آراء
صالح الرزوق: تحولات المقهى السياسي
ارتفعت وتيرة الكلام عن سوريا الجديدة. وهل ستأخذ صبغة إسلامية أم محايدة تحترم مؤسسات المجتمع المدني وتتبع الدستور بعد تصويبات تلغي ما طرأ عليه من شذوذ بسبب الحرب، بالإضافة للمفاجآت التي وضعت السلطة في مواقف صعبة.
ولسنا بصدد الكلام عن حنكة أو تهور السلطات في مثل هذه المواقف. كانت ردود أفعال النظام تتسم بقدر كبير من الغموض فيما يخص الدائرة الضيقة للدولة، مع وضوح لا خلاف حوله فيما يخص أحوال المتبقي. وأقصد به كل ما يدور خارج تلك الدائرة الشائكة، وبمزيد من التحديد المقهى السياسي والشارع غير المسيس. وتراوحت النشاطات العامة في سوريا، بعد توالي ثلاث أو أربع جمهوريات، بين النقد الإيجابي، أو بلغة أوضح نقد تبناه الإنسان الاجتماعي المرعوب من واقعه والمصدوم به. وبين النقد السلبي الذي اتخذ عدة أشكال منها الصمت واللامبالاة وعدم الإيمان بما يرى ويسمع. وتطورت من هذا الحال الظاهرة الشعبوية - وشملت أيضا عدة تفريعات، كانت مرجعياتها من جذور متباينة (من أصل اجتماعي أو روحي - وهو غير الدين. بسبب خلوه من الإيمان والإدراك وغلبة عوامل جانبية عليه ومنها العائلة ودين الأب وغير ذلك).
ولكن لنكون عادلين مع أنفسنا لا يمكن أن نتوقع معجزة بحجم ما حصل في أنقرة بعد وصول العدل والتنمية بصيغته الأولى إلى الحكم. فقد كانت سوريا في حالة انفلات أمني وفقر بالمصادر الطبيعية والخدمات. وهي حاليا ممزقة بين ثلاث تبعيات أو أكثر. وخروج الثلاثي روسيا وإيران وحزب الله من المعادلة لم يحسن هذا الحيود. فقد حلت محله تركيا وأمريكا وإسرائيل (لديها نفوذ تضاعف منه الشماتة أو سياسة الأمر الواقع كما هو حال نفوذ نظام صدام في فترة من الفترات. ليس لأنه بعثي وعروبي ولكن نكاية بالحكومة). وأي مقارنة بين الظرف الوجودي السابق والحالي يؤكد أن روسيا لم تيأس تماما من دمشق، وإنما هي بمرحلة مراجعة لحساباتها. فقد كان سقوط النظام السوري ثاني ضربة تتلقاها روسيا على رأسها. أما الأولى فهي العجز المفاجئ في أوكرانيا.
وإذا خذلت أمريكا الحكومة الجديدة، ولم تقدم ما يكفي من العطايا، كما فعلت مع عبد الناصر بعد انقلاب تموز عام 1952، لن يكون أمام السوريين غير العودة للروس. فهم أيضا تخلوا عن الإيديولوجيا الشمولية، وعادوا لمعايير اللغة والحضارة والدين، وكلها رؤوس المثلث الذي ينتظر الانعاش وإعادة الهيكلة في دمشق. وسيكون ذلك على مرحلتين. الأولى، وهي قيد التنفيذ، ولها علاقة بالمؤسسات. والثانية، وهي قيد الدراسة، ولها علاقة بالإنسان وهويته والحدود اللازمة لتربية الأجيال الصاعدة، أو بالأحرى لإنقاذهم من الصدع المرعب والعميق الذي كان بين الكلام والفعل، والشعارات والتنفيذ. وأستبعد أن يكون للروس، في الأجل القريب، الكلمة الأولى. وربما يجب عليهم إجراء تفاهمات مع الراعي التركي - الذي يستعمل مؤسسته العسكرية بنصف طاقاتها تقريبا لضبط حدوده مع سوريا، ولوقف تمدد المشروع الكردي المدعوم من أمريكا. بالإضافة لتفاهمات مع الراعي القطري - الذي يقدم للحكومة السورية الدعم الدبلوماسي والمالي. وبالفعل بدأ الروس باستعمال لغة مختلفة في مخاطبة الوضع السوري، حتى أن لافروف صرح، وحرفيا، بخطأ الرئاسة السورية، حينما رفضت تقاسم السلطة مع المعارضة. ونفهم من ذلك أنه فضل خسارة جزء على خسارة كل شيء.
ولا تخلو هذه الصورة من تقاطعات ومناطق رمادية ونقاط عمياء، وفي مقدمتها الدور الأمريكي الذي يدعم، في كل مكان، الهوية الوطنية، إلا في سوريا والعراق فقد كان داعما لهوية عرقية وقومية. ويعاني موقف الروس من هذا الإشكال. فقد كانوا في سوريا مع إيديولوجيا بنت نصف تحصيناتها ومؤسساتها وفق النموذج السوفييتي الذي يتعرض للتنكيل على أرضه. وعلى الأغلب يعود الاختلاف في أشكال وأساليب الظاهرة الأدبية إلى هذا السبب. فالروس هربوا من الإيديولوجيا إلى عالم تحكمت به التكنولوجيا الحديثة والخيال العلمي والفانتازيا. وبعد رموز مشهورة اختتمت بها الدولة السوفييتية خطابها مثل جينكيز إيتماتوف وفالنتين راسبوتين، وكلاهما من أنصار الواقعية الجديدة، ظهرت أسماء فلاديمير سوروكين وفلاديمير شاروف وفيكتور بيليفين، وكلهم معروفون برؤية قاتمة وفوق طبيعية للمجتمع الروسي، مع التأكيد على دور القوة الخارقة التي تتوفر لأفراد غير عاديين واستثنائيين. وكأنهم يكررون محاولات غربية سابقة - ابتداء من ليني زوماس الأمريكية وحتى نعومي ألديرمان البريطانية. بينما وقف بعيدا عنهم زاخار بريليبين، بنغمته الوجودية والشعرية، المشحونة بشيء غير قليل من حب المغامرة والتفكير بالذات من خارجها (بالمعنى الذي أسس له هايدغر - انظر روايته "سانكا" وهي عمل يدور في إطار دموي. ثم روايته "خطيئة". ومن أهم مواصفاتها الشك بالحاضر وغموض المستقبل. ولذلك جاءت بشكل حبكة ممزقة وزعت حكايتها على مشاهد متجاورة وشخصيات متتالية).
لكن تابع مؤيدو الانتقال السياسي في دمشق مع أشكال الواقعية الجديدة لانتقاد نظامهم، وأحيانا للدعوة إلى الانقلاب عليه، كما فعل نبيل سليمان في أعمال مبكرة عرضته لعقوبات متتالية من مؤسسته الأدبية، بالإضافة لخالد خليفة الذي لم يتردد في اتهام السلطة الأمنية والعسكر وشخص الرئيس نفسه، على الرغم من أنه لم يغادر دمشق إلا لفترة قصيرة. وإذا اتفقنا أن الأدب رؤية موضوعية للتحول السياسي، فهذا يعني أن آلية التحول في موسكو كانت مختلفة تماما عما حصل في دمشق. وبقناعتي شكل ذلك دافعا لدى الروس لتعديل اتفاقاتهم الأمنية مع السوريين قبل التخلي عنهم نهائيا.
وكما ألاحظ تمر منطقة الشرق الأوسط باحتمالات من أسبابها عودة ترامب لأربع سنوات قادمة على الأقل. وهو ليس مجرد رئيس أمريكي آخر، ولكنه يشكل تحديا لماضي حزبه ولوضع الديمقراطيين المهزوز والضعيف والذي قد يؤدي إلى انقسامات ضمنه، كما جرى في حزب العمال البريطاني، بعد خروج عدة كتل يسارية هامة منه. السبب الثاني اقتراب نهاية فترة أردوغان. ولا أحد يضمن إن كان سيخلفه رئيس يؤمن بالحل العسكري أو الدبلوماسي. وفي واقع الحال طوق النجاة الذي تقدمه تركيا لجيرانها ينقصه الوضوح. فالصورة الراهنة لديهم لا ينقصها النوستالجيا لسياسة أتاتورك – "أبو" الأتراك، أو الديكتاتور الذي أنهى عدة قرون من الإمبراطورية العثمانية، واتخذ إجراءات حاسمة للقطيعة مع الماضي. ولكنها نوستالجيا لا تصل لدرجة ثورة وتكتفي بإصلاحات تعيد قراءة المجتمع بناء على مخزونه الروحي، وهو الدين والدولة. ولذلك إن نجونا من اندلاع حرب عالمية محدودة لن ننجو من الرهانات على ما تبقى من الحرس القديم في عموم الشرق الأوسط.
***
د. صالح الرزوق