أقلام ثقافية
عبد السلام فاروق: أدونيس وجائزة نوبل

استحقاق متجدد وسؤال ثقافي معلق
لا ينفك اسم أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر) يطفو على سطح المشهد الثقافي العالمي مع إطلالة كل خريف، في طقس سنوي أصبح يشبه طقوس الانتظار لمعرفة مصير عربي في جائزة نوبل للآداب. فالشاعر الذي بلغ الخامسة والتسعين من عمره، والمشهور بمواقفه المثيرة للجدل، يظل "المرشح الدائم" الذي لم ينل بعد مبتغاه، رغم مسيرة إبداعية تمتد لأكثر من سبعة عقود.
هذا الاستعصاء في حصول أدونيس على الجائزة يحمل في طياته إشكاليات عميقة تتجاوز مجرد التكريم الأدبي إلى علاقة المركز الأوروبي بالأدب العربي، وإلى موازين القوى الثقافية في عالم تتشابك فيه السياسة مع الفن في عقد معقد يصعب حله.
زلزلة التأسيس وتفكيك اليقين.
أدونيس هو أحد أبرز مجددي الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث قاد "ثورة حداثية كان لها تأثير زلزالي" على الشعر العربي، يقارن بتأثير ت. س. إليوت في العالم الناطق بالإنجليزية. وقد تجلى هذا المشروع التجديدي في أعماله المبكرة مثل "أغاني مهيار الدمشقي"، حيث تمرد على الوزن والبلاغة التقليدية، مستلهماً الميثولوجيا وواجه الموروث الديني والسياسي بجرأة نادرة.
امتدت تجربة أدونيس لتشمل حقل النقد الأدبي، حيث قدم في عمله المرجعي "الثابت والمتحول" مقاربة نقدية جذرية للثقافة العربية، مركزاً على الصراع بين عناصر الجمود وعناصر الحركة والتجديد في التراث العربي. هذا العمل الذي أصبح مرجعاً أساسياً في نقد الثقافة العربية، يمثل مع شعره مشروعاً متكاملاً يسائل المسلمات ويفكك اليقينيات.
صوت عربي ببعد كوني
يتمتع أدونيس بمكانة فريدة في الثقافة العربية المعاصرة، فهو في نظر كثيرين واحد من أهم الشعراء العرب منذ وفاة السياب إلى اليوم، وأهم عقل تنظيري شعري عربي في النصف الثاني من القرن العشرين. هذه المكانة التي يحتلها في الذاكرة الثقافية العربية وحركة الحداثة "لا يدانيها أحد" كما يرى بعض النقاد.
في العالم الغربي، حصد أدونيس جوائز مرموقة مثل "غوته" الألمانية و"بي إي إن/ نابوكوف" الأميركية، وهي جوائز ينظر إليها عادة كمقدمة محتملة لنوبل. كما يقدم في المهرجانات الأوروبية بوصفه أحد "الأصوات التي منحت العربية بعداً كونياً". وتُرجمت أعماله إلى ثلاث عشرة لغة، مما وسع من دائرة تأثيره خارج العالم العربي.
رغم هذه المكانة الأدبية، تشكل المواقف السياسية لأدونيس عائقاً أمام حصوله على الجائزة من وجهة نظر العديد من المحللين. فمواقفه من الثورة السورية عام 2011 أثارت انقساماً في الأوساط الثقافية الغربية؛ بين من رآه ناقداً للعنف والتدين، ومن اعتبر صمته عن النظام السوري نوعاً من "التواطؤ".
ويعد موقفه من عملية ميونيخ عام 1972 من أكثر مواقفه إثارة للجدل، حيث نشر افتتاحية بعنوان "العنف المحرر" دافع فيها عن العملية، معتبراً إياها "جزءاً متميزاً وفذاً من العنف المحرر الشامل" الذي "ينقل العرب من اجترار الذات إلى القبض على الموضوع". هذا الموقف وغيره جعل صورته في الإعلام الغربي متناقضة، فهو تارة يظهر كصوت للتنوير والعقلانية، وتارة يرى كرمز للانخلاع والغربة الفكرية عن واقعه.
حاجز اللغة والثقافة
تواجه ترشيح أدونيس تحديات أخرى تتعلق بالمركزية الأوروبية في الجائزة. فالعربية، رغم ثرائها، تظل بعيدة عن المشهد النقدي السويدي، ما يجعل أعضاء الأكاديمية يعتمدون بشكل رئيسي على الترجمات الفرنسية أو الإنجليزية لأعماله. هذه الترجمات تشكل حاجزاً تأويلياً بين النص الأصلي والقارئ السويدي، وقد تفقده الكثير من جوهره الشعري.
ويشير نقاد ومراقبون إلى أن غياب ترجمات جديدة لأعمال أدونيس إلى السويدية والإنجليزية في السنوات الأخيرة يقلل من فرص تقييم منجزه في سياق نوبل، التي تعتمد أساساً على التلقي النقدي الراهن داخل أوروبا.
في موسم 2025، يواجه أدونيس منافسة شرسة من أسماء تتقدم عليه في قوائم الترجيح الأدبية العالمية. فبينما يراهن أنصاره على تكريم مستحق لتاريخه، تشير التوقعات إلى أسماء لها زخم نقدي حالي، مثل الروائي المجري لاسلو كرازنا هوركاي الحائز على "مان بوكر الدولية"، والشاعرة والأكاديمية الكندية آن كارسن المعروفة بدمجها بين الكلاسيكيات والتجريب، والروائي الياباني هاروكي موراكامي المرشح الأبدي رغم شعبيته الجارفة التي قد تدفع الأكاديمية لتجنبه.
تتعامل الأكاديمية السويدية منذ عام 2019 بحذر مضاعف تجاه الأسماء المثيرة للجدل، بعد الانتقادات الواسعة التي واجهتها إثر منحها الجائزة للكاتب النمساوي بيتر هاندكه، المعروف بمواقفه المؤيدة للزعيم الصربي الراحل سلوبودان ميلوشيفيتش أثناء حرب البوسنة. منذ تلك الأزمة، باتت الأكاديمية أكثر حساسية للجدل السياسي، ما قد يؤثر على فرص مرشح يثير الانقسام كأدونيس.
بين النص والسياق
ينفتح مشروع أدونيس على أسئلة فلسفية عميقة تتعلق بالعلاقة بين الموروث والحداثة، وبين الذات والآخر. ففي "الثابت والمتحول"، لم يقدم مجرد دراسة نقدية، بل مشروعاً لقراءة الثقافة العربية في صيرورتها التاريخية، مفككاً إشكاليات التقدم والجمود. هذا المشروع الفكري الذي يمزج بين الشعر والفكر جعله أحد أبرز المنظرين للحداثة العربية، لكنه أيضاً عرضه لانتقادات كثيرة، خاصة من قبل من رأوا في مقاربته للموروث الديني تقويضاً للهوية.
استحقاق بلا ضمان
رغم المكانة الكبيرة التي يحظى بها أدونيس في الثقافة العربية، فإن أغلب المراقبين يرون أن احتمال فوزه هذا العام ضعيف. وتتراوح الأسباب بين محدودية الحضور الأكاديمي للأدب العربي في السويد، وغياب ترجمات جديدة لأعماله، إضافة إلى انشغال الأكاديمية مؤخراً بتوسيع خريطتها نحو كتاب من آسيا الوسطى وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية.
لكن يبقى أدونيس، بشعره وفكره، علامة فارقة في الثقافة العربية الحديثة، سواء حصل على نوبل أم لم يحصل. فالجوائز، في النهاية، ليست مقياساً وحيداً للإبداع، والإضافة التي قدمها هذا الشاعر إلى القصيدة العربية والفكر النقدي تظل إرثاً يستحق الدراسة بمعزل عن التكريم. وكما قال هو نفسه عن فوزه المحتمل: "إن فاز بنوبل للآداب فهو أمر متوقع وطبيعي، وإن لم يفز.. فهو أمر متوقع وطبيعي أيضاً".
***
د. عبد السلام فاروق