أقلام ثقافية
محسن الأكرمين: حكايات كانت تحكى في ليالي رمضان
بغلة القبور، ومحكمة الشيخ الكامل الليلية.
مدخل أساس: بعيدا عن الملاحظات المعيارية التي تنتقد (الخرافة/ الأسطورة)، أشتغل على لملمة ولو جزء يسير من الأحجيات الشعبية (الشفهية / التراث اللامادي) والتي كانت تؤثث جلسات الأسر التقليدية والشعبية. حيث كانت الجدة والعمة تبدع في الحكي والقصص الخرافية المخيفة... كان الملك سيف ذو يزان ... ورأس الغول... وبغلة القبور من مستملحات الحكايات الشائعة والرائجة ... اليوم أحكي لكم بعض ما ورد من خرافات بغلة القبور... لا أمارس نشر الخرافة، وإنما أبتغي التوثيق فقط لجيل ما بعد (الطابليت) والهاتف الذكي...
من بين الحكايات التي كانت تثير الرعب في الصغار كما في الكبار، قصة بغلة القبور التي كانت تروع أطراف مدينة مكناس ليلا. بغلة القبور حسب ما ورد من حكي شفهي، كانت تحمل مواصفات الحيوان بمتمثلات الإنسان في شقه العلوي، أي أنها خليط في بنيتها الجسمانية. بغلة تسكن قبور الموتى، ولا تخرج إلا ليلا بعد صلاة العشاء، وتعود إلى المقابر وحالتها الأولية قبل بيان الخيط الأبيض من الفجر.
تحكي الحكاية أن كل مقبرة بمكناس، كانت تخرج منها بغلة للقبور ليلا، كانت تلك البغلات يقمن بترويع الساكنة وبعث الخوف فيهم ليلا، وبكل من تجرأ الخروج، أو اضطر إلى البقاء خارج بيته ليلا. وكانت بغلة القبور كما ورد في حكايات عمتي (رحمها الله) امرأة ارتكبت ذنب الحد، وهي في ثوب الحداد الأبيض، فعند موتها وغضبة الله عليها، تم مسخها إلى صفة جنية في هيئة نصف امرأة من بداية العنق وهي تحمل فيما تبقى جسد بغلة، مكبلة بسلاسل غلاظ.
تَصْمُت العمة (رحمها الله)، ونحن في شوق التجمهر حولها لمعرفة طاقة وقوة بغلة القبور. حينها تورد العمة (رحمها الله) أن بغلة القبول كانت تمثل القوة الضاربة في حي الزيتون بمتسع العراسي و خرير السواقي الليلية. كانت تسمع آتية من بعيد وهي تجر رنين سلاسل حديدية. كان الفزع التام يأتي من عيونها التي تشابه لعنة عيون ميدوزا في الأسطورة الإغريقية، فعيونها تشع منهما نيران بركان حارقة لمن يجرأ النظر فيهما بالتحدي !!!
ومن عجيب سلوكيات بغلة القبور أنها كانت رحيمة بالنساء، فلا تؤذي أية امرأة وقعت في طريقها، وبالعكس كانت تستهدف الرجال تنكيلا، وقد تعبث بعقولهم وأجسامهم فيصبحون (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ/ قران كريم/ سورة المنافقون)، بعد ممارسة عملية الإخصاء التام!!! تبتسم عمتي رحما الله خفيفا وتقول: كانت الزوجة عندما تغضب من زوجها تدعو له بلقاء بغلة القبور في ليلة مظلمة يطول بزوغ فجرها !!! حينها كانت قهقهاتنا تتعالى بيننا !!! كانت انطلاقتها من مقبرة سيدي عياد، وكانت تقف على حوافرها الورائية بدون حدوة عند باب باب كبيش ولا تقدر على تجاوزه ولو لبضعة خطوات. و لا يُعلم سبب عدم تجاوزها لحدود باب كبيش. وحين ضاقت ساكنة حي الزيتون من تصرفات بغلة القبور خاصة في موسم الصيف والحصاد. حملوا شكواهم إلى القيمين عن ضريح الهادي بنعيسى، وعن ضريح سيدي اسعيد.
كانت خصلة النية تُصاحب طيبة ساكنة الزيتون، كانت البركات تُوزع بغباء النية على أقطاب المدينة، كانت العلاقة وثيقة بين الشيخ والمريدين الطيعين الأوفياء. حقيقة كانت تصوراتنا ونحن صغار السن، انعقاد محكمة للجن تشابه محاكم شياطين جبل (شمهروش). كنا نتمثل كل بغلات القبور حاضرة وهي تضع عيونها أرضا احتراما لشيوخ الأضرحة والزوايا. في تلك الليلة تقول عمتي (رحمها الله) كما وصلتها من أخبار متواترة بالزيادة والتحريف والتشويق: حضر الساحة الخلفية لضريح الشيخ الكامل قرب البئر الموالي للمقبرة رموز أولياء الله كل على هيئة وصفة طيور الهدهد، إلى الحمامة، إلى النوق البيضاء والأحصنة التي تشع نورا. كان في تلك الليلة جمع طارئ لرفع الضرر والحد من تجلياته على الساكنة، كان تسمع نقاشات بين من حضر غير مفهومة اللغة بالبيان ، كانت بغلات القبول لا تتحرك ولا تحدث رنينا لتك السلاسل المتدلية منها.
من خوفنا ممن حضر وترأس محاكمة بغلات القبور بمكناس، كنا نسمع إلى حكي العمة (رحمها الله) ونحن في بنج من الحركة والتفكير. انتهت المحكمة قبل أن يصعد مؤذن الفجر لصومعة الضريح. حين نزع الشيخ الكامل سلهامه الشديد البياض، ومرره برفق على رؤوس كل بغلات القبور.كان الصمت يوازي صمت ساكني قبور مقبرة الشيخ. كان الحكم برفع الضرر، والتوسل إلى الله لرفع غضبه عن بغلات القبور، والعودة إلى مقامهن الأخروي بنهاية الظهور، والتعسف على الجنس البشري الحي.
تقول عمتي (رحمها الله) من ذاك اليوم انتهت أحداث بغلة القبور، وباتت تلك الليلة تخلد بالذبيحة الآتية من حي الزيتون عند بوابة الشيخ الكامل وسيدي سعيد. لكنها تركت بصمات حوافرها على باب كبيش على حجرة الرخام المزينة لأطرافه، وبعدها بات النسوة الغاضبات عن أزواجهن يضعن شموعا عند حفرة حوافرها تيمنا ببغلة القبور التي تأخذ الحق من قوة الرجال بالخصي، وعند هدم باب كبيش سوء تدبير وقرار، تحول النسوة إلى حدود اليوم على وضع الشمع في غار بالسور الإسماعيلي قرب الشراشر العلوية.
خاتمة أساس: لن، ولا نمارس تمجيد الخرافة، ولا نتبنى تلك المشعوذات اللاحقة بالموروث (اللامادي) الشفهي مكناس، ولكن نقوم بتجميع مجموعة من الحكايات الخارجة عن سياق المنطق والعقل، أولا لأجل التوثيق والتقاسم، وثانيا لأجل وصل الماضي بالحاضر، وأخذ المسافات البعيدة عن كل الخرافات غير الحقيقية.
***
محسن الأكرمين