أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

هناك بعض الأحداث والظواهر التي حدثت في الواقع حولتها إلى روايات وقصص قصيرة لكنّ بعضها تجاهلته ظنا مني أنه يفقد طعمه إذا ما تغير من حالته التي هو عليها إلى قصة أو أي جنس أدبي آخر من هذه المفارقات تذكرت ثلاثة:

مصغّر (وعر)

على وفق قاعدة التصغير في اللغة العربية (وعير) مصغر (وعر) إلى هنا لا مشكلة في الأمر لكنني حين أعود إلى العالم 1974 أجد الأمر مختلفا فما تعلمته في جامعة البصرة -قسم اللغة العربية وجدته يصبح نكتة طريفة في الفوج الأول اللواء 91 الذي رابط بين جبلي زوزك وهندرين، كان هناك جدي متطوع على جهاز الإرسال اسمه (وعير) عندما يتصل به أحد سواء من كبار الضباط أم ضباط الصف وجنود الأفواج يقول :نعم وعير ..هنا يضع الطرف الآخر في موقع حرج..فهل يقصد الجندي المتطوع (وعير) اسمه جملة واحدة أي مصغر وعر أم يدعو على الآخر مهما كانت رتبته ..زعيم من اللواء أم الرائد آمر الفوج.. فالواو في اللهجة العامية العراقية تعني في بعض الاستعمالات الدعاء بالشر عندما أدعو على أحد أقول له وقز القرت أو وحّمِسْ وموت فإذا جزّأنا وعير إلى واو الدعاء بالشر وعير التي تعادل في الفصحى العضو الذكري فإن الأمر يكاد يكون مصيبة بالمناسبة عير في اللغة الفصحى تعني الحمار وهناك شاهد لغوي في شرح قطر الندى والفية ابن مالك للدلالة على دخول حرف الجر على نعم وبئس وهو :نعم السير على بئس العير أي نعم السير على حمار مقول فيه بئس الحمار لكن شواهد اللغة لا تنفع مع جندي الإشارة وعير الذي يظن الجميع أنه يجزئ اسمه حين يخاطبه أحد مهما كانت رتبته حتى إن السيد الآمر نفسه لايجرؤ أن يقترح عليه تغيير اسمه لأنه سيعدها إهانة له ولأهله الذين سموه بهذا الاسم بالتالي تحال الإهانة إلى مجلس عشائري تطرح فيه مسألة الفصل والتعويض عن شرف الاسم ولا أحد يغامر بذلك.

الضمائر عند بعضهم

بعض العراقيين من غير العرب يتميزون بموهبة تعلم اللغات بصورة سريعة ومن هؤلاء شاب كان معنا حين قدمنا إلى الدنمارك في ثمانينيات القرن الماضي. كنا خليطا من العراقيين واللبنانيين، كاتب هذا الحدث، والشاعر القدير جمال جمعة والشاعر المرحوم حميد العقابي والصحفي البحراني هاني الريس وآخرين، بقينا في السفينة الراسية في الخليج عند ساحل المدينة شهرين ثم انتقلنا إلى مدينة هيذر سليو وسط الدنمارك..هذا الشاب غير العربي لم يكن يعرف العربية من قبل وخلال احتكاكه بنا تعلم لغتنا لكنه أحيانا يخطي بالضمائر أقول أحيانا وليس دائما، في يوم من الأيام جاء لص وسرق سترة ذلك الشاب (القمصلة الثخينة التي يرتديها) حيث كان الوقت شتاء والثلج أو الصقيع لا يحتمل ولم يكن معنا نقود كافية لشراء ملابس إذ كنا نستلم نهاية كل أسبوع مساعدات قليلة من الصليب الأحمر.

حالما عرفنا بأمر السرقة ذهبنا إلى ذلك الشاب المسروق كي نواسيه ونعرض عليه أن نجمع له مالا يشتري قمصلة جديدة تقيه البرد..كان حقا غاضبا على السارق ..التفت إلينا وقال يشكرنا لكن بانفعال وحماس

- والله لو أعرف السارق الذي سرقني أطيّح حظكم (طبعا أنا لطّفت العبارة كثيرا بهذه الصيغة على طريقة بعض جامعي الحديث الشريف لأنّه قال والله لو عرفت السارق لن... ت خواتكم وإن كنتم لاتصدقونني فاسألوا الشاعر القدير جمال مصطفى الذي كان شاهدا على ذلك الحدث.

هاني الريس والخطوط الجوية العراقية

هاني الريس السياسي والصحفي البحراني وصل قبلي إلى الدنمارك بأسابيع عرضنا عليه أن يذهب إلى الخطوط الجوية العراقية ليجلب بعض الصحف إلينا لأنه من البحرين ولهجته تشفع له تقبل الفكرة ودخل وعندما سأل الموظف أشار عليه أن يرافقه إلى الطابق العلوي حيث الصحف ومعها يستضيفونه بفنجان قهوة، وعندما صعد كانت المفاجأة هناك نهروه وصاحوا بوجهه من أية محافظة أنت بغداد أم كربلاء العمارة أم البصرة أم الموصل وبدؤوا ينهالون عليه ضربا بالايدي وركلا بالأرجل ومن حسن حظ الأستاذ هاني أن هناك موظفة دنماركية تعمل في الطابق الأرضي أثارها الزعيق والصراخ فاتصلت بالشرطة الدنماركية التي حضرت وخلصته من أيدي موظفي الخطوط الجوية العراقية.

هناك الكثير في جعبتي من المفارقات التي وحدتها لاتصلح قصصا بل سر جمالها في أن تبقى كما هي وسأنشر الذي أتذكره منها.

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

تنظر إلي نظراتك المعتادة، وتتحسر على وضعي الحالك، وتتأسف لأني ضعيف أعزل لا أملك ما أدفع به الأزمات المدلهمة عن نفسي، ثم تعود إلى خطابك المكرور الذي كان، في فترات مضت، يفلح في تسكين ألمي ويهدئ أوجاعي، لكنك لم تدر أنه ما عاد يضمد جراحي الغائرة، ولا يرسم أملا وأفقا رحبين أمام بصري؛ لأني بتُّ أرى الأمور في وضوحها، وأقضي الليالي الطوال مكلوما في صمت، وأهجر النوم مكرها لا طواعية مني، لا لشيء إلا لأمعن النظر، وأزايل الغشاوة من عينيّ، وأتأكد إن كنت في حال وعي ويقظة أم أني مثمل حتى النخاع بأوجاع وهمومي هذا الوطن. ولكن، وآه من لكن هذه، وجدتني في برزخ مدلهم: بين النوم واليقظة، بين الأحلام الوردية الناعمة والواقع الملموس القاسي.. إني حزين يا صاحبي، وحزني لما يغادرني وإنما طاب له المقام فأقام، وتغلغل بين مسامي.

حزين على حال الأستاذ الذي أفرغ من مكانته الاعتبارية والرمزية والاجتماعية، والنتيجة أنه أضحى لعبة في ظل سياسات فاشلة، وورقة محترقة بين انتزاع الشرعية المغتصبة، والرغبة الأكيدة في الوجود.

حزين على حال منعشي الصحة الوطنيين من الرجال والنساء، أولئك الذين يسحلون ويرفسون ويقمعون في الشوارع، والنتيجة أن الصحة أصبحت في مهب الريح.

حزين على حال فقراء المغرب الذين لم يعد لهم حق في الحياة، في العيش الكريم، في لقمة العيش الهنيّة، في الصحة، في التعليم، في..في الموت الكريم؛ لأن الأسعار المستعرة تحرق الفقير، وتجعله متلظيا بين نارين حاميّتين: نار الحقوق المهضومة، ونار تحصيل لقمة العيش البسيطة. فحتى العدس والبصل والخضر و... لم يعد بمقدوره شراؤها.

حزين على حال أولئك الفقراء المحتجين على انعدام الماء والكهرباء، والحانقين على غياب الوثائق الضرورية؛ ولكن ما يكلمني أكثر هو نضال هؤلاء من أجل الحصول على هوية تؤكد انتسابهم لهذا الوطن الذي يطردهم، هذا الوطن الذي أعتبره امرأة غريبة الأطوار: من أحبها تغرّب واحترق، ومن أعرض عنها اغتنى وتقرّب.

حزين على حال البيدونيين الذين يقبعون في بؤر هامشية، أولئك الذين ولدوا وترعرعوا في أحياء الصفيح: القصدير سقفهم وغطاؤهم، والأرض فراشهم ومضجعهم. ولما تلقوا الوعود بسكن لائق خدعوا؛ فوجدوا أنفسهم وأبناءهم في العراء طعمة للتشرد والاغتراب.

حزين على الجدار العازل والهوة السحيقة التي تفصل بين حكومتنا الرشيدة والشعب المغربي الفقير؛ هذه الحكومة التي تعيش في واقع غير واقعنا، وتنظر من برجها العاجي بحيث ترانا عكس ما نراها: فنحن حشرات ضعيفة تستحق التفقير والموت في نظرها، ونحن نرى أنفسنا أناسا يستأهلون عيشا كريما، وبين رؤيتها ورؤيتنا نحترق ونحترق، وفي كل احتراق يزداد بعدها عنا.

حزين على الجفاف الذي ضرب أرضنا المباركة، وجعلنا في خوف حقيقي من الفناء، لا لشيء إلا لأنا نحب الحياة، نحب العيش على وجه البسيطة مهما كلفنا الثمن.

حزين على العيون التي ترصد حركاتنا وسكناتنا، وألجمت أفواهنا وقمعت وسجنت أقلامنا، فما عدنا نسطع حتى الأنين والتوجع جهرا.

حزين على حال هذا الوطن الغالي الذي يتهدده الأعداء من كل ناحية، ويتربصون به الدوائر. ومن ثم، فإن الوطن محتاج لأبنائه الأوفياء، وأبناؤهم محتاجون لوطنهم الأبي، ولكي يظل هذا الحب مستمرا على حكومتنا أن ترأف بحالنا، وترحم عجزنا وضعفنا، وتعلم أن حب الوطن والغيرة على مكانته، والرغبة في تقدمه هي التي تشدّنا إلى البقاء على أرضه حتى وإن استمر احتراقنا وتلظينا.

***

محمد الورداشي

الكلمة فى العربية من حيث العدد تنقسم إلى مفرد ومثنى وجمع. وجاء سماعا عن العرب أنهم فى بعض الكلمات يجمعون الجمع، وهذا ما يسمى بجمع الجمع. وهو سماعى كما ذكرنا، فلا قاعدة يُقاس عليها. وهذه الكلمات التى نطلق عليها جمع الجمع، هى كلمات موروثة عن السابقين، وهى قليلة العدد. وقد عمد القدماء إلى هذه الظاهرة بهدف المبالغة والزيادة، فكأن الكلمة فى جمعها لا تكفى للتعبير عما فى النفس من زيادة أو كثرة ومبالغة، عندئذ عمد القدماء إلى جمع الجمع ليفى بالغرض. ومن أبرز العلماء الذين تناولوا هذه الظاهرة، نجد أبا حيان والمبرد والإبيارى.

ومن أبرز هذه الكلمات، نجد:4798 جدول جمع الجموع

ملاحظات فى جمع الجمع

1 – قد يتشابه عند البعض جمع الجمع، بجمع المؤنث السالم، مثل كلمات: رجالات، سادات. والفرق هنا بين جمع الجمع وجمع المؤنث السالم، هو أن جمع الجمع مفرده ليس كلمة مؤنثة، أما جمع المؤنث السالم فمفرده كلمة مؤنثة. وهذا هو الفارق الجوهرى بينهما. ومن الملاحظ أن البعض تنزلق به القدم فى مثل هذه الكلمات، فيقول إنها جاءت على جمع المؤنث السالم شذوذا، أو إنها جموع شاذة. وكلا الرأيين وقع فى المغبة، فلا هى جاءت جموعا مؤنثة ولا هى توصف بأنها شاذة. وإنما هى كلمات جمع الجمع جاءت على صورة جمع المؤنث السالم وليست جموع تأنيث سالمة. فالضبط الاصطلاحى أمر لازم، ولابد أولا من التحليل اللسانى القائم على العلم والمنهجية والبحث المتروى.

2 – استعمل القرآن الكريم ألفاظا من جمع الجمع، وهذا دليل لتسويغ صحتها وثبوتها فى اللسان العربى. ومن ناحية أخرى هو دليل دامغ يقطع القول بأنها جموع شاذة، فالقرآن لا يحوى شاذا ولا يستعمل شاردا. ومن ذلك قوله تعالى {إنَّها ترمِى بشَرَر كالقصْر كأنَّه جِمِالاتٌ صُفـْرٌ} [المرسلات / 32، 33]. وقوله تعالى {وقالوا رَبَّنا إنَّا أطعْنَا سَادَتنَا وكُبرَاءَنا فأضلونَا السَّبيلا} [الأحزاب / 67].

3 – كلمات جمع الجمع التى تأتى على صورة جمع المؤنث السالم، لا تأخذ علامات إعراب المؤنث السالم، وإنما تأخذ علامات إعراب جمع التكسير. وهذا دليل دامغ آخر على أنها ليست جموع تأنيث أو جموع تأنيث شاذة. وشاهد ذلك قوله {سادتنا} فى الآية السابقة، فإن اللفظة فى موضع نصب، فلو أنها جمع مؤنث سالم، لنصبت بالكسرة، لكننا نراها فى الآية الكريمة منصوبة بالفتحة.

4 – الشعر العربى عبر تاريخه يستعمل صيغة جمع الجمع، ومن ذلك:

قول كعب بن زهير:

فلا تأخـذنــى بأقــوال الــوشــاة

ولم أذنب، ولو كثرت عنى الأقاويل

وقول المتنبى:

لك علىَّ أيادٍ سابغة

أعُدُّ منها ولا أعددها

وختاما نرجو أن نكون تناولنا هذه الظاهرة اللغوية بتبسيط وعلمية، يفيد منها المتلقى.

***

د. أيمن عيسى - مصر

كنتم أطفالا مثلي، والأكيد إنكم أحسستم نفس الأحاسيس نحو أبائكم، الأم وبالأخص الأب ولم تستوعبوا أنه لم يكن بالإمكان أن يفهمكم!..

لماذا يبخل عني بأوقات اللعب؟...

لماذا يفرض علي وقتاً، لا يجب فيه أن أتجاوز باب المنزل؟..

وفي أحيان كثيرة يحذّرني من اللعب مع هذا آو ذاك، ومرات عديدة يعاقبني بشدّة، رغم أن هذا أو ذاك مجرد طفل لكنه يتلفظ بالكلام البذيء!...

لماذا لا يمل الآباء من التوكيد على الدراسة؟..

كل يوم، وفي كل ساعة...

لماذا يختار لي هو ملابسي، ولون البنطلون والقميص، وشكل الحذاء؟...

لماذا يحبُ أختي الصغيرة أكثر مني؟ وأنا الذّي جئتُ إلى الدنيا قبلها بسنوات، وأدخلتُ السرور إلى قلبه قبلها أيضا!...

لماذا يلزمني بأكل الطماطم واللفت والعدس؟..

ومن الطفولة انتقلتم إلى الشباب والمراهقة، ووقعتم في الحب وتزوجتم، وأنجبتم الأولاد والبنات!..

والآن انتم أباء وتشعرون بنفس الأحاسيس اتجاه أولادكم، والمعضلة القديمة لم تجدوا لها حلا! وتذكرتم طفولتكم أو جزء منها...والآن تقلقون لماذا ليس بإمكان أولادكم أن يفهموكم؟..

لماذا لا يدرك الطفل أن اللهو لا يجب أن يلتهم كل النهار وجزء من الليل، وإنما هناك دروس تُراجع وواجبات تُحل،وجلوس مع الأم أو الأب، ونوم...

لماذا يتذّمر الأولاد ولا يفهمون أن المكوث خارج البيت فيه مضار أكثر من المنافع ،أطفال السوء السيارات المسرعة، التدخين لذلك يجب أن يُحدد وقت للعب وان لا يتجاوز أبدا أذان المغرب...

لا يريدون أن يفهموا أنكم تقلقون لأجلهم، ويقولون متمردين أنه يوجد أطفال، سيئون، يدخنون يسرقون، ولا يبالون بنتائجهم المدرسية، ولا يحترمون لا كبير ولا صغير!..

فهل هؤلاء ترتاحون لهم لكي يصطحبهم أولادكم؟...

***

بقلم: عبدالقادر رالة / الجزائر

للكل أنسان أحلاما قد مضت وأخرى تلمع في الذكرى خيالات كالبرق في أعلى سماها.. والذين يبصرون بعقولهم بديع الواحد الأحد سبحانه وتعالى كما يتراءى في وحدة خلقه يدركون أن في خفايا الضياء والظلام تتبارى تلك الأطياف بوميض الجمال وهي تمتشق أحلامها الوردية لتصنع مالم يكن قد مر بالحسبان همسا.. لتصنع خيالات لمعانها بهجة بذلك الفرح العابر لحدود الأجساد وهي تبرق تيجانا قد جاد صانعها كلوحة فنان وهي تزين العواطف التي استدعاها الزمان بغفلة من العقول وهي راجحة بحكمتها لتسقبل الأنساما وهي معطرة بأزكى ندى نداها.

تلك العواطف ترتقي طيفا بطيف وقد تيقظت لترتقي بمشاعر الأحساس الذي تتقاطع عنده شتى المعاناة مع الأنبساط المؤطر بديعا بطيب الكلام الذي أسخرج حسنه من خبايا كنوز الأرض كتلك التي أكتنزت الى ما شاء خالقها.

في خضم كل ذلك ومضت الأطياف بأوقات هي الأغلى عند كل فردا وسر حياته لتثمر حماسة عنفوان يتوق الى الذرى ليغرد كالنوارس تشدو نغما على ضفاف أنهارا يناغي هدير مياهها بمحبة كل حصاها.

بعيدا بعيدا عن الضفاف تلمع الأطياف ثانية تمني النفس مجدا من ذلك الذي كان قد تحلق فوق الغيوم وهي تسري لتلتقط تلك الزهور وهي طافية حول الضفاف لتذهب بها الى فضاءات المكان واللامكانا.. لتخلد في سمر الزمان قصيد لحن بلحن خفي النغمات.. وفي الربيع تلوح أطياف الصباحات التي خطفت فوق الجمال بجمالها الأبصارا رقيقة الحسن تناغي ساحر المقلة برقة رشاقة وهي ترتحل بعيدا في الزمانا.

لتعود الأطياف وهنا على وهن حنينا الى شمس الصباح فيما قد مضى نقاء وأشراقا.. فينجلي عبق من صباح عابر بشذاه مابين الشواطىء لامعا بشروقه لأليء الشطأنا، ويلمع في زحمة الأطياف طيفا قد تفرد موشحا بسحره صقيلا مبرقا يسارع الخطى في البعد بعدا خلف الأفق مرئيا تارة وفي أخرى قد أختفى.. فيغيب مجددا ضياء بدر منير يتراقص فوق أمواج نهر بخريره هدارا.

وتهل بالأفراح موجات الأثير بوميضها البراق مسرعة الخطى محفوفة بأمال شاخت وهي تطارد في عمق الزمان بصيصا من عنفوان شبابها.. مزهوة ببهاء وأفراح قد خطت هي الأخرى بأقدارها لتكشف دررا بيضاء ناصعة مابين اعماق البحار تمني النفس أسعادا ربما قد أتى يوما أو أختفى.

وتلوح مابين النجوم تلك التي يلفتها المميز عن كل شيء تميزا بدنيا قد أستقرت بحكمة من شاء سواها, وفي خضم هذا وذاك تطل حوراء تستذكر مجدا بذلك الأعجابا وهي تعدو بزهراء ورد تزهو بنور سماها.. وفي ظلمة ليل تراءت سارونت بحر ممشوقة الخطى تعدو معطرة بأريج الأزهار تغرد بالبسمات صدقا وطيبا بوصف من نزار قبانيها.. ومن ثغرها الوضاح تحكي أطيفا وهي تسافر في فضاءات كون مابين بحاره في مرة وعند خلجانه في مرة اخرى.. حورية بحر تثير ببريق حضورها عواطف جياشة تشدو بلحن الكلام محبة العشاق بأول طلة عند لقياها.. لحن مؤطر بومضاااات أطياف عابرة للزمان.. بحلم في خفااااياها.

***

مجيد ملوك السامرائي، جغـرافـي/ كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي

 

لما كان الكرم أحد تجليات مكارم الاخلاق لانها أحد الصفات الربانية التي يتحلى بها الانسان تخلقا باخلاق ربه وخالقه، فان صفة البخل المذمومة في الكتب السماوية وعند اهل الحضارات الانسانية وأصحاب الفطرة السوية تعدو لان تكون صفة شيطانية لانها تعكس عدم الثقة بما عند الباري من خير وكنوز لا تنفذ .

ولذلك قرن البخل بضعف الايمان، وبمخالفة الفطرة الانسانية خاصة عند العرب المشهورين بالكرم، وما خلد التاريخ حاتم الطائي الا لكرمه، ولذلك عندما ظهرت طائفة من المسلمين من أهل مرو في العصر العباسي بالبخل كان ذلك مثار دهشة مجتمع المسلمين وحفز ابو عثمان بحر المعروف بالجاحظ لأن يؤلف كتابه " نوادر البخلاء " والذي قدم من خلاله نقدا اجتماعيا لاذعا لهذه الطائفة البخيلة والتي تسبب بخلها في وضعها موضع السخرية والفكاهة حتى يومنا هذا.

فلا فضيلة تذكر للبخيل حتى لوكان عابدا ناسكا، وحين مُدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: صوّامة قوّامة، إلاّ أن فيها بخلاً. قال: "فما خيرها إذًا"، وقال بشر الحافي: "البخيل لا غيبة له" .

فالبخل بالمكر والدهاء لمنع قضاء حاجات الناس او تقديم اي معروف لهم، فالبخلاء ماكرين خداعين مثل الثعلب والغراب، لا يسطيعون افادة احد مهما تصنع بتقديم يد العون، ولذلك فلا يحظى البخيل بحب الناس أبدا ولا شفقتهم وتعاطفهم اذا ما أصيب بمصيبة.

ويتهكم الشعب العربي على البخيل بالعديد من القصص التي تنفر وتسخر من البخلاء على لسان الحيوان مثل قصة أبو حصين أو الحصيني او المشهورة بقصة " عزيمة ابو الحصين " التي يضرب بها المثل لمن يدعي انه يريد مساعدتك و الاخذ بيدك فيظهر لك انه قدم اليك شيئا و يثبت هذا على نفسه لكنك لا تستطيع الاستفادة ابدا مما قدمه لك.

وكما تورد " موسوعة الحكايات الشعبية " حين دعا الحصيني طيراً طويل المنقار لوليمة شهية، ولكنه قدم الطعام في صحن طويل مسطح، يصعب على الضيف أكله، لطول منقاره، ويسهل على المضيف أكله لأنه يلعق الأكل بلسانه!

وهناك العديد من الحكايات والقصص أبطالها الثعلب والغراب، وتبدأ الحكاية بدعوة الغراب للثعلب فدعا الغراب على شجرة من الشوك فأخذ الغراب يأكل من الشجرة دون أن يمسه ضر أما الثعلب فلم يستطع بسبب الشوك، ليرد الثعلب الدعوة بدعوة الغراب إلى الطعام على حجر أملس صلب فأكل الثعلب بلحس الطعام أما الغراب فلم يستطع فكلما نقب نقبة آلمه منقاره .

وتمتد الحكاية فتسرد ما جرى ما بين الغراب والثعلب كما نراه عند الجهيمان في حكاية (الغراب وأبو الحصين) فيطلب الغراب من أبي الحصين وهو " الثعلب " أن يريه الأرض فيحمله الثعلب، ثم يحمل الغراب الثعلب في الجو ويسقطه من الجو فيسقط في غدير ويشرب الثعلب كل ما في الغدير فتأتي راعيه مع غنمها وتسأل الثعلب عن الغدير فيخرج الماء من فمه فتعطيه شاه هزيلة ومعها ولد وبنت (حوية وحويان)، فيقوم الذئب ويأكل حوية وحويان وأمهم فينتقم الثعلب ويحتال على الذئب ويتشابه هذا مع ما نراه في حكاية الجهيمان .

أما أبو الحصين فقد اشترى طاقتين من الحرير وأخذ يعلقها على شجرة ويزعم أنها تنتج الحرير فاشترها رجل أخر بمبلغ كبير من المال ولكنه حذره بأن لا يحدث أحد بجوار الشجرة، وهكذا أخذ الثعلب يضع لفات الحرير في الشجرة في اليوم الأول والثاني فيحملها مشترة الشجرة ويبيعها، وفي اليوم الثالث أحدث تحتها الثعلب، ولم يجد المشتري الحرير في شجرته فذهب إلى أبي الحصين واخبره بالأمر فذهب الثعلب إلى مع الرجل ودار حول الشجرة وأراه المخلفات ووعده بأن الشجرة ستعود للنتاج بعد أسبوع، ليجمع الثعلب جميع أمواله ويسافر إلى إحدى المدن ويدخل في التجارة .

يعرف الثعلب بالروغان والمكر والخديعة والذكاء وقد قال العرب في الأمثال (أدهى من ثعلب)، ويعرف في القصص الشعبي بـ (أبو الحصين)،، وقد ذكر الجاحظ في الحيوان أن الغراب مصادق للثعلب، بينما تنقل ألف ليلة وليلة حكاية يحاول فيها الثعلب أن يخادع الغراب بمصادقته ولكن في النهاية وبعد ضرب الحكايات يرفض الغراب هذه الصداقة فينسحب الثعلب وهو حزين لأن الغراب كان أكثر خداعاً من الثعلب.

وما اكثر ما نعيشه اليوم من مكر وخداع الثعلب ابو حصين وصديقه الغراب من بخل وانانية وتدمير للشعوب وتضييع للامانات حفظنا الله من شرروهم .

***

سارة السهيل

 

صنفت السياحة المجتمعية - الثقافية في الادبيات السياحية على أنها شكل من أشكال السياحة المستدامة إلى جانب السياحة الايكولوجية والسياحة الايكوثقافية. وتشير إلى استثمار وتوظيف الموارد المختلفة (طبيعية، ثقافية، اجتماعية، تراثية، تاريخية، بشرية....) في مناطق جغرافية معينة في السياحة بشكل مخطط ومدروس، لتحقيق أعلى المنافع وأفضلها بالنسبة للمجتمعات المحلية التي تقطن فيها، وتحسين أوضاعها المعيشية (المستوى الجزئي) أولا، وبالنسبة لعموم المجتمع (المستوى الكلي) ثانيا. وللدفع باتجاه التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية على نحو فعال ومؤثر، وشريطة أن يكون ذلك بأقل التكاليف الممكنة، وفي منأى عن المثالب والعيوب المتوقعة في هذه الحالات ولأسباب معروفة، وخصوصا تلك التي تمس خصوصيات هذه المجتمعات المحلية من حيث العادات والتقاليد والقيم والأعراف السائدة فيها. وهي جوانب على قدر عال من الأهمية عند إيجاد وإنشاء سياحة مجتمعية – ثقافية فاعلة في السودان وغيره من البلدان في أفريقيا وفي العالم أجمع، وضرورة ملحة من أجل نجاحها واستمرارها وديمومتها، ووفقا لقواعد ومبادئ الاستدامة المعروفة، وبما يغني التراث الشعبي السائد في مناطق استيطان هذه المجتمعات، ويعمق هويتها الثقافية، ويوسع موروثها الثقافي الممتد إلى أزمنة قديمة. وبهذا يمكن للسياحة المجتمعية – الثقافية في السودان أن تحقق عدة أهداف رئيسية، ومنها: تشجيع ودعم الممارسات الثقافية المحلية بمختلف أنواعها أولا، والنهوض بالأنشطة الاقتصادية المحلية وتوسيعها وتنويعها ثانيا، وإبراز الأوجه المحلية المتميزة، ثقافية كانت أو بيئية أو فنية الخ...، وترسيخ مكانة السودان في السوق السياحية الافريقية، وهي سوق متنامية يوما بعد يوم وفقا لتقارير منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة. وبإمكاننا أن نسوق هنا بعض الأمثلة على نشوء وتنمية السياحة المجتمعية - الثقافية في القارة السمراء.  ومنها حالة (بوتسوانا) في جنوب أفريقيا. وجبل (برادنبرغ) في ناميبيا، وأيضا حالة (بلد دوغون) في مالي.

***

بنيامين يوخنا دانيال

الخرطوم – السودان في 24 آب 2016.

جاء هذا الموضوع بمناسبة انتهاء العمل بمشروع المجموعة الشعرية المشتركة (هذا العراق) التي أشترك بكتابتها 350 شاعرا من 17 دولة عربية.

ترى نظرية "الغائية" أن كل شيء موجود في الطبيعة، وكل العمليات التي تجري فيها، إنما خلقت وولدت وصدرت لتحقيق غاية، تكمن خلفها علة قد لا تكون مرئية لغيرهم، وغالبا تكون بطريقة واعية لدى الإنسان دون سواه من باقي المخلوقات. والغائية نفسها تتدخل في عملية تبدل المصطلحات ومنظور الوحدة وآليات التوحد وأشياء كثيرة أخرى، وقد قلت مرة في واحد من كتبي: مع التقدم المهول الذي حققه الإنسان بحرا وبرا وجوا وصولا إلى الفضاء الخارجي، ومع التقدم في العلاقات والتحالفات والممارسات والصداقات والتكتلات والتحالفات، ومع تغير العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والكون، وجد العالم أنه لابد من إعادة تعريف وتسمية الأشياء، كل الأشياء المحيطة بنا، والتي نتعامل بها ومعها، كل الآليات والآلات، كل الحقائق، كل المسميات حتى العبادة، والدين، والقوة، والعلم، والحياة، والإنسان، والرجل والمرأة والطفل، والحرية، والأمن، والتنمية، والمجتمع، والدولة، والحق، والسلام، والإرهاب، والمدنية، والجنس والنضج، والبيئة، والمهارات، والفنون، والأخلاق، والمُثل، والشرف، والمال والفرح والحزن، كلها  أعيدت تسميتها، أو أعيد تعريفها. لم يعد أي شيء منها كما كان عليه قبل ذلك، حتى علاقتنا بالله سبحانه أعيدت تسميتها، بل حتى علاقتنا بأنفسنا أوجدت لها تسميات غريبة عن المألوف، وعلاقة الزوج بالزوجة، والأب بالابن، والأخ بالأخ، والفرد بالمجتمع وبالعشيرة وبالأمة؛ كلها أعيدت تسميتها وتعريفها، بما يناسب الواقع المفروض، دون النظر إلى علاقة الأشياء بمحيطها وأصلها الأول، وأحيانا دون النظر إلى علاقتها بمنظومة الأخلاق والسنن الموروثة، والقيم التي نشأت عليها المجتمعات، ولاسيما بعد الغزو الثقافي المدعوم بقوى مؤثرة قادرة متمكنة ذات سطوة وطَول وتَمَكُن وتأثير ساحر، جعل النسبية هي المعادل الموضوعي الذي يعلل سبب القبول والرفض.

ويعني هذا فيما يعنيه أن حركة الغائية تتفاقم مع تطور حياة الإنسان وتوسع مديات تحضره، وهي نفسها التي تجبرنا على إعادة النظر في بعض مصطلحاتنا، مثل مصطلح الوحدة، فنظرتنا لمصطلح الوحدة العربية التقليدية بمفهومها السياسي التقليدي الذي طالبت به ودعت إليه بعض الأحزاب القومية منذ أربعينيات القرن الماضي يجب أن تتغير هي الأخرى، لتكون دعوة إلى وحدة رؤى، وحدة فكر، وحدة أدب، وحدة تطلع لما هو أبعد من الحدود القومية الضيقة والشوفينية المقيتة. ومن هنا جاءت دعوتنا هذه، لا لتحسب على فكر قومي أو منهج سياسي أو ديني أو فئوي، طالما أن هذا الفكر وهذا المنهج عجزا كلاهما عن تحقيق جزئية صغيرة منها، بل جاءت لتكون بحد ذاتها فكرا ومنهجا له شخصيته المائزة ورؤيته المعبرة وروحه الإنسانية التي تتوافق مع الواقع ومع معطيات العلاقات الدولية المعاصرة المعقدة.

وقد يستغرب من يطلع على منهجنا الداعي إلى إحياء مشروع الوحدة العربية ثقافيا وليس سياسيا كونها تمثل جزءً فاعلا من كيان الإنسانية كلها؛ لا من خلال الدعوات الفارغة الفاشلة، وإنما من خلال لغة العرب أنفسهم، ومن خلال الشعر منها بالذات، ومن حقهم أن يستغربوا طالما أن الأعم الأغلب من الدعوات المعروفة والمشهورة سواء كانت سياسية أم قبلية أم دينية أم اقتصادية، فشلت في تحقيق هدفها أو مجرد الاقتراب من بعض حافات النجاح، بسبب تنوع مناهج وأساليب دعاة الوحدة أنفسهم، سواء كانت دينية أم قومية أم جندرية أم فكرية أم سياسية؛ وفقا لرؤى القائمين على مشروعها. وأنا واقعا سُئلت مثل هذا السؤال من أكثر من واحد ممن استغربوا من استخدامي الشعر لخلق رابط بين شعراء الأمة، إذ تكرر سؤال: لماذا الشعر على مسامعي عدة مرات، ومثله سؤال: هل تثق بالشعر، بعد أن فشلت الآليات الأخرى؛ ولأكثر من مرة؟ ورغم كونه سؤالا يبدو للوهلة الأولى تقليدياً ساذجاً بسيطا، لا يحتاج إلى عناء البحث عن الإجابة عنه، إلا أنه في معناه الافتراضي والفلسفي والحياتي عميقٌ جداً، ويستحق فعلا أن تكون الإجابة عنه بنفس مستواه الفكري. من هنا أقول في جوابي:

الشعرُ في معناه الأوسع صورةٌ من صور الحياة الأدبية التي لم تكن يوماً بمعزلٍ عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والأخلاقية والدينية، بل والمصيرية للمجتمعات والشعوب كلها، والشعرُ حسب الناقد الأدبي والفيلسوف الفرنسي "فابريس ميدال" هو الرابطة التي تؤدي إلى الذات، وإلى الآخرين، وبدونه لا يمكن العيش حقيقة. والشعر هو الجسر والباب والعالم، هو الشجاعة نفسها، وهو حارس الحضارة، ويحمل جذوة الحقيقة، وهو صديق كل حي في المعمورة، ويذهب دائما نحو العمق. ولأن الشعر مثلما وصفه صلاح عبد الصبور هو: فن اكتشاف الجانب الجمالي والوجودي من الحياة، والإنسان بلا شعر من شأنه أن يفقد فضيلة تقدير الحياة والنفس البشرية. ولأن الشعر ضرورة وفق توصيف "جان كوكتو"؛ الذي كان يتأوهُ محتاراً على أمل أن يعرف لماذا؟؛ وهو يبحث عن دور الشعر في العالم.  ولأني أؤمن أن ليس الشعر أن نقوله ونردده، وإنما الشعر الحقيقي هو الذي نعيشه ونَكُوُنَه ونتفاعل به ومن خلاله مع أنفسنا ومع بعضنا، وأن يشتعل في دمنا، ليتحول إلى وميض داخلي تستضيءُ به بصائرنا وبصيرتنا، ونستشف من أجوائه عبق إنسانيتنا. ولأن الشعر يحمل كل هذا الهطول الروحي والوجداني، كان ولا يزال على تواصل دائم مع حركة الإنسان وحركة التاريخ والوجود. وعلى مر التاريخ كان له دوره الفاعل والمتواصل في رصد تلك الأحداث، والتفاعل سلباً أو إيجاباً معها؛ وبالتالي كان لهذا التفاعل دوره في تغيير أنماط مسارات الحركة العامة للأمم، كلٌ ضمن محيطها الخاص، وصولاً إلى التأثير على المجتمع الإنساني كله عبر مراحل نشوئه وذروة عطائه.

ولأن الشعر امتدادات بوهيمية لحركة الإنسان بحثا عن المضمون والمعنى، وهرولة وراء الخلاصة المركزة جدا لموضوع لم يكتمل بعد، ولأنه مسافة موبوءة بكل أشكال المخاطر، يجازف من يدخلها بعمره وربما بقضيته، ولأن فيه دفقة شجاعة يمنحها للفرسان في ميادين الحروب حينما يرتجزون بعض أبيات منه، يحثون بواسطتها أنفسهم على تقحم المخاطر، أو يسمعون رجزاً من مؤيدين وحاثين ومشجعين لهم يزيدهم اندفاعا وتهورا، ولأن فيه خوفٌ وتحريضٌ ومجازفةٌ، مثلما هو  مصنعٌ  للجمال وأيقونة للسحر، سحر الكلمات التي يحولها الشاعر من مجرد جماد بارد لا روح فيه إلى حوريات تتوهج وتتراقص أمام مشاعل الفكر لتوقد فيه جذوة الحياة، لكل هذا كان الشعر قضيةً قائمةً مثلما هي القضايا الإنسانية الأخرى، ولاسيما بعد أن وظف الشعراءُ أشعارهم لخدمة القضايا تاريخياً، وهو الأمر الذي لم يجعل لتقادم الأيام والسنين أثراً يُفقد الشعر ألقه، فكل جيل نشأ وهو يتلفع بعباءة من سبقه من أسلافه، يبحث فيها وتحتها عن دفء المشاعر وحرارة الإحساس، من خلال الكلمات التي تم تشذيب مخرجاتها بعمق الإحساس المرهف والجمال الأخاذ، حيث تتوالد الرؤى وهي تحمل صور الماضي بألق جديد، يمتد ليرسم طيف المستقبل، فتتواصل الحياة التي تحترم قيمة الجمال الأسطوري، لا الجمال التقليدي وحده.

ودون الغوص في دنيا الشعر القديمة؛ التي يطول الحديث عنها، نجد منذ مستهل القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر النهضة أو عصر التنوير العربي تواشجاً أسطورياً بين شعر القضية وقضية الشعر، فالشعر في هذه المرحلة تفاعل ضمن الإطار الزمني للأحداث، ذلك لأنه الأسرع في التعبير عن هموم الأمة وقضاياها الشائكة المشتركة الأخرى من غيره من صنوف الأدب بفضل بنيته الخطابية والأسلوبية، وذلك الحب  السليقي التراثي المتأصل في النفوس منذ أن كان العربي يتنفس الشعر، وعلى يديه يتعلم مناهج العيش، ومنذ أن كان الشعر نفسه ديوان العرب، فكان لساناً ناطقاً عن حال الأمة في حلها وترحالها، بما يبدو وكأنه يبحث دائما عن بيئة صالحة ليرتع فيها بأمان، ويرفع صوته معلنا عن نفسه. وكان فعله الكبير والمميز في حركات ونشاطات الجماهير المطالبة بخروج الاستعمار، أو بتصحيح الواقع الاجتماعي، وإنصاف العمال والفلاحين والفقراء والمعوزين والطبقات المعدمة، والدفاع عن جميع المستضعفين، أو لتأبين الشهداء الذين سقطوا في الانتفاضات الجماهيرية، أو للدفاع عن قضايا الأمة، أو لتأييد حق تقرير المصير للشعوب العربية المستَعْمَرَة، أو لتأييد الثورات الوطنية، أو لشحذ الهمم، مثلما حدث أثناء العدوان الإسرائيلي المتكرر، كان واضحا ومؤثرا.

في كل هذه المناطق الساخنة وساحات النزاع الشرس كانت للشعر صولات شهيرة، وكانت عقيرة الشعراء تترجم حال الأمة وتعبر عن بواطنها وروحها الوطنية، بما يبعث في الأمة أمل الخلاص القادم المرتقب، وكانت الجماهير نفسها تستمع إلى الشعراء وكأنها تسمع وصايا السماء، وتردد أقوالهم وكأنها تبحث بين ثناياها عن عزمٍ متأصل يزيد الحركة تسارعا نحو الأمام.

لكن انكفاء المعادلات التحررية، وفشل المشاريع الوحدوية التي لم تكن جادة، وتفشي روح القطرية والمناطقية، وتلاشي وهج الحركات والدعوات القومية، وانتشار الصراعات المصلحية الدينية والمذهبية والسياسية، وتفشي ظاهرة التكفير والنبذ، زائدا عسف الحكام وجور السلطات، وتحكم النظم العشائرية والقيم البدوية، وتنامي الروح اللامبالية، وأشياء كثيرة أخرى، اشتركت كلها سوية لتُثبَّط عزائم الشعراء وتُقعدهم، وتُبعدهم عن معايشة الحدث والتأثير فيه.

ثم لما جاءت حركات الشباب فيما عرف باسم "الربيع العربي" التي تسببت في سقوط أنظمة حكم شمولية.. ونظم أخرى، تَسبَّبَ سقوطها غير التقليدي في تخريب تلك البلدان وتدمير بناها التحتية، وتحويل شعوبها إلى "ميليشيات" متقاتلة فيما بينها، وبدل أن تنتظر الأمة الفرج على يد المنقذ، جاء الرد القاسي على أيدي الحركات الإسلامية الراديكالية المتطرفة، وصولا إلى ولادة "القاعدة" و"داعش" و"الميليشيات"؛ الذي زادت الطين بلة، وزاد رقعة التخريب اتساعا، بدا من خلال ذلك المشهد المأساوي المعقد؛ الذي ضخمت بعض فقراته بشكل يفوق حقيقتها على أرض الواقع وكأن حركة الشعر أصابها الشلل الرعاشي، ربما بسبب القنوط والهزيمة النفسية أو بسبب الخوف، خوف الشعراء على أنفسهم وعوائلهم ومصالحهم، أو خوفهم من أن تترجم أقوالهم إلى غير مقاصدها، فيقعون تحت المسائلة، أو يُحسبون على هذه الفئة أو تلك، وهم ليسوا منها.

مع كل ذلك، ومع كل الإخفاقات الكبيرة التي تعرض لها واقعنا العربي، ولأننا نحن من خلق أسطورة "العنقاء" ورسم صورتها في المخيال الجمعي، بدا وكأن الأحداث تتجدد بوجوه أخرى، وكأن المعادلة انقلبت إلى الضد، فعاد الشعر ليرفع رأسه مثله مثل العنقاء التي تنهض من بين أنقاض الخراب ورماد الحرائق لتحلق في دنيا الدهشة، ربما لأن الشعر لم يتخل يوماً عن قضيته، والقضايا نفسها كانت وباستمرار بحاجة ماسة إلى الشعر لتستمد منه العزم والقوة، فكيف ينهزم ويترك الساحة فارغة، يجول في أرجائها أنصاف المتعلمين المدعومين من الحكام المتسلطين؟ ولأن لكل فعلٍ فعلٌ مساوٍ له بالمقدار ومخالفٌ له بالاتجاه، ولأن الشعر فعلٌ لم ينهزم من ساحة المنازلة في أي واقعةِ تحدٍ خاضها من قبل، كان متوقعاً أن جذوته لابد وأن تتقد من جديد إذا مسها شرر قبس من خير، وأنه لا بد أن يزمجرُ بصوتٍ رعدي مسموعٍ، لكن وفق هذه الثنائية المتعارضة، في هذا العالم الغرائبي، وفي زمن الانفتاح السيبراني الإلكتروني، وفي عصر انفتاح الكل على الكل، حتى بدا وكأن الإنسان انفتح على عوالم جديدة حولته إلى كائن كوني يمتد ولاؤه إلى العالم كله وليس لمجرد رقعة جغرافية اسمها الوطن، أو مجموعة بشرية أسمها الأمة، أصبح الحديث عن الوطن والأمة جزءً من الموروث الأساطيري البالي الذي يوصم بالتخيل والماورائية، وصار مجرد نكتة سمجة لا ترتاح لها الأسماع، ولا تطيق الألسن التحدث عنها أو نطقها، وبالتالي، تعني محاولة الشعر العودة إلى الحياة الواقعية، لا من خلال سطحية البروج العاجية الوهمية، ولكن من خلال قضية مصيرية؛ تبدو وكأنها مجازفة غير محسوبة النتائج، ويبدو فعل من يعمل على إيقاد جذوة الشعر عملاً مجازفاً مجنوناً لا يحسب للواقع حساباً، ولا يضع الأمور في نصابها. لكن رغم ذلك علمتنا التجارب أن الإنسان ابن شرعي للمخاطر، وما كان ليبقى كل هذه السنين صامدا لولا التجارب الخطرة التي خاضها عبر تاريخه الطويل، والتي توارث ألقها الأبناء عن أسلافهم، والمخاطر نفسها تُعلِّم الإنسان ـ إلى درجة الإدمان ـ على المجازفة، وتكرار المجازفة مرة ومرتين دونما التفات إلى النتائج غير المحسوبة أو غير المحسومة، فالمجازفة بحد ذاتها هي نتيجة حتمية لكل صاحب قضية يؤمن بعدالتها.

ولأني صاحب قضية، قدمت لها الكثير من سنين عمري، ولم أحصد سوى التعب والتقتير والسجن والتعذيب والتشريد والاختطاف والتهجير، فقد مارست حقي في أن أطبق بعض منهجياتها من خلال الشعر، لا الشعر التقليدي المتداول من خلال جلسات بائسة أو مؤتمرات بلا معنى، وإنما من خلال التجميع الانتقائي الذي يصب في هدف مباشر واحد، مثلما تتجمع الغدران الصغيرة لتصب في واد سحيق تتجمع فيه مياهها لتتحول إلى نهر عظيم، يشعر من خلاله جميع من شارك بكتابته وكأنه ملكا شخصيا له وحده، وكأن ذلك النهر الزاخر فاض بفعل مياه غديره التي غذت النهر بالحياة، وهذا يستفز رغبة التوحد الإنساني في النفوس، على خلاف التنافر العبثي الذي يتحكم بالحياة اليوم.

من هذه الحافات الناتئة والمنحدرات الخطيرة الصعبة، أطلقت مشروع (قصيدة وطن؛ رائية العرب) عام 2020، وخرجت بمحصلة لا شبيه لها في التاريخ من قبل، تمخضت عن صنع قصيدة بوزن واحد وبقافية واحدة، تتألف من (371) بيتا، اشترك بكتابتها (139) شاعرا من أغلب الأقطار العربية. وقد أثبت نجاح المغامرة أن روح الوحدة والألفة العربية التي تبدو ظاهرا في أسوأ أحوالها، كانت مجرد تصور موهوم ومغالط، ومجرد كذبة صلعاء، وخرافة روج لها أعداء الأمة الحاقدين عليها وعلى وحدتها، فجذوة الوحدة وروحها لا زالت تعتمل في نفوس العرب الشرفاء وضمائرهم الحية قولا وفعلا واعتقادا. ولكي انقض كل ترهات الأعداء وأثبت لهم خطأهم، كررت المحاولة، وخضت المجازفة مرة أخرى، فأطلقت عام 2021 مشروع قصيدة (جرح وطن؛ عينية الوجع العربي)، التي تألفت من (423) بيتا بنفس الوزن والقافية، كتبها (177) شاعرا من (17) دولة عربية، ولو كنا مددنا مدة استلام المشاركات لشهر آخر لكان العدد قد تضاعف، ولما تخلت أي دولة عربية عن شرف المشاركة.

في المشروع الثاني لم يكن نجاح المغامرة وحده ما جلب الأنظار بدهشة وغرابة فحسب، بل جاء عدد المشاركين في كتابة القصيدة وعدد البلدان التي جاءوا منها ليثت للعالم أجمع أن نهر الوحدة العربية لن يجف، ولن تنجح أي قوة في العالم مهما عتت وتجبرت في سرقة مياهه العذبة، وستبقى أمواجه زاخرة بالحياة والحب والإنسانية والعطاء، وهو الأمل الكبير الذي دفعنا لنجازف مرة أخرى في بداية عام 2023 لنطلق مشروع (هذا العراق) ولكن بشكل آخر يختلف من حيث البناء والأسلوبية عن المشروعين السابقين، وتتلخص فكرته في أن يشارك كل شاعر من شعراء الأمة العربية بكتابة مقطوعة من خمسة أبيات بالوزن والقافية التي يختارها، على أن يبدأ الشطر الأول من البيت الأول من المقطوعة بجملة "هذا العراق". ومع كل التردد الذي كان يعتمل في النفوس، والخوف من ضعف الاستجابة، كان الأمل بصدق مشاعر أبناء الأمة تجاه أمتهم حافزا ودافعا قويا منحنا جرأة لا محدودة، بدأت تحقق مكاسبها مع وصول أولى المشاركات التي وردت إلينا تحمل الفرح، ثم سرعان ما تبنت بعض المنتديات الثقافية والمواقع الأدبية الترويج للفكرة؛ التي ما إن وصلت للشعراء العرب الجادين حتى بدأوا بأنفسهم يروجون للفكرة بين أصدقائهم ومعارفهم ومن على صفحاتهم في الفيسبوك، لتتحول قطرات الرّذاذ الصغيرة التي بلت طمعنا في بداية الأمر إلى طل، ثم رّش، ثم دّيم، ثم غيث، وسرعان ما تحولت إلى وابل شديد، فاضت بخيره صفحات الأمل الصادق، فكان هذا الكتاب دليلا على عمق علاقة العرب ببعضهم رغم المحن، ومقدار حبي أنا بالذات لأمتي العربية وللعراق الذي لا يقاس بالمقاييس المعروفة، العراق الذي أبدأ مع شروق شمس كل يوم جديدة بالتوضؤ بنوره، مرددا دعاء الوطنية الخالد: سيدي العراق إن أحلى سنين العمر تلك التي عشقتك فيها، ولأني لا زلت أعشقك إلى الآن أكثر من كل شيء، وأكثر من أي وقت مضى، فذلك يعني أن سنين عمري لا زالت حلوة، فأنا حينما تشعر روحي بالجفاف، ويهبُّ في أرجائها غبار الفوضى، أبلها بجميل ذكريات لقاك المتجددة في صباحاتك العذبة ، فيهطل الحب مدرارا، وتورق كروم سنيني، وتحلق النوارس في مديات عمري، تصدح بما هو آت من سعادات، فأتنشق نسائم الربيع ربيعا، وتغرق مشاعري ببحر حبك، وأهيم في فيض وجدك، حتى تتصابى سنين عمري الموغلة في القدم، وأرى بياض شعري والشيب الذي يكلل رأسي كتاب تجارب ملحمية تغفو بين طياته كل بقايا أمسي الذي تضمخ بطيب ترابك، وكلها مجرد غيوم صيف تدفعهن نسماتك العذبة إلى دنيا المشاعر، ليعربد الشوق في جنبات قلبي سكرانا من دون خمر، فعشقك هو خمري وصحوتي ويقيني، أنت يا كل العمر، يا أحلى سنيني.

بعد هذه التأملات أعود وأكرر طرح السؤال الذي طرح عليَّ: لماذا الشعر؟ وهل حقا أن الشعر الذي نجح قديما في أداء أكبر وأخطر مهام التاريخ ممكن أن ينجح اليوم في أداء المهمة نفسها، وبنفس الكفاءة والقدرة والقوة؟

وللبيان والتوضيح، أقول: انضوى العدد الخامس؛ كانون الأول 2022 من مجلة أوراق مجمعية التي يصدرها المجمع العلمي العراقي، وهو عدد خاص عن العربية بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، انضوى على عدة مواضيع، تكلمت عن سوق عكاظ كظاهرة فنية ولغوية، ولأن سوق عكاظ كان في ظاهره مجرد ساحة يتبارى فيها الشعراء العرب بسلاح الشعر للفوز بالفحولة والصيت والسمعة والمركز، فذلك لا يمثل كل الحقيقة، الحقيقة تكلم عنها الأستاذ الدكتور إيـاد إبراهيم الباوي في موضوعه المعنون "قدسية عكاظ في الجاهلية والإسلام" المنشور في الصفحة 34 وما بعدها، وهي أن عكاظ الملتقى، كان يقام في ناحيـة مـن نواحـي مكـة عـلى مقربــة مــن الطائــف كل عــام، في موعــده الــذي تواضعتــه العــرب، على أرض تســمى "الأثيـداء"، ويستمر عـلى مـدى عشريـن يومــا الأولى مــن أيــام شهر ذي القعــدة كواحدة من الشعائر الدينية التي توارثتها العرب استعدادا لحج البيت، إذ كانوا يبدئون رحلـة حجـهم انطلاقـا مـن هذا السـوق باتجـاه سـوقي "ذي المجنـة" و"ذي المجـاز"، فهـذه الأسـواق هـي المواقيـت الشرعية لأهل الجاهلية، بـل تشـبه إلى حـد كبير تلـك المواضع التســعة (المواقيــت) التــي حددهــا الإســلام لمــن أراد أن يُحـْـرِم للحــج والعمــرة. ويعني هذا أن عكاظ لم يكن مجرد ساحة للتسابق شعرا، وإنما كان ميقاتا للحج الجاهلي.! وأن يتزامن مهرجان الشعر مع شعيرة دينية لها مكانتها وقدسيتها في النفوس، فذلك يعني أن للشعر منزلة ترقى إلى مستوى التقديس، وهذه حقيقة غائبة قلما التفت الباحثون إليها وإلى دلالاتها العميقة والوجدانية.

هذه القدسية لم تفقد ألقها حتى في زمن البعثة، بل وظفت لنصرة الدين الجديد، ومن ثم وظفها الحكام والسياسيون لدعم قضاياهم ومشاريعهم ومراكزهم ومناصبهم، ومن ثم متعهم وأنسهم وعبثهم، لكن قدسيتها بقيت تتحكم بها، فكم من مرة أصبحت سلاحا بيد المعارضين تنتهك خصوصيات السلطان وتقلق باله. هذه القدسية استمرت صفة غالبة للشعر الحقيقي، وهي اليوم بنفس ألقها الماضي، وسوف تستمر إلى الأبد، حيث يبقى الشعر متعة وسلاحا.

أما خصوصية موضوع هذا الكتاب؛ الذي انصب على نصرة العراق ظاهراً، من خلال جملة (هذا العراق) التي زينت بدايات جميع المشاركات، فهي لا تعني بالضرورة تقديم العراق على غيره، ولا تحيزا له، فأنا من خلال دعوتي، لم أطلب نصرة العراق وحده، بل طلبت نصرة الهوية المشتركة التي تجمعنا نحن الكل، لأن نصرة الجزء تدعم نصرة الكل، ولأن العراق جزءٌ من أمة حية، بمجموع بلدانها تمثل حائطا بني بحجارة التاريخ ليقف بوجه كل الأطماع مهما كانت هويتها، وأي حجر يضعف أو يتآكل أو يقع من هذا الحائط قد يودي به إلى التصدع والانهيار والسقوط، فإن لم يسقطه فإنه سيفقده متانته وقوته ويضعفه، بل إن مجرد سقوط حجر منه مهما كان صغيرا سوف يترك ثغرة تدخل من خلالها الرياح المسمومة الشريرة التي تريد به وبأهله السوء. الحائط نفسه عليه أن يحرص على سلامة أحجاره لأنه بحاجة إليها، مثلما على كل حجر منها أن يحرص على علاقاته بباقي الأحجار، لأنه هو الآخر بحاجة إليها، لكيلا تتخلخل موازنة الحائط ويصيبه الوهن، وهذا يعني أن نصرة الشعراء للعراق هي نصرة للأمة كلها وللوطن الكبير كله، ولكل بلد من بلدانه، وهذا هو المفهوم الحقيقي لقوة التماسك وتماسك القوة التي ندعو إليه بعد أن تأزمت أمور حياتنا بسبب هجمات الأعداء ومؤامرات الحاقدين في الداخل والخارج، وتفتت عرى التآلف بين إنساننا العربي هنا وهناك، إلى درجة احتقار الهوية والبحث عن هوايات جامعة أخرى لا أصول لها.

سؤال آخر يأتي عادة مكملا للسؤال الأول طالما سمعته من زملائي وأصدقائي والمحيطين بي حينما كنا نتحدث عن هذا المشروع: لماذا العراق؛ الذي تعرض إلى عسف وجور بعض إخوته، يتبنى فكرة الدعوة للوحدة؟

لماذا العراق؟ لأن العراق يا سادتي هو الأصل والجوهر، فهو كان موطن الرؤية الحضرية الإنسانية الأولى، وموطن الابتكارات الإنسانية الأولى، فيه نشأت أولى المدن في التاريخ، وعلى أرضه قامت أولى حضارات الإنسانية، وفيه عرف الإنسان الحرف والكتابة والعجلة لأول مرة، وفي شرائعه سنت أولى القوانين التي نظمت حياة الناس، وعزفت قيثاراته الذهبية أناشيد الأمل لتسمع البشرية سحر الموسيقى لأول مرة في حياتها، وفي أجوائه شعت الحكمة والأدب والفلسفة والتنوير، فشكلت بمجموعها سلسلة من التناقل الحضاري العراقية التي لم تنقطع عبر التاريخ، فقد كان العراق سباقا لصنع الأفذاذ من القادة والباحثين والمفكرين والعلماء واللغويين والأدباء والفنانين، ولم تخل أي حقبة بما فيها الحقب السوداء المظلمة من وجود مثل هؤلاء العظماء على أرضه، بما فيهم العلماء الأعلام الذين لا زالت علومهم ترفد الإنسانية بقواعد علومها المتجددة، والشعراء العظماء الذين لا زالت قصائدهم تسحر السامع وتطرب الماتع.

ومن أرض العراق خرجت كل علوم اللغة والعروض والبيان والبلاغة والنقد، فقواعد نحو لغة العرب وضعها العراقي أبو الأسود الدؤلي، وعلم عروض وبحور شعر الأمة العربية وضعها العراقي الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومن خلال الجمع بين النحو والعروض ولدت طبقة فحول شعراء الأمة ولغوييها الخالدين الجاحظ والأصمعي وسيبويه وابن جني وابن مالك والمبرد والجرجاني وبشار بن برد وأبو العتاهية والفرزدق وأبو نوأس والمتنبي واليشكري وصفي الدين الحلي والجواهري وعبد المحسن الكاظمي ومحمد صالح بحر العلوم والزهاوي والرصافي والسياب ونازك الملائكة وعبد الرزاق عبد الواحد وكثيرون غيرهم. وبلد كالعراق هو جوهرة البلاد حري به أن يتصدر الدنيا كلها وليس العالم العربي وحده، لتكون دعواته انتصارا للإنسانية، كل الإنسانية، وليكون الشعر هو وسيلة وآلية دعوته للوحدة، ذلك لأن حتى أشجار النخيل في العراق تقول الشعر، ومن جني رطبها انمازت أشعار العراقيين بالحلاوة والطلاوة والعذوبة والجمال، فشعت أنوار الإبهار إلى العالم، ليتحول شعر العرب إلى تميمة تشع أنوارا في ظلمات ومخاطر الطريق، طريق أمة يريد الأعداء أن يطفئوا وهج نورها، وتأبى إلا أن تكون القائدة. ولذا لا غرابة أن تنبعث مشاريع الدعوة للوحدة من خلال الشعر من العراق دون غيره من البلدان العربية، وهذا ليس مصادرة لحق أحد! ولا غرابة أن يستجيب شعراء الأمة لهذه الدعوات فيردوا عليها بأحسن منها شعرا يفيض عذوبة وجمالا ومشاعر حب وود.

وأقول في ختام حديثي: إن ما تؤسس له هذه المشاريع الشعرية البنائية المشتركة؛ التي لا سابق لها في التاريخ كله، لا بين العرب وحدهم، بل حتى في البلدان والشعوب الأخرى، هو شيء أكبر من الشعر نفسه، وفيه دلالات على أن للإنسان القدرة على خلق المعجزات التي تدهش الرائي وتسر الناظر وتجبر الخاطر، وتفعل في جسد الأمة مثل فعل الدواء المقوي في الجسد المنهك المريض. والذي أرجوه وآمله أن تحفز مشاريعنا هذه جميع شعراء الأمة، ليبادروا إلى استنباط موضوعات جديدة على غرارها، وأن يسهموا في رفد المشاريع الجديدة المقترحة بأشعارهم الرائعة، فذلك لا يقوي أواصر الإخوة والصداقة بينهم فحسب، بل ويسهم في الترويج لقضايانا الوطنية، ويعمل على إعادة الاعتبار للشعر العمودي بعد أن تعرض إلى ضغوط شديدة، حدَّت من أثره في الحياة، إلى درجة استهجان بعضهم لمجرد سماعه أو التحدث عنه.

***

الدكتور صالح الطائي

عادة ما يؤدي النقد في الحياة الادبية والثقافة، وما إليهما، دورًا رياديًا يُساهم في تصويب المسيرة وتسديد الخطى، ويلفت النظر، عبر منظار من الماس، إلى أمر، أو أمور غابت عن أصحابها، وكان أجدر بهم الالتفات إليها، لتأتي أعمالهم وممارساتهم أيضًا، أكثر تكاملًا ولياقة. لهذا يُطلب من الناقد أن يكون مُثقفًا مُطلعًا ليقوم بدوره على أكمل وجوهه، وليقدم مساهمته في التقدم والازدهار المنشودين.. دائمًا وابدًا.

الناقد الثقافي والادبي بهذا المعنى يُعتبر ضرورة حياتية لا بد~ منها، لفتًا لما غاب وانبغى أن يكون حاضرًا، ومساهمة في تطورٍ نشده الجميعُ فغاب عن بعضهم وحضر لدى بعضهم الآخر، ومِن المهام الكبيرة التي يقوم بها الناقد الحق، مَهمة المساهمة في الجدل القائم بلورةً لمفهوم أو مفاهيم جديدة عادة ما تحتاج إليها الحياة بشتى مناحيها واتجاهاتها.

من تجارب نقدية سابقة سجّلت نجاحات مشهودة، يمكننا الاشارة إلى المواصفات التالية التي امتاز بها نقاد رياديون في الحياة عامة وفي حياتنا العربية خاصة.

1- تحمّل المسؤولية: أثبتت تجارب الماضيين البعيد والقريب، أن النقاد الحقيقيين، يتحملون مسؤوليتهم تجاه مجتمعاتهم كاملة، ولم يتردّدوا في قول كلمة حق، وانهم قالوا للأعور أنت أعور في عينه ولم يكتفوا بالمقولة التمويهية أنت نصف مبصر. ومن المعروف أن هؤلاء خسروا أحيانًا في قولهم كلمة الحق التي رأوها حاجة ملحة للتقدم والتطور، غير عابئين بالخسارة الآنية ومتطلّعين إلى الربح الابدي. وقد ذكر الناقد اللبناني الفذ مارون عبود في أكثر من مناسبة أنه خسر الكثير من أصدقائه عندما وجّه إليهم سهام انتقاداته، إلا أنه ربح ضميره. وقد استمعت إلى مثل هذا الكلام من الصديق الراحل الكاتب عيسى لوباني الذي اعتبره الكثيرون تلميذًا مجتهدًا لمارون عبود أو احد تلامذة مدرسته على الاقل. الناقد بهذا المعنى لا يقف موقف المتفرّج مما يعاني منه مجتمعه من مثالب، نواقص وسيئات، وإنما يتخذ موقفه الذي تبرع به ويساهم في المسيرة الصعبة. لا سيما عندما تزداد الظلمة المحيطة بها. إنه بهذا المعنى أشبه ما يكون بذاك البدر الذي تحدّث الشاعر عن الافتقاد إليه في الليلة الظلماء. وهو إنسان مسؤول قرّر ألا يكتفي بموقف المتفرج وخاض المعركة واضعًا في حسابه الربح او الخسارة.

2- الثقافة والمنطق: يحتاج الناقد والحالة هذه إلى ثقافة واطلاع واسعين، والا كيف يمكنه المساهمة في تسديد الخطى وتوجيهها إلى اهدافها المنشودة، وسط سديم كوني صعب الاختراق؟ وتزداد الحاجة إلى مثل هكذا ناقد كلّما ادلهمت سماء الثقافة وتعقدت أمور الحياة، ونشير في هذا السياق إلى تجربة المثقف اللبناني الرائع الراحل رياض نجيب الريس فقد بادر بعد مغادرته لبنانه للإقامة في مُغتربه اللندني لإصدار مجلة أطلق عليها اسم " الناقد"، وقد أدت هذه المجلة دورًا هامًا ورياديًا في تطوّر العديد من الرؤى والممارسات الادبية والثقافية، فلتطب ذكراه.

3- الأخلاق: يحتاج الناقد الجدير بهذه الصفة للتحلّي بمواصفات خُلقية أهمها الصدق والتوجّه المبني على منهجية، تنطلق من نُشدان الحقيقية الخالصة، مهما كلفه الامر من خسارة آنية، ونحن نتقاطع هنا مع ما قاله المثقف الفلسطيني البارز ادوارد سعيد طابت ذكراه، فقد وصف المثقف الحقيقي بأنه مشروع لقديس أو شهيد، يحمل روحه على كفه ولا يهاب الردى، بقدر ما ينشد حياة تسر الصديق. الناقد عندما يتحلّى بمثل هكذا خلق يتعالى عن نزواته الشخصية ويحاول الارتقاء إلى ملكوت الحقيقة، إنه يترفّع عن دنايا الامور ويرنو إلى آفاقها العليين. ولا يضع في حسابه سوى الحقيقة الصافية، بالطبع كما يراها من زاويته ومنطلقة المتين القائم على أرض معرفية لا تميد.

مُجمل الرأي ان الناقد الحق هو ذاك الانسان المسؤول المثقف ذو الاخلاق الرفيعة الذي آل على نفسه اتخاذ موقفه وموقعه، في دعم المسيرة الحياتية بشتى أبعادها، مؤثرًا موقف المشارك على زاوية المتفرج... ولامعًا مثل بدر في ليلة ظلماء.. شديدة الحلكة.

***

ناجي ظاهر

القصة من الأجناس الأدبية التي تسْتهوي الكثيرُ من القُــرَّاء الذين يأْسرُهم هذا النوعُ من النصوص الحكائية، فيجدون فيه المتعة، والفائدة؛ بل يميلُ الكثيرُ من هُـوّاة المطالعة لقراءة القصة ويستهويهم هذا الفنُّ، لما يتضمَّنه من الإثارة، والتشويق، والسّحر الأدبي الجذَّاب.

إن لقراءة القصة من جَـمِّ الإفادة المعرفية، واللغوية، والأسلوبية، والمتعة؛ لأن القصة أيضًا قد تكون أسلوبًا تربويٌّا ودعويًّا، قد انتهجه الرسل، والأنبياء في الدعوة إلى الله سبحانه؛ يقول تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. [الأعراف/ 176].

وذلك لــما تحمله القصص من العبر، والأحداث الواقعية التي تُجسِّد الحياة، وتُقرِّبها للأذهان وُتذلِّل فهمها، وتخــتصر الكثير من الشرح، والتبسيط الذي يكون فيه الحديث مباشرًا وعْــظيًّا، قد لا يؤتي ثمرته. وقراءة القصة أيضًا تُنمِّي المدارك العقلية، فقد أثبتَت الدراسات أن القصة تخصب الخيال وتُثريه، وبالتالي تُعطي مرونةً للتفكير، وتزيد من القدرة على الإبداع، فتُنشِّط الذاكرة بسبب حفظ أحداثها ونمط الشخصيات وعلاقتها بعضها ببعض.

في هذا الشّأْن صدر أخيرا عن دار " سامي" للطباعة والنشر والتوزيع بالوادي كتابٌ بعنوان:

{من أرْوع القصص.. في التحفيز والتغيير والسعادة والنجاح} للدكتور الإعلامي السابق في قناة الجزيرة، والأستاذ الجامعي حاليا في جامعة الشهيد حمة لخضر بالوادي. الطاهر اعمارة الأدغم.

الكتاب من الحجم المتوسط في 141 صفحة، تضمّنت إضافة إلى الإهداء والمقدّمة 60 نصًّا قصصيًّا اختارها، وحرّرها المؤلف الدكتور الطاهر الأدغم، مَــحْورها في سبعة محاور:

1 ــ في الحبّ والإحساس والتقدير.

2 ـــ في القوّة الذّاتية والنجاح.

3 ـــ في المهارات والتخطيط والأهداف

4 ـــ في الإيجابية.

5 ـــ في التغيير.

6 ـــ أنا وأنت والآخر.

7 ـــ في الرضا والسعادة.

من مُقدِّمة الكتاب:

«... القصة حاضرة في مسيرة حياتنا، فتقابلُنا، ونحن نقرأ هنا وهناك، ونحن نتحدّثُ مع الآخرين، ونستمع إلى الكبار، وأصحاب الخبرة، والتجربة، وحتى الصغار، وهم يعبّرون ببساطة وعفوية عن قصص، وحكايات، وخيالات.

وفي هذا الكتاب عددٌ مُعْتبرٌ من القصص المتنوِّعة ..60 قصة قرأتُ بعضها في الكتب، واستمعْتُ إلى عددٍ آخر من المحاضرين التحفيزيين، وغيرهم، وتابعْتُ قسْمًا منها عبْر مواقع التواصل الاجتماعي. ثمّ عزمْتُ على جمْعها في كتاب مع شيء من الحذْف، والتهذيب، والزيادة، والإثراء؛ ثم إعادة الصياغة والتصرّف في بعض المصطلحات، والمُسمّيات؛ فعددٌ من هذه القصص وصل إلينا من بيئات ثقافية أخرى؛ ومن ثمّ قد تحتاج إلى تقريب، أو تعديلٍ لِتُناسب ثقافتنا، وقيمنا، وموروثنا الاجتماعي. ص: 05

نماذج قصصية من الكتاب:

ــــ 1000 ألف دولار فقط

{وفي غمرة الفرحة بادر القبطان إلى سؤال الرجل عن أجرته؟

فأجاب: 1000 دولار فقط..

فاستغرب القبطان من هذه الأجرة العالية.. وصرخ في وجه الرجل:

ــــ 1000 دولار مقابل عدّة طَرَقات بمطرقة صغيرة على المحرّك.. وردّ الرجل بابتسامة، وثقة:

ــــ دولارٌ واحدٌ مقابل ضربات المطرقة و 99 دولار مقابل المهارة.}

المتسوّل والاستراتيجية

كان يجلس على رصيف طريق عامٍّ ..يضع أمامه لوحة كُتب عليها:

(أنا ضريرٌ ..أنا فاقدٌ للبصر).

ورغم ذلك لا يكسب من جلسته تلك إلّا القليل من عطايا الناس..عددٌ محدودٌ  من المارّة يهتمّون به، وبشأنه..

في يوم من الأيام مرّ به أحدُ خبراء الدعاية، والتسويق، فأشفق عليه، وتأثّر لحالته..يجلس ساعات عديدة ليكسب دراهم معدودة.. جلسة مرهقة لا يجني منها العائد المناسب. أخذ خبيرُ الدعاية اللوحةَ التي كانت أمام الضرير المتسوّل، وكتب عليها من جديد:

(نحن في فصل الربيع لكننا لا نستطيع رؤية جماله..)

ووضع اللوحة، وانصرف لحال سبيله دون أن يتحدّث مع المتسوّل. ولمّا عاد  الخبير في يوم آخر، ومشى من الطريق نفسها لاحظ أن العطايا التي يقدّمُها المارّة للمتسوّل زادت بقيمة أكبر.

وهكذا ودون الإشادة بالتسوّل مهما كانت الأسباب، والضرورات، نُدْرِكُ بوضوحٍ:

{تغيير الاستراتيجية = تغيير مجْرى الحياة}

قصص جميلة، ماتعة مُحمّلة بتجارب وخبرات استراتيجية تُحفّز على: تغيير مسار الحياة إلى الأفضل، كما التحفيز لتحقيق النجاح والسعادة.

قصص أتت من إعلاميّ سابقٍ متميّزٍ، وباحث أكاديميٍّ جامعيٍّ، ومؤلِّفٍ قدير صدرت له عديد الأعمال، منها:

1ــ قضايا عربية. 2 ـــ قضايا دولية. قضايا سوفية. 4 الفرعونية: تجلّيات معاصرة.5 ــ دندنات ثورية.6 ـــ دندنات ديمقراطية.

***

كتب: بشير خلف

هي سياحة حديثة نسبيا بالمقارنة مع أنواع وأشكال السياحة الأخرى، وقليلة التناول في الادبيات السياحية العربية، وهي أيضا من أنماط السياحة المستدامة التي نشأت في السبعينيات من القرن الماضي، وتأتي في اطار الاقتصاد منخفض الكربون – الاقتصاد منزوع الكربون – الاقتصاد منخفض الوقود الاحفوري – اقتصاد ما بعد الكربون . وتشير (السياحة منخفضة الكربون) إلى تلك السياحة التي تساهم بأقل قدر ممكن من انبعاثات الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري – الاحترار العالمي وتغير المناخ والمعروفة أيضا ب (غازات الصوبة الخضراء) أو (غازات الاحتباس الحراري) من (ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز والكلورفلوركربون وبخار الماء والأوزون) . وهي انبعاثات سجلت قفزة عالية منذ عام 1999 وبنسبة (45) في المائة وفقا للأمم المتحدة . ويتم ذلك بالعمل على محايدة انبعاثات الكربون من قبل وكلاء السفر والشركات السياحية في حدود الإمكان، وتخفيض الأثر السلبي للسفر على البيئة الطبيعية – المحيط الحيوي، باستخدام وسائل النقل الخضراء (السفر المستدام) مثل الباصات والسيارات  الكهربائية منعدمة الانبعاثات والدراجات الهوائية، واعتماد البرامج السياحية الخضراء التي تتضمن المشي وركوب العربات التي تجرها الحيوانات ومنع التدخين واشعال النيران في مناطق التخييم وأماكن التنزه الغابية (الغابات = مصائد الكربون – بالوعات أو مستودعات الكربون) منعا للحرائق وارتياد المطاعم التي تقدم وجبات طعام وطنية معدة من مواد منتجة محليا بالطرق التقليدية وغيرها، وقيام شركات النقل الجوي بمعادلة انبعاثات الكربون وتخفيض بصمته (بصمة الكربون = البصمة الكربونية)، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة والمياه وترشيد استخدامها في المنشآت والمرافق السياحية بمختلف أنواعها وتبني اتجاهات وممارسات خضراء باستخدام مصادر الطاقة البديلة – المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية والحرارة الجوفية، لضمان الاستدامة البيئية والاقتصادية، فكان ظهور: (الرحلات منخفضة الكربون) و(السفر الواعي أخلاقيا)  و(السفر منخفض الكربون) و(المنتجات السياحية منخفضة الكربون) و(السفر المحايد لناحية الكربون) و(العطل منخفضة الكربون) و(الوجبات السياحية منخفضة الكربون) و(السلوك السياحي منخفض الكربون) و(قطاع السياحة والسفر منخفض الكربون) و(الفنادق منخفضة الكربون) و(المقاصد السياحية منخفضة الكربون) و(وجبات الطعام منخفضة الكربون) و(المشروبات منخفضة الكربون) .

وهي سياحة ظهرت وتنامت في السنوات الأخيرة، وانتشرت ثقافتها لدى أصحاب المشاريع السياحية (المنتجون) والسياح (المستهلكون) بتزايد الوعي بقيمة التراث الطبيعي لكوكبنا، وبأهمية البيئة الطبيعية الزاخرة بالأحياء البرية الحيوانية والنباتية والنظم الايكولوجية والتنوع الحيوي (الايكولوجي)، والتي تواجه الكثير من المخاطر والتحديات في ظل تفاقم كارثة التحولات المناخية وتزايد مخاطر الاحتباس الحراري على كوكب الأرض التي تشكل هاجسا حقيقيا للكثير من الحكومات والعلماء ومئات الملايين من سكان هذا الكوكب .

علما تساهم صناعة السياحة على مستوى العالم ب (5 %) من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، وهي ناجمة عن البيوت الزجاجية (الدفيئات) المتمخضة عن الرحلات والاقامات لأغراض السياحة، ومعظمها (أي الانبعاثات) متأتى من أعمال النقل الجوي بالطائرات وبنسبة (40 %)، و(32 %) من النقل البري بالقطارات والباصات والسيارات ... الخ . و(3 %) من بقية أنواع النقل (السفن السياحية – الكروز .. الخ)، أي ما مجموعه (75 %) لعموم النقل بهدف السياحة . أما ال (25 %) من الانبعاثات التي تولدها صناعة السياحة فهي عن بقية النشاطات والاعمال المرتبطة بالايواء (الفنادق والمنتجعات) والطعام والشراب (المطاعم والمقاهي) والترفيه والاستجمام (مدن الملاهي والمدن المائية) وغيرها وفقا لدراسة أعدتها (منظمة السياحة العالمية) التابعة لمنظمة الأمم المتحدة بالتعاون مع (المنتدى الاقتصادي العالمي) و(منظمة الطيران المدني الدولية) و(برنامج الأمم المتحدة للبيئة)، وأصدرتها في شهر حزيران 2009 تحت عنوان (نحو سفر منخفض الكربون وقطاع السياحة) . وبحسب بحث حديث ل (دانيال سكوت وستيفن غوسلينغ وبأول بيترس وكولن مايكل هول) نشر في دورية (السياحة المستدامة 2015) فان استمرار السياحة الدولية على هذه الوتيرة يعني إيصال الانبعاثات التي تسبب بها إلى ثلاثة مليارات طن بحلول 2050، مسجلة بذلك زيادة بنسبة (135) في المائة بالمقارنة مع الانبعاثات الحالية، مع ضرورة الاخذ بعين الاعتبار الانبعاثات الصادرة عن الكثير من القطاعات والنشاطات الاقتصادية التي ترتبط بقطاع السياحة والسفر بعلاقات تكاملية وتبادلية . وهناك دول شهدت ممارسات وتطبيقات رائدة في مجال السياحة منخفضة الكربون في اطار الاستدامة البيئية والاقتصادية والاجتماعية، ومنها تايلاند في (كوه ماك) و(كوه ساموي) و(كوه تشانج) و(كوه كوت) التي تعتبر وجهات سياحية مثالية لممارسة السياحة منخفضة الكربون، ومملكة بوتان التي أطلقت مشروعا سياحيا منخفض الكربون في شباط 2012 ولمدة ثلاث سنوات ونصف وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، بهدف استحداث حزمة سياحية منخفضة الكربون وتسويقها عالميا، وتتكون من (20) منتج سياحي مبتكر منخفض الكربون، وقد جرى اطلاقها في بورصة برلين الدولية للسياحة في دورتها ال (49 / 2015) .

وأيضا استراليا في الجبال الزرقاء (نيو ساوث ويلز)، والصين في منتزه شيشي الوطني للأراضي الرطبة ومنتزه ولينغيوان القومي، ومونتينيغرو (الجبل الأسود) التي تبنت برنامج فعال في سبيل محايدة الكربون في القطاع السياحي وبدعم وتمويل من (مرفق البيئة العالمي) و(برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) وبقيمة (3424000) مليون دولار امريكي، وقد شهدت خلال الفترة 9 – 10 تشرين الأول 2015 انعقاد أول مؤتمر للسياحة منخفضة الكربون تحت رعاية مركز التنمية المستدامة / برنامج الأمم المتحدة الإنمائي .

***

بنيامين يوخنا دانيال

.....................

للمزيد من المعلومات ينظر (السياحة منخفضة الكربون: مقالات وبيبليوغرافيا) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2017 .

 

يمكن للإنسان أن يدخل قلوب الآخرين دون أن ينطق بكلمة واحدة، إذ يكفيه سلوكه الناطق بالصفات الكريمة والأخلاق الحميدة.

الأخلاق الحسنة هي الشيء الوحيد الدائم إلى الأبد وتجلب لصاحبها الاحترام والمحبّة، فالأخلاق هي الرصيد الباقي عند الناس، فإنه بتحسين الخلق نكن أغنى الأغنياء ..

الاحترام وسمو الأخلاق تواضع ورفعة وحكمة وإنصاف وعفو، أيضاً كتمان السر والتقوى والصدق والعفة

وإعطاء السائل والمكافأة بالصنائع وصلة الرحم العفاف وإصلاح الحال وإعانة الجيران جميعها دلالات دالة على حسن الخلق ..

فإن مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلاً بيننا وبين صلاح أمرنا ورشدنا، فمن ادعى الفضل ناقص، إن المرء بالأخلاق يسمو ذكره وبها يُُفضّل في الورى ويوقّر، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، وبأخلاقه يسمو ذكره ..

التبسُم في وجه الآخرين صدقة وتفاؤل ورحمة، فإن حسن الخلق يذيب الخطايا ويّوجب المودّة، فإن خير الناس للناس خيرهم لنفسه، فمَن فرح للناس بالخير ومَن كان خير لأهله ..

الأخلاق بأن تكون صالحاً لشئ ما، مثل الإنسانية والسعي في الرزق والإخلاص والتقوى والمحبة والوفاء والصفاء، فالتربية الخلقيّة أهم للإنسان من الخبز والملبس وإصلاح الأخلاق ومرافقة الأخيار أول الطريق، فإصلاح الأمر بالأخلاق مرجعه وتقويم النفس بالأخلاق تستقم.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا. إن الشريف إذا تَقوَّى تواضع، والوضيع إذا تَقوَّى تكبّر، والعتاب خير من الحقد، والعفو عند المقدرة يصلح الكريم ويفسد اللئيم، إن القدوة الحسنة خير من النصيحة وخير من الوصيّة والقناعة كنز لا يفنى ..

فَمَن تواضع لله رفعه ومَنْ حسن خُلُقُه استراح وأراح، ومَنْ حسن خُلقُه وجب حقُّه. فَمَن شَبَّ على شيء شاب عليه ومَنْ عرف نفسه عرف ربه، ومَنْ لم يقنع باليسير لم يكتف بالكثير. فما يجب عليه غض البصر و ترْك كل إنسان ما لا يعنيه ..

***

منى فتحي حامد - مصر

تعودت أن أشتري خبز  الصباح من عند نفس الخباز وأنا في طريقي لإيصال أولادي إلى مدارسهم .

خباز من القلائل  الذين  يتقنون الخبز في أيامنا.

ومع انتهاء العام الدراسي تخليت عن سلك نفس الطريق وتخليت بذلك عن وفائي لنفس البائع. أصبحت أسلك طريقا مغايرا  يوصلني إلى العمل في أقصر وقت. صرت أقتني الخبز من أي بائع ألمحه بالصدفة.كان الطعم غير الطعم وكان مذاق الخبز يختلف كل يوم من سيء إلى أسوأ.

تساءلت لماذا يضطرنا سلوك طريق مختلف لصباحاتنا إلى التخلي عما يستحق الوفاء؟

قد يجيب من لا يهمه طعم الإجابات"إنها الظروف" وقد يجيب من يجهد  ذهنه في المسببات إنه الإنسان "أحادي الاتجاهات"، ضيع حب الوصول لديه كل المذاقات.

ولكن، أليس الطريق هو الدرب الذي نمشي عليه لكي نصل الي ما نريد؟

أحيانا نمشي في طريق توصلنا إلى ما نريد.  

وأحيانا أخرى نضطر إلى تغيير الطريق  فلا نظفر سوى بما يسد رمقنا دون أن يكون له مذاق الخبز اللذيذ.

نحن قليلا ما نبذل الجهد والعناء لنحافظ على درب  كنا نتذوق من خلاله ونستطعم، مأخوذون بفكرة الوصول.

 لكن كيف يكون الوصول عندما يكون بلا طعم؟

"فكرة الهدف، ‏أن تؤخذ بها، يفوتك الزهر على الدرب وشدو الطير وجمال رنّات خطواتك ، الهدف يسرق منك النزهة ولا يمنحك ذاته.." يقول الشاعر اللبناني وديع سعادة.

***

درصاف بندحر - تونس

 

ظلّ الأدب العربيّ المنطوق والمكتوب باللّسان اليوميّ على هامش الأدب العربيّ الفصيح  بالرّغم من إبداعاته الزّاخرة بالقيم الفنيّة والاِجتماعية إنّه أدب الحياة في أدقّ تفاصيلها النابضة بالشّجون والمعاناة

من آخر ما سمعت من القصائد قصيدة - البالة - للشاعر عبد الحكيم زرير في نادي القراءة بجمعية ابن عرفة وهي قصيدة من الشعر التونسي باللغة اليومية وـ البالة ـ كلمة سائرة على اللسان التونسي وهي كلمة مشتقة من أصلها الفرنسي من فعل emballer وتعني ذلك الكيس الذي يلفون فيه الثياب المستعملة والتي أصبحت أكوامها منشورة في كامل أسواق البلاد وغزت حتى الساحات والشوارع الرئيسية في العاصمة تونس حيث تسمع الباعة ينادون بأعلى الأصوات - م البالة ..م البالة…م البالة…أي أن هذه الثياب حضرت للتوّ فترى القوم رجالا ونساء وشبابا مقبلين عليها يتفحّصونها ويختارون ما يناسبهم من مختلف قطع الملابس وأنواعها من الحذاء إلى القبعات ومن الثياب الداخلية إلى المعاطف ومن الحقائب إلى النظّارات وقد يظفر أحدهم أحيانا بقطع من الملابس جديدة لم تستعمل أبدا وعلامة المحلّ أو المصنع ما تزال مثبّتة عليها .

الشاعر عبد الحكيم زرير نقل كل هذه المعاني والدلالات في قصيدته بأسلوب طريف وهزلي وبكثير من الإيحاءات وفي إيقاع حواريّ يجعل السامع يردّد معه لازمته الشعرية عند نهاية كل مقطع وهي : م البالة….م البالة

القصيدة حاملة لأبعاد اجتماعية واضحة فهي تعبّر عن الحالة الرثّة التي صار يعيش فيها أغلب الشعب التونسي وهذا هو الإبداع ضمن اللغة اليومية ذات الخصائص الفنية الطريفة إضافة إلى معانيها وإشاراتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأخرى….م الباله….م الباله….م الباله…كل شيء في الباله…. أعان الله الشعب على سوء أحواله !!

* القصيدة

ــــــ البالَة ـــــــ

1- البالة البالة البالة

اليوم ناسي في حالة

نسوان مع رجّالة

بالبالة ممحونين

2- الشعب اليوم في حالة

لسوام طلعت شعّالة

صبح عايش عالحثالة

ما تسئلنيش منين

مالبالة

3- بو العيلة آشكون بيه

وسميڨ آشباش يززّيه

آشكون يلبّس فيه

واللهِ عندو سنين

مالبالة

4- أنا ومرتي وصغاري

وما عنديش ما نداري

مستور وحق الباري

ما تسئلنيش منين

مالبالة

5- حبيبي وخويا علاّلة

يتلفنلي يقلّي تعال

توّة حلّيت البالة

نقلّو استنّى درجين

منڤالة

6- هذِيّ اللّبْسَة شْبِيهَا

شِنُوَّة الخايِبْ فِيهَا

مانيشِ مِسِتِيكِي فِيها؟

مَا تِقُلِّيشْ مْنِينْ

مِالبَالَة

7- اش قولك في الكبّوط

بفلسة وزوز خيوط

ومكاتب جلد حوت

ما تقلّيش منين

مالبالة

8- والكسوة موش هبال

وبالصدريّة كمال

حسدني عليها الخال

ما تقلّيش منين

مالبالة

9- اِلسّوريّة شانال

ما خطرتشي عالبال

ومواتية السّروال

ما تقلّيش منين

مالبالة

10- آش قولك في السروال

دجين مالعال العال

ما لبسوشي مارسال

ما تقلّيش منين

مالبالة

11- المريول ديور جديد

مخدوم باباري حديد

ما عندي فيه ما نزيد

وما تقليش منين

مالبالة

12- كرافاتي بالطابع

وهذا العيد الرابع

كي يجينا العيد السابع

ما تقليش منين

مالبالة

13- هالمرسيّاز شبيها

لقيت لبسة وتواتيها

من مدّة انا شاريها

وما تقليش منين

مالبالة

14- بوطي مبطّن وحنِين

وشاري منو اثنين

يِحمل حصحاص وطين

ما تقليش منين

مالبالة

15- الكلّو بالمكشوف

اقربلي شويّة وشوف

لكلاست هاذم صوف

شاريهم بميتين

مالبالة

16- يا خويا يا بن عمي

ساكوش وجلدو غنمي

فيه كتاباتي وقلمي

ما تقليش منين

مالبالة

17- اليُومْ نَعْمِلْ فِي مَرْشَة

بْكِسْوَة رُطْبَة مُوشْ حَرْشَة

ضْرِيتْهأ مُوشْ غَالِيَة بَرْشَة

مَا فَاتِتْشِي الْعِشْرِينْ

مالبَالَة

18- في نصبة عالكيّاس

شريت منها أديداس

راه جاري في البالاص

كبّش يسئلني منين

مالبالة

19- شريتِ لبنتي أمبار

أَمَرِيكِي ومن دنفار

بالتّيكيّة يا فرار

هبلو ويقولو منين

مالبالة

20- برشا ﭭربج وتفش

في كومة متاع دبش

لقيت سبتة جلد حنش

تحفة وتقلّي منين

مالبالة

21- ولقيت سحابة عجب

عكاز بيد ذهب

أرخص من كيلو عنب

اسئلني وقلي منين

مالبالة

22- ونطيحلك بكشكول

بالتّصحاحة متاع جان بول

لا من بوتيك لا مول

زايد تسئلني منين

مالبالة

23- آشقولك في مراياتي

عجبت خويا البياتي

فصالة واللون مواتي

بقى يسئل فيّ منين

مالبالة

24- و سطيّش للحكومة

فيه وريقات ملمومة

مكتوب مصنوع فروما

تحلّفني تقلّي منين

مالبالة

25- الحكومة عملت طلّة

وجاتني بروبة بالحلّة

خرجتلي يا تباركالله

قلتلها منين هالزين

مالبالة

26- خْذِيتِلْهَا زُوزْ سْتَايِرْ

دُنْتَالْ وفِيهَا دْوأيِرْ

مَا كِسْبُوهَاشْ حْرَايِرْ

الأحَدْ مِالمَلاَّسِينْ

مالْبَالَة

27- عندي بنيّة ووليّد

نخمم كيفاش نعيّد

سروال وبوط جديّد

والباقي تقلي منين

مالبالة

28- لولد لقى مريول

أخضر في لون الفول

ومصوّر فيه بريول

يأخذ العقل منين

مالبالة

29- ولبنيّة لقات سوريّة

دنتال وفنطازيّة

فرحانة وتبوس فيّ

آفار تقلّي منين

مالبالة

30- شريت دبيّب لحفيدي

وبكيف صلّحتو بيدي

ما حلمشي بيه وليدي

وزيد اسئلني منين

مالبالة

31- مشيت للسوق ماتينال

لقيت قرص اوريجينال

الأفّيس وفاميليال

بدينار ماهوش باثنين

مالبالة

32- يَا خويا تحبش تلبس

إطلالة على سوق طبّس

خير مالبوتيك وأرخص

هاك تعرف توة منين

مالبالة

***

بقلم سُوف عبيد

منذ الصبا ولوحة الموناليزا (الجيوكاندا) للإيطالي ليوناردو دافنشي (1452 - 1519) تتوطن مخيلتي، وكم قرأتُ عنها وأمعنت النظر فيها، وحسبتها أيقونة الفن ورائعة الأزمان، وتنامت حتى أضفيت عليها تصورات من عندياتي، ومضت تتشامخ وتتأكد عبقرية صاحبها فيها، وتكاثرت القصص حولها، وواقعة سرقتها معروفة، وإضفاء القداسة عليها تنامت في الدنيا إلى درجة خارقة، وأصبحت من أكثر الأعمال الفنية شهرة في تأريخ الفن.

وذهبت ذات يوم إلى متحف اللوفر لرؤيتها، وكانت القاعة تزدحم بالناس من أرجاء المعمورة، وكلما إقتربت منها يتعاظم الزحام والتدافع، وتتسابق آلات التصوير، وبعد شق الأنفس وجدتني قبالتها، ويا ليتني ما رأيتها، فقد تهاوت تصوراتي عنها، ووجدتها لوحة عادية صغيرة الحجم، وإنسحبت من الزحام والأسئلة تعصف في رأسي.

هل نراها كما هي؟

هل نرى ما فينا عنها؟

ماذا فيها؟

لماذا هذا الإهتمام بلوحة بدت عادية؟!!

لهذا اليوم لم أجد جوابا يقنعني، البعض يرى أنها مسألة ثقافة وحسب، غير أن الإعلام سوّقها على أنها الأيقونة الخارقة للطبيعة، والذي رسمها قائد الدنيا بعبقريته الفنية، وهي التي تمثل أروع ما قدمه في حياته، على حد تعبيره!!

فهل رسم روحه فيها؟

هل شحنها بلمسات تتسرب إلى دياجير الأعماق البشرية؟!!

فقدتُ الإهتمام باللوحة بعد مشاهدتها، وكأنها كينونة خيالية سامقة تهاوت عند أول نظرة، وما عادت ذات قيمة ومعنى!!

فهل مَن يخبرنا عما في الموناليزا من أسرار أغفلتها؟!!

***

د. صادق السامرائي

غادر الشاعر الزجلي العربي اللبناني زغلول الدامور عالمنا، يوم السبت السابع والعشرين من كانون الثاني من عام 2018.. تاركا وراءه اسمًا كبيرًا مدوّيًا. وتراثًا مِن القول الشعري الزجلي يستعصي على النسيان.

ولد جوزيف الهاشم وهذا هو اسمه الحقيقي، في إحدى قرى الريف اللبناني عام 1925 وعبّر عن موهبته في القول الشعري الزجلي قبل بلوغه العاشرة من عمره. الامر الذي لفت أنظار أقرانه الطلاب ومعلميه. فأطلقوا عليه اسم زغلول الدامور نسبة إلى بلدة الدامور مسقط راس والده. وقد عرف بهذا الاسم واشتهر به.. منذ سن التاسعة حتى مفارقته الحياة.. عن ثلاثة وتسعين عامًا مباركة وحافلة بالعطاء.

أسس زغلول الدامور فرقته الزجلية الاولى عام 1944. وأقام برفقتها المئات من العروض الزجلية داخل بلده لبنان وخارجه. في دول مختلفة منتشرة في ربوع العالم. ويذكر الناس في بلادنا أيضًا عروضه الشعرية الزجلية في التلفزيون اللبناني قبل العشرات من السنين. وما حفلت به من براعات قولية شعرية ردّدها الكثيرون وحفظوها عن ظهر قلب. وأذكر بالمناسبة كيف كنّا نجتمع برفقة والدتنا الراحلة الغالية لنستمع إلى أجمل الاقوال المنظومة والمعارضات الشعرية المفهومة. وكانت تلك العروض تُدخل البهجة إلى بيتنا وتنشر فيه الحبور والسرور.

من المعروف أن زغلول وأعضاء فرقته انتموا ألى مدرسة الشعر الزجلي المنبري.. وهو يختلف نوعًا ما عن الحداء الشعبي. علما انه ينهل من منابعه الثرة الغنية. والفرق بين الزجل المنبري والحداء يظهر أكثر ما يظهر في أن المنبري يتجلّى في الجمالي الابداعي. في حين أن الحداء يتجلّى في الاساس بالجمالي الاجتماعي تحديدًا. أما ما يجمع هذين الضربين من القول الشعري هو أنهما يقومان على المواجهات فيما بين الشعراء. علمًا أن المنبري قد يعتمد على شاعر واحد مبدع. قريب جدًا من شاعر اللغة الفصحى.. وقد اشتهر زغلول بالمعارضات الشعرية. ويُسجّل له أنه تفوق أيضًا في القول الشعري الذاتي. وسوف أورد في نهاية هذه الكلمة عنه واحدة من زجلياته الجميلة والمعروفة أيضًا.

برحيل زغلول الدامور تنطوي صفحة أخرى من صفحات الزمن الحنون الجميل.. صفحة رائعة ومؤثرة.. ملأت حياتنا وحياة الملايين من أبناء أمتنا العربية بالجميل من منظوم الكلام.. وجواهره النضيدة.

رحم الله شاعرنا المبدع الرائع.. وطيّب ذكراه العطرة.

من أشهر قصائد زغلول الدامور

صدفة التقو بعيونها عيوني

وعالبيت من غير وعد عزموني

وقلبي فلت مني و سبقني وطار

ومدامعي عالدرب دلوني

ولحقت قلبي و عملت مشوار

عبساط جانح ريح مجنونة

ومن غيرتي عليها خيالي غار

و تحارَب جنوني مع جنوني

وصّلت ... ولقيت القلب محتار

والــ عازمتني مقدّرة فنوني

وأحلى ما إيدي تحترق بالنار

عا بابها دقيت بجفوني

وسمعت صوت بيشبه الأوتار

حرّك شعوري و فيّق ظنوني

وقالت يا أهلا ... ودخلت عالدار

وعيونها بديو .... يحاكوني

وايدين مثل الشمعتين قصار

ما عرفت كيف و ليش ضموني

ولفّوا ع خصري داير و مندار

و لولا ما أجمد كان حرقوني

والشعر ياليلي بلا أنوار

من عنبر كوانين مشحونة

وجبين طافح بالحلا فوّار

خلاّ عقول الناس مفتونة

والحاجبين الجار حد الجار

سيفين بالحدّين ذبحوني

وجوز الحلأ عا دَينتين زغار

من الجرح بعد الذبح شفيوني

والأنف قمقم شايلو العطّار

لدموع أحلى زهور ليمونة

لو شافتو بيّا عة الأزهار

بتقول منّو العطر بيعوني

وخدين متل الزنبق بنوار

أكتر ما بدي عطر عطيوني

إلــ بيشوفهم بيقول توم قمار

جاعوا و طلبوا الأكل و المونة

وشفاف حمر بيسكرو الخمار

من فرد نقطة خمر سكروني

وسنان شال الفل منها زرار

بيضا بلون العاج مدهونة

و العنق مثل الخيط عالبيكار

مسكوب لا ورقة ولا معجوني

و الصدر من أتقل و أغلى عيار

متحف درر و كنوز مدفوني

و تفاحتين بيبهرو الأنظار

عالصدر ... يا ريتن يقبروني

و عالخصر عيني بتحسد الزنار

لو مطرح الزنار حطوني

تا كنت أكشف قوة الأسرار

و معليش لو مجنون عدوني

يا ناس هيدا اللي جرى و لصار

و تتصدقوني .... و تا تعذروني

روحوا معي عا بيتها شي نهار

و تفرجوا عا حسنها من بعيد

-- و ان ضل فيكن عقل ... لوموني

***

بقلم: ناجي ظاهر

رغم الآثار السلبية الجسيمة والمعروفة للكوارث الطبيعية على السياحة بأنواعها وأشكالها، وبخاصة السياحة البيئية والسياحة الساحلية وسياحة الرياضات المائية (الغطس، التزحلق السريع، الإبحار بقوارب الكياك، ركوب الأمواج...)، فقد تكون لبعض هذه الكوارث المتمثلة في الزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات والتسونامي وحرائق الغابات.. الخ بعض الاثار الإيجابية أيضا، وفي بعض الحالات المحدودة، فكان ظهور نمط سياحي جديد أطلقت عليه تسمية (سياحة الكوارث). وسوق نسوق هنا بعض الامثلة على ذلك. أولا: حالة مقاطعة (الباي) في شمال شرق الفلبين التي انفجر فيها مجددا في كانون الثاني الماضي 2018 بركان (مايون) الشهير، نافثا إلى السماء أعمدة الحمم والرماد والبخار،و أضر بمدينتي (غينوباتان) و(كاماليغ) على نحو كبير، ولكنه أغرى وجذب الكثير من السياح الذين صاروا يتوافدون على المناطق التي حوالي البركان للفوز برؤية المناظر الغريبةالتي خلفتها هذه الكارثة الطبيعية، والتقاط الصور التذكارية النادرة بالقرب منها، فارتفعت التدفقات السياحية في أجزاء من المقاطعة بشكل ملحوظ، وتوسعت بعض النشاطات السياحية فيها. ثانيا: حالة بركان (ايافيالايوكل) إلى الشمال من (سكوجار) في ايسلندا الذي شهد العديد من الثورات في تاريخه، وعدة نشاطات قوية في عام 2010 لدرجة عطل السفر الجوي في غرب وشمال أوروبا لأيام في نيسان وأيار من السنة المذكورة بسبب الرماد البركاني الذي تسبب بغلق المجال الجوي فوق اسكتلندا وايسلندا الشمالية، وهناك متحف (مركز زيارة) خاص بهذا البركان أفتتح في 14 نيسان 2011، ويزوره السياح من داخل وخارج البلاد للوقوف على بعض خفاياه وأسراره عن قرب بعد ان صار معلما من معالم البلاد السياحية ومن أهم المغريات السياحية الطبيعية. ثالثا: حالة منطقة (سيداورجو) بجزيرة (جاوة) الاندونيسية التي دمرتها النشاطات البركانية في 29 أيار 2006، وقد غدت الآن قبلة للسياح من مختلف بلدان العالم. وكذلك الحال بالنسبة لبركان (توريالبا) في كوستاريكا، وبركان (ماسايا) في نيكاراغوا وبركان (نييراغونغو) في الكونغو وبركان (كيلوييا) في هاواي.

***

بنيامين يوخنا دانيال

أحافير في الحب  

إلتقيته صيف العام الماضي، في ورشة عمل معمقة عن ماهية الشيخوخة وعوارضها الزاحفة، التي تنتهي لإحداث فجوات في الذاكرة، استضافتها آنذاك جامعة إرسموس في هولندا.

لاحظت حرصه الشديد، على إبقاء جواله ممسوكا في أيٍّ من يديه، فسألته عن السبب، فأخبرني   بأن شريكته البالغة من العمر أكثر من سبعين عاما، بدأتْ منذ سنواتٍ قريبة تكثر من مهاتفته، تسأله عن أشياء كثيرة. فأحس مذعورا وهو الطبيب المختص، بأن السيدة التي يُحب، قد بدأتْ تُعاني من فقدانٍ تدريجي لذاكرتها. وعزا ذلك للعلاجات التي تتلقاها، والتي بآثارها الجانبية تعجل في الإسراع بظهور أعراض فقدان الذاكرة.

إبتسم صديقي إبتسامة مُشفقة وهو يُتابع تفسيره: إنها تُعاني من بعض مشكلات الذاكرة، تنسى أين خبّأت مِشطها، أو شيئا من زينتها، أو نظارتها أو إفطارها، أو حتى دواءها. في بعض الأحيان أبكي لأجلها ومن أجلنا، لشعوري بأنني بتُّ أفقدها بالتقسيط المُمِلِّ المُوجع.

وفي بالي ضيقُ أصدقائي الذين يشفقون علي، وهم ينَبِّهونني إلى أنني أروي لهم الحكاية نفسها عدة مرات، سألته: هل تُخطئ في الأمور التي تهمكما معا . 

قال: مما يخفف من وطأة ألَمي واكتئابي أنها لو نَسِيَت جُلّ الأمورغير الجوهرية، إلا أنها نادرا ما تُخطئ في الأمور التي تهمنا معا. فهي لا تنسى عيد ميلادي، أو عيد زواجنا ولا قُبْلَتُنا البربرية الاولى. وتابع بفرح يقول: وحتى لو نسيَ عقلُها شيئا، فأنا لا أنسى أين تختبئ في عقلي وفي قلبي، وفي كل مجرات حياتنا المشتركة، طيلة أكثر من خمسين عاما.

كنتُ سعيدا بما اسمع فقلت: بالطبع يا سيدي، العقل هو الأكثر هشاشة من القلب، وهو الأولى بنسيانٍ يستنزفه قبل القلب. ولا وجود لقلبٍ ينسى أين خبَّأ كنوزَه، القلبُ لا يستسلم حتى وإن اختنق، لأنالشريك الصالح كنز يُحسَد واحدنا عليه.

ولكن علينا يا صديقي، منذ تباشيرالعقد الخامس من العمر، البدء بتخيل ماهية الشيخوخة، والتيقظ لعوارضها الزاحفة، ففيها ننتهي إلى أولى فجوات الذاكرة، وعلينا التعود على هيئاتها ومواعيدها بل ومصادقتها.

وبدأت التفكير بمعايير الشيخوخة، ولكني سرعان ما نسيت أن أعراض اضطراب الذاكرة، وتداخل الرؤى، واختلاط الصور، وتدهور الوظائف المعرفية للمخ، تبدأ في العادة في منتصف اربعينيات العمر، وفي العقد الخامس منه  تكتمل الصورة العدمية للمرض الذى يداهم المخ، وينزلق الواحد منا إلى موات قبل الموت، يقودنا الى انحسار العقل وضياع الذاكرة، ويسلبنا سنوات الحكمة، وحصاد المعارف وثمار العمل.

***

الدكتور سمير محمد ايوب – الاردن

 

أبو الفضل جعفر بن المعتضد (282 - 319) هجرية، تولى الخلافة في عمر (13) سنة، (295 - 319) هجرية، لمدة (24) سنة، ومات في عمر (37) سنة.

خلع مرتين في (296) وفي (317) هجرية .

إستصباه الوزير العباس بن الحسن فعمل على خلعه، ومبايعة عبدالله بن المعتز، لكن المقتدر بالله أغرى الوزير بالمال فعدل عن أمره، وحصلت مأساة (إبن المعتز)، (247 - 296) هجرية،  الذي أصبح خليفة لأقل من يوم.

حيث تمكن المقتدر بالله الصبي أن يقلب الطاولة عليه وينهيه، ويقضي على من بايعوه من الفقهاء والوزراء. والبعض يرى أن والدته شغب وخالته خاطف ودستنبويى كانت تدير الأمور.

قال الطفطفي:" واعلم أن دولة المقتدر كانت دولة ذات تخليط كثير لصغر سنه، وإستيلاء نسائه عليه، فكانت دولة دور أمورها على تدبير النساء، فخربت الدنيا في أيامه، وخلت بيوت الأموال، واختلفت الكلمة، فخلع، ثم أعيد، ثم قتل"

وقال الذهبي: " إختل النظام في زمن المقتدر لصغره"

"إستوزر أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات، وفوض إليه الأمور لصغره، واشتغل باللهو واللعب، وأتلف الخزائن".

وفي سير أعلام النبلاء: "كان ربعة، مليح الوجه، أبيض بحمرة، نزل الشيب بعارضيه"

وهو في عمر (20) ختن (5) من أولاده.

وخلف (12) ولدا.

في سنة (301) أدخل الحلاج مشهورا على جمل إلى بغداد، ثم حبس إلى أن قتل سنة (309) بإفتاء القاضي أبي عمر والفقهاء والعلماء بأنه حلال الدم.

"وفي سنة (306) صار الأمر والنهي لحرم الخليفة ولنسائه لركاكته، وآل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر بمثل القهرمان (مدبرة البيت ومتولية شؤونه) أن تجلس للمظالم وتنظر في رقاع الناس كل جمعة، وكانت تجلس وتحضر القضاة والأعيان وتبرز التواقيع وعليها خطها".

وفي سنة (317) حصل إنقلاب عليه وتم خلعه وبتدبير أمه أعيد للخلافة.

"كان المقتدر جيد العقل صحيح الرأي، لكنه كان مؤثرا للشهوات والشراب مبذرا، وكان النساء غلبن عليه، فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة ونفائسها، وأعطى بعض حظاياه الدرة اليتيمة ووزنها ثلاثة مثاقيل..."

"إنتهى المقتدر بأن قتل بحربة وقطع رأسه بسيف وشيل على رمح، وسلب ما عليه، وترك عاريا، حتى ستر بالحشيش، ثم حفر له بالموضع فدفن"

صبي مراهق يتولى خلافة دولة فماذا يُرتجى منه؟!!

وكيف تقبل رجالات الدولة بذلك؟!!

هنا تكمن المعضلة، أن الدولة تحتاج إلى رمز وكفى، ومن يديرها يديرها على هواه، من الوزراء والقواد، لعدم وجود القوة الواعية الخبيرة الفاعلة التي تقرر الأمور.

فهذا الصبي عهد بالأمر لأمه ولوزيره وإنغمس باللهو واللعب والملذات، التي وجد نفسه في غمرتها، فلا هم عنده سوى النساء وشرب الخمر، وإرضاء شهواته المتأججة.

ولهذا تسيبت الأمور وتزايدت الإضطرابات، وتوزعت الدولة بين المنشقين والمناوئين والحركات والثورات التي إستقلت بممالكها، وأسست كياناتها.

"لما إشتدت علة أخيه المكتفي سأل عنه، فصح عنده إنه إحتلم، فعهد إليه"

هكذا يولى الخلفاء ولا معنى للكفاءة والخبرة والحكمة، المهم أنهم من نسل خليفة وحسب، فهي المؤهَّل الأضمن مادام الحكم وراثيا.

وبهذا الأسلوب القاصر أصيبت الدول بالمآسي والنواكب والويلات المتعاظمات، وقاست الدولة الأموية والعباسية الشدائد والمنازعات والإنشقاقات، وتخربت ديار المسلمين وقتل عشرات الآلاف منهم، بسبب سوء أنظمة الحكم وقصورها وعدم قدرتها على بناء النظام العادل المراعي لمصالح الناس أجمعين، فكان مذهب الحكم القوة وفرض شريعة الغاب التي أحضرت الصعاب.

ويبدو من سلوكياته وما آلت إليه خلافته بأنه كان جاهلا ومغفلا وربما مصابا بإضطرابات في الشخصية، لشدة قسوته وإجرامه بحق أقرب الناس إليه، وفي ذات الوقت يسرف في الإغداق على جواريه ومحظياته، ويذعن للنساءِ والرجال والغلمان والجواري من حوله.

فهذه صورة من نواكب الحكم الوراثي الذي أزرى بهيبة الأمة، وقضى على مسيرتها الحضارية المتوهجة، ودليل على أن القيادة تقرر مصيرها.

فكيف يصح في الأفهام أن يكون الصبي خليفة؟!!

***

د. صادق السامرائي

و أنا أقرأ كتاب "الولد الشقي في المنفى" للكاتب والصحفي الكبير محمود السعدني اخو الفنان  صلاح السعدني لفتت انتباهي مسألة اقتراب المثقف من السلطة فهذا الاقتراب في كثير من الأحيان يكون وبالا على المثقف يخسر أكثر مما يكسب  فرغم صداقة السعدني للسادات إلا أن هذا الأخير اعتقله بتهمة التآمر عليه والمشاركة في محاولة الانقلاب على الحكم وكانت نتيجة ذلك منعه من الكتابة الصحفية والاشتغال في أي منصب فكان ذلك بداية رحلة المنافي والتيه في عدة دول في ليبيا والكويت ولبنان ولندن والعراق وكل دولة يذهب إليها يؤسس فيها صحف ومجلات بدعم من أصحابها وهذا لشهرة محمود السعدني فعند ذهابه إلى ليبيا والتقائه بمعمر القذافي رحمه الله وكان من قرائه توسط إليه لدى الرئيس أنور السادات فرفض كان غاضبا عليه لأنه سمع أنه ينكت عليه والكاتب محمود السعدني يملك هذا السلاح الفتاك وهو السخرية، كتاب مانع يحكي عن تجربته بعد مغادرته مصر وخاصة في لندن لعلاج ابنته التي عانت من الشلل وبعد عمليات جراحية كثيرة استطاعت أن تمشي على قدميها ولم يجد من يدفع ثمن المستشفى إلا وزير خارجية الإمارات أحمد خليفة السويدي وهو أول وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة...

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية:

 شدري معمر علي

أصبحنا نرى من قرأ كتيب بسيط يتبختر والقنوات الفضائية تستضيفه وكأنه من العلماء الكبار وترى على وجه من يستضيفه الفرح لإستضافته ونرى من لم يقرأ ويعتمد فقط على ما يسمعه من هذا وذاك دون السعي للقراءة والبحث والتقصي لمعرفة الحقيقة المغيبة عنه يفتخر لسماعه ومشاهدة الضيف المذكور وإعتماده على ما يقوله دون أي تفكير بل يضخم ما قاله الضيف وأحياناً يضيف ما يجول في خاطره ويصبح الموضوع كأنها الحقيقة المطلقة، والأمثلة كثيرة والمساحة المتاحة لأمثال هؤلاء واسعة .

في الوقت نفسه لدينا من المفكرين والفلاسفة ومن لديهم باع في تخصصهم ومجال عملهم لا يجدون هذه المساحة الواسعة ليطرحوا الأفكار التي يستفيد منها المجتمع لتوعيته ووضع النقاط على الحروف وإيضاح ما هو غامض وغير مفهوم بكل بساطة والوقت الذي يقضيه هؤلاء في البحث والتقصي ومراجعة ما هو مكتوب وتنقيحه ورفع الشوائب منه وشرح ما لم يعرفه ويفهمه العامة من الناس .

يوسف زيدان المفكر والفيلسوف والروائي المصري المتواضع الذي يكرس وقته لإيصال المعلومة برحابة صدر ودون مللٍ تراه يسعى جاهداً في سبيل ذلك بالرغم من ضيق وقته وتراه يبدا بكتابة رواية وفي نفس الوقت يتواصل مع قراءه ومحبيه ومتابعيه على صفحته في الفيس بوك ويجيب على اسئلتهم الكثيرة بكل بساطة دون أي غرور منه بل على العكس تجده مبتسماً وفرحاً وغايته ايصال المعلومة للجميع، وتلاحظ في عينيه كل الترحيب وتعتبره من العائلة وتعيش معه لحظات من الحب والالفة وتراه طيب القلب مبتعداً عن القسوة في الرد على من يحاول ان يستفزه .

تراه كريماً في كل شيء يقدمه ولا يبخل على احد بالجواب أو تقديم المشورة أو حتى من يريد ان يلتقي به في اي وقت شاء متعته الكرم وإيصال كل ما هو مفيد للجميع، كرمه يجعل متابعيه ومحبيه يطلبون منه المزيد .

شجاعته في الدفاع عن ما يكتبه وما يقوله من حقائق غائبة عن الكثير بالرغم من الهجوم الشرس عليه من اطراف لا تريد ان تصل الحقيقة الى العامة من الناس ولا ترغب في إعمال العقل للوصول الى بر الأمان وتراه بكل بسالة يصل الى محبيه ويتواصل معهم كالمحارب ولكن في جبهات الفكر والأدب .

عدم الخوف من قول الحق وإن كانت الضغوط كبيرة وغير مبررة، تجده يقول ويكتب ما وجده في بطون الكتب والمخطوطات التي كانت في ادراج المكتبات وفي المتاحف المختلفة في ارجاء المعمورة وعلى حسابه الخاص، على عكس ما تم تعليمنا في المدارس وكتب التاريخ التي بين يدينا .

سلاحه القلم ودرعه الورق وفي كلامه الكثير من الحِكَم يحارب من اجل إعمال العقل .

انه يوسف زيدان الفيلسوف الفارس

***

بقلم: جلال باقر

(رسالة مقتضبة إلى فنان شاب)

* يُطلب منك أخي الفنان الشاب في بداية طريقك الفني، وحتى بعدها، أن تستزيد من العلم والمعرفة في المجال الفني، فإذا ما قرّ رأيك على الفن التشكيلي، فعليك أولًا أن تطّلع على تاريخه، أعلامه ومدارسه، وعلى الآراء المختلفة فيه، فأنت إذا ما فعلت هذا تعرف أين أنت تقف، ومِن ثمّ تعرف كيف يمكنك التحليق في سماوات الفن الرحيبة. أضف إلى هذا أنه لا يوجد فنان في العالم بإمكانه البدء من نقطة الصفر، وإنما هو يبدأ من حيث انتهى آخرون ويشكّل لبنةً جديدةً في عالم الفن الرائع. ثم انه بات من المفروغ منه في عصرنا أن الفنان الحقيقي الجدير بهذه الصفة، لا بُدّ له من الاعتماد على ثقافة عميقة في مجال اختصاصه سواء كان فنًا تشكيليًا أو نحتًا إبداعيًا. لقد باتت الثقافة في عصرنا أكثر من أي من العصور الماضية مطلبًا مُلحًا للفنان الحقيقي.. ناهيك عن أن الدهشة وحب الاستطلاع الطفولية هما، بإجماع ليس بسيطًا، من صفات الفنان المبدع على الاطلاق.

* بعد أن تُعد نفسك إعدادًا جيدًا لخوض المجال الفني، بالدراسة وبذل الجهد للاطلاع والتثقف والمزيد منهما، تأتي الفترة الأولى في الابداع الفني. في هذه الفترة يمكنك أن تتأثر، بفنان قريب من نفسك، ويلقى هوىً خاصًا في رأيك، على أن هذا التأثر يفترض أن يبقى في حدود التأثر وألا ينتقل إلى حالة التقليد. بعدها عليك أن تتخلّص، بأقصى ما يمكنك، من تقليد فنانك المُحبّب الاثير لديك، لتبدأ رويدًا رويدًا بالاستقلال بشخصيتك الفنية المستقلة، ولتوجد بالتالي أسلوبك وبصمتك الخاصة بك كما يُفترض بكل فنان حقيقي. يمكنك في هذه الفترة أيضًا أن تقوم بوضع رسومات تقوم بنقلها عن الواقع فوتوغرافيًا، إلا أن هذه تعتبر فترة تمارين، بعدها يفترض فيك أن تقوم بوضع الرسومات التي تجسّد رؤيتك ورأيك للواقع كما تراه أنت وليس كما هو في الواقع وكما يراه آخرون. هنا عليك أن تعرف أن الفن التشكيلي هو في الواقع تفكيك للواقع وإعادة بناء ذي رؤية خاصة.

* في فترة تالية، عليك أن تتحلّى بالمرونة، فلا تغلق أذنيك عن الاستماع إلى الآراء النقدية الصادقة، كما تستشعرها، وأن تستفيد من هذه الآراء لا سيّما إذا كان مصدرها ثقة، وهنا أحذرك من الاصغاء إلى الآراء ذات الغرض، بمعنى أطلب منك أن تحذر آراء من يحبونك من المحيطين بنفس القدر الذي أحذرك فيه من آراء من تَشعر بنوع ما من الكراهية من جانبهم تجاهك، فصاحبا وجهتي النظر هاتين ذوا غرض، وهُما في كل الأحوال، ليسا مُخلصين تمام الإخلاص في قولهما رأيهما. هنا قد تتساءل مَن هو صاحب الرأي المفترض قبوله، فأقول لك إنه الانسان المتخصّص العارف، فرأي مثل هذا، إذا كان حقًا متخصصًا ومُخلصًا، يعادل ملايين الآراء لأناس ليسوا من أهل العلم والمعرفة.

***

يوجهها: ناجي ظاهر

ليلة أمس جالست صديقا ممن يهتمون بالشعر الشعبي ودار بيننا حديث طويل وفي أثناء الحديث سألني عن سبب تسمية (الدارمي) بغزل النساء أو شعر النساء فأخبرته برأيي الشخصي وليس المتداول وقلت في الزمن الماضي كانت السطوة في الشعر الشعبي للابوذية وكان هذا النوع من الشعر مختصرا غالبا على الرجال وكان يقابله عند النساء (النعي) وهو أيضا يتألف من ثلاثة اشطر وقفل لكنه غير ملتزم تماما بجناس الابوذية ويستخدم عادة عند الفقد أو في البعد أو العتب وكان حكرا عليهن ويعاب الرجل أن نظمه أو انشده كما يعاب على الرجال البكاء في المواقف الصعبة واشتهرت ناعيات في أماكن كثيرة حتى ضرب بهن المثل وقد تكون (فدعه بنت علي الصويح) اشهرهن والنعي هو أحد روافد التعزية الحسينية لذا ابتكرت امراة هذا النوع من الشعر واطلق عليه اسم (الدارمي) وليس مهما ان يكون اسمها (مي) ونسب الى دارها او انها تميمية من دارم المهم ان الدارمي اتاح للنساء بث لوعتهن وتنهداتهن والبوح بمعاناتهن واخبار الحبيب والمقصود من خلال هذه الرسالة (الدارمي) والتي لا تتعدى البيت الواحد من الشعر ودارمي النساء يقابل شعر الرجال الابوذية.. تقول احداهن.. (هزيته واهتزيت واهتزت اعضاي شميته واشتميت بيه ريحة اهواي) أما الابوذية فهي شعر الرجال الأول يضمنونه فخرا وحماسة ونسيبا وحتى تشببا بالحبيبة وقد يستخدم كرسالة وبرع فيه الكثيرون ربما اشهرهم في الزمن الماضي (العبادي) وابنه حسين والذي كانت في زمنه الابوذية تسمى (العبوديه) نسبة له ودون هذا البيت على انه الأول في هذا النوع من الشعر.. (عيوني عمن يبن امي على الراح ابو ريج اليميزونه على الراح مثل ماثبتن الخمسه على الراح ثبت حبك بكلبي للمنيه) وعندما توفي العبادي حمل ابنه (حسين) اللواء من بعده وله بيت جميل يتداوله عشاق الابوذية وينشده المطربون.. (ادك اتيول متعهد مردهن اجلاي برمشة عيونه مردهن يوادم جان العبادي مردهن توفى وذب طلايبهن عليه) وتناقل حمل لواء الابوذية شعراء كثيرون حتى وصلت الراية في زماننا المعاصر إلى (ابو معيشي) الناظم الذي طبقت شهرته الآفاق وتغني الكثيرون بما نظم ولازالت أبياته يتداولها السمار في مجالسهم ويترنم بها العشاق ويرددها المطربون ويستشهد بها الآخرون وبين زمن العبادي وزمن ابو معيشي برز الآلاف من ناظمي الابوذية وضمنوا ابياتهم احسن الحكم وأعلى الفخر وأجمل الغزل وأدق الاغراض ولم تخفى اغراض الابوذية على اللبيب المطلع لكن ما اتعبني ليلة أمس هذا البيت الذي حفظته في الطفولة ولم اهتدي لمعناه حتى المشيب مع اني فككت أغلبه لكن شطرا واحدا بقى عصيا حتى اليوم.. يقول البيت المذكور.. (لها عين المها وركبه بهايوز صدت شافت العتعت بهايوز شفت بكشه على صدره بهايوز السفرجل والطرنج بوسط ميه) الناظم في الشطر الأول يصف تلك المرأة ويقول لها عين غزال ولها رقبة طويلة احاطتها بزوج من القلائد وفي الشطر الثالث يصف صدرها ويشبهه بصرة ملونة اعتمادا على لون ثوبها ويفقل التشبيه بوصف النهدين وتشبيههما بفاكهتي السفرجل والنارنج من حيث الرواء والحجم والتصاقهما بجذعها لكن أقف عاجزا عن فهم ماقصده في الشطر الثاني.. (صدت شافت العتعت بهايوز) واتسائل ماهو (العتعت)؟ هل هو نبات تبحث عنه؟ أو شامت أو زوج ربما؟ لأنه لمح من خلال وصف نهديها أنها ليس عذراء أو صبية وماذا تعني كلمة (بهايوز) التي جعلها جناسا لبيته؟ هل هي مكان؟ أو شيئا آخر؟ اتمنى ان اجد بين القراء من يخرج هذا المعنى من قلب الشاعر.

***

راضي المترفي

 

تستيقظ صباحا والجو بارد، وترتدي ملابسك على عجل، ودون فطور تنزل الدرج منذ ثلاث سنوات، لا لشيء إلا لتبدأ رحلتك من جديد، تلك الرحلة السيزيفية التي لا تنتهي إلا لتبدأ. تعبر الشارع الفسيح مهرولا، وتنظر إلى ساعتك اليدوية لتجد أنك متأخر، وأن ارتداء الملابس قد أخذ منك وقت الفطور، فتزهد في كل شيء لما تجد الحافلة قد مرت قبل وصولك بدقائق. تنظر مجددا لساعتك، وتسلخ رأسك الصلعاء في حركة جنونية، فتلمع فكرة العودة إلى البيت، إلى فراشك الدافئ، إلى عجزك عن تسديد ديونك، لكنك تعزف عن الفكرة وأنت في طريقك، فتختار دخول مقهى الحي. وأنت داخل، تلقي نظرة على الكراسي الشاغرة، ولا ترى في المقهى إلا العجوز الستيني "با العربي". تتساءل عن سر هذا الثبات والجمود؛ لأنك ترى هذا العجوز جامدا في مكانه، لم تتغير الهيئة التي تركته عليها ليلة أمس، فتظن أنه لم يبرح مكانه، وأنه قد قضى ليلته هناك.

تصافحه كالعادة مبتسما، وتنزوي في مؤخرة المقهى وتخرج هاتفك المحمول؛ تبحث عن رقم رفاق العمل وتهاتف أحدهم، يخبرك أنه لا جديد تحت الشمس، وأن العمل المنتظر لم يأت بعد، وقد لا يأتي في ظل الظروف الحالكة. تعيد هاتفك لجيبك، وتنادي النادل المتثائب عله يحضر لك طلبك المعهود: قهوتك السوداء كأنها علقم، لكنه يخطئ الخدمة، فيحضر لك قهوة مذاقها حلو. تتساءل في خلدك: ربما نسي، أو أن النوم الماكث في عينيه قد أنساه، لكنك لا تبالي لذلك؛ لأن ما يهمك هو بداية الرحلة المكوكية.

تقوم من مقامك، وتلوح النادل بحركتك المألوفة، فيهم أن لا شيء في جيبك، وإذ تجدك في الشارع تعبره طولا وعرضا تبحث مجددا، تبحث عن سبب ذلك الصوت الخافت الذي يئز كيانك، تفتش عنه في الوجوه الواجمة، في الكتب المغبرّة، فلا تعثر على شيء.

يترعرع اعتقادي يوما بعد يوم، فتذهب في جنونك وتظن أن في الأفق معنى محددا، ولكنك لا تجده ولا يجدك، فتعود إلى البيت لتنام فلا نوم يأتيك، تقرر الخروج مجددا فتخرج، تفرك عينيك المتعبتين لترى فلا ترى.

تنظر إلى ساعتك لتلفي نصف النهار قد انصرم، وتفكر مجددا في عمل يملأ فراغ النصف المتبقي، فتتذكر الحديقة العمومية، تزور بائع الفواكه الجافة أولا، ثم تيمم وجهك شطر الحديقة.. لا شيء تغير هناك؛ فالكراسي الإسمنتية ما تزال في مكانها، والأشجار الذابلة مستقرة على حالها، والمتسكعون لا زالوا يتسكعون.. فتقرر العودة.

لا تعلم وجهة محددة تقصدها، وإنما تخبط في الأرض خبط عشواء، وتمشي جهة اليمين وجهة الشمال، وتتمايل كالغصن المنكسر، تتذكر ديونك وفاقتك، وتستحضر رفاقك وكلماتهم، لكنك بدون أهل ولا رفيق، وحيدا تركض وراء مصدر الصوت.

تتعب نفسك وتكل قدماك، تنام على الإسفلت منتظرا الخلاص، وتغمض عينيك كلما لمحت سيارة متجهة نحوك، لكنها تتجنبك وترأف لحالك.. لا الموت زارك، ولا الهدوء ساد نفسك؛ ما زالت حالك مضطربة، ووجهتك مغتربة.

وبعد لأي، تستفيق من سكرتك، وتلفي نفسك محمولا على أيد رجال أربعة، لست ميتا وإنما يطوفون بك الحياة طولا وعرضا، لتعلم أن مصدر الصوت الخافت هو غربتك، وأن النجاة منها هي الارتمام في أحضان غربة وعزلة قاسيتين، لتخرج منهما منتصرا أو منهزما.

إنه الفراغ والغربة والعزلة، فإن لم تشف منها فإن عذاباتك لن تتوقف، ونزيفك سيظل مستمرا حتى تلتهما. عش في الضجيج والحركة وأنت هادئ ساكن، وفي السكون والهدوء اصنع صخبك وحركتك لئلا تموت صبرا.

***

محمد الورداشي

 

- في لوحاتها شيء من فتنة المشاهد والطبيعة والورود وأحوال عازفي البيانو والسكسوفون..

- "الرسم مساحة من النظر والسفر والحلم وأسعى الى التعبير عن ذاتي وأحاسيسي في هذا العالم.."

الفن فكرة القلب والأفق حيث النظر تجاه العوالم بكثير من الحلم والطفولة الكامنين في الدواخل قولا بالينابيع والكينونة في تجليلتها نحو البعيد بشتى عناصره وتفاصيله تقصدا للجمال والممكنات الحافة به...

هكذا هي لعبة الفن اذ تأخذ الكائن الى مناطق أخرى من أحلامه في سفر لا يضاهى تشوفا لسحر الأشياء وشوقا وابتكارا وذهابا نحو هامش في الأقاصي..كل ذلك في ضروب من طفولة ونشيد .

و الرسم هنا والتلوين مجالات مرح في هذه الشواسع من أرجاء الفن الزاخرة بالمشاهد والأشكال والأحوال .. وهكذا على نحو من غناء الذات وهي تتجول في باحة الحياة ترى ما هو ترجمان براءتها في الألوان مثل أطفال في حدائق من نعاس يغمرهم فرح التلوين والقول بالرسم عالما وملاذا وتعبيرة فارقة عن أعماق هي حاضنة غناء خافت ملون بالموسيقى وبالكلمات ترسل معانيها عاليا وبعيد.

و هكذا نلج عوالم الرسم مع فنانة غمرتها بهجة الولع والوله تجاه الفن لتمضي في هذا الحلم منذ رغبات أولى حيث الطفولة .. لتعود الى حلمها القديم في هذه السنوات بكثير من العشق والشغف المكلل بالألوان لتغدة أنثى القماشة ديدنها تحويل الجهات الى علبة تلوين.

الفنانة التشكيلية فيروز بن صالح الغنجاتي تعلقت بالرسم لتسافر معه كعصامية لتمر بمراحل التكوين والتمرس بالعملية الفنية التي تقول انها تواصل في نهجها للتمكن أكثر من الألوان وأسرارها ..

في لوحاتها شيء من فتنة المشاهد والطبيعة والورود وأحوال عازف البيانو وعازف السكسوفون وهنا يكمن عشقها المجاور للموسيقى كحاضنة لديها للأصوات والأغاني بداخلها..الى جانب العوالم الحالمة في أعمالها الفنية ومنها تلك النافذة المكللة بالوروج والأغصان والخضرة حيث بهاء النور من قنديل يحرس المشهد في شاعرية بينة..

في معرضها المشترك مع الفنانة التشكيلية نسرين تمسك برواق الفنون علي القرماسي بالعاصمة والمفتتح يوم الجمعة 20 من جانفي الجاري تنوعت لوحاتها في أحجامها ومواضيعها لنذكر منها "حقول القمح" و"زنبقة الماء" و"ورود" و"نظرة" و"نسمة ربيع"

و"نغمات تشلو" و"عازف الجاو" و"سيدي بوسعيد".. وفي كل الأعمال حرصت الفنانة على اللعب على فكرة التلوين في شيء من التدرب والمحاكاة وهي التي تمضي في تطوير التجربة في طريق الابتكار والابداع المفتوحة على الزمن والوعي والمغامرة والفن هو المغامرة وفق الزمن في عالم مدهش ومتغير.

عن أعمالها تقول الفناة فيروز " الرسم مساحة من النظر والسفر والحلم وأسعى الى التعبير عن ذاتي وأحاسيسي في هذا العالم عبر ما أرسمه لتتعدد مواضيع لوحاتي التي يجمع بينها سحر عالم الرسم وما يمنحه لنا من حلم وابداع...أتمنى النجاح في مسيرتي وتجربتي وأعد لمعرضي الشخصي الذي هو مرحلة مهمة من عملي الفني هذا...".

و بخصوص بداياتها في هذه التجربة مع الرسم واللون تقول "...أنا عشقت الرسم وأحببت الفن التشكيلي وتلقيت تكوينا من عدد من الأساتذة والفنانين منهم" ايفيتا منكا " " مكهاش ماقوميدوف " و"و تعجبني تجارب واتجاهات فنية في الانطباعية والواقعية والتكعيبية.. أعمل في مجال الرسم الزيتي والأكريليك وأعذت الانتاج والاستلهام من أعمال فنانين عالميين لأحرص لاحقا ععلى امتلاك أسلوبي الخاص بي ولوحاتي التي تشبهني وتعبر عن خصوصيتي الفنية والجمالية.. شاركت في معرض جماعي نشاط ضمن نادي الرسم في مقر شركة بطاقة التأمين وفي معرض ببلدية الزهراء وبرواق الهادي التركي  في معرض بدار الثقافة بالزهراء وبمعرض بالمركز الثقافي في بوحجر.. يظل الرسم حبي الذي ألهو فيه بما يمكن لأن أضيفه لهذا العالم من ذاتي وشجوني وشؤوني الجمة...".

هكذا هي البدايات في تجربة الرسم من خلال حلمها الذي ترعاه تناغما وانسجاما وتفاعلا في صلتها بهذا العالم وفي هذا الجانب تواصل الفنانة تجربة السفر الملون وهي تنشد اللقاء بجمهور الفن وأحباء الرسم في معرض خاص تعمل على اجازه قريبا بالعاصمة.

***

شمس الدين العوني

المطاعجة، واحد من أشكال التعبير الجسدي اعتدنا على مشاهدتها، حينًا في الواقع اليومي المعيش وآخر في أفلام السينما التي تدور أحداثُها حول المبارزات في أفلام الفرسان والقراصنة ومَن إليهم ممن هم بحاجة لتأكيد قوتهم وسيطرتهم على سواهم. وهي عادةً ما تدور بين اثنين أحدهما يتحدّى الآخر، ومن يفز فيها تكون له الحظوة بالتحبيذ والتشجيع وحتى الخضوع له وربما تسنيمه موقع القيادة لمجموعتين عادة ما تكونان متنازعتين، كما اعتدنا على مشاهدته في أفلام الفتوات المصرية أيضًا. لهذا الشكل التعبيري جانبان أحدهما يوحي بالعنف والسيطرة والآخر يُعبّر عن جماليات الرياضة واللياقة الجسدية. بالنسبة لنا شاهدنا النوع الأول وعايشناه في فترات ماضية كما سلف، أما النوع الثاني، فقلّما شاهدناه في عالم كثيرًا ما سادت فيه البلطجة والعنف.

يبدو أن المطاعجة الجسدية هذه، انتقلت في فترتنا الجارية، فترة هيمنة وسائل الاتصال الاجتماعي، وبروز الشخصانية والفردانية، بصورها المختلفة، إلى الساحة الأدبية، واننا ابتدأنا بالاستماع إلى عبارات لم يسبق وأن استمعنا إلى أمثالها، في الماضي القريب على الاقل، من هذه العبارات أشير إلى: أنا اكتب أفضل منك. وكتاباتي الشعرية أو الروائية أفضل من كتابات فلان أو عليان، أو أتحدّى شعراء العالم كلهم إذا كانوا قد أتوا بمثل ما أتيت به من معاني في قصيدتي الشينية او السينية وما إليها من تسميات.

في مواقف كثيرة استمعنا خلالها إلى مثل هذه التحديات والمطاعجات الأدبية، كانت تنتابنا حالة من التساؤل، فهل يصح نقل ما واجهناه ونواجهه في عالم العنف وإعلان السيطرة، إلى عالمنا الادبي الرقيق؟ وهل يمكن حقًا أن تتحوّل الساحة الأدبية، أية ساحة سواء في بلادنا أو غيرها، إلى حلبة صراع تكون فيها الغلبة للديك المنتصر على منافسه المهزوم؟ وسؤال أساسي آخر هل يوجد في عالم الادب، الشعر، القصة والرواية وما إليها من الضروب الأدبية، مبدع كامل وآخر متوسّط الموهبة؟ بمعنى كبير أو صغير؟

لم تكن الساحة الأدبية في أي من حالاتها ولن تكون، ساحة صراع ديوك، القوي بين أكثر من قوس، يسيطر فيها على مَن هو أضعف منه، وحتى لو تقبّلنا مؤقتًا القول إن هناك من يتقن هذا النوع من المعرفة، النحو والصرف مثلًا، فإن هذا لا يؤهله لأن يسيطر على مَن قُبالته، لأن هذا قد يكون متمكنًا تمام التمكن من التعبير الابداع، بمعنى أنه موهوب حقيقي وأصيل، أقول هذا وأنا أفكر في أمر بعيد عن سياق حديثنا وقريب في الآن، هو أن هناك فرقًا حقيقيًا بين علم الادب وعلم اللغة، بدليل أن العالم عرف أدباء مبدعين مثل كاتب القصة العربي المصري المُجلّي يوسف ادريس، لم يتمكنوا من معرفة الكثير من أسرار النحو والصرف، كما يُفصح العديد مما تركه وخلّفه من كتابات قصصية حظيت باهتمام كبير، وما زالت تحظى بمثل هذا الاهتمام، كونها احتوت في ثناياها قدرة إبداعية غير عادية، في المقابل لهذا هناك علماء وخبراء في اللغة لم يتمكّنوا من كتابة نص أدبي واحد حقيقي، رغم رغبتهم الجامحة في كتابته.

الحالة الأدبية لا تتحمّل المطاعجات، كما في حالة الفتوات، وليس فيها قوي وضعيف، إنها ملكوت فيها جناحان أحدهما لمن يمكن أن نطلق عليه صفة مبدع حقيقي والآخر لمن يمكننا أن نطلق عليه صفة مبدع مُزيّف. في الابداع لا توجد منطقة وسطى، فهناك في صُلبها موهوبون بالفطرة يعملون على تطوير أدائهم فيما يمارسونه من أنواعها المختلفة، وهناك في المقابل مدّعون، واهمون عبثًا يحاولون إقناع سواهم بما يُخالجهم من أوهام. في الابداع الادبي إما أن تكون مبدعًا حقيقيًا وإما لا تكون.. فلندع المطاعجات للفتوات وأمثالهم ولننغمس في إبداعاتنا.. فهذا أجدى لنا وأنفع لحياتنا المبدعة.

***

ناجي ظاهر

الحبكة، الزمان، المكان، الموهبة، الألهام، الحسّ الأنساني، صدق المشاعر، تجسّدت كلها عند الروائي والناقد هاشم مطر وهو يتناول في روايته رائحة الوقت،  باناروما التيه الفيلي وبانوراما المهجرين. هاشم مطر وهو ينشر روايته هذه، فأنّه يغوص في أعماق نفوس المهجرّين، فيرسم مشاعرهم وأحاسيسهم وآمالهم وآلامهم ودموعهم بريشة فنان مبدع، يعرف كيف يوظّف خياله الواسع في رسم صورة مؤلمة ولكن لا بد منها لتلك الأيام الحالكة السواد. لا بدّ منها، كوننا نحن الكورد الفيليون وبقيّة المهجرّين بحاجة ماسّة لتأرخة المصائب والمصاعب التي عشناها بشكل أدبي، بعيد عن تجّار القضيّة من كل حدب وصوب، وهاشم مطر أرّخ تلك الويلات بدقّة وكأنّه مهجّر معهم عانى ما عاناه أبناء جلدته.

لم يكن هاشم مطر يجلس وسط (الزيل العسكرية)"1" ولا الى الى جوانبها، ولا حتّى الى جانب ذلك العسكري وهو يوجّه فوهة رشّاشه نحو الأجساد المتكدّسة في العجلة وهي تنهب الأرض نحو المجهول، بل كان يجلس فوق (القمارة) وبيده كاميرا ذات مميزّات خاصّة، فعلاوة على ألتقاطها صور ثلاثية الأبعاد لتلك النفوس التي يثقل كاهلها الخوف والرعب وفوهة الرشاش وأخرى للقلق في ترك أب أو أخ أو زوج أو حبيب، فأنّها كانت تلتقط نفس الصور للشوارع والأبنية والمحال والأسواق والمدارس وصالات السينما التي يعرف المهجرّون جغرافيتّها بشكل دقيق، ولم ينسى هاشم مطر مصابيح الطريق التي تتلاشى بسرعة والشاحنة تتوجه بسرعة نحو الحدود التي على تلك الأجساد عبورها، رغم الألغام والذئاب والأفاعي والريح العاتية والزمهرير والثلج وقساوة الطبيعة و"البشر"، تلك المصابيح التي كان نورها ينعكس لثوان على وجه أمّ تركت أكثر من إبن في قبضة الموت، أو زوجة لاتعرف إن كان في رحمها جنينا من زوجها الذي أعتقل في اليوم الثاني لزواجها، أو أخت ودّعت أخوتها بنظرة شعرت من أنّها الأخيرة، أو فتاة رأت وهي تصعد الشاحنة تحت تهديد أصحاب الزيتوني حبيبها مكسورا والدموع تملأ عينيه.

هاشم مطر وهو يجلس على أعلى (الزيل)، لم يكن وقتها كاتبا ولا ناقدا ولا مصوّرا فوتوغرافيّا، بل كان شبحا لا يراه أحد، شبح مهمّته توثيق تلك الساعات الرهيبة لتلك الأجساد التي رافقها وهي تعبر الحدود وتعارك الطبيعة والجبال الوعرة، رافقها وهو يوجه كاميرته للأجساد التي هدّها التعب فأستسلمت مرغمة للموت لتتهاوى الى وديان سحيقة، رافقها نحو بيوت الفلاحين والرعاة البسطاء وطيبتهم، رافقها الى ( الأوردگاه)"2" والخيام المبعثرة وصفير الريح وهي تخترقها والأجساد التي فيها، رافقها الى عذابات المدن والعمل المضني بأجور زهيدة، رسم اللاأنسانية في هويّات الفيليين والمبعدين والممنوحة لهم من السلطات الإيرانية (إين كارت أز نظر قانونى أرزش ندارد)"3"! لقد رافق هاشم مطر الفيليين في محطّاتهم المختلفة وهم يزحفون نحو الشمال، فرسم باقي اللوحة بألوان حقيقية وكأنّه كان لا يزال يرافقهم.

رائحة الوقت يجب أن تزيّن بيوت الكورد الفيليين وبقيّة المهجّرين، ويجب أن تترجم ليقرأها أبنائهم في المهاجر كي يتعرفوا على الأهوال التي مر بها آبائهم وأمهاتهم.. الرواية تقول: عليكم أيها الفيليون وأيهل المهجّرون ان لا تنسوا تلك الفظاعات ابدا.

شكرا ابا نخيل وأنت تترجم مآسينا وآلامنا وعشقنا للحياة رغم الموت الذي كان رفيقنا الدائم، لقد كنت معي يا ابا نخيل وأنا أعيش تلك الأيام القاسية....

***

زكي رضا - الدنمارك

................

1 – الزيل شاحنة عسكرية كان يستخدمها الجيش العراقي.

2 - (الأوردگاه)، كلمة فارسيّة تعني معسكر.

3 - (إين كارت أز نظر قانونى أرزش ندارد)، بطاقة تعريف كانت تعطى للمهجرين معناها (من الناحية القانونية لا قيمة لهذه البطاقة).

اقتحمت عليه بيته المتهالك، كنت أعلم أنه في هذه العزلة الاختيارية لا يستقبل أحدا، شعر باضطراب، من أنت؟.

قلت له: زائر من زمن آخر، يشاركك حرفة التعساء، السباحة في عوالم الفكر ...

-انت كاتب ..

- أهوى الكتابة وعوالمها، أحاول إعادة تشكيل العالم على الورق ..

غيّر من جلسته، مسح على لحيته الكثة، وما الفائدة من الكتابة يا ابني؟.. منذ أن فقدت بصري في الرابعة من عمري بسبب الجدري، فقدت معنى حياتي...

صارت سلسلة من الخيبات والانكسارات والآلام ..

ها أنا كما ترى رهين المحبسين، أهرب من واقعي إلى عوالم من خيال، ربما هذا الهروب حماني من الانتحار..

قلت له: كثير من الكتاب في عصري يمرون بحالة الاكتئاب التي تعيشها، لم يتغير شيء ..

طبع ابتسامة حزينة، و كأن كلامي خفّف عنه ..

أخذت معه صورة سلفي، نظرت إلى ساعة الزمن، كان الوقت المبرمج قد انتهى، اختفيت، رجعت إلى مكاني في مقهى "باريس" كان فنجان قهوتي مازال في المنتصف، أرتشفت جرعة منه و شرعت في كتابة قصة.. المعري يمر بـ................

***

 بقلم: شدري معمر علي

قاعة الأساتذة: الثلاثاء 10 - جانفي - 2023م

الموافق ل: 17- جمادى الآخرة - 1444هـ

 

مدخل: حين يختلط الفكر والأدب، ورحيق من الفلسفة القديمة، وشمة من الحداثة(البعدية)، ونمذجة من وضعيات اجتماعية ، من تم قد يحدث انسجام النص بالتلاحم والتطعيم، وقد يتوتر ويثور في وجه ناظم تعامد تناص والذي لا يشابه المحاكاة (الواقعية والمثالية) ولا التطهير (النقد البنائي).. هو النص الأدبي المشحون والملغوم الذي أقدمه لكم كوجبة قابلة للتفكير..

فكرت وقوفا، ولم أقدر البتة الإجابة وتناول عمق تساؤل بسيط ومحير: كيف تتجنب سقطة من صدمة الحياة؟ فكرت في تحليل ملفوظات التساؤل بعقلية التفكيك والتركيب، لكن أعترف لكم بفشلي فقد ضاعت مني صفة حال المنهج التاريخي، وآليات التوفيق وبناء تعامد التناص. أتلفت حتى أنساق المنهج البنيوي، وفي الأخير لزاما تقلص تفكيري مساحة بينة، وبدت تشع مني تخوفات مُدْركات مخاطر عدم اليقين، والمرتبط بتأكيد الحلول الاجتماعية: كيف تتجنب الفشل وصدمة الحياة؟

حقيقة مُرَّة، فقد كنت أحمل مجموعة من أضرار متراكمة، ومتلاشية على الصعيد النفسي، وكذا أضرار هشاشة على مرمى رؤية إحساس العين بأثر تكرار الصدمات والسلوكيات المتفحمة. هنا رأيت أن سقطة الصدمة يمكن أن تتناسل بأكثر حرية، وبالاستمرارية التكاثرية غير المحصنة لا بالأخلاق، ولا بالقانون، وهي نفسها من تُفْسِدُ عليَّ حلاوة الاختيار، والتفتيش عن مسالك التسوية الجديدة.

حين فكرت قُعُودا تناولي الاطمئنان أنفة، وفرملة التوقف الإجباري عند رؤية علامات الخطر المحدق بتحذير ثان (انتبه): إياك أن تثق في النتيجة الفردية (الواحدة)، فهي تتلهى بالمشاعر تعبا واستهلاكا، وقد تتلاعب بالفرضيات وبالنتيجة، وطبعا لن تفيض باكتساب الأحاسيس مُتْعة ورِفْعة!! هنا أعلنت أن الثقة في الاعتقاد المتموج توازي فرز أحكام المطلق والمتشابه، لكني عدت نحو قُعودي البدائي، وأنا أُمَانع تشتيت رؤيتي وفق أصول التأويل بالرأي، ومدى صدق نتائج العقل والقياس، لكن صدمة الحياة أوصلتني أني لن أقدر على تحديد الفرق بين السبب والعلة، فبالأحرى استخلاص الأحكام القطعية لسد ما سد الخبر.

لِكُل مِنَّا (كَاوِية) حَمِئَة اكتوى منها يوما ما كَيا ثقيلا أو خفيفا. فاحترقت المشاعر والأحاسيس دموعا، وبات مثل من لُسِعَ من الجحر مرتين. لكل مِنَّا ذكريات توازي مخطوطات غير مصنفة من فلسفة الحياة، تُقَايس حكاية (بودا) القديس الذي لا يؤمن بحظ العثرة، بل كان (بودا) يؤمن إيمانا قطعيا بالنتيجة الطيعة بالهدوء والارتخاء النفسي، وضبط التوجس الفيضي في حلم المستقبل. من فلسفة الحياة (الحداثة البعدية) عندما نتحرر من أوات (آهات) المعاناة التي بدواخلنا، تنفرج قيمة الحياة، وتتزين طيعة مثل عرائس سماء ممطرة، وهنا تحلو الأيام زينة وبسرعة هدوء نتف الثلج المتساقطة بين السماء والأرض. هي التجارب الاجتماعية العالمية التي علمتنا أن الضغط عندما يزيد، يولد الانفجار الفيزيائي العشوائي. هي خبرات فلسفة (بودا) في الحياة التي علمتنا أن قوما مِنَّا يرغبون في سماع الانفجار المدوي، ومنه تزيد أعمارهم امتدادا، وتتسلط أيديهم تحكما في رقاب العباد والفضاء.

نهاية قد تتفحم المشاعر السلبية، وقد تترك الأحاسيس مُسممة وتَنْتظر ساعة النهاية الأبدية، وقد يُضحي الشعور الفطري البدائي يتسلل نحو تقمص الرفض من ذات تجاه الذوات الأخرى. ونحن في غفلة من التحولات ذات التكتونية الاجتماعية، والخالقة لبؤر التوتر الزلزالية.

من صدمة الحياة البسيطة والمتماسكة، حين تنظر في عيون الناس البسطاء تجد أن (التلفة) تلفهم بالشَدِّ. تقف أنهم في سباق زمن الجري عن (طرف من الخبز) وفي حرب مع (الكاوية) العالقة ببدايات صدمة الحياة. فالغلاء الفاحش أصاب ونهب، وبات المواطن البسيط يُغالب العيش، ومحاولات التأقلم مع الأوضاع الجارفة، وهو لا يدري جَرْيا تُجاه ذاك المستقبل المجهول، لكن خبراء التخطيط النفسي يقولون : أبشروا فالخير أمامكم، وما عليك إلا الصبر والتحمل، وتجنبوا التَّضَمُّرَ !! (إلى صَبَرتُو تَاكْلُوا الزرع لِي ما حرثوا...) ولكن يجب أن يكون جوابكم الجماعي مثل تَرْدُيد الكورال الطيع (صَابْرِينْ صَابْرِينْ... صَابْرِينْ).

***

محسن الأكرمين

تزوّد الكاتب الناقد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف، بنوع متين من الثقافة والاطلاع، الامر الذي أهله للإدلاء بآراء مختلفة وغير مألوفة في الفن والثقافة الفلسطينيين خاصة، ورغم احترامه وتقديره الشديدين لهذه الثقافة وأعلامها، فقد تعامل بها برؤية متعمقة بعيدة عن التقديس المُهلك والمدمر للثقافة، ويعتبر رأيه في كتابات غسان كنفاني، مثلًا، رأيًا مختلفًا وجديرًا بالاهتمام.

يوسف سامي اليوسف من مواليد قرية لوبية المهجرة عام 1938، نزح إلى لبنان عام 1948، وغادر إلى سورية سنة 1956، التحق بجامعة دمشق 1960 وتخرّج فيها. عاش حياته في مخيم اليرموك، في بيت متواضع بناه "حجراً على حجر"، وعلى مراحل، وكان بيته وكانت مكتبته ملاذاً لأجيال من المبدعين الفلسطينيين والسوريين والعرب المقيمين في سورية، كما شهد الكثيرون من هؤلاء.

سجّل كاتبُنا سيرتَه الذاتية في ثلاثة أجزاء، صدر اثنان منها عن "دار كنعان"، في دمشق تحت عنوان" تلك الايام"(هذا العنوان بالمناسبة، هو عنوان أيضًا إحدى روايات الكاتب العربي المصري فتحي غانم)، ولا يعلم ما إذا صدر الجزء الثالث منها. يعود اليوسف في سيرته هذه إلى أجداده الاول فيذكرهم بالاسم، الفصل والاصل، حتى يصل إلى والده الذي عمل شرطيًا في فترة الانتداب، ما قبل قيام اسرائيل، ويستعرض فيها حياته أولًا بأول، كأنما هو يريد أن يقدم إلى قرائه شهادة تؤكد قصة انتمائه الفلسطيني وكفاحه كإنسان مناضل من أجل الوجود والحياة.

كتب اليوسف وصنف العديد من المؤلفات هي: مقالاتٌ في الشعر الجاهلي- دراسة- دمشق 1975والغزل العذري- دراسة – دمشق 1978. وبحوث في المعلّقات- دراسة- دمشق 1978. والشعر العربي المعاصر- دراسة- دمشق 1980و، ما الشعر العظيم ،- دراسة- دمشق 1981 وكتاب عن غسان كنفاني بعنوان، رعشة المأساة ، - دراسة- عمان 1985 وكتاب عن الشخصية والقيمة والأسلوب- دمشق2000 . وكتاب في التاريخ بعنوان "حطين "- دراسة- دمشق، 1987وآخر بعنوان "فلسطين في التاريخ القديم، – دراسة- دمشق، 1989. وكتاب عن" الخيال والحرية" دمشق 2001 و" مقدّمة للنّفري"- دراسة في فكر وتصوف محمد بن عبد الجبار النفري- دمشق ، 1997. و"ابن الفارض" – دراسة ، دمشق، 1994. وترجم عن الإنجليزية: "الديانة الفرعونية"، و"مختارات من شعر اليوت"Eliot. أما سيرته الذاتية فقد صدر منها جزآن فيما نعلم عن دار كنعان في دمشق ولا يعلم ما أذا كان الجزء الثالث، صدر أم لا.

أتيح لي قراءة بعض من مؤلفاته هذه، لا سيما كتابيه " الخيال والحرية"، و" مختارات من اليوت" و" رعشة المأساة" وهذا الاخير يبحث في كتابات وروايات الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني. يُضّمن اليوسف كتابه عن الخيال رؤية ادبية واعية وعميقة للأدب، وبإمكاننا اعتبار هذا الكتاب الفريد مدخلًا جيدًا ومرشدا لقراءة الادب وفهمه، ويلمس قارئ ترجمته لمختارات من شعر اليوت، تمكنه من اللغة الانجليزية وجديته في التعامل معها، أما كتابُه عن رعشة المأساة، فإنه يقيّم فيه التجربة التراجيدية التي عاشها غسان كنفاني مُعتبرًا إياه نموذجًا حيًا للتجربة الفلسطينية التي تسببت فيها ظروف قاهرة.. جعلتها تختلف عن معظم التراجيديات في العالم. وهو يقرأ كنفاني في كتابه هذا عنه قراءة متعمقة، ترى ما له وما عليه، ومما يقوله بجرأة غير معهود وقائمة، ان روايتي "عائد الى حيفا" و" رجال في الشمس" لا تعدوان كونهما قصتين قصيرتين ممطوطتين، أو شيئًا من هذا القبيل، وان أحدًا من نقاد كنفاني الكثيرين لم يتجرأ على الادلاء بمثل هذا الرأي الجدير بالنظر والمعاينة.

بعد وفاة يوسف سامي اليوسف عام 2013 مباشرة، توجّهت إلى عدد من الاصدقاء من مديري المؤسسات الثقافية التراثية طالبًا أن ننظم ندوة تهدف إلى التعريف به، أو إحياء ذكراه.. فوعدوا.. ولم يفوا حتى الآن.. فهل أجدد الطلب؟

***

ناجي ظاهر

 

ما أجمل هديّة زملائي الروس في الدراسة بكليّة الفيلولوجيا في جامعة موسكو بمناسبة حلول العام الجديد 2023، اذ قدّموا لي كتابا صادرا عام 1963، وقالوا لي، انهم اختاروا هذا التاريخ بالذات، باعتباره رمزا لتلك السنوات الطلابية الجميلة التي قضيناها معا قبل اكثر من 60 عاما بالتمام والكمال، عندما كنّا ندرس اللغة الروسية وآدآبها في كليّتنا الحبيبة. لقد تقبّلت طبعا هذه الهدية الرمزية الرائعة بحب كبير وامتنان، واريد ان اتحدث لكم قليلا عن هذه الهدية الثمينة جدا وقيمتها الجمالية بالنسبة لي، وأظنّ (رغم ان بعض الظنّ اثم)، ان الهدية ذات الطبيعة الثقافية المرتبطة بالادب الروسي يمكن ان تكون – بعض الاحيان - موضوعا طريفا للقارئ العربي، الذي يتابع هذا الادب وشعابه وتفرعاته العديدة .

عنوان هذا الكتاب – الهديّة هو (المعاصرون)، وتحت ذلك العنوان يوجد عنوان ثانوي هو (بورتريتات ودراسات)، والكتاب صادر عام 1963 ضمن سلسلة كتب (حياة الاعلام، او، حياة المشاهير، او، حياة الناس الرائعين حسب الترجمة الحرفية)، ويقع الكتاب في(700) صفحة من القطع المتوسط، وقد تمّ طبع(100) الف نسخة منه في حينها (كما تشير الى ذلك الصفحة الاخيرة)، ومؤلف الكتاب هو الاديب الروسي والسوفيتي والناقد الادبي والمترجم والصحافي كورني ايفانوفيتش تشوكوفسكى (ولد في القرن التاسع عشر عام 1882 بمدينة بطرسبورغ في روسيا الامبراطورية وتوفي في القرن العشرين عام 1969 بمدينة موسكو في الاتحاد السوفيتي)، والمؤلف معروف بشكل جزئي للقراء العرب من خلال بعض كتبه المترجمة الى العربية في ادب الاطفال (وهو طبعا أحد عمالقة هذا الادب في الاتحاد السوفيتي، وفي روسيا الاتحادية ولحد اليوم)، وعلى غلافي الكتاب (اي الغلاف الاول والاخير) عدة صور لمجموعة من الادباء والفنانين الروس المعاصرين للمؤلف، والذين يرسم تشوكوفسكي صورا قلمية لهم (بورتريتات) ويكتب دراسات طريفة وعميقة وتفصيلية عنهم كما يشير العنوان الثانوي، وهم (حسب فهرس الكتاب) كل من-

 تشيخوف / كورولينكو / كوني / غارين / بوريس جيتكوف / كوبرين / ليونيد أندرييف / غوركي / سوبينوف / ساشا تشورني / لوناتشارسكي / ألكساندر بلوك / ماياكوفسكي / يوري تينيانوف / كفيتكو / ماكارينكو / ايليا ريبين .

 أكثرية هذه الاسماء معروفة – بشكل او بآخر وبمستويات مختلفة - للقارئ العربي المتابع للادب الروسي، وكل تلك الاسماء طبعا معروفة – وبكافة أبعادها الفكرية – للقارئ الروسي، ولكن كورني تشوكوفسكي رسم صورهم القلمية بشكلل جديد ومبتكر، ولهذا، فقد جاءت هذه (البوريتريتات) تنبض حيوية، اذ انه تناولها من جوانب اخرى، ورسمها (على غرار الرسّامين في الفن التشكيلي) وهم تحت شعاع شمسه الخاصة به، اي، وجهة نظره الذاتية وآرآئه النقدية ومعرفته المعمقة عنهم، ولا يمكن طبعا التوقف عند كل اسم من هذه الاسماء اللامعة والتحدث عن خصائص الصورة الجميلة التي رسمها تشوكوفسكي له، الا اننا نود هنا ان نشير الى ملامح وجيزة عن تشيخوف وغوركي ليس الا، اذ ربما يمكن لتلك الملامح الخاطفة والملاحظات الدقيقة والصغيرة عنهما ان تقدّم للقارئ صورة تقربية لهذه البوريتريتات الفنية المدهشة، التي رسمها تشوكوفسكي لمجموعة كبيرة من هؤلاء الاعلام الذين عاصرهم في حياته الطويلة (اذ انه عاش حوالي 90 سنة تقريبا) .

نبتدأ بتشيخوف، الذي كتب المؤلف عنه اربعة فصول باكملها (من ص 5 الى صفحة 122)، فقد ربط، مثلا، وقائع طريفة ومحددة من سيرة حياة تشيخوف ببعض نتاجاته الادبية، واستشهد بمقاطع من رسائل تشيخوف نفسه لاثبات تلك الوقائع، وتحدّث بعمق عن تواضع تشيخوف، وأشار الى رسالته، التي ذكر فيها، ان الرقم واحد بين مشاهير الادب والفن الروسي يرتبط بتولستوي، والرقم الثاني بالوسيقار تشايكوفسكي، اما هو (اي تشيخوف) فقد حدد لنفسه الرقم (887) في سلسلة هؤلاء المشاهير.

ونتوقف قليلا عند غوركي، الذي كتب تشوكوفسكي عن ذكرياته الشخصية حوله، اذ تحدّث كيف كان غوركي يلقي كلمة عن تولستوي، وعندما وصل الى جملة (... ومات تولستوي...)، لم يستطع غوركي لفظ هذه الجملة، فتوقف وترك المنصة، فذهب اليه تشوكوفسكي ووجده يقف عند النافذة وهو يبكي، ويسرد مؤلف الكتاب كيف عمل مع غوركي في عشرينيات القرن العشرين بمشروع ترجمة مختارات من مكتبة الادب العالمي، وهو مقترح غوركي، الذي تبنته الحكومة السوفيتية آنذاك، كي يطلع القارئ الروسي على افضل مصادر الادب العالمي، وكان غوركي يرأس اجتماعات لجنة انتقاء الكتب ومترجميها اسبوعيا، وكان تشوكوفسكي احد اعضاء تلك اللجنة (عن المكتبة الانكليزية والامريكية)، وكان من جملة اعضاء اللجنة الاكاديمي المستشرق الكبير كراتشكوفسكي (عن المكتبة العربية)، والشاعر والمترجم غوميليوف (عن المكتبة الفرنسية)، وغيرهم، علما ان هذا المقترح الرائع لغوركي لا زال قائما لحد الان، وتنفّذه اكاديمية العلوم الروسية.

شكرا لزملائي الروس على هديتهم الثمينة، والتي يجب ان ارجع لها حتما، اذ ان الافكار الموجودة على صفحاتها حول الادب الروسي تتماوج فكرة بعد فكرة مثل امواج البحار.

***

أ. د. ضياء نافع

العقود الثلاثة الأخيرة أحدثت تطورات تكنولوجية غير مسبوقة، ونقلت البشرية إلى مدارات تواصلية ما عهدتها من قبل.

كان الناس في المجتمعات المتحضرة يرافقهم الكتاب أينما حلوا ورحلوا، في القطار، الطائرة ومواقع الإنتظار، وغيرها من الأماكن التي توفر بعض الوقت.

وما أن أطل القرن الحادي والعشرون حتى إنقلبت الأمور، فما عاد للكتاب وجودا، وإختفى منظر الشخص والكتاب، ووجدتنا في العقد الثاني منه، وقد إلتصق الناس بالشاشات بأحجامها المتنوعة، فكسدت تجارة الكتاب، وأغلقت العديد من متاجره أبوابها، وتحول إلى بضاعة بائرة ترقد في ظلمات المخازن والرفوف.

ومعارض الكتب رغم كثرتها، لا تبيع كما كانت في العقود السابقات، فالعلاقة بين الناس والكتاب أصبحت من الباليات.

ففي الوقت المعاصر يمضي الناس معظم وقتهم محدقين في الشاشة، وخصوصا الصغيرة منها، وكأنهم مدمنين عليها، فلا تفارقهم ولو لبرهة، وإن فارقوها إنتابتهم مشاعر الخوف والرعب، وعادوا هلعين يبحثون عنها.

والتخاطب بين الناس ما عاد شفاهيا بل شاشويا، وكل ما يحتاجونه تقدمه لهم الشاشة الصغيرة، فلكل سؤال جواب فيها.

وبخصوص الكتاب، فما يريد الشخص قراءته يجده عبر شبكات الإنترنيت، والعديد من المدمنين على القراءة من الذي أعرفهم، يحملون شاشات متوسطة الحجم يقرأون فيها ما يرغبونه من الكتب.

والمشكلة التي تسببت بها هذه الشاشات أن دفق المعلومات أصاب التركيز بالإضمحلال، فالبشر اليوم لا يمتلك القدرة على مواصلة قراءة أكثر من صفحة، ويريد معلومات مكثفة ودالة ببضعة كلمات وحسب، وربما ستنتقل البشرية إلى إبتكار لغة رمزية جديدة تتفاعل بواسطتها.

والكثير من المخضرمين، وهنت علاقتهم بالكتاب، وما عادوا قادرين على الصبر والمجالسة مثلما كانوا سابقا.

ولهذا فأن التوجه نحو الكتابة الضوئية السبيل الكفيل بالتنوير، ويبدو أن المستقبل سيكون منسوجا على حبات ضوء، وربما البشرية ستتعرى من أولها إلى آخرها على الشاشة، وذلك اليوم ليس ببعيد!!

فهل نترحم على الورق، ونعلن وفاة "الكاغد"؟!!

***

د. صادق السامرائي

 

الكاتبة والروائية الفرنسية كليرا غالوا بعد ان ذاع صيتها، ونشرت 11 رواية في اكبر دور النشر العالمية، وحصلت على الكثير من الاوسمة والتكريم والجوائز، وذات يوم قررت ان تقوم بفكرة عجيبة، لم يسبقها احد اليها، فخرجت بدعوة عبر الصحافة للعاطلين عن العمل في فرنسا، ويقدر عددهم في ذلك الوقت ب خمسة ملايين فرنسي عاطل، حيث خاطبتهم بالعبارة التالية: (اكتبوا لي وسأحاول ان اؤلف كتابا عن رسائلكم).

وبالفعل لم يتكاسل العاطلون عن العمل في الكتابة اليها فورا، واستلمت الروائية قرابة الاربعمائة رسالة من مختلف مدن وقرى واقاليم فرنسا، رسائل من الرجال والنساء، والكهول والشباب، وتتكدس في صندوقها البريدي، بل وتفيض لتفترش الممر المؤدي الى شقتها، رسائل تحكي حجم معاناة العاطل عن العمل، وقد اختارت الروائية اربعين رسالة من الاربعمائة.

لتحكي للعالم عبر كتاب معاناة وعذابات العاطلين عن العمل، وان كانت اسماء اصحاب الرسائل موجودة في مكتب التشغيل الوطني الفرنسي، الا انها اخذت بعدا اخر بقلم الكاتبة كليرا، حيث اكتسبت روحا وجسدا ولغة، بعد ان كانت جثث مدفونة في صناديق حفظ طلبات التعيين والعمل.

وعبر فصول الكتاب كشفت الكاتبة كليرا شيئا فشيئا تفاصيل واسرار تلك الاسماء، بعيدا عن الهم المشترك الذي يجمع العاطلين عن العمل، حيث ابرزت شخصياتهم، وكان جميعهم يسرد كيف سقط الواحد تلو الاخر في هذا المستنقع المميت، حيث الفقر والعوز والاقصاء والعزلة، انهم (هم – هن) يسردون ويسردن حالة التطفل الاجتماعي ويشعرون بالخجل، بل هنالك من يتنمر عليهم بسبب البطالة، بدل المساندة والدعم والتشجيع، فكيف لمن يحصل على شهادة الدكتوراه ويبقى يلهث بحثا عن فرصة عمل! وكانت خيبة الامل تلاحق العاطلين عن العمل فكلما راجعوا جهات التوظيف كان الجواب واحد: (اليوم لا يوجد عمل لك).

وحقق الكتاب (شرف العاطل عن العمل) نجاح كبير لانه معبر عن محنة فئة من المجتمع، قد فتحت لهم الكاتبة كليرا مساحة للتعبير عن ذاتهم، فهم لم يخلقوا ليعيشوا عاطلين عن العمل، بل كانوا يحلمون ان يعيشوا مثل اي انسان يعلموا ويتزوجوا ويتطوروا، لم يتصوروا انهم يتحولون لمستنقع البطالة والذي هو كارثة بحق الانسان.

دعوة

كم نحتاج من كتابنا ومبدعينا ان يتصدوا لمشاكل المجتمع، ويكتبوا عنها كما فعلت هذه المبدعة الفرنسية لتنتج كتابا عن العاطلين، وسلطت الضوء عن معاناتهم عبر سردهم انفسهم لمعاناتهم، فالضغط الاعلامي على جهات القرار يجعلها تستجيب وتفعل الصواب، فيا ايها الشرفاء اسمعوا مأساة وهموم اخوتكم في البلد، واكتبوا عنها، ولتكن قضيتهم قضيتكم، ولا تعيشوا في بروج عالية وتكتبون عن اشياء لا تنفع الانسان، انتم اصحاب مسؤولية ويجب ان لا تخذلوا اخوتكم، لذلك تحملوا مسؤوليتكم واكتبوا اشياء نافعة تغير الواقع الضحل.

***

الكاتب/ اسعد عبدالله عبدعلي

يقول البحتري: "والشعر لمحٌ تكفي إشارته".

ويقول ستيفان مالارمي:

"التصريح بالشيء في الشعر، يفقدنا ثلاثة أرباع من الاستمتاع بالقصيدة، علما أن الاستمتاع يتكون شيئا فشيئا من سعادة التخمين؛ ما يوجب إذن التلميح لهذا الشيء عوض التصريح به، هو ذا الحلم."

وقد نضيف ما قاله الناقد محمد مندور حول الشعر والأدب بصفة عامة :"الأدب مهموس".

الشعر إذن تلميح أو أدب مهموس.

لكن في حقيقة الأمر فإن اللغة، بصفتها علامة لسانية اعتباطية، مكونة من دال لا تربطه أية علاقة مادية بالمدلول، وبما أننا نحتاج إلى مرجع الدلالة لتكوين فكرة حول المدلول، فإن مسألة التلميح لا تخص الشعر فقط، بل كل الكتابات بأنواعها وأجناسها، ما هي إلا تلميح، في حقيقة الأمر. لكن لماذا إذن يركز الشعراء على هذا التلميح فقط في الشعر؟ 

قد نفهم أن اللغة بالنسبة للأجناس الأخرى، تصبح مألوفة وكأن طابع الاعتباطية تم تجاوزه فأصبح الدال مدلولا بالألفة ولم يعد عائقا حيث تصبح الكلمة تشير بالواضح إلى الشيء الذي تعنيه وذلك بكثرة الاستعمال و التكرار، ما يسهل عملية التواصل بين المرسِل والمرسَل إليه. وفي هذا الصدد نتحدث أيضا في الشعر المكرور عن الصور او الكلمات المألوفة، بمعنى أنها لم تعد تلمح بل أصبحت تسمي الشيء وتصرح به وهكذا تفقد شعريتها. ما يؤدي بنا إلى القول بأن الشعر إبداع متواصل أي تلميح وتعريض وايحاء بدون انقطاع. وهكذا يمكن الجزم بأنه يبحث عن درجة أقوى من التلميح، حيث تصبح لغته خاضعة لنفسية الشاعر وخياله، حسب ظروفه الاجتماعية والنفسية. وبهذا التلميح المتواصل قد يشكل الشعر عائقا بالنسبة للتواصل، فيصبح نخبويا، إذ لا يتفاعل معه إلا من له الصبر في التخمين أو من يتلذذ به ويستمتع تماما كما يستمتع عالم الرياضيات او الفيزياء وهو بصدد إيجاد أسلوب جديد لحل عملية حسابية صعبة، أو كما يستمتع متأمل في غروب الشمس أو في لوحة تشكيلة أو عند الإنصات بكل جوارحه إلى معزوفة موسيقية.

وكخاتمة صدق رولان بارث حينما فرق بين الكاتب المبدع أو المؤلف (écrivain) والكاتب المزاول (écrivant). فالأول يشتغل على اللغة في كتاباته وهو يحاول إيصال رسالته، بمعنى أن "الكيف" أو الشكل هو انشغاله، أما الثاني فيشتغل على الرسالة، حيث ينشغل بالكم أو الموضوع. فالأول إذن منشغل بالتلميح أو الإيحاء أو التعريض، والثاني بالتصريح.

***

محمد العرجوني

تعتبر الفراشات الملونة المنتشرة في كافة قارات العالم (باستثناء القارة القطبية الجنوبية – انتاركتيكا) من أكثر الاحياء البرية الحيوانية تأثرا بظاهرة التغير المناخي والاحتباس الحراري، سواء كانت من النوع الذي يتكاثر لمرة واحدة في السنة، او من النوع الذي يخلف عدة أجيال في السنة الواحدة. وهناك الكثير من البحوث والدراسات الحديثة التي تؤكد هذه الجوانب على نحو قاطع ومؤكد من حيث تغيرات في توقيتات ومسارات الهجرة وظهور اختلافات في الاحجام والاوزان والاعداد، وحصول تغير في دورة الحياة واستبدال الموائل لأكثر من سبب وغيرها. وتنبه إلى المخاطر والتحديات التي تواجهها هذه الكائنات الحساسة والرقيقة والزاهية بالألوان في ظل  هذه التغيرات المناخية. ومنها دراسة أعدت من قبل علماء وبحاث من جامعة (شرق انجليا)  في (نورويتش) ببريطانيا، ونشرت نتائجها في مجلة (علم البيئة الحيوانية 2016)، وتبين على نحو بين الآثار السلبية والخطيرة لارتفاع درجة الحرارة في الشتاء على الفراشات. ودراسة قيمة أخرى شملت (300) نوع من الفراشات بعنوان (أطلس مخاطر التغيرات المناخية على الفراشات الأوروبية 2008)، أجريت برئاسة العالم الألماني المعروف (جوزف زيتله) ونشرها مركز (هيلموت تسنتروم) بالتعاون مع (الرابطة الألمانية لحماية الطبيعة) (نابو)، وتشير نتائجها إلى احتمالية مغادرة (25%) من هذه الفراشات موائلها بحلول عام 2080) إذا ما ارتفع متوسط درجة الحرارة (4،1) درجة مئوية. الامر الذي انعكس سلبا على سياحة مشاهدة الفراشات والأنشطة المرتبطة بها في العديد من البلدان بشكل أو بآخر. مثل التصوير والرسم والتتبع والرصد والدراسة والمقارنة... الخ. كما يحدث في (سيرانيفادا) بوسط المكسيك التي تستقبل سنويا، وخلال الفترة من تشرين الثاني وآذار ملايين الفراشات الملكية البرتقالية اللون الآتية من الولايات المتحدة الامريكية وكندا، قاطعة (4800) كم تقريبا، هربا من الصقيع والبرد القارس، وطلبا للجو اللطيف (علما ان الفراشات كائنات محبة للحرارة بصورة عامة وفقا للدكتورة  الدينا فرانكو  المحاضرة في العلوم البيئية في كلية العلوم البيئية بجامعة ايست انجليا 2016)، مشكلة بذلك واحدة من أهم الظواهر الطبيعية التي تجذب سنويا نحو (120 – 150) الف زائر وسائح بيئي ومن ذوي الاهتمامات الخاصة (سياحة الاهتمامات الخاصة). غير أن عددها في انخفاض خلال السنوات ال (20) الأخيرة، والمساحة التي تشغلها في انحسار وتراجع بسبب التغيرات المناخية وعوامل أخرى، لتنخفض إلى (2،94 هكتار = 1،19 فدان) خلال 2012 / 2013 مقابل (27،6 فدان) في 2000 و(18،19 هكتار) لموسم 1996 / 1997 وفقا للصندوق العالمي للحياة البرية واللجنة الوطنية للمناطق الطبيعية المحمية في المكسيك. ووفقا لدراسة أجراها عدة علماء ومنهم (ماركوس كرونفورست) أستاذ البيئة والتنمية في جامعة شيكاغو بالولايات المتحدة الامريكية. ونشرت نتائجها في دورية العلوم الدولية (نيتشر 2014) فان هذه الظاهرة قائمة منذ الأزمنة القديمة، ولكن اعداد الفراشات الملكية المشاركة بها في انخفاض دائم لعدة أسباب، ومنها الأسباب المذكورة في أعلاه، لتصل إلى (33 – 35) مليون فراشة فقط خلال موسم 2013 / 2014 مقابل (مليار) فراشة تقريبا قي عام 1996 بحسب السجلات المحلية التي تقدم بيانات واحصائيات مهمة ومعتمدة في هذا المجال.

***

بنيامين يوخنا دانيال

 

 

.....................

للمزيد من المعلومات، ينظر: (آفاق سياحية) للمترجم، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2017.

 

عاش البروفيسور المجاهد وطبيب العيون  المفكر والداعية" سعيد شيبان" عمرا مديدا (توفي يوم -4 ديسمبر - 2022) في الدفاع عن قضايا الوطن وفي نشر الفكر فكان يشارك في الملتقيات والندوات الفكرية ويساهم بكتابة المقالات وكان رجلا فاضلا متواضعا صاحب خلق قال عنه الكاتب  عبد الحميد عبدوس:

" كانت السمة البارزة التي لا تخطئها العين في شخصية الدكتور سعيد شيبان هي التواضع وحسن الخلق هذه المكرمة تتصدر عقد فضائله العديدة وخصاله الحميدة التي لم تتغير خلال اتصالي الوثيق به وطول عشرتي معه على مدى أكثر من عقدين من الزمن في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يظل من أبرز حكمائها و أوفى الملتزمين بخطها ومنهجها الرشيد وحرص لسنوات عديدة على إخفاء تبرعه المتواصل من راتبه الشهري للجمعية التي لم تجد ما تستحقه من دعم ورعاية مادية....."(1)..

فمن هو هذا الفارس الذي ترجل اليوم؟ وما هي سيرته العطرة..؟ دعونا نبحر في محيطات هذه الشخصية العظيمة:

ولد المفكر سعيد شيبان  في 2 أبريل 1925في قرية الشرفة (ولاية البويرة حاليًا) درس بالمسجد العتيق في القرية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية للأهالي بمشدالة حيث كانت آنذاك المدرسة الوحيدة بالمنطقة، وتحصل بها على شهادة الابتدائية في مايو 1937، التحق بعدها بثانوية ببن عكنون، المقراني حاليا وحين اندلعت الحرب العالمية الثانية في سنة 1939، انتقلت الثانوية لمدة سنة إلى مدرسة تكوين المعلمين ببوزريعة. وتوقف عن الدراسة من 1942 إلى 1943 بسبب تعرض ثانوية بيجو (الأمير عبد القادر حاليا) للقنبلة من طرف الطائرات الألمانية.، بعد دخول الإنجليز والأمريكان للجزائر ورجع إلى بلدته إلى المسجد العتيق لتعلم العربية بشكل جيد ودرس على يد الشيخ « ارزقي بن شبلة» وفي يوليو 1946، تحصل غلى شهادة الباكالوريا والتحق بالكشافة الإسلامية الجزائرية والنشاط السري لحزب الشعب الجزائري ثم سافر إلى ألمانيا والتحق بجامعة ستراسبورغ، وفي مارس 1956 شارك في مؤتمر اتحاد الطلبة الجزائريين في باريس وتعرف على محمد الصديق بن يحي ورضا مالك. وشارك في مؤتمر ستراسبورغ مع أحمد طالب الإبراهيمي وبلعيد عبد السلام ومحمد الصديق بن يحي وغيرهم. وشارك في إضراب الطلبة في مايو 1956. ثم في يوليو 1958، قدم أطروحته التي كانت جاهزة قبل عامين. ونجح في عام 1959 في امتحان تخصص طب العيون

في ماي 1962 أشرف على مستشفى تيزي وزو بطلب من جبهة التحرير الوطني وبقي فيها 6 سنوات وفي سنة 1969،ا عين رئيسا لبعثة طبية جزائرية لمساعدة النيجر بسبب الحرب الأهلية  وانتخب أمينا عاما لإتحاد الأطباء الجزائريين في سنة 1974.

في 1979 أسهم مع البروفيسور أحمد عروة في تأسيس الجمعية الجزائرية لتاريخ الطب.

في 1984 ساهم في إعداد المعجم الطبي الموحد حيث كان عضو لجنة العمل الخاصة بالمصطلحات الطبية العربية.

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفر له ويرحمه عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. 

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية:

شدري معمر علي

.......................

المرجع:

1- عبد الحميد عبدوس، لمحة عن مسار الدكتور سعيد شيبان مع العلم والإيمان والنضال، موقع عبد الحميد بن باديس.

2- ويكبيديا.

 

ينطلق الكاتب الناقد اللبناني الخالد مارون عبود في كتابه عن أبي العلاء المعري "زوبعة الدهور"، من فكر نيّر مستقل، لا يعبأ بأصحاب القول العنيد" عنزة ولو طارت، ويتوصّل بالتالي إلى استخلاصات جديدة واجتهادات فريدة، تشمل إضافةً عميقة جدًا إلى ما سبق وقيل عن شاعر المعرّة صاحب " ديواني" سقط الزند" (الشرارة تخرج من ارتطام حجرين)، و"لزوم ما لا يلزم"، الذي انتهج فيه المعرّي نهجًا غير مسبوق متّبعًا نهجًا فريدًا.. ثلاث قواف متتابعة لا قافية واحدة كما درج الشعر العربي عليه في ابداعاته المتنوعة.

الكتاب صدر عام 1945، عن دار المكشوف اللبنانية، وما زال صالحًا للقراءة والاستفادة منه ومما ضمّه من اجتهادات عبوّدية ذكية وجريئة أيضًا، وقد أعدت قراءته مؤخرًا، بعد أن توفّرت لدي نسخة أصلية قديمة منه.

قبل التوغل في التحدث عن الكتاب وما فاض به من اجتهادات لافتة خاصة، أود أن أقدّم فكرة عنه، يقع الكتاب في 276 صفحة من القطع الصغير، ويتطرق فيه مؤلفه، العلّامة، إلى العديد من المحطات الهامة في فهمه لأبي العلاء وفي تاريخه وعطائه الثرّ الثمين. مثل: كيف كنت أفهم المعري، مدرسة أبي العلاء ومعتقده، مذهب أبي العلاء، وشاعر العقل الفاطمي.

واضح من هذه العناوين، لا سيما الاخير بينها، أن عبّود يقدّم اجتهادًا جريئًا وغير مسبوق في فهمه عقيدة أبي العلاء، وأنه يحاول أن يتعمّق في قراءته له عبر نصّه وليس عبر شخصه، كما حاول ويحاول الكثيرون، وفق عبود ذاته.

من الاجتهادات المختلفة واللافتة في قراءة عبود لأبي العلاء في كتابه هذا، قوله إن اللزوميات ما هي إلا نظمُ متمكن، وإنها لا تختلف في كينونتها عن ألفية ابن مالك المعتمدة على النظم، وليس على الخلق الشعري، وبعيدًا عن تقديس آخرين للمعري، يتقاطع عبّود ويتفق مع الكثيرين من دارسي المعري.. في أن قصيدته " غير مجد في ملتي واعتقادي" هي من عيون الشعر العربي.

يطرح عبود في كتابه هذا السؤال الذي طالما طرحه آخرون عن أبي العلاء مُفكرًا، ويُفهم من حديثه عنه أنه لم يكن مبادرًا في أفكاره، وإنما هو كانت رادًا لأفعال، مثل موقفه من اللذات التي يقول عنها" ولم أعرض عن اللذات إلا لأن خيارها عني خنسنه". ويلخّص رأيه هذا في أننا لا يمكننا أن نطلق على المعري صفة الفيلسوف، كما فعل كُتّاب مصريون في عدد مجلة" الهلال "المُكرّس له ولذكراه الالفية، وإنما هو يُقدّم اجتهاداتٍ متشائمةً للحياة والانسان وحسب.

مع هذا يعرف عبّود قيمة المعرّي مفكرًا وضع العقل في أعلى سُلم أوليّاته " حكّموا العقل لا إمام سوى العقل"، وينهي كتابه بخاتمة قصيرة تحت عنوان "عنزة ولو طارت"، ينعى فيها على اولئك الذين لا يحترمون المعري وعطائه بقدر ما يقدّسونه. ضمن إشارة ذكية منه للنظر المُتمعّن فيما خلّفه من تراث ابداعي. ويكفي لفهم هذا الكتاب، جيدًا، أن ننظر في عنوانه" زوبعة الدهور" لنتأكد من أن عبود يحترم المعري.. لكن لا يُقدسه.. وفي هذا حكمة تدُل على شجاعته وخصوصيته المتفرّدة.. ناهيك عن أنها تدُل على ناقد عميق النظر.. وافر الاطلاع.. يقول كلمته ولا يمشي، وإنما يتوقّف عندها مُعتبرًا إياها رسالةً عظيمةً ومسؤوليةً تاريخية.

كتابٌ جديرٌ بالقراءة.

***

ناجي ظاهر

كلما أطل علي عام جديد برأسه أجده يمعن النظر في مستفسرا: " ها .. ماذا ستفعل هذه السنة؟ ". أرد عليه بحزم:" سأقلع عن التدخين"، لكني لم أفعل قط رغم كثرة وعودي، وفي رحلة ضعفي هذه كانت صورة نجيب محفوظ تقفز إلي ذهني منذ أن كنا نذهب إليه في ندوته الأسبوعية في ميدان الأوبرا، وكان معظمنا يدخن، أما الأستاذ فكان يسحب سيجارة من علبته كل ساعة بالضبط من دون أن ينظر إلى الوقت في ساعة يده. وحين تجاوز محفوظ التسعين سمح له الأطباء بسيجارتين فقط في اليوم، وعام 2007 كنا عنده في العوامة" فرح بوت" أنا وأخي جمال الغيطاني، ومد الأستاذ نجيب يده إلى سيجارة فمازحه جمال قائلا:"هذه ثالث سيجارة أستاذ نجيب"، فهز الأستاذ رأسه واثقا وقال:" مستحيل. إنها الثانية". أدهشني بعمق إرادته، الإرادة التي لم تحالف فنانين عظماء مثل سيد درويش الذي أغواه الكوكايين، وأحمد نجم الذي أغراه الحشيش، وغيرهما. وأعرف أن التدخين ضعف وأقرر مطلع كل عام أن أقلع عنه، قررت آلاف المرات منذ أن بدأت في الرابعة عشر أقتبس، اقتباسا وليس سرقة، سيجارة بعد  الأخرى من علبة والدي أثناء نومه، فلما انتبه إلى ذلك دفع نحوي على سطح المكتب علبة كاملة وقال:" خذ. دخن". حاولت أن أنكر، فهز رأسه بشكل قاطع وأردف: " دخن .. بلاش كذب". من يومها لم أسحب يدي من الدخان ولا توقفت أصابعي عن إشعال أعواد الثقاب، نحو ستين عاما كاملة، طاردتني خلالها صور ضعف بعض الأدباء وصور قوة ارادة البعض، وعلاقة ذلك بالإبداع والاستمرار فيه. في فبراير 1968 تم اعتقالي مع أخي صلاح عيسى لنحو ثلاثة أعوام، وفي طرة اكتشفت أن السيجارة هي العملة الوحيدة المتداولة بين المعتقلين فحلاقة شعر الرأس بخمس سجائر، كوب الشاي باثنتين، وهكذا. وكانت إدارة الحياة المشتركة بين اليساريين تصرف لكل منا ثلاثة سجائر فقط في اليوم، فاقترح صلاح أن نقوم بتقسيم كل سيجارة إلى ثلاث قطع، وكان عندنا طابور فسحة في فناء رملي، فكان صلاح يتأمل أعقاب سجائر طويلة مرمية في الرمل ويهمس ضاحكا: " ثروات ملقاة على الأرض يا أبو حميد!". ظللنا في هذا الحرمان إلى أن ساقوا إلينا شابا معتقلا جديدا لا نعرفه، تبين أنه من الأثرياء، وكان يحمل في جيبه دائما علبتين كاملتين!! وتبين، لحسن حظنا وسوء حظ الشاب، أنه من هواة التأليف المسرحي، ولما كان المهتمون بالأدب قلة في العنبر فقد طلب منا أنا وصلاح أن يقرأ علينا فصلا من مسرحية كتبها، وكان يجلس على الحشية بالقرب منا ويقرأ، ونحن نردد مع كل كلمة: " الله.. الله..أعد هذه السطور"، و تمتد أصابعنا إلى علبته ونحن نتنهد من شدة التأثر بالفن. ظللنا عدة شهور نقرأ فصلا واحدا من ست ورقات، ويختلج وجهانا بالتأثر، وتختلج أصابعنا نحو العلبة. وبالطبع لم يكن المؤلف ليبخل على حركة النقد النزيهة بشيء. وحين جاءنا الشاب ذات يوم يائسا ليعلن أنه سيتوقف عن الكتابة حل علينا الذهول، وصرخت فيه: " لاء.. لاء.. إياك أن تتوقف.. هذه كارثة.. واعلم أن موهبتك ليست ملكك وحدك"! 

أتذكر كيف كنا في روسيا ندخن السجاير الروسية وكانت سيئة مشبعة بالرطوبة، فكنا نضع العلب قبل أن ندخنها على مدفأة لطرد الرطوبة أو كما كنا نقول: "من أجل تحميصها"، وعندما عدت إلى مصر زارتنا زميلة كانت ماتزال تدرس هناك وقدمنا لها سيجارة مارلبورو فأمسكتها بين أصابعها وسألتنا بجدية: " محمصة؟ ". مع ذلك كله فإنني مع إطلالة العام الجديد سأكف عن التدخين، حتى لو احتاج الأمر في البداية إلى فنجان قهوة وسيجارتين. عام جديد سعيد نحقق فيه بعض الأمنيات الطيبة.

***

د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري

 

عرف الابداع الادبي والفني منذ فجرهما الاول، جانبين، أحدهما هو الهامّ والآخر هو الاقل أهمية، هذان الجانبان تمثّلا في الابداع الحقيقي الذي دخل إلى الذاكرة البشرية، أما الجانب الآخر، فقد تمثّل فيما يمكننا أن نطلق عليه الجانب الاجتماعي وكل ما يتعلّق بصاحب العمل الابداعي.. لا بالعمل ذاته.

عن الجانب الاول نقول، إنه الهدف والمبغى وسدرة المنتهى في الابداع عامة وفي النوعين المذكورين خاصة، فالكاتب أو الفنان الحقيقي، إنما يبغي من كل عمل إبداعي يقوم به وينفّذه، إلى مرمى واحد، هو أن يضيف إلى ما سبق وقاله آخرون سابقون ما هو جديد وجدير، لهذا نراه لا ينام الليل، ويصل هذا الأخير بالنهار كي يُقدّم أفضل ما لديه، مسعينًا بكلّ ما يمكنه التوسل به تحقيقًا لهذه الغاية سواء كان بالاستزادة من الثقافة والاطلاع، أم بالدراسة والمتابعة لكلّ ما هو جديد وحتى قديم في المجال. لهذا نلاحظ أن المبدعين الحقيقيين الجديرين بصفتهم هذه، يضعون الابداع ذا المستوى الرفيع في أعلى سُلم أولياتهم، غير عابئين بما يمكن أن يستتبعه إنتاجهم الابداعي من انتشار وشيوع ذكر، وتحضرني في هذا السياق رؤية مختلفة لتلك التي عرفناها حتى الآن، عن أن الحرمان الفقر والجوع، هما الابوان الشرعيان للإبداع، هذا الرأي هو للمثقف السوري د. سامي الدروبي، المعروف بإثرائه المكتبة العربية بالترجمات الكاملة لكل من الاديبين الروائيين الروسيين البارزين فيودور دوستوفسكي وليو تولتسوي، ومفاده أن الفقر الجوع والحرمان قد يكونان نتيجةً للحياة التقشفية التي يعيشها الانسان المبدع، وليس مقدمةً لها، كما أشيع دائمًا، لقد أورد الدروبي رأيه الثمين هذا في كتابه القيّم عن " علم النفس والادب"، وأعتقد أن مرماه البعيد يتمثّل في أن الانسان المبدع قد ينسى العالم إلا أنه لا ينسى إبداعه.. مهما طاله مِن ظُلمٍ وعسف.

أما عن الجانب الآخر للإبداع الادبي، فهو ذاك الذي يتعلّق بصاحبه وبذيوع ذكره، أعترف أن هذا الجانب هو الدافع لكتابة هذه الخاطرة، فما أكثر أولئك الذين ينشدون السمعة الادبية الطيبة في عصرنا، عصر انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي وهيمنة العولمة/ الامركة، بعد انتهاء الحرب الباردة، أي انتهاء زمن الحروب، هؤلاء لا يهمهم ما يبدعونه وينتجونه، بقدر ما يجذبهم البريق المُضلّل للشهرة، ومن هؤلاء أشير إلى مَن يدّعي أنه شاعر أديب أو مبدع فنان، دون أن يُقدّم أي ابداع يُعتدُّ به، ومنهم من يستكتب آخرين وينشر ما يكتبونه له بالأجرة أو مجانًا، مُدعيًا أنه من بنات إبدعه، ومنهم أيضا مَن يستقطب بفهلويته الاجتماعية، أو موضعيته الوظيفية، عددًا من الاصدقاء الذين يداهمونه باللاياكات على الطالع والنازل، غير آخذين بعين الاعتبار المستوى المتدنّي الذي يُقدّمه للآخرين، من القراء والمتلقين. في هذا السياق يهمني الاشارة إلى فكرة طالما ردّدها شعراء ومثقفون منهم الشاعر محمود درويش، مُفادها أن هناك فرقًا كبيرًا بين الشهرة والأهمية، فقد ترى مبدعًا مشهورًا دون وجه حق، فيما ترى آخر مبدعًا وغير مشهور، فالشهرة ليست مقياسًا للإبداع، وإنما مقياس الابداع.. هو الابداع ذاته.

إذا كان لي من كلمة أضيفها في نهاية هذه الكلمة هي تلك التي تتعلّق بالإبداع والتسويق، وقد سبق وأشرت إليها في أكثر من كتابة وموقع، لا شك أنه من حق المبدع ذاتيًا، كما هو الشأن في عالمنا العربي عامة، أو مدير أعماله كما هو الامر في الغرب، أن يُسوّق ما يقوم بوضعه من إبداع، شريطة ألا ينسى أن الابداع وليس الانتشار المجّاني هو الهدف، ومما يمكن ذكره في هذا المجال، ما قاله الكاتب الروائي الايطالي المبدع البرتو مورافيا، صاحب الروايات المشهورة عالميًا: "السام"، "امرأة من روما "و "أنا وهو". لقد قال مورافيا ما مُفاده إنه من حق المبدع أن يسوّق عمله بنسبة عشرة بالمائة، لكن من واجبه أن يُبدع بالمتبقي أي تسعين بالمائة، وليس العكس.. كما يحدث لدينا.

***

ناجي ظاهر

 

عَلّي أبْتدِئُ فأقولُ: إنَّه لَمِنَ الغرابةِ أنْ نجدَ اللحْنَ في اللغةِ، أو الخروجَ على ضوابِطِها، ظاهرةً لا يَعْبَأُ بها بعضُ الكُتّابِ في عالمِ اليومِ، كما قد يُلاحَظُ  في كتاباتٍ تزخرُ بها بعضُ صفحاتِ المجلاتِ والمدوناتِ الالكترونية.

وإنّي لأُلقي التبعاتِ على الكُتّابِ انفُسِهم أوَّلًا، فالْأجدرُ بهم أنْ يُقدِّموا نِتاجًا يخلو من الخطأِ والخطلِ ما اسْتطاعوا، وأنْ يُحافظوا على سُمعتِهم وسُمعةِ المنابرِ التي اتاحت لهم النشرَ، وألّا يفرحوا بأنْ يجدوا مادَّتَهم قد نُشرت وهي ملغومةٌ بالْأخطاء.

إنَّ النتاجَ كثوبٍ أبيضَ، سرعان ما تَبرُزُ عليه البقعُ السوداءُ، مهما صغُرت، فتشوهُ مَظهَرَه.  علينا أنْ نفهمَ أنَّ ظهورَ المادةِ منشورةً ليس دليلًا على سلامتها لُغويًّا، ولربَّما تحوَّلت إلى طلقةٍ تصيبُنا من حيثُ لا ندري، فتهوي بنا في موقعٍ لا نرتضيه لدى القراءِ، بل لدى اقرانِنا من الكُتّابِ الذين تبوَّؤوا مقاعدَ مرموقةً في نفوسِ القراء.

مُجمَلُ القولِ: علينا ألّا نُخدعَ  في أنْ نرى نتاجنا منشورًا، إلّا اذا كان سليمًا معافًى يتمتَّعُ بالقبولِ لدى القارئ الحصيف.  ولا تحسبنَّ - ابنَ عَمّي - أني أدعو الى غريبِ المفرداتِ او غامضِها، بل أدعو الى اسْتعمالِ المفردةِ السليمةِ المفهومةِ، التي تؤدي غرضَها في جملةٍ متكاملةٍ خاليةٍ من الأخطاء لغةً ونحوًا، بليغة بعيدة عن العُجمة والركاكة اسلوبًا واسْتعمالًا، وبعد ذلك فليكْتبِ الكاتبُ ما يكتُبُ، وللجمهورِ الخَيارُ ان يقرأَ له او لا يقرأ.

واذا كنتُ أعطي العذرَ لمحرري بعضِ المجلاتِ الالكترونية اليومية، لا سيما تلك التي يحرّرُها كادرٌ قليلٌ عددًا، متطوِّعٌ عملًا، يعملُ ليلَ نهارَ عن رغبةٍ صادقةٍ لخدمة الكلمةِ دون مردودٍ مادِّيٍّ، كما هو الحال في المجلات الالكترونية التي تخلو من الاعلانات التجارية، اذ ليس من العدلِ ان نُحَمِّلَ هؤلاء مسؤوليةَ أنْ يتأكَّدوا من صحةِ كلِّ كلمةٍ، فهذا جهدٌ جبارُ يفوقُ طاقاتِهم، بل يحتاج الى فريقِ عملٍ مهنِيٍّ متخصِّصٍ مُوَظَّفٍ لهذا الغرض.

أقولُ فإنَّ المسؤوليةَ هي مسؤوليةُ الكُتّابِ أولًا وآخرًا، وانها الأمانةُ تقع على عاتقهم، احترامًا للكلمة التي ينشرون، واللغةِ التي بها يكتبون، والمنبرِ الذي من خلاله يظهرون، وتفاديًا لما ستكون عليه نظرةُ  القراءِ، اذا ما تكررت الأخطاء.

انا لا اقصد مجلةً معينةً، أو كُتّابًا محدَّدين، ولكني اقولُها صراحةً، اني اجد احيانًا في بعض ما يُنشرُ، ما لا يُريح، لا بل ان بعضَ المجلاتِ لا تتورَّعُ عن جهلٍ او دونَهُ ان تتحيَّزَ لأسماءَ معينةٍ، او لجنسٍ معينٍ دون مراعاة الجودة، وربما اسْتبعدت الجيدَ ونشرت المعلول.

إنَّنا، معشرَ الكُتّابِ، ينبغي ألّا نغْتَرَّ بأنْ نرى اسماءَنا تتكرَّرُ على صفحات المجلات.  علينا أنْ نعرفَ أنَّ هناك من يقرأ بوعيٍ رصينٍ، ويميز بين الغثِّ والسَمين، فاذا ما تكرَّرتِ الأخطاءُ، أيًّا كان نوعُها، لغويًّا او نحويًّا او إملائيًّا او عَروضيًّا، أو غير ذلك من العِلَلِ، فان ذلك سيُسْقِطُ الكاتبَ مهما كثُر نشره، جالبًا السمعةَ السيئةَ له، وللمنبرِ الذي ينشر فيه.

انا اعرف أنَّ كثيرًا من الكُتّابِ متميزون في كتاباتهم المتنوعة، لهم مكانتُهم وجمهورُهم، واني لأرفع قبَّعتي لهم احْترامًا، لأنهم مستمرّون في العطاء، يكتبون الكثير الراقي تطوُّعًا، لا يبغون إلّا زكاةَ ما يحملون ويملكون، إلّا اني ارى احيانًا نماذجَ لا تميِّز بين أبسط  قواعد النحو، او ترصف كلماتٍ لا تعرف ما المقصود وراءها، او تكتب شيئًا على أنه شعرٌ، وما هو بشعر.

اني لا ادعو الى التضييق واقْتصار الكتابة على النُّخبةِ، بل ادعو الى فتح المنابر للكُتّاب الجدد في شتى الميادين، والأخذ بأيديهم، على ان يَسْعَوْا الى عرض نتاجهم على من يثقون بهم قبل النشر.  وانا اذ اكتب هذا فلا ادَّعي الكمالَ، ولست مختصًّا في اللغة، لكني اعشَقُها، وإنْ كنت مهتمًّا بشؤون العلوم والهندسة، ولا أظنني إلّا متعلِّمًا.

انا اؤمن بأنَّ مسالةَ العلمِ ينبغي ألّا تتوقَّفَ، ومتى يظن الفرد أنَّها قد انتهت عنده، فإنَّه يحكم على نفسه بالموت.  علينا ان نتذكر أنَّ الحياةَ مدرسةُ، يمكن للانسان أنْ  يتعلمَ منها ما لا يتعلَّمُه من الكِتاب.

انا اذ أوجِّه الآن دعوتي عامةً، منطلِقًا من هدف الحفاظِ على سلامةِ لغتِنا الجميلة، فإنني لستُ بأول الداعين، ولن اكون آخرَهم، فلقد سبقني كثيرٌ من الغيارى دعوةً وتطبيقًا، ولست بالأحرص منهم.

اذكر ان إحدى الصحف الرئيسيةِ في العراق، كانت  قد نشرت لي مقالة قبل اكثر من اربعين سنة،  تحت عنوان "اللغة اللغة في كتاباتنا العلمية".  كانت المقالة تدعو من يكتب في العلوم باللغة العربية، الى الحفاظ على سلامتها، وقلت ما نصه " انك لا تنتقصُ من اهمية موضوعِك العلميِّ الذي تقدمه، اذا ما التزمتَ بقواعدِ اللغة (التي لا تحفل بها)، بل انك لتزيد الموضوعَ جمالًا وحيويةً، حينما يخلو من كلمةٍ غريبةٍ، او خطأٍ مَعيب، فمتى كان للُّغةِ موقفُ الضدِّ من العلم، ومتى كان للعلم موقفُ الضدِّ من اللغة؟  انهما - لا ريب - يشكلان نسقًا متناغمًا تستجيب له العقول، وتهفو اليه النفوس".

والطريف أني كنت في تلك المقالةِ، قد تناولت التعليق على مُؤَلَّفٍ طبعته جهةٌ إعلاميَّةٌ رسمية، وكان الكاتبُ هو أحدُ الاساتذة ممن درَّسني في احدى سِنِيِّ دراستي الجامعية الأولية،  لا بل صادف ان اختير رئيسًا في مناقشة رسالتي لنيل اولِ درجةٍ من درجتي الماجستير التي أحمل!

لقد كنت جريئًا بل متحمِّسًا في تبيانِ 44 كلمةً مخطوءةً في مُؤَلَّفٍ صغيرٍ يتناولُ مفهومَ إحدى النظرياتِ العلمية الشهيرة.  لم اكتفِ بذلك  بل ألقيتُ اللومَ على المؤسسة الناشرة، وقلتُ  كان عليها ألاّ تنتهي الى طباعةِ الكتابِ، ما لم تتأكدْ من صحةِ ما ورد فيه لغويًّا، وان كان الكتابُ يتحدث عن موضوع علميٍّ صرف.  وحين تناهى الى سماعِ المؤلِّفِ الفاضلِ، ما كتبتُ عن مُؤَلَّفِه، تقبَّلَ ما ذهبتُ اليهِ بصدرٍ رحب دون اعْتِراض.

ومن المواقف الاخرى في ذلك الوقت الذي كان للكلمةِ حُرمتُها - مسموعةً او مكتوبة - واتمنى لو اسْتمرَّت هكذا، أنْ أُنيطتْ بي مسؤولية تحرير احدى المجلات العلمية المهمة.  وأذكر اني تسلَّمْتُ بحثًا علميًّا من احدى الدول العربية.  وحين اطَّلعتُ عليه، رفضت أنْ أنشرَه في المجلة، وأعَدْتُه الى مؤلفه معتذرًا، عن عدم  موافقتي على نشر البحث في شكلِه المُرسَل، ما لم يتمَّ تصحيحُ ما انْطوى عليه من اخطاءٍ لغويةٍ شوَّهتْهُ، بل ربَّما قادت القارئَ الى فهمٍ مخطوء.

انا اليوم، ادعو كُتّابَ الثقافةِ العامة، وليس العلوم حسب، الى الحرص قدر المستطاع، على المراجعة الجادة لما يكتبون من مواد، قبل ان تُصارَ الى النشر، فكم أرى سقطاتٍ لغويةً ونحويةً واملائية، وكم أرى خروجًا على العروض في ما ينشرعلى أنَّه  شعر، وما هو كذلك، فأقول والوصية لنا جميعًا، ولا أستثني منّا أحدا:

اللغةَ اللغةَ في كتاباتنا معشرَ الكُتّابِ، فالْمسؤوليةُ مسؤوليتُنا، وأعرف أنها ليست يسيرة.  نحن نسعى الى الكمال ما اسْتطعنا، وكلنا يقع في الخطأ، وخيرُنا من يحاول ان يقلِّلَ من الأخطاء، إن لم نقل يتفاداها ما استطاع، وألّا يستمرَّ في الخطأ لِكَيْلا يُصبِحَ مأْلوفًا، سلام.

***

عبد يونس لافي

في المثقف اليوم