أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: من دفتر لاجئ في الوطن.. شجرة ابي

عندما ضربت النكبة ابي بيدها الحديدية الخالية من الحياة والروح، اضطر لمغادرة قريته سيرين الحبيبة الوادعة، مكرها لا بطلا، تصحبه والدتي واخي الاكبر جوهر واختي نجية وخالاي محمد وعوض، رحمهم الله جميعا واطال في عمر اختي نجية، ليتشردوا في طول البلاد وعرضها وليستقر بهم المقام بالتالي في مدينة الناصرة، لأولد بعد سنوات، ولتولد فيها ايضا اختي ليلى وبعدها بسنوات اخي الاصغر موفق او توفيق كما اعتدنا مناداته. في تلك السنوات الغبراء السوداء، كان ابي في نحو الخمسين من عمره. وقد اراد حينها ان يستعيد عافيته المُولّية المُدمرة، فسافر الى مدينة حيفا، ليضع رأسه هناك في قفة تراب، وليعود بعد نحو الثلاثة عقود الى الناصرة ليفارقنا في رحلته الابدية الاخيرة.. بعد سفرة عمر قد تكون الاقسى لكثرة ما رافقها من الآلام والمعانيات.. رحل ابي قبل اربعة عقود ونيف، وها انا اشعر بها وكأنما هي اربع دقائق.. فيهزني الشوق اليه والى ايامه العذبة، رغم ما حفلت به من مر يوحي برائحة الحنظل.
فارقنا ابي رحمه الله، في صباح احد الايام المغبرة المصفرة. بعد ان دعونا الدكتور عزيز سروجي لمعاينته كما افترضت الاعراف والعادات، تمنيت لو انه ينظر نحوي عبر نظارته الطبية العريقة ويقول لي وابتسامته المعروفة تبشرني بالأمل القائل بان ابي لم يرحل وان كل ما حدث في ذلك الصباح، ما هو الا مزحة ثقيلة اخرى ارسلها الينا القدر في محاولة منه لامتحان صبرنا المتجدد وغير المتناهي، سوى ان ما حدث بالفعل كان غير ذلك.. وما زلت ارى رأي العين والمس لمس الروح، شفتي ذلك الطبيب القريب من قلبي.. وهو يقول لنا البقية في حياتكم.. العمر الطويل لكم.. يرحمه الله.
توجهت بعد انتهاء حياة ابي ورحيله المؤسي، الى مقبرة الناصرة وسألت حارسها عما يُطلب منا، نحن ابناء العائلة المهجرة، ان نفعل، فرد علي بعينين لمست فيهما اسى شفافا ومعنى غامضًا، قال هذه المقبرة لأهل البلد، واقترح علي ان اتوجه الى مقبرة" الغرباء"، لدفن ابي هناك.. توجهت الى تلك المقبرة، عينت موقعا تحت شجرة صنوبر وارفة.. وهناك حفرنا في بطن الارض لندفن ابي بهدوء وصمت يليقان بلاجئ في الوطن. بعدها بعقود نافت على الثلاثة، دفنا والدتي في نفس القبر على منى ان تلتقي الآمال الهاربة بين احب الناس الي واقربهم الى قلبي وروحي.. امي وابي. اما اخي جوهر ، وبعده اخي توفيق، رحمهما الله فقد تم دفنهما بعد رحيلهما المبكر، بفارق سنوات بينهما بالتأكيد ، في مقبرة الناصرة الجديدة.
كان ابي يحلم ان يدفن في ارض قريته سيرين، وقد عبر عن هذا اكثر من مرة، واذكر انني رأيت عندما زرنا قريتنا بعد عام النكبة الثانية "نكبة 67"،.. رأيت في عينيه دمعة وسؤالا.. دمعة لإحساسه انه لن يدفن، على الاغلب الاعم، في قريته العزيزة الغالية مسقط رأسه سيرين.. وسؤالا مفاده: ترى هل سيضمني تراب قريتي بحنو كما ضم قدمي الحافيتين ايام كنت طفلا صغيرًا؟
كثيرا ما كان ابي ينقل الينا رغبته هذه مرفقة بأحزان من عرف ان ما كسرته الايام من زجاج لن يعاد له سبك، واذكر بكثير من الالم انه كان في لحظات شروده يردد كلمات.. يغنيها، هي:
"يا شجرةٍ في الدار حاميكِ اسد
وتخلعت الغصون من كثر الحسد
زرعت الزرع.. واجى غيري حصد
يا حسرتي.. راح الزرع لغيرنا".
رحم الله ابي ورحم جميع مهجرينا ولاجئنا.. في البلاد والخارج والشتات ايضا، واسبغ عليهم رحمته الواسعة.
***
بقلم: ناجي ظاهر