أقلام ثقافية
محمد سعد: "العمى" وغياب السلطة!!
رواية للأديب البرتغالي [جوزيه ساراماجو]
يقع الكتاب في 380 صفحةً، ويبدأ كعادة ساراماجو بالحدثِ الرّئيس مباشرةً، فعلى إشارة المرور يُصابُ سائقُ سيّارةٍ بالعمى، يصرخُ، ويستغيثُ، يتجمّعُ النّاسُ، ويتطوّعُ أحدُهم لإيصاله إلى منزله بسيّارته نفسها، لكنّه يسرقُ السّيّارةَ بعد إيصاله.
يؤخَذُ المصابُ بالعمى إلى الطّبيب، فيفحصُه لكنَّ الفحصَ يُثبتُ عدمَ وجودِ مرضٍ، وأنّ العينين سليمتان.
خلال ساعاتٍ يُصابُ سارقُ السّيّارة بالعمى، والطّبيبُ أيضاً، والمرضى الذين كانوا في غرفة الانتظار، وينتشرُ وباءُ ما سُمّيَ بالعمى الأبيض بين النّاس دون معرفة السّبب.
كان العمى مختلفاً عمّا نعرفُه، بحيث يرى المصابُ كلَّ شيءٍ أبيضَ، وكأنّه غارقٌ في بحرٍحليبيٍّ.
تبدأ المرحلةُ الثّانيةُ من الرّواية داخلَ الحجر الصّحّيّ الذي وضعَ المصابون داخله ليعيشوا ويتدبّروا أمورَهم، فالدّولةُ لن تتدخّل في أيّ شيءٍ يحدثُ هناك (خشية العدوى) إلّا في أمرين هما: إرسالُ الطّعام والشّراب للعميان، وقتلُ مَن يحاولُ الخروجَ منه.
فالكاتبُ هنا تحدّثَ عن غيابِ السُّلطة، وأثرِ هذا الغيابِ، ففي الحجر الصحي غابَتْ السُّلطة الدّاخليّة بين العميان، وغابَت سُلطة الدَّولة، فالإنسانُ دون سُلطة يعيشُ حياةً بهيميّةً، ويعودُ لقانونِ الغابِ، أي البقاءُ للأقوى.
كلُّ مَن في الحجر عميانٌ سوى زوجةِ الطّبيب التي تظاهرَت بالعمى لتبقى مع زوجها، ولأنّها كانت تتوقّع إصابتها به في أيّ لحظة.
المرحلةُ الأخيرةُ من الرّوايةِ ستكونُ بعدَ الخروجِ من الحجر، ليس لِشفاءِ المرضى بل لسببٍ آخرَ، فكيف ستكونُ حياةُ الأعمى في عالَمٍ مفتوحٍ...؟
زوجةُ الطّبيب المبصرةُ كانتِ الأشدَّ ألماً، لأنّها الوحيدةُ التي رأتْ انهيارَ الأخلاقِ، ورأتِ القذارةَ والخيانةَ والجثثَ واغتصابَ النّساء....!!
الرّوايةُ رمزيّةٌ، فمصطلحُ العمى الأبيض، وعدمُ وجودِ خللٍ في عينِ المصاب به إشاراتٌ إلى( عمى الفكرِ والوعي) وأنّنا نظنُّ أنفسَنا سليمي الحواسِّ، بينما نحن غارقون في وحل الجهلِ.
الكاتبُ لم يسمِّ البلدَ الذي أصيبَ بهذا الوباء، ولم يسمِّ الأشخاصَ، بل ذكرَ صفاتِهم وأعمالَهم، كالطّبيب والأعمى الأوّل والطّفل الأحول والمرأة ذات النّظّارة السّوداء، وكأنّه أرادَ أن يُشعرَنا بنوعٍ من العمى.
وناقشَ أخلاقيّاً في فقراتٍ من الرّواية أحداثاً جرَتْ في الرّوايةِ كمسألةِ سرقةِ سيّارةِ الأعمى الأوّل، ومسألةِ مساعدةِ زوجةِ الطّبيبِ للعميان وغيرها.
كما أنّه لم يكشفْ سببَ الوباءِ، ولا سببَ ذهابِه، ولا سببَ عدمِ إصابةِ زوجةِ الطّبيب.
براعةُ الكاتب في السّرد والوصفِ عظيمةٌ، وقد جعلَتْني أعيشُ الحالةَ، إذ أنهيتُ فِقرةً من الكتابِ داخل فترة من الوعكة الصحية ، ولمّا وقفتُ للنّزولِ من سريري ظننْتُ نفسيَ المبصرَ الوحيدَ في المستشفي، وأنّ النّاسَ لا يرونَني...!!
***
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري