أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

المطاعجة، واحد من أشكال التعبير الجسدي اعتدنا على مشاهدتها، حينًا في الواقع اليومي المعيش وآخر في أفلام السينما التي تدور أحداثُها حول المبارزات في أفلام الفرسان والقراصنة ومَن إليهم ممن هم بحاجة لتأكيد قوتهم وسيطرتهم على سواهم. وهي عادةً ما تدور بين اثنين أحدهما يتحدّى الآخر، ومن يفز فيها تكون له الحظوة بالتحبيذ والتشجيع وحتى الخضوع له وربما تسنيمه موقع القيادة لمجموعتين عادة ما تكونان متنازعتين، كما اعتدنا على مشاهدته في أفلام الفتوات المصرية أيضًا. لهذا الشكل التعبيري جانبان أحدهما يوحي بالعنف والسيطرة والآخر يُعبّر عن جماليات الرياضة واللياقة الجسدية. بالنسبة لنا شاهدنا النوع الأول وعايشناه في فترات ماضية كما سلف، أما النوع الثاني، فقلّما شاهدناه في عالم كثيرًا ما سادت فيه البلطجة والعنف.

يبدو أن المطاعجة الجسدية هذه، انتقلت في فترتنا الجارية، فترة هيمنة وسائل الاتصال الاجتماعي، وبروز الشخصانية والفردانية، بصورها المختلفة، إلى الساحة الأدبية، واننا ابتدأنا بالاستماع إلى عبارات لم يسبق وأن استمعنا إلى أمثالها، في الماضي القريب على الاقل، من هذه العبارات أشير إلى: أنا اكتب أفضل منك. وكتاباتي الشعرية أو الروائية أفضل من كتابات فلان أو عليان، أو أتحدّى شعراء العالم كلهم إذا كانوا قد أتوا بمثل ما أتيت به من معاني في قصيدتي الشينية او السينية وما إليها من تسميات.

في مواقف كثيرة استمعنا خلالها إلى مثل هذه التحديات والمطاعجات الأدبية، كانت تنتابنا حالة من التساؤل، فهل يصح نقل ما واجهناه ونواجهه في عالم العنف وإعلان السيطرة، إلى عالمنا الادبي الرقيق؟ وهل يمكن حقًا أن تتحوّل الساحة الأدبية، أية ساحة سواء في بلادنا أو غيرها، إلى حلبة صراع تكون فيها الغلبة للديك المنتصر على منافسه المهزوم؟ وسؤال أساسي آخر هل يوجد في عالم الادب، الشعر، القصة والرواية وما إليها من الضروب الأدبية، مبدع كامل وآخر متوسّط الموهبة؟ بمعنى كبير أو صغير؟

لم تكن الساحة الأدبية في أي من حالاتها ولن تكون، ساحة صراع ديوك، القوي بين أكثر من قوس، يسيطر فيها على مَن هو أضعف منه، وحتى لو تقبّلنا مؤقتًا القول إن هناك من يتقن هذا النوع من المعرفة، النحو والصرف مثلًا، فإن هذا لا يؤهله لأن يسيطر على مَن قُبالته، لأن هذا قد يكون متمكنًا تمام التمكن من التعبير الابداع، بمعنى أنه موهوب حقيقي وأصيل، أقول هذا وأنا أفكر في أمر بعيد عن سياق حديثنا وقريب في الآن، هو أن هناك فرقًا حقيقيًا بين علم الادب وعلم اللغة، بدليل أن العالم عرف أدباء مبدعين مثل كاتب القصة العربي المصري المُجلّي يوسف ادريس، لم يتمكنوا من معرفة الكثير من أسرار النحو والصرف، كما يُفصح العديد مما تركه وخلّفه من كتابات قصصية حظيت باهتمام كبير، وما زالت تحظى بمثل هذا الاهتمام، كونها احتوت في ثناياها قدرة إبداعية غير عادية، في المقابل لهذا هناك علماء وخبراء في اللغة لم يتمكّنوا من كتابة نص أدبي واحد حقيقي، رغم رغبتهم الجامحة في كتابته.

الحالة الأدبية لا تتحمّل المطاعجات، كما في حالة الفتوات، وليس فيها قوي وضعيف، إنها ملكوت فيها جناحان أحدهما لمن يمكن أن نطلق عليه صفة مبدع حقيقي والآخر لمن يمكننا أن نطلق عليه صفة مبدع مُزيّف. في الابداع لا توجد منطقة وسطى، فهناك في صُلبها موهوبون بالفطرة يعملون على تطوير أدائهم فيما يمارسونه من أنواعها المختلفة، وهناك في المقابل مدّعون، واهمون عبثًا يحاولون إقناع سواهم بما يُخالجهم من أوهام. في الابداع الادبي إما أن تكون مبدعًا حقيقيًا وإما لا تكون.. فلندع المطاعجات للفتوات وأمثالهم ولننغمس في إبداعاتنا.. فهذا أجدى لنا وأنفع لحياتنا المبدعة.

***

ناجي ظاهر

الحبكة، الزمان، المكان، الموهبة، الألهام، الحسّ الأنساني، صدق المشاعر، تجسّدت كلها عند الروائي والناقد هاشم مطر وهو يتناول في روايته رائحة الوقت،  باناروما التيه الفيلي وبانوراما المهجرين. هاشم مطر وهو ينشر روايته هذه، فأنّه يغوص في أعماق نفوس المهجرّين، فيرسم مشاعرهم وأحاسيسهم وآمالهم وآلامهم ودموعهم بريشة فنان مبدع، يعرف كيف يوظّف خياله الواسع في رسم صورة مؤلمة ولكن لا بد منها لتلك الأيام الحالكة السواد. لا بدّ منها، كوننا نحن الكورد الفيليون وبقيّة المهجرّين بحاجة ماسّة لتأرخة المصائب والمصاعب التي عشناها بشكل أدبي، بعيد عن تجّار القضيّة من كل حدب وصوب، وهاشم مطر أرّخ تلك الويلات بدقّة وكأنّه مهجّر معهم عانى ما عاناه أبناء جلدته.

لم يكن هاشم مطر يجلس وسط (الزيل العسكرية)"1" ولا الى الى جوانبها، ولا حتّى الى جانب ذلك العسكري وهو يوجّه فوهة رشّاشه نحو الأجساد المتكدّسة في العجلة وهي تنهب الأرض نحو المجهول، بل كان يجلس فوق (القمارة) وبيده كاميرا ذات مميزّات خاصّة، فعلاوة على ألتقاطها صور ثلاثية الأبعاد لتلك النفوس التي يثقل كاهلها الخوف والرعب وفوهة الرشاش وأخرى للقلق في ترك أب أو أخ أو زوج أو حبيب، فأنّها كانت تلتقط نفس الصور للشوارع والأبنية والمحال والأسواق والمدارس وصالات السينما التي يعرف المهجرّون جغرافيتّها بشكل دقيق، ولم ينسى هاشم مطر مصابيح الطريق التي تتلاشى بسرعة والشاحنة تتوجه بسرعة نحو الحدود التي على تلك الأجساد عبورها، رغم الألغام والذئاب والأفاعي والريح العاتية والزمهرير والثلج وقساوة الطبيعة و"البشر"، تلك المصابيح التي كان نورها ينعكس لثوان على وجه أمّ تركت أكثر من إبن في قبضة الموت، أو زوجة لاتعرف إن كان في رحمها جنينا من زوجها الذي أعتقل في اليوم الثاني لزواجها، أو أخت ودّعت أخوتها بنظرة شعرت من أنّها الأخيرة، أو فتاة رأت وهي تصعد الشاحنة تحت تهديد أصحاب الزيتوني حبيبها مكسورا والدموع تملأ عينيه.

هاشم مطر وهو يجلس على أعلى (الزيل)، لم يكن وقتها كاتبا ولا ناقدا ولا مصوّرا فوتوغرافيّا، بل كان شبحا لا يراه أحد، شبح مهمّته توثيق تلك الساعات الرهيبة لتلك الأجساد التي رافقها وهي تعبر الحدود وتعارك الطبيعة والجبال الوعرة، رافقها وهو يوجه كاميرته للأجساد التي هدّها التعب فأستسلمت مرغمة للموت لتتهاوى الى وديان سحيقة، رافقها نحو بيوت الفلاحين والرعاة البسطاء وطيبتهم، رافقها الى ( الأوردگاه)"2" والخيام المبعثرة وصفير الريح وهي تخترقها والأجساد التي فيها، رافقها الى عذابات المدن والعمل المضني بأجور زهيدة، رسم اللاأنسانية في هويّات الفيليين والمبعدين والممنوحة لهم من السلطات الإيرانية (إين كارت أز نظر قانونى أرزش ندارد)"3"! لقد رافق هاشم مطر الفيليين في محطّاتهم المختلفة وهم يزحفون نحو الشمال، فرسم باقي اللوحة بألوان حقيقية وكأنّه كان لا يزال يرافقهم.

رائحة الوقت يجب أن تزيّن بيوت الكورد الفيليين وبقيّة المهجّرين، ويجب أن تترجم ليقرأها أبنائهم في المهاجر كي يتعرفوا على الأهوال التي مر بها آبائهم وأمهاتهم.. الرواية تقول: عليكم أيها الفيليون وأيهل المهجّرون ان لا تنسوا تلك الفظاعات ابدا.

شكرا ابا نخيل وأنت تترجم مآسينا وآلامنا وعشقنا للحياة رغم الموت الذي كان رفيقنا الدائم، لقد كنت معي يا ابا نخيل وأنا أعيش تلك الأيام القاسية....

***

زكي رضا - الدنمارك

................

1 – الزيل شاحنة عسكرية كان يستخدمها الجيش العراقي.

2 - (الأوردگاه)، كلمة فارسيّة تعني معسكر.

3 - (إين كارت أز نظر قانونى أرزش ندارد)، بطاقة تعريف كانت تعطى للمهجرين معناها (من الناحية القانونية لا قيمة لهذه البطاقة).

اقتحمت عليه بيته المتهالك، كنت أعلم أنه في هذه العزلة الاختيارية لا يستقبل أحدا، شعر باضطراب، من أنت؟.

قلت له: زائر من زمن آخر، يشاركك حرفة التعساء، السباحة في عوالم الفكر ...

-انت كاتب ..

- أهوى الكتابة وعوالمها، أحاول إعادة تشكيل العالم على الورق ..

غيّر من جلسته، مسح على لحيته الكثة، وما الفائدة من الكتابة يا ابني؟.. منذ أن فقدت بصري في الرابعة من عمري بسبب الجدري، فقدت معنى حياتي...

صارت سلسلة من الخيبات والانكسارات والآلام ..

ها أنا كما ترى رهين المحبسين، أهرب من واقعي إلى عوالم من خيال، ربما هذا الهروب حماني من الانتحار..

قلت له: كثير من الكتاب في عصري يمرون بحالة الاكتئاب التي تعيشها، لم يتغير شيء ..

طبع ابتسامة حزينة، و كأن كلامي خفّف عنه ..

أخذت معه صورة سلفي، نظرت إلى ساعة الزمن، كان الوقت المبرمج قد انتهى، اختفيت، رجعت إلى مكاني في مقهى "باريس" كان فنجان قهوتي مازال في المنتصف، أرتشفت جرعة منه و شرعت في كتابة قصة.. المعري يمر بـ................

***

 بقلم: شدري معمر علي

قاعة الأساتذة: الثلاثاء 10 - جانفي - 2023م

الموافق ل: 17- جمادى الآخرة - 1444هـ

 

مدخل: حين يختلط الفكر والأدب، ورحيق من الفلسفة القديمة، وشمة من الحداثة(البعدية)، ونمذجة من وضعيات اجتماعية ، من تم قد يحدث انسجام النص بالتلاحم والتطعيم، وقد يتوتر ويثور في وجه ناظم تعامد تناص والذي لا يشابه المحاكاة (الواقعية والمثالية) ولا التطهير (النقد البنائي).. هو النص الأدبي المشحون والملغوم الذي أقدمه لكم كوجبة قابلة للتفكير..

فكرت وقوفا، ولم أقدر البتة الإجابة وتناول عمق تساؤل بسيط ومحير: كيف تتجنب سقطة من صدمة الحياة؟ فكرت في تحليل ملفوظات التساؤل بعقلية التفكيك والتركيب، لكن أعترف لكم بفشلي فقد ضاعت مني صفة حال المنهج التاريخي، وآليات التوفيق وبناء تعامد التناص. أتلفت حتى أنساق المنهج البنيوي، وفي الأخير لزاما تقلص تفكيري مساحة بينة، وبدت تشع مني تخوفات مُدْركات مخاطر عدم اليقين، والمرتبط بتأكيد الحلول الاجتماعية: كيف تتجنب الفشل وصدمة الحياة؟

حقيقة مُرَّة، فقد كنت أحمل مجموعة من أضرار متراكمة، ومتلاشية على الصعيد النفسي، وكذا أضرار هشاشة على مرمى رؤية إحساس العين بأثر تكرار الصدمات والسلوكيات المتفحمة. هنا رأيت أن سقطة الصدمة يمكن أن تتناسل بأكثر حرية، وبالاستمرارية التكاثرية غير المحصنة لا بالأخلاق، ولا بالقانون، وهي نفسها من تُفْسِدُ عليَّ حلاوة الاختيار، والتفتيش عن مسالك التسوية الجديدة.

حين فكرت قُعُودا تناولي الاطمئنان أنفة، وفرملة التوقف الإجباري عند رؤية علامات الخطر المحدق بتحذير ثان (انتبه): إياك أن تثق في النتيجة الفردية (الواحدة)، فهي تتلهى بالمشاعر تعبا واستهلاكا، وقد تتلاعب بالفرضيات وبالنتيجة، وطبعا لن تفيض باكتساب الأحاسيس مُتْعة ورِفْعة!! هنا أعلنت أن الثقة في الاعتقاد المتموج توازي فرز أحكام المطلق والمتشابه، لكني عدت نحو قُعودي البدائي، وأنا أُمَانع تشتيت رؤيتي وفق أصول التأويل بالرأي، ومدى صدق نتائج العقل والقياس، لكن صدمة الحياة أوصلتني أني لن أقدر على تحديد الفرق بين السبب والعلة، فبالأحرى استخلاص الأحكام القطعية لسد ما سد الخبر.

لِكُل مِنَّا (كَاوِية) حَمِئَة اكتوى منها يوما ما كَيا ثقيلا أو خفيفا. فاحترقت المشاعر والأحاسيس دموعا، وبات مثل من لُسِعَ من الجحر مرتين. لكل مِنَّا ذكريات توازي مخطوطات غير مصنفة من فلسفة الحياة، تُقَايس حكاية (بودا) القديس الذي لا يؤمن بحظ العثرة، بل كان (بودا) يؤمن إيمانا قطعيا بالنتيجة الطيعة بالهدوء والارتخاء النفسي، وضبط التوجس الفيضي في حلم المستقبل. من فلسفة الحياة (الحداثة البعدية) عندما نتحرر من أوات (آهات) المعاناة التي بدواخلنا، تنفرج قيمة الحياة، وتتزين طيعة مثل عرائس سماء ممطرة، وهنا تحلو الأيام زينة وبسرعة هدوء نتف الثلج المتساقطة بين السماء والأرض. هي التجارب الاجتماعية العالمية التي علمتنا أن الضغط عندما يزيد، يولد الانفجار الفيزيائي العشوائي. هي خبرات فلسفة (بودا) في الحياة التي علمتنا أن قوما مِنَّا يرغبون في سماع الانفجار المدوي، ومنه تزيد أعمارهم امتدادا، وتتسلط أيديهم تحكما في رقاب العباد والفضاء.

نهاية قد تتفحم المشاعر السلبية، وقد تترك الأحاسيس مُسممة وتَنْتظر ساعة النهاية الأبدية، وقد يُضحي الشعور الفطري البدائي يتسلل نحو تقمص الرفض من ذات تجاه الذوات الأخرى. ونحن في غفلة من التحولات ذات التكتونية الاجتماعية، والخالقة لبؤر التوتر الزلزالية.

من صدمة الحياة البسيطة والمتماسكة، حين تنظر في عيون الناس البسطاء تجد أن (التلفة) تلفهم بالشَدِّ. تقف أنهم في سباق زمن الجري عن (طرف من الخبز) وفي حرب مع (الكاوية) العالقة ببدايات صدمة الحياة. فالغلاء الفاحش أصاب ونهب، وبات المواطن البسيط يُغالب العيش، ومحاولات التأقلم مع الأوضاع الجارفة، وهو لا يدري جَرْيا تُجاه ذاك المستقبل المجهول، لكن خبراء التخطيط النفسي يقولون : أبشروا فالخير أمامكم، وما عليك إلا الصبر والتحمل، وتجنبوا التَّضَمُّرَ !! (إلى صَبَرتُو تَاكْلُوا الزرع لِي ما حرثوا...) ولكن يجب أن يكون جوابكم الجماعي مثل تَرْدُيد الكورال الطيع (صَابْرِينْ صَابْرِينْ... صَابْرِينْ).

***

محسن الأكرمين

تزوّد الكاتب الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف، بنوع متين من الثقافة والاطلاع، الامر الذي أهله للإدلاء بآراء مختلفة وغير مألوفة في الفن والثقافة الفلسطينيين خاصة، ورغم احترامه وتقديره الشديدين لهذه الثقافة وأعلامها، فقد تعامل بها برؤية متعمقة بعيدة عن التقديس المُهلك والمدمر للثقافة، ويعتبر رأيه في كتابات غسان كنفاني، مثلًا، رأيًا مختلفًا وجديرًا بالاهتمام.

يوسف سامي اليوسف من مواليد قرية لوبية المهجرة عام 1938، نزح إلى لبنان عام 1948، وغادر إلى سورية سنة 1956، التحق بجامعة دمشق 1960 وتخرّج فيها. عاش حياته في مخيم اليرموك، في بيت متواضع بناه "حجراً على حجر"، وعلى مراحل، وكان بيته وكانت مكتبته ملاذاً لأجيال من المبدعين الفلسطينيين والسوريين والعرب المقيمين في سورية، كما شهد الكثيرون من هؤلاء.

سجّل كاتبُنا سيرتَه الذاتية في ثلاثة أجزاء، صدر اثنان منها عن "دار كنعان"، في دمشق تحت عنوان" تلك الايام"(هذا العنوان بالمناسبة، هو عنوان أيضًا إحدى روايات الكاتب العربي المصري فتحي غانم)، ولا يعلم ما إذا صدر الجزء الثالث منها. يعود اليوسف في سيرته هذه إلى أجداده الاول فيذكرهم بالاسم، الفصل والاصل، حتى يصل إلى والده الذي عمل شرطيًا في فترة الانتداب، ما قبل قيام اسرائيل، ويستعرض فيها حياته أولًا بأول، كأنما هو يريد أن يقدم إلى قرائه شهادة تؤكد قصة انتمائه الفلسطيني وكفاحه كإنسان مناضل من أجل الوجود والحياة.

كتب اليوسف وصنف العديد من المؤلفات هي: مقالاتٌ في الشعر الجاهلي- دراسة- دمشق 1975والغزل العذري- دراسة – دمشق 1978. وبحوث في المعلّقات- دراسة- دمشق 1978. والشعر العربي المعاصر- دراسة- دمشق 1980و، ما الشعر العظيم ،- دراسة- دمشق 1981 وكتاب عن غسان كنفاني بعنوان، رعشة المأساة ، - دراسة- عمان 1985 وكتاب عن الشخصية والقيمة والأسلوب- دمشق2000 . وكتاب في التاريخ بعنوان "حطين "- دراسة- دمشق، 1987وآخر بعنوان "فلسطين في التاريخ القديم، – دراسة- دمشق، 1989. وكتاب عن" الخيال والحرية" دمشق 2001 و" مقدّمة للنّفري"- دراسة في فكر وتصوف محمد بن عبد الجبار النفري- دمشق ، 1997. و"ابن الفارض" – دراسة ، دمشق، 1994. وترجم عن الإنجليزية: "الديانة الفرعونية"، و"مختارات من شعر اليوت"Eliot. أما سيرته الذاتية فقد صدر منها جزآن فيما نعلم عن دار كنعان في دمشق ولا يعلم ما أذا كان الجزء الثالث، صدر أم لا.

أتيح لي قراءة بعض من مؤلفاته هذه، لا سيما كتابيه " الخيال والحرية"، و" مختارات من اليوت" و" رعشة المأساة" وهذا الاخير يبحث في كتابات وروايات الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني. يُضّمن اليوسف كتابه عن الخيال رؤية ادبية واعية وعميقة للأدب، وبإمكاننا اعتبار هذا الكتاب الفريد مدخلًا جيدًا ومرشدا لقراءة الادب وفهمه، ويلمس قارئ ترجمته لمختارات من شعر اليوت، تمكنه من اللغة الانجليزية وجديته في التعامل معها، أما كتابُه عن رعشة المأساة، فإنه يقيّم فيه التجربة التراجيدية التي عاشها غسان كنفاني مُعتبرًا إياه نموذجًا حيًا للتجربة الفلسطينية التي تسببت فيها ظروف قاهرة.. جعلتها تختلف عن معظم التراجيديات في العالم. وهو يقرأ كنفاني في كتابه هذا عنه قراءة متعمقة، ترى ما له وما عليه، ومما يقوله بجرأة غير معهود وقائمة، ان روايتي "عائد الى حيفا" و" رجال في الشمس" لا تعدوان كونهما قصتين قصيرتين ممطوطتين، أو شيئًا من هذا القبيل، وان أحدًا من نقاد كنفاني الكثيرين لم يتجرأ على الادلاء بمثل هذا الرأي الجدير بالنظر والمعاينة.

بعد وفاة يوسف سامي اليوسف عام 2013 مباشرة، توجّهت إلى عدد من الاصدقاء من مديري المؤسسات الثقافية التراثية طالبًا أن ننظم ندوة تهدف إلى التعريف به، أو إحياء ذكراه.. فوعدوا.. ولم يفوا حتى الآن.. فهل أجدد الطلب؟

***

ناجي ظاهر

 

ما أجمل هديّة زملائي الروس في الدراسة بكليّة الفيلولوجيا في جامعة موسكو بمناسبة حلول العام الجديد 2023، اذ قدّموا لي كتابا صادرا عام 1963، وقالوا لي، انهم اختاروا هذا التاريخ بالذات، باعتباره رمزا لتلك السنوات الطلابية الجميلة التي قضيناها معا قبل اكثر من 60 عاما بالتمام والكمال، عندما كنّا ندرس اللغة الروسية وآدآبها في كليّتنا الحبيبة. لقد تقبّلت طبعا هذه الهدية الرمزية الرائعة بحب كبير وامتنان، واريد ان اتحدث لكم قليلا عن هذه الهدية الثمينة جدا وقيمتها الجمالية بالنسبة لي، وأظنّ (رغم ان بعض الظنّ اثم)، ان الهدية ذات الطبيعة الثقافية المرتبطة بالادب الروسي يمكن ان تكون – بعض الاحيان - موضوعا طريفا للقارئ العربي، الذي يتابع هذا الادب وشعابه وتفرعاته العديدة .

عنوان هذا الكتاب – الهديّة هو (المعاصرون)، وتحت ذلك العنوان يوجد عنوان ثانوي هو (بورتريتات ودراسات)، والكتاب صادر عام 1963 ضمن سلسلة كتب (حياة الاعلام، او، حياة المشاهير، او، حياة الناس الرائعين حسب الترجمة الحرفية)، ويقع الكتاب في(700) صفحة من القطع المتوسط، وقد تمّ طبع(100) الف نسخة منه في حينها (كما تشير الى ذلك الصفحة الاخيرة)، ومؤلف الكتاب هو الاديب الروسي والسوفيتي والناقد الادبي والمترجم والصحافي كورني ايفانوفيتش تشوكوفسكى (ولد في القرن التاسع عشر عام 1882 بمدينة بطرسبورغ في روسيا الامبراطورية وتوفي في القرن العشرين عام 1969 بمدينة موسكو في الاتحاد السوفيتي)، والمؤلف معروف بشكل جزئي للقراء العرب من خلال بعض كتبه المترجمة الى العربية في ادب الاطفال (وهو طبعا أحد عمالقة هذا الادب في الاتحاد السوفيتي، وفي روسيا الاتحادية ولحد اليوم)، وعلى غلافي الكتاب (اي الغلاف الاول والاخير) عدة صور لمجموعة من الادباء والفنانين الروس المعاصرين للمؤلف، والذين يرسم تشوكوفسكي صورا قلمية لهم (بورتريتات) ويكتب دراسات طريفة وعميقة وتفصيلية عنهم كما يشير العنوان الثانوي، وهم (حسب فهرس الكتاب) كل من-

 تشيخوف / كورولينكو / كوني / غارين / بوريس جيتكوف / كوبرين / ليونيد أندرييف / غوركي / سوبينوف / ساشا تشورني / لوناتشارسكي / ألكساندر بلوك / ماياكوفسكي / يوري تينيانوف / كفيتكو / ماكارينكو / ايليا ريبين .

 أكثرية هذه الاسماء معروفة – بشكل او بآخر وبمستويات مختلفة - للقارئ العربي المتابع للادب الروسي، وكل تلك الاسماء طبعا معروفة – وبكافة أبعادها الفكرية – للقارئ الروسي، ولكن كورني تشوكوفسكي رسم صورهم القلمية بشكلل جديد ومبتكر، ولهذا، فقد جاءت هذه (البوريتريتات) تنبض حيوية، اذ انه تناولها من جوانب اخرى، ورسمها (على غرار الرسّامين في الفن التشكيلي) وهم تحت شعاع شمسه الخاصة به، اي، وجهة نظره الذاتية وآرآئه النقدية ومعرفته المعمقة عنهم، ولا يمكن طبعا التوقف عند كل اسم من هذه الاسماء اللامعة والتحدث عن خصائص الصورة الجميلة التي رسمها تشوكوفسكي له، الا اننا نود هنا ان نشير الى ملامح وجيزة عن تشيخوف وغوركي ليس الا، اذ ربما يمكن لتلك الملامح الخاطفة والملاحظات الدقيقة والصغيرة عنهما ان تقدّم للقارئ صورة تقربية لهذه البوريتريتات الفنية المدهشة، التي رسمها تشوكوفسكي لمجموعة كبيرة من هؤلاء الاعلام الذين عاصرهم في حياته الطويلة (اذ انه عاش حوالي 90 سنة تقريبا) .

نبتدأ بتشيخوف، الذي كتب المؤلف عنه اربعة فصول باكملها (من ص 5 الى صفحة 122)، فقد ربط، مثلا، وقائع طريفة ومحددة من سيرة حياة تشيخوف ببعض نتاجاته الادبية، واستشهد بمقاطع من رسائل تشيخوف نفسه لاثبات تلك الوقائع، وتحدّث بعمق عن تواضع تشيخوف، وأشار الى رسالته، التي ذكر فيها، ان الرقم واحد بين مشاهير الادب والفن الروسي يرتبط بتولستوي، والرقم الثاني بالوسيقار تشايكوفسكي، اما هو (اي تشيخوف) فقد حدد لنفسه الرقم (887) في سلسلة هؤلاء المشاهير.

ونتوقف قليلا عند غوركي، الذي كتب تشوكوفسكي عن ذكرياته الشخصية حوله، اذ تحدّث كيف كان غوركي يلقي كلمة عن تولستوي، وعندما وصل الى جملة (... ومات تولستوي...)، لم يستطع غوركي لفظ هذه الجملة، فتوقف وترك المنصة، فذهب اليه تشوكوفسكي ووجده يقف عند النافذة وهو يبكي، ويسرد مؤلف الكتاب كيف عمل مع غوركي في عشرينيات القرن العشرين بمشروع ترجمة مختارات من مكتبة الادب العالمي، وهو مقترح غوركي، الذي تبنته الحكومة السوفيتية آنذاك، كي يطلع القارئ الروسي على افضل مصادر الادب العالمي، وكان غوركي يرأس اجتماعات لجنة انتقاء الكتب ومترجميها اسبوعيا، وكان تشوكوفسكي احد اعضاء تلك اللجنة (عن المكتبة الانكليزية والامريكية)، وكان من جملة اعضاء اللجنة الاكاديمي المستشرق الكبير كراتشكوفسكي (عن المكتبة العربية)، والشاعر والمترجم غوميليوف (عن المكتبة الفرنسية)، وغيرهم، علما ان هذا المقترح الرائع لغوركي لا زال قائما لحد الان، وتنفّذه اكاديمية العلوم الروسية.

شكرا لزملائي الروس على هديتهم الثمينة، والتي يجب ان ارجع لها حتما، اذ ان الافكار الموجودة على صفحاتها حول الادب الروسي تتماوج فكرة بعد فكرة مثل امواج البحار.

***

أ. د. ضياء نافع

العقود الثلاثة الأخيرة أحدثت تطورات تكنولوجية غير مسبوقة، ونقلت البشرية إلى مدارات تواصلية ما عهدتها من قبل.

كان الناس في المجتمعات المتحضرة يرافقهم الكتاب أينما حلوا ورحلوا، في القطار، الطائرة ومواقع الإنتظار، وغيرها من الأماكن التي توفر بعض الوقت.

وما أن أطل القرن الحادي والعشرون حتى إنقلبت الأمور، فما عاد للكتاب وجودا، وإختفى منظر الشخص والكتاب، ووجدتنا في العقد الثاني منه، وقد إلتصق الناس بالشاشات بأحجامها المتنوعة، فكسدت تجارة الكتاب، وأغلقت العديد من متاجره أبوابها، وتحول إلى بضاعة بائرة ترقد في ظلمات المخازن والرفوف.

ومعارض الكتب رغم كثرتها، لا تبيع كما كانت في العقود السابقات، فالعلاقة بين الناس والكتاب أصبحت من الباليات.

ففي الوقت المعاصر يمضي الناس معظم وقتهم محدقين في الشاشة، وخصوصا الصغيرة منها، وكأنهم مدمنين عليها، فلا تفارقهم ولو لبرهة، وإن فارقوها إنتابتهم مشاعر الخوف والرعب، وعادوا هلعين يبحثون عنها.

والتخاطب بين الناس ما عاد شفاهيا بل شاشويا، وكل ما يحتاجونه تقدمه لهم الشاشة الصغيرة، فلكل سؤال جواب فيها.

وبخصوص الكتاب، فما يريد الشخص قراءته يجده عبر شبكات الإنترنيت، والعديد من المدمنين على القراءة من الذي أعرفهم، يحملون شاشات متوسطة الحجم يقرأون فيها ما يرغبونه من الكتب.

والمشكلة التي تسببت بها هذه الشاشات أن دفق المعلومات أصاب التركيز بالإضمحلال، فالبشر اليوم لا يمتلك القدرة على مواصلة قراءة أكثر من صفحة، ويريد معلومات مكثفة ودالة ببضعة كلمات وحسب، وربما ستنتقل البشرية إلى إبتكار لغة رمزية جديدة تتفاعل بواسطتها.

والكثير من المخضرمين، وهنت علاقتهم بالكتاب، وما عادوا قادرين على الصبر والمجالسة مثلما كانوا سابقا.

ولهذا فأن التوجه نحو الكتابة الضوئية السبيل الكفيل بالتنوير، ويبدو أن المستقبل سيكون منسوجا على حبات ضوء، وربما البشرية ستتعرى من أولها إلى آخرها على الشاشة، وذلك اليوم ليس ببعيد!!

فهل نترحم على الورق، ونعلن وفاة "الكاغد"؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

الكاتبة والروائية الفرنسية كليرا غالوا بعد ان ذاع صيتها، ونشرت 11 رواية في اكبر دور النشر العالمية، وحصلت على الكثير من الاوسمة والتكريم والجوائز، وذات يوم قررت ان تقوم بفكرة عجيبة، لم يسبقها احد اليها، فخرجت بدعوة عبر الصحافة للعاطلين عن العمل في فرنسا، ويقدر عددهم في ذلك الوقت ب خمسة ملايين فرنسي عاطل، حيث خاطبتهم بالعبارة التالية: (اكتبوا لي وسأحاول ان اؤلف كتابا عن رسائلكم).

وبالفعل لم يتكاسل العاطلون عن العمل في الكتابة اليها فورا، واستلمت الروائية قرابة الاربعمائة رسالة من مختلف مدن وقرى واقاليم فرنسا، رسائل من الرجال والنساء، والكهول والشباب، وتتكدس في صندوقها البريدي، بل وتفيض لتفترش الممر المؤدي الى شقتها، رسائل تحكي حجم معاناة العاطل عن العمل، وقد اختارت الروائية اربعين رسالة من الاربعمائة.

لتحكي للعالم عبر كتاب معاناة وعذابات العاطلين عن العمل، وان كانت اسماء اصحاب الرسائل موجودة في مكتب التشغيل الوطني الفرنسي، الا انها اخذت بعدا اخر بقلم الكاتبة كليرا، حيث اكتسبت روحا وجسدا ولغة، بعد ان كانت جثث مدفونة في صناديق حفظ طلبات التعيين والعمل.

وعبر فصول الكتاب كشفت الكاتبة كليرا شيئا فشيئا تفاصيل واسرار تلك الاسماء، بعيدا عن الهم المشترك الذي يجمع العاطلين عن العمل، حيث ابرزت شخصياتهم، وكان جميعهم يسرد كيف سقط الواحد تلو الاخر في هذا المستنقع المميت، حيث الفقر والعوز والاقصاء والعزلة، انهم (هم – هن) يسردون ويسردن حالة التطفل الاجتماعي ويشعرون بالخجل، بل هنالك من يتنمر عليهم بسبب البطالة، بدل المساندة والدعم والتشجيع، فكيف لمن يحصل على شهادة الدكتوراه ويبقى يلهث بحثا عن فرصة عمل! وكانت خيبة الامل تلاحق العاطلين عن العمل فكلما راجعوا جهات التوظيف كان الجواب واحد: (اليوم لا يوجد عمل لك).

وحقق الكتاب (شرف العاطل عن العمل) نجاح كبير لانه معبر عن محنة فئة من المجتمع، قد فتحت لهم الكاتبة كليرا مساحة للتعبير عن ذاتهم، فهم لم يخلقوا ليعيشوا عاطلين عن العمل، بل كانوا يحلمون ان يعيشوا مثل اي انسان يعلموا ويتزوجوا ويتطوروا، لم يتصوروا انهم يتحولون لمستنقع البطالة والذي هو كارثة بحق الانسان.

دعوة

كم نحتاج من كتابنا ومبدعينا ان يتصدوا لمشاكل المجتمع، ويكتبوا عنها كما فعلت هذه المبدعة الفرنسية لتنتج كتابا عن العاطلين، وسلطت الضوء عن معاناتهم عبر سردهم انفسهم لمعاناتهم، فالضغط الاعلامي على جهات القرار يجعلها تستجيب وتفعل الصواب، فيا ايها الشرفاء اسمعوا مأساة وهموم اخوتكم في البلد، واكتبوا عنها، ولتكن قضيتهم قضيتكم، ولا تعيشوا في بروج عالية وتكتبون عن اشياء لا تنفع الانسان، انتم اصحاب مسؤولية ويجب ان لا تخذلوا اخوتكم، لذلك تحملوا مسؤوليتكم واكتبوا اشياء نافعة تغير الواقع الضحل.

***

الكاتب/ اسعد عبدالله عبدعلي

يقول البحتري: "والشعر لمحٌ تكفي إشارته".

ويقول ستيفان مالارمي:

"التصريح بالشيء في الشعر، يفقدنا ثلاثة أرباع من الاستمتاع بالقصيدة، علما أن الاستمتاع يتكون شيئا فشيئا من سعادة التخمين؛ ما يوجب إذن التلميح لهذا الشيء عوض التصريح به، هو ذا الحلم."

وقد نضيف ما قاله الناقد محمد مندور حول الشعر والأدب بصفة عامة :"الأدب مهموس".

الشعر إذن تلميح أو أدب مهموس.

لكن في حقيقة الأمر فإن اللغة، بصفتها علامة لسانية اعتباطية، مكونة من دال لا تربطه أية علاقة مادية بالمدلول، وبما أننا نحتاج إلى مرجع الدلالة لتكوين فكرة حول المدلول، فإن مسألة التلميح لا تخص الشعر فقط، بل كل الكتابات بأنواعها وأجناسها، ما هي إلا تلميح، في حقيقة الأمر. لكن لماذا إذن يركز الشعراء على هذا التلميح فقط في الشعر؟ 

قد نفهم أن اللغة بالنسبة للأجناس الأخرى، تصبح مألوفة وكأن طابع الاعتباطية تم تجاوزه فأصبح الدال مدلولا بالألفة ولم يعد عائقا حيث تصبح الكلمة تشير بالواضح إلى الشيء الذي تعنيه وذلك بكثرة الاستعمال و التكرار، ما يسهل عملية التواصل بين المرسِل والمرسَل إليه. وفي هذا الصدد نتحدث أيضا في الشعر المكرور عن الصور او الكلمات المألوفة، بمعنى أنها لم تعد تلمح بل أصبحت تسمي الشيء وتصرح به وهكذا تفقد شعريتها. ما يؤدي بنا إلى القول بأن الشعر إبداع متواصل أي تلميح وتعريض وايحاء بدون انقطاع. وهكذا يمكن الجزم بأنه يبحث عن درجة أقوى من التلميح، حيث تصبح لغته خاضعة لنفسية الشاعر وخياله، حسب ظروفه الاجتماعية والنفسية. وبهذا التلميح المتواصل قد يشكل الشعر عائقا بالنسبة للتواصل، فيصبح نخبويا، إذ لا يتفاعل معه إلا من له الصبر في التخمين أو من يتلذذ به ويستمتع تماما كما يستمتع عالم الرياضيات او الفيزياء وهو بصدد إيجاد أسلوب جديد لحل عملية حسابية صعبة، أو كما يستمتع متأمل في غروب الشمس أو في لوحة تشكيلة أو عند الإنصات بكل جوارحه إلى معزوفة موسيقية.

وكخاتمة صدق رولان بارث حينما فرق بين الكاتب المبدع أو المؤلف (écrivain) والكاتب المزاول (écrivant). فالأول يشتغل على اللغة في كتاباته وهو يحاول إيصال رسالته، بمعنى أن "الكيف" أو الشكل هو انشغاله، أما الثاني فيشتغل على الرسالة، حيث ينشغل بالكم أو الموضوع. فالأول إذن منشغل بالتلميح أو الإيحاء أو التعريض، والثاني بالتصريح.

***

محمد العرجوني

تعتبر الفراشات الملونة المنتشرة في كافة قارات العالم (باستثناء القارة القطبية الجنوبية – انتاركتيكا) من أكثر الاحياء البرية الحيوانية تأثرا بظاهرة التغير المناخي والاحتباس الحراري، سواء كانت من النوع الذي يتكاثر لمرة واحدة في السنة، او من النوع الذي يخلف عدة أجيال في السنة الواحدة. وهناك الكثير من البحوث والدراسات الحديثة التي تؤكد هذه الجوانب على نحو قاطع ومؤكد من حيث تغيرات في توقيتات ومسارات الهجرة وظهور اختلافات في الاحجام والاوزان والاعداد، وحصول تغير في دورة الحياة واستبدال الموائل لأكثر من سبب وغيرها. وتنبه إلى المخاطر والتحديات التي تواجهها هذه الكائنات الحساسة والرقيقة والزاهية بالألوان في ظل  هذه التغيرات المناخية. ومنها دراسة أعدت من قبل علماء وبحاث من جامعة (شرق انجليا)  في (نورويتش) ببريطانيا، ونشرت نتائجها في مجلة (علم البيئة الحيوانية 2016)، وتبين على نحو بين الآثار السلبية والخطيرة لارتفاع درجة الحرارة في الشتاء على الفراشات. ودراسة قيمة أخرى شملت (300) نوع من الفراشات بعنوان (أطلس مخاطر التغيرات المناخية على الفراشات الأوروبية 2008)، أجريت برئاسة العالم الألماني المعروف (جوزف زيتله) ونشرها مركز (هيلموت تسنتروم) بالتعاون مع (الرابطة الألمانية لحماية الطبيعة) (نابو)، وتشير نتائجها إلى احتمالية مغادرة (25%) من هذه الفراشات موائلها بحلول عام 2080) إذا ما ارتفع متوسط درجة الحرارة (4،1) درجة مئوية. الامر الذي انعكس سلبا على سياحة مشاهدة الفراشات والأنشطة المرتبطة بها في العديد من البلدان بشكل أو بآخر. مثل التصوير والرسم والتتبع والرصد والدراسة والمقارنة... الخ. كما يحدث في (سيرانيفادا) بوسط المكسيك التي تستقبل سنويا، وخلال الفترة من تشرين الثاني وآذار ملايين الفراشات الملكية البرتقالية اللون الآتية من الولايات المتحدة الامريكية وكندا، قاطعة (4800) كم تقريبا، هربا من الصقيع والبرد القارس، وطلبا للجو اللطيف (علما ان الفراشات كائنات محبة للحرارة بصورة عامة وفقا للدكتورة  الدينا فرانكو  المحاضرة في العلوم البيئية في كلية العلوم البيئية بجامعة ايست انجليا 2016)، مشكلة بذلك واحدة من أهم الظواهر الطبيعية التي تجذب سنويا نحو (120 – 150) الف زائر وسائح بيئي ومن ذوي الاهتمامات الخاصة (سياحة الاهتمامات الخاصة). غير أن عددها في انخفاض خلال السنوات ال (20) الأخيرة، والمساحة التي تشغلها في انحسار وتراجع بسبب التغيرات المناخية وعوامل أخرى، لتنخفض إلى (2،94 هكتار = 1،19 فدان) خلال 2012 / 2013 مقابل (27،6 فدان) في 2000 و(18،19 هكتار) لموسم 1996 / 1997 وفقا للصندوق العالمي للحياة البرية واللجنة الوطنية للمناطق الطبيعية المحمية في المكسيك. ووفقا لدراسة أجراها عدة علماء ومنهم (ماركوس كرونفورست) أستاذ البيئة والتنمية في جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الامريكية. ونشرت نتائجها في دورية العلوم الدولية (نيتشر 2014) فان هذه الظاهرة قائمة منذ الأزمنة القديمة، ولكن اعداد الفراشات الملكية المشاركة بها في انخفاض دائم لعدة أسباب، ومنها الأسباب المذكورة في أعلاه، لتصل إلى (33 – 35) مليون فراشة فقط خلال موسم 2013 / 2014 مقابل (مليار) فراشة تقريبا قي عام 1996 بحسب السجلات المحلية التي تقدم بيانات واحصائيات مهمة ومعتمدة في هذا المجال.

***

بنيامين يوخنا دانيال

 

 

.....................

للمزيد من المعلومات، ينظر: (آفاق سياحية) للمترجم، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2017.

 

عاش البروفيسور المجاهد وطبيب العيون  المفكر والداعية" سعيد شيبان" عمرا مديدا (توفي يوم -4 ديسمبر - 2022) في الدفاع عن قضايا الوطن وفي نشر الفكر فكان يشارك في الملتقيات والندوات الفكرية ويساهم بكتابة المقالات وكان رجلا فاضلا متواضعا صاحب خلق قال عنه الكاتب  عبد الحميد عبدوس:

" كانت السمة البارزة التي لا تخطئها العين في شخصية الدكتور سعيد شيبان هي التواضع وحسن الخلق هذه المكرمة تتصدر عقد فضائله العديدة وخصاله الحميدة التي لم تتغير خلال اتصالي الوثيق به وطول عشرتي معه على مدى أكثر من عقدين من الزمن في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يظل من أبرز حكمائها و أوفى الملتزمين بخطها ومنهجها الرشيد وحرص لسنوات عديدة على إخفاء تبرعه المتواصل من راتبه الشهري للجمعية التي لم تجد ما تستحقه من دعم ورعاية مادية....."(1)..

فمن هو هذا الفارس الذي ترجل اليوم؟ وما هي سيرته العطرة..؟ دعونا نبحر في محيطات هذه الشخصية العظيمة:

ولد المفكر سعيد شيبان  في 2 أبريل 1925في قرية الشرفة (ولاية البويرة حاليًا) درس بالمسجد العتيق في القرية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية للأهالي بمشدالة حيث كانت آنذاك المدرسة الوحيدة بالمنطقة، وتحصل بها على شهادة الابتدائية في مايو 1937، التحق بعدها بثانوية ببن عكنون، المقراني حاليا وحين اندلعت الحرب العالمية الثانية في سنة 1939، انتقلت الثانوية لمدة سنة إلى مدرسة تكوين المعلمين ببوزريعة. وتوقف عن الدراسة من 1942 إلى 1943 بسبب تعرض ثانوية بيجو (الأمير عبد القادر حاليا) للقنبلة من طرف الطائرات الألمانية.، بعد دخول الإنجليز والأمريكان للجزائر ورجع إلى بلدته إلى المسجد العتيق لتعلم العربية بشكل جيد ودرس على يد الشيخ « ارزقي بن شبلة» وفي يوليو 1946، تحصل غلى شهادة الباكالوريا والتحق بالكشافة الإسلامية الجزائرية والنشاط السري لحزب الشعب الجزائري ثم سافر إلى ألمانيا والتحق بجامعة ستراسبورغ، وفي مارس 1956 شارك في مؤتمر اتحاد الطلبة الجزائريين في باريس وتعرف على محمد الصديق بن يحي ورضا مالك. وشارك في مؤتمر ستراسبورغ مع أحمد طالب الإبراهيمي وبلعيد عبد السلام ومحمد الصديق بن يحي وغيرهم. وشارك في إضراب الطلبة في مايو 1956. ثم في يوليو 1958، قدم أطروحته التي كانت جاهزة قبل عامين. ونجح في عام 1959 في امتحان تخصص طب العيون

في ماي 1962 أشرف على مستشفى تيزي وزو بطلب من جبهة التحرير الوطني وبقي فيها 6 سنوات وفي سنة 1969،ا عين رئيسا لبعثة طبية جزائرية لمساعدة النيجر بسبب الحرب الأهلية  وانتخب أمينا عاما لإتحاد الأطباء الجزائريين في سنة 1974.

في 1979 أسهم مع البروفيسور أحمد عروة في تأسيس الجمعية الجزائرية لتاريخ الطب.

في 1984 ساهم في إعداد المعجم الطبي الموحد حيث كان عضو لجنة العمل الخاصة بالمصطلحات الطبية العربية.

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفر له ويرحمه عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. 

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية:

شدري معمر علي

.......................

المرجع:

1- عبد الحميد عبدوس، لمحة عن مسار الدكتور سعيد شيبان مع العلم والإيمان والنضال، موقع عبد الحميد بن باديس.

2- ويكبيديا.

 

ينطلق الكاتب الناقد اللبناني الخالد مارون عبود في كتابه عن أبي العلاء المعري "زوبعة الدهور"، من فكر نيّر مستقل، لا يعبأ بأصحاب القول العنيد" عنزة ولو طارت، ويتوصّل بالتالي إلى استخلاصات جديدة واجتهادات فريدة، تشمل إضافةً عميقة جدًا إلى ما سبق وقيل عن شاعر المعرّة صاحب " ديواني" سقط الزند" (الشرارة تخرج من ارتطام حجرين)، و"لزوم ما لا يلزم"، الذي انتهج فيه المعرّي نهجًا غير مسبوق متّبعًا نهجًا فريدًا.. ثلاث قواف متتابعة لا قافية واحدة كما درج الشعر العربي عليه في ابداعاته المتنوعة.

الكتاب صدر عام 1945، عن دار المكشوف اللبنانية، وما زال صالحًا للقراءة والاستفادة منه ومما ضمّه من اجتهادات عبوّدية ذكية وجريئة أيضًا، وقد أعدت قراءته مؤخرًا، بعد أن توفّرت لدي نسخة أصلية قديمة منه.

قبل التوغل في التحدث عن الكتاب وما فاض به من اجتهادات لافتة خاصة، أود أن أقدّم فكرة عنه، يقع الكتاب في 276 صفحة من القطع الصغير، ويتطرق فيه مؤلفه، العلّامة، إلى العديد من المحطات الهامة في فهمه لأبي العلاء وفي تاريخه وعطائه الثرّ الثمين. مثل: كيف كنت أفهم المعري، مدرسة أبي العلاء ومعتقده، مذهب أبي العلاء، وشاعر العقل الفاطمي.

واضح من هذه العناوين، لا سيما الاخير بينها، أن عبّود يقدّم اجتهادًا جريئًا وغير مسبوق في فهمه عقيدة أبي العلاء، وأنه يحاول أن يتعمّق في قراءته له عبر نصّه وليس عبر شخصه، كما حاول ويحاول الكثيرون، وفق عبود ذاته.

من الاجتهادات المختلفة واللافتة في قراءة عبود لأبي العلاء في كتابه هذا، قوله إن اللزوميات ما هي إلا نظمُ متمكن، وإنها لا تختلف في كينونتها عن ألفية ابن مالك المعتمدة على النظم، وليس على الخلق الشعري، وبعيدًا عن تقديس آخرين للمعري، يتقاطع عبّود ويتفق مع الكثيرين من دارسي المعري.. في أن قصيدته " غير مجد في ملتي واعتقادي" هي من عيون الشعر العربي.

يطرح عبود في كتابه هذا السؤال الذي طالما طرحه آخرون عن أبي العلاء مُفكرًا، ويُفهم من حديثه عنه أنه لم يكن مبادرًا في أفكاره، وإنما هو كانت رادًا لأفعال، مثل موقفه من اللذات التي يقول عنها" ولم أعرض عن اللذات إلا لأن خيارها عني خنسنه". ويلخّص رأيه هذا في أننا لا يمكننا أن نطلق على المعري صفة الفيلسوف، كما فعل كُتّاب مصريون في عدد مجلة" الهلال "المُكرّس له ولذكراه الالفية، وإنما هو يُقدّم اجتهاداتٍ متشائمةً للحياة والانسان وحسب.

مع هذا يعرف عبّود قيمة المعرّي مفكرًا وضع العقل في أعلى سُلم أوليّاته " حكّموا العقل لا إمام سوى العقل"، وينهي كتابه بخاتمة قصيرة تحت عنوان "عنزة ولو طارت"، ينعى فيها على اولئك الذين لا يحترمون المعري وعطائه بقدر ما يقدّسونه. ضمن إشارة ذكية منه للنظر المُتمعّن فيما خلّفه من تراث ابداعي. ويكفي لفهم هذا الكتاب، جيدًا، أن ننظر في عنوانه" زوبعة الدهور" لنتأكد من أن عبود يحترم المعري.. لكن لا يُقدسه.. وفي هذا حكمة تدُل على شجاعته وخصوصيته المتفرّدة.. ناهيك عن أنها تدُل على ناقد عميق النظر.. وافر الاطلاع.. يقول كلمته ولا يمشي، وإنما يتوقّف عندها مُعتبرًا إياها رسالةً عظيمةً ومسؤوليةً تاريخية.

كتابٌ جديرٌ بالقراءة.

***

ناجي ظاهر

كلما أطل علي عام جديد برأسه أجده يمعن النظر في مستفسرا: " ها .. ماذا ستفعل هذه السنة؟ ". أرد عليه بحزم:" سأقلع عن التدخين"، لكني لم أفعل قط رغم كثرة وعودي، وفي رحلة ضعفي هذه كانت صورة نجيب محفوظ تقفز إلي ذهني منذ أن كنا نذهب إليه في ندوته الأسبوعية في ميدان الأوبرا، وكان معظمنا يدخن، أما الأستاذ فكان يسحب سيجارة من علبته كل ساعة بالضبط من دون أن ينظر إلى الوقت في ساعة يده. وحين تجاوز محفوظ التسعين سمح له الأطباء بسيجارتين فقط في اليوم، وعام 2007 كنا عنده في العوامة" فرح بوت" أنا وأخي جمال الغيطاني، ومد الأستاذ نجيب يده إلى سيجارة فمازحه جمال قائلا:"هذه ثالث سيجارة أستاذ نجيب"، فهز الأستاذ رأسه واثقا وقال:" مستحيل. إنها الثانية". أدهشني بعمق إرادته، الإرادة التي لم تحالف فنانين عظماء مثل سيد درويش الذي أغواه الكوكايين، وأحمد نجم الذي أغراه الحشيش، وغيرهما. وأعرف أن التدخين ضعف وأقرر مطلع كل عام أن أقلع عنه، قررت آلاف المرات منذ أن بدأت في الرابعة عشر أقتبس، اقتباسا وليس سرقة، سيجارة بعد  الأخرى من علبة والدي أثناء نومه، فلما انتبه إلى ذلك دفع نحوي على سطح المكتب علبة كاملة وقال:" خذ. دخن". حاولت أن أنكر، فهز رأسه بشكل قاطع وأردف: " دخن .. بلاش كذب". من يومها لم أسحب يدي من الدخان ولا توقفت أصابعي عن إشعال أعواد الثقاب، نحو ستين عاما كاملة، طاردتني خلالها صور ضعف بعض الأدباء وصور قوة ارادة البعض، وعلاقة ذلك بالإبداع والاستمرار فيه. في فبراير 1968 تم اعتقالي مع أخي صلاح عيسى لنحو ثلاثة أعوام، وفي طرة اكتشفت أن السيجارة هي العملة الوحيدة المتداولة بين المعتقلين فحلاقة شعر الرأس بخمس سجائر، كوب الشاي باثنتين، وهكذا. وكانت إدارة الحياة المشتركة بين اليساريين تصرف لكل منا ثلاثة سجائر فقط في اليوم، فاقترح صلاح أن نقوم بتقسيم كل سيجارة إلى ثلاث قطع، وكان عندنا طابور فسحة في فناء رملي، فكان صلاح يتأمل أعقاب سجائر طويلة مرمية في الرمل ويهمس ضاحكا: " ثروات ملقاة على الأرض يا أبو حميد!". ظللنا في هذا الحرمان إلى أن ساقوا إلينا شابا معتقلا جديدا لا نعرفه، تبين أنه من الأثرياء، وكان يحمل في جيبه دائما علبتين كاملتين!! وتبين، لحسن حظنا وسوء حظ الشاب، أنه من هواة التأليف المسرحي، ولما كان المهتمون بالأدب قلة في العنبر فقد طلب منا أنا وصلاح أن يقرأ علينا فصلا من مسرحية كتبها، وكان يجلس على الحشية بالقرب منا ويقرأ، ونحن نردد مع كل كلمة: " الله.. الله..أعد هذه السطور"، و تمتد أصابعنا إلى علبته ونحن نتنهد من شدة التأثر بالفن. ظللنا عدة شهور نقرأ فصلا واحدا من ست ورقات، ويختلج وجهانا بالتأثر، وتختلج أصابعنا نحو العلبة. وبالطبع لم يكن المؤلف ليبخل على حركة النقد النزيهة بشيء. وحين جاءنا الشاب ذات يوم يائسا ليعلن أنه سيتوقف عن الكتابة حل علينا الذهول، وصرخت فيه: " لاء.. لاء.. إياك أن تتوقف.. هذه كارثة.. واعلم أن موهبتك ليست ملكك وحدك"! 

أتذكر كيف كنا في روسيا ندخن السجاير الروسية وكانت سيئة مشبعة بالرطوبة، فكنا نضع العلب قبل أن ندخنها على مدفأة لطرد الرطوبة أو كما كنا نقول: "من أجل تحميصها"، وعندما عدت إلى مصر زارتنا زميلة كانت ماتزال تدرس هناك وقدمنا لها سيجارة مارلبورو فأمسكتها بين أصابعها وسألتنا بجدية: " محمصة؟ ". مع ذلك كله فإنني مع إطلالة العام الجديد سأكف عن التدخين، حتى لو احتاج الأمر في البداية إلى فنجان قهوة وسيجارتين. عام جديد سعيد نحقق فيه بعض الأمنيات الطيبة.

***

د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري

 

عرف الابداع الادبي والفني منذ فجرهما الاول، جانبين، أحدهما هو الهامّ والآخر هو الاقل أهمية، هذان الجانبان تمثّلا في الابداع الحقيقي الذي دخل إلى الذاكرة البشرية، أما الجانب الآخر، فقد تمثّل فيما يمكننا أن نطلق عليه الجانب الاجتماعي وكل ما يتعلّق بصاحب العمل الابداعي.. لا بالعمل ذاته.

عن الجانب الاول نقول، إنه الهدف والمبغى وسدرة المنتهى في الابداع عامة وفي النوعين المذكورين خاصة، فالكاتب أو الفنان الحقيقي، إنما يبغي من كل عمل إبداعي يقوم به وينفّذه، إلى مرمى واحد، هو أن يضيف إلى ما سبق وقاله آخرون سابقون ما هو جديد وجدير، لهذا نراه لا ينام الليل، ويصل هذا الأخير بالنهار كي يُقدّم أفضل ما لديه، مسعينًا بكلّ ما يمكنه التوسل به تحقيقًا لهذه الغاية سواء كان بالاستزادة من الثقافة والاطلاع، أم بالدراسة والمتابعة لكلّ ما هو جديد وحتى قديم في المجال. لهذا نلاحظ أن المبدعين الحقيقيين الجديرين بصفتهم هذه، يضعون الابداع ذا المستوى الرفيع في أعلى سُلم أولياتهم، غير عابئين بما يمكن أن يستتبعه إنتاجهم الابداعي من انتشار وشيوع ذكر، وتحضرني في هذا السياق رؤية مختلفة لتلك التي عرفناها حتى الآن، عن أن الحرمان الفقر والجوع، هما الابوان الشرعيان للإبداع، هذا الرأي هو للمثقف السوري د. سامي الدروبي، المعروف بإثرائه المكتبة العربية بالترجمات الكاملة لكل من الاديبين الروائيين الروسيين البارزين فيودور دوستوفسكي وليو تولتسوي، ومفاده أن الفقر الجوع والحرمان قد يكونان نتيجةً للحياة التقشفية التي يعيشها الانسان المبدع، وليس مقدمةً لها، كما أشيع دائمًا، لقد أورد الدروبي رأيه الثمين هذا في كتابه القيّم عن " علم النفس والادب"، وأعتقد أن مرماه البعيد يتمثّل في أن الانسان المبدع قد ينسى العالم إلا أنه لا ينسى إبداعه.. مهما طاله مِن ظُلمٍ وعسف.

أما عن الجانب الآخر للإبداع الادبي، فهو ذاك الذي يتعلّق بصاحبه وبذيوع ذكره، أعترف أن هذا الجانب هو الدافع لكتابة هذه الخاطرة، فما أكثر أولئك الذين ينشدون السمعة الادبية الطيبة في عصرنا، عصر انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي وهيمنة العولمة/ الامركة، بعد انتهاء الحرب الباردة، أي انتهاء زمن الحروب، هؤلاء لا يهمهم ما يبدعونه وينتجونه، بقدر ما يجذبهم البريق المُضلّل للشهرة، ومن هؤلاء أشير إلى مَن يدّعي أنه شاعر أديب أو مبدع فنان، دون أن يُقدّم أي ابداع يُعتدُّ به، ومنهم من يستكتب آخرين وينشر ما يكتبونه له بالأجرة أو مجانًا، مُدعيًا أنه من بنات إبدعه، ومنهم أيضا مَن يستقطب بفهلويته الاجتماعية، أو موضعيته الوظيفية، عددًا من الاصدقاء الذين يداهمونه باللاياكات على الطالع والنازل، غير آخذين بعين الاعتبار المستوى المتدنّي الذي يُقدّمه للآخرين، من القراء والمتلقين. في هذا السياق يهمني الاشارة إلى فكرة طالما ردّدها شعراء ومثقفون منهم الشاعر محمود درويش، مُفادها أن هناك فرقًا كبيرًا بين الشهرة والأهمية، فقد ترى مبدعًا مشهورًا دون وجه حق، فيما ترى آخر مبدعًا وغير مشهور، فالشهرة ليست مقياسًا للإبداع، وإنما مقياس الابداع.. هو الابداع ذاته.

إذا كان لي من كلمة أضيفها في نهاية هذه الكلمة هي تلك التي تتعلّق بالإبداع والتسويق، وقد سبق وأشرت إليها في أكثر من كتابة وموقع، لا شك أنه من حق المبدع ذاتيًا، كما هو الشأن في عالمنا العربي عامة، أو مدير أعماله كما هو الامر في الغرب، أن يُسوّق ما يقوم بوضعه من إبداع، شريطة ألا ينسى أن الابداع وليس الانتشار المجّاني هو الهدف، ومما يمكن ذكره في هذا المجال، ما قاله الكاتب الروائي الايطالي المبدع البرتو مورافيا، صاحب الروايات المشهورة عالميًا: "السام"، "امرأة من روما "و "أنا وهو". لقد قال مورافيا ما مُفاده إنه من حق المبدع أن يسوّق عمله بنسبة عشرة بالمائة، لكن من واجبه أن يُبدع بالمتبقي أي تسعين بالمائة، وليس العكس.. كما يحدث لدينا.

***

ناجي ظاهر

 

عَلّي أبْتدِئُ فأقولُ: إنَّه لَمِنَ الغرابةِ أنْ نجدَ اللحْنَ في اللغةِ، أو الخروجَ على ضوابِطِها، ظاهرةً لا يَعْبَأُ بها بعضُ الكُتّابِ في عالمِ اليومِ، كما قد يُلاحَظُ  في كتاباتٍ تزخرُ بها بعضُ صفحاتِ المجلاتِ والمدوناتِ الالكترونية.

وإنّي لأُلقي التبعاتِ على الكُتّابِ انفُسِهم أوَّلًا، فالْأجدرُ بهم أنْ يُقدِّموا نِتاجًا يخلو من الخطأِ والخطلِ ما اسْتطاعوا، وأنْ يُحافظوا على سُمعتِهم وسُمعةِ المنابرِ التي اتاحت لهم النشرَ، وألّا يفرحوا بأنْ يجدوا مادَّتَهم قد نُشرت وهي ملغومةٌ بالْأخطاء.

إنَّ النتاجَ كثوبٍ أبيضَ، سرعان ما تَبرُزُ عليه البقعُ السوداءُ، مهما صغُرت، فتشوهُ مَظهَرَه.  علينا أنْ نفهمَ أنَّ ظهورَ المادةِ منشورةً ليس دليلًا على سلامتها لُغويًّا، ولربَّما تحوَّلت إلى طلقةٍ تصيبُنا من حيثُ لا ندري، فتهوي بنا في موقعٍ لا نرتضيه لدى القراءِ، بل لدى اقرانِنا من الكُتّابِ الذين تبوَّؤوا مقاعدَ مرموقةً في نفوسِ القراء.

مُجمَلُ القولِ: علينا ألّا نُخدعَ  في أنْ نرى نتاجنا منشورًا، إلّا اذا كان سليمًا معافًى يتمتَّعُ بالقبولِ لدى القارئ الحصيف.  ولا تحسبنَّ - ابنَ عَمّي - أني أدعو الى غريبِ المفرداتِ او غامضِها، بل أدعو الى اسْتعمالِ المفردةِ السليمةِ المفهومةِ، التي تؤدي غرضَها في جملةٍ متكاملةٍ خاليةٍ من الأخطاء لغةً ونحوًا، بليغة بعيدة عن العُجمة والركاكة اسلوبًا واسْتعمالًا، وبعد ذلك فليكْتبِ الكاتبُ ما يكتُبُ، وللجمهورِ الخَيارُ ان يقرأَ له او لا يقرأ.

واذا كنتُ أعطي العذرَ لمحرري بعضِ المجلاتِ الالكترونية اليومية، لا سيما تلك التي يحرّرُها كادرٌ قليلٌ عددًا، متطوِّعٌ عملًا، يعملُ ليلَ نهارَ عن رغبةٍ صادقةٍ لخدمة الكلمةِ دون مردودٍ مادِّيٍّ، كما هو الحال في المجلات الالكترونية التي تخلو من الاعلانات التجارية، اذ ليس من العدلِ ان نُحَمِّلَ هؤلاء مسؤوليةَ أنْ يتأكَّدوا من صحةِ كلِّ كلمةٍ، فهذا جهدٌ جبارُ يفوقُ طاقاتِهم، بل يحتاج الى فريقِ عملٍ مهنِيٍّ متخصِّصٍ مُوَظَّفٍ لهذا الغرض.

أقولُ فإنَّ المسؤوليةَ هي مسؤوليةُ الكُتّابِ أولًا وآخرًا، وانها الأمانةُ تقع على عاتقهم، احترامًا للكلمة التي ينشرون، واللغةِ التي بها يكتبون، والمنبرِ الذي من خلاله يظهرون، وتفاديًا لما ستكون عليه نظرةُ  القراءِ، اذا ما تكررت الأخطاء.

انا لا اقصد مجلةً معينةً، أو كُتّابًا محدَّدين، ولكني اقولُها صراحةً، اني اجد احيانًا في بعض ما يُنشرُ، ما لا يُريح، لا بل ان بعضَ المجلاتِ لا تتورَّعُ عن جهلٍ او دونَهُ ان تتحيَّزَ لأسماءَ معينةٍ، او لجنسٍ معينٍ دون مراعاة الجودة، وربما اسْتبعدت الجيدَ ونشرت المعلول.

إنَّنا، معشرَ الكُتّابِ، ينبغي ألّا نغْتَرَّ بأنْ نرى اسماءَنا تتكرَّرُ على صفحات المجلات.  علينا أنْ نعرفَ أنَّ هناك من يقرأ بوعيٍ رصينٍ، ويميز بين الغثِّ والسَمين، فاذا ما تكرَّرتِ الأخطاءُ، أيًّا كان نوعُها، لغويًّا او نحويًّا او إملائيًّا او عَروضيًّا، أو غير ذلك من العِلَلِ، فان ذلك سيُسْقِطُ الكاتبَ مهما كثُر نشره، جالبًا السمعةَ السيئةَ له، وللمنبرِ الذي ينشر فيه.

انا اعرف أنَّ كثيرًا من الكُتّابِ متميزون في كتاباتهم المتنوعة، لهم مكانتُهم وجمهورُهم، واني لأرفع قبَّعتي لهم احْترامًا، لأنهم مستمرّون في العطاء، يكتبون الكثير الراقي تطوُّعًا، لا يبغون إلّا زكاةَ ما يحملون ويملكون، إلّا اني ارى احيانًا نماذجَ لا تميِّز بين أبسط  قواعد النحو، او ترصف كلماتٍ لا تعرف ما المقصود وراءها، او تكتب شيئًا على أنه شعرٌ، وما هو بشعر.

اني لا ادعو الى التضييق واقْتصار الكتابة على النُّخبةِ، بل ادعو الى فتح المنابر للكُتّاب الجدد في شتى الميادين، والأخذ بأيديهم، على ان يَسْعَوْا الى عرض نتاجهم على من يثقون بهم قبل النشر.  وانا اذ اكتب هذا فلا ادَّعي الكمالَ، ولست مختصًّا في اللغة، لكني اعشَقُها، وإنْ كنت مهتمًّا بشؤون العلوم والهندسة، ولا أظنني إلّا متعلِّمًا.

انا اؤمن بأنَّ مسالةَ العلمِ ينبغي ألّا تتوقَّفَ، ومتى يظن الفرد أنَّها قد انتهت عنده، فإنَّه يحكم على نفسه بالموت.  علينا ان نتذكر أنَّ الحياةَ مدرسةُ، يمكن للانسان أنْ  يتعلمَ منها ما لا يتعلَّمُه من الكِتاب.

انا اذ أوجِّه الآن دعوتي عامةً، منطلِقًا من هدف الحفاظِ على سلامةِ لغتِنا الجميلة، فإنني لستُ بأول الداعين، ولن اكون آخرَهم، فلقد سبقني كثيرٌ من الغيارى دعوةً وتطبيقًا، ولست بالأحرص منهم.

اذكر ان إحدى الصحف الرئيسيةِ في العراق، كانت  قد نشرت لي مقالة قبل اكثر من اربعين سنة،  تحت عنوان "اللغة اللغة في كتاباتنا العلمية".  كانت المقالة تدعو من يكتب في العلوم باللغة العربية، الى الحفاظ على سلامتها، وقلت ما نصه " انك لا تنتقصُ من اهمية موضوعِك العلميِّ الذي تقدمه، اذا ما التزمتَ بقواعدِ اللغة (التي لا تحفل بها)، بل انك لتزيد الموضوعَ جمالًا وحيويةً، حينما يخلو من كلمةٍ غريبةٍ، او خطأٍ مَعيب، فمتى كان للُّغةِ موقفُ الضدِّ من العلم، ومتى كان للعلم موقفُ الضدِّ من اللغة؟  انهما - لا ريب - يشكلان نسقًا متناغمًا تستجيب له العقول، وتهفو اليه النفوس".

والطريف أني كنت في تلك المقالةِ، قد تناولت التعليق على مُؤَلَّفٍ طبعته جهةٌ إعلاميَّةٌ رسمية، وكان الكاتبُ هو أحدُ الاساتذة ممن درَّسني في احدى سِنِيِّ دراستي الجامعية الأولية،  لا بل صادف ان اختير رئيسًا في مناقشة رسالتي لنيل اولِ درجةٍ من درجتي الماجستير التي أحمل!

لقد كنت جريئًا بل متحمِّسًا في تبيانِ 44 كلمةً مخطوءةً في مُؤَلَّفٍ صغيرٍ يتناولُ مفهومَ إحدى النظرياتِ العلمية الشهيرة.  لم اكتفِ بذلك  بل ألقيتُ اللومَ على المؤسسة الناشرة، وقلتُ  كان عليها ألاّ تنتهي الى طباعةِ الكتابِ، ما لم تتأكدْ من صحةِ ما ورد فيه لغويًّا، وان كان الكتابُ يتحدث عن موضوع علميٍّ صرف.  وحين تناهى الى سماعِ المؤلِّفِ الفاضلِ، ما كتبتُ عن مُؤَلَّفِه، تقبَّلَ ما ذهبتُ اليهِ بصدرٍ رحب دون اعْتِراض.

ومن المواقف الاخرى في ذلك الوقت الذي كان للكلمةِ حُرمتُها - مسموعةً او مكتوبة - واتمنى لو اسْتمرَّت هكذا، أنْ أُنيطتْ بي مسؤولية تحرير احدى المجلات العلمية المهمة.  وأذكر اني تسلَّمْتُ بحثًا علميًّا من احدى الدول العربية.  وحين اطَّلعتُ عليه، رفضت أنْ أنشرَه في المجلة، وأعَدْتُه الى مؤلفه معتذرًا، عن عدم  موافقتي على نشر البحث في شكلِه المُرسَل، ما لم يتمَّ تصحيحُ ما انْطوى عليه من اخطاءٍ لغويةٍ شوَّهتْهُ، بل ربَّما قادت القارئَ الى فهمٍ مخطوء.

انا اليوم، ادعو كُتّابَ الثقافةِ العامة، وليس العلوم حسب، الى الحرص قدر المستطاع، على المراجعة الجادة لما يكتبون من مواد، قبل ان تُصارَ الى النشر، فكم أرى سقطاتٍ لغويةً ونحويةً واملائية، وكم أرى خروجًا على العروض في ما ينشرعلى أنَّه  شعر، وما هو كذلك، فأقول والوصية لنا جميعًا، ولا أستثني منّا أحدا:

اللغةَ اللغةَ في كتاباتنا معشرَ الكُتّابِ، فالْمسؤوليةُ مسؤوليتُنا، وأعرف أنها ليست يسيرة.  نحن نسعى الى الكمال ما اسْتطعنا، وكلنا يقع في الخطأ، وخيرُنا من يحاول ان يقلِّلَ من الأخطاء، إن لم نقل يتفاداها ما استطاع، وألّا يستمرَّ في الخطأ لِكَيْلا يُصبِحَ مأْلوفًا، سلام.

***

عبد يونس لافي

من الملاحظ أن الكثير من الاخوة المبتدئين خاصة في عالمي الفن التشكيلي والادب، عادة ما يفتتحون مسيرتهم "الإبداعية"، بالنقل الفوتوغرافي عن الواقع فيما يضعونه من رسومات، أو بالكتابة عن أحداث سبق وعاشوها، فنراهم يقومون بتسجيلها كما وقعت، ويغيب عن هؤلاء وأولئك، أن مَهمة النقل عن الواقع هي من شأن المصوّر الفوتوغرافي، وأن الكتابة الواقعية بشكلها المباشر، وكما وقعت، هي من مَهمات الصحفي وليس الكاتب الاديب.

لا شك في أن الحالة الإبداعية في الفن التشكيلي والادبي، تتقاطع مع الواقع، لكنها لا تنقله نقلًا مباشرًا وانما هي تُعمل فيه يدَ الخيال، وعليه نلاحظ أن الفنان التشكيلي إنما يقوم برسم أشياء من الواقع، لكن ليس كما هي، وإنما كما يراها بحساسيته المفرطة وكما يشعر بها، أما في المجال الادبي، فإن الكاتب الاديب المبدع إنما يفكّك الواقع ويقوم بإعادة صياغته عبر وجهة نظر ورؤية تضيف إلى الحياة ولا تنقلها بصورتها المرئية والمعيشة.

صحيح أن النقل الفوتوغرافي في الفن التشكيلي وفي الكتابة الإبداعية، له أهميته الكامنة فيه، من ناحية البراعة باستعمال التقنيات، في الفن القدرة على استعمال الالوان، وفي الكتابة القدرة على السرد مثلًا، إلا أن هذا كله لا يجعل من العمل المُنفّذ، عملًا فنيًا جديرًا بهذه الصفة، ما يجعل العمل الفني عملًا ابداعيًا بإجماع نقدي واسع هو التجربة، وهنا أشير إلى ما ذكره الكاتب ليون ايديل في كتابه "القصة السيكولوجية - دراسة في علاقة علم النفس بفن القصة "، الذي ترجمه قبل سنوات بعيدة إلى العربية الكاتب المرحوم محمود السمرة، حول التجربة التي ميّزت الابداع الادبي الروائي للكاتب الروسي ليو تولستوي. يتساءل ايديل بعد تقديمه مقطعًا من رواية "الحرب والسلام" لليو تولستوي، ما الذي يجعل هذا المقطع ابداعًا أدبيًا؟ يختلف عن غيره من النصوص الوفيرة التي كتبها جنود في مذكراتهم عما عاشوه وعايشوه أيام الحرب، ويجيب إنه يختلف بالتجربة الشاملة التي يقدمها لحالة الحرب.

بعيدًا عن البراعة في توظيف التقنيات في الفن التشكيل، مع أهميتها النسبية، بإمكاننا أن نتساءل، إذا كان بإمكان الكاميرا أن تنقل الواقع كما هو، لماذا يُجهد "الرسّام"، نفسه في نقله؟ ولماذا يبذل كل هذا الجهد المجّاني؟ أضف إلى هذا أنه مهما بلغ من براعة لن يتمكن من الدخول في منافسة معروفة النتيجة مع الكاميرا؟ بناء على هذا أقول إنه إذا كان بإمكان الكاميرا التقاط الواقع بحذافيره الصغيرة وربّما تلك التي قد تغيب عن العين المتفحّصة، فلماذا نقوم بالرسم أساسًا؟ من أجل إفحام الآخرين وإقناعهم بأننا متمكّنون من الرسم؟ وهل هذه رسالة.. أم مماحكة عبثية.. لا قيمة لها.

فيما يتعلّق بالواقعية في المجال الادبي، يمكنني الإشارة إلى كتاب أراه هامًا في هذا المجال للكاتب مُحيي الدين صبحي عنوانه" دراسات ضد الواقعية في الادب العربي"، يرى فيه أن تبني العديد من كتابنا العرب للواقعية في الخمسينيات والستينيات تحديدًا، حرم أدبنا العربي ظهور رواية مثل " روبنسون كروزو"، للكاتب الإنجليزي دانيال ديفو، وحدّد من جموح الخيال في العديد من الاعمال التي نقلت الواقع نقلًا فوتوغرافيًا باسم الواقعية.

مُجمل القول..، الواقع هو المادة الأولية الخام للإبداع الفني والادبي، وغيرهما من الابداعات الإنسانية، إلا أن الخيال هو الابُ الشرعي للإبداع.. ولا ابداع بلا خيال.

***

ناجي ظاهر

 

السريالية، كما يعرّفها أندري بروتون في البيان الأول لهذه الحركة الفنية، هي التلقائية النفسية البحتة، من خلالها يمكن التعبير عن الأداء الحقيقي للفكرة. وهي حركة مرتبطة بسياقات  وظروف سياسية واجتماعية وثقافية غربية كما هو الشأن بالنسبة لكل الحركات الفنية والأدبية الأخرى بدءا من حركة النهضة، والتي انبهر بها الجيل العربي فيما سمي أيضا بالنهضة العربية...

فجاءت كحركة تمرد على المجتمع بُعيد الحرب العالمية الأولى. حرب تعتبر صدمة للإنسان الغربي الذي آمن بالحداثة التي مهدت لها الحركة الكلاسيكية بتبجيلها للعقل والتطور العلمي. ولا ننسى أن أول حركة تمرد على ما بشرت به الكلاسيكية هي حركة الرومانسية التي سرعان ما اعتُبِرت بأنها حركة انهزامية ورجعية من قبل الحركة الواقعية التي دعت إلى مواجهة الواقع عوض الهروب نحو الماضي والطبيعة والانطواء على الذات المتباكية. جاءت إذن الحركة السريالية، المتأثرة بالحركة الدادائية، لتثور على هذه الواقعية التي اعتبرتها امتثالية لتقاليد موروثة عن حقبة ادعت العقلانية، ما جعل المجتمع يعيش على الكليشيهات والزيف مبتعدا هكذا عن حقيقته كذات لأنه أصبح خاضعا لنمطية إجتماعية مقرفة، و بتأثرها بأبحاث العالم النفسي فرويد، رأت أن الحقيقة مقموعة فيما سماه هذا العالم ب"الهو"، قمع يقوم به "الأنا" خوفا من "الأنا الأعلى"، أي ما رسخته التقاليد والمؤسسات الاجتماعية. لهذا ركزت على ما اسمته بالكتابة الآلية أو الاوتوماتيكية التي لا تخضع لمراقبة "الأنا" الواعية والتي تعتبر بمثابة دركي يمنع ما يعارض "الأنا الأعلى"، بمعنى يمنع كل ما يصبو إلى التحرر من النمطية والزيف.

هذا ما يمكن قوله بإسهاب شديد حول تطور الحركات الفنية بالغرب مع التأكيد على السريالية كحركة فنية وأدبية ورؤية فلسفية. فهل تخضع "الحركات الفنية" العربية، إن وجدت، لنفس المنطق، بدعوى عالمية الفن، علما أن سياقاتها وظروفها مختلفة؟

وهل من المنطقي إلصاق مصطلح " السريالية" مثلا ببعض النصوص العربية التي تسمى "قصائد نثرية"، امتثالا دائما لمنظرين غربيين، بغض النظر عن مفهومية المصطلح الذي يحمل شحنة تاريخية غربية

كما سبق الذكر في مستهل المقالة؟

***

محمد العرجوني

 

لطالما اثارت في نفوسنا قصة (خالد في الغابة) الكثير من مشاعر الخوف الممزوجة بالفضول، والقصة التي وردت ضمن دروس القراءة في المرحلة الابتدائية نجحت مبكرا في اطلاق العنان لمخيلتنا وتساؤلاتنا، فمفردات امثال غابة وحيوانات واسد كانت جديدة علينا، ومما زاد دهشتنا هي تلك الاجواء الغامضة التي كشفتها الرسمة المصاحبة للقصة والتي تسببت بإثارة الرعب في قلوبنا  خاصة ونحن لم نزل اطفالا ونصدق كل ما نقرأه أو نسمعه،  وكنا غير قادرين لاستيعاب فكرة اقتحام ولد صغير  لعالم الغابة المتوحش والوقوف بكل هدوء وجرأة وسط مجموعة من اشرس الحيوانات واكثرها فتكا بالإنسان والغريب ان تلك الوحوش تقف هادئة متفرجة دون ان تفترس (خالدا) بل تستقبله وتبادله نظرات الاعجاب!!.

والقصة التي تعاطفنا مع بطلها في وقت مبكر من دراستنا، صارت من اكثر الحكايات التي علقت في ذاكرتنا لكونها كانت اول قصة خدعتنا وزورت الحقائق مبكرا من دون قصد طبعا، اذ اننا لما كبرنا ونضجنا، اكتشفنا ان الطفل (خالد) الوديع وعديم الحيلة، والذي يرتدي بجامة النوم المشطبة المعروفة بـ(البازة) هو غير خالد الذي رأيناه في ارض الواقع!!.

لقد اكتشفنا ان خالدا في حقيقته لم يكن ذاك الطفل البريء، والمسالم بل كان شخصا انتهازيا ودنيئا وغليظا خاصة وأنه في الاصل لديه استعداد وراثي للشر اذ تتوزع المئات من أتعس الجينات المنحرفة في كروموسوماته والبالغ عددها (40) مما يجعله يتصرف كشيطون صغير، وهو دخل الغابة مبكرا ليكتسب كل الطباع الحيوانية السيئة، فأخذ من الثعالب مكرها وخداعها، وتعلم من الافاعي والحيات الغدر والتلون، ورضع مع السباع والهوام الغرور والجشع والشراهة، ومن الجمل شرب الحقد والبغض، ومن الضباع وبنات آوى تغذى الحقارة والدناءة، ومع كل هذه الطباع صارت نفسه حقيرة، بغيضة، دونية، خبيثة، مفسدة، ليس همها إلا نيل شهوتها، وامسى خالد لا يستحى من قبيح، ينظر نظر الحسود ويعرض اعراض الحقود، حتى ان الشاعر ابن الرومي أفرد له  قصيدة يهجو فيها: 

ما كرَّم اللّه بني آدمٍ

إذ كان أمْسى منهمُ خالدُ

*

واللّه لو أنَّهم خُلِّدوا

حتى يبيد الأبد الآبدُ

*

وسُخِّرَ البرُّ لهمْ مركَباً

والبحرُ أنَّى قصد القاصِدُ

*

ودوَّخُوا الجنَّ فدانتْ لهمْ

وأذعن العِفْريتُ والماردُ

*

وأصبح الدهرُ حفيّاً بهم

كأنه من برِّه والدُ

*

واستوت الأقدار في خُطَّةٍ

فليس محسودٌ ولا حاسدُ

*

ولم يكن داءٌ ولا عاهةٌ

فالعيش صافٍ شرْبُهُ بارِدُ

*

ودامت الدنيا لهم غضّةً

كأنها جارية ناهدُ

*

ما كُلِّفوا الشكر وقد ضمهم

وخالدُ اللْؤمِ أبٌ واحدُ

لقد تم خداعنا بتلك القصة حينما صورت لنا ان العالم وردي بينما نحن نعيش في غابة تعج بالكواسر والوحوش، وبالطبع فان خالدا واحدا من اسوأ تلك الوحوش والعنها !!.

***

د. محمد علي شاحوذ \ بغداد

شكلت شخصية الروائى تيودور دوستويفسكي انعطافًا في تاريخ الرواية العالمية، تلك الشخصية التي مزجت بين عبقرية الأدب والكتابة وتوظيف النفس الإنسانية المركبة فيها، بكل تعقيداتها.

ورواية الليالى البيضاء، إحدى الروايات الأولى للكاتب الروسى الكبير دوستويفسكى التي أصدرها في مطلع شبابه عند القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والصادرة حديثا عن المركز الثقافى العربى، للمترجم القدير سامى الدروبى.

لا شك أن كلاسيكيات الروايات العالمية كانت منطلقا لكثير من المبدعين الذين تتلمذوا عليها. تلك الروايات التي تنوعت بطروحات مزجت الخيال بالواقع، وجدير أن نعيد هذه القراءات برؤى متوازية تارة، وتتقاطع معها تارة أخرى، فإذا كانت الرواية الحديثة قد احتكرتها المدارس الحديثة من السردية إلى غيرها، فإن عالم الرواية الكلاسيكية أو المسرح وكل الفنون الإبداعية، لا يزال ينبض قوة في روح الإبداع، وفى نفوس من يسعى إلى كتابة النص الإبداعى، فيستمد ويغرف من فيض النتاج الأدبى العالمى الإنسانى، والإرث المتوارث من التراث العربى القديم، لاستيعاب مجريات الأحداث داخل النص بفلسفة معاصرة.

إن اسلوبه الذي تميز بالتدفق الساحر في رصد عالم الإنسان، ورصد سلوكه وانفعالاته النفسية، وما يدور في خلجاته التي ينقلها لنا متمثلة في شخوص أبطاله، وكيف تتطور سلسلة الصراع وثيمة النص لديه، بقدرة قلما نجدها إلا لدى القليل من الروائيين، فنجد مستويات متعددة يتناولها، تارة تتوزع بين الدين والوجودية، وتارة قيم الإنسان والأخلاق أو الصراع بين الخير والشر في النفس الإنسانية، فهى متعددة الوجوه والتركيبات والأصوات.

لقد اختلف الكثير من النقاد في تصنيف شخصية البطل بهذه الرواية التي توزعت بين المدرسة الرومانسية، وفانتازيا الأدب الروائى، فضلا إذا ما قورنت بين المدارس النقدية المتعددة وفلسفاتها.

لقد شكلت الرواية بلياليها الأربع، وشخصية البطل المستقاة من شخصية الكاتب نفسه، والذى يعطى للقارئ أنها (الإسقاطية) التي يبطنها ويلقيها الراوى على بطل أحداثه، وهو يعيش في مدينة بطرسبورج، شخصية تعيش وحدها، تحاور ذاتها، لا علاقات ولا صداقات، لا يقاسمه الفرح إلا الحزن الذي يستوطن ذاته المتناثرة بين عالم يحيطه من كل الأركان في داخل المدينة، بطل الرواية الذي تعمد كاتبها بتقنية عالية ألا يمنحه اسماً، بقدر ما أراد أن يشوب القارئ نوعا من السعى والفضول للغور واكتشاف هذه الشخصية التي تعيش بين أروقة النص.

شخصية البطل تلك الشخصية الحالمة المتدفقة، ولكنها صامتة تغلى في داخلها بعواطف جياشة تجاه ناستينكا، تلك الفتاة التي ارتبطت بعلاقة عاطفية مع المستأجر لغرفة استأجرتها له جدتها، ثم غادرها بسفر إلى مدينة أخرى على أمل أن يعود إليها (إلى ناستينكا) التي وعدها باللقاء لاحقا. في الوقت الذي يلتقى بطل الرواية بناستينكا، حيث يبارك للقدر الذي جعله ينقذها صدفة في الطريق العام، من شخص متهور كاد يعتدى عليها.

هنا يقول الكاتب على لسان بطله (أنا خجول) وهو يحدث ناستينكا بعد ما أسعفها من الشخص المتهور في الشارع، وهى تبادر إلى سؤاله (لماذا يدك ترتعش؟) فيجيبها: (أنا خجول مع النساء، أنا مضطرب لا أنكر هذا، لم أتخيل يوماً ان أتكلم مع امرأة، نعم كانت يدى مرتعشة، أنا وحيد ولا أعرف الحديث معهن).

هنا يرى العالم الروسى إيفان بافلوف، صاحب المدرسة الاشتراطية في علم النفس، (أن شخصية كبطل دوستويفسكى في رواية الليالى البيضاء، التي تملى عليه حالة عدم التوازن في الشخصية، والتى تفرضها عليه النوازع الداخلية المتصارعة، تفرض عليه المحاولة للخروج منها، إلا أن الذات القسرية في داخله تقف حائلا بينه وبين الواقع الشرطى المفروض عليه).

فإذا كانت الليلة الأولى من الرواية هي المحطة التي يروح البطل فيها متسائلاً ذاته، وهو يردد بينه وبين نفسه كلاماً غير واضح، يشاطره الطريق وهو يتنقل قافزاً بنظراته بين الشيخ العجوز الذي يحييه كل يوم خلال مروره بالحديقة، وبين شرفات المبانى في الطرقات، لا يدرى أين تقوده خطاه في هذا العالم المضطرب، حتى يلتقى بالصدفة مع ناستينكا، ليدخل النص في الليلة الثانية وجدل الصراع النفسى عندما يتعرف على علاقة ناستينكا والمستأجر غرفة جدتها الذي وعدها يوماً بالعودة إليها، حال الرجوع من سفره الذي طال كثيراً.

وإذا كانت الليلة الثانية من الرواية تغرق في الوصف والاسترسال الذهنى الانفعالى للأحداث، وبصبغة عاطفية تعكس روح بطل الرواية أو شخصية الكاتب، وهو يوحى للمتلقى أن الإبداع المقترن بفترة زمنية تسكن حياة الإنسان في مطلع شبابه، ليس كما هو الحال وهو يكتب في مراحل متأخرة، وهذا ما نلمسه في حالة التطور الانفعالى المعقد والمركب لدى دوستويفسكى عندما كتب فيما بعد روايته (الجريمة والعقاب)، وما حملته تلك الرواية من تصوير لعمق النوازع الإنسانية، وعمق وكبر ونضج التجربة الإبداعية لديه فيما بعد، مقارنة بما كتب في (الليالى البيضاء).

إن الإبداع الإنسانى أفق مفتوح بلا نهايات، يستغرق ويستنزف وقتاً وجهداً مضنياً من المبدع، لذا تجد صورة الراوى (على سبيل المثال لا الحصر) في الليلة الثالثة للرواية، حين تبدأ ناستينكا بالحوار عن تجربتها ويبدأ الراوى وهو يغرق بين انفعاله العاطفى المكبوت تارة، وبين ضياعه بين مفردات حديثها وعلاقتها عن الشاب المستأجر الذي انتظرته طويلا.

قد يخفى دوستويفسكى حالة الحبور في ذاته، وقد تجد أن ما يملى عليه من الرقى في كيفية توظيف الشعور في النص الإبداعى، ليتناول حالات الانفعال الإنسانية، وهو يعيش حالة من حالات الجانب العاطفى الذي يختلج في ذاته، كما يسعى تصويره إسقاطياً على بطل الرواية.. إن الارتقاء إلى الغور داخل الوعى والعاطفة وانفعالاتها، ربما نجده يتوزع داخل النص الشعرى، ولكن عندما يسعى الراوى لإسقاط ذاتيته بأسلوب فنى، فلابد أن يكون قد تمكن من أدواته الفنية والتقنية والسردية، وأن توظيف الخيال في ثيمة النص، حالة خاصة ليس يسيراً على المبدع أن يبديها عملا متكاملا تقنع المتلقى، أو تتبوأ بدورها كعمل إنسانى يصارع بين الكاتب مرة وبين مخاطبة الإنسان المتلقى مرة أخرى.

وإذا كانت الليلة الرابعة والأخيرة من الرواية هي التي يسعى فيها دوستويفسكى ليختم عالمه الافتراضى والإسقاطى على لسان بطله (الراوى) فهو يقترب أكثر فأكثر من عالم الإنسان بعاطفته القلقة، وتشتت الحالة الانفعالية لديه تجاه ناستينكا، عندما تقترب لحظة المصارحة بينهما ويدلو بدلوه أخيرا ليعترف بحبه لها، وفجأة أشبه ما تكون بلحظة (ومضة الفلاش) يأتى المستأجر من بعيد لتتقاطع نظرات ناستينكا بين من أحبته بالليلة الأولى وبين من بات ينفجر بحبه لها في الليلة الرابعة.

***

د. عصام البرام

عُرفَ عن ابن آوى بأنه أذكى الحيوانات وأكثرها مكراً واحتيالاً وكان هذا يسبب لبعض الحيوانات الضيق والحسد.

ففي ذات مرة، ولكي يغيظه، أومأ له ضبعٌ بجناح نعامة كان قد بدا يفترسها بهدوء على الجهة المقابلة لبِركة وكان ابن آوى جائعاً كثيراً وخشي أن يلتهم الضبع النعامة بكاملها لهذا ارتبك واضطرب وما من سبيل الا بالخوض في البركة فخاض فيها على عجل وقبل وصوله أحس بالإنهاك فجعل يغوص ثم يطفو فاستنجد بالضبع فتبسم الضبع وقال: اساعدك ولكن لي شروط.

فقال ابن آوى: مقبولة كل شروطك

فقال الضبع: قل انا أحمق وليس كما يشاع بأنك ذكي

فقال ابن آوى: انا أكثر الحيوانات حماقة.

فرد وقال له: قل انا ضئيل الجسم وبائس وبأني انا الضبع سيد الغابة.

فقال ابن آوى: بل أنت سيد الغابات كلها ..  هيا ساعدني.

فقال الضبع : قل انا هزيل وتعس وباني أنا الضبع أجمل وأرشق الحيوانات واسرعها عدواً.

فقال ابن آوى: أين جمال الطواويس من جمالك وأين سرعة الفهود من سرعتك.

فانتشى الضبع وسكرَ دون خمر.

فساعد ابن آوى في الخروج من البِركة وأراحه على جذع شجرة ثم قال له: اكملْ حديثك العذب الشفاف

فراح ابن آوى يمدح وينهش اللحم الطري وكلما أفاق الضبع من سكرة المديح عزَّزه ابن آوى بوصلة مديح جديدة حتى أتى على النعامة كلها !

***

سامي العامري - برلين

15 ـ 11 ـ 2022

تمّ العرض الاول لمسرحية مكسيم غوركي (الحضيض) في مسرح موسكو الفني وباخراج ستانسلافسكي بتاريخ 18 كانون الاول / ديسمبر من عام 1902، وفي الذكرى السنوية (120) على هذا الحدث الثقافي (الروسي اولا، والذي تحوّل بعدئذ الى نقطة انطلاق عالمية)، نشرت صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا) الاسبوعية مقالة شغلت الصفحة الثالثة باكملها في عددها الصادر بتاريخ 21 - 27   ديسمبر   2022،  وهي مقالة مثيرة حول هذه المسرحية وجاءت بعنوان غريب، وهو – هل الحقيقة ضرورية في القعر ؟، وتعبير (في القعر) هو عنوان هذه المسرحية بالروسية حسب الترجمة الحرفية كما جاءت عند غوركي ( العنوان الذي استقر بالروسية بفضل الكاتب الروسي أندرييف، صديق غوركي، بعد عدة عناوين اقترحها غوركي نفسه)، ولكن المترجم العربي لم يلتزم بالترجمة الحرفية (وحسنا فعل !)، واعطى عنوان (الحضيض) لتلك المسرحية، والتي صدرت بترجمتين عربيتين بمصر في حينها وبنفس العنوان، وتهدف مقالتنا الى تعرّيف القارئ العربي (الذي يعرف منذ فترة طويلة هذا العمل المسرحي الرائد) بالافكار الجديدة التي طرحها كاتب المقال في (ليتيراتورنايا غازيتا) حول مسرحية غوركي الشهيرة بعد مرور 120 عاما على عرضها الاول في مسرح موسكو الفني، وهذا المقال يعدّ بحدّ ذاته ظاهرة طريفة و غير اعتيادية وتستحق التأمّل العميق، اذ نجد هناك عدة آراء متنافرة بعض الشئ (ان صحّ التعبير)، رغم ان الكاتب يحاول ان يجيب عن سؤال مهم، والسؤال تحديدا هو - لماذا يعود النقد الادبي الروسي المعاصر الى مسرحية غوركي هذه من جديد ؟، ولكن المقال هذا في الوقت نفسه يتحدث عن غوركي بشكل غير مباشر، في انه كان (ضد الحقيقة !) في مسرحيته تلك، وانه لم يكن يعتقد بضرورتها  لهؤلاء، الذين (في القعر)، وقد انعكس رأي الكاتب حتى على العنوان الاساسي للمقال، ولهذا السبب، فاننا نعرض هذا المقال للقارئ العربي ونحاول التوقف عند جوانبه المختلفة حول غوركي ومسرحيته (الحضيض) والتعليق حولها في اطار معلوماتنا المتواضعة، اذ ان المقال منشور في صحيفة (ليتيراتورنايا غازيتا)، وهي صحيفة تمتلك اهميتها وقيمتها في عالم الصحافة الروسية المعاصرة، ومن المهم للقارئ العربي متابعتها والاطلاع على آرائها وتوجهاتها .

مقال الكاتب بلاتون بيسيدين يبدأ بالاشارة الى الشهرة العالمية لمسرحية غوركي (الحضيض)، ويعطي الكاتب نموذجا لهذه العالمية قائلا - (انها المسرحية التي تم عرضها وبنجاح كبير في برلين، مثلا، مئات المرات !)، ويؤكد الكاتب ان هذه المسرحية لازالت ولحد الان واسعة الانتشار عالميا لدرجة (وهنا يصل الكاتب الى استنتاج غريب !) ويقول، ان هذه المسرحية اصبحت (اكثر شهرة من غوركي نفسه !!!)، ويوضّح هذه الفكرة قائلا، ان شهرة غوركي بدأت بالانحسار عالميا مقارنة مع تلك المسرحية، خصوصا في روسيا المعاصرة، بينما هذه المسرحية لازالت تعرض وبنجاح على مسارح اجنبية عديدة، وفي اوروبا بالذات، ولا يأخذ الكاتب بالاعتبار الموقف تجاه غوركي في بقية الدول، ومنها عالمنا العربي . يرى الكاتب، ان السبب الرئيسي لشهرة هذه المسرحية يكمن في انها عمل فكري بحت قبل كل شئ، عمل يعكس صراع الافكار في اعماق غوركي نفسه، و لا تعتمد على احداث معينة، ويؤكد، ان حلاصة هذه المسرحية الفكرية يمكن اختصاره، في ان هؤلاء الناس اما (قتلوا) الرب في اعماقهم، او (اضاعوه)، وهم الان يبحثون عبثا عن البديل، ولهذا، فان الافكار التي يطرحها ابطال المسرحية لازالت تتفاعل مع روح عصرنا الحاضر بشكل مثير، اذ ما أكثر هؤلاء النماذج في كل العصور وفي المجتمعات الانسانية كافة . يتوقف كاتب المقال، مثلا، عند النقاش بين بطلين من ابطال هذه المسرحية هما (لوكا) و(ساتين)، ويرى الكاتب، ان هذا الحوار في الواقع هو نقاش حاد يجري بين الفيلسوف الالماني نيتشه و الفيلسوف الروسي سولوفيوف، او بتعبير أدق، كما يضيف كاتب المقال، بين غوركي نفسه وتولستوي، ويشير الى كلمات تولستوي الشهيرة حول غوركي، والتي قال فيها، ان (...ربّ غوركي مشوّه....)، وهي كلمات تعبّر بشكل دقيق عن الموقف الديني لتولستوي، الذي كان يدعو الى ان العلاقة بين الانسان والرب ّ يجب ان تكون مباشرة ودون اي وسيط بتاتا، وكان يقصد الكنيسة طبعا . الا ان أغرب هذه الآراء التي جاءت في المقال تنعكس في ان الكاتب يرى، ان غوركي كان يعتقد، ان هؤلاء الناس الذين يقفون في الحضيض لا يحتاجون للحقيقة، وان الحقيقة غير ضرورية لهم، وقد انعكست هذه الفكرة في عنوان المقال كما أشرنا في بداية مقالتنا، ويحاول الكاتب تعزيز رأيه هذا بالاستشهاد بجملة قالها غوركي عام 1929، الا اننا نرى، ان المسيرة العامة لغوركي لا تتوافق مع هذا الرأي، وليس عبثا، ان غوركي يشغل مكانته الخاصة به في تاريخ الادب الروسي بشكل خاص، وفي تاريخ الادب العالمي بشكل عام، وان هذه المكانة يعترف بها هؤلاء الذين يقفون ضده، قبل هؤلاء الذين يقفون معه، ويكفي ان نتذكر كلمات الشاعرة تسفيتايفا (وهي كانت في هجرتها هربا من ثورة اكتوبر 1917) معلقة على منح جائزة نوبل لبونين (وهوكان مهاجرا ايضا)، اذ قالت، ان غوركي هو الذي يستحقها. 

***

   أ.د. ضياء نافع 

 

 

لن أسأل عن ماذا تفعل الآن؟ ولكن، قد أحاورك بسؤال عقلاني أكثر دقة: بما تفكر الآن؟ هذا السؤال الأخير يستوطن كل الأبعاد الرمزية للتواصل الفعال الفوري، والتفاعلي الاجتماعي الآلي، ويحدد بنية العقل الرمزية، ونوعية التفكير النظيف أو الرخو. قد تكون جينات تفكيرنا تحمل سمات نمطية آتية من عقلية حركة نحلة تتنقل بين الأزهار، ولم تقدر ولو لمرة امتصاص كل الرحيق المتواجد بكم كبير في زهرة واحدة متفتحة، وهو الطعام الذي كان يكفيها عودة نحو الخلية، وبدون حركة تنقل غير تبريري !!

 نعم سؤال: بما تفكر الآن؟ قد يكون أرضية مشتركة رحبة لإنتاج صيغ بديلة من التضامن والاندماج الآلي لجيل (المابعد) الحداثة، والمتمثل أساسا في مواقع التواصل الاجتماعي بين الأفراد والجماعات، وقد بات التواصل الفوري عبر الآلة يوازي الخطاب المكتوب والشفهي، وتم استنباته من التربة الاجتماعية الجديدة بمتغيرات الزمن والمكان والتقانة.

 بما تفكر الآن؟ لن يسقطنا هذا السؤال الفطن حتما في أجوبة تُماثل التجريد، وهندسة تسطيح التنظير (المعياري) البعيد عن الواقع الاجتماعي المتحور بالتباعد الجسدي والذي يتجلى بالصورة الواقعية في التباعد الاجتماعي، بل نبحث عن خلق نظام المصالح والانشغالات الرمزية من ذوات الطابع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي باعتبارهم المجالات البديلة التي تتكفل برفض سلطة الانغلاق (الفردانية)، وتحذف الاختلاف (الذكاء الاصطناعي)، وتقلل من حجم التناقضات (ما بعد العولمة).

قد يكون الجواب يُجَانب قصد البداية، فيقول المتشائم: قد تحولنا نحو رؤية الظلام الافتراضي بهيمنة التفاهة، والتي تعارض الواقعية التقليدية، فمادامت الحياة اليومية باتت عالما مبتذلا وعاديا، وتحمل مواضيع ذات طابع أقرب إلى العاطفة والانطباعية والسذاجة !! فلن يكون المنتوج الفَضْلُ قَدْرَ مرارة حدة التعبير، بدل إنتاج الرزانة الاجتماعية وتمرير النقد الإيجابي.

بما تفكر الآن؟ سؤال يحمل حتما مُتخيل الاحتفاء بالاختلاف لا بخلافات السجال. سؤال فيه اندحار حتمي لمفهوم الفر دانية، رغم أن صياغة السؤال تحمل إمكانية تحويل المفرد إلى الجمع الجماهيري. فالحقيقة العفوية في الجواب، تنفلت من شكلية اللغة ودلالاتها التركيبية، وتتحرر من الحماس و الاندفاع في صياغة أجوبة ذات سفسطة مريرة وزائدة. ينفلت الجواب حتما من رؤية صدفة الحامل والمحمول في (تعامد التناص) بين تفكير الأجوبة السليمة لا في بناء السؤال الفَطِنِ.

بما تفكر الآن؟ قد يلتزم الجواب المقنع أسلوبا أقل تحصينا في عالم التحولات الاجتماعية المتسرعة والمدن الذكية. قد يقع الجواب ضمن وضعيات السقطة المدوية المتنافرة، وضمن نطاق التواصل الآلي العمودي، وسلطة الذكاء الصناعي للحداثة (البعدية). فهذا الإشكال إن صح يُفْقدنا جميعا الاتفاق عن جواب وجداني ووجودي سليم قابل للتنقيط والتصنيف ولما حتى الترقيم الآلي والتنظيم التقليدي. قد نتسرع بالإقحام ونقول: نفكر في أجوبة تكون أكثر شمولية لأسئلة مستفزة: من نحن في الواقع؟ ومن أنا في الافتراضي؟ ومن أنت في المستقبل؟ ومن هم في جمع تكسير الغائب الآلي؟

***

محسن الأكرمين

سؤالٌ أصبحَ يطرحُ علي من الكثيرَ تكتبُ لمنْ ومنْ يقرأُ؟! هلْ تكتبُ للنخبةِ أمٍ للشعبويةِ؟ نكتبُ منْ قاعِ مجتمعٍ ريفيٍ يمثلُ الغالبيةَ العظمى للشعبِ المصريِ، نكتبُ لعالمٍ جديدٍ يولدُ منْ رحمِ أوجاعِ وضرباتِ وباءِ كورونا وحروبٌ خفيةٌ وعلنيةٌ، نكتبُ منْ صراعاتٍ جيوسياسيةٍ، لنظامٍ عالميٍ متعددٍ الأقطابِ " نكتب ضدُ الانحرافِ منْ الشرِ الأخلاقيِ لصالحِ الحشمةِ ضدَ الوقاحةِ، لصالحَ الحريةِ ضدَ الاستبدادِ، والسلطةُ ضدَ الفجورِ، والعدالةُ والمساواةُ " ضدَ التمييزِ، والديمقراطيةُ ضدَ اليمينِ المتطرفِ كذلكَ دكتاتوريةَ اليمينِ أوْ اليسارِ . بكلِ ألوانها، أنا قلمٌ؛ - مؤيد للنضالِ المستمرِ ضدَ أيِ شكلِ منْ أشكالِ التمييزِ، وضدَ الهيمنةِ الاقتصاديةِ والاحتكارِ وزواجِ السلطةِ بالمالِ للأفرادِ أوْ الطبقاتِ الاجتماعيةِ . ضدَ التهميشِ لطبقةٍ أوْ مذهبٍ أوْ عقيدةٍ، ضدَ البعدِ عنْ الهويةِ والثوابتِ القوميةِ ضدَ أيِ شكلِ منْ التطبيعِ؟! أنا قلمٌ؛ - ضدَ النظامِ الرأسماليِ المتوحشِ السائدِ الذي اخترعَ هذا الانحرافِ: البؤسُ والفقرُ والجوعُ في الوفرةِ . والعجزُ وخلقُ التسولِ وهمشَ الطبقة المتوسطةِ فاختفتْ في عصورِ النهبِ والفسادِ عصورَ " القططِ السمانْ " أنا قلمٌ؛ - لصالحَ الأملِ الذي ينعشني على الرغمِ منْ كلِ شيءٍ . أنا؛ - كاتبٌ ضدَ خيبةِ الأملِ منْ الأحداثِ الجاريةِ دوليةً ومحليةً " التي تلتهمني وتشلّ حركتي صباحا ومساءً؟! أنا مجردُ قلمٍ؛ - لصالحَ جمالِ ممارستي كباحثٍ عنْ الحقيقةِ وسطَ ركامِ معاركَ ابحثْ عنْ دفاترَ وقلمٍ وخريطةِ وبوصلةِ أينَ تقعُ ديارْ العربِ؟! أعتقدُ أنَ جمالَ قلمي، يختفي إذا لمْ أهتمْ بالمعرفةِ والبحثِ التي يجبُ أنْ أكتبها وأدرسها، إذا لمْ أقاتلْ منْ أجلِ هذهِ المعرفةِ، إذا لمْ أفعلْ النضالُ منْ أجلِ الظروفِ الماديةِ الضروريةِ التي بدونها يتعرضُ جسدي لخطرِ الانزعاجِ ولمْ يعدْ شاهدٌ على،؟ أنَ قلمَ الكاتبِ المقاتلِ العنيدِ يجبُ أنْ يكونَ متعبا ولكنهُ لا يستسلمُ؟! إنَ قلمي الذي يتلاشى منْ ممارستي يوميا، إذا كنتُ مؤمنا وواثقا بالرسالةِ والكلمةِ " اقرأْ " نزلها اللهَ أمر على أمةِ رسولنا " محمدْ " فنحنُ أمةُ العلمِ فالإسلامُ " علمُ وإيمانُ " فالقلمِ مهما وصلَ منْ معرفةٍ فهيَ قشورُ منْ العلمِ؛ - فرسالةُ الكاتبِ والمثقفِ تصبح خيانةٌ إذا ابتعدَ عنْ المشهدِ والمحيطِ الجغرافيِ للبيئةِ التي يعيشُ داخلها، كما كتبها الفلاسفةُ " خيانةً المثقفينَ " للكاتبِ الفرنسيِ (جوليانْ بندا) في عمومِ المثقفينَ الذينَ رأى أنهمْ جميعا خانوا الفكرُ النقيُ الخالصُ، هائمينَ وراءَ الأهواءِ " السياسيةِ والأيديولوجيةِ"، متخلينَ عنْ المثلِ العليا التجاوزيةِ، التي يعودُ بها الكاتبُ إلى عصرِ أفلاطونْ، معتبرا أنَ كلَ المثقفينَ قدْ غدروا بهِ، همْ الذينَ كانتْ مهمتهمْ تقضي في الأساسِ محاربةَ كلِ ضروبِ ما يسمونهُ بالواقعيةِ السياسيةِ والنزعاتِ القوميةِ، باسمِ تلكَ القيمِ العليا، قيمُ العدالةِ والحقيقةِ والجمالِ التي " منْ الواضحِ أنهُ لمْ يعدْ لها مكانا في " عالمنا اليومَ " فالكاتبُ رسالةٌ يحملها أمانةً فالقلمُ إذا كانَ متعجرفا ومحتقرا للمعرفةِ؛ - ينطبقَ عليهِ " بخيلُ علمِ " فالقسمُ الإلهيُ يجبُ أنْ يكونَ دستورٌ لكلِ قلمٍ؟ (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)،،،،،!!!

***

محمدْ سعدْ عبدِ اللطيفْ

كاتبٌ مصريٌ وباحثٌ في الجيوسياسيةِ

 

 

حينما يتعلق الأمر بالحديث عن اختراعات علمية (طبية أو تكنولوجية إلخ..)، تصبح بعد تسجيل البراءات وإنهاء الإجراءات القانونية، في متناول الجميع ولا تراعي الخصائص "العلمية" لكل بلد.

هل يمكن التعامل بنفس الطريقة حينما يتعلق الأمر بالثقافة أو الأدب؟ هل سمعنا مثلا أن المدرسة الكلاسيكية أو الرومانسية أو الواقعية أو السريالية، سجلوا براءاتهم؟ وهل يمكن أن تصبح هذه المدارس في "متناول" الجميع؟ وكيف يمكن التعامل معها؟ أي كيف يمكن اعتبار كتابات مثلا، أنجزت بالبلدان العربية على أنها كتابات كلاسيكية أو رومنسية أو واقعية أو سريالية؟ هل نختلق معايير خاصة بالثقافة العربية أم نتكئ على معايير الثقافة الغربية في اضفاء هذه المفاهيم على ما يكتب في البلدان العربية؟

هذه الأسئلة، وربما أخرى لم استحضرها الآن، هي التي وجب على كتابنا ونقادنا التعامل معها حينما نتحدث عن المثاقفة. لأن الثقافات الأدبية تتأثر فيما بينها لكنها لا تأخذ منحى الثقافة العلمية. بالنسبة للثقافات الأدبية، فإننا نتحدث عن الخصوصية خلافا للثقافة العلمية. وحينما نستحضر عامل الخصوصية فإننا نكون أمام نوعين من المثاقفة. فهناك المثاقفة الإيجابية، وهي التي تغني الثقافات التي تتفاعل فيما بينها من غير أن ترضخ إحداهن للطمس أو للاستلاب، خلافا للمثاقفة السلبية. وأين تتجلى هذه الخصائص؟ أركز على الخصوصية الاجتماعية، لأن الثقافة وليدة المجتمع، وهي بمثابة الرمز لكل مجتمع، بل هي البراءة التي تحفظ خصوصية كل ثقافة.

على ضوء هذه الفكرة نتساءل مثلا: هل اختيار كتابنا ونقادنا العرب مصطلحات الكلاسيكية أو الرومانسية الخ... وإلصاقها بإبداعات شعرائنا أو روائيينا، اختيار سديد؟ هل هذه المصطلحات التي هي في حقيقة الأمر مفاهيم لأنها محملة بالفكر والفلسفة والموسيقى والهندسة المعمارية الخ... وظهرت نتيجة لحراك اجتماعي وسياسي وثقافي غربي لم تعشه بلداننا العربية، هل تعبر فعلا عن سياقنا الاجتماعي والسياسي؟

بطبيعة الحال، هذه التساؤلات ما هي إلا صيغة لوضع الإصبع على الإشكالية ونفكر بجدية على أن كتابنا ونقادنا لم يستوعبوا "المفاهيم"، بل انبهروا فقط بالمصطلحات، أي بالقشور فقط. وهكذا تحدثوا عن الشاعر الفلاني رومنسي والآخر كلاسيكي (والطامة الكبرى حينما ينزلقون ويلبسون معنى القديم لمفهوم الكلاسيكية)، والآخر سريالي، وهنا العبث واللخبطة فنفرغ السريالية من منظورها الفلسفي الذي تأسس على الصدمة القوية بعد الحرب العالمية الثانية، وتأثر بالتحليل النفسي وتفسيرات فرويد حسب نظريته المبنية على الهو والأنا والأنا الأعلى، الخ...

خلاصة القول، إن هذا "النقل" من قبل كتابنا ونقادنا، أفرغ المصطلحات من مفاهيمها وألصق "رمز" سلعة لم نساهم فيها، بسلعتنا، وأصبحنا كمن يصنع مثلا لباسا محليا فيلصق عليه "رمز" شركة غربية مشهورة عساه ينافس السوق العالمية.

وما يقال عن هذه المدارس، يقال عن موضة "الهايكو".

***

محمد العرجوني

 

إذا كان أي نص تشعبي يعكس إنجاز الكتابة الأدبية والفكر الإنساني، وإذا كان أيضا يمثل صورة إيجابية عن أي مجتمع، ألا يمكننا أن نبني على هذه الاستعارة رؤية جديدة للعالم وللفلسفة ؟ هكذا طرح ليفي وبولتر سؤاله في هذا المجال المتشعب:

يمكن اعتبار مجموعة الرسائل والتمثيلات المتداولة في مجتمع ما، كنص تشعبي كبير ومتحرك، ومتاهة بمئات التنسيقات، وبألف طرق وقنوات حيث يشترك سكان نفس المدينة في العديد من العناصر والوصلات المتشابكة الضخمة والمشتركة. كل شخص يمتلك رؤية شخصية، وجزئية بشكل رهيب، مشوهة بواسطة عدد لا يحصى من الترجمات والتفسيرات. هذه الروابط التي لا داعي لها، وهذه التحولات التي تديرها الآلات المحلية، مفردة وذاتية، المرتبطة بالخارج، هي التي تعيد إدراج الحركة، والحياة، في النص التشعبي المجتمعي الكبير وبالتالي إلى "الثقافة" بشكل عام .

يمكننا أن نتوقع من العلماء المعاصرين أن يتوصلوا إلى استنتاج مفاده أن كتاب الطبيعة هو نص تشعبي بامتياز، ولغته هي الرياضيات الحسابية للرسوم البيانية الموجهة. إنه احتمال مثير للاهتمام. لأنه إذا كان العلماء يدرسون ترابطية الطبيعة، بينما يقرأ آخرون النصوص التشعبية، فيمكن عندئذٍ توحيد رؤيتنا للطبيعة مع تقنيتنا في الكتابة بطريقة لم نشهدها منذ العصور الوسطى.

إن استفزاز النص التشعبي هذا، كما رأينا أعلاه قد سخر منه البعض الذين يتساءلون فيما إذا كان النص التشعبي يخفض مستويات الكوليسترول - وبالتالي يصبح سلطان الاستعارات، والاستعارات الفائقة.

لطالما كان اللجوء إلى الاستعارة الحسابية يبدو لنا غريبًا إلى حد ما : فنحن نصنع آلات هي الأنسب للإنسان من خلال وضع أنفسنا في فرضيات تقوم على عمل العقل ونصرخ من أجل تحقيق المعجزة لأن الآلات المذكورة ستؤكد هذه الفرضيات . لكن هذه بلا شك نظرة كاريكاتورية إلى حد ما للأشياء. إن المحاكاة والافتراضية تعبر عن الطريقة التي يستخدم بها تطوير التقنيات الجديدة المعرفة المتواضعة جدًا عن الجنس البشري .

***

مترجم بتصرف

إبراهيم ناجي بن أحمد ناجي بن إبراهيم القصبجي، شاعر مصري تأريخ ميلاده (31\12\1898)، وتأريخ وفاته (24\3\1953)،  من المنصورة، وقد أصيب بمرض السكر في بداية حياته، وتوفي في العقد السادس من عمره.

ومن ألقابه (طبيب الشعراء)، (شاعر الأطباء)، (رئيس الرومانسية الشعرية العربية).

تخرج من كلية الطب سنة (1923)، وإنطلق بشعره العاطفي الرهيف، وهو صاحب قصيدة الأطلال التي تغنت بها (أم كلثوم).

بدأ حياته الشعرية بترجمات لشعراء فرنسيين (دي موسية، توماس مور، بودلير)، وإنضم لجماعة أبولو سنة (1932)، وتعرض لنقد شديد من العقاد وطه حسين.

وكان ناثرا قديرا وكاتبا موسوعيا، ويُقال أن كتاباته النثرية أكثر من الشعرية، لكنها لم تلق الإهتمام الكافي.

ترجماته: الجريمة والعقاب لديستوفسكي، وعن الإيطالية (الموت في إجازة)، ولديه دراسة عن شكسبير.

ومن دواوينه: وراء الغمام (1934)، ليالي القاهرة (1944)، في معبد الليل (1948)، الطائر الجريح (1953).

وكانت هذه الدواوين ترافقني في مرحلة الإعدادية، وأترنم بها ماشيا على سدة سامراء، عندما كانت زاهية وتسر النظر، بترقرق المياه، وهفو الأطيار، وتقافز الأسماك، والأفق الساحر، والموج الهادر،  فكان لها وقع ممتع في النفس والأعماق الطافحة بعشق الجمال.

وكم رددنا كلمات أغنية الأطلال في المساءات العذبة:

يا فؤادي لا تسل أين الهوى

كان صرحا من خيالٍ فهوى

إسقني واشرب على أطلاله

واروي عني طالما الدمع روى

....

يا حبيبي كل شيئ بقضاء

ما بأيدينا خلقنا تعساء

ربما تجمعنا أقدارنا

ذات يوم بعد أن عز اللقاء

فإذا أنكر خل خله

وتلاقينا لقاء الغرباء

ومضى كل إلى غايته

لا تقل شئنا فإن الحظ شاء

**

وهي من ألحان رياض السنباطي وغنتها (أم كلثوم) عام (1965)، ولا زلت أستمع إليها لعذوبة كلماتها وروعة لحنها ومعانيها.

ولقصيدة الأطلال قصة معروفة.

تحية للشاعر الطبيب الأديب الدكتور إبراهيم ناجي في ذكرى وفاته، وبأمثاله تفخر لغة الضاد الأبية!!

و"هل رأى الحب سكارى مثلنا"؟!!

***

د. صادق السامرائي 

كان عائداً من وحدته العسكرية بإجازة دورية، ولم يكن يكترث لحالة الذعر التي ارتبطت بمصير وطن، افترست روحه أجنحة الموت، بعد أن تساقطت جسور العابرين، وعُطلت حركة السير بين المدن، لتطفو الأرض وسط خلاء يقطنه برد الخوف، والجوع، والألم، وينسف احشاءه ليل الروع.

**

نُسِفَت محطات الكهرباء، والوقود، ومخازن الغذاء؛ السايلو، وتحطمت معالم البنى التحتية، بما في ذلك مركز الطاقة الكهربائية، والمستشفيات، والمدارس، ومراكز الخدمات المدنية، والمؤسسات الحكومية.

**

باتت حركة السير أشبه بشريان جسد ينخر روحه الهلع؛ جنود يرتدون بزاتهم العسكرية بطريقة مبعثرة، سيطرات الانضباط العسكري اختفت تماماً، انقطعت الاتصالات الخاصة بخدمات شبكات الهاتف ، سيارات النقل القلاب حلت محل الباصات، أوالحافلات، لنقل مَن يريد الوصول إلى بيته، أو وحدته العسكرية.

**

ابتدأت المنشورات التي كانت تقذف بها طائرات قوات التحالف إلى ضباط الجيش، والمعسكرات، تدعوهم فيها إلى ترك معسكراتهم، تؤثر في نفوس الناس؛ ذلك تزامناً مع دعوتهم إلى استلام المؤن، والمساعدات الغذائية، والماء تحت ظل حصار شامل.

**

افترش نهر الفرات ذراعيه بعد انقطاع مياه الشرب، بينما حل خشب الأشجار محل الوقود، وعلى غرار ذلك تحولت قناني الزجاج إلى مصابيح، على نمط الفوانيس حيث تمرر قطعة قماش منقوعة بالنفط عند حافة تمر، أو عجينة خبز تمسك نهايتها البائسة، لتطلق الضوء باهتاً.

**

أصبحت العبارات، والزوارق النهرية وسائل نقل معتمدة للمسافرين، والقادمين من ثكناتهم العسكرية.

**

غدا الانتقال من مدينة إلى أخرى يحتاج إلى يومين وثلاثة، هذا لمن يمتلك القدرة على التزاحم مع المسافرين، أو لمن يحالفه الحظ؛ ذلك بعد أن أضحت معالم الحياة أشبه بمقابر تتوسطها أطلال كيانات هشة.

**

الناصرية في ذلك اليوم اختفت معالم ملامحها، وتغيرت صور شوارعها، ومحلاتها وسط عتمة من السواد لا نظير لها حتى في عالم الأشباح، أو في المنام حين يجد الإنسان نفسه قد ضل الطريق وهو يمشي في غياهب ليل بلا عيون، لولا وميض طائرة حلقت، لتعقبها صفارات إنذار، ثم انفجار بناية مجاورة ، لما يسمى بدائرة الدفاع المدني.

**

واصل السير باتجاه الشوارع المتاخمة لمكان سكناه، مع شتاء يوم ممطر، مثل معوق حرب يتكئ على صولجان جراحه في شوارع مقفرة، يستل بقايا أنفاسه وقد أجهده التعب، والجوع والعطش، أملًا بلقاء محبيه، وزوجته التي تركها حاملاً تحت رعاية أهلها قبل أن يغيب.

***

عقيل العبود

.....................

* يوم فرضت قوات التحالف سيطرتها على المدن، وما سبق "انتفاضة شعبان".

* أضطر الناس إلى تسخين الماء، وتنقيته بقطع قماش بعد انقطاع مياه الشرب، واستعمال القناني الزجاجية للإضاءة.

* التكملة ستأتي إن شاءالله. 

في الواحد والعشرين من آذار الجاري صادف يوم الشعر العالمي، وهو مناسبة يحتفل فيها العالم بفن الشعر، الذي يعد أحد أشكال التعبير وأحد مظاهر الهوية اللغوية والثقافية، فضلًا عن الاحتفاء بالشعراء المبدعين الذي تحظى اسهاماتهم بتقدير عميق وكبير.

إنه يوم مكرس للإلهام والإبداع والتثقيف وتقدير المشاعر الإنسانية التي يمكن أن يخلقها الشعر، وتكوين علاقات ذات مغزى، وتوسيع مدارك الفرد حول التاريخ والثقافات، ومنح الشعراء التكريم لتألقهم الإبداعي، وإعطاء زخم للحركات الشعرية الوطنية والإقليمية والدولية.

والاحتفال بالشعر هو إنصات للصوت الرقيق الهادئ الهامس للإنسان، لصوت دواخله، الصوت الروحي الوجداني الذي كلما علا وصدح إلا وصدحت مع مشاعر المحبة والسلام والتسامح. فهو الصوت الداعي باستمرار إلى إنسانية الإنسان، والانتصار لقضاياه، في معارك الحرية والحضارة والخلاص من القهر والظلم والاستغلال.

إن الحاجة للشعر تتعاظم من أجل ان يعيش الإنسان بسلام على هذه الأرض، فهو الصوت الخفي الوامض داخل الإنسان، وطوق النجاة من الظلاميين وزارعي الأحقاد والكراهية ومشعلي الحروب، وهو قناعتنا وإيماننا بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة – كما قال درويشنا.

والاحتفال بالشعر هو دعوة للإنسان كي يرى صوته في مرآة وجوده، فجذوة الشعر وناره لا ولن تنطفئ، وإن خبت بين حين وآخر، إذ أن الشعر هو الوجه الأكثر صفاءً ونقاءً للإنسان في مسالك ودروب الحياة الوعرة، وفي عالم مليء بالألغام.

والشعر هو الأقرب إلى مشاعر الأفراد ومطالبهم وآمالهم، والمجسد لطموحاتهم، والمعبر عن أحلام الشعوب المقهورة ويمدها بالنفس والشجاعة والمقاومة من أجل تغيير العالم والمناداة بالمساواة، واحترام الهويات الثقافية والمعرفية.

والشعر هو صوت الحب الذي تريد قوى وأصوات الظلام والإرهاب أن تخنقه وتكتمه داخليًا في نفوسنا. فلنواصل كتابة الشعر ولنحتفل به إعلاءً لصوت الحب، الذي لا صوت يعلو عليه، ونشر ثقافة التسامح والمحبة والامن والسلام في شتى أصقاع الدنيا وأنحاء المعمورة، وكل يوم عالمي للشعر والبشرية والشعراء بألف خير.

***

بقلم: شاكر فريد حسن  

الحسين بوخرطةبشرى ترجمة روايته "مرافئ الحب السبعة" بالحروف اللاتينية

تحية للعلامة الدكتور علي القاسمي، الروائي والقاص والفاعل اللغوي الفذ في صناعة المعجم العربي التاريخي والأديب والمفكر المتألق.

تحية للأخ العزيز الأستاذ مصطفى شقيب، الذي متعني بتواصل زاخر بالحب والمعزة.

هنيئا للعالمين العربي والمغاربي بترجمة هذه الرواية القضية إلى الفرنسية. إنه فعلا ولوج إلى الفضاء الأدبي الفرنكوفوني الرحب بأدواره الريادية غربا. إنها خطوة في العالمية، ستليها بلا شك خطوات أخرى، بلغات حية كونية، ستزكي لا محالة الهاجس المشترك والدائم الذي يخالج النفوس باستمرار، إنه هاجس تثبيت مسار جديد في مجال التلاقح الأدبي والفكري والعلمي والإنساني ما بين الشمال والجنوب.

فالحديث عن علي القاسمي في هذا الشأن، كإنسان عربي، ليس بالأمر العادي، بل هو حديث عن قداسة قضية المواطن العربي المكافح المبدئي والمتعلم والمناضل، الذي الصق القلم بأصابعه وسخر عقله ووجدانه طوال حياته للعلم والمعرفة وخدمة الأجيال العربية من الخليج إلى المحيط. ذكره في تعليق أو مقال جعلني أحس أن الأمر يتطلب الحكمة والتبصر واستحضار حق أمة حضارية عريقة تاريخية في فرض الذات كونيا. القاسمي نموذج رجل أمة ارتقى وجدانا وعقلا ووجودا ذاتيا متوغلا في التراكمات الفكرية والعلمية المتفوقة في العالم المعاصر منذ صباه. هو كذلك نموذج رجل قدوة، قدم للعرب والمغاربيين تجربة لا تتيح خيار الحياد. تفاعلاته القوية عبر الترجمة مع المنتوجات الفكرية الكونية قدمت خدمات ثمينة للأجيال منذ عقود، ويستمر بنفس الإصرار بالرغم من تقدمه في السن.3138 النسخة الفرنسية

وهنا لا يمكن أن أتردد في اعتبار ترجمة روايته: "مرافئ الحب السبعة" للغة الفرنسية، كونها اعتراف واضح بقامة فكرية عربية لم تستوعبها الأنظمة العربية العسكرية داخل فضاء ترابي فسيح ومقدس، ارتقت حضارته تاريخيا بأمجاد معارفه ومروءة ناسه. رتب حاجياته الخاصة في حقيبته، وغادر شابا موطنه باحثا بعزم الكبار عن العلم والمعرفة ومقومات التأثير القوي على الوعي الجماعي العربي. لقد غادر بلا شك ليس بدافع الخوف على نفسه، بل هلعا من وأد إرادة وعزيمة شاب متشبث بصعود الجبال وجلب المنفعة لأمته. لقد خطا خطوات ثرية عبر سنوات عمره في العالمية، ليتوج مساره بخطوة رسمية إضافية، بقيمة مستحقة، على طريق العالمية وتصالح الحضارات وخدمة المصير المشترك.

وفي الأخير، أرفع قبعتي عاليا تمجيدا واحتراما لجهود أخي وعزيزي المترجم الأستاذ مصطفى شقيب، الرجل الذي تذوق بلاغة وجاذبية الكلمة والعبارة العربية في هذه الرواية، مشددا على تقديمها برقي للعالم بلغة بلد موليير (جُون بَابتِيسْت بُوكْلَان).

الشكر والامتنان موصول كذلك لأستاذة الأدب المقارن بجامعة غرناطة الدكتورة ماري ايفلين لوبودير في تقويم ومراجعة النسخة المترجمة.

فهنيئا للإنسانية بهذا المولود الأدبي العالمي، مولود بعبارات تقشعر لها الأبدان، وتنتعش بها الأماني والأحلام بغد أفضل.

وتعميما للفائدة بمناسبة هذا الحدث التاريخي الرائع، أقدم في هذا الموضوع، فيما يلي مقال الأخ العزيز المترجم الأستاذ مصطفى شقيب.

 

الحسين بوخرطة

......................

* يمكنكم قراءة المقال على الرابط ادناه

https://www.almothaqaf.com/d/e2/960259

 

 

عمار عبدالكريم البغداديشهرزاد: ما الذي يجعلنا نحب الأم أكثر أو الأب اكثر؟ .. تارة نميل لها وتارة نميل له ! .

شهريار: مخزونات العقل الباطن لا تتغير إلا اذا سعى أحدنا لذلك جاهدا، ومن غير تدبير منّا فإننا نمر بمواقف تعيدنا الى مشهد في الذاكرة يزيد من تعلّقنا بالأب او الأم، في تلك اللحظات حينما نوقن أن تصرفا ما لأحد الطرفين – كنّا نحسبه فيما مضى خطأً جسيما – كان في غاية الصواب، وبحكم خزنه في العقل الباطن نحسن التصرف ونتجنب موقفا مهلكا، هنالك نُقّر لأحد الوالدين بالحكمة وبالمسامحة عن ذنب لم يرتكبه أبدا، ومن غير أن نشعر أو نفكر يرى أحدنا نفسه وهو يميل الى الطرف الآخر بخلاف الأيام او الاعوام السابقة، وهكذا نحب الأب أكثر او الأم أكثر، فكما إن الحياة مراحل والإدراك مراحل فالمحبة لكليهما مراحل.

قمة المسامحة والعفو يا شهرزاد لأبٍ أو أمٍ فارق أحدهما أولاده في ليالٍ حالكات، أو أيام مهلكات، ثم عاد بعد سنين طوال عانت خلالها العائلة أعظم معاناة ليطلب الصفح من أبنائه وبناته، إنها أقسى لحظات تمر على الطرفين، فالأول تتجلى أمامه كل ذنوبه، ويقر بتقصيره وعظيم عيوبه، والطرف الثاني (الأبناء والبنات) تتكالب أمام عينيه ذكريات لا طائل له بها، تجعل قلبه كالصخر نحو أبيه العائد او أمه العائدة بعد طول غياب، هنا تكون الكلمة الفصل لعقل راجح، أو قلب مجروح وهيهات أن يجتمعا على رأي واحد في مثل هذا الموقف، فأمّا العقل الراجح فهو يعاني من تربية أولاده، ويدرك قيمة رسالته، وعظيم منزلته عند ربه، فيصفح ويسامح، وفي اللحظة التي ينطق بها: (أسامحك أمي، أغفر لك أبي) يعود صغيرا ليرتمي في أحضانٍ افتقدها لأعوام وأعوام، ويشعر أن الدنيا باسرها قد أصبحت ملك يديه بعد طول انتظار . 

وأمّا القلب المجروح فيجد الفرصة المؤاتية للإنتقام ممن (ظلمه) وحرمه من أبسط حقوقه في الحياة، إنه كيتيم قضى عقدا من الزمن وهو يتلظى بين نيران الحرمان وآلآلم الفراق، وهاقد جاءته الفرصة ليداوي جراحه، فيشتاط صاحبه غيظا وينسى أن من يقف أمامه كان سببا لوجوده في هذه الدنيا، وأنكل مايقال في مثل هذه الأحوال: (لماذا عدت؟..لا حاجة لنا بك الآن) .

والغالبية العظمى ممن يعانون صدمة اللقاء مع الأب أو الأم المُفَارِقَين لايمكنهم المسامحة من غير تفريغ (شحنات سلبية) عاشت معهم سنين طوال، إن أحدهم كبركان هائج ينتظر هذه اللحظة (منذ قرن) ليرمي بحممه، ويحرق ماحوله قبل أن يعود الى حالة السكون .

وهنا أنصح كل أب فارق أبناءه وبناته ليعيش في كنف آخر، او أمٍ رَمت بأولادها في أحضان جدتهم وجدهم لتعيش عالما آخر، أن يستعدا لاستقبال تلك الحمم البركانية، وأن يصبرا على ماكانا سببا في تخزينه وإطلاقه من قساوة وغلظة وجفاء، وأن يعاودا الكَرةَ مرات ومرات حتى تسكن تلك العاصفة، وحينها سيتفقُ القلب مع العقل على أعظم صَفْحٍ عرفه التاريخ، إنها مغفرة ومسامحة على عذاب طويل لم يتوقف في أي لحظة أو ساعة أو يوم أو عام كان فيها الأب او الأم متنصلين عن أسمى رسالة في الحياة .. رسالة الوالدين .

ولي صديق من أهل البصرة .. رحل أبوه هربا من الخدمة العسكرية إبان حرب الثمانينيات من القرن الماضي، كان لصاحبي (ذو القلب الكبير ) أخَوَان أصغر منه وأختان تكبرانه بعامين وثلاثة، وكانت أمه بسيطة التعليم، وأكبر أختيه في الخامسة عشرة، لم يترك الأب حتى رسالة وداع، وأبلغ الأم بأنه سيعود ما أن تتوقف الحرب .

علمت الأسرة بعد غيابه عاما أنه في ألمانيا، ومرت ثلاثة أعوام من غير أن تصل منه رسالة واحدة، الأم طورت من مهاراتها في الخياطة لتقوم بدور الأب.

مرت 17 عاما وهي تواصل الليل بالنهار مجتهدة صابرة على الفاقة، وترفض أن يترك أي من أولادها الخمسة الدراسة، كانت تأتيهم إعانات من جدهم، وكل ذلك لم يكن كافيا لتوفير عيش كريم.

بعد تغيّر الحال، وفي نهاية عام 2004 ظهر الأب فجأة ليجد ابنتيه متزوجتين ولكل واحدة منهما 3 أولاد، أمّا الأخَوَان الأصغران فقد قتل أحدهما إبان غزو العراق، والثاني يدرس في المرحلة الاخيرة من كلية الهندسة، أمّا صاحب القلب الطيب فلم يكمل ألا الدراسة الإعدادية، وهو في ذلك اليوم من أشهر طباخي البصرة، متزوج ولديه ولد وبنت، ومازال يعيل الأسرة الكبيرة، وقد رحلت أمه منذ أشهر حسرة على ولدها الشاب وسنين طوال قضتها في الكد على أبنائها وبناتها .

يقول ذو القلب الكبير إنه تفاجأ برجلٍ وقور بهندام مترف يطرق باب الدار الداخلية .

- عفوا من أنت؟ ولماذا دخلت الى الدار من غير استئذان؟ !.

- ألم تعرفني .. أنا أبوك .

في تلك اللحظات .. مرت الذكريات الأليمة في رأسه كفيلم روائي يوثق مايزد عن عقد ونص من الحسرات والآلام والخوف والفاقة والحرمان .. إعتلته رعشة غير مسبوقة وأصابه صداع شديد، ومن غير أن يدري تساقطت دمعاته على شفتيه لتلامس إبتسامة حائرة، طال سكوته وهو ينظر الى (الأب الضال) الذي عاد للتو يطلب الصَفْحَ الجميل، كان يتقلب بين عبارات تطرق مسامعه، وأخرى تدور في رأسه .

- ولدي سامحني أعرف أنني مقصر في حقكم، لم يكن ذلك بإرادتي، كنت مجبرا على الهروب، كان الموت قريبا مني في تلك المعارك الطاحنة.

نظر الى أبيه وقد علَتْ الدهشة محياه وأجابه من غير أن ينطق بكلمة واحدة:-

- نحن خضنا معارك من نوع آخر، كادت الفاقة تقتلنا، وغيابك طالما أشعرنا باليتم الدائم .

- انا لم أكن قادرا على الإتصال بكم، وعشت لأعوام طويلة في فقر شديد .

- لم يكن فقرك كفقرنا وها أنت ترتدي بدلة أنيقة تدل على غناك .

- ولدي .. أرجوك سامحني، سأعوضكم عما فاتكم .

- هل ستعوضنا عن الحرمان منك؟ أم عن سنوات القحط؟.. عن مستقبلي الدراسي الضائع؟ .. عن أمي التي ماتت من حسرتها .. عن أخي؟.

- ولدي ..هل تسمعني؟ .. لماذا لا ترد عليّ؟ .

رفع ذو القلب الكبير يده اليسرى طالبا من أبيه أن يسكت، تأمل إبنه وإبنته اللذين يقفان عند قدميه ويرفعان رأسيهما إليه، كانهما يسألانه عن دمعاته، وعن هذا الرجل الغريب الذي يقف أمامه؟، مسح بيده اليمنى على رأسيهما، وهو يقول مع نفسه: هل سأقف كموقفه المخزي هذا؟ .. هل سأتنصل عن مسؤولتي تجاه أسرتي في يوم ما؟.. هل ستسامحني زوجتي وأولادي انْ انا فعلتُ ذلك؟.

قرر في لحظتها أن يسامح أباه .. مد ذراعيه لمعانقته حيث بكيّا طويلا وبحرقة، ومن يومها صار مدافعا عن أبيه أمام امتناع أحدى أختيه وأخيه، ومازال متكاتفا معه حتى إلتأم شمل الأسرة .

لقد تجلت يا شهرزاد في تلك الدقائق العصيبة أرفع مشاهد العفو،  وأرق معاني المحبة، أنْ يصفح أحدنا عن أكثر من عقد ونصف من القهر والضياع وإنتظارٍ للمجهول بسبب قرار طائش فذلك عفو ما بعده عفو أرقى ولا أسمى منه، إلا محبة متعاظمة تزيد من تلاحم الأسرة، وتعوضها بشكل ما عن سنين الحرمان والفقر والقهر .

 

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

......................

* من وحي شهريار وشهرزاد (41)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

 

 

 

ايناس نازلي نعيش ونحن على بعد أيام قليلة لتوديع سنة منتهية بحلوها ومرها، واستقبال عاما جديدا ندعوا أن يحمل بدايات أفضل ووعودا جديدة بهجة الاحتفالات برأس السنة الجديدة كعادة متوارثة منذ القدم يقال أنها تعود إلى أكثر من 500 سنة بعد ميلاد المسيح بن مريم عليه السلام، حيث تكون قد عرفت في حوالي عام 1500 في ألمانيا أولا لتمتد إلى كامل دول القارة الأوروبية بعد مرور قرن من الزمان وتنتشر لاحقا إلى القارتين الأمريكيتين ثم إلى دول العالم، ويقال أن أول احتفال بمولد المسيح أقامه القديس يوسف في العام الأول من ولادة المسيح بمدينة الناصرة مسقط رأس السيدة مريم العذراء وبها بشرت بمولد السيد المسيح حيث ولد بها وقضى فيها معظم سنين حياته حتى نسب إليه إذ كان يدعى بالناصري، ومنها اشتق أسم النصارى، وهناك وثائق تذكر أن أول من احتج على إقامة هذه الاحتفالات في دول العالم هو المصلح الديني" فون كايزر" وأعلن احتجاجه في خطبة ألقاها من أعلى برج أحدى الكنائس في ألمانيا عام 1508هاجم فيها بشدة ما اعتبرها بدعة جديدة تتمثل في تزيين صالة الجلوس بالبيوت في يوم ميلاد المسيح من كل عام بأغصان الصنوبر، إلا أن احتجاجاته لم تلق آذانا صاغية بل بالعكس واصلت الكثير من العائلات الألمانية إقامة الاحتفالات بصخب أكبر حتى كان الكثيرون من الفتيان والفتيات يقتطعون المال من مصروفهم اليومي طوال السنة لشراء ما أصبحت تسمى صراحة وجهرا " شجرة الميلاد " وشراء كعكة العيد وملحقاتها من أشرطة الزينة الملونة التي يقال أن أول من وضعها هو أحد الرهبان البروتستانتيين خلال احتفاله البهيج الذي أقامه مع أفراد أسرته بالمنزل الذي يملكه بمدينة ستراسبورغ عام 1605 حيث وصف حينها الاحتفال بأنه " رمز للتواصل من عام إلى آخر يتجدد فيها الزمن "

عيد الميلاد المجيد في التاريخ هو يوم 25 ديسمبر، ويذكر علماء الفلك أن يوم الانقلاب الشتوي حيث تصل فيه الأرض إلى آخر مدى لها عن الشمس ويكون النهار في أقصره، وفي اليوم الموالي تصعد الشمس، لذلك كان يعتبر هذا اليوم، يوم ميلاد الشمس، وقد احتفل به الوثنيين كعيد آلهة الشمس، واستمر ذلك إلى أن ظهرت المسيحية .

تمثل شجرة الميلاد في نظر الملايين من البشر في العالم رمزا مقدسا عرفته وتعاملت معه شعوب الحضارات القديمة، فزين سكان روما منازلهم وشرفات بالأشجار في احتفالات بهيجة تقام في الأسبوع الأخير من كل عام، وفي أثينا كانت تقام الاحتفالات حول شجرة عظيمة يتم تثبيتها في منتصف المدينة وتسمى " شجرة العالم "، وفي وقتنا الحاضر يحتفل الملايين من الناس في بقاع الأرض بالمناسبة  بتزيين الشجرة والتفنن في تجميلها بالكرات الزجاجية الملونة والأجراس والزهور لما تمثله من قدسية محببه إلى النفس إلى جانب اعتبارها رمزا لطقوس الاحتفالية المميزة بأعياد رأس السنة ، وللشجرة مكانة عالية وقدر كبير في نفوس الناس حتى أصبحت عادة شائعة عند الكثيرين يبدعون في تزيينها  وتنصيبها في مكان بارز بالمنزل قبل موعد العيد بعدة أيام وتبقى في موضعها حتى عيد الغطاس"

بالعودة إلى قصة ميلاد السيد المسيح عليه السلام في المراجع الدينية لا نجد أي رابط بين حدث الميلاد وشجرة الميلاد، فنتساءل من أين جاءت هذه الفكرة؟ ومتى بدأت؟ وكيف استقرت هذه العادة ؟ أشارت احدى الموسوعات العلمية إلى أن الفكرة ربما تكون جاءت من ألمانيا الغنية بغابات الصنوبر وذات الاخضرار الدائم، وذلك خلال القرون الوسطى، وكانت العادة لدى بعض القبائل الوثنية التي تعبد الإله " ثور" إله الغابات والرعد أن يقوموا بتزيين الأشجار، ويتم تقديم ضحية بشرية من أبناء احدى القبائل يتم الاتفاق عليه مسبقا، وفي عام 727 ميلادي أوفد إليهم البابا بونيفاسيوس مبشرا وشاهدهم وهم يقيمون احتفالا تحت احدى الشجرات وقد ربطوا ابن أحد الأمراء وقد هموا بذبحه كضحية فهاجمهم وأنقذ ابن الأمير من بين أيديهم ووقف فيهم مخاطبا أن الإله الحق هو إله السلام والرفق والمحبة الذي جاء ليخلص لا ليهلك، ثم قام بقطع تلك الشجرة ونقلها إلى أحدى المنازل، ومن ثمة قام بتزيينها حتى تصبح من ديكور المنزل فلا يطمع في استعادتها أحد، ثم أصبحت من حينها رمزا لاحتفالهم بعيد المسيح، وانتقلت هذه العادة بعد ذلك من ألمانيا إلى فرنسا وانجلترا ثم إلى أمريكا .

يتساءل العديد من الناس مع قدوم مناسبة الاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة الجديدة عن العجوز البشوش صاحب الذقن الطويلة البيضاء والرداء الأحمر والعصا الطويلة الذي يحمل الهدايا في كيسه القطني الأحمر ويطوف ليلا فوق طوافة يجرها ثمانية من الغزلان متنقلا من دار لأخرى يضع الهدايا أمام أبوابها، لقد أصبح هذا الشيخ " بابا نويل" عرف منذ القرن التاسع عشر لا تأتي الهدايا إلا معه ولا تتحقق الأحلام إلا بقدومه على عربته الشهيرة مع بداية كل عام ميلادي جديد التي تجرها الغزلان على الثلج في جيرولاند أو حتى على ظهر قارب أو جمل في البلاد التي لا تقل درجة الحرارة فيها عن 30درجة مئوية، لقد غمس فنان الكاريكاتور توماس نيست ريشته في الألوان ورسم على الورق سانتا كلوز سمينا ذا خد متورد ولحية طويلة بيضاء احتفالا بأعياد الميلاد ونشرتها إحدى المجلات في وقتها فأصبحت هذه الصورة هي المعتمدة لشخصية بابا نويل أي أب الميلاد بالفرنسية، أما الانجليز والأمريكيين فيطلقون علي  موزع الفرح في قلوب الأطفال سانتا كلوز الذي يعني بالإيطالية القديسة . هناك قصص وأساطير عديدة حول هذه الشخصية التي أحبها جميع الأطفال في العالم،  وتروي الأساطير أن بابا نويل يسكن القطب الشمالي في مكان بارد جدا من جرينلاند الجزيرة الأكبر في العالم، حيث يقف بابا نويل بكل هيبته أمام كوينجز جاردن، مزرعة الملك ومسكنه الذي يعيش فيه ويتدلى من عنقه المفتاح الذهبي لمصنع الألعاب الذي يعمل فيه على إعداد الهدايا ليؤكد بإصرار على أنه الوحيد الذي يصنع البهجة في النفوس، وتروي قصة شهيرة أنه منح ثلاث عذارى فقيرات في ليلة عيد الميلاد أموالا مكنتهن من الزواج، وقد جعلته هذه القصص منبع الكرم ومصدر العطف والحنان على الأطفال لأنه ارتبط بعيد مولد السيد المسيح القائل " دعوا الأطفال يأتون إلي " في لفتة إنسانية .

تختلف احتفالات رأس السنة الميلادية من بلد لآخر، التقويم " الجريجوري" هو تقويم مقتبس عن التقويم الذي ابتدأ به العمل في عهد الامبراطور الروماني يوليوس قيصر الذي يبدأ من أول فبراير وهو تاريخ بداية العمل بالقانون المدني الذي ينص على أن يتولى الشعب حكم نفسه عن طريق نوابه لمدة سنة، ومنذ آلف السنين كانت البشرية تعتبر فصل الربيع هو بداية عودة الحياة إلى الأرض بعد انقضاء فصل الشتاء، ولذلك يعتبر بداية السنة الجديدة، وكانت تستمر الاحتفالات سبعة أيام .

أما الاحتفالات البابلية برأس السنة فكانت أكبر وأضخم من احتفالات الروم، ومن العادات التي استوحيت من الحضارات القديمة اعتماد بطاقات تصور أطفالا في اليونان واعتبار الطفل رمزا للعام الجديد، حيث تضع الأمهات أطفالهن الرضع في سلال من القش ويتجولن بهم في أنحاء المدينة، أما التقليد الروماني الذي شاع في الكثير من مناطق العالم فهو توزيع القطع النقدية المعدنية على الأطفال، وبدأ من حينها الإمبراطور في زيادة صك العملات المعدنية تحمل اسمه يوزعها في بداية السنة ويبدأ التعامل بالقطع الجديدة على أمل أن تكون السنة خيرا ويمنح الأطفال بعض القطع القديمة .

ويعود إطفاء النور ثم إعادة إنارته إلى اعتقادات الديانات القديمة التي كانت تعتبر أن ضوء الشمس أمر إلهي  يحمل دفء الحياة، واما الظلام فهو يعني الموت لذلك يضيء الناس الشموع أو أي إنارة أخرى كتقليد لإبعاد شبح الموت في العام الجديد.

أما عند الأمازيغ شعوب شمال إفريقيا فتنتهي عندهم السنة الأمازيغية مع غروب شمس يوم12 يناير لتبدأ السنة الأمازيغية الجديدة يوم 13 يناير ويطلق عليه الأمازيغيون "أسوكاس أمكاز" وبدأ الحساب الأمازيغي منذ عهد الملك " شيشنق الثاني " وهي حسابات تعتمد على السنة الفلاحية، وتفيد المعلومات المتوفرة أن الأمازيغ لا يأكلون اللحم في هذه المناسبة ولا يشعلون النار وأكثر من ذلك لا يغسلون أغراضهم التي تخص الطبخ والاعتقاد السائد هو أن البركة ستحط عليهم إن تركوا أغراض الطبخ دون غسيل .

إذا كان للجانب الروحي أثره على النفس تسمو به وتتألق فيتعزز معها تقدير الفرد لذاته، فإن الجانب الاجتماعي هو التوازن الحقيقي للإنسان في حياته فيها تزهو حياة الفرد ويوفق في تلمس بدايته الفعلية نحو جعل أحلامه حقيقية، وأعياد الميلاد مصدر لشحن نفس الأطفال بالطاقة الإيجابية ولتطوير الذات وتعزيز الإيجابية لدى الطفل التي تدفعه للانطلاق إلى أفق أوسع دون أن يلجأ إلى فكرة الاصطدام الشديد بالمجتمعات وثوابتها بشكل عام سواء على مستوى العقيدة أو الحقوق والأفكار، ومن هنا تكون البداية لتقارب الحضارات والثقافات والأديان لخير البشرية .

 

إيناس نازلي الجباخنجي

 

 

في المثقف اليوم