل الأستاذ المساعد، دكتور عبد العزيز عيادة الوكاع، وهو من أعلام الأدب والثقافة، وقامة من قامات التنوير والتأثير، في الساحة الأدبية والثقافية، والأكاديمية والمعرفية، أن يفاجئنا بإصدار كتابه الجديد.

لقد إختار موضوعاً دلاليا غير مطروق، حيث وقع اختياره على دراسة جذر لفظ مفردة (عبد) في القرآن الكريم دراسة دلالية، وتتبعه في جميع موارده القرآنية، وسياقاته واشتقاقاته، واستجلاء للنظرة القرآنية، التي وردت بخصوص العبادة، ومفهوم وماهيتها.

تضمن الكتاب ثلاثة فصول، فصل في (التوحيد) وفصل في (الطاعة) وفصل (العباد المماليك).. بتوطئة لكل فصل من فصول الكتاب، يليها جدول بالآيات القرآنية، التي تحمل دلالة كل فصل.

وقد جاء الكتاب بتقديم الدكتور سامي محمود إبراهيم استاذ ورئيس قسم الفلسفة السابق في كلية الآداب جامعة الموصل، حيث عكس التقديم اهمية الكتاب في كيفية مقاربته إشكاليته، وأهم مزاياه في جمع مادة وافرة، في موضع حقل الدلالة، وفلسفة اللغة، وطرح جوانب الإعجاز في الخطاب القرآني، إذ يتبين أن مثل هذا العمل، مهم في رحاب البحث العلمي الرصين، وخاصة في الدراسات اللغوية، والقرآن الكريم..

ولعل اطروحة المؤلف د. عبد العزيز عيادة الوكاع للدكتوراه، التي كانت في مجال الآداب والعلوم الإنسانية (لغويات)، و في تخصص (الدراسة الدلالية في السياق القرآني)، والتي تلاها كتابه (الثراء اللغوي والتنوع البياني في السياق القرآني) الذي تم طبعه ونشره بواسطة (دار الخليج - للطبع والنشر) في عمان، يعدان رؤية جديدة، ونسق معرفي متميز، في مجال الدراسات اللغوية والقرآنية المعاصرة، ناهيك عن نتاجاته، ومقالاته، في مختلف المجالات الثقافية والعلمية واللغوية والاجتماعية، التي تحتل مكانتها المتميزة في أشهر المواقع على الإنترنت.

وتجدر الإشارة إلى أن (اتحاد مكتبات الجامعات المصرية) قد ضم كتابه (الثراء اللغوي والتنوع البياني في السياق القرآني)، إلى قائمة مجموعة مقتنياته من الكتب الرصينة، والمصادر الموثقة، المحفوظة في خزانته. ليكون مرجعا للقراء والباحثين والمهتمين بالدراسات اللغوية والدلالية مستقبلاً.

ولعل كون الدكتور عبد العزيز عيادة الوكاع، حافظا للقرآن الكريم، وواعظاً دينياً، ومدرساً لمادة اللغة العربية، في نفس الوقت، كانت كلها عوامل مؤازرة، منحته خبرة زاخرة بالعطاء، إضافة إلى موهبته الشخصية، مما جعله طاقة إبداعية متوقدة، وكفاءة عالية، تضاف إلى كفاءات الساحة الأدبية والثقافية، ليكون بهذه المعيارية العلمية، والمهنية الرفيعة، مشروع توهج علمي واعد، لخدمة لغة الضاد، لغة القرآن الكريم، والحفاظ عليها، من المسخ والتشويه، بالتداعيات التي أفرزتها معطيات العصرنة الصاخبة. بجوانبها السلبية، المعروفة للجميع.

وهكذا يظل الكاتب الموهوب الدكتور عبد العزيز عيادة الوكاع، نموذجاً متميزاً، للتحدي والتطلع، وعنواناً للإبداع، ورمزاً للاعتزاز، في خدمة اللغة العربية، وعلومها النبيلة

***

نايف عبوش

لستُ من أولئك الذين ينقّبون في الرماد بحثًا عن جمرٍ قديم، ولا ممن ينسجون من الخذلان عباءة يرتدونها في ليالي الحنين. حين يجرحني أحد، لا أقف عند الجرح طويلًا، لا أعدّ الندوب، ولا أستنطق الألم. لا ألملم الشظايا لأعيد تشكيل صورة لا تستحق الترميم.

أنا كالريح التي تعبر المدن ولا تعود ، لستُ شجرة تتوسل بظلها للعابرين، ولا صفحة بيضاء يتسخها حبر الإساءة ثم تبقى شاهدةً على ما كان. أنا أمضي... وأترك خلفي ما لا يليق. لا أبحث عن العدالة في قلوب لا تعرف سوى الطعن، ولا أطالب أحدًا بأن يكون ملاكًا، فقط أن يكون إنسانًا، أن يعي أن الكلمة سهم، والخذلان سكين، والصمت في حضرة الجريمة إثم.

لكنني حين أُخذل، لا أقتصّ. لا أرفع راية الحرب، لا أكتب رسائل العتاب، لا أنسج الحكايات الحزينة. أكتفي بأن أنفض الغبار عن روحي وأرحل. أرفع رأسي عاليًا، لا لأنني لم أُجرَح، بل لأن الجرح لم يستطع أن يحني قامتي. أنظر إلى الأمام، لا لأنني نسيت، بل لأنني اخترتُ ألا أحمل الموتى على ظهري، فبعض الخيبات قبور، وبعض الوجوه أوهام، وبعض العلاقات أوهى من بيت العنكبوت.

لا ألتفت كثيرًا، ليس ضعفًا، بل لأنني أقوى من أن يُثقلني الغدر، أن يطاردني الظل، أن أبقى أسيرة خطأ لم يكن خطئي. الحياة قصيرة، والعمر لا يكفي لحزم الأمتعة والوقوف طويلاً على عتبات الذين لم يعرفوا قيمتنا. أمضي، لأن الأمام دائمًا أوسع من الخلف، لأن الشمس لا تشرق مرتين في اليوم ذاته، ولأنني أعلم أن ما ينتظرني هناك... أكثر نقاءً، وأكثر استحقاقًا لقلبي الذي لا يخون نفسه.

***

مجيدة محمدي – شاعرة تونسية

 

ما زلت أرنو ببصري إلى هذه الظلمة البغيضة، العريضة، التي تطبق على فضاء حياتي، عسى أن أرى بين طبقاتها المتراكبة، المتكاثفة، ضوء خاطف يزيح عني دياجيرها الحالكة، تلك الظلمة التي لم أقبل عليها عن حرد، أو أقصدها عن رضا، أو ألجأ إليها عن اختيار، ظلمة تستحق مني أن تكون موضوعا للخصام والجدال، لأنها ورطتني في الشر، وعرضتني للأذى، وأحالتني لأن أعيش في عالم من الخيال، يجعل وجهي ينطلق بعد عبوسه.

يقيني الراسخ الذي لا ينازعني فيه شك، أو تداخلني فيه ريبة، أن هذه الظلمة ستنقضي دهمتها، وتحين نهايتها المحتومة بانبلاج الفجر، وبزوغ الصباح، وأني سوف أتلوى وأضطرب في صخب حياتي الجديدة، ولكني حينها لن أنسى أن أكون شديد الاعجاب بصبري، وشديد الازدراء لطائفة من الناس نضبت محبتهم في دواخلي.

ستكونين يا نفسي شديدة الطمع، قوية الإرادة، وستظفري حتما بمكانة تليق بأهدافك ومراميك. وستجاهدي في قوة وعنف، وتسعى في خفة ورشاقة لادراك المجد بعد أن أقعدتك مهجا يضايقها أن تراك تمضي مسرورة راضية.

***

د. الطيب النقر

كان الريف المصري يومًا ما لوحة فنية مرسومة بيد الزمن، ألوانها البساطة، وخطوطها التكافل، وظلالها الطيبة الفطرية التي تسكن النفوس قبل البيوت. لم يكن هناك صراع مرير من أجل المال، ولم يكن التفاوت الطبقي صارخًا كما هو اليوم. كانت الحياة تسير بإيقاعها الهادئ، حيث الجميع متقاربون، ليس فقط في مستوى المعيشة، ولكن في الروح والقيم والمبادئ.

في رمضان، كنا ننتظر أذان المغرب بقلوب صافية، الأطفال يرقبون رفع الأذان بلهفة، والناس تجتمع على المصاطب  والأسطح، دون الحاجة إلى مكبرات الصوت، فقد كان الصوت يصل إلى القلوب قبل الآذان. قبلها، كانت الطرقات تمتلئ بالمواشي العائدة من الحقول، تسير في انتظام يشبه رقصة الطبيعة. الأوز يعود من الترعة في طوابير منظمة، والراعي يقود قطيعه إلى الحظيرة، ليكمل القطيع الآخر طريقه بمفرده، وكأنما لكل مجموعة نظامها الفطري الذي لا يحتاج إلى أوامر أو تدخل.

كانت الأسر تجتمع حول المدفأة أو "الكانون"، حيث الدفء الحقيقي لم يكن في النار، بل في القلوب المتآلفة. لم يكن هناك انشغال مفرط بالماديات، ولم يكن الصراع على النفوذ والسلطة يُفسد النقاء الريفي. كان الفقير يجد في بيت الغني طعامًا دون إحساس بالإهانة، وكانت الأبواب تُفتح للجميع دون حسابات المصالح.

الطيبة التي أصبحت من المظاهر مفضوحة والتسول الذي تحول إلى استعراض

لكن اليوم، تغير كل شيء. البركة التي كانت تسكن كل شيء تبددت، والطيبة الفطرية التي كانت أساس التعاملات أصبحت نادرة. أصبح الريف يعاني من نفس صراعات المدن: تفاوت طبقي، صراع على النفوذ، ولهاث وراء المال دون اعتبار للقيم. حتى المساعدات التي كانت تُخرج في السر، حفاظًا على مشاعر الفقراء، تحولت اليوم إلى استعراض على مواقع التواصل الاجتماعي. أصبح البعض ينشر صور المحتاجين وكأنه يفضح قلوبًا مدفونة تحت وطأة الفقر، يُعريها أمام الجميع تحت ستار "الخير"، وكأن الكرامة أصبحت شيئًا يمكن المساومة عليه مقابل صورة أو مقطع فيديو يحصد الإعجابات.

وعلى النقيض، ظهرت وجوه كلحة، تطلب بعين جاحظة، رغم أنها ليست في حاجة حقيقية، وكأن رمضان صار موسمًا للتسول. تغيرت النفوس، واختلط المحتاج بمدعي الحاجة، وانقلبت الموازين. كنا ونحن صغار نرى الناس تتحسس في إخراج الزكاة والصدقات، خشية أن تجرح مشاعر الفقير، أما الآن، فقد صار الأمر كرنفالًا من الفرجة، تُنظم فيه قوافل المساعدات كأنها مهرجانات، وتُوزع الصدقات على الأرصفة وسط أضواء الكاميرات، وكأن الفقر أصبح مادة إعلامية للتسويق الاجتماعي.

هل فقدنا هويتنا إلى الأبد؟

ارتدى الريف ثوب الحداثة، لكنه ثوب عارٍ من الأخلاق. تحول التكافل إلى تنافس، وتحولت البساطة إلى تعقيد، وصرنا نبحث عن ذلك الدفء القديم فلا نجده إلا في ذكرياتنا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل فقدنا هويتنا إلى الأبد؟ أم ما زال هناك أمل في أن تستعيد القرى المصرية روحها الطيبة، بعيدًا عن صراعات المادة واللهاث وراء المظاهر؟

قد يكون الحل في العودة إلى الجذور، ليس بنبذ التطور، ولكن بمزجه بالأصالة، وإعادة إحياء قيم التكافل والطيبة التي جعلت الريف يومًا ما أكثر دفئًا من أي مكان آخر.،،، من يوميات كاتب في الأرياف ،،!!

***

محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري 

حين تلتقي ثقافتان في حديث بلا رتوش

الليل كان طويلًا، والريح تصرخ في الشوارع الخالية، تدفع المطر بعنف كأنه سوط يجلد الأرض. السماء مكفهرة، والبحر يزمجر غاضبًا، كأنه يريد التهام اليابسة. في هذا المشهد الشتوي القارس، جلستُ مع إليزابيث في مقهى صغير يطل على بحر الشمال، حيث الدفء الوحيد كان في فنجان القهوة، وفي الحوار الذي لم يكن مجرد كلمات، بل رحلة بين الشرق والغرب، بين ثقافتين تفصلهما العادات، لكن تجمعهما الإنسانية.

كانت إليزابيث تكبرني بخمسة عشر عامًا، امرأة أوروبية في منتصف الستينيات، ما زالت تبحث عن الحب بطريقتها، وفق ثقافة ترى أن المشاعر لا يجب أن تُقيّد، وأن التجربة أهم من الالتزام. أما أنا، القادم من الشرق، فقد نشأت على فكرة أن الحب ليس تجربة قابلة للتبديل، بل التزام روحي، رحلة طويلة لا يبددها الزمن. اختلافاتنا كانت جذرية، لكنها جعلت الحوار أكثر صدقًا، لا جدالًا عقيمًا، بل نقاشًا منفتحًا، تحكمه الرغبة في الفهم لا في الانتصار.

الحب بين التجربة والالتزام

إليزابيث (تكتب على هاتفها، ثم تترك الترجمة الفورية تتحدث بالعربية): الحب في ثقافتي تجربة متجددة، يمكن أن نقع في الحب مرات عديدة، أن نعيد اكتشاف أنفسنا في كل مرة. أما أنتم، فتجعلونه قيدًا أبديًا، كأن من يحب مرة لا يستطيع أن يحب مجددًا. ألا ترى أن هذا قاسٍ؟

أنا (أكتب ردي في الهاتف، فتخرج الترجمة بالألمانية بصوت آلي): الحب عندنا ليس قيدًا، بل التزام. أن تختار شخصًا واحدًا رغم كل التغيرات، رغم الزمن، رغم المغريات، هذا هو جوهر الحرية الحقيقية. الحب ليس تجربة تتكرر، بل نهر واحد، إما أن تغرق فيه، أو أن تعبره إلى الضفة الأخرى.

إليزابيث (تنظر إليّ طويلًا، ثم تكتب ردها): لكن ماذا لو جف النهر؟ ماذا لو لم يعد الحب كافيًا؟

أنا (أبتسم وأكتب): الحب الحقيقي لا يجف، لأنه ليس مجرد شعور، بل التزام روحي. الشهوة تجف، الرغبة تذبل، لكن الحب الصادق يبقى حتى لو خمدت النيران الأولى. كما قال النبي يحيى المعمدان: "أنا صارخ في البرية، جئت لأرجعكم إلى شريعة موسى." فالدين، مثل الحب، ليس مجرد قوانين، بل ناموس يحفظنا من الضياع وسط الغرائز العابرة.

إليزابيث (تتنهد، تنظر من النافذة إلى البحر الهائج، ثم تكتب): ربما أنتم في الشرق تحبون بطريقة أصعب، لكنها تبدو أكثر صدقًا.

حين يكون الحوار جسرًا بين العقول والقلوب

كان هذا أجمل تسجيل طبيعي لحوار بين ثقافتين، بلا أي تكلف أو تصنع. لم يكن هناك منتصر أو مهزوم، فقط رجل وامرأة من عالمين مختلفين، التقيا في ليلة شتاء عاصفة، وتحدثا بقلبيهما، بلا حواجز، بلا أقنعة.

في بلادي، أحنُّ إلى الماضي القريب، إلى زمن الحوار والثقافة والفهم والمعرفة. إلى أيامٍ كان فيها اختلاف الآراء لا يعني العداء، وكان الحديث الصادق جسرًا بين القلوب لا سيفًا يفصل بينها. الدنيا قصيرة، والعمر أقصر، وما زلنا نحلم أن يصبح الحوار ثقافة نعيشها في كل مجالاتنا، أن نقبل النقاش حتى في أزماتنا الحياتية، أن نفهم قبل أن نحكم، أن نصغي قبل أن نرفض.

هذه الليلة، على بحر الشمال، كانت لحظة نادرة من الصدق، لحظة أدركتُ فيها أن الفهم أهم من الاتفاق، وأن الحوار الحقيقي ليس محاولة لإقناع الآخر، بل محاولة لرؤيته كما هو، دون رتوش.

***

محمد سعد عبد اللطيف – من يوميات كاتب في بلاد الجن والملائكة

 

عرف عن العصر الذي سبق الاسلام بانه عصر المعلقات او الملاحم الشعرية التي تتغنى بالحروب والابطال وقد برع الاغريق فيها مثل الالياذه والاوديسا لشاعرهم هوميروس الذي عاش في القرن التاسع قبل الميلاد.

ولقد كان العرب في جزيرتهم شعبا من الشعراء وكان الشعر ينبض في حياتهم اليومية وكانت اشعارهم تمتزج فيها عناصر القوة والفخر بالقبيلة كما كانت فيها الحكمة والغزل ولخمر والوصف واشياء اخرى.

ومع ظهور الاسلام خفت حدة الافتخار والانتساب القبلي وحل محلها الولاء للدين الجديد فتقوقع الشعر في زاوية ضيقة وما ان حل العصر الاموي حتى اصبحت صورة الدين باهته بحيث استطاع شعراء ذلك العصر تجاوزها فاصبح الشعر شعرا سياسيا اكثر منه شعرا غزليا او وصفيا باستثناء بعض شعراء الغزل العذري مثل جميل بثينة وكثير عزة ومجنون ليلى.

وفي العصر العباسي ظهر فطاحل الشعراء الذين كانت قصائدهم تنضح حكمة وروعة وكانت تشكل موقفا حياتيا افرزته الظروف المعتمة القاسية التي كان يمر بها المجتمع العربي الاسلامي في ظل دولة متداعية يتلاعب بمقدراتها الفرس والاتراك مما ولد صراعات سياسية واقتصادية نتج عنها انتقاضات وثورات اجتماعية مثل القرامطة والزنج هزت كيان الدولة والمجتمع وتسبب في الحطاط حضاري مريع وفي ظل هذه الاجواء المدلهمة كان شعراء كالمتنبي وابو العلاء المصري وغيرهم يمثلون الشموس التي تضيئ تلك العتمة التي المت بالشعوب الاسلامية وانحطاط الفكر فيها وكان شعراء العصر العباسي بحق مرآة عكست الواقع المزري للمجتمع العربي فعبروا عنه وصوروه بأبرع الصورة فكانت قصائد رائعة بطعم المعلقات.

وهذا ما نريده من شعرائنا اليوم ان يكتبوا قصائد قوية يتغنى بها الشعب العراقي في مناسباته لتغسل قطرات دموعنا الكبيرة والتي هي بحجم ماستنا الكبيرة.

نحن بحاجة الى المعلقات جديدة بشرط ان تشكل موقفا حياتيا يقف الى جانب الحقيقة بعيدا عن نوازع العنصرية والطائفية والقبلية لقد اخترت سبعة مقاطع لسبعة شعراء من عصور مختلفة لأهمية موضوعاتها من جهة ولمساسها بحياتنا ومشاكلنا الحاضرة من جهة اخرى وهذه الابيات.

مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً

فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ

*

وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما

غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح

*

فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا

وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ

هذه الابيات قالها الشاعر ابن الصيفي وهو سعد بن محمد بن سعد صيفي التميمي الملقب بـ(حيص بيص) 492 – 574م والمعروف ايضا بشهاب الدين وشاعر اهل البيت وهو شاعر عاش في العصر العباسي له ديوان مطبوع.

أَرى كُلَّ حَيٍّ هالِكاً وَابنَ هالِكٍ

وَذا نَسَبٍ في الهالِكينَ عَريقِ

*

فَقُل لِقَريبِ الدارِ إِنَّكَ ظاعِنٌ

إِلى مَنزِلٍ نائي المَحَلِّ سَحيقِ

*

إِذا امتَحَنَ الدُنيا لَبيبٌ تَكَشَّفَت

لَهُ عَن عَدوٍّ في ثِيابِ صَديقِ

قالها الشاعر ابو نؤاس 757-814م وهو من كبار ادباء العصر العباسي، لقب بشاعر الخمرة، عاش في العصر الذهبي للخلاقة قربة الرشيد وجعله الامين شاعره، اسرف في الخمرة وللهو وتاب في اواخر ايامه، له ديوان مطبوع اجود اشعاره في الخمريات.

فُؤادٌ ما تُسَلّيهِ المُدامُ

وعُمْرٌ مثلُ ما تَهَبُ اللِّئام

*

ودَهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ

وإنْ كانتْ لهمْ جُثَثٌ ضِخام

*

أرانِبُ غَيرَ أنّهُمُ مُلُوكٌ

مُفَتَّحَةٌ عُيُونُهُمُ نِيَامُ

هذه الابيان قالها ابو الطيب المتنبي 915 -965م، عاش في عصر الحطاط الدولة العباسية، عاصر سيف الدولة الحمداني امير حلب واسرف في مدحة ومدح كافور الاخشيدي في مصر ابتغاء حصوله على الامارة، كان متكبرا شجاعا شديد الطموح محبا للمغامرات افضل اشعاره في المحكمة وفلسفة الحياة ووصف المعارك، قتل في النعمانية في طريق عودة من فارس الى بغداد.

يعيب الناس كلهم الزمانا

وما لزماننا عيب سوانا

*

نعيب زماننا والعيب فينا

ولو نطق الزمان اذن هجانا

*

ذئاب كلنا فى زى ناس

فسبحان الذى فيه برانا

*

يعاف الذئب يأكل لحم ذئب   

ويأكل بعضنا بعضا عيانا

قالها شاعر عباسي يسمى (ابن لنكك) وهو شاعر بصري يحسب من الشعراء الماجنين او الخلعاء، وهو محمد بن محمد بن جعفر ابو الحسن المعروف بابن لنكك البصري، كان صدر ادباء البصرة في زمانه ولعله اراد ان يكون من فحول الشعراء لولا بروز شعراء اخرين وفي مقدمتهم ابو الطيب المتنبي.

***

ابو العلاء المصري 973-1057م شاعر مفكر، عاش معتزلا متزهدا متبرما بالدينا والناس، سمي رهين المحبسين لفقده بصره ولزومه البيت ثم انه لم يتزوج ولم يتقرب الى النساء لذلك غلب على شعره أتشاءم وآلكابه قال في قصيدة له يذم الزمان ويفتخر بنفسه:

ألا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعل

عَفافٌ وإقْدامٌ وحَزْمٌ ونائِل

*

تُعَدّ ذُنوبي عندَ قَوْمٍ كثيرَةً

ولا ذَنْبَ لي إلاّ العُلى والفواضِل

*

وقد سارَ ذكْري في البلادِ فمَن لهمْ

بإِخفاءِ شمسٍ ضَوْؤها مُتكامل

*

وإنــي وإن كــنتُ الأخـيرَ زمانـه ُ

لآت ٍبمــا لــم تـّسْــتطعه الأوائـلُ

*

فيــا مـوتُ زُرْ، إنَّ الحيـاة َذميمـة ٌ

ويـا نفسُ، جـِـدِّي، إن دهـرَك ِهازلُ

***

غريب دوحي

"رب صدفة خير من ألف ميعاد"

"محطة لشخصين " فلم روسي من حقبة جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة، القصة بعرض كوميدي يلتقي فيه حبيبان فقط في محطة قطار ولترات متكررة. كنت مع إخواني ندرس نحن الثلاث في جامعات بوخارست في الحقبة الاشتراكية قبل اكثر من أربعون عاما خلت وعلى حساب الوالد الشخصي وتلك كانت من الأمور الصعبة جدا لان الدولة العراقية كانت ترفض ان تستمر في دراستي العالية والعودة إلى الالتحاق باتون الحرب التي كانت دائرة مع الجارة ايران. وكان الله في عون المرحوم الوالد الذي تحملنا في تلك الأيام دون ان نمد يدنا لأحد ونحتاج .

كنت طالب الدكتوراه الوحيد الذي لم أغير موضوع رسالتي للدكتوراه واستمرت في البحث حول العراق فيما توجه العديد من الطلبة تغير عناوين أطروحاتهم إلى مواضيع عامة تفاديا من شحه المعلومات العلمية وصعوبة الحصول عليها من عراق تلك الأيام. نظرية الصدفة غير رياضية ولا يمكن حسابها كرقم رياضي ولا يمكنً كذلكً برهان صحتها ولكنها احتمالية ووقعوها قد يغير مجرى حياتنا.

الصفة ليست اختيارية بل تاتي بشكل غير مدروس ومخطط كنت قبل سنوات في زيارة الى تركيا لألتقي بإخوتي وقررنا الذهاب الى مدينة قونيا العاصمة التاريخية لسلاجقة الروم لزيارة مرقد الشاعر المتصوف مولانا جلال الدين الرومي البلخي وبعد الزيارة تجولنا في الساحة الملحقة بالمرقد واذا بزوجتي تخبرني بانها رأت احدى المعارف الساكنين في مدينة سويدية ولم نلتقي بهم بعقد من الزمان. تعجبنا لهذه المصادفة الغريبة حقا. يقول المثل التركي: "

يلتقي الجبال فكيف بالبشر" 

الصدفة تجمع قلوب البشر ولها تاثير سحري على مسار حياتنا ومن محاسن الصدف في حياتي في لقائي لام أولادي قبل اكثر من اربع عقود. كنت لا ازال ادرس في الجامعة في تركيا حينً قرر بعض من أصدقاء السفر الى رومانيا في نهاية العطلة الصيفية وطبعا وافقت على فكرتهم واستقبلنا قطار الشرق باتجاه بلغاريا ثم انتقلنا الى قطار اخر متجه الى بوخارست عاصمة رومانيا الاشتراكية آنذاك وكانت تكنى ب "باريس " اوربا الشرقية وكانت كذلك من نظافة وعمران شبيه بتلك البنايات في باريس وحتى قوس النصر وحياة باربسية تراه في رواد المقاهي واكل كل اللذيذ من المعجنات والأكلات ناهيك عن كونها كانت رخيصة جدا لحامل العملة الصعبة من الدولارات.

بعد جهد جهيد تمكنا من ايجاد مكان سكن اصحابنا في احدى مجمعات القسم الداخلي للطلبة حيث قضينا ليلتنا الاولى في بيت احد طلاب كلية الطب واسمه "جالاك " الذي كان كريما معنا واوانا تلك الليلة جزاه الله خيرا ولنلتقي بعدها بالعديد من الأصدقاء. ونحن جالسون في غرفة صديقي العزيز احمد وزوجته الرومانية دانا فاذا بالباب يفتح وخلفها كانت شابه شبيه تماما ب دانا اي اختها التوئم رحبت بنا بسرعة واختفت بعد ثوان. بعد ثماني سنوات وانا احضر لرسالة الدكتوراه في بوخارست شهدت فتاة صغيرة في العمر تصطحب طفلا صغيرا معها عرفت اسمها فيما بعد "سيلفيا " وقد انجبت الطفل من احد الطلبة العرب ولا ادري ان كان اردنيا أم سوريا وعلى الأكثر اسمه "عدنان " يدرس في الجامعة في احدى مدن رومانيا كانت تسير وتنظر الينا وسط العاصمة عند الحديقة الملحقة بأكاديمية المعمارية مقابل المسرح الوطني (البناء القديم) والذي جدد لاحقا . لكني كعادتي لمً اهتم بهاً مثلما اهتمام اخي الدكتور الذي كان برفقتي المهم انه تواعد معها كي يلتقيان عند المساء واقترحت ان تاتي مع احدى صديقاتها.

لم اكن انوي المجيئ الى المدينة ذلك المساء لاننا كنا نسكن في حي "دروموالتابرى " على اطراف المدينة حيث كنا نستأجر شقة سكنية بالعملة الصعبة. مخلص الكلام رجعت مع اخي في المساء والى نفس المكان وجلست على احدى المصطبات دون ان ارفق اخي الى مكان اللقاء. جاء اخي من بعيد بمعية فتاتين وعرفت احداها من ملامحها وتقدمت وقلت لها كيف انت دانا وكيف هو صحة احمد.

تعجبت الفتاة وقالت "دانا " هي أختي التوأم كيف تعرفها. بعد ان تبادلنا أطراف الحديث ذهبنا معا لمشاهدة فلم "محطة لاثنين " الذي ذكرته في بداية مقالي هذا. طبعا عرفتم انها زوجتي ام شيرين ولا تزال دانا واحمد يعيشان معا في كندا ومنذ اكثر من خمس عقود.

الصدفة تلعب دورا أساسيا في تغير مجرى حياتنا أحيانا وقد وصلنا اليوم إلى عائلة تضم اكثر من أربعون شخصا نعيش جميعا في مملكة السويد بحرية وأمان.

***

د. توفيق رفيق التونجي - الأندلس

 ٢٠٢٥

... لم تكن حكايتي مع صانعة الذكريات عابرة باللحظة، وانتهى الكشف بصياغة أسماء المسكنات المُبنجة، بل كانت تتمسك برفق السلوك، ومعاندة في مجالستي، وتتبع مستويات وضعيتي الذاتية بغاية اكتساب ولو أجزاء متقطعة من ذكريات ذاكرتي. في يوم ما، وأنا أسبح تفكيرا بعمق فجوات حياتي، كانت صانعة الذكريات تُراقبني عن كثب. تلمح تغيرات قسمات وجهي الجارية، وحركاتي الذاتية المتموجة بالأناة. نَظرتْ في عيني وقالت: يا صديقي، هذا هو اليوم الذي سيتغير عالمك إلى الأبد!!! كانت حقيقة مفزعة، وخلتها تُمارس تذويب جليد السؤال واقتناصي عند الجواب الماكر، ولكنها كانت صارمة في تتبع مصفوفة حياتي الغائبة والحاضرة.

كنت خائفا من فضح كل أسراري ما خفي منها وما ظهر. كنت أعرف أن الذكريات لا تقيم فينا بل تُغلفنا بالتفتح، وتنال منَّا حَمولات من الإكراه، وأسفار أوزار الماضي. في جلستها الدانية من هامة رأسي المائل للخلف فوق سرير غير مريح بالتمام، كانت صانعة الذكريات تشد على جبهة رأسي بمسح العرق المتدفق في عز فصل البرد القارس. كانت تنظر إلي باستحياء ممَّا قد يفضح تخمينات ترسبات الماضي، لكني بحق كنت واثقا من أمري، فلعمري مارست الظلم ولا التعدي ولا نهب الأرزاق.

لم أشعر البتة أن صانعة الذكريات تتلاعب بمشاعري الداخلية بالتنويم. لم أفطن أنها تلعب على إخراج تفكيري الباطني من علبة الصندوق آمنا مطمئنا. لم أكن أقدر على مجاراة سياسة الرفض والتراجع وراء. فقد امتلكتني بسحرها كليا، وفتحت أقفال بوابات من أسراري. حينها شعرت أنها استدعت ذكرياتي الغائبة، كانت تنشد لازمة متقطعة بلحن من فيروز اللبنانية " أعطني الناي وغَنِّ، فالغنا سرُّ الوجود، وأنينُ النَّاي يبقى بعدَ أن يفنى الوجود..."

قالت: لا تخف يا صاحبي الجميع منَّا ارتكب أخطاء متعددة!!! كنت أعرف أنها تستسهل علي استرجاع ذكرياتي الموحلة في الألم والوجع والمتناقضات. أمدتني بفنجان شفاف من عطر بن، باتت رائحته قهوته تسكن الغرفة بنسمات مطيعة لارتشافها، وبزيادة سكر لدمغتها المرَّة. آه يا صديقي ...يا من أبكي معه عن تلك الذكريات المحزنة التي تختزنها بالتَّكفُّفِ، وتحجر دمع المقلة... يا من أتعاطف معه طواعية، وبلا مقدمات، ولن أقدر على نشر غسيل ذكرياتك كليا، فإن فعلت ستستلم للموت السريع يا صديقي العزيز.

بصدق يا صديقي، الناس تهرول نحو ما يريدون تصديقه بلا تكلف المعرفة السبقية، لكنهم يرفضون تلك الذكريات التي قد تصل إليهم فجأة ومشتتة الأطراف، وقد تطوح بهم يا صديقي  أرضا بلا حركة، مثل فاقد الوعي الفجائي من كفاف نسبة السكر في الدم. كل ذكرياتك يا صديقي محفوفة بالمخاطر والانتكاسات. كل ذكريات حلمك يا صديقي تسربت منك يوما وأنت في غفلة عن أمرك نائما، وفي الصبح كان الفجع المطيح بك في مستنقع الزمن الماضي. اليوم يا صاحبي، لدينا خيارات بسيطة وخفيفة لنفض الغبار عنها، وإعادة ترميمها ببقايا ملامح سعادة كانت حاضرة، فكل رايات الثوريين المشاكسين قد ترفع أمانيك عند الاسترجاع، ولن تماثل تلك الأضرحة الوهمية التي لا تسمن ولا تغني عن غفران ولا تداوي من مَسِّ جن الأرض السفلية.

كنت عارفا بالتأكيد أن فحصها الدقيق يسير وفق أنماط المقاييس الحيوية الحديثة، من خلال مساءلتي السلوكية والمادية، من خلال الكشف عن بيانات ومخزون بصمة ذكرياتي الحصينة والمتمركزة بالتخزين. كانت كل إيماءات صانعة الذكريات التمويهية، تحدد سلوكا لفك حصار جنود ذاكرتي (الشداد الغلاظ)، وفتح قفل تراكمات حياتي الماضية المتنوعة بين الفرح والوجع والمتنافرات.

كان مخاوفي تزداد حيطة، ولكني في قرار نفسي كنت أريد التخلص بشكل عام عن أجزاء منها، كانت تدمي يومياتي، وتُفحم ممرات حياتي الباقية في علم الغيب. كانت صانعة الذكريات تبحث في أغراض ذكرياتي على تحديد نوعية هويتي، ولما لا المصادقة بنمط المقاييس الحيوية عليها كأمر جديد يريح مشاعري من كل متاعب هَمِّ الحياة.

كنت مطمئن العقل والمشاعر، وبأن بيانات ذاكرتي لن تسرق، مادامت صانعة الذكريات تقوم على تحصين وتنقيح شفرات ذاكرتي بالحيطة والاستباقية. ابتسمتْ لأول مرة من تلك الرقابة الاستبدادية التي أخزن بها ذكرياتي، وقالت: أحسنت الظن فلن أخذلك يا صديقي بالمرة ...

(يتبع)

***

محسن الأكرمين

 

إلى محمد ايت لعميم صديقا وإنسانا

يتمعن الناظر فيما سيؤول إليه حاله، لو افتقد روح ذاكرته؟ كيف يحيا، وكيف يدرأ عن عزلته شح الطلع ومكانة الارتقاء؟ . والأعجب أن الذاكرة لا تفوق نباهة، ولا استذكاء، نبش لهيبها وإرواءه بما تجبل النفس على التحبيب والإفراغ النوسطالجي، وما نستحضره اليوم في هذه اللحظة الجميلة، ونحن بإزاء تكريم صديقنا سي محمد ايت لعميم، هو جزء من هذا التصور، حيث نعمد جميعنا إلى تحريك قٍدر الذاكرة وتفييئها، لنعيد إثارة الأحاسيس الثاوية فينا، مندسين تحت لفيف شجرها المفتون بأسرار الصداقة ومحبة الكتابة والحرص على استمرار ولعنا بالثقافة وشجونها، كما أحلامنا وطموحاتنا.

لا أذكر شيئا من معين هذه المسيرة الطويلة، من رفقتي بالمكرم، منذ ما يقرب الثلاثين سنة ونيف، إلا وأذكر ما يملأ بؤبؤ تاريخ من علاقة آسرة بالثقافة والكتاب. ولا أذكر ايت لعميم، إلا وأذكر صورته متأبطا كتابا أو ملتحفا رواية أو مكتشفا قولة في معبر الفكر وسداد الكلٍم. والأغلب أنني أذهب إليه مشمرا بهاجس الاستماع وتلقي الجديد أكثر من أي شيء آخر. وهو إذ يفطن إلى ذلك، لا يحجب عني البتة، رؤيته كمستبصر حكيم، يتقرب بما يقول لوجه المعطي، ضاربا بالأمثال ومتعللا بيواقيت المنثور في كل بقاع الإبداع، يمخر عباب المسك، كأنه يروي الأحجار الصماء من يبوسة الوهن وانفراط التأمل.

وإذ أتذكر يوما ونحن ذاهبان مشيا لملاقاة خوان غويتوسولو بداية تسعينيات القرن الماضي، أرخي بطول سمعي وبصري متوثبا، كي ألقٍف ما تعج به سنارته، على مفرق شغف الرجل وانتباته الجديد على أرض جامع الفنا، يحكي لي ايت لعميم عن سرديات صاحب ثلاثية "السيرك" (1957) و"أعياد" (1958) و"الاستفاقة من السَّكرة"(1958)، عاشق اللغة العربية الحالم بـ"سرفانتيس"، وكيف كان يتباهى بهويته المراكشية وعشقه الأبدي لدروبها وحوارييها وناسها البسطاء وتراثها المعماري الخالد.

يتوق ايت لعميم دوما ، إلى مخالفة أقرانه من التراجمة والنقاد والباحثين، في البحث المضني عن انوجاد استثنائي يليق بقيمة الأدب وجواهره المتفردة. ولا يجد مانعا من ارتقاء هذا الاختيار الصعب، شرط أن تكون جودة المأمول أوفر نفعا وتنفعا، من أن يطاله هدر أو هشاشة. فهو مستبد بعوالم الشعريات، ذهنية كانت أو نظمية، يلحقها طوق الجمال والجلال، دون افتراق أو انتحال. فيروم معظما أبي الطيب المتنبي، الذي خصه بمكانة مرموقة في بحثه الأكاديمي لنيل الدكتوراه. وهو مبتل بقصيدة النثر وحصادها السيروري الدؤوب على طول مرمى الجدل الذي حاصرها منذ ثمانينيات القرن الماضي، ودليلنا هذا الكتاب الذي نتناول جزءا مما كسبت يداه.1078 ghalman

وهو مبهور بتاريخ المخطوط وتحقيقاته، لم يأل جهدا في الحفاظ على تراث قدوته الأول والده الفقيه طيب الله ثرا، ويزاحم كل طيب وثرى لبيب فيما يهجع إليه فؤاده ويندى. كما أنه قارئ متمكن في شؤون الفكر والأدب والفلسفة، ولا يجد أي رفض لطبيعة تكوينه وتوجهه في قياس النصوص المتقدة، أن يعول على آليات خطابات البلاغة والنقد وعلوم النحو والصرف والعلوم المجاورة لها، حتى إنك لتحن إلى طفولتك وشبابك عند استذكار فضاءات المسيد والمدرسة والجامعة، عندما كنا نتسابق لحفظ القرآن وأحاديث الرسول ومعلقات شعراء الجاهلية وغير ذلك...

هذه بعض من نثارات ما صادته ذاكرتي، كتبت بعضها في مذكرات تنتظر فرصة للخروج، وهي على وفرة أمواهها، تعترك في صدور البوح، وتتعالق في مفارز الاستيقاظ...

وهنا أتمثل قول الشاعر:

سلام على تلك الدفاتر إن لي ..

إليها غراماً فوق كل غرام

سلام عليها إن حييت وإن أمت..

فهذا وداع والدموع دوامي

 وما للجاحظ الصنديد على ذلك ببخيل، وهو الذي ترك ملحمته الحيوانية مفتونة بالكتابة والانكتاب، إذ يقول:

"من لم تكن نفقته التي تخرج على الكتب ألذ عنده من إنفاق عشاق القيان لم يبلغ في العلم مبلغاً رضياً".

***

د. مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

...................................

* مقدمة لعنوان قراءة بمناسبة الاحتفاء بكتابات الناقد والباحث د محمد ايت لعميم، التي نظمت بكلية اللغة العربية بمراكش يوم السبت 15 فبراير 2025

ما زلت أكتب بخط يدي، أصرّ على القلم الأسود، وأمام عينيّ.. حزمة أوراق تنتظر أن أستهلكها دون خوفٍ من نقصانها. أكتب شطراً واحداً أحياناً، بيتين أو سطرين أحياناً أخرى.. لا فرق.

2.

أكتب القصيدة كمن يخوض معركة مع الزمن.. أخطّ الكلمات

وأتساءل: هل ما أفعله رجعية؟.. هل صرت أنا ذاك الشاعر الذي تخطاه العصر؟

3.

لكنني لا أطمئن إلى القصائد التي تكتبها الشاشات، ولا أؤمن بالشعر الذي يولد من دون أن يلامس اليد، ولا يحمل ندوب الورق.

4.

إن الشعر عندي ملمس الحبر على الصفحة رائحة الورق، والحيرة التي تسبق كل بيت.

5.

قد يقولون عني رجعياً، لكنني أفضّل أن أكون رجعياً يحمل قلمه الأسود على أن أكون شاعراً بلا أثر، بلا هوية وبلا وجع.

6.

فالشعر قبل أن يكون كلمات هو طقس.. طقس الكتابة الذي لا ينتمي إلى زمن.. بل ينتمي إلى الروح.

***

د. جاسم الخالدي

جسد مهمل على الكانفاس، الألوان تتهامس في الزاوية العليا من اللوحة، أتساءل عن التبرير المناسب لرقص الالوان فوق جسدي وانا مرمي على الكانفاس. هل يمكنني ان أجد تعبيرا واحدا يبرر رقص الألوان على جسدي؟، بالرغم من تداخل الألوان بشكل متناغم وجميل، وتعبيرات توحي بالحيوية والحركة، لكني اجدها كأنها تتباهي بوجودها على جسدي ...!،هل من دلالة...؟ تتفاعل الألوان وهي ترقص على جسدي ينسكب بعضها على الكانفاس، هذه اشارة إلى سلاسة الحركة وتداخل الألوان وعناق حميمي، انه تعبير جميل ومؤثر! يعكس التفاعل والتوافق بين جسدي والألوان، مما يضفي بعدًا عاطفيًا إلى تكامل جسدي مع الكانفاس، يمكن أن يوحي أيضًا الى الانسجام والراحة، كما ترتاح الأجساد في قبورها، حين تكون إضافة رائعة لقائمة الموتى. التوافق والتناغم بين الألوان يشير إلى التوازن الجميل بين ألوان التراب والوان الجسد المستريح على كانفاس اللوحة في مقبرة العشاق، رغم موتي ارصد كيف تتفاعل الألوان مع بعضها وهي تعبر على جسدي بانسيابية غريبة ،تتداخل بسلاسة وتشير إلى الجميل بين الألوان واللامع، احيانا بلون داكن واحيانا مطفأ، يغلب عليه الحزن العميق يضيف له شعورا بالوحدة والحنين بإحساسً من الضياع، وكأنه غيمة من الحزن تحيط بي تعكس صراعا داخليا، تتناغم لتخلق شعورًا بالثقل والركود، تبرز في خلفية اللوحة الوان رمادية داكنة ،تعزز الإحساس بالوحدة والانعزال ،هنا تظهر كيف أن كل لون داكن يعكس جزءًا من مشاعر الحزن المعقد، تتجلى في بعض الزوايا، ولكنها سرعان ما تخفت لتعود إلى حالة من السكون والوحدة . الألوان عناصر فنية تنقل المشاعر والأحاسيس، إذا رقصت بمهارة في اللوحة، ستعكس تجارب إنسانية عميقة، لذا ساكتشف كيف يمكن للألوان ان تتراقص على لوحة الكانفاس، وكيف يعبّر عن الحزن والوحدة من خلال رقص جسد ممزق. الألوان في اللوحة ترقص بحركةً ديناميكيةً، تتداخل الألوان الداكنة مع الفاتحة لتشكل تباينًا عاليا يضيء طرفا ويذوب في الطرف الاخر في تبادل أدوار متناغم وضياع جسدي. هذا التداخل يثيره صراع داخلي، حيث تتفاعل الألوان بشكل يشبه الرقص، يعكس انفعالات النفس المتشظية. الألوان الباردة تبرر الشعور بالحزن، بينما تضفي لمسات من الألوان الدافئة مساحة من الأمل المفقود، يمثله الجسد الممزق رمزًا للتشتت والفقد. تعكس التجاعيد والخطوط العميقة في جسدي التجارب المؤلمة التي مررت بها وحفرت عميقا، تضيف بعدا للشعور بالوحدة. تعكس الألوان المظلمة المحيطة بجسدي كيف يمكن أن تكون الوحدة مؤلمة وقاتمة. رغم وجود الألوان المحيطة التي ترمز إلى الحياة خارجها، وهي تمثل حيوية الحياة وتنوع التجارب، مشاعر مختلفة، مثل الفرح، الحزن، والقلق، والتعقيد العاطفي للإنسان تشير إلى الفوضى وعدم الاستقرار في الحياة. التجارب المؤلمة أو التغيرات المفاجئة ترمز إلى حركة الحياة، مما يعكس التفاعل الاجتماعي والتواصل وتعبر عن الصراعات الداخلية والتناقضات التي تمثل بين ما نحن عليه وما نريد أن نكون، تتلاشى مع مرور الزمن وتذوب المشاعر وتتوالى الاندحارات، تعطي انطباعا عن كيف يمكن أن تتغير التجربة الإنسانية مع كل لحظة، الطبيعة غير الثابتة للواقع، حيث كل تجربة يمكن أن تؤدي إلى إعادة تشكيل مكونات اللون كي يعبر عن الحرية والتميز الذاتي. الاصفر يرمز إلى التحرر من القيود الاجتماعية والنفسية، والرمادي يمكن أن يمثل القيود التي نواجهها، سواء كانت داخلية أو خارجية، والتي تمنعنا من تحقيق كامل إمكانياتنا، كلها ترقص فوق جسدي. اشعر بالجمال والفن، في كيفية التعبير الحركي لجسدي وهو يتلوى على الكانفاس وكيف يكون وسيلة للتواصل وسيلة للتعبير مشاعري العميقة التي تعكس الفوضى والصراع، رقص الألوان يبرز التوتر بين الجمال والفوضى في الحياة. تجمعها مسافة كانها الهاوية بين الفن والفلسفة، مما لا يوفر مساحة للتفكير في كيفية تأثير التجارب الإنسانية على الوجود. الرقص يمكن أن يمثل التشظيات في تجربة الذاكرة بعد الطرق على انية الخراب، يعكس تعقيد الذاكرة البشرية وطبيعتها المتغيرة. وكيف يمكن للذكريات أن تتفتت أو تتشقق، في تفاصيل الكانفاس، على الرغم من التعبير عن فقدان التفاصيل أو عدم وضوح، فان بعض الأحداث هي تشظيات تشير إلى كيفية تداخل الالام مع بعضها، مما يؤدي إلى صعوبة تمييز ما هو حقيقي وما هو خيال. الذكريات ليست ثابتة، نعم تتغير بمرور الوقت. يمكن أن تؤدي الألوان المتناثرة بعفوية إلى إعادة تشكيل أو إعادة تفسير الذكريات القديمة، تمثل صورا للأحداث بشكل مجزأ بدلاً من سردها بشكل متسلسل، مما يعكس طبيعة الذاكرة اللونية، كيف يمكن أن تستحضر مشاعر قوية عند ومضة لون؟، مثل الحزن أو الفرح، مما يجعل الذاكرة تجربة عاطفية معقدة، يمكن أن تمثل كل قطعة متشظية جانبًا من جوانب التجربة، مما يعكس عمق الذاكرة وتأثيرها على شعور الفقدان. عندما تتلاشى الذكريات أو عندما تصبح غير متاحة، اللون الأبيض يعبر عن الحنين(الطفولة) إلى ما كان ويشير إلى كيف يمكن أن تظل بعض الذكريات غير مكتملة أو مشوشة بلون ابيض شاحب يعكس شعورا بالعجز عن استعادة الماضي بالكامل. كل شخص لديه ذكرياته الخاصة التي يمكن أن تكون مختلفة تمامًا عن الآخرين، كما كل لون له شخصيته وهويته، تعكس التجارب الفردية للألوان، ويمكن أن تجمع التشظيات مثل الأحداث التاريخية أو الثقافية لتشكل ذاكرة لونية جماعية، كي يتم تذكرها بشكل مختلف. بين الألوان تشير التشظيات إلى الجهود المبذولة لاستعادة الذكريات المفقودة أو الممزقة، تعكس قدرة الإنسان على إعادة بناء هويته من خلال ذكرياته، وتعبر عن كيف يمكن أن يتم إعادة تقييم الذكريات مع مرور الزمن، مما يؤدي إلى فهم جديد للتجارب السابقة من خلال هذه الأبعاد، يمكن أن تعكس التشظيات تجربة الذاكرة بشكل عميق ومعقد، مما يوفر مساحة للتأمل في كيفية تأثير الذكريات على فهمنا للذات. في الفن هناك العديد من التقنيات التي تُستخدم لتمثيل التشظيات، كل منها يمكن أن يعكس تجارب الذاكرة ومكوناتها المؤلمة المتعددة. اذ تعتبر اللوحة الفنية وسيلة تعبير قوية عن المشاعر والأفكار، تعكس واقع الحياة من زوايا متعددة. في هذا السياق، تبرز اللوحة المتشظية وسيلة فريدة لنقل الأحاسيس والتجارب اليومية من خلال الألوان والحركات، تتسم اللوحات المتشظية بتفاصيل غنية وألوان نابضة بالحياة، مما يمنحها طابعاً حيوياً ويؤهلها للرقص على جسدي. تمثل الألوان في هذه اللوحات مشاعر مختلفة، فالأحمر يعكس الحب أو الغضب، بينما الأزرق يرمز للهدوء أو الحزن. من خلال دمج هذه الألوان، تنشأ حركات لونية ترقص على سطح الكانفاس، تعكس ديناميكية الحياة من خلال تصوير مشاهد دوران الجسد على اللوحة، الالوان مثل الأطفال وهم يلعبون حين تتجول العائلات في الحدائق، تتجلى فيهم لحظات السعادة والمرح، تجسد التفاعل الإنساني وتبرز جمال اللحظات البسيطة. الألوان ترقص لتعبر عن الطاقة والحيوية، مما يجعل الفنان يشعر وكأنه جزء من هذا العالم الحالم، مع ذلك، يمكن أن تطرح اللوحات المتشظية تساؤلات حول الفوضى في الحياة المعاصرة. هل تعكس هذه الألوان حالة من الفوضى الداخلية؟ أم أنها تعبر عن التفاؤل والأمل؟ هنا يفتح هذا النقاش مجالاً للتأمل في كيفية تأثير الألوان على حياتنا اليومية، على مشاعرنا، في النهاية اللوحات المتشظية، تجسيد للواقع الحياتي من خلال الحركات كأنه يرقص بحرية فوق جسدي. تعكس هذه الرقصات ليس فقط اللحظات السعيدة، بل أيضًا الفوضى والتعقيد الذي يعيشه الإنسان. من هنا نكتشف أن الفن ليس مجرد تمثيل للواقع، بل هي الواقع، لوني، وكلمة الرقص توحي بحركة ديناميكية وحيوية الألوان وفكرة الوجود، حيث يُظهر البحث عن المعنى ان ليس له معنى في عالم غير مُعطاء، والرقص على الكانفاس يمكن أن يُمثل تعبيرًا عن الحرية الفردية، حتى في ظروف الإهمال.

***

غالب المسعودي

وانا أتعدى السبعين ذاكرتي لا تسعفني دوما. أصبحت كذاكرة تلك السمكة اليابانية الحمراء والتي وضعت في إناء زجاجي على الطاولة تدور فيها وتدور فرحة. توضع في إناء بجنب مواد غذائية أخرى تبدّا كلها بحرف السين في اللغة الفارسية في مناسبة عزيزة على شعوب الشرق حين يبداً الربيع وتزدهر الزهور وتخضر أغصان الشجر وتتفتح براعمها إنها يوم نوروز المجيد.

لكن اليوم الأربعاء. أتذكر تقريبا كل شيء. لكني أردت ان أتذكر ما فعلته البارحة الثلاثاء.

هاتفت زوجتي وقالت:

 لقد تحدثنا صباحا

فقلت لها أنا لا أتذكر.

 عدت احسب الساعات إلى الوراء مجرد خواء فإذا بها كورقة بيضاء دون اي فعالية او نشاط لا أتذكر حتى الفطور اما وجبة أ لغذاء فأنا متأكد انه كان فاصوليا خضراء وربما ذهبت الىً خارجً البيت لشرب قهوتي المفضلة عند "بار لوقا" في مركز مدينة برج الطاحونة الأندلسية هذا المصيف البديع والواقع على ضفاف ساحل الشمس على آلبحر الأبيض المتوسط.

 راجعت أوراق البنك علني أجد إذا كنت قد اشتريت شيء ما. أنها بيضاء لم أتبضع لم التقي باي صديق. تامل إني لا أتذكر متى بدأ المساء لكني من الغريب ان أتذكر باني شاهدت فلما عن "كونان البربر " للمثل ارنولد شفاتنزنيكر القسم الأول والثاني ثم نمت.

حلمت ربما لست متأكدا حتى من ذلك فاذا بي  اقف أمام مرآة صغيرة كالكرستال ذو إطار ذهبي صورتي تنعكس منها صافية جدا.

 لازلت لا أتذكر ما حصل البارحة. لا اعرف أحدا في هذا المكان. اجلس وحيدا في غرفتي الصغيرة أأسال الجدران عن البارحة ربما يتذكر ما حصل بين جدرانها الأربعة. كانت جارتي تحدثني عن أشياء لا افهمها ولأنها طرشا لا تسمع إلا القليل، لا أحاورها إلا لفترة ثواني لتختفي وبسرعه في شقتها. اما الجارة الأخرى فهي متمارضة على الدوام تتذكرني حين تفكر بحاجتها لبعض المال كذاك البنك الواقع عند طرف ساحة الشمس وأنا بدوري لا أتذكر لا أتذكر جيراني الآخرون في هذه العمارة يتغيرون دوما إنها تحتوى على اكثر من ستمائة شقة كيف لي ان اعرفهم جميعا اسلمً عليهم دوما بعضهم ينظرون الي بتعجب ويتركون المكان. إلا صاحبي ذو البشرة السمراء بواب العمارة "البني" وهذا اسمه هذا الإفريقي الخجول. أتحدث معه كل يوم. يقول لي أنت مثل أبي وافرح لنعته لي ب "أبي".

لا زلت لا أتذكر ما حصل البارحة الثلاثاء. كأن احدهم مسح ذاكرتي. تصور ان لا أتذكر حتى الفطور ربما لم افطر في ذلك الصباح واكتفيت بحبة من التمر العراقي وجوز جاء من هورمان.

 هل أهاتف صديقي الأيرلندي "النبيل" ربما يعرف شيئا عن يوم البارحة لأننا نلتقي تقريبا يوميا لكنه تعدى الثمانون وربما لا يتذكرني هو الأخر او بالأحرى يجب ان اذهب الىً صاحب الحانة ، لوقا لإسالة انً كنت قد شربت القهوة البارحة اه نسيت ان والداه يديران الحانة وقد تعديا الثمانون ربما سوف يتساءلون من أكون أنا بنفسي ، الان، اه نسيت ربما التقيت بأحدهم او مررت من أمام محلات شارع القديس ميخائيل المزدحم وسلمت هي علي من تكون يا ترى؟ من؟ سأسال البقال المغربي فؤاد لعلي اشتريت منه بعض الفاكهة او الجزار جمال ولم لا ربما يعرف زميلي محمد التقي به في المدرسة يحدثني عن أيام زمان لا ينسى طبعا يجمل الحوار بكلمات فرنسية والإسبانية ونغمة امازيغية قادمة من الأطلسي عبر البحار أتساءل مرة أخرى كي أتذكر يجب ان يكون هناك حادثة تربطني بها وبالمكان او الأشخاص. لكن ذاكرتي أفرغت لا أتذكر الثلاثاء. مسحت كما تمسح ذاكرة الكومبيوتر. أتوه واقول لكم معترفا متأسف، اعتذر منكم جميعا ببساطة شديدة لا أتذكر الثلاثاء هل كنت نائما؟ ربما كنت فاقد الوعي وصحا الآن. انظر إلى الرزنامة المعلقة على الحائط إنها مؤرخة 3025.

 أتساءل الآن بعد كل هذا البحث عن "الزمان" أترى مر دهر من الزمان ولا زلت ابحث عن ذاك الثلاثاء.

***

 د. توفيق رفيق التونچي الأندلس

 2025

.......................

* الصورة للرسام الاسباني سلفادور دالي.

 

غير بعيد عن الموعد العالمي المخصص للاحتفال بالحب، لن أتحدث عن طرق الاحتفال أوعن ماهية الحب ولا الحب الافتراضي أو الواقعي، لكن بالمقابل سأتساءل عن تمثل المغاربة للحب، وكيف هو حال لغة الهوى لديهم؟ وهل يمتلكون القدرة على التعبير عن حبهم؟.

غالبا ما نصادف أفكارا وا تصنيفات تجعل من الدارجة المغربية، ومفرداتها عاجزة ولا ترقى لمستوى التعبير عن الحب، لكن ببحث بسيط جدا في المعجم اللغوي المغربي، نجد أنه مليء بمفردات مرتبطة بالحب الجد معبرة، فهناك أكثر من مرادف له وكمثال: بضاض، الزعطة، العطفة، البغو، الربطة، الهوا، " و"ثايري" بالأمازيغية الخ.

وإن كان العالم بأسره قد جعل من القلب رمزا للحب، فالمغاربة أضافوا عضوا آخر ألا وهو الكبد، والذي يقابله باللغة الأمازيغية "تاسا".

ناهيك عن الذاكرة الشعبية المغربية سواء بالدارجة أو الأمازيغية، والتي تزخر بقصص وحكايات وأساطير غرامية، دون نسيان بصمة الفن المغربي بمختلف تلاوينه وتركيبته وثراءه البادخ، بدءا بالأشعار و"تاموايت" الأمازيغية التي تنبض وتتنفس حبا، ومرورا بالملحون هذا اللون التراثي المكتنز، وصولا إلى العيطة نداء القلب والتاريخ العريق، هذه الأخيرة التي تضم في ثناياها تيمات متعددة ومن بينها تيمة الحب.

مما يجعلنا أمام غنى ثقافي وفني ولغوي أيضا، يدحض معه كل فرضية تفيد أن المغربي لا يعرف للحب طريق أو لسان، مما يطرح معه التساؤل حول مكمن الخلل وهو ما يحيلنا مباشرة على التربية والتي تعاني ثغرات عدة.

كيف يمكن للإنسان أن يحب؟ ويعبر عن ذلك إذا كان يعاني من مركبات نقص، تجعله غير قادر حتى على حب نفسه والتصالح مع ذاته، هو بالأساس نقص على المستوى العاطفي وغياب الثقة في النفس، وانعدام الاهتمام، ضعف الشخصية، الخجل ...

فالحب قبل أن يكون إحساسا هو ثقافة أسرية ومجتمعية، قلما نسمع عبارات الحب والود بين الآباء وأبنائهم أو بين الزوج والزوجة أو حتى تلك المتبادلة وبين الأصدقاء والإخوة... فلكي تشيع هاته الثقافة يجب أن تنطلق من أساس مهيأ لإعطاء الحب واستقباله.

 فلا زال العديد من الناس يخلطون بين الحب والإعجاب والانجذاب الجنسي، وهذا يعتبر مشكل بحد ذاته.

وكثر هم من يظنون أن الإبتسامة والإحترام وتشابه الإختيارات، وتقديم الخدمات أو المساعدة من الطرف الآخر، حبا وهذا راجع للشح والعطش العاطفي الذي يعانيه الإنسان منذ طفولته، ويظهر مع المدة على شكل خيبات وحرمان وسوء تقدير وفهم، فيحيلنا على اضطراب العواطف والتيه وهشاشة شعورية مترسبة.

دون أن ننسى أن هناك من يستنقص من الرجل إزاء بوحه أو تعبيره عن الحب علنا وقد يطلق عليه لقب "عنيبة " وهو من المصطلحات المستجدة على دارجتنا المغربية، أما بخصوص المرأة فتقرر عدم الإقدام على الخطوة، حفاظا على كرامتها ومكانتها وإلا سميت ب " المدلولة"، قد يكون هذا راجع للإبتذال والالتباس الحاصل على مستوى العلاقات وهو موضوع آخرذو شجون، فيحق لنا هنا التساؤل المشروع، ألم يمكنا التطورو الانفتاح الحاصل من إبتداع طرق تعبيرية تشبهنا وتلائم ثقافتنا وهويتنا وتراعي خصوصيتنا؟

وسبب التساؤل راجع لموجة التقليد الأعمى أو عقدة الآخر، حتى صرنا نستعير طباع وثقافة ولغة غيرنا لنعبر عن مشاعر تخصنا.

وفي خضم الحديث دائما عن أزمة التعبير عن الوله، فقد استطاع العديد الخروج منها، وكان البديل من خلال التعبير بالافعال والمواقف والاهتمام أكثر من الأقوال، مثلا كإلقاء أسئلة ملمحة غير مصرحة من قبيل : هل أنت حزين؟ ما بال ملامحك متغيرة؟ كل جيدا، إلبس معطفك، ألديك مصروف؟ وقد يظهرها البعض من خلال التنازل عن نصيب المحب من الحلوى أو قطعة اللحم لمحبوبه على غرار أجدادنا، هي في الظاهر حركات ومواقف وأسئلة روتينية وتبدو سطحية لكنها تحمل من الحب والود الشيء العميق.

ليظهر جليا أن المشكل ليس في اللغة بل في تقنيات غرس ثقافة التعبير عن الحب وهي من الحقوق المهدورة اجتماعيا لأنها تكتسب، فإذا كانت الأسرة عاجزة عن نشر هذه الثقافة، والمدرسة تلغيها من مقرراتها والمجتمع يدينها، فلا تنتظر كائنا كان أن يحب بشكل سليم لوحده إلا من رحم ربي، فهناك من ينهل من الروايات وآخر يستعين بالأفلام والسلسلات والكثير يستفيد من تجارب الغير، وآخرون يقصدون السوشيال ميديا والبقية انصرفوا عن الحب وما جاوره.

***

احيزون سميرة

أخصائية إجتماعية ومدونة

التعريب: الأستاذة سهام حمودة (تونس)

***

الوحدة مكان صحي لتربية الروح، لكن هذا لا يعني أن تكون وحيدًا ومنعزلًا. إن إنشاء أو البحث عن عالم للعزلة هو اختيار شخصي، لذا يجب أن تكون حذرًا عند انتقاء الأفكار التي ستؤثث بها هذا العالم⸳

يمكن العثور على العزلة دون الحاجة إلى السفر إلى مكان ناء. فأنا مثلاً أحب أن أنعزل عن الناس بالذهاب إلى البرية، أو بالوصول إلى قمة صخرة مستدقة أو جبل، أو بالإبحار بالقارب على طول مجرى نهر بعيد. فهذه الأماكن تمنحني السكينة والإلهام، كما يكشف لي الصمت عن أشياء كثيرة، وتعلو همسات المخلوقات فوق صوت الريح⸳

أعتقد أن الهروب مهم لتنمية الروح، وفي عالم الوحدة يمكن أن تجد هذا الهروب. يختار البعض المشي، بينما يجده البعض الآخر في سياراتهم، وذلك بقيادتها لمسافات طويلة. حتى أن البعض يستطيعون إيجاده في غرفة مزدحمة بالناس، من خلال الانغماس في الاستماع إلى الموسيقى باستخدام سماعات الأذن. ومع ذلك، تنضج العزلة كخبرة فريدة يمر بها الفرد. فهذا الملاذ يصبح جزءًا من الروح التي تصبو إلى أن تكون في ذلك المكان، لتحرر نفسها وتتأمل في صيرورة كل شيء⸳

ستكون الأفكار في هذا المكان أكثر نقاءً ودقة، مما يقلل الفوضى التي كانت تثيرها في العقل، فلا يعود هناك تصادم بينها، وهو ما كان يسبب التشويش. بدلاً من ذلك، تتكون الأفكار بحرية، مما يتيح التعرف عليها وتسجيلها. عندئذٍ يصبح العقل التحليلي حرًا لتحليل ووزن الأفكار العميقة، في حين يصبح العقل المبدع حرًا لرؤية الجمال. أما الروح، فتصبح جزءًا من هذه العملية، لكنها تظل مختبئة في الهاوية، لا تعلن عن وجودها إلا عند الانعزال عن الناس⸳

جد مكانًا لحرمك واحرسه جيدًا، وتعرف على طاقته المقدسة، كما تعرّف على عالم الوحدة⸳

***

....................

* المصدر: تعرّف على الفلك

أدمن في قلبي السؤال، كيف يجتمع الاثنان معاً، الوردُ والنفطْ، الشيخ ذو الألف جاريةٍ.. والديمقراطية

السياط والسيوف وحاملوها.. والحفاة

رغيف الخبز الساخن.. والدولار

دين محمد في أفغانستان وإيران والبيت الأبيض

سيف علي ورامسفلد ورزمة أوراق خضراء

حدثني أيها الدهر المقيت

كيف تفيض الأرض التي تملؤها الدماء الطازجة…بالجرذان

كيف تمشي طيور الحب…مشية غربان

كيف لرحيق الجوري أن ينقلب لرائحة الجثث في كل مكان

كيف كتبوا على راية بوش لا الله إلا الله وصلوا تحتها

كيف لسيف عربي في المبغى والبغي يلمع نصله…وعند الحق في الغمد أو في قلبي ينام...

كيف …لماذا …كيف…وأين....

إلهي لقد خلقوا منك الجلاد…وماتوا على كتبٍ منسوخة …مشهورين

إلهي…ليس هناك إمام صادق في القرن العشرين.

إلا الكأس ...

أطفئ فيه وحدتي

أوضأ فيه الروح

وأضئ قناديلي.

***

كريم شنشل/ الدنمرك

 

حدثني ذو شيبةٍ بهيَّةٍ فقالَ بلسانِ ذاتٍ هيَ في شأنِ الحياةِ كانت خبيرة:

أرأيتَكَ قومَكَ فإنَّهم مالوا فقالوا كلمةَ مجَّةً سمجةً وبالخَرَاب نذيرة، قالوا: "إنَّ البنتَ في دارِ أبيها أميرة، وفي بيتِ بعلها أسيرة". وتلكَ لَعمري كلمةُ هَوجاءُ عوجاءُ عرجاء وبالإعتبارِ غيرُ جديرة. أفَنسيَ القومُ أنَّها تقضي معشارَ عُمُرِها في دلالِ أبيها وبدلائِلهِ مستَنيرة، بينما تمضي في تسعةِ أعشاره في ظلالِ زوجها وبنزيرِ سعيهِ راضية، وبغزير عيشهِ مُتنعمةٌ غيرُ مُستطيرة، أم تناسوا أنَّها فسيلةُ، والفسيلةُ لا تؤتي أكُلها إن لم تنفصمْ عن نخلتِها الكبيرة. أم لعلَّهم تغافَلوا أنَّها ما خُلِقتَ إلّا لتكون سكناً لهُ، ولهُ وحدهُ بالودادِ سَميرة. أم تَجاهَلوا أن لا عيشَاً هنيَّاَ لها بتمامٍ في مقاديره، وألا مَصيرَ لها إلّا معَ زوجِها وحيثما يكونُ مصيره. وهكذا فلقَ الخَلّاقُ ﷻ الفسائِلَ، وهكذا شَرَّعَ في فرقانهِ أطوارَهنَّ بكلماتٍ تاماتٍ جليةٍ ويسيرة.

أجَبتُ ذا الشيبةِ المتحدثِ بنَبَرَاتٍ حصينةٍ رصينةٍ وبنَظَرَاتٍ بصيرة:

بيدَ أنّي أظنُّ أنَّ قولَ الناسِ: "عندَ أبيها أميرة، وعند بعلها أسيرة"، هي عبارةُ حقٍّ وللإمتعاضِ غيرُ مثيرة، ذاكَ أنها عبارةٌ ما جاءَت عن ضوضاءَ ومتاعبَ كثيرة، بل إثرَ غوغاءَ ومصائبَ خطيرة؟

فرَمقني ذو الشيبةِ بإستياءٍ وكادَ يسحبُ من تحتي حَصيره، وشعرتُ حينَئذٍ أنّي كنتُ بين يديهِ كمثلِ تائهٍ هائمٍ ضاعَ منهُ بعيره، ثمَّ ردَّ عليَّ بقولٍ غليظٍ مزمجرٍ مُترَعٌ بزفيره:

أوَقلتَ: "ما جاءَ قولُهم من متاعبَ بل بعدَ مصائبَ خطيرة". إذاً، فاسمعْ وخذْ مني جذوةً قد تنفعُكَ في فهمِ الحقِّ ومعرفةِ معاييره، الحقِّ الذي نبذهُ الناسُ وكرهوا سُبُلَهُ، ومقتوا منه حتّى تباشيره: إنَّ المصائبَ لا تكونُ إلّا حيثُما يكونُ الباطلُ مُلوِّحاً بدنايره، وترى الناسَ لاهثينَ بدناءةٍ خلفَ دراهمِهِ وتصاويره، ومهرولينَ ببذاءةٍ وراءَ رفثِهِ وسائرينَ أينما سارَ مسيره، وناكثينَ أصيلَ إرثِ الكتابِ وهدى تعابيره، ونبيلِ كلمِ النبوَّةِ وشذا عبيره، وحانثينَ بجميل حرثِ الآباءِ وأزاهيره، ثمَّ تراهمُ مِن بعدُ أن تأتيَ إبنتُهمُ إليهمُ مكاومةً أسيرة، تراهمُ بسذاجةٍ يُوَلوِلونَ: "أنَّها عندَ أبيها أميرة، وعند بعلها أسيرة"، والحقَّ أقولُ؛ "أنَّ بنتَ الإسلامِ كانت في ديارِ أبيها أميرةً لكنها سفيرةٌ، وتكونُ في مملكةِ زوجها أميرةٌ مُكَرَّمَةٌ قريرة".

فرَدَدتُ على ذي الشيبةِ بخجلٍ وبكلماتٍ صغيرةٍ وقصيرة:

" أقرُّ أنها تمكثُ في دار أبيها كما تمكثُ السَّفيرة، بيدَ أننا اليومَ نحيا في دهرٍ عِوَجٍ قد بتَّكَ مُثلَهُ وهَتكَ ضميرَه، ومحالٌ أن نُصيِّرَها في كلا الدَّارينِ سفيرةً ثمَّ أميرة، فهل الى ذلكَ من سبيلٍ يا ذا شيبةٍ في شؤونِ الحياةِ خبيرة"؟

فردَّتِ الشَّيبةُ عليَّ بكلمةٍ جليةٍ وجهيرة؛

"الأمرُ يسيرٌ، وما عليكَ من واجبٍ ألا يا أيها الوالدُ للسَّفيرة، إلَا إنتخابَ النَّسبِ الزكيِّ لأبنتِكَ لتكونَ عندهُ أميرة، لأنَّ الأصلَ غلّابٌ مَهما حاوَلتَ إصلاحَهُ وتعميره. وإذاً، فالقرارُ الأهمُّ هو بيدِكَ أنتَ يا وليُّ السَّفيرة، وليسَ بأياديَ أبي الزوجِ ولا الزوج ولا حتّى بيدِ إبنتِك السَّفيرة. عليكَ وحدكَ يقعُ نجاحُ عشِّ حياتِها، وبيدكَ وحدكَ وحسبُ تدميره، شَرطَ أن تعيَ وتَفهمَ معانيَ" الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ" فهماً عن هدىً وبصيرة، ثمَّ لتعلمَ ثمَّ لتقرِّرَ أن؛

"خذوها طيِّبَةً مباركة، وأنعمْ بكم من قومٍ وأكرمْ بها من مصاهرة بالإحترامِ جديرة"، أو أن تعتذرَمنهمُ؛

"التمسُ منكمُ العذرَ، وليركبْ كلُّ امرئٍ منكمُ بعيره، وأتمنى لكم مصاهرةً مع عشائرَ طيِّبةٍ سوانا كثيرة".

وختاماً، لكَ أن تُدركَ يا واليَ السفيرة، أنَّهُ: ما على وليِّ المريضِ من واجبٍ إلّا اختيارِ الطبيبِ الفهيمِ النقيِّ ضميره، لكيلا يكونَ مريضهُ "فأرَ تجاربَ" بينَ أياديَ أشباهِ الأطباءَ، وساعتئذٍ يقعدُ الوليُّ ومعهُ المريض وبمجاجةٍ يوَلوِلانِ على سريره:

"إنَّ البنتَ في دارِ أبيها أميرة، وفي بيتِ بعلها أسيرة".

(المقالةُ مهداةٌ الى "ع" و"هـ". مع أزكى التهاني).

***

علي الجناني

يعيش النظام!.. تقرأ العنوان فتعتقد أنه كتاب يمجد النظام. كتاب لا يحبه من لا يحب السياسة مثلي. وبعد تردد قصير جداً، تقرر أن أكتشف ما فيه. فعنوانه يشي بما فيه: السياسة... كم أكره السياسة! لكن أؤكد لك، أيها القارئ، بعد قراءتي للكتاب أنه قرار أحمق كنت سأتخذه لو لم أكن مترجمة هذا الكتاب. فمن عاداتي السيئة، وأنا قارئة نهمة، أن أختار الكتاب من عنوانه أو من غلافه، فأي متعة أدبية كنت سأفوتها على نفسي لو لم أقرأ هذا الكتاب؟

أعددت كوبًا من القهوة التركية اللذيذة وأحضرت كعكًا كثيرًا، ثم استقبلت وجهة القراءة... في الحقيقة، لم أعرف أين ذهب كل الكعك الذي أحضرته أو متى أنهيت شرب قهوتي، فلقد انغمست عقلًا وروحًا وجسدًا في القصة الأولى من الكتاب، ثم الثانية، فالثالثة. يا الله، لقد وقعت في حب "يعيش النظام" هذا!

كنت قد قرأت رواية "الحقيقة" للأديب اللبناني محمد إقبال حرب، ونلت من قراءتها الفائدة والمتعة. وما لاحظته عند استكشاف عالم "يعيش النظام" هو أن الكاتب لم يستعمل نفس القلم الذي كتب به رواية "الحقيقة" رغم أن كلا الكتابين يحملان نفس الروح الثورية. فهي حكايات ثورية تعري جسد الحياة المتعفن، وإن بدت حكايات تقطر واقعية، وهو ما يبقي شعور الملل بعيدًا عن القارئ. إذ هي طعنة في قلب الإبداع إذا أعاد الكاتب نفسه في كل كتاب يكتبه.

كما تجدر الإشارة إلى أن المواضيع التي طرحها دكتور محمد إقبال حرب قيمة وحساسة، متغلغلة في الوجود الإنساني. هي مواضيع لا يمتلك جميع الكتاب الشجاعة لإماطة التراب عنها، ومع ذلك فقد تناولها بأسلوب جريء شيق، فيه أحيانًا من السخرية اللاذعة التي تدفعك إلى الضحك والتدبر في آن واحد. أذكر على سبيل المثال قصتي "المزاد" و"عذراء إلى الأبد"، فرغم أن القصتين تكشفان ما يحدث خلف خيام التنظيمات الإرهابية في جهادها الدموي باسم الدين، إلا أنك لن تستطيع منع نفسك من الضحك. فالأسلوب في رسم الشخصيات وتعبيرها عن أفكارها ومشاعرها بالكلمات طريف جدًا.

نعم، عند قراءة "يعيش النظام"، ستستمتع وستتعلم وستتدبر وستخاف وستدمع عيناك... مشاعر شتى قوية ستجتاحك. ومن القصص التي أثرت في نفسي قصة سمير، ذلك الكاتب الذي تحول إلى كلب آدمي في سجون النظام... في الحقيقة، وأنا أترجم القصة، لم أستطع أن أكمل ما تبقى منها من أجزاء. تركتها جانبًا لبضع أيام قبل أن أعود لأنهي مهمتي، فرسم المعاناة في السجون العربية كان مخيفًا جدًا، وما حدث في صيدنايا بسوريا نقل تلك القصة حرفيًا.

أحيانًا أتساءل كيف يستطيع الكاتب أن يتنبأ بأحداث لم تقع بعد أو أحداث مخفية أم أن بصيرته لا تشبه بصيرة الآخرين. وإن سألتني عن قصتي المفضلة، فسأخبرك بأنني أحببت كل القصص جدا وأحببت قصة "قرابين التخمة" جدا. بعد أن تقرأ الكتاب ستفهم ما أقصد، فكل القصص في "يعيش النظام" جميلة تنهمر من النهر المعرفي الثري للكاتب. هناك في الكتاب كل شيء من كل شيء، هو كتاب بعيد كل البعد عن السطحية الفكرية والفراغ الثقافي، كتاب ستفتخر لأنه يزين مكتبتك... المجد للكتابة!

***

سهام حمودة

 

"أدركت أنني كنت أرى أشياءً ستختفي سريعًا، كنت أحس بذلك؛ بعد خمس سنوات فقط لم أعد قادرا على التقاط تلك الصور".

المصور الفنان فرانسيسكو كاتالا روكا  فالس، تاراغونا، من مواليد  19 اذار، مارس 1922 - برشلونة، ووفاه الاجل  5 مارس  1998 "وضوح الرؤية" تحت هذا العنوانً نزور اليوم معرضا لهذا  للمصور الإسباني ومع مرور مائة عام على ولادته والذي يعتبر واحد من اهم الشخصيات الرئيسية في مجال التصوير الوثائقي الإنساني في إسبانيا للفترة ما بعد الحرب؛ يعتبر كذلكً أب الجيل الذي جدد اللغة الفوتوغرافية ومرجع للأجيال القادمة. العرض يشمل مئات الصور التي التقطها هذا المصور المبدع. العرض يمكن مشاهدته على قاعة مركز المعارض في مدينة ابن المدينة الساحلية البديعة الجمال والواقعة على ساحل الشمس في الأندلس.1018 Roca

 كان المصور روكا على دراية بالتصوير الفني الطليعي والاتجاهات التجريبية التي سبقت الحرب الإسبانية الأهلية، وكان مهتمًا بالبحث عن لغة جمالية معبرة يهيمن فيها الشكل على المحتوى، واختار في فترة ما بعد الحرب التصوير الفوتوغرافي الوثائقي الإنساني الذي من شأنه أن يأخذ في الاعتبار المحتوى، ويعكس الواقع الذي أحاط به فوق أي تجربة فنية. أسلوبه الذي ترسخ جذوره في الخمسينيات، يتميز برؤيته الخاصة التي تتجلى في التعامل مع وضع الكاميرا بصورة دقيقة كي يتجنب المواجهة المباشرة، واستخدام الزوايا العالية والمنخفضة، وإتقان الضوء والظل والنور، والبحث عن التوازن وإدخال الديناميكية، وكذلك في حبه الكبير وتعاطفه مع ما يصوره بالاسود والأبيض الذي يعتبر ملكا متوجا عليه. وقد أدى ذلك إلى توثيق أعمال بارزة مثل تلك التي أنجزها في العاصمة مدريد ومسقط رأسه في مدينة برشلونة، وقد نشر كتابين عام 1954. 1019 Roca

نجد في صوره توثيقا للحياة للمدينة وإنسانها، وثقافتها، وتقاليدها، وشخصياتها، وأساليب حياتها، ومصاعبها، وأحلامها أيضًا؛ ديناميكية تخبرنا عن التغيرات المتسارعة التي طرأت على وطنه وعبر الزمن على الاقتصاد والهندسة المعمارية لبلد بدأ يتعافى ببطء من ويلات الحرب الأهلية. وهكذا نجد صوراً تظهر فيها وسائل النقل مثل العربات والعربات والبغال، مع الحافلات ذات الطابقين والسيارات الفاخرة؛ الباعة الجوالون، صبية، ماسحو الأحذية، تجار الخردة، والأشخاص المتهورين الذين يستعرضون أجسامهم أو يستحمون على الشواطئ؛ كما نرى الفقر في الأحياء الفقيرة مع ثراء التصميمات الداخلية لبعض المنازل والبرجوازية الأنيقة التي تذهب إلى المدرسة الثانوية؛ صخب وضجيج بعض الشوارع مع الفراغ والوحدة في شوارع أخرى. 1020 Roca

يعد المصور روكا من أبرز المؤيدين والمبتكرين في مجال اهتمامه وممارسته للتصوير الفوتوغرافي الملون. التقط أول صورة ملونة في مستشفى كلينيك في برشلونة خلال تعاونه مع عالم الطب الشرعي سالا فاسكيز، في عام 1941، باستخدام إجراء ثلاثي الألوان للفنون التصوير. في عام 1958، بدأ باستخدام الشرائح الملونة، وفي عام 1965، بدأ البحث في مجال الألوان في مختبره، وهو العام نفسه الذي بدأ فيه المصور الأمريكي ويليام إيجليستون استخدام الفيلم السلبي الملون. منذ عام 1973 ركز عمله وأبحاثه على التصوير الفوتوغرافي الملون، والذي يعتبره لغة جديدة وشكلاً ضروريًا وطبيعيًا.

 المعرض سفر عبر التاريخ والإنسان في مملكة إسبانيا جديرة بالزيارة والتأمل.1021 Roca

 أعماله الفنية:

خلال مسيرته المهنية، قام كاتالا روكا بإخراج عدد كبير من الأفلام الوثائقية. ومن بين أفلامه، فيلم La ciudad condal en otoño (1951)، الذي حاز على جائزتين في Premi Ciutat de Barcelona، الأولى في فئة الفيلم والثانية في فئة التصوير الفوتوغرافي، وPiedras vivas (1952)، وهو فيلم وثائقي عن Sagrada Familia حاز على جائزة Ciutat de Barcelona Film والجائزة الأولى في مهرجان أنكونا السينمائي بإيطاليا. كما قام أيضًا بإخراج سلسلة من الأفلام الوثائقية السياحية لبرنامج التعرف على إسبانيا (1966) على التلفزيون الإسباني. بتكليف من مالك المعرض إيمي مايخت، قام بإخراج الفيلم الوثائقي Miró-Artigas. 1970. سيراميك الجدران وميرو-أوساكا، 1970. الرسم على الجدران. هذه جدارية عملاقة رسمها ميرو وأرتيجاس لمعرض أوساكا الدولي عام 1970. كما رسم ميرو أيضًا لوحة 73. Toiles brulées (1973)، التي تدور حول خيبة أمل الفنان في سلسلة من اللوحات المحروقة.

***

د. توفيق رفيق التونچي

رحلة يجلجل بها القلب ليرسم واحة الخشوع معطرة بنداء تلك الجوارح

تهتف الدموع تتنفس راحلة العناء الأكبر وهي تتجاوز لحظات الصبر والمشقة، تتجرد الروح من ثياب عنائها الدنيوي، لعلها تغتسل برداء المتطهرين، تطوف سبعة أشواط تحلق بعيدا صوب رحم عمقها الكوني، فهنالك في البيت العتيق تهتف الجموع، يسقط الكبرياء في بحر العبودية، بينما تتجرد الذات من نوازعها بحثا عن حقيقة سموها الأزلي، وهي تخوض منازلة التحدي، إجلالا وتكريما لمعنى الله. 

ففي المكان المقدس ذاته، يرتدي الموت كفن الحياة ليسري بهذه الروح كما ضياء (التائبين، الشاكين، الخائفين، الذاكرين، الشاكرين، العارفين، المحبين المعتصمين، المفتقرين، المتوسلين المريدين، الراغبين، المطيعين، الراجين الزاهدين) ليرسم خرائط هذا الوجود بطريقة أخرى، فالعالم عبر هذه المساحات الشاسعة يجتمع في بقعة اسمها مكة، ليثبت علاقة العابد بالمعبود. وهنالك في ذات المكان تنحني الذات تسيح في فضائها الملائكي، بينما نداء لبيك يفترش رائحة الأرض، حيث بين الصفا والمروة يتنفس الإنسان رائحة الجنة بعد أن يصبح الكبير الأكبر الأعظم وليس غيره كل ما يشغل هذا الإنسان.

***

عقيل العبود

......................

* إشارة إلى المناجاة الخمس عشر للإمام زين العابدين.

 

من اقوال بابلو بيكاسو الشهيرة عن الأثر الذي من أجله تنجز الجداريات او اللوحات، الاصيلة وذات القيمة العالية، بمضامينها، وجمالياتها، وابداعها الفني غير المصطنع كلوحات غرنيكا، و مذبحة كوريا، والمرأة الباكية، وتحديدا غرنيكا التي تشكل بمجمل تفاصيلها منطوق بيان سياسي انساني متمرد على حقائق الامر الواقع، يقول بيكاسو: " اللوحة ليست مصنوعة لتزيين الشقق انها سلاح هجومي ودفاعي ضد العدو .."   .

بعد القصف الالماني والايطالي، النازي والفاشي، لمدينة غرنيكا الواقعة في اقليم الباسك الاسباني كدعم منهما للجبهة القومية الاسبانية، بقيادة فرانكو اثناء اشتعال الحرب الاهلية 1937 بالضد من التحالف الشعبي الجمهوري، ووقوع ضحايا مدنيين كثر نتيجة القصف، باشر بابلو بيكاسو وهو في باريس، في مشروع رسم جداريته الشهيرة،غرنيكا، لتكون شاهدا محرضا، على فضاعات تلك الحرب الشرسة والممولة اوروبيا وتحديدا من ثلاثي "هتلر وموسوليني وسالازار، ديكتاتور البرتغال "  لقبر التطلع الحر لطيف واسع من فئات وطبقات المجتمع الاسباني .

تفاصيل عن غرنيكا الجدارية:

استغرق العمل في اللوحة 35 يوما، واعتمد بيكاسو في تنفيذها على اسلوب، هو خليط متجانس من المدرستين التكعيبية والسريالية، بمواد الزيت الخافت اللمعة، على قماش من الكتان، بطول ثلاث امتا رونصف، وعرض سبعة امتار وثمانون سنتمترا، اما الالوان فكانت الازرق الداكن والاسود والابيض .

يتكثف مشهد الجدارية داخل جدران غرفة هي عالم بلدة غرنيكا، على يسارها يقف ثور واسع العينين فوق أمرأة حزينة تحمل بين ذراعيها طفلا ميتا، وفي وسط الغرفة حصانا متألما مع فجوة كبيرة في جانبه وكأنه طعن برمح، وتحته جندي ميت ويده اليمنى مقطوعة وهي قابضة على سيف محطم، ويظهر اعلى الحصان من الجهة اليمنى امرأة خائفة تراقب المشهد من خلال نافذة وفي يدها مصباح مضاء باللهب، والالسنة خناجر تصرخ ..

مجلس الامن ومنسوجة غرنيكا المسترجعة!

الجدارية الاصلية موجودة في مركز الملكة صوفيا الوطني للفنون في مدريد، وقد تنقل عرضها في اغلب متاحف اوروبا منذ انجازها عام 1937 .

في عام 1955 اوصى الملياردير نيلسون روكلفر بنسج سجادة كنسخة عن لوحة غرنيكا ثم اعارها عام 1984 للامم المتحدة لتعلق في مدخل صالة مجلس الامن لتكون حاضرة في قرارات حفظ الامن والسلام العالمي، وبعد ذلك قررت عائلة روكلفر استرجعت السجادة 2021، وقد ساد المنظمة الدولية شعور بالفقدان، عبر عنه الكثير من المهتمين بواقعها وبمستقبل دورها!

***

جمال محمد تقي

 

عندما ينقضي زمن زَهَرُ الرَّبيع، ننتظر بتفاؤل رياحين الفصل القادم بأمل حلم متجدد، وللتو يبدأ عندنا المستقبل وافدا ممتدا ومتدفقا بلا انحصار. قد يلعب البعض لعبة من نوعية الحيوية (الرياضية)، ويزيد من مداومة النقر على أوتار كسب الصراع بين الماضي، وزمن الحاضر الوافد من المستقبل ومن غياهب الغيب الصامت بلا استراق للسمع. الكل مِنَّا يوسع متمنياته حتى النهاية المستحبة، ويُمني نفسه موتا بدون ألم، ولا اعتلال بالمعاناة والامتداد، والغاية هذه جزء من تفكير الرَّفاه (الذهني) الذي يحمل رمزية الإبقاء على بسمة الملمح الوجودي حاضرة، وبلا وجع يؤلم الفرحة، ويصيب الجسد بالكرب.

علاوة على ذلك، فرحلة العمر المسترسلة، نبحث فيها بالكشف عن مفاتن، ومُكنونات السعادة (المعيارية) ولو في حدها الأدنى. نبحث عن الوعي بسلم العمر الذي نرتقب (تجربة) أن تكون أدراجه سلسة الترقي وتصاعدية بالشكل المريح. فالعيش في حظوة السعادة بداية فقط، وقد تماثل نهايتها سارق اللحظات المتعة من المشكلات باحتساب (درجة الصفر على المقياس)، فلا أحد منَّا يتردد في تجديد حقينة أجزاء عمره من الفرح المليح، والبحث عن بسمة طيعة، وفكر يُسعد ولا يبكي.

فإذا كان العمر يمضي بسرعة، والحياة شحيحة في عطاياها الممتدة والمانحة، فلنمض بهمة قامة الوقفة، ونستخلص ولو جزء ميسرا من قشدة عيش الحياة بالسعادة الوفرة غير الاستهلاكية (بالهلك)، ولما لا تمتيع النفس بفضل العيش ما بعد النهاية (الإيمان بالروحانيات). نعم، أعمارنا بداياتها وحتى نهايتها في علم الغيب الرباني، ونحن نعيش بين معقوفتين تتميز بالموت والولادة والتي حتما لن تتكرر بتاتا مرتين.

فالمنع غير الوجوبي جزء من أقساط نيل السعادة، يحضر معنا جميعا، ويتوزع ما بين الجسدي والذهني والاجتماعي، و بتردد التسامي أكثر لما هو في المنهج الروحي. آخر السلبيات بالذكر، تلك الممرات العديدة التي عندها يمتلكنا الوجع، وتتقطع الأنفاس بالألم، ونضيق بحثا عن بوابات استعارة قياس السعادة المفتقدة باللزوم والمداومة. هي ذي الحياة التي علمتنا أن الولادة بكاء لأجل الحياة، وموت النهاية حتمي بدمع العيون احتسابا للفقد، فمن له بداية تكون له النهاية، بوضع نقطة والرجوع إلى السطر!!!

 من الاستعصاء على الفهم المنطقي، التفكير بالتطابقات غير الصحية ولا السليمة. التفكير في المتناقضات التي تصنع فوضى الردم لكل القطوف الدانية من غصون ثقافة السعادة (السمات المميزة). هنا يتحصل الجميع على علامات الإبهام، ونجد أن الحياة ليست رحلة سباق نحو ممرات الموت الآمن، بل هي رحلة عمر تتوازى مع قياس نقاط العمر الممتد في خط مستقيم أم متموج بين عيش السعادة بالموازاة مع فواصل الألم، وبوابات الانشطار الرديف للألم والوجع.

ومن هذا يكون استعراض التوازن قد أوشك على النهاية، وفهمنا للسعادة (النسبية) ليس نهائيا أو تاما، ولن يتبقى لدينا من أمل غير تجسير السلوكيات المستدامة والخبرات الفعلية نحو ممرات القطب الإيجابي، والمتمثل في رؤية السعادة (الرفاه الذهني/ الازدهار)، والنأي بالبعد الممكن عن الأقطاب السالبة (الكرب الذهني/ المعاناة) المتمكنة من الاعتلال وفقد الصحة الذهنية.

***

محسن الأكرمين

تحتضن الدورة الخامسة لمهرجان بابل لسينما الأنيميشن يوميّ 26- 27 /2 / 2025 أحد عشر فيلمًا تحريكيًا عراقيًا إضافة إلى 41 فيلمًا تمثل 14 دولة وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والأرجنتين، وهولندا، وجنوب أفريقيا، وإيران، ومصر، والمملكة العربية السعودية، والجزائر، وعُمان، واليمن، وتونس، وفلسطين والسودان. يقتصر هذا المقال المُقتضَب على مناقشة فيلم واحد فقط وهو "النزيل 086 "  سيناريو وإخراج شمس التميمي، رسم وتحريك أنَس الموسوي، ومدتهُ 3 دقائق و 15 ثانية لا غير. فهو أشبه بقصيدة الومضة أو اللحظة التنويرية ذات النَفَس البرقي المتقشِّف الذي يقول كل شيء في مدة زمنية قصيرة تراهن على تكثيف الحدث، وتخليص الشخصية من كل ما يُثقل كاهلها من أحمال وترهلات فائضة عن الحاجة. وكلمة "النزيل" تعني "السجين" تحديدًا الذي يحاول أن يهرب من درجات الحرارة العالية جدًا في زنزانته الصغيرة المُلتهبة، والأهمّ من ذلك أنه يعيش في السجن المُحكم بعقلية العبد الأسير لا الإنسان الحُر الطليق. فهل يستطيع هذا العبد المُكبّل أن يتحرر من سجنه الذهني قبل أن يتنفس هواء الحُرية النقي؟976 shams

لا تنطوي قصة هذا الفيلم على أي غموض أو إبهام، فالسيناريو مُتقَن إلى حدٍ كبير تُصوِّر فيه السينارست سجنًا كبيرًا مُحصنًا ترتفع فيه أبراج المراقبة العالية كما تحيطه منطقة جبلية قاحلة لا حياة فيها. وفي قلب هذا السجن المُحصّن ثمة نزيل يتفصّد عرقًا بسبب ارتفاع درجة الحرارة وثمة قطرة عرق واحدة تسقط على الأرض فتتبخر في الحال. ولترسيخ فكرة السجن وزرعها في ذاكرة المتلقّي تُرينا المخرجة الفتحة الضيّقة التي يُدخِل منها حرّاس السجن الطعامَ إلى النزلاء، وهي في الأعم الأغلب وجبة شحيحة لا تتجاوز صحن طعام صغير وكوب شاي، وثمة شوكة بلاستيكية يمكن أن يستعملها السجين كأداة حفر لتحطيم جدار السجن حتى وإن كان مُحصنًا بهذه الأداة الرمزية التي تُحيل إلى قوة الإرادة والإصرار على فتح كوّة في الجدار.977 shams

رسمت السينارست بهذه الدقائق الثلاث صورة مجسّمة لمكان السجن وشحنته بالدلالة العميقة حينما لصق السجين على جدار الزنزانة صورًا لبوسترات أفلام مهمة من بينها "المُبيد" لجيمس كاميرون،  وبوستر "الخلاص من شاوشانك" لفرانك دارابونت، وثمة صور وملصقات لفنانات مشهورات لكن ما يهمنا في فيلم "النزيل 086" هو التعالق مع فكرة الهروب التي جسّدها المخرج فرانك دارابونت في فيلم "الخلاص من شاوشانك" ونجحت المخرجة العراقية شمس التميمي في "التناص" مع معطيات الفيلم الأمريكي والإفادة من عناصر القوة فيه وتسخيرها لمصلحة فيلمها الذي يحلم فيه البطل بأشياء كثيرة من بينها الهروب، والحرية، والأمل بحياة كريمة وسعيدة. وقبل التفكير بهذه المعطيات الثلاثة كان يفكر ويحلم بالتبريد والهواء المُنعش الذي يأتيه من مكيّف الهواء المتخيل. لا شكّ في أنّ "النزيل 086" يُعيد إلى أذهان المتلقّين أحداث شخصية المصرفي آندي دوفرين المتهم بقتل زوجته وعشيقها في أربعينيات القرن العشرين حيث زُجّ به في سجن شاوشانك الخيالي المعروف بدرجة حرارته العالية جدًا. ومع أنّ آندي محكوم بالسجن المؤبد لكن بصيص الأمل بالنجاة لم يفارقه أبدًا وقد نال إعجاب السجناء الآخرين بسبب أخلاقه العالية وإرادته التي لا تُكسر.978 shams

جدير ذكره أنّ المخرجة شمس التميمي هي خرّيجة كلية الفنون الجميلة، قسم الإخراج. أنجزت عددًا من الأفلام من بينها "المفقود" الذي يتمحور على امرأة فقدت زوجها في الحرب، فبقيت بينَ بين، فلا هي أرملة، ولا هي على ذمة رجل موجود على أرض الواقع. و "خط وردي" الذي يدور حول زواج القاصرات. و "النزيل 086" هو فيلمها التحريكي الثالث. وتستعد لإنجاز فيلم أنيميشن رابع للكبار عن "قضايا المرأة".

***

عدنان حسين أحمد

 تعني سياحة المستحاثات (المتحجرات أو الأحافير – فوسيلس) قيام الأشخاص بزيارة أماكن ومناطق تواجد وانتشار المستحاثات في الطبيعة (ضفاف الأنهار، الجبال، الصحارى، وسط الثلوج، حول البراكين، المضايق الجبلية، البحيرات الضحلة، وديان الأنهر الجافة، الكهوف... الخ) أو المتاحف المعنية بحفظها وعرضها حيوانية كانت أو نباتية أو بشرية (هوموسابيانس، هومواريكتوس، الإنسان المنتصب – الإنسان الماهر، استرالوبيتك، فلورنس.. من الاسلاف) مثل متاحف المستحاثات (المتاحف الباليونتوجية) (متحف مونت سان جيورجيو في سويسرا، متحف أورورا للمستحاثات بولاية نورث كارولينا الامريكية، متحف المستحاثات في اسينوف غراد في بلغاريا) ومتاحف التاريخ الطبيعي (المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، متحف التاريخ الطبيعي البريطاني، متحف براوز فالي للتاريخ الطبيعي في تكساس) والمتاحف الجيولوجية (متحف سيدجويك لعلوم الأرض في كامبرديج، متحف لابورت للجيولوجيا في المملكة المتحدة). وقد أولت الجهات المعنية في العديد من الدول الكثير من الاهتمام باكتشاف وحفظ وعرض المستحاثات العائدة إلى حقب تاريخية وجيولوجية قديمة قد تمتد لملايين الأعوام من أجل التعريف بتراثها العلمي ولخدمة البحث العلمي ولتصبح مغريات سياحية فعالة (مجذبات سياحية)، تجذب السياح من شتى بلدان العالم (عظام، قواقع، طحالب، قشور البيض، روث، أضراس، مرجانيات، مخالب، دروع السلحفاة، بذور، بقايا شجر، ثمار، نواة... الخ). ومن المناطق الزاخرة بالمستحاثات: محمية الغابة المتحجرة بالمعادي في مصر ومدينة ارفود الصحراوية في جنوب شرق المغرب وتطاوين في اقصى الجنوب الشرقي من تونس وتندوف في الجزائر. وميسو ومضيق اولدواي الجبلي باثيوبيا وعفار في شمالها الشرقي، وحاقل وعين عمورة ومجولا في لبنان والشوبك في جنوب الأردن. ومحمية اواش بدولة جنوب افريقيا وبحيرات نهر المازون في شمال شرق البيرو وغرغشتي في رومانيا وهضاب سولايك وغوتيبي في تركيا وبغ بروك بالقرب من فريهولد في نيوجيرسي وبيورس ستيت بارك في ماريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية.

*** 

بنيامين يوخنا دانيال 

سألت، ما النهر ياجدي، أطرق هنيهة وقال، هو ذاكرة الأرض التي تنساب، خيطٌ شفيف من الحكايات التي لا تنتهي. هو المرآة التي تعكس أحلام الجبال، وتُعيد صياغة الكلمات التي همس بها الزمن في أذن الصخر. النهر ليس مجرد ماء، إنه نبض، عروق ممتدة في جسد الأرض، تحمل معها أسرار الطين، وآثار الأقدام التي مشَت ذات يومٍ بحثًا عن الخلاص.

هو العبور الذي لا يكتمل، حافةٌ بين البداية والنهاية. عند كل منعطفٍ، يكتب قصيدةً جديدة، مشوهة أحيانًا، كاملةً أحيانًا أخرى، لكنه لا يتوقف عن السرد. ينقل الحصى كرسائل غامضة، يحفر أخاديد كعلامات في جسد الأرض، ويجر وراءه صرخاتٍ مكتومة لسنواتٍ ضاعت في الضباب.

هو الشاهد على اللامرئي، حامل القصص التي لا يستطيع الزمن محوها. الماء فيه، شفافيته، ليست إلا وهمًا، حجابًا رقيقًا يخفي تحته تاريخًا من الصراع، من الحب، من الخيبات والانتصارات الصغيرة. هو الطفولة التي تنساب بين أصابعنا قبل أن نفقدها، والحياة التي تتسرّب من أيدينا ونحن نحاول أن نمسكها.

هو الرحلة. كل نقطة ماءٍ فيه كانت جزءًا من محيط، ثم غيمة، ثم دمعة، ثم ندىً على وردة، قبل أن تصير جزءًا من هذا التيار الجارف. يحمل في أعماقه ذاكرة التحوّل، درسًا في الفقد والعودة، في البداية التي تتولد من كل نهاية.

هو الصمت. هو حديث الطمي، وصخب الأمواج الصغيرة التي لا يسمعها سوى من يجلس على ضفافه متأملًا، وهناك في العمق، يتكرر صدى أغنياتٍ قديمة، ألحان خجولة اختبأت في مجرى الماء، حيث ما تبقى من أرواحٍ قديمةٍ عبرت، من حيواتٍ لم تكتمل، من أحلامٍ جُرفت في الطريق.

لكنه أيضًا متمرد. لا يسير في طريقٍ واحد. يلتف حول الصعاب، يخلق لنفسه منفذًا حيث لا منفذ، يتحدى الجمود بصبرٍ عنيد. ينكسر، لكنه لا يتوقف. يتراجع خطوة، ليعود بألف خطوة. في فيضانه، يُعلن أنه قادر على الهدم مثلما هو قادر على البناء.

هو، نحن، ونحن هو. كل قطرة فيه هي فكرةٌ كانت تبحث عن مسار، وكل تيارٍ هو عاطفةٌ كانت تبحث عن متنفس. نحمل فينا نفس التيارات، نفس الالتواءات، نفس الغضب الهادئ الذي ينهار على ضفافه. النهر، مثلنا، ليس له شكلٌ واحد، ليس له لونٌ واحد، ليس له صوتٌ واحد. لكنه في النهاية، دائمًا، يمضي.

***

مجيدة محمدي - شاعرة

 

مَا هِيَ اَلْحُرِّيَّةُ اَلْمَالِيَّةُ.. وَمَا هِيَ أَسْرَارُهَا..؟

في خاتمة كتابة "أسرار الحرية المالية" يحدد رجل الأعمال العصامي الناجح علاء الخزرجي سلالم العمل والنجاح، بخمس درجات متتابعة، تأتي كالتالي:

(قرّرْ، خطّطْ، نفّذ، أصبر، تنجح).

هذا الكتاب الذي أطلّ على قارئه بـ 216 صفحة من القطع الوسط، تناول باسلوب سلس ومشوق خطوات إدارة الأعمال من الصفر حتى الثراء. وكان من العلامات المضيئة للوفاء أن يدون المؤلف إهداءه للكتاب بالشكل التالي:

(إلى والدي الذي علّمني العمل بصدق. إلى والدتي التي علمتني العطاء. إلى كلّ من لا يريد أن يبقى أجيرًا).

يستهل المؤلف كتابه بمدخل يحمل عنوان "لماذا هذ الكتاب؟"، ويجب على السؤال بقوله إنه أثناء تجواله ولقاءاته المتكررة مع الأهل والأصدقاء، ومع بعض من تجمعه المصادفة بهم، غالبًا ما كان يتعرض إلى سؤال عن كيفية استطاعته النجاح من الصفر.968 freedom

ويشير إلى انه كان يحاول قدر الإمكان تقديم نصيحة، أو عدة نصائح بحسب ما يسعفه به وقت اللقاء مع الآخر. ولكنه عندما ينتهي اللقاء يتذكر أشياءً مهمة، كان عليه أن يذكرها، كانت قد غابت عن ذهنه في وقتها، وهي نافعة للآخرين من أجل البدء في أعمالهم، أو تطويرها.

ثم ينتقل إلى ذكر كيف انه كان في أحد الأيام ذاهبًا لشراء مجموعة من قطع الأراضي لغرض الاستثمار، من تاجر يعمل في تهيئة الأراضي وتقسيمها وبيعها، فتفاجأ بأن هذا التاجر هو أحد سائقي التاكسي الذين كان يستأجرهم في جولاته عند السفر، وعبّر له التاجر الشاب عن مدى استفادته من نصائحه في شحذ همته، وبدء مشروعه التجاري، ونجاحه.

وإذ يؤكد المؤلف أنه يحب أن يعيش النجاح، وأن يراه لدى الآخرين أيضًا، نجده قد قرر الإسراع بإخراج هذا الكتاب، الذي كان يكتب فقراته منذ عدة سنوات، لتكون كلماته هدية من شخص عصامي إلى كل من يريد أن يكون عصاميًا وناجحًا ويعيش حريته المالية، ولكل من يريد أن يختصر الطريق ولا يقع في الأخطاء التي يقع فيها الآخرون أثناء ممارستهم للأعمال.

هذا الكتاب موجه في أطره العامة إلى الشباب الطموحين، وإلى محبي حكايات الأمل والعمل والجد والمثابرة والعصامية والنجاح.

وهو كتابٌ غنيّ وثرٌ لا يفيه حقه الإيجاز والتركيز، بل انه كتاب يستحق أن يقرأ كاملاً من الغلاف إلى الغلاف.

***

خالد الحلِّي

ملبورن - أستراليا

 

في المثقف اليوم