آراء
جواد غلوم: حينما تتوحش المدنيّة
"شيء من وقاحات المدنيّة وبذاءاتها"
قد يتذكر البعض من القرّاء ممن يتابع ما جرى في القرن التاسع والقرن العشرين عند تمدد الهجرات الاستعمارية في الامريكتين إذ ما زالت في ذاكرتي تلك الصورة لرجل وامرأة وطفلهما، من هنود السيلنام الأصليين في أمريكا اللاتينية، أثناء نقلهم عن طريق البحر للعَرض فى أوروبا فى حدائق حيوان بشرية " أؤكد بشرية " فى نهاية القرن التاسع عشر شأنهم شأن الحيوانات المتوحشة
حيث التقطت هذه الصورة سنة 1899، لكن نقل مجموعات من هنود السيلنام بدأ في سنة 1889، بإذن من الحكومة التشيلية وقتذاك لنقل أحد عشرَ شخصاً للعرض فى أوروبا
كان شعب السيلنام المسالم، يعيش فى منطقة بتاغونيا المعزولة، بين الأرجنتين وشيلي، واكتشف الأوروبيون شعب السيلنام، من خلال نار مخيماتهم، التي كانت تظهر من بعيد .
كان عددهم صغيرا لا يزيد عن ثلاثة آلاف نسمة، حسب إحصائيات سنة 1896، وكانوا يتكلمون لغة تسمى «تشون» ويعملون بالصيد، وجمع المحاصيل، ويتمتعون بطول القامة، والقوة البدنية، والقدرة على التكيّف، وتجنبوا الاتصال أو التعامل مع المستعمرين الأسبان الذين استولوا على الكثير من مواردهم الغذائية وقتلوا الكثير من الحيوانات التي كان يتغذى عليها السيلنام، كما أقاموا مزارع خراف واسعة لأنفسهم على أراضي السيلنام .
ولم يستطع هنود السيلنام، فهمَ مسألة الملكية الخاصة التي فرضها الأسبان على مزارعهم، فكانوا يصطادون الخراف من أجل الغذاء ومواصلة العيش ليس إلاّ، وهو الأمر الذي رآه الأسبان قطعا للطريق، فبدأوا يهاجمونهم ويرسلون إليهم العصابات المسلحة لتقتلهم، وتأتي بآذانهم ويقطعونها كدليل على القتل .
وفى الربع الأخير من القرن الـتاسع عشر تم إرسال ثلاث مجموعات من هنود منطقة بتاغونيا إلى أوروبا، حيث تم عرضهم فى حدائق الحيوان البشرية حالهم حال الحيوانات البرية والمتوحشة حينما تُعرض امام الاطفال والزائرين في الحدائق بعد وزنهم وقياسهم وتصويرهم ؛ وكان يتم عرضهم على الجمهور من 6 إلى 8 مرات يوميًا، وكانت الرعاية الصحية سيئة، ولهذا لم يستطع بعضهم التحمّل فماتوا قبل الوصول إلى أوروبا
في العام 1919 كان عدد هنود سيلنام 297 شخصًا وبسبب التنكيل والتحقير والقتل والاستهانة وبذاءات المستعمر الاسباني انخفض العدد إلى 25 فرداً فقط بحلول سنة / 1945
وفي العام 1974 توفيت "أنجيلا لويج" آخر هندية من هنود سيلنام، وانقرضت لغة تشون تماما وأعدادهم كلهم ولم يبق ايّ أثر لديهم على كوكبنا .
شكرا للديمقراطية وسعة الصدر التي تملكها .
تلويحة محبة واعتزاز الى المدنية الغازية لأنها أفنت شعبا صغيرا مسالما لا عدوانيا .
هكذا جعلناكم شعوبا وقبائل ليتمّ تصفيتهم لا ليتعارفوا بل لينقرضوا تماما من وجه أديم الأرض .
فما حلّ ببقية الهنود الحمر في أرض اليانكي وقتذاك أهون بكثير مما حلّ بشعب سيلنام بأعداده القليلة وتمّ فناؤه وإبادته تماما على يد الرجل الأبيض حينما تتوحش.
***
جواد غلوم