أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

قلة من الشعراء هم الذين نالوا المكانة الأدبية المرموقة الى جانب المكانة الروحية التي تصل حد التقديس، وقد يكون الشاعر حافظ الشيرازي(1315 ـ 1390 م) من بين الشعراء الذين نالوا المنزلتين عند الشعب الايراني، فقد حظي هذا الشاعر باحترام كبير ليس لدى السلاطين الذين عاصر حكمهم فحسب انما لدى الشعب ايضا، فهو يمثل " صوت الغيب " عند الايرانيين ولا يكاد يخلو بيت إيراني من ديوان حافظ، ذلك ان الفرد الايراني عندما يشعر بالقلق فما عليه الا ان يفتح ديوان " الشيرازي " عشوائيا ليجد الاجابة الشافية، فالاعتقاد السائد انه معهم في الشدائد ومن كلماته يستمدون القوة والتغلب على الحزن والألم ويمنحهم ايضا العزيمة والاصرار على السعي والمواجهة فهو يحثهم على الصبر وتحمل المشاق في مسيرة الوصول الى الهدف (ان كان عليك ان تعبر الصحراء لتصل الى هدفك، إمض دون ان تلق بالاً للأشواك الجارحة) كما ان الايرانيين ولشدة ايمانهم بحكمته وصواب رؤيته فأنهم يستخيرون بأشعاره حيث يجلس العديد من الايرانيين عند باب مقبرته وبأيديهم ديوان الشيرازي يفتحونه لمن يريد ان يقرأ طالعه او يريد الاقدام على أمر مصيري وذلك مقابل مبلغ بسيط من المال .

زرت ضريح الشاعر حافظ الشيرازي في مدينة شيراز الايرانية فوجدته تحفة فنية ومعمارية نادرة في الهندسة وصرحا شامخا بالجمال والعظمة وسط  طبيعة ساحرة تحف ضريحه الورود من كل جانب وعلى لوح ضريحه المصنوع من المرمر نقشت إحدى قصائده، ومشاركة لهمه الروحي (كم أشتهي الحديث معك عن حال قلبي) جلست بأجلال  حيث يرقد وقد غشيني الخجل من انني لم اتمكن من تحقيق رغبته (لا تجلس بجوار قبري دون خمر أو موسيقى، فربما أنهض من قبري راقصاً، عندما استشعر شذا وجودك) عندها شعرت بصدى قصائده يتسلل الى أعماق الروح:

 إن عمرنا قصير، ولكن طالما أننا قد نفوز

بالمجد وهو الحب، فلا تحتقر

الاصغاء إلى توسلات القلب

فهو يؤمن أن الحب، عذرياً كان أو عملياً، لا يستغنى عنه الشعر:

أيها الحب اجمع بيننا

فما حاجتي بعد ذلك إلى الجنة،

إن الذي خلق غدائر شعرك من ذهب وفضة،

وجمع بين الوردة الحمراء والوردة البيضاء

وأسلم إليهما خدك في شهر العسل

أليس بقادر على أن يمنحني الصبر، وأنا ابنه

اشعار حافظ الشيرازي تعكس حكمة عميقة وهي جزء من الحكمة الروحية للشرق وتتردد فيها مضامين تدين مظاهر النفاق الديني والاجتماعي كما يرفض بقوة واقع النفاق الذي عم عصره وما يميزه عن مجموعة عظماء الشعر الفارسي الخالدين، جلال الدين الرومي وسعدي الشيرازي وفريد الدين العطار ونظامي الكنجوي وأبو قاسم الفردوسي ان ديوانه قد ترجم إلى سبع وعشرين لغة حية، كما ان الشاعر الالماني " غوته " هام عشقا بأشعار حافظ، ونسج معه علاقة روحية خاصة وفي النهاية كتب ديوانا شعريا أهداه لحافظ الشيرازي تحت عنوان "الديوان الشرقي للشاعر الغربي ويعتبر شعره إلى جانب شعر جلال الدين الرومي  من المواد الأساسية للمغنين في إيران فهم يسلطنون على كلماته القائلة .

ألا يا أيها الساقي أدر كأسا وناولها

فأن الكأس للملدوغ بالعشق هي الراقي

والذي لفت نظري في زيارتي لضريحه ان هناك من يعتمد في دخله اليومي على بيع "فال حافظ" للمارة وهي عبارة عن مغلفات يحوي كل واحد منها على مقطع من شعر حافظ مع شرح ييسر على القارئ فهم المعنى، فوفقا لتقاليد قديمة فإن الإيرانيين في الأعياد الدينية وغيرها يأخذون الطالع من الديوان.

***

ثامر الحاج امين

عندما نقرأ عن شغف الأقدمين، بجمع الكتب العربيَّة الإسلاميَّة، نعني المخطوطات، فكان ظهور آلة الطّباعة حداً بين المخطوط والمطبوع، وذلك خلال القرنين السَّادس عشر والسَّابع عشر. لذا، لم يسترعِ ما خُط بعدهما الاهتمام، كأثر مخطوط، وإنْ ظهرت المخطوطات القديمة مطبوعات، فتبقى أصولها بمنزلة الآثار.

كانت أسواق الكتب تبيع المخطوط، ودكاكينها تُعرف بالوراقين (التَّوحيدي، الإمتاع والمؤانسة). صُنفت كتب عديدة، منها موسوعات في الوراقة والوراقين، نفعت المهتمين بعالم المخطوطات، جمعت فيها تراجم المئات مِن باعة الكتب ونُساخها، بينهم وراقات ونساخات نساء، ومؤلفون بمنزلة أبي حيان التّوحيديّ(ت: 414هج)، الذي اضطر إلى النسخ لوزراء، أقل منه مرتبةً، لذا صنف فيهم «ذم الوزيرين».

حضرتُ معرض المخطوطات السُّعوديّ، الذي أقامته وزارة الثّقافة السُّعوديَّة مؤخراً، حيث محافظة «الدِّرعيَّة»، ووجدته مناسبة لمعرفة النَّفائس مِن الخزائن الداخليَّة، والمعروض كان نماذجَ فقط (2000 مخطوط)، في مختلف المعارف: الفقه، والطِّب، والتاريخ، والجغرافيا، والمنطق والفلسفة، كذلك كان المعرض مناسبة لقيام ورش عِلم حفظ المخطوطات، وتعليم فن قراءة الخطوط القديمة، في زمن تراجع فيه القرطاس والقلم.

أقيمت ندوات، تصدرها محققو ومقتنو المخطوطات، عرب وسعوديون معروفون، كان الأبرز المحقق البغداديّ بشار عواد معروف، الذي حقق نحو خمسمائة مجلد، وأخيراً أنجز تحقيق تاريخ الطَّبريّ (عشرون مجلداً)، سيصدر قريباً عن «دارة الملك عبد العزيز» بالرِّياض، وغيره مِن أمهات التّاريخ، وتراجم الرّجال، ومِن المحققين تُعرف النَّفائس، فقبل مؤلف الكتاب اعرف مُحققه.

عندما نقول المفقود أكثر مِن الموجود، نحسب الدَّمار، الذي أصاب خزائن المخطوطات، عند اجتياح المغول لبغداد(656هج)، مع تحفظنا على رواية ابن خلدون(ت: 808هج) أنّ الكُتب كافة ألقيت في دجلة(ديوان المبتدأ والخبر)، وابن تغري(ت: 867هج) قال: حرقوا الكتب، وجعلوها آجراً لجسر عبر النّهر(النّجوم الزَّاهرة). كيف تكون القراطيس آجراً؟ وأخذ عنهما المتأخرون وأضافوا: جرى دجلة بالأسود والأحمر(الحبر والدَّم).

إلا أنَّ المرجح، خلال الحصار: «كان أهل الحلة والكوفة والسّيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة، فانتفع النّاس بذلك، وكانوا يبتاعون بأثمانها الكُتب النّفيسة»(الحوادث، تحقيق بشار معروف). نعم الكتب لا تعني المغول، ولا أي غزاة، وقد جربنا غزاةً(متحضرين)، فماذا فعلوا(2003)؟ فما بالك بالمغول(1258م)، لكننا نتحدث عن صدق الرواية أو تلفيقها.

تحدث أُسامة بن منقذ(ت: 584هج) عن ضياع أربعة آلاف مجلد له، باستحواذ قراصنة عليها وإتلافها(الاعتبار)، وأنَّ ولده مُرهْف(ت: 613هج) كان جامعاً للكتب، ولمحنةٍ اضطر إلى بيع الآلاف منها، وياقوت الحموي(ت: 626هج) اشترى كتباً منه(معجم الأدباء)، وهذا وغيره يُعد تراثاً مفقوداً.

أكثر المخطوطات المفقودة، ما يُعرف بـ «الأمهات» - بخطوط المؤلفين - فصار ضياعها ذريعة لمنكري التاريخ، مع أنَّ أغلب المؤلفين تُنسخ كتبهم، ومِن عظائم الكتب وصلنا مدوّناً بطريقة «الأمالي» - إملاء المؤلف - مع عدم وجود ثقافة حفظ الأصول، لكن العديد مِن الكُتب نُسخ في عصر مؤلفيها، ومنها مقروء عليهم، حتّى في العصر الحديث، مَن لا يحب خط يده لرداءته، مثلما فعل معروف الرُّصافي(ت: 1945) بكتبه، مع صديقه صاحب الخط الجميل، الوزير مصطفى عليّ(ت: 1980).

مَن يطلع على كتب الفهارس، مثل «الفهرست» للنّديم الوراق(ت: 388هج)، سيجد ثروة مِن الكتب ليس لنا إلا عناوينها، وهناك كتب أنقذها الخصوم، من الفقد، عندما ردوا عليها، وما اقتُبس مِن المفقودات، وحفظته بطون الكتب.

تستحق المخطوطات العناية، بمعارض سنوية، مستقلة، أو ضمن معارض الكتب، نقول هذا لمَن يُقدر أهميتها، وأهمية التّاريخ، لا مَن ينكره بعذر عدم وجود المخطوطات الأُمهات. أقول: إذا كتب شمس الدّين السَّخاويّ(ت: 902هج) «الإعلان بالتّوبيخ لمَن ذمَ التّاريخ»، يكون «الإعلان بالتّوبيخ لمن أنكر التّاريخ»، فالآلاف المؤلفة مِن المخطوطات، في مختلف المعارف، لم تُكتب مسرحياتٍ ودرامياتٍ، إنما وقائع عاشها النّاس، دُونت على الرّقِ والورق.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

لعلم من لا يعلم وهو يتحدث عن الشعر... إن (الهايكو) ليس شعراً إنما هو صناعة يابانية ذات مدلول رياضي ذهني... وإن الشعر (النثري) هو شعر متعدد القوافي وله احياناً اكثر من وزن، وموسيقاه لا خلاف حولها... وقصيدة النثر ليست - تافهة -، وإن هذا التوصيف لا يليق بالنشر.. وهنا، لست ممن يدافع عن هذا التحديث في الشعر فهو كفيل في أن يثبت قدرته على الثبات بإبداعاته المتميزة.. التطور والحداثة لا تلغيان جوهر الشعر ولا جماليته ولا حتى موسيقاه، إنما تشذبانه من الاضطراب ذي الطابع الشخصاني الذي لم يفهمه البعض لكثافته ورمزيته... عليتا ان نقرا الكثير لكي نتعلم اكثر ومن ثم نتمكن من إبداء الرأي حتى لا نخرج بالتالي بخفي حنين !!

الشعر العمودي ثابت لا غبار عليه، وهو يتربع عبر التاريخ مكانته القيمية ومنذ ما قبل المعلقات.. وأن الحداثة والتحديث لا يعني، كما أسلفنا مراراً، التقليل من قامة الشعر العمودي، إنما رفع الشوائب المتراكمات التي يتركها البعض من الذين يكتبون الشعر على سجيتهم دونما إمعان بمقومات الشعر العمودي وشروطه، ولا يقصد من ذلك الإساءة إنما حماية النص من المدخلات والشوائب عن طريق تفكيك الأنماط والقوالب الشخصانية التي تلبست قامات بعض الشعراء، وهو عمل بارع يتجلى في قوة النص وجماليته وإيقاعه الساحر وموسيقاه وإبداعه في غائيته.

***

د. جودت صالح

29/12/2024

 

  يا صديقي ورَفيقَ الكلِمَةِ الرصِينَةِ،

اِعلَم أنَّ الكلِمَةَ، في جَوْهَرِها، هي المِيثاقُ الأوَّلُ بَينَ الإنسانِ والعَالَمِ، وهي القَبَسُ الذي أضاءَ دُروبَ المَعرِفَةِ مُنذُ الأَزَلِ. لقد كانت الكلِمَةُ وسيلَةَ الإنسانِ لفَهمِ الكَونِ، وحِوارِه معَ ذاتِهِ، وبِناءِ الجُسورِ بَينَ العُقولِ والقُلوبِ. ولكن، ماذا يَحدُثُ حينَ تَفقِدُ الكلِمَةُ هَيبتَها؟ حينَ تَتحَوَّلُ من أداةِ بِناءٍ إلى مِعولِ هَدمٍ؟

إنَّ فُقدانَ الكلِمَةِ لِهَيبتِها ليسَ مُجرَّدَ تَراجُعٍ في قِيمَتِها البَلاغِيَّةِ أو تَأثيرِها التَّعبِيرِيِّ، بل هوَ انهيارٌ في مَنظومَةِ القِيمِ التي تَدعَمُها. فحينَ تُستَبدَلُ الكلِمَةُ الصَّادقَةُ بِالنِّفاقِ، وتُستَغلُّ لإضفاءِ الشَّرعِيَّةِ على الجَهلِ والخُرافَةِ، فإنَّ ذلكَ يَعدُّ إعلانًا صَريحًا عن انحِدارِ العَقلِ الجَمعِيِّ للمُجتَمَعِ.

إنَّ هَيبةَ الكلِمَةِ تُستَمَدُّ من احترامِ العَقلِ الذي يُنتِجُها والعَقلِ الذي يَستَقبِلُها. ولكن، في مُجتَمَعَاتِنا العَرَبِيَّةِ، كثيرًا ما نَرى الكلِمَةَ تُستَباحُ لأغراضٍ شَخصِيَّةٍ أو طائِفِيَّةٍ أو سِياسِيَّةٍ، فتُصبِحُ أداةً لِلتلاعُبِ بدلاً مِن أن تَكونَ مَنارَةً للهِدايَةِ. الكلِمَةُ التي كانت تُلقِي الضَّوءَ على الحَقائِقِ، باتَت تُستخدَمُ لِتشويهِها. الكلِمَةُ التي كانت تُحارِبُ الظَّلامَ، أصبحَت تُزيِّفُهُ في قَوالِبَ بَراقةٍ مِنَ الوَهمِ.

الكلِمَةُ والخُرافَةُ: تَصادُمٌ بينَ العَقلِ والفَوضَى

اِعلَم يا صديقي،

حينَ تُصبِحُ الكلِمَةُ وسيلَةً لإعلاءِ شأنِ الخُرافَةِ، فإنَّها تَخرُجُ مِن دائرةِ العَقلِ إلى فَضاءِ الفَوضَى. تُستَخدَمُ لِتزييفِ الوَعيِ، ولِلتلاعُبِ بِمشاعِرِ العامَّةِ. كم مِن كَلمَةٍ زُرِعَت في أرضٍ خَصِبَةٍ بالجَهلِ، فأثمَرَت أوهامًا دَفَعَتِ المُجتَمَعاتِ إلى التَّقهقُرِ؟ وكم مِن كَلمَةٍ خاطِئَةٍ أصبحَت حَجرَ الأساسِ لأساطيرَ بالِيَةٍ، نُدافِعُ عَنها كأنَّها مُسلَّماتٌ؟

إنَّ احترامَ الكلِمَةِ يَتطَلَّبُ أن تَكونَ مَحكومَةً بِمَنطِقِ العَقلِ والعِلمِ. لكنَّ الخُرافَةَ تَزدهِرُ عندما تُستخدَمُ الكلِمَةُ كأداةٍ لِتغييِبِ التَّفكيرِ النَّقديِّ. فبدلاً مِن أن تُثيرَ التَّساؤُلاتِ، تُغلِقُ الأبوابَ أمامَ أيِّ حِوارٍ. وبدلاً مِن أن تَكونَ مِفتاحًا للمَعرِفَةِ، تُصبِحُ قَيدًا يُعيقُ الحُرِّيَّةَ الفِكرِيَّةَ.

الكلِمَةُ والجَهلُ: تَحالُفٌ ضدَّ النَّهضَةِ

الجَهلُ ليسَ مُجرَّدَ غِيابٍ للمَعرِفَةِ، بل هو حالةٌ نَفسِيَّةٌ واجتِماعِيَّةٌ تَجعَلُ الإنسانَ يَقبَلُ بِما يُلقَى عليهِ دونَ تَمحيصٍ. حينَ يَتحالَفُ الجَهلُ مع الكلِمَةِ، تُصبِحُ الأخيرةُ عَدوًا للإنسانِ.

فالجَهلُ يُضفِي عليها سُلطةً زائِفَةً، ويَمنَحُها قُوَّةً خارِقَةً تُؤثِّرُ في عُقولِ العامَّةِ. إنَّها كَلِماتٌ بِلا جَوهَرٍ، أشبَهُ بِفقاعاتِ الهَواءِ التي تَلمَعُ في الضَّوءِ، لكنها تَتلاشَى عندَ أوَّلِ لمسةٍ.

في ظِلِّ هذا التَّحالُفِ، تُصبِحُ الكلِمَةُ أداةً لِلإقصاءِ بدلاً مِنَ الشُّمولِيَّةِ، وأداةً لِلتَّفرِقَةِ بدلاً مِنَ الوَحدةِ. كم مِن كَلِمَةٍ أُطلِقَت لِتُشعِلَ الفِتنَ، وتُقسِّمَ المُجتَمَعاتِ، وتَزرَعَ الكراهِيَةَ؟ وكم مِن كَلِمَةٍ استُخدِمَت لِتَبريرِ الظُّلمِ والاستِبدادِ؟

إنَّ استِعادَةَ هَيبةِ الكلِمَةِ ليست مُجرَّدَ مَسألَةٍ لُغَوِيَّةٍ أو أَدَبِيَّةٍ، بل هي مَشروعٌ فِكرِيٌّ وأَخلاقِيٌّ وإنسانِيٌّ. إنَّها تَتطَلَّبُ إعادةَ بِنَاءِ العَلاقةِ بَينَ الكلِمَةِ والعَقلِ، وبَينَ الكلِمَةِ والحَقِيقَةِ. الكلِمَةُ الصَّادِقَةُ لا تُولَدُ إلَّا في بِيئَةٍ تَحترِمُ الفِكرَ الحُرَّ، وتُشَجِّعُ التَّساؤُلَ، وتُقدِّسُ المَعرِفَةَ.

علَينا أن نُعيدَ للكلِمَةِ مَعناهَا الحَقِيقِيَّ: أن تَكونَ صَوتًا لِلحَقِيقَةِ، وسِلاحًا في وَجهِ الظُّلمِ، وجِسرًا بَينَ العُقولِ. علَينا أن نُعلِّمَ الأَجيالَ أنَّ الكلِمَةَ ليست مُجرَّدَ أداةِ تَواصُلٍ، بل هي مَسؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ. مَسؤُولِيَّةٌ تَحترِمُ العَقلَ الذي يُبدِعُها، والعَقلَ الذي يَتلقَّاها.

يا صديقي،

إنَّ فُقدانَ الكلِمَةِ لِهَيبتِها هو انعِكاسٌ لأَزمَةٍ أَعمَقَ في مُجتَمَعاتِنا: أَزمَةُ ثِقَةٍ بِالحَقِيقَةِ، وأَزمَةُ احتِرامٍ لِلعَقلِ، وأَزمَةُ وَعْيٍ بِالمَسؤُولِيَّةِ. ولن نَستَطيعَ استِعادَةَ هَيبةِ الكلِمَةِ إلَّا إذا واجَهْنا هذهِ الأَزَماتِ بِجُرأةٍ وحِكمَةٍ.

 أوَّاهُ مِن جَهلٍ يُقيِّدُ فِكرَةً

ويُشيِّدُ الأَوهامَ فوقَ مَعابِدِه 

والفِكرُ إنْ لَم يُوقِظِ القَلبَ النَّدِي

ظَلَّتْ ظِلالُ الجَهلِ فوقَ مَوائِدِه

  وختامًا، الكلِمَةُ هي جَوهرُ الإنسانِ. فهي ما يُميِّزُهُ عن باقي الكائِناتِ، وهي ما يُخلِّدُ ذِكرَاهُ. فإذا فَقدَتِ الكلِمَةُ هَيبتَها، فَقدَ الإنسانُ جُزءًا مِن إنسانِيَّتِهِ. فَلنُعِدْ لِلكلِمَةِ هَيبتَها، لِنُعيدَ لِأنفُسِنا كَرامَتَنا، ولِنُعيدَ لِمُجتَمَعاتِنا أَمَلَها.

ودُمتَ في أمانٍ وسلامٍ.

***

بقلم: د. علي الطائي

5-1-2025

إلى فارسِ الكلمةِ وسليلِ الحروفِ، يا مَن تسكنُ الهيبةُ في مُحيّاكَ، وتنبضُ قُدسيّةُ الكلمةِ بينَ يديكَ ورؤاك، أكتُبُ إليكَ رسالتي هذهِ وكأنني أنقشُها على صفحاتِ الروحِ، لا الورقِ، وأغزلُها من خيوطِ الفكرِ لا الحبرِ. هي رسالةٌ تُسافِرُ عبرَ أفقِ المعاني، وترسو على شواطئِ الحِكمةِ، عسى أن تجِدَ في مرافئِ قلبِكَ لها مقامًا، وفي رِحابِ عقلِكَ لها مُتكأً.

أما بعد،

الكلمةُ، يا صديقي، ليستْ مجرّدَ نُطقٍ يتردّدُ بينَ الشِّفاهِ، ولا حروفًا تصطفُّ في سطورٍ بلا غايةٍ. الكلمةُ، كما أُؤمنُ، هي حياةٌ أُخرى تعيشُها العقولُ، هي مفتاحُ الأسرارِ، وهي الرّمزُ الذي يُحيلُ الجمادَ إلى نبضٍ، ويُحوِّلُ الصّمتَ إلى لُغةٍ تتحدّثُ بلغةِ القلبِ والعقلِ معًا.

أليستِ الكلمةُ هي التي خُلِقَ بها الكونُ؟ ألمْ تكنْ "كُنْ" هي أُولى الكلماتِ، وأبلغُ الأفعالِ، التي أعطتِ الوجودَ معناهُ، والعَدَمَ حدودَهُ؟ تلكَ الكلمةُ التي لا تحتاجُ إلى تكلُّفٍ أو تزييفٍ، بل تحمِلُ في ذاتِها قُدسيةَ الوضوحِ وإعجازَ البساطةِ.

يا فارسَ الأدبِ، إنّ الأديبَ هو سيّدُ الكلمةِ، وراعيها، ومهندسُها. هو مَن يغزلُ من خيوطِها نسيجًا يُدفئُ الأرواحَ ويسترُ عُريَ الأفكارِ. الأديبُ لا يكتبُ فقطْ ليملأَ الصفحاتِ، بل ليملأَ الفَراغاتِ في العقولِ والقلوبِ. هو مَن يضعُ الكلمةَ في مكانِها الصحيحِ، ويسند إليها الفعلَ الربيح، كأنّهُ يبني بها جِسرًا بينَ العالمِ الماديِّ والعالمِ الرُّوحيِّ.

إنَّ الكلمةَ، يا صديقي، أشبهُ بسلاحٍ ذي حدّين. هي دواءٌ إذا أحسنّا استخدامَها، وسُمٌّ إذا جهلنا حقيقتَها. إنّها تُحيي وتُميتُ، تبني وتهدمُ. كم مِن كلمةٍ ألقتْ في نفوسِ سامعيها الأملَ، وكم مِن كلمةٍ أُخرى طعنتْ قلبًا لم يكنْ لها عدوًّا. هنا تكمنُ المسؤوليةُ، وهنا يظهرُ الفارقُ بينَ مَن يكتبُ مِن أجلِ المعنى ومَن يكتبُ مِن أجلِ الفراغِ.

أتدري، يا فارسُ، ما يجعلُ للكلمةِ قُدسيةً خاصّةً عندَ الأديبِ؟ إنّها صدقُها. الكلمةُ الصادقةُ لا تحتاجُ إلى زينةٍ، ولا تتعكزُ على تكلُّفٍ. هي كالنجمِ في السماءِ، يُضيءُ بريقُهُ مِن ذاتِهِ، ويهدي التائهينَ في عتمةِ الليلِ ومتاهاته. الكلمةُ الصادقةُ هي التي تخرُجُ مِن القلبِ، فتصلُ إلى القلبِ بلا وسيطٍ. أمّا الكلمةُ المُزيّفةُ، فهي كالسرابِ، تبدو كالماءِ للظمآنِ، لكنّها لا تروي، بل تزيدُهُ عطشًا.

الأديبُ يا صديقي كالعابدِ في محرابِهِ، يقفُ أمامَ الكلمةِ بخشوعٍ، يتأمّلُها، يُعيدُ صياغتَها، يزنُها بموازينِ الحِكمةِ، ويسقيها من ينابيعِ إحساسِهِ، ومن أصيلِ مِراسه. الكلمةُ عندَ الأديبِ ليستْ مجرّدَ وسيلةٍ للتعبيرِ، بل هي غايةٌ في حدِّ ذاتِها، بل ربما ترسمُ حدَّ المصير. إنّها الحياةُ التي يعيشُها، والمِرآةُ التي يرى فيها ذاتَهُ والعالَمَ.

ومن هنا، فإنَّ للكلمةِ مسؤوليةً عظيمةً. فالكلمةُ التي يكتبُها الأديبُ ليستْ ملكَهُ وحدَهُ. إنّها تُسافرُ عبرَ الأزمنةِ، وتُصبحُ جزءًا مِن ذاكرةِ الإنسانيةِ. كمْ مِن كلماتٍ قالَها الحُكماءُ والأدباءُ في الماضي، ولا زلنا نُردّدُها اليومَ، كأنّها قيلتِ الآنَ. هذهِ هي عظمةُ الكلمةِ، وهذهِ هي مسؤوليتُها.

يا فارسُ، احفَظْ قلمَكَ مِن الانجرارِ وراءَ الأهواءِ، ولا تجعلِ الكلمةَ تسقُطُ في مستنقعاتِ الزّيفِ. اجعلْها نورًا يُضيءُ الطريقَ للآخرينَ، لا نارًا تُحرقُهُم. اكتُبْ مِن أجلِ الحقيقةِ، مِن أجلِ الجمالِ، مِن أجلِ الإنسانيةِ. واجعلْ قلمَكَ كالسيفِ في يدِ المُحاربِ، لا يضربُ إلّا دفاعًا عن الحقِّ لا يداهِنُ أو يوارِب، ولا يُرفعُ إلّا مِن أجلِ العدلِ، وفي سبيلِ البذل.

إنّ الكلمةَ، كما أراها، تُشبِهُ العطرَ. العطرُ الصافي يتركُ أثرًا لا يُنسى، كذلكَ الكلمةُ الصافيةُ تُخلّدُ في الأذهانِ والقلوبِ. أمّا الكلمةُ المُزيّفةُ، فلا أثرَ لها، كأنّها غُبارٌ تذرُوهُ الرياحُ. الأديبُ الحقيقيُّ هو مَن يجعلُ كلماتِهِ عطرًا دائمًا، لا يزولُ مع الزمنِ، ولا يبهتُ مع التكرارِ.

ختامًا، يا صديقي، كُنْ للكلمةِ أمينًا، وكُنْ لها راعيًا. لا تكتُبْ إلّا ما يُشرّفُ قلمَكَ، ولا تقُلْ إلّا ما يُعلي قدرَكَ. تذكّرْ أنّ الكلمةَ تبقى بعدَ أن يرحلَ صاحبُها، وأنّها تُخلّدُ في ذاكرةِ التاريخِ، إمّا شاهدًا على عظمةِ قائلِها، أو دليلًا على سقوطِهِ.

والحرفُ إنْ شُحذَ الوفاءُ بجوفهِ=يُحيي القلوبَ وفاؤه، يمحو الألمْ

لا تُرسلِ الألفاظَ زيفًا إنّها=تحيا بصدقٍ أو تموتُ بلا قيمْ

دمتَ للكلمةِ نبضًا، وللأدبِ شعلةً لا تنطفئُ.

صديقُكَ المُخلصُ، عليّ.

***

بقلم: د. علي الطائي

25-12-2024

 

علمتني التجارب ألاَّ أُعير شأنا في ملاقاة بؤر العواصف المتدفقة بلا اتجاه، فالمواقف الرزينة تصنع عودة الرجال. علمتني الحياة أَلاَّ أُحارب الطواحين الهوائية السفلية، لأن الفراغ في الجاذبية يصنع الرفعة والأنفة. علمتني التجارب رأفة منَّا من الضربة القاضية، حتى لا نسقط خصومنا في تجويف المنحدر الفراغ (جُرُف هَار) بلا منتهى.

بالصدق تعلمت الابتعاد عن البوليميك الوبائي، وممانعة التخندق في المواقف المتغيرة، والسفسطة الوبائية بالتحجر والدوغمائية. علمتنا التجارب أن نصفق سبعا للسنابل الحاملات مائة حبة، وهي تتراقص في انحناءة التواضع، وتوزيع التحية بلا تمايزات ولا استثناءات، وبلا امتيازات التموقعات. علمتنا الحياة ألا تنكسر مشاعرنا الذاتية مهما كان الضغط التفجيري، وأن نُمارس تفكير الانزياح عن مَناطقةِ تفكير قطيع العقل الجمعي بُعْدا بحساب زوايا الأضلاع المتقايسة.852 mohsen

تعلمت من أبي الفلاح (رحمه الله)، أن العقل الجمعي دائم التغيير والتغير، ويمثل نصب تذكار الغوغاء في مدينة الملاهي الباذخة. علمتنا الحياة أن الأخلاق ثابتة، والقيم متحولة، فمَّا كان بالأمس القريب مُحرما، بات اليوم بعكس المتناقضات من الحلال المباح، و قد يصبح من الريع المغدق بالمناولة، والتمركز حول الذات النفعية.

تعلمت من هَمِّ الحياة، رمي حروفي وكتاباتي مستقلة وأنيقة،  وأَلاَّ تبحث عن صناع التبعية، والوفاء بالتعيين للمريدين. قد تكون كلماتي تُخلخل التموقعات ورسم الخرائط البديلة، وقد تكون من حكمة الرزانة والوفاء لمنطق الإعتقاد. علمتنا الحياة ألا أعير التمثلات الجمعية شأنا، وأن أُلزم عقلي البحث في جوهر الأحداث الشبيهة والمتناقضة بالتباين، وأَلاَّ أوازي بين التدبير والتسيير والعلاقات الاجتماعية الفُضلى. تعلمت من التجارب، أن الأشكال الأولية للحياة تُستنسخُ من براءة الطفولة غير المنسية، ومن تصحيح أخطاء التصوريين الفوضويين للمعرفة والأفكار والمتناهيات الممكنة.

 علمتني التجربة النظر في الضمائر الفردية (أنا) التي تنشط في (هَامَةِ) الذاتية، وتتحول بالضرورة إلى متمثلات جماعية بعقلية القطيع المستورد، وبلا دمغة جمارك.

علمتنا التجارب الحياتية أن الطبيعة البشرية هي جمع بين الكائن الفردي (الأناني) والكائن الجمعي (الاندماجي). تعلمت العيش والتعايش في خنادق ثنائية الكيانين المختلفين. علمتني الحياة التعب في التفكير ونزع قياسات الشر عن كلماتي.علمتني الحياة أنَّ نَفَسَ الطَّبالِ والنَّفَّارِ والغَيَّاطِ  محدود الإتساع، وقد يصنع الصوت الرنان، ولا يصنع المواقف العادلة....

***

محسن الأكرمين

يمتاز النسيج الاجتماعي والثقافي في جمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية بالتنوع والغنى والتناغم، وهو متأتي عبر تاريخ طويل من التفاعل والتعايش السلمي، ويضم الكثير من المجتمعات المحلية والمجموعات العرقية المتميزة التي تشكل مناطق استيطانها الحجر الأساس في السياحة العرقية في البلاد (نحو 160 مجموعة عرقية تتحدث ب 82 لغة)، وتجذب فئة واسعة من السياح ومن مختلف بلدان العالم، بالإضافة إلى القرى العرقية الخاصة بها، والتي تمثل مغريات سياحية مهمة ونقاط جذب قوية على خارطة السياحة العرقية في البلاد. وهي موزعة بالدرجة الأساس في الجنوب حيث هضبة (بيلافين) البركانية التي تحتل مساحة (50) كم 2 وبارتفاع (3500) قدم، وضمن محافظة (تشامباسك). بالإضافة إلى أجزاء من (سيكونغ) و(أتابيو) التي تقطنها مجموعة (لافين) العرقية التي تتميز بمهارات فائقة في أعمال الخشب ومنذ غابر الأجيال، وفنون النحت الإبداعية الراقية والأصيلة المرتبطة بهذه المادة الجميلة، والمستلهمة خصائصها الجمالية من الحضارات القديمة التي شهدتها المنطقة، ووفق مرجعيات عتيقة وتقاليد ضاربة في التاريخ، وتعمل أيضا في زراعة البن والهيل والقرفة والموز والمطاط والقطن والفلفل والذرة والأرز والبطاطا الايرلندية. بالإضافة إلى المحافظات الشمالية مثل (بوكيو) المعروفة بمناجم الأحجار الكريمة وغير الكريمة، وتقطنها (34) مجموعة عرقية. وتمثل محمية طبيعية غنية بمختلف الأنظمة الايكولوجية المتميزة. وأيضا (بونغسالي) وفيها معرض خاص بالقبائل. وأيضا في (لوانغ نامثا) حيث مجموعة (خمو) العرقية و(يكو) و(همونغ) و(ياو). ومن القرى العرقية في لاوس تلك الموجودة بين (كيو) و(فو خي مين) في (سايابولي)، و(بان نام جان) في (لوانغ برابانغ)، و(بان ناخين) في (ساينيابالي). وغيرها كثيرة كانت الأساس في إيجاد وتطوير منتجات سياحية جديدة مرتبطة بالسياحة العرقية في لاوس التي صارت تجذب السياح الأجانب من كل أصقاع العالم، وبخاصة من الصين وكوريا الجنوبية واليابان الذين يعرف عنهم باهتماماتهم الواسعة بالبيئة، الأمر الذي رسخ مكانة هذا البلد على الخارطة السياحية للمنطقة على نحو بين.

***

بنيامين يوخنا دانيال

فيينتيان – لاوس

في 21 – 11 – 2015.

 

أَي صَدِيقِي،

 اِعْلَمْ أَنَّ الكَلِمَةَ إِذَا تَجَسَّدَتْ إِنسَانًا، تَحَوَّلَتْ إِلَى تَجْرِبَةٍ تَتَنَفَّسُ. لَيسَتْ جَسَدًا يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، بَلْ كِيَانًا يُعِيدُ تَشْكِيلَ الوَاقِعِ مِنْ حَولِهِ. الكَلِمَةُ التِي تَنْبِضُ بِالحَيَاةِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ صَوْتٍ يُسْمَعُ، بَلْ هِيَ فِكْرَةٌ تَنْمُو كَدَوَّامَةٍ، تَبْدَأُ صَغِيرَةً ثُمَّ تَتَوَسَّعُ لِتَبْتَلِعَ مَعْنَى الوُجُودِ ذَاتَهُ. هِيَ ذَاكَ الحُضُورُ الصَّامِتُ الذِي يُثْقِلُ الفَضَاءَ، حَيْثُ لَا يُدْرِكُ المَرْءُ وُجُودَهَا إِلَّا حِينَ يُخْتَبَرُ أَثَرُهَا العَمِيقُ.

الكَلِمَةُ حِينَ تَتَجَسَّدُ إِنسَانًا، تَكُونُ الجَدَلَ المُتَوَاصِلَ بَيْنَ الأَنَا وَالآخَرِ، حَيْثُ تَتَصَارَعُ فِي دَاخِلِهَا مَفَاهِيمُ الحُرِّيَةِ وَالقُيُودِ، الحَقِيقَةِ وَالوَهْمِ. تَتَجَلَّى كَمِرْآةٍ تَعْكِسُ تَنَاقُضَاتِنَا البَشَرِيَّة: تُعَرِّي زَيْفَ الأَقْنِعَةِ وَتُوَاجِهُ الذَّاتَ بِجُرْأَةٍ لَا يَمْلِكُهَا سِوَى مَنْ وُلِدَ مِنْ رَحِمِ الصِّدْقِ.

إِنَّهَا الحَيْرَةُ المُتَجَسِّدَةُ، ذَلِكَ السُّؤَالُ الذِي لَا يَجِدُ إِجَابَةً نِهَائِيَّةً، لَكِنَّهُ يَفْتَحُ أَبْوَابًا نَحْوَ مَزِيدٍ مِنَ التَّسَاؤُلَاتِ.

هِيَ اللايَقِينُ الذِي يمنَحُ الحَيَاةَ مَعْنَاهَا، تِلْكَ اللَّحْظَةُ التِي تُدْرِكُ فِيهَا أَنَّ الثَّبَاتَ مُجَرَّدُ وَهْمٍ، وَأَنَّ التَّحَوُّلَ هُوَ الحَقِيقَةُ الوَحِيدَةُ.

 حِينَ تُصْبِحُ الكَلِمَةُ إِنسَانًا، تُولَدُ فِي قَلْبِهَا الفَجْوَةُ التِي تَفْصِلُ بَيْنَ المَعْنَى وَاللُّغَةِ. لَيْسَتْ مُجَرَّدَ وَسِيطٍ لِنَقْلِ الأَفْكَارِ، بَلْ هِيَ التَّجْرِبَةُ التِي تَكْشِفُ عَجْزَ الكَلِمَاتِ ذَاتِهَا عَنْ احْتِوَاءِ الحَقِيقَةِ.

إِذَا كَانَتِ الكَلِمَةُ إِنسَانًا، فَهِيَ الغُرْبَةُ المُسْتَمِرَّةُ التِي تَسْكُنُ بَيْنَنَا. لَيْسَتْ غُرْبَةَ المَكَانِ، بَلْ غُرْبَةَ المَعْنَى، ذَلِكَ الشُّعُورُ بِأَنَّ الوُجُودَ ذَاتَهُ لُغْزٌ لَا يَنْكَشِفُ. الكَلِمَةُ المُتَجَسِّدَةُ تَحْمِلُ فِي مَلَامِحِهَا أَلَمَ المَعْرِفَةِ، ذَلِكَ العِبْءَ الذِي يَجْعَلُهَا تُدْرِكُ أَنَّ كُلَّ إِجَابَةٍ تَلِدُ سُؤَالًا جَدِيدًا.

هِيَ الرِّحْلَةُ التِي لَا تَنْتَهِي، حَيْثُ كُلُّ خُطْوَةٍ تُقَرِّبُنَا مِنَ الفَهْمِ، لَكِنَّهَا تَزِيدُ المَسَافَةَ عَنِ اليَقِينِ.

الكَلِمَةُ-الإِنسَانُ لَا تَمْشِي بِخُطًى مُعْتَادَةٍ، بَلْ تَسِيرُ فَوْقَ حَبْلٍ مُشَدُّودٍ بَيْنَ الفَنَاءِ وَالخُلُودِ. هِيَ لَحْظَةُ التَّوَازُنِ المُسْتَحِيلَةِ، حَيْثُ تَقِفُ عَلَى حَافَّةِ الهَاوِيَةِ دُونَ أَنْ تَسْقُطَ، لِأَنَّ سُقُوطَهَا يَعْنِي انْطِفَاءَ المَعْنَى، وَوُجُودَهَا يَعْنِي اسْتِمْرَارَ الحَرَكَةِ الدَّؤُوبَةِ نَحْوَ اللَّانِهَائِيِّ.

فِي وَجْهِ الكَلِمَةِ-الإِنسَانِ، تَرَى خَرَائِطَ الزَّمَنِ: خُطُوطٌ تُظْهِرُ انْتِصَارَاتِ الرُّوحِ وَانْكِسَارَاتِهَا. لَيْسَتِ الجَمَالَ السَّطْحِيَّ الذِي تَأْلَفُهُ العَيْنُ، بَلِ الجَمَالَ المُرْبِكَ الذِي يُشْعِلُ فِيكَ أَسْئِلَةً أَكْثَرَ مِمَّا يُمْنَحُكَ إِجَابَاتٍ.

عَيْنَاهَا لَيْسَتْ نَافِذَةً إِلَى الرُّوحِ، بَلْ هُمَا هَاوِيَةٌ تَنْجَذِبُ إِلَيْهَا، حَيْثُ تَرَى انْعِكَاسًا لِمَا تُخْفِيهِ أَعْمَاقُكَ أَنْتَ.

حِينَ تَتَحَدَّثُ، لَا تَسْمَعُ صَوْتًا، بَلْ تَشْعُرُ بِذَبْذَبَاتٍ تُحَرِّكُ أَرْكَانَكَ. حَدِيثُهَا لَيْسَ جُمَلًا مُكْتَمِلَةً، بَلْ شَظَايَا مِنَ المَعَانِي تَتَّحِدُ لِتَخْلُقَ لُغَةً جَدِيدَةً، لُغَةً لَا تُقَالُ بَلْ تُحَسُّ. عِنْدَمَا تَصْمُتُ، يَكُونُ صَمْتُهَا نِدَاءً. لَيْسَ الفَرَاغَ بَلْ حُضُورًا يُعِيدُ تَشْكِيلَ الهَوَاءِ مِنْ حَوْلِهَا.

حِينَ تَتَمَثَّلُ الكَلِمَةُ بِإِنسَانٍ، لَا تَبْقَى مُجَرَّدَ كِيَانٍ يَسْتَهْلِكُ الزَّمَنَ، بَلْ تُصْبِحُ صَانِعَةً لَهُ. هِيَ الفِعْلُ الذِي يُحْدِثُ تَغْيِيرًا، لَيْسَ بِسَطْوَةِ القُوَّةِ، بَلْ بِعُمْقِ التَّأْثِيرِ.

إِنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى أَنْ تَزْرَعَ الشَّكَّ فِي أَرْضِ اليَقِينِ، وَأَنْ تُزِيلَ ثِقَلَ المَعَانِي المُتَكَلِّسَةِ لِتُفْسِحَ المَجَالَ لِأَفْكَارٍ جَدِيدَةٍ تَنْبِضُ بِالحَيَاةِ.

الكَلِمَةُ-الإِنسَانُ تَعِيشُ فِي مُفَارَقَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ؛ فَهِيَ تَشْتَاقُ لِلثَّبَاتِ لَكِنَّهَا تُدْرِكُ أَنَّ الثَّبَاتَ مَوْتٌ. تَجِدُ قُوَّتَهَا فِي الضَّعْفِ، وَوُضُوحَهَا فِي الغُمُوضِ. هِيَ ذَلِكَ الهَامِشُ الذِي يَتَحَدَّى المَرْكَزَ، الظِّلُّ الذِي يُرَافِقُ النُّورَ، لَكِنَّهُ لَا يَنْتَمِي إِلَيْهِ.

الكَلِمَةُ التِي تَتَمَثَّلُ بِإِنسَانٍ لَا تَعِيشُ لِنَفْسِهَا، بَلْ تَحْمِلُ عِبْءَ أَنْ تَكُونَ جِسْرًا بَيْنَ العَوَالِمِ. هِيَ الوَسِيطُ بَينَ المَادِّيِّ وَاللَّامَادِّيِّ، بَيْنَ المَرْئِيِّ وَالمَخْفِيِّ. وُجُودُهَا دَعْوَةٌ لِلتَّأَمُّلِ فِي عُمْقِ الحَيَاةِ، لِتَحْطِيمِ القَوَالِبِ التِي تَسْجُنُ الأَفْكَارَ، وَلِلْتَحَرُّرِ مِنْ قُيُودِ اللُّغَةِ التِي تَجْعَلُنَا نَعْتَقِدُ أَنَّنَا فَهِمْنَا بَيْنَمَا نَحْنُ غَارِقُونَ فِي الجَهْلِ.

هِيَ مَنْ تُذَكِّرُكَ أَنَّ الإِنسَانَ لَا يُقَاسُ بِمَا يَمْلِكُ أَوْ يَفْعَلُ، بَلْ بِمَا يَحْمِلُ مِنْ مَعَانٍ تَتَجَاوَزُ ذَاتَهُ. هِيَ الكِيَانُ الذِي يُعِيدُ تَعْرِيفَ الإِنسَانِيَّةِ، لَيْسَ كَمُجَرَّدِ وُجُودٍ بَيُولُوجِيٍّ، بَلْ كَطَاقَةٍ قَادِرَةٍ عَلَى صُنْعِ الوَاقِعِ وَتَغْيِيرِهِ.

وختامًا، يا صديقي،

حِينَ تُصْبِحُ الكَلِمَةُ إِنسَانًا، تُصْبِحُ فِكْرَةً خَالِدَةً تَتَحَدَّى الفَنَاءَ. لَيْسَتْ كَائِنًا عَابِرًا، بَلْ كِيَانًا يَعِيشُ فِي كُلِّ مَنْ يَتَأَمَّلُهُ. هِيَ أَنْتَ حِينَ تَصْمُتُ لِتَسْمَعَ صَوْتَ المَعْنَى فِي دَاخِلِكَ. هِيَ أَنَا حِينَ أَكْتُبُ هَذِهِ الكَلِمَاتِ، مُحَاوِلَةً أَنْ أَقْبِضَ عَلَى المُسْتَحِيلِ. هِيَ نَحْنُ، فِي كُلِّ لَحْظَةٍ نُحَاوِلُ فِيهَا فَهْمَ الحَيَاةِ بِمَا يَتَجَاوَزُ حُدُودَ الإِدْرَاكِ.

وتقبَّل مني أجملَ التحيات.

***

بقلم: د. علي الطائي

3-1-2025

يا إلهي! ما الذي سيجري؟ أشعر باقتراب القيامة إنه صباح رمادي اللون والنكهة كأن الطبيعة غاضبة حَدّ الجنون.. صفير رياح الهَيْف ينذر بالموت، والأرض عطشى متشققة تتلظى من شُحّ الأمطار وتتوسل السماء كي تُسعفها بقطرة ماء.. والشمس احتجبت خلف السُحب السوداء التي غَشَّتها.. برق ورعد بلا مطر.. بلا مطر!! تناهى إلى مسامعي فجأة صدى أصوات غامضة لا أميزها كأنها محاورة قادمة من بين الغيوم...

- ما الذي يضنيك يا رفيق العمر؟ أرى صدرك العامر بالآهات والزفرات كأنك تحتضر.. هلمَّ إليّ غرّقني بغيثك، وفجر ينابيع قلبك ولنمطر معاً كي تهدأ النفوس وتغمرها السكينة.. فأنا أتألم معك ولأجلك.. هلمَّ.. عطشي يشتاق إلى نضح السماء..

- لا.. لن أمطر يا غيمتي السمراء على الأرض الجاحدة! كي لا تصطبغ مياهي العذبة بدماء البشر.. ألا تشاهدين ما يجري بينهم؟ يتقاتلون ويتذابحون باسم الله، وكأن الله أحل الدم والقتل!.. هل الشرائع السماوية تشرّع الظلم؟ ألا يفهمون بأنهم وحدة متصلة لو تأذى أحدهم لتألم الآخر؟؟ إنهم جزء لا يتجزأ كالبنيان المرصوص، مَثل الجسد الواحد يشد بعضه بعضا وفي توادهم وتراحمهـم وتعاطفهم، ومثل الزهور والندى والطبيعة المُتآزرة.. فالقتل لا يجر إلا القتل..

- آه يا حبيبي.. تقول الحق كل الحق إنما ما هو ذنب الأرض المتعطشة لعطائنا؟ وما هو ذنب الزهور، والنباتات، والطيور، والأعشاب؟ ستموت الطبيعة ، إن لم تُغدق عليها من مُزْنك..

إن الله محبة، وقد منحنا الحب في الوجود وفي هذه السماء الفردوسية، وعلمنا الكثير من العطايا إنما البشر يغضّون الطرف عنها لأنهم لا يدركون ما يفعلون أو يدركون ويفعلونه عمدا.. لا بد من الصبر الجميل، والتسامح، واستمرار العطاء.. فهلمَّ لنمطر معاً محبة وعطاء على مدى الزمن..

- كيف لا يعرفون يا غيمتي السمراء؟ ألم يرسل الله أنبياءه ورسله لهم ليتعظوا؟ ألم يفهموا بأنه لا جدوى من الحياة إلا بالمحبة النابعة من القلوب الخالصة، وإن كل شيء على وجه الأرض زائل، وسيرحلون يوما حُفاة عُراة، ولا يبقى من آثارهم سوى ذكرى أعمالهم ومحاسنهم الطيبة ومحبتهم لا غير؟؟

- هناك منهم من يتعظ وقد مسحه النور، وهناك ما زال في الظلام يئن وليس لديه الاستعداد الكافي ليستمع إلى صوت الله لنشفق عليهم لعلهم يرجعون.. والله يُشرق بشمسه على الأخيار والأشرار، ونحن رموز لله في السماء وعلى هذه على الأرض.. دعنا نمطر ولا تيأس فبالأمل، والإيمان، والحب تُصنع المعجزات.....

- نعم يا عزيزتي يبدو أن الغضب تَملّكني وأنساني ذاتي.. كم أحبني الله بمحبتك التي لا تنضب ولا تزول.. أشكرك لتذكيري بذاتي.. كم أحبك ملء الحب.. فلنمطر معا ونُغنّي للحياة جميعا...

 ما هي إلا بضع ثواني حتى تعاظم لمعان البرق واشتدّ قصف الرعود، وبَدَت السماء لوحة ناطقة بالخير الآتي، وهطلت الأمطار بغزارة.. ففرحت الأرض، والفلاحون الطيبون، والطبيعية فرحا غامرا بهذا اللقاء الحميم.. وذهب الخوف من صدورهم وعيونهم على محاصيلهم..

فصارت الحياة جميلة وخصبة، والسماء صافية، والشمس تغازل النسيم، وارتفع صدى أصوات الناس عاليا، وهم يرددون: الله محبة.. الله محبة..

***

سلوى فرح - كندا

 

عاشت الحروشية، الراعية الأمازيغية، بنفس متغلبة على مساوئ وشرور الحياة في بلدتها الصغيرة في جنوب إمارة سيكا. كانت تستيقظ كل صباح مع الفجر، توقظ قطيع غنمها بحنان الأم وحرص القائد. توجه تعليماتها لرئيس القطيع، فيتبعها القطيع بتناسق تام. النعاج تتقدم بهدوء، ويتبعها الخرفان جريًا ونشاطًا. لم تكن مجرد راعية؛ بل كانت رمزًا للجديّة والالتزام في كل لحظة من لحظات حياتها.

أحبها قطيعها حبًا لا مثيل له. اعتادت أن تخرج يوميًا في العتمة، غير عابئة بلسعات البرد القارس أو زخات المطر المفاجئة. تعلّمت تلحين الصفير بلسانها وفمها، محوّلة كل نغمة إلى أمر لا يُمكن تجاوزه. كان الحب والحنان والرعاية أساس تقوية انضباط القطيع واستجابته لتوجيهاتها. أمضت طفولتها متأملة أسرار الطبيعة، وربطت حياتها بحياة قطيعها بطريقة فريدة. كانت تتقاسم معهم الجزء الأكبر من خبز شعيرها، وتجلس بينهم مبتسمة، تهدي لكل منهم قطعة خبز مدهونة بزيت الزيتون. مع الوقت، تعلم القطيع معنى التضامن والوفاء، وأصبح مستعدًا للتضحية من أجل "الزعيمة". تحولت "معمعات" القطيع إلى عبارات نضال من أجل سعادة الحروشية.

في يوم مشمس من أيام الربيع، خرج العز الولاني، ابن قائد القبيلة، ممتطيًا حصانه للصيد في الغابة. كان برفقة فريق من الحرس الذين عينهم والده لحمايته وتنشيط يومه. عندما اقترب من قمة الجبل، لفت انتباهه مشهد الحروشية مع قطيعها. كانت قصيرة القامة، لكنها تمتلك جمالًا يجذب القلوب، وبساطة تأسر النفوس. تعجب من انضباط قطيعها دون كلب مدرب أو عصا كباقي الرعاة. كان صفيرها العذب هو آليتها الوحيدة.

عاد العز إلى بيته، ينتظر بفارغ الصبر انتهاء والده من جلساته القضائية. وعندما سنحت الفرصة، ارتمى على يد أبيه مقبلًا إياها، متوسلًا أن يزوجه الحروشية. صرخ القائد مستنكرًا: "أتقصد تلك الراعية ابنة الرجل العجوز؟". أجاب العز بتوسل: "نعم، نعم يا أبي". تهاطلت دموعه على وجنتيه من شدة الخوف من رفض أبيه، وأخذ يقنعه بعبقرية تلك الفتاة التي لم يصادف مثلها قط. بعد إلحاح شديد، وافق القائد على مضض.

عاد سلام، ابن الحروشية، إلى مسقط رأس والدته. صعد الجبل مسترجعًا كل ما حكاه والده عنها. كانت والدته دقيقة السلوك والتصرف ومبدئية في كل شيء، وقد أسر له والده أن مكانتها عنده لا تقارن بأحد. تمعن سلام في مفهوم "القطيع" وحسن انضباطه، الذي كان دائم الحضور في حديث أبيه.

الوفاء لذكرى والدته الحروشية والتزامها بقيم الكينونة البشرية أصبح مصدر إزعاج لسلام في حياته. بصفته موظفًا ساميًا، ورث عن والدته نزاهتها وصدقها وشفافيتها، ما جعله مصدر خوف للسلطات. حالت جديته وكفاءته دون أن تُفتح أمامه الأبواب الموصدة.

تسببت رسائل رؤسائه التي تحثه على التكيف مع الأوضاع الفاسدة في إصابته بالكآبة. نشأ سلام على مبادئ واضحة. القانون هو مصدر التكيف، وليس العكس. وفي جلسة أخيرة مع أحد أصدقائه المقرّبين، قال سلام بحسرة: "معضلات وطني مستعصية. تجاوز القانون لتلبية ضغوطات التكيف هو إجرام ملفوف بالمخاطر. التذرع بتجاوز الواقع سلبيًّا للتراكمات التشريعية هو حق يراد به نشر الباطل".

انتشرت قصة الحروشية كالنار في الهشيم في الأوساط الشعبية. حل سلام ضيفا على كل الملتقيات والتظاهرات الفكرية والأدبية والفنية. عمت الوقفات تراب الإمارة. رددت الجماهير كل مرة وبدون انقطاع عبارة : "ربيع الحروشية، ربيع الحروشية،....". لم تبق القصة مجرد حكاية عن راعية غنم. شاع الحديث عربيا ومغاربيا عن هذه المرأة النموذجية وابنها سلام. الكل أصبح يتحدث بصوت مرتفع عن مواجهة منظومة تعيد إنتاج الظلم بأساليب شرعية في واضحة النهار. استقبل الأمير سلام استقبال الأبطال. أعرب له عن رضاه. دعم سلام من طرف المجتمع والمؤسسات وتحولت القصة إلى شعار جعل إرادة التغيير قائمة في نفوس من يحملون إرث الحروشية وقيمها.

***

الحسين بوخرطة

في هذا العصر المتسارع، حيث تتداخل الأصوات والصور بشكل لا مثيل له، قد يطرح المثقف الواعي تساؤلاً عميقًا: هل بات الشعر معاقًا؟ هل صار هذا الفن الأصيل عاجزًا عن ملامسة الأرواح كما كان في الماضي، أم أن التحديات الجديدة التي فرضتها الحضارة الحديثة قيدت حركته وأفقدته جاذبيته؟

في عصور مضت، كان الشعر روح الأمة ولسان حالها، يحفظ تاريخها وينقل أحلامها. كان وسيلة التعبير الأبرز والأكثر تأثيرًا. كانت القوافي والأوزان سحرًا يأسر النفوس، وكان الشعراء نجوماً يحتفى بهم، يحملون رسالة الكلمة ويتحدثون باسم قبائلهم وأوطانهم.

لكننا اليوم نعيش في عصر مختلف، حيث الهيمنة أصبحت للمادة على الروح، وللصورة على الكلمة. صار العالم أسرع من أن يتوقف لتذوق بيت شعر أو أن يتأمل جمال استعارة أو تشبيه. ومع هذا التغير، بدأ الشعر يخسر جزءًا من حضوره وسط ازدحام الوسائل الحديثة.

بلاغة الجمال أم قيد التكنولوجيا؟

إن التقنية، بما قدمته من تسهيلات، أصبحت سيفًا ذا حدين على الإبداع الإنساني. فهي التي أفسحت المجال للأصوات أن تصل للعالم، لكنها في الوقت ذاته أدخلت الفن في منافسة شرسة مع أدوات الترفيه السطحية.

صار الشعر اليوم يواجه معضلة: كيف يحافظ على عمقه وجماله في عالمٍ يعتمد السرعة والإيجاز؟ هل يمكن لقصيدة من عشرات الأبيات أن تصمد أمام منشور سريع على منصة اجتماعية أو فيديو قصير يجمع بين الصوت والصورة؟

رغم ذلك، يبقى الشعر قادرًا على مقاومة هذا التحدي ولو إلى حد معين، إذا استطاع شعراء اليوم استخدام هذه التقنيات كوسيلة لانتشاره بدلًا من أن تكون عائقًا أمامه.

التجديد: ضرورة أم تهديد؟

في محاولاته للتكيف مع الواقع الجديد، خضع الشعر لتحولات جذرية. فقد ظهرت أشكال جديدة مثل قصيدة النثر والشعر الحر، التي كسرت قيود الوزن والقافية. البعض يرى في هذا التطور تحريرًا للشعر، بينما يعتبره آخرون تخليًا عن جوهره وأصالته.

لكن السؤال هنا: هل الشكل وحده هو معيار الشعر؟ أليست الروح الشعرية، التي تتجلى في التصوير البديع والعاطفة الصادقة والخيال الواسع، هي جوهر الفن؟

إن التجديد في الشعر ضرورة حتمية، لكنه لا يجب أن يكون انحرافًا عن معاييره الجمالية. الشعراء مطالبون بالموازنة بين الأصالة والتجديد، للحفاظ على مكانة هذا الفن.

الشعر والإنسان: علاقة خالدة

قد يظن البعض أن انصراف الناس عن قراءة الشعر دليل على ضعفه أو فقدانه لمعناه. لكن الحقيقة أن الشعر باقٍ، لأن الإنسان بطبيعته بحاجة إلى ما يروي ظمأ روحه. في كل لحظة ألم أو فرح، يبحث الإنسان عن تعبير عميق يتجاوز اللغة العادية، وهنا يأتي دور الشعر.

الشعر هو انعكاس للعاطفة الإنسانية، سواء كانت حبًا أو ألمًا أو أملًا. وإذا بدا أنه يتراجع في عصرنا، فإن ذلك يعود إلى ضعف العلاقة بين الإنسان والروح، لا إلى ضعف الشعر نفسه.

الشعر في مواجهة التحديات

الشعراء اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى بأن يجعلوا قصائدهم قريبة من الناس. عليهم أن يبتكروا أساليب جديدة للتعبير، وأن يوظفوا التكنولوجيا لنشر الشعر على نطاق أوسع.

كما أن المسؤولية تقع على عاتق المؤسسات الثقافية والتعليمية، لتعزيز قيمة الشعر في نفوس الأجيال الجديدة. يجب أن تُدرَّس بلاغة الشعر، لا كمادة جامدة، بل كتجربة حيّة تلهم الطلاب وتفتح أمامهم أبواب الإبداع.

هل من أمل؟

لا يمكن أن يُقال: إن الشعر بات معاقًا، بل إنه يمر بمرحلة تحدٍّ وتحوّل. الشعر كالكائن الحي، قد يضعف أحيانًا لكنه لا يموت. بل إن الشعر الحقيقي يظهر أكثر قوة في الأزمات، لأنه يجد دائمًا من يؤمن بجماله وقدرته على التأثير.

فلنعد إلى الشعر، فهو ليس مجرد فن عابر، بل هو حاجة إنسانية ملحّة. في زمن الضوضاء والتشتت، نحتاج للشعر كصوت هادئ يعيد ترتيب الفوضى، وكضوء خافت يضيء عتمة الروح.

فهل نعود لنُصغي لهذا الوحي الذي لا يغيب؟

قلتُ في هذا المعنى بعض أبياتٍ من الكامل:

الشعرُ روحُ القلبِ، سرُّ بقائهِ

منهُ الحروفُ كأنّها تنزيلُ

هو زائرٌ أمسى يغيثُ موَلَّهاً

في كلِّ قلبٍ حُجّةٌ ودليلُ

هو صوتُنا العالي إذا خَفَتَ الصدى

والشعرُ رغمَ العاتيات هَطولُ

يا حاملَ الأشعارِ كنْ متوشِّحًا

بالعزمِ فهي رسالةٌ ورسولُ

***

...................

بقلم: د. علي الطائي

20-12-2024

منذ القدم والشعوب تحتفل باعيادها الوطنية والقومية والدينية وكانت بلدان الشرق في طليعة الشعوب بهذه الاحتفالات كبلاد الرافدين وبلاد النيل والشام وقد ارتبطت هذه الاعياد بمظاهر الطبيعة كالفيضانات وخصوبة الارض وفصل الربيع حيث تقام طقوس احتفالية في بلاد سومر واكد وبابل واشور بمراسيم خاصة في بداية كل سنة.

لقد كانت اقامة مثل هذه الاحتفالات كل عام امراً ضرورياً وحيوياً من وجهة نظر الفرد في العصور القديمة لانه كان ينطلق من فهمه وتفسيره للظواهر الطبيعية والتي يعدها قوى خارقة غير منظورة لذلك اصبحت شيئاً مقدساً عليه اعادتها كل سنة لأنها تفسر له اسرار الكون واسرار خلق الانسان من قبل الهة غير مرئية ولهذا كان السومريون والبابليون يقيمون احتفال راس السنة حيث تجري خلال هذه الاحتفالات اعادة مسرحية واسطورة التكوين والتي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالخصوبة والتكاثر (بالنسبة للانسان والحيوان والنبات) وعلى النحو الذي جاءت به اسطورة تموز وعشيقته عشتار ويرمز تموز إلى الخصوبة والنمو بينما ترمز عشتار إلى الحب وكان ارتباطهما وزواجهما مقدساً يجب اعادته (اي اعادة تمثيله) في كل عام وفي فصل معين هو الربيع لما له من اهمية في ازدهار الطبيعة والنمو، وهكذا تعاد وقائع ذلك الزواج الالهي كل عام حين يقوم الكاهن الاعظم بتمثيل شخصية (تموز) بينما تقوم الكاهنة بدور الزوجة (عشتار) حيث يجري احتفال مهيب داخل المعبد يسميه قدماء العراقيين (الزواج المقدس) وقد كان هذا الزواج معروفاً لدى العراقيين (في حدود عام 2750 ق.م) وهكذا يقترن عيد راس السنة السومري والبابلي بمظاهر الطبيعة والزواج المقدس، وسبب هذا الاقتران ان السومريين والبابليين كانوا من الشعوب التي تعتمد اساساً على الزراعة والرعي وهي لذلك تهتم اهتماماً كبيراً بدورة الفصول وتعاقبها لذا فأن تجديد الطبيعة يتحتم وجود زواج مقدس وولادة جديدة وكان السومريون والبابليون يقدمون القرابين للمعابد في هذه المناسبة التي يجري الاحتفال بها في بداية شهر نيسان ولمدة سبعة ايام من 1-7 نيسان حيث الاعتدال الربيعي ويكون الاحتفال مصحوباً بالتراتيل الدينية والاناشيد والرقص الجماعي من شهر نيسان كونه موسم سقوط المطر وفيضان دجلة والفرات ونضج المحصول الزراعي التي تتم بعده عملية الحصاد، ولايزال سكان المناطق الريفية في وسط وجنوب العراق يعدون شهر نيسان (شهر الحصاد) وهذا معروف حتى في اهازيجهم الشعبية التي يرددونها اثناء وبعد الحصاد .

المعروف ان سكان بلاد الرافدين هم الذين بدأوا بممارسة الاحتفالات بعيد راس السنة غير ان المؤرخين والمهتمين بالتاريخ الفرعوني يرون عكس ذلك اي ان مصر هي التي لها قصب السبق في هذا الاحتفال، فقد ورد في احد اعداد مجلة الهلال المصرية مقالاً بعنوان (عيد راس السنة اخترعته مصر) بقلم الدكتور (سيد كريم) (ان مصر تحتفل بعيد رأس السنة قبل 7546 سنة اي قبل ميلاد السيد المسيح بحوالي (5) الاف سنة ونصف واعتبرته عيداً دينياً وقومياً)

صحيح ان هناك تشابه بين البلدين في الطقوس والاحتفال حيث ربط المصريون عيد راس السنة بفيضان نهر النيل الذي يكون في فصل الصيف نظراً لسقوط الامطار وبكميات كبيرة على منابعه كما فعل العراقيون ايضاً، كما ان احتفالات المصريين تجري عادة في الشوارع والمعابد والساحات كمعبد الكرنك ويقوم المصريون بتزيين المنازل واعداد الزهور اثناء الاحتفال، كذلك كان البابليون يقيمون الاحتفال بالشوارع والمعابد والساحات وهناك شارع يسمى (شارع الموكب) في بابل وقد سمي بهذا الاسم لان مواكب الاحتفالات تمر عبر هذا الشارع وقد سمي ايضاً باسم (شارع المسيرة) وهكذا نجد التشابه واضحاً بين الحضارتين ولكن اي بلد منهما الاسبق فهذا اختلاف في اراء المؤرخين العراقيين والمصريين وكل منهما يدعو إلى العودة إلى الرقم الطينية بالنسبة للعراق والبرديات بالنسبة لمصر لتحديد الاسبقية في هذا الميدان، ويبدو من التفاصيل التي ذكرها الاستاذ المشار اليه في مجلة الهلال المصرية ان المصريين قد سبقوا العراقيين في هذا المضمار فيذكر الدكتور في مقالته قائلاً .. (مع بداية الدولة القديمة وخلال عصر الاهرام تحول الاحتفال بعيد راس السنة بجانب الاحتفال الديني والقومي الرسمي . كانت جميع طبقات الشعب المصري تشارك في الاحتفال به في المنتديات العامة والساحات والميادين والحدائق وداخل القصور مصحوبة بالاناشيد والرقص والاغاني والتراتيل الدينية والمساكن التي تزين بسعف النخيل والزهور والمشاعل التي تضاء مع غروب الشمس لتنير ارجاء المدينة طوال ليلة العيد. وكان القصر الملكي بفتح ابوابه لاستقبال الجماهير التي تأتي من جميع انحاء البلاد لتحية الفرعون فيغدق عليهم بالكثير من الهدايا والاوسمة على حكام الاقاليم ويعفو عن الكثير من السجناء (كما يحدث اليوم)، وكان المصريون في هذا العيد يزورون مقابر موتاهم وينشرون الزهور على قبورهم ويوزعون على حراس المقبرة (الفطائر) وماتزال هذه العادة موجودة في مصر حتى اليوم

ومن عادات المصريين في هذا اليوم عقد قران الزواج لكي تكون بداية حياة زوجية سعيدة وقد خصصت ساحات لعقد القران الجماعي باحتفال كبير تعزف فيه الموسيقى ويتم فيه الرقص الجماعي.

وبعد شروق شمس اليوم الجديد يوزع المصريون الفطائر المزينة بالفواكه الطازجة وخاصة زهرة اللوتس وتقدم الحلوى، كما يقدم المصريون في عيد (الكرسمس) (ديك الكرسمس) الذي يتصدر مائدة العيد او ما يسمى بالاوز البري وقد اقتبس الاوربيون هذا التقليد واستبدلوه بالديك الرومي. وقد ابتكر المصريون تقليداً اخر هو شرب عصير العنب الطازج كنخب للعام الجديد، وهكذا كان المصريون القدماء اول من شرب نخب العام الجديد ..).

كل الاماني لشعبنا العراقي النبيل بالامن والسلام لمناسبة العام الجديد .

***

غريب دوحي

فنان أخذته لعبة التلوين الى عوالم متعددة وهو يتغير مع المكان والزمان اقامة ونشيدا..

أعمال فنية متعددة الأحجام والمواضيع للفنان التشكيلي الهادي فنينة تشهدها فضاءات المركز الثقافي الدولي بالحمامات في الفترة من 8 إلى 31 ديسمبر 2024 ضمن سياقات الاشتغال الفني في عنوان دال وهو "النور الذي يفيض ".. فسحة جمالية لابن مدينة الحمامات بين المكان وجماله وذاكرته وتفاصيله ومن خلال تجربة فنية لعقود خمسة شهدت مشاركات ومعارض فردية وجماعية بتنويعات عن الانسان والسلام والبيئة .. وأجواء الحمامات مدينة الفنان الملهمة.. والكراسي ولعبتها المربكة..

هكذا هي الحالة الفنية التشكيلية وهي تحتفي بابن الحمامات الفنان التشكيلي الهادي فنينة الذي توزعت أعماله الفنية على جدران الفضاءات المعدة للمعارض الفنية والثقافية بالمركز الثقافي بالحمامات في معرض جديد .في هذا السياق وبخصوص المعرض كنبت الناقدة الأستاذة الجامعية بمعهد الدراسات التطبيقية بتوزر هاجر هيلة عن أعمال الفنلن الهادي فنينة مشيرة الى خصائص أعماله الفنية واهتماماتها الجمالية والاجتماعية والبيئية والثقافية لترى في تجربته عالما متعدد الاهتمامان والشواغل الفنية من علاقته بالآخرين وبمحيطه الثقافي والمجتمعي ونعني مدينة الحمامات وما توفرت عليه من عوالم نهل منها الفنان ومضى بفنه الى التوغل فيها رسما وتلوينا..796 alhadi

وفي مدخل المعرض بالمركز الثقافي بالحمامات كان هناك كرسي لا يصلح للجلوس لما أحدثه فيه الفنان ليصيرا مائلا وبشكله الطويل ولونه الأصفر وكلها علامات اجتمعت في ذهن الفنان الهادي فنينة لتحيل الى الكرسي ودلالاته العديدة ومنها السلطة فقد عبر بشكل واضح عن مسألة الحكم والسلطة وما يحف بهما من متاهات ومنعرجات وفخاخ ليؤول الأمر الى السقوط والانهيار..

في هذا المعرض الجديد يأخذنا عم الهادي "دلفين" الحمامات على علاقاته بالرسم يحمل بين أنفاسه حبه الدفين للحمامات بعطورها القديمة والحديثة وهو الذي عاش في ألمانيا لفترة وفي دوسلدورف حيث تعرف الى العديد من تفاصيل الحياة والناس  والفنون ليعود وفي قلبه شيء من حتى...من قيمة الفن في حياة الناس.. رغم المتغيرات والأحداث وهو الذي عايشها وفي عنفوان الأحداث بعد الثورة كانت معارضه بالحمامات في الفضاءات الثقافية والمركز الثقافي الدولي وبالمقاهي السياحية... وهاهو الآن يعود في هذه الأحوال ليعرض لوحاته مختلفة الأحجام والثيمات بفضاء دار سيباستيان بالحمامات وكأنه يرى في ذلك جانبا تنشيطيا يخوضه الفنان وفنه في بلاد تحتاج ترميما لما تداعى بأحوالها وأحوال الناس فيها...

الفنان التشكيلي " دلفين الحمامات "  الهادي فنينة يعرض أعماله بالحمامات بفضاءات المركز الثقافي الدولي بالحمامات في الفترة من 8 إلى 31 ديسمبر 2024 ضمن سياقات الاشتغال الفني في عنوان دال وهو "النور الذي يفيض "..فسحة جمالية لابن مدينة الحمامات بين المكان وجماله وذاكرته وتفاصيله ومن خلال تجربة فنية لعقود خمسة شهدت مشاركات ومعارض فردية وجماعية.

***

شمس الدين العوني

تكمن الأهمية السياحية للمباريات والاستعراضات والبطولات والمسابقات والمهرجانات الرياضية وغيرها من الفعاليات والنشاطات الرياضية المرتبطة بها في كونها مغريات (مشوقات – مجذبات) سياحية، تجذب الزوار والسياح من كل حدب وصوب، وتصنف ضمن (المغريات الثقافية) التي تشمل أيضا كل الأوجه والمظاهر الفنية والعلمية والأدبية والدينية والفلكلورية والتراثية في البلاد. بالإضافة إلى الممارسات والمراسيم والمتعلقة بالعادات والتقاليد الطقوس وبمختلف أنواعها وغيرها، والتي تمارس وتقدم عبر المهرجانات والاستعراضات والأحتفالات واللقاءات والمناسبات والزيارات، لتشكل إلى جانب المغريات الطبيعية (مناطق جليدية، الشواطئ، مساقط المياه والشلالات، الجزر، ومناطق التخييم...) والتاريخية (الكولوسيوم، الأهرامات، النصب، والمزارات...) والاصطناعية (قاعات التزلج على الجليد، الفنادق الرياضية، مضامير السباقات، الصالات الرياضية، المسابح الأولمبية، ملاعب سباق الخيل، منصات القفز على الثلوج، وملاعب الغولف...) منظومة الجذب السياحي المهمة في المعادلة السياحية التي تجمع بين السياح من جهة والمنتجات السياحية من جهة ثانية. وقد أدركت السلطات الرياضية والسياحية في كثير من الدول أهمية هذه الجوانب، وإمكانية مساهمتها في تنمية وتطوير صناعة السياحة الوطنية، وتنويع منتجاتها السياحية، وإيجاد أسواق جديدة لهذه المنتجات، واستقدام المزيد من السياح الأجانب، والدفع بالمسيرة الرياضية في البلاد للأمام، وتنشيطها على النحو المطلوب. فدأبت على توظيف واستغلال المباريات والمهرجانات والمسابقات الرياضية في الأنشطة والفعاليات السياحية، مع إتاحة فرص درجها ضمن البرامج السياحية، والترويج لها على نحو واسع وفعال، ومن خلال حزمة برامج فعالة وحيوية من أجل استقطاب الكثير من السياح الأجانب.          

***                

بنيامين يوخنا دانيال

.............................

* للمزيد من الاطلاع، ينظر (مقالات في السياحة الرياضية) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2013.     

 

قديمًا كان الصديقُ شريكَ القلبِ، ومُؤنِسَ الدَّربِ، كأنَّ الإنسانَ لا يُعقَلُ أن يعيشَ دونَ آخرَ يُرافقُه ليُعينَه أو حتّى يُكابدَ معهُ مَلَلَ الأيّامِ وثِقَلَ اللّحظاتِ. إلا أنّ الزّمنَ الذي نعيشُ فيهِ حملَ معهُ عالَمًا جديدًا بالكامل؛ عالَمًا تُشَيَّدُ مَعالمُهُ بالأصفارِ والآحادِ، وتُشَغَّلُ آلاتُه على هدوءِ لوحةِ المفاتيحِ، لنجدَ صديقًا آخرَ يُؤنِسُ وَحدَتَنا، يَحفَظُ خُطواتِنا ويُشارِكُنا أفكارَنا وأحلامَنا... "الحاسوب".

هذا الجهازُ، الذي بدأَ اختراعًا تقنيًّا لتسهيلِ العمليّاتِ الحسابيّةِ والبَرمجيّةِ، ما لَبِثَ أن تَحَوَّلَ إلى نافذةٍ سِحريّةٍ على الحياةِ. كيفَ لا، وهو الآنَ يُمَكِّنُ الشّاعرَ أن يَسكُبَ بَحرَ المُتَقاربِ في "مِلَفٍّ نَصِّيّ"، أو يَنشُرَ مَقالتَهُ النّقديّةَ إلى العالَمِ أجمعَ بكَبسةِ زِرّ؟! الحاسوبُ لم يَعُد مجرَّدَ أداةٍ صامِتةٍ، بل صارَ كالرفيقِ الذي لا يَمَلُّ حديثَكَ، ولا يَسأمُ إبداعَكَ مَهْما طالَ.

رفيقُ الكَلِمةِ والإبداعِ

كلَّما جَلَستَ إليهِ، بدا وكأنَّهُ مُنصِتٌ صَبورٌ يُمَهِّدُ لك الطُّرُقَ:

للشِّعرِ:

على شاشتِهِ تَتَفَتَّقُ الأبياتُ وتَنْثالُ كجَدْوَلٍ رَقراقٍ. لم تَعُدْ بحاجةٍ إلى الأوراقِ المُبَعثَرَةِ التي تُرهِقُكَ في تَرتيبِها؛ يَكفي أن تَكتُبَ، وتُراجِعَ، وتُعيدَ تَشكيلَ القَصيدةِ حتّى تَخرُجَ كعِقدِ لُؤلُؤٍ مُتناسِقٍ.

للمقالةِ:

الحاسوبُ خِزانةُ أفكارِكَ ومكتبتُكَ الإلكترونيّةُ التي لا تَفرُغُ. يُساعِدُكَ على التَّعديلِ، والحَذفِ، وإضافةِ الأدلّةِ والبَراهينِ؛ بل إنّه صارَ بَوّابةً للمعرفةِ اللامُتناهيَةِ بفضلِ ما يَتَّصِلُ بهِ من مَحَرِّكاتِ بَحثٍ.

للقراءاتِ النَّقديّةِ:

النّقدُ يَحتاجُ إلى دِقَّةِ النَّظَرِ ووُضوحِ الرؤيةِ، وهُنا يَأتي الحاسوبُ ليُتيحَ لكَ عَرضَ النُّصوصِ وتحليلَها بتَأَنٍّ وتَعمُّقٍ. يَدعوكَ إلى المُقارنةِ بينَ الأعمالِ، وإلى الاحتفاظِ بملاحظاتِكَ وتَطويرِها، وكأنَّهُ مُحَرِّرٌ خَفيٌّ يُعيدُ ترتيبَ أفكارِكَ.

صَديقٌ مُطيعٌ بلا جِدالٍ

إذا أردتَ صَديقًا يَعمَلُ دونَ كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، ويُطيعُكَ دونَ أن يُجادِلَكَ أو يَتَذَمَّرَ، فلَن تَجدَ خَيرًا مِن الحاسوبِ!

هو عَبدٌ مُطيعٌ: مَهما طالَ وَقتُ العملِ أو تَعَدَّدَتِ المَهامُ، فهو لا يَشكو. يَكفيكَ أن تَضَعَهُ تحتَ أنامِلِكَ، ليَحفَظَ لكَ نُصوصَكَ، ويُنفِّذَ أوامِرَكَ بِدِقَّةٍ.

لا يَغيبُ عَنكَ: حتّى في ظلامِ اللّيلِ، أو وَحشةِ الوَحدةِ، يُضيءُ شاشتَهُ ليكونَ مَعَكَ.

يُقَدِّمُ لكَ العالَمَ على طَبَقٍ: بِضَغطةِ زِرٍّ واحدةٍ فقط، يُطْلِعُكَ على الأحداثِ حولَ العالَمِ: الأخبارِ، العُلومِ، التّاريخِ، الشِّعرِ، أو أيِّ مَعرِفةٍ تُريدُ. وكأنَّهُ صَديقٌ لا يَمَلُّ مِن البَحثِ ليَعودَ إليكَ بالمَعلومةِ جاهِزةً، مُهَذَّبةً، مُرتَّبَةً في دَقائِقَ مَعدودةٍ.

حينَ تُصبِحُ الوَحدةُ إبداعًا

قد يُقالُ إنَّ الحاسوبَ صَنَعَ نَوعًا مِن "الوَحدةِ"، لكنَّهُ في الحقيقةِ مَنَحَكَ فُرصَةً لِخَلْقِ عالَمِكَ الخاصِّ:

بجُلوسِكَ إليهِ لِساعاتٍ طَويلةٍ، تُصبِحُ الكَلِماتُ أَنيسَكَ.

هو مَعمَلُكَ: تَبدأُ بفِكرةٍ، تُحَوِّلُها إلى نَصٍّ مُتكامِلٍ، تُضيفُ لها رُوحًا بالإيقاعِ أو المَعنى أو النّقدِ.

وهو حافِظُكَ الأمينُ: لا يَتَشَتَّتُ ولا يُهمِلُ حَرفًا تَكتُبُهُ، بل يُعيدُهُ إليكَ مَتى طَلَبتَ.

بوّابةٌ إلى المَعرِفَةِ بلا حُدودٍ

من نافذةِ الحاسوبِ الصَّغيرةِ تِلكَ، تَرى العالَمَ كُلَّهُ:

تَطَّلِعُ على أَحدَثِ الأخبارِ، وتُتابِعُ أحداثَ السّاعةِ أينَما كُنتَ.

تَنهَلُ مِن المَعرِفَةِ والعُلومِ بِغيرِ حُدودٍ أو قُيودٍ.

تُبحِرُ في أَعماقِ الأدبِ والفِكرِ، فَتَعودُ أَكثَرَ ثَراءً.

بينَ التَّقليدِ والحداثةِ

ما أَجمَلَ تِلكَ اللّحظةَ التي تُمسِكُ فيها بِقَلَمٍ وتَكتُبُ على الوَرَقِ! لكنَّ الحاسوبَ جَعَلَكَ تَتَجاوَزُ حُدودَ "المَساحَةِ التَّقليديَّةِ" لِلكِتابةِ:

تُحرِّرُ أفكارَكَ،

تُعيدُ صِياغةَ سُطورِكَ دونَ شَطبٍ أو تَشويهٍ،

تُشارِكُها مع الآخَرينَ بِضَغطةِ زِرٍّ... وكأنَّكَ تُطِلُّ مِن نافذةٍ إلى العالَمِ أَجمعَ، تُعلِنُ فيهِ عن وُجودِكَ وأَدبِكَ.

خاتمة: خَيْرُ صَديقٍ!

إنَّ الوَقتَ الذي تَقضيهِ مع حاسوبِكَ لَيسَ ضَياعًا، بل هو رِحلةٌ في رِحابِ الإبداعِ. هو "الصَّديقُ الذي لا يَطلُبُ مِنكَ شَيئًا"، بل يُعطيكَ كُلَّ ما تُريدُ: مَساحةً، أَدواتٍ، ونافذةً إلى عالَمٍ لا يَحُدُّهُ أُفُقٌ. إنَّ علاقتي بالحاسوبِ ليست مُجرَّدَ استخدامٍ لآلةٍ صامتةٍ، بل هي صَداقةٌ متينةٌ تتجاوزُ حدودَ التقنية. في ساعاتِ العُزلةِ، يُضيءُ الحاسوبُ عَتمةَ الوحدةِ، ويُصبِحُ نافذةً على المعرِفةِ والخَيالِ، وبحرًا أُبحِرُ فيه بلا مَوانئَ أو حُدود. إنَّه مُلهِمٌ يُترجِمُ أفكَاري إلى كلماتٍ، ورفيقٌ أستندُ إليهِ حينَ تتعثَّرُ أحلامي. كُلُّ حَرفٍ أكتُبُه، وكُلُّ فكرةٍ أُطلِقُها مِن خِلالِه، تَزيدُ مِن أواصِرِ العِشقِ بينَنا، وكأنَّه رفيقُ دَربٍ لا يُمَلُّ ولا يَكِلُّ.

وإن كانَ لِكُلِّ مُبدِعٍ صَديقٌ يُعينُه

حاسوبي : خير جليسٍ في الزمان.

***

بقلم: د. علي الطائي

في مبادرة تعتبر الأولى من نوعها، نظم الفنان التشكيلي والباحث الدكتور محمد البندوري معرضا حروفيا، وذلك في شراكة مع المديرية الجهوية لوزارة الثقافة مراكش أسفي، وبتنسيق مع محافظة قصر الباهية تحت شعار " الخط المغربي من المخطوط إلى اللوحة الفنية".

مشكلا مبادرة فنية، وتراثية، وثقافية تسهم في تنمية الواقع الحقيقي للحروفية المغربية وطنيا ودوليا، وذلك من خلال إغناء تجربة الخط المغربي الصحراوي.767 albandori

ويظهر انخراط الفنان محمد البندوري في نسج المجال التنظيري لهذا الخط من خلال كتابه الأخير: "الخط المغربي الصحراوي المقصديات الجمالية والوحدوية، ونسج المجال التطبيقي في نطاق تجديد الخطاب الفني المغربي وتقويته وتنويع آلياته جماليا وفنيا وثقافيا وحضاريا".

وفي هذا النطاق أبرز المعرض الحروفي المغربي الصحراوي  مختلف الجماليات الحروفية لهذا الخط الذي يشكل رصيدا ثقافيا ومكونا للهوية المغربية، ويشكل كذلك جزءا فاعلا في نقل مفردات الهوية الوطنية وتوصيلها إلى الرأي العام العالمي باعتباره حلقة تواصلية هامة، في مقاربة إبداعية متجانسة ومتناسقة مع كل ثوابت الهوية الوطنية والقيم المغربية الرصينة، حيث يقدم نموذجا حيا عن التطور الفني والحضاري المغربي.

***

لبنى ياسين: سويسرا

 

في الواقع، أنني نسيتُ تاريخ هذا اليوم، ولا أبدي رغبةً في النظر إلى هاتفي لأعلم في أي يوم من الشهرِ نحن، ولا يهمني ذلك.

هناك فضاء زمني ووجداني بين الواقع، وبين إدراكي له.

لا شيء حقيقي، ولا قدرة لي على إظهار الأمور كما هي دون إدعاء الصلابة في لحظات الإنكسار، دون الضحك حينما أرغب في البكاء.

الواقع أمرٌ يصعب تقبله، لا يمكنك إدراك لحظة واحدة دون حلم أو حنين.

وفي اللحظة التي تعي فيها ذلك، ينتهي بك الأمر في عيادة نفسية.

تجلسُ أمام طبيبٍ محاولاً تلخيص عمرك، تجاربك، أفراحك وأحزانك على شكل نقاط في جلسة استماع، بينما تحاول الثبات وجمع شتاتك لتتحدث. يحدّق بك، ولا شيء آخر يفعله سوى التحديق بك ومشاهدتك ترتعش وتتلوى مثل سمكةٍ أُخرجت من المحيط إلى القارب، وتركت على السطح والصياد يترقب توقف نبضها.

لا يستطيع أي طبيب أن يصف لنا أقراصاً تعالجنا من ذكرياتنا، أو أن يخلصنا من تلك الصور التي تنطبع خلف أجفاننا عندما نغمضها لكي ننام أو نحلم، ونحن نضحك قبيل هبوط الخيبة.

الحياة إجمالاً عبثية فوضوية مثل هذا النص الذي أكتبه الآن، متكررة ككل العبارات التي استخدمتها هنا.

وفوق كل ذلك، غير عادلة، ولا يوجد ما هو عادل فيها سوى لحظة الولادة ولحظة الموت. أما جميع ما بينهما فهو مضطرب الإيقاع.

أنت لم تختار لحظة ولادتك، ولا اسمك، ولا هيئتك، ولم يكن لديك الخيار حتى في أن تكون أو لا تكون، فقد قذفت إلى وجودٍ ربما لا ترغبه لو خُيّرت فيه.

إنك تشقى في كل مراحل حياتك، الدراسة شقاء، والغنى شقاء، والفقر شقاء، وحتى خروجنا إلى العالم كان شقاءً، فأمك ذاقت الموت ألف مرة لتستقبلك.

لا شيء سهل ومثالي، حتى حلمك الذي تسعى إليه، عليك أن تخوض صراعات وتسقط مئات المرات حتى تصل.. تصل متعباً.. تصل شخصاً غريباً لا تعرفه.. وقد لا تصل أبداً.

حتى أولئك المتشبثين بالحياة، الملوثين بأحلامٍ يقبضون عليها كما لو كانت جمراً، فإنهم لا يعلمون متى ستنفلت قبضتهم عنها، ومتى سوف تنطفئ شعلتهم.

أتخيل دائماً اللحظة التي سوف يتحتم علي فيها أن أغمض عيني الإغماضة الأخيرة، عندما يستسلم جسدي لرحيلٍ ترفضه روحي. هل سأحظى بالنظرة الأخيرة في وجوه من أحب؟

أم أني سوف أعاقب بوحدتي التي قدستها كثيراً؟

أعتقد أن أقدس حضور هو حضرة إنسان يرحل في أوج اشتعاله، فهذه اللحظات الأخيرة هي صورة صامتة لحصيلة عمره وكل ما مر به من ركام.

هي لحظة مرعبة ومهيبة لأنها الشاهد الوحيد على الحقيقة.

(لماذا لا تكون الحياة هكذا؟).

(أن نولد في عمر الثمانين عاماً، ثم كلما تقدم بنا الزمن نتراجع سنة إلى الوراء: ثمانين، سبعين، ستين… وهكذا، حتى نصل في سن العشر سنوات ونحن لا نفهم الحياة كثيراً. وعندما تصبح أعمارنا صفراً، فإننا نرحل غير مثقلين بذاكرة ولا حنين!).

إنني لا أفهم مشاعري، حتى عندما أريد الحياة، أتحدث عن الموت.

عندما أريد أن أعيش اللحظة، أسأل عن معناها، وكيف أتت، وما هي ماهيتها.

أذكر حواراً دار بيني وبين صديقتي. قالت لي: "عندما أفكر بالوجودية وبمعنى الحياة، أعلم أنني سقطت في الاكتئاب." فأجبتها: "أما أنا على عكسك تماماً، عندما أكون سعيدة، أتساءل عن كل هذا العبث، وماذا لو لم أُخلق إنساناً؟"

فضحكت لاختلافي وللشقاء الذي أسببه لعقلي.

بل إنني دائماً ما أبحث عمن يشاركني هذه الهرطقات، وأشتاق إلى حديث معتّق فاخر، حوارات عميقة في أمور لا تجذب أحداً.

أحاديث أجريها في العتمة، في الظلام الدامس، ظلام يشبه ذلك الذي يقبع في أعماقي، يخيل إليّ به حديقة جميلة ساحرة، لكنها بعيدة جداً.. يضيئها القمر أحياناً، ويغيب عنها أحياناً أخرى.

عندما أخوض حديثاً بقدر من العمق، أتخيل كأني دعوت هذا الإنسان إلى حديقتي السرية، البعيدة، والمقدسة.

لا يصلها إلا من تطهر من الأقنعة، ولا يعتب أبوابها سوى أولئك الصادقون، الطفوليون، والعميقون جداً.

إنني ارتعش الآن.. الطقس دافئ، لكنني أعتقد أنه الصقيع في قلبي، أو مقاعد حديقتي الحديدية الفارغة.

***

لمى أبوالنجا – أديبة وكاتبة من السعودية

الخميس..

يأتي التلوث في مقدمة التهديدات والتحديات التي تواجهها صناعة السياحة والسفر في الوقت الراهن، بغض النظر عن مصدره ونوعه وأوجه انتشاره. وتعتبر القمامة بانواعها (سكنية، صناعية، سياحية، الخ...) من المصادر الرئيسية لهذا التلوث خصوصا في الدول التي تفتقر إلى ادارة فعالة في معالجتها والحد من الآثار السلبية التي تتركها حتما على البيئة والمجتمع، والتي قد تلجأ فيها إلى وسائل وسبل بدائية ومتخلفة في التخلص من هذه القمامة، مثل طمر القمامة في الشواطئ (كما كان يحدث في الارجنتين قبل الانضمام على الاتفاقية الأمريكية لحماية السلاحف البحرية) والجزر (مثلما يحدث في المالديف) وأطراف الغابات (كما يحدث في بعض البلدان الآسيوية) التي قد تكون حساسة وهشة بيئيا، أو احراقها بالقرب من الفنادق والقرى السياحية، كما حدث في خليج مكادي وسهل حشيش ومنطقة مجاويش جنوب الغردقة المصرية عام 2008، الأمر الذي هدد باغلاق هذه الفنادق والقرى السياحية جراء عزوف العديد من السواح عن التوجه إلى هذه المناطق بسبب سحب الدخان السوداء التي صارت تغطي سماء المنطقة كل يوم، وما صاحبها من غازات وأدخنة وأبخرة في غاية الخطورة على الصحة. أما في الجزائر فقد دفعت القمامة ومسببات التلوث الأخرى إلى قيام وزارة السياحة في العام 2012 إلى ادراج (188) شاطئا في (14) ولاية في قامة الشواطئ التي يحظر فيها السباحة فيها من قبل السواح والزوار، منها (13) شاطئا في وهران وحدها و(17) في تلماس و(5) في تيزي ايزو. وذلك لأسباب صحية. الأمر الذي انعكس سلبا على الرياضات المائية والأنشطة السياحية المختلفة التي كانت تزاول على هذه الشواطئ. كذلك فعلت السلطات المعنية في تونس عام 2011 بالنسبة ل (13 %) من الشواطئ المنتشرة في البلاد، مثل شاطئ رواد وشاطئ السواسي وجنوب شاطئ مليان. أما مدينة (ديربان) بجنوب أفريقيا المعروفة كمقصد سياحي ييم شطره السواح من مختلف بلدان العالم فقد تسبب ارتفاع كميات القمامة والفضلات في عام 2008، وسوء إدارة مياه الصرف الصحي في (4) من الشواطئ الموجودة فيها إلى جردها من الرايات الزرقاء الممنوحة إليها من قبل (مؤسسة التعليم البيئي) (رسم) في حينها بحسب التقرير المنشور في صحيفة (صنداي تايمز)، وذلك لتردي مستوى نظافة وجودة المياه وتراجع مستوى الخدمات السياحية المقدمة في هذه الشواطئ، وضعف إجراءات السلامة المطلوبة والمتعلقة بالفعاليات والأنشطة السياحية، وعدم تطبيقها ضوابط وتعليمات الاستدامة البيئية. وهي جوانب حيوية ومهمة على نحو ملح، وتطرح بقوة في موضوع العلاقة التبادلية بين البيئة والسياحة في ظل تنامي الوعي البيئي لدى الناس بصورة عامة، والسواح على وجه الخصوص، وادراك أصحاب القرارات السيادية في قطاع السياحة والسفر لأهمية هذه الجوانب، وضرورة الأخذ بها من أجل الارتقاء بالمنتج السياحي وتنويعه وايصاله إلى هؤلاء في مختلف الأسواق، والدفع باتجاه التنمية السياحية المستدامة المطلوبة اليوم، وبما يحافظ على التوازن البيئي من جهة ومقومات السياحة من جهة ثانية وعلى قاعدة الاستدامة.

***

بنيامين يوخنا دانيال

.........................

* عن (السياحة والتلوث: مقالات) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2013.

{دَوامُ الحالِ مِن المُحال} قولٌ مأثور

وَحْدن كلمة عربية باللهجة اللبنانية، تعني (وحدهم) أو (هم وحدهم) وهي صيغة جمع لمجموعة من الأشخاص أو الأشياء معينة ومحددة يتم الحديث عنهم، لا تشمل غيرها؛ بهذا العنوان (وحدن) ظهر لنا الفيلم الوثائقي المتميز، للمخرج وكاتب سيناريو الفيلم (فجر يعقوب).

الفيلم يجمع بين التوثيق للأشخاص والأحداث وتثبيت زمان ومكان حدوثها، ممزوجاً مع القراءات الشعرية وفن التصوير التسجيلي والإخراج في السينما التوثيقية، تم تصوير الفيلم في بيروت عام (2013) فيما كانت أحداث وقصص ووقائع أحداث سيناريو الفيلم تبعد بنا كثيراً بعمق الزمن، أبعد كثيراً من هذا التاريخ بعشرات السنين أنها تعود الى سنين حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي تتحدث عن احداث ووقائع جرت معظمها في لبنان).

اسم الفيلم (وَحدن) هو بالحقيقة عنوان أغنية ذائعة الصيت للفانة الكبيرة (فيروز) بلحن أخاذ وصوت ساحر، والتي تقول مقدمة الاغنية (وحدن بيبقو مثل زهر البيلسان) والتي كتبها الشاعر اللبناني (طلال حيدر) وللقصيدة قصة معروفة ومشهورة وموثقة بلسان الشاعر (حيدر طلال) ومنشورة في مختلف وسائل الإعلام، وهي قصة العملية الفدائية الفلسطينية المسمات (عملية الخالصة) والتي نفذت في مستوطنة (كريات شمونة) في (11نيسان 1974).

الفيلم يوثق بالصوت والصورة لنشاطات وأعمال (ثلاث) مخرجين رواد مبدعين (لبنانيين) ولذلك لشاعر لبناني (طلال حيدر) أيضاً.

المخرجون هم:

1-  كريستيان غازي، تنشر المواقع الصحفية سيرته الذاتية وأستل منها: (من مواليد مدينة (أنطاكيا عام 1938)، من أب لبناني وأم فرنسية، نشأ في (سوريا) قبل أن يستقر في (لبنان)، ارتبط انتاجه الفني بالعمل الفدائي الفلسطيني، أخرج فيلم (الفدائيون) في عام (1967). خلال الحرب الأهلية اللبنانية أراد (كريستيان) تصوير الوجه القبيح لها عبر عدة أفلام وثائقية إلا أن ميليشياتها أحرقوا (النيجاتيف) الخاص بجميع أفلامه ولم يتبق له سوى فيلم (مئة وجه ليوم واحد (الفيلم (أسود وابيض) متزوج من الممثلة المسرحية (مادونا غازي) والتي توفيت أثر حادث سيارة مأساوي.)

بالإضافة للإخراج السينمائي فقد عرف عنه انه متعدد المواهب فنان ومسرحي وأجاد الغناء الأوبرالي وَشاعر له العديد من الدواوين الشعرية، توفي في (بيروت) بتاريخ (11/ديسمبر/2013) بعد اكتمال تصوير الفيلم (وحدن) وقبل أن يشاهد عرض الفيلم.

خلال مشاهدتي عند عرض فيلم (وَحدن) كانت اللقاءات التي اجراها الفنان المغفور له (كريستيان) تظهر على صحته وحديثه قساوة الزمان وكرب المحن التي ضغط بعنف عليه وعلى صحته ونفسيته ومنها فقدان ارشيفه الفني الغزير، وفقدان زوجته وأوجاع مرضه وتبخر أحلامه وأماله!

2-  المخرج (جورج نصر) في الصحافة منشور عن حياته وإعماله صفحات كثيرة منها: (من مواليد (15- يونيو-1927) طرابلس شمال لبنان، وأنتقل إلى (الولايات المتحدة الأمريكية) حيث درس الإخراج السينمائي، وتخرج عام (1954) ثم عاد إلى لبنان، أخرج فيلمه الأول بعنوان (إلى أين) عام (1956) والذي شارك به في مهرجان (كان) السينمائي، كأول فيلم سينمائي يعرض في المهرجان، تناول (جورج) في الفيلم حياة المغتربين اللبنانيين في الولايات المتحدة والبرازيل.

للمخرج (جورج) العيديد من الأفلام والدراسات السينمائية، كرم بالعديد من الجوائز، يعد الأب الروحي للسينما اللبنانية، توفي عام (2019) عن عمر يناهز (92) عاماً. وثق لنا فيلم (وحدن) بالصوت والصورة المخرج المبدع (جورج نصر) وهو بعمر متقدم همته العالية وذاكرته المتقدة ونشاطه وحيويته عالية، وهو يتحدث عن مشاريعه وأحلامه التي لأسباب عديدة لم يستطع تحقيقها، دارت كامرة الفيلم بمكتبه الخاص لتوثق لنا أرشيف غني كبير لأعماله ومشاريعه الاكاديمية والسينمائية.  

3-  المخرجة نبيهة  لطفي: مخرجة وممثلة لبنانية، من مواليد مدينة (صيدا/ لبنان عام 1937)  ألتحق بالجامعة الامريكية في بيروت عام (1953) وفصلت منها بسبب نشاطها السياسي عام (1955)، وهي بعر ثمانية عشر عاماً، وذلك لخروجها مع التظاهرين احتجاجاً على إعلان (حلف بغداد 1955)، هاجرت إلى (مصر/ القاهرة) فمنحها الرئيس المصري (جمال عبد الناصر/ ت 1970) منحة دراسية إلى الجامعات المصرية، أكملت من خلالها دراستها وتخرجت من المعهد العالي للسينما، وكانت ضمن الفوج الأول من وجبه خريجي معهد السينما عام (1964)، لها نشاطات وكتابات نقدية سينمائية متنوعة، منحها الرئيس اللبناني (أمين لحود) وسام (الأرز) من رتبة فارس تقديراً لإبداعها في مجال السينما التسجيلية. توفيت في (القاهرة/مصر) عام 2015 عن عمر يناهز (78) عاماً.

خلال عرض فيلم (وَحدن) سلط الضوء فيه عن فيلمها (لأن الجذور لا تموت) والذي يصور الفيلم الحياة الصعبة القاسية المأساوية لسكان مخيم (تل الزعتر) الفلسطيني في بيروت، خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، والذي ركزت فيه المخرجة عن حياة النساء الفلسطينيات واللبنانيات اللواتي يكافحن بالعمل المثابر من اجل العيش والحياة.

في فيلم (وَحدن) يُبرز لنا المخرج المبدع ( فَجر يعقوب) لقطات من (فصل الخريف) يمازجها ويداخلها بشكل فني جميل مؤثر بصورة حية للشاعر (طلال حيدر) وهو ينشد مقاطع من قصائده الشعرية بصوته الرخيم، وكأنها تمثل رحلة (خريف العمر) أظهرها في العديد من اللقطات الإبداعية التي تتماشى مع أجواء الفيلم الذي يشارف فيه جميع من يحاول التوثيق لهم ولنشاطاتهم الإبداعية المهمة على مشارف (رحلة خريف العمر) والتي وثقت خلالها لحقب زمنية طويلة مضت والتي كانت قد انتجت فيها أفلامهم الوثائقية والتسجيلية ونشاطاتهم الفكرية والأدبية الإبداعية والتي ستبقى أرث ثقافي وشاهد حي وأرشيف مهم وضروري للتاريخ ولكل الباحثين والدراسين  ولمختلف التخصصات.

في أمسية ثقافية رائعة متميزة تم عرض فيلم (وَحدن) مساء يوم السبت (2024.12.07) في صالة مقر الجمعية الثقافية العراقية في مالمو، والتي استضافت فيه الصديق المخرج والشاعر والأديب الأستاذ (فجر يعقوب) مخرج وكاتب سيناريو الفيلم للحديث مع الحضور عن فيلمه، في بداية الأمسية رحب مدير الجلسة الأستاذ (عصام ميزر الخميسي) بالضيف الكريم والحضور الأكارم، ثم قدم نبذة عن السيرة الذاتية للضيف الحافلة بالعمل المتواصل والابداع ، ثم تم عرض الفيلم ،بعد انهاء عرض الفيلم كانت هنالك فسحة من الوقت لمشاركة الجمهور الذي حضر العرض بمداخلاتهم واسئلتهم واستفساراتهم والتي رحب بها ضيف الأمسية وأجاب عليها جميعاً، ثم قدمت للضيف الكريم باقة من الورد.

نبذة مختصرة عن المخرج والكاتب والأديب والروائي والشاعر (فجر يعقوب) من مواليد (مخيم اليرموك/ سوريا 1963) مقيم حالياً في السويد، خريج المعهد العالي للسينما من - صوفيا/ بلغاريا- قسم الإخراج السينمائي (عام 1994) له أكثر من (7) أفلام روائية قصيرة، والبرامج التسجيلية، وأصدر العديد من الروايات الأدبية، والمجاميع الشعرية، حائز على العديد من الجوائز الأدبية والفنية والتقديرية.

 في الختام أقول: تحية كبيرة للصديق العزيز الكاتب والروائي والاديب والفنان (فجر يعقوب) على هذا الجهد الإبداعي الذي بذل لإنتاج هذا الفيلم التوثيقي الرائع، ففيه رسالة كبيرة ومهمة وهي الحفاظ على توثيق اعمال المبدعين ولفت الأنظار لجهودهم الفكرية الإبداعية السخية المبذولة، ومن أجل حماية الملكية الفردية للمبدعين بتوثيقها وحفظها وتعميمها، لكونها جزءاً مهماً يبرز الهوية الثقافية لاي مجتمع لتلك الفترة الزمنية التي انتجت فيها، فالحفاظ عليها هو الحفاظ على الإرث الثقافي والابداعي والإنساني لعموم المعمورة.

  لا شيء ثابت ويدوم للأبد، سريعاً يمضي بنا الزمان وترافقه تغيرات أسرع هائلة في طرق التجديد والتحديث والأبداع والابتكار وَالتفكير وَالتدوين والعمل، والإنتاج، وَالنِضال، وَالكفاح!

***

يَحيَى غَازِي الأَميرِي

كتبت في مالمو/السويد (ديسمبر/ كانون أول 2024)

هو القصر الذي بناه المعتمد على الله (256 - 279) هجرية قبل إنتقال العاصمة إلى بغداد ببضعة سنوات، فعلى الأرجح بناه بعد سنة (270) هجرية، ويُقال بني سنة (264) هجرية.

القصر يبعد عن الملوية حوالي (9) كم، وهو مستطيل الشكل (121 في 96) م، حوله ساحة واسعة مسورة وخلف السور خندق وأمام بوابته بركة، ويتألف من طابقين، وفيه زخارف رائعة وتعبير عن ذروة ما وصل إليه فن العمارة العباسية، ويبلغ عمر القصر أكثر من (1100) سنة.

وتحيط بالقصر الأبراج الدفاعية المتينة وكأنه قلعة.

ويقع في الجانب الغربي من مدينة سامراء، ووصفه بدقة المستشرق الألماني (فون أوبنهايم) الذي زاره في نهاية القرن التاسع عشر، ونشر عنه في سنة (1900)، ويقول: "وتشير جميع المزاهر الخارجية لهذا المكان إلى أننا أمام قصر للهو والإستمتاع"!!

يسمى قصر العاشق أو المعشوق، وتدور حول تسميته حكايات متوارثة كنا نسمعها من أمهاتنا وجداتنا.

والقصر تعبير عن ثورة عمرانية بلغت ذروتها في بنائه، فهو آخر القصور التي بنيت في سامراء، التي كان فيها ثلاثين قصرا تضاهي بجمالها قصور غرناطة وقرطبة، وقد أحدث بناء القصور تطورا غير مسبوق في فن العمارة، ومنها إنتشرت الفنون العمرانية إلى مدن عربية وغربية.

ويغفل المؤرخون ثورة سامراء العمرانية، التي ترى تأثيراتها في العديد من البنايات بدول عربية وأوربية.

ويذكر هيرتسفيلد الذي نقب في القصر سنة 1911، أن داخل القصر يتألف من ثلاثة أقسام طولية رئيسة، تتخللها فناءات مفتوحة وأواوين مشرفة عليها وصالات معمدة وقباب، وصولا إلى قاعة العرش المتميزة بعلوها.

والقصر شأنه كغيره من القصور العباسية الأخرى، يحتوي على إحترازات أمنية ومخابئ وسراديب وأنفاق، ففقدان الأمان كان يؤرق الخلفاء، ويوجب عليهم السكن في قصور معقدة البناء، للحفاظ على سلامتهم من الطامعين بالخلافة.

وعندما نتساءل كيف تخرّب آخر قصر بني في سامراء، لا توجد وثائق تشير إلى ما حصل له، وكيف تحول إلى ما هو عليه اليوم، ولا توجد بحوث رصينة تفسر كيف إنتهت قصور سامراء إلى ركام في وقت قصير بعد إنتقال العاصمة إلى بغداد، وهذا أحد الألغاز التأريخية التي يخشى الباحثون دراستها وتفسيرها.

ويبقى قصر العاشق دليل إدانة على عدم إحترامنا لآثارنا، ويؤكد على نزعة الدمار والخراب الكامنة فينا!!

***

د. صادق السامرائي

 

تمثل المحميات الطبيعية بأنواعها مصادر جذب فعالة ومهمة بالنسبة للزوار والسياح من ذوي الأهتمامات المتعلقة بالبيئة، وهذا ما دفع السلطات السياحية والبيئية في الكثير من الدول إلى الترويج إلى المنتوج السياحي الذي يقدم من خلال المحميات على نحو مخطط ومدروس من أجل زبادة معدلات التسوق، ودعم التدفق السياحي، وتقديم خدمات متميزة للسياح مع تحقيق إيرادات مالية مناسبة، تساعد على تطوير وإدارة هذه المحميات بالشكل المطلوب. ووفقا لقواعد الاستدامة المعروفة التي تهدف إلى الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية وصونها، للحيلولة دون الاضرار بأوجه التنوع الحيوي (البيولوجي) التي تتمتع به. وذلك من خلال تنظيم حركة الأفواج السياحية إليها عددا وتوقيتا، ونوعية السياح وتوجيههم بضرورة الألتزام الكامل بالتعليمات والضوابط، لتجنب أي شكل من أشكال الاخلال بالنظام الايكولوجي الذي يزخر به، مثل: عدم العبث بالأنواع والأصناف النباتية من أشجار ونباتات والمحتويات الأخرى داخل المحميات هذه، وعدم ازعاج الحيوانات التي تعيش فيها بأي شكل كان، والألتزام بالحدود المقررة عند الحركة واللأقتراب منها لغرض المشاهدة والمراقبة والتصوير، وذلك لدواع أمنية، ولتجنب نقل الفيروسات التي قد يحملونها معهم، فتصيبهم بامراض وأوبئة، يصعب معالجتها والسيطرة عليها، فتهدد حياتها على المدى القريب والبعيد، وتؤثر في أعدادها ونوعيتها، وبما يتعارض مع الأتجاهات الرامية إلى الأستدامة البيئية، مع ضرورة عدم ترك المخلفات لاحتمال تسببها بالتلوث. ففي عام 2009 أصيبت (11) غوريلا جبلية من أصل (12) غوريلا موجودة ضمن إحدى المجموعات ال (8) في واحدة من المحميات الطبيعية في جبال (فيرونجا) على ارتفاع (2500) م فوق مستوى سطح البحر ب (روندا) بسلالة من فيروس بشري مسبب للالتهابات الرئوية، انتقل إليها جراء اقتراب السياح الأجانب منها، وفقا للنتائج البحثية لأحد المراكز الطبية الأمريكية. وهي نوعية نادرة اكتشفت في عام 1909، ولا يوجد منها حاليا سوى (700 – 800) غوريلا، منتشرة في كونغو الديمقراطية ورواندا وأوغندا. الأمر الذي دفع إدارة المحمية إلى اصدار توجيهات قاسية، لا تسمح إلا بزيارة واحدة لكل مجموعة منها في اليوم لقاء (500) دولار، يذهب إلى صندوق المحافظة على حديقة البراكين في الشمال، وعلى وجه الخصوص لحماية الغوريلا الجبلية من الانقراض، بالأضافة إلى الرسوم المفروضة من قبل الحكومة الرواندية على الأنشطة المرتبطة بالغوريلا منذ عام 2008. وهناك تجارب متميزة في هذا المجال، طبقت في استراليا وجمهورية جنوب أفريقيا وإيطاليا وكوستاريكا وكندا وكينيا وجمهورية أفريقيا الوسطى. وقد نجحت إلى حد بعيد في إزالة التضارب بين تطبيق قوانين المحافظة على البيئة الطبيعية ومستلزمات صناعة السياحة ومتطلباتها، مع وضع المحميات الطبيعية بانواعها كأحد عوامل الجذب والتسوق السياحي الفعالة في استقدام وجذب المزيد والمزيد من السياح والزوار من أصدقاء البيئة الطبيعية من داخل وخارج البلاد.

***

بنيامين يوخنا دانيال

....................

* عن (السياحة والتلوث: مقالات) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2013.

 

هو، هذه الارض الواسعة، التي نغوص بها كما التماسيح في بقايا وحل الانهر الهاربة، لكثر الجرائم، للجفاف. وسط هذا الوحل نقيم جميعا، من ينام ومن يجذف الريح بيديه، من ينظر حوله صامتًا، ومن يتحسر... نكتب على الوحل اجمل الاشعار والجمل القصيرة، ومضات، نصوص طويلةً. الاغاني، نلحنها على نقيق الضفادع وحفيف الريح بأجزاء اجسادنا الواقفة فوق سطح الوحل وطنين الذباب، يمر النهار، بين شمس ساطعة تكوي الرؤوس وبين مطر يغسلنا، يحررنا قليلا. نحرك اجسادنا بعض الشيء، لكنها راسخة بالوحل. كأنّا ندور بذات الدائرة، يمر الوقت ثقيلا، واجسادنا تعودت على طبيعة المحيط، نشرب من الوحل، يا ويلها الحشرات التي تمر من قربنا او الديدان التي تظهر او الطيور العاشية التي تقف بمتناول اذرعنا، ونتنازل في الحبكة والسرد وقول الزجل، ونختمها بسكرةٍ من ماء الوحل المتجمع …. لننام مرة أخرى! أي احلام لك ستبقى؟ الحلم كالجسد يشيخ ثم يموت، لكن هنا في هذا الوحل، الحلم مات منذ زمن طويل. تحط الطيور على الضفاف، نراها، تبني اعشاشها، وتفقس، تكبر افراخها الناجية، ثم تطير محلقة في السماء حتى تختفي عن النظر، ونحن لا نبارح مكاننا.  منذ ايام مرّ حمار من قربنا، وما إن رآنا حتى فر ناهقا فزعا ... ليس هناك احدًا يمكنه الاستفسار منه، لتأكيد سبب موقفه هذا، ما علينا الا تداول الحدث بيننا، وأن نقتنع بتفسير المحللين!! فهم كثر والحمد لله، ولا تشوبهم شائبةٌ في لبس ربطات العنق المعوجة عند الرقبة، والمائلة بسبب انتفاخ البطون، ولون البدلات البنية او الخاكية … وصبغ الشوارب وبقايا شعيرات الرأس، وحف الحواجب وتهذيب الذقون كما الصخول، وليس هناك براعة اكثر من ترديد عبارات: الحقيقة والواقع، وواقع الارض! ولدينا وثائق تثبت!! وما ان يحتدم النقاش حتى يتحول من محلل بالقضايا الى مدافع عن جهة ما وبحماس!! وحين فُتح النقاش عن موقف الحمار منا، اعتبرها البعض بانه حمار لماذا نجهد انفسنا نحن خير الخلق بمشكلة حمار!! واحالها البعض الى ربما هناك شخص لبس جلد حمار واتى فقط لاستفزازنا!! والبعض اعتبرها تنمر من حيوان غبي! وآخرون وقلة قالت إن حالنا افزع حتى الحمار وهرب فيما نحن لا نحاول شيء… ولم ينتهِ النقاش حتى مطرت السماء غزيرا افاض الوحل وكاد يغرقنا، لم نتحسس حالنا للتخلص من الوحل، كأن اجسادنا واطرافنا السفلى تخدرت في ذلك الوحل…، ربما وصل الوحل الى العقل وهذا هو الشر… ثم نمنا. حين سطعت اشعة الشمس ثانية، مر موكب كبير من البشر يتقدمهم عازفو الطبول والآلات الاخرى، مر الجميع، خوذ بيضاء محاطة بشريط ازرق وستر زرقاء وسمتها عند الصدر زهرة اللوتس وسراويل حمر، آلاتهم تعزف والجمع يسير بانتظام عيونهم مشدودةً، افواههم فاغرة… في لحظة ما التقت عيوننا جميعا، لكن اللحظة لم تثِر اي ارتباك لديهم او سؤال، عدا امرأةٍ عجوز، جلست على ضفة الحوض الموحل واخذت تنظر لنا بحزن ودموعها تتابع على خديها، ربما ليس حزنا علينا، ربما على زوج قتل، او ابن خطف او أسر. المشاهد تذكر الاخرين بأحزانهم وتنسيهم منْ داخل المشهد... ونحن ببلادة اخذنا تقليد المعزوفات التي سمعناها غير ابهين بحالنا، وبعدها جاء انين الذكريات…قل هي بشرى اليأس والموت القريب. هكذا دارت بنا الايام من وحلٍ لوحلٍ… والحلم رماد.

ماذا ينفع الانسان اذا ربح العالم وخسر روحه؟.

سيوران

***

كريم شنشل

 

عاش الكاتب الفرنسي الكبير غي دي موباسان في الفترة الممتدة بين 1850 1893م، وهو واحد من كبار كتاب القصة القصيرة في فرنسا في القرن التاسع عشر، وهو أيضا من أهم رجال الأدب، معروفٌ بروايته صديقي الجيد bel ami، كما  له  إسهامات معتبرة في آدب الرحلات، وأهم كتبه في هذا المجال، كتاب حياة تجوال (1890م) رحلات في شمال إفريقيا : تونس الجزائر والمغرب ...

وهو ينتمي الى المدرسة الواقعية. وقد تمكن موباسان من  تطوير أسلوبه الأدبي متأثرا بفلوبير،  واستطاع نقل قضايا المجتمع الفرنسي وتوجيه انتقادات حيال تناقضات المجتمع البرجوازي في فرنسا وبالأخص في زمن الحرب ...

وفي سنة1881م قصد الجزائر في مهمة صحفية تستقصي أخبار بطل أولاد سيدي الشيخ؛ الشيخ بوعمامة، الذي كان يُنظر إليه كمتمرد من طرف السلطات الاستعمارية! فكتب العديد من المقالات الصحفية حول المنطقة ورجالها ومجتمعها، جُمعت فيما بعد في كتاب صدر سنة 1884م..

وزار الجزائر مرة أخرى سنة 1888م، وكانت رحلته الثانية للاستشفاء...

كتب موباسان حول رحلته الى الجزائر، فكتب عن المساجد التي أثارت انتباهه وإعجابه لبساطتها، وعفوية روادها من المصلين والأئمة، كما لم  يفته  مقارنتها بالكنائس في فرنسا أو أوروبا !..كما تحدث عن الزوايا و المرابطين، والآثار الرومانية القديمة وبالأخص في الجهة الشرقية من البلاد...

تحدث عن الشعب الجزائري والجزائريين، سواء الحضر من سكان المدن أو البدو من سكان الريف، وعن سكان العاصمة و المدن الداخلية... وعدد صفاتهم من كرم وشجاعة وصلابة وبساطة وإخلاص وعاطفة وعفوية... وهي كلها صفات العرب، وهي تنبع من قيمهم الدينية... اعتمد في كل ذلك على ما عاينه مباشرة ولم يعتمد أبدا على أي مصدر آخر أو استشهد به!.. وان لجأ الى أسلوب مقارنة الأوروبي بالجزائري وهي مقارنة لا تخلو أو لا تستطيع أن تخلو من تحيز !...

***

بقلم عبد القادر رالة

النكهات المَلكاتُ تليق بأذواقها الشاعرة

في واسطة عقد المثلث الذهبي للمدينة العتيقة لمراكش البهجة، تنبت شجرة وارفة أخرى، من أشجار خبير المعمار المغربي والأندلسي الأستاذ عبد اللطيف آيت بنعبدالله.

انبثاق فكرة نادرة، نبعت من ذاكرة العمارة وفن العيش بمراكش، وهو متحف الشاي 1112، الذي انجلت رياحينه أمس الأربعاء 11 دجنبر 2024، في افتتاح فضائه رسميا، بحضور مثقفين وإعلاميين وفنانين، هبوا جميعا للإصغاء لفتنة الشاي وتلاوينه وعباراته السابحة في ذرى الجمال والبهاء.

المتحف إياه، ميسم رياض تقليدي من عبق القرن الثامن عشر، يجاور المدرسة التاريخية العظيمة ابن يوسف، على سعة نابضة بأرواح الآباء والأجداد، تنبري أطيافها الحميمية لتسحبك بكل حنو ورحمة إلى صحن مأسور بسماء واسعة، وسقوف متلألئة وضاءة، تحفر بعيدا في ثقافة مهيبة وهوية بصرية لا مثيل لجمالها ونقائها.

في أتون متحف الشاي ذاك، يصر ايت بنعبدالله على استعارة مناقب الأعشاب والتوابل، بأصنافها ومناجمها العبقة، مكرسا بذلك بلاغة الانتماء لمغرب مراكشي حتى النخاع. فالرقم الذي يحمل هوية متحف الشاي (1112) مسنود على جذور دامغة، نقشت آياتها على سقوف الرياض. حيث التمع وشم الرقم السري، نافذا إلى أعماق الوصف، حاضرا في السياق البصري والثقافي.

ينبش آيت بنعبدالله في مسالك التراث، يحتويه بين الأضلع والقلب، فيدنو إلى الفكر، غير بعيد عن سرد حكاية أو ترميز أو إحالة سخية، سرعان ما تتعرش، وتنمو، فتحقق ما تأمل، من الفورة والإبهار والتمدد في الكينونة. هكذا اتسمت تجربة طلعة المتحف بقبلة الراغبين في تذوق نكهات الشاي المتعددة، بتعدد جهات المملكة، وتربع حضارتها على بهارات ونثارات الأزمنة والأمكنة والأحداث المتعاقبة.

ولأن الحدث غير مسبوق، وتجلوه بعض من مثاقفات كونية متجاورة ومتبادلة، أقلها امتدادات في اختيارات بعض شعوب آسيا، كاليابان والصين، أو أوروبا كفرنسا وإنجلترا، بحسب رأي ايت بنعبد الله، فإن نفائس “شاينا المغربي المتعدد والمبهر”، بأصوله وطرق تحضيره والتقائيته بالطباع والتقاليد والأعراف والدين، يضل الأكثر عبرة واعتبارا، والأبهى توقدا وانجذابا، حيث “ينطق بالذوق ويعبق باللذة”، عبر أطاييب فناجين (كؤوس) لا تأسرها الحدود ولا تعتورها قيود النمطية وأمدائها.

وللنكهات في عشق الشاي بالمتحف 1112، ما يؤصل هذا التماهي ويدنيه من حالات الشعر ونظمه الباذخة. وهي الأقرب إلى النكهات (البحور الشعرية) المتلاطمة، بين جهات مختلفة ومتنوعة، ثقافة وجغرافيا وطقوسا وميادين. ففي قلعة مكونة يغلب حبق الورد ونعناع الأرض وقرنفلها ونافعها. وفي الصحراء علك الرواء ونفائس الشيح وورق النبق. وفي مراكش نظام إعداد الشاي التقيليدي بالنعناع البلدي واللويزة وغيرها. وفي الشمال أنماط أخر.. كذا في الغرب كما الشرق...

لا يخترل المتحف، هذا الطريق المفرد، للتخصيص الذوقي الطعامي فقط، بل ينفتح على استلهام أسس حكيمة، تضع الأدوات المنتجة للشاي، وتاريخها ونظامها الخاص، حيث عمل على إيلاء “متحف الأواني التقليدية” اهتماما جوهريا، تفرد بعرض مجموعة منها، بعضها استقدم من إنجلترا، التي كان التجار المغاربة يترددون عليها، منذ أزمنة بعيدة، تعود بعض المصنوعات إلى سنة 1830 . من بينها أيقونات ثمينة القيمة والنوع، بصمتها أيادي الصانع التقليدي الأسطوري محمد بلعربي.

ولتاريخ الضيافة ومعالمها، سموق لافت في المتحف، حيث تتقاسم أبارق الشاي المختلفة، وكؤوسه المزخرفة وغير المزخرفة، وأوني إعداد الشاي، من البراد إلى أباريق النعناع و”التخالط” و”السكر” و”الأطباق” … نبضات تهمس، متوجسة خيفة أن تمسها ريح الشتاء وجنونها المزدحم بهفهفة الفرح وآثاره الخفيفة على النفس.

وكعادته، ينماز الفضاء عند ايت بنعبد الله، في كل ارتقاء وعبور، بتوشيح ثقافي وكتابي لا ينضب ولا يلين. فقد قدّر واستدق في نور العقل بالوعي والتلقي، ما يؤسس على الدوام مشاريع الاستحقاق وتنمية الإنسان، بما يجعل كل قوانين الوجود قائمة على التزكية النورانية ونشر المحبة والتعلق بأهداب الأصالة. وهي قناعة لا تنفك تستقوي جديدا بمتحف الشاي، الذي يريد له أن يكون بالتجاور مع مدرسة ابن يوسف التاريخية، نجما غير شارد أمام قمر النجوم.

***

د مصطفى غَلــــمان

دهمنا شجو أُمرّت علينا كاسه، وتقطّعت بنا أنفاسنا وأنفاسه. وأرهقنا ذِكرٌ خانه النسيان، وعشقٌ شعّثه السلوان. وقد ضاق بنا عتابٌ لم ينقطع، وقلبٌ مشتعلٌ ليس يرتدع، وفضاءٌ ليس يتّسع. وشخصٌ إن زال لم يزل خياله، وحبيبٌ إن غاب لم يغب مثاله، فالشوقُ على احتدامه مُحرِق، والوجدُ على التهابه مقلق، والزمان على عادته جامعٌ مُفرّق. وما أصنع يا إلهي والقلب مشتعلٌ من شواهدِ غلِقَ رهنها منذ زمان، ويئس من فكاكه كلّ أوان، وما أصنع في سرّي وعلانيّتي، وسكوني وحركتي، وانتباهي ورقدتي، وقراري واضطرابي، وغربتي عن نفسي واغترابي، عن يقيني وارتيابي، وعن عللي وأوصابي، وعن بلائي يا ربّ وعن عذابي، وعن جميع أموري وأسبابي. وغالب ظنّي يا سيّدي أنّك لمؤازرتي على هذا الهمّ تؤثر أثرًا يخفف به ما بنا، ويحطّ عنّا ما أثقلنا، ويهدينا إلى الجادّة التي منها جُرنا وعنها زُلنا، فقد صار النسيان محالًا أو كالمحال، وجهلًا أو كالجهل.

(يا قابس النار من زندٍ تعالجه

اقدح بزندك في همّي وأحزاني

ما النار أسرع إلهابًا لموقدها

في العود من زفرةٍ في قلب حرّانِ)

وإنّما أنا هنا في هذه المقامة أبثّ من حينٍ لآخر بعض عوارض هذه النفس عند الفيض الشديد، والغيظ المديد، وحين يبلغ العجز منّي آخره، ويستغرق اليأس باطنه وظاهره، فإنّما أحاول من ذلك تخفيفًا، فلا أزداد إلا تثقيلًا، كأنّ ذلك من خدائع الحال، ومن تعذّر الآمال. هذا رعاك الله ديدني، في حالي ومعدني، لأمور لي فيها مآرب، ولك في قراءتها مذاهب ومطالب. وإن كنتُ قد كنّيتُ عنها بلساني، فقد غلب عليّ شيني، وإن هممت بشيء منها بيني وبيني، وفيها حياتي وبيني، وفيها امّحق كلّي وبعضي وكيفي وأيني، فإنّ غايتي معك، عند إشكال قصّتي عندك. واعلم يا قارئي أنّ عيني قد جمدت من البكاء، وبدني قد فتر من العناء، وخاطري قد وقف عن السّنوح، ووجهي سمج بالكلوح، وبالي قد كسف بالقُنوط، وحالي قد ثبت من القَنوط، وإن هذا إلا قولٌ قد غلب عليه التكرار، قد صدر عن صدرٍ امتلأ بالوجيب، وإنّه ليس بأمرٍ عجيب.

٢

اللهم يا ربّ الأرواح الهشّة، والأحلام الضائعة والمحطّات المظلمة، وربّ كلّ الضائعين الباحثين عن أنفسهم في عجائب ملكوتك، يا أولى من حُمِد وأجود من سُأل، وأوسع من أعطى. كتبت الآثار، وأحصيت الأعمار، وملكت قلوب الخلائق بين يديك، وقلّبتها بما شئت، أنت الأول فلا شيء قبلك، وأنت الآخر فلا شيء بعدك، وأنت الظاهر فلا شيء يشبهك، وأنت الباطن فلا شيء يراك، أنت الواحد بلا تكثير، وأنت القاهر بلا وزير، وأنت أنت الملك القدير

(احمني من مُبْصري أخطائي أقلّ منّي

ومن مالكي عتماتهم والمتحكّمين بمصابيحهم

وممّن يكذبون على الأولاد

وممّن أحببتُهم وممّن أرادوا أن أحبّهم

واحمهم منّي

من خيري كما من شرّي فلستُ دائمًا أُحسنُ التمييز

ولا تتساهل مع تضخّم أناي

ولفلف نظري بالغيم المشمس

ولا تحرم أعماقي ذلك النغم

الكامن فيها كسِلْك الذهب الخفيّ في طيّات التراب)*

يا الله بك أستعين، فالدموع جفّت، وعلى وجهي ترابٌ منثور، نوّر قلبي، وبدّد وحشته، اجر سواقيه، بدّد صداها، وافرش زهورك على توتّري وحيرتي، تنقّل بين أسماء الألم وامحها، لأنّ هوّة في الرّوح لن تملأ بقطن الذكريات، إذ تجرح، وتصير الحياة شريان دمٍ مقطوع، قدّرني على هذه الحياة، واصهر خشونتها، كي تصبّ في قناديل الحب وتوقّدها، وتضيئ عتمة حواسٍ انغلقت على نفسها، واجعلني استكين مثل خيط الشمعة المنطفئة، فهمومي استحالت وحشًا يأكلني من الداخل، وعيناي تتفتّحان على صندوق من عجائب، فيه أنام فاغرةٌ أفواههم.

فيه صارت لحظاتي مراجلًا تتبخّر منها السعادات ويترسّب في أذيالها الألم. يا دليل المتحيّرين، ويا أمان الخائفين، بدّد وحشتي، وبرّد قلبي، وارحمني فأنت أرحم الراحمين.

٣

ولا تحسبوا بطل القصة الولد المتكبر يعجبه وَجْهُهُ،

إنّما بطل القصة الولد الغارق المشتهي

أن يعود إلى نفسِهِ ولدًا يتنفّسُ.

تميم البرغوثي

٤

يسكن الله قلبي وأنا لا أرض لي، أحلامي ضائعة وتائهة في الظًلام وقربتي مثقوبة وكلّ نجوم الكون قد سقطت منها، لكوني طفلًا يشكو من حبّه بنظرة خبيثة، أقول إنّه لطّخني بالدم، اعتجرني بكل سواد الكون، جعلني أتعثّر بالجماجم والهياكل العظمية والجثث المتفسّخة، دفعني للخوف من أشباحٍ لا أراها، سبّب لي هلعًا مبالغًا، لكوني شخصًا يتذمّر مما كان يعلّق عليه آمالًا صغيرة، كان قناعي يظنّ بأنّه عاشقٌ جيّد يرى نفسه في وجوه لا يعرفها، ولكنّه في الحقيقة عاشقٌ سيء للغاية، لأنّه حجب الشمس وتسلّى مع الأشباح. صوتي درويشٌ خائف يرتعد ويرتجف من نداءات مجهولة خلف الأسوار، يعبر بعض التكايا ويحوم في حلقات الذِكر. والليل طويلٌ حين أكتب أو أغنّي، ووجهي خلف كلّ تلك الأقنعة يشعله البرق.

٥

كنت ألعب في حديقة العمارة مع أولاد الجيران لعبة الختيلان. تركت الجميع وتواريت خلف تمثال بابا صدّام قرب باب الدائرة. تفاجئت أنّ التّمثال تحرّك من مكانه ليمسح بيده على رأسي مبتسمًا. أعطاني دمية كالتي يحتضنها أطفال المقابر الجماعية. وأخذني من يدي ورماني في حفرة، ثم أطلق عليّ النار وواراني في التراب.

٦

أدفع رأس الليل بيديّ في رحم الظلام لأمنعه من الولادة، أصرخ بالموت وآمره بالرجوع صارخًا، أستدرج القمر الهائج في السماء إلى فخّي الآمن في كنف عباءة سوداء، أفكّك العقد المجهولة التي تسّد طريقي. في هالة فانوسي تتأرجح الأشباح وتظهر طيور في مرآة الظلام وتختفي، يرتجف الطفل الصارخ خوفًا من زيارة الشياطين والوحوش، الأبله الذي يجفّ فمه ويرتجف كلّما اكتمل البدر، الولد الذي نجى من اليرقان وأصبحت حياته معجزة، الولد الذي نشأ وهو غير كافٍ لأمّهاته الثلاث، حقيقة هو لم يكن كافيًا حتّى لأمّه الحقيقية ولا لأيٍ شخص دخل حياته. الأبله الذي كفّ عن الارتجاف. الطفل في مهده الواسع نام بهدوء وأنا كنت أحمل الفانوس لأحميه وأنير له الطريق.

٧

أقلب الدور فهذه محنتي من جديد، أسبّح بأمجاد النصل وألقي بهذا الأرث العتيق إلى الرياح، سأربط خيط حتفي بحبل سرّة لحظة تأتي ولا تعود، سأعبر من هذه الأبواب، وأحبس هذه الوحوش وأقيّدها في رأسي، وأجمع كلّ نيران العالم في قلبي، سأقلب الدور وألقي بهذا الإرث إلى الرياح وأسكب من يديّ ذهبًا، سأَبعث عالمًا في أيّ لحظة مضت، وأرحل عندما يحين رحيلي.

٨

كان يحلم بأكذوبة جميلة، ووجد كلّ شيء حقيقيًا يصرّ على التعرّي أمامه، هجمت الكوابيس من لا مكان كتيبة من المحاربين حطّمت جدرانه، كلّما ركله الزمان إلى قاع الهاوية، قام منها، كلّ ما ظنّوا أنّه انتهى بدأ. مجبولٌ على أن يطارد كلّ شيء من منابعه، حتّى تجمّعت النجوم بين طيّات مقاماته وتحت شرفة انتظاره. يقف في الظلام ويأمل أن يخلّص نفسه منه، فتبتلعه ثقوبٌ سوداء تعيده إلى الماضي ويلمح طابورًا هزيلًا يقف فيه الأنبياء والعلماء، تبعثرت على أطرافه عظامهم وأجسادهم المقطّعة، يهتزّ أمامه الطابور حبلًا أبديًا للغسيل كلّما تكوّم عليه قتيل آخر. ينتابه قبل الفجر ألمٌ ثنائي الوجه يهجم بغاراته ويدكّ حصونه بعد حصار طويل. يقولون أنّ الأرض حبلى بالجرحى وذابلة من الحرارة، وحوشها السائبة تتدلّى ألسنتها إلى المستقبل، يلهث الزمان في بريق البدل والأزرار العسكرية، يقولون إنّ نهرًا من دماء الأبرياء ينبع منه، يحلم هو أن يرمي حجرًا فيسقط عبر عدّة بحار على سقف بيته الذي لم يعد هناك، يقول لنفسه لا تقلق يا أمين، سيولد الكثيرون بضربة منجلٍ من الهواء، سترى النبع في أرضٍ خضراء يقودك نحوها جمع من الرهبان والكهنة والسحرة على ضوء الفوانيس، هناك ستغسل وجهك المدمّى امرأة أردتها، في أرضٍ طردت منها الليل قليلًا بضوء شمعة، وطالبت بك معاولنا أن تضرب بثبات على ذلك الحجر الراكد في صدرك، فنحن رأيناك ترقص على حافة المنحدر وتحت رجليك الهاوية.

٩

أسير واحدًا من العباد في الزحام الذي يملأ الطرقات، وجهي جريحٌ يأتي لينام، وحياتي أنهار من طين ودم تجري تحت عجلات السيارات، بينما ينصب الموت شاراته في قاع جسدي كان الظلام يقدح أحجاره لينير أكوانًا كسيرة، كلّما أغمضتُ عينيّ أراها. كلّ حياتي تبدو واضحة، العالم يفقد سطوته، والليل يمرّ ولا أحد يأبه به، العالم بين يديّ يستسلم كالأبله برضاه، فأترك لرغبتي الجامحة أن تشطره إلى نصفين وتجعل بينهما نهرًا يجري. حين تكونين معي وتكون لي امرأة مثلك، تجيد السفر عبر الزمن، وتعرف كيف تناجي الليل بأسماء نجومه، وتمسح لي ذاهلة دمي وعرقي وغبار السنوات التي مرّت عليّ، وتخبرني بأنّ كلّ شيء على ما يرام من دون أن أنطق حرفًا واحدًا، أنا الرجل الذي سيكتب لكِ مقامة يصف فيها وحدته في أواخر كانون، أنا الذي سأظلّ وحيدًا مهما طالت قائمة معارفي وأهلي وأصدقائي، أنا الذي سيتغزّل بجمالكِ حتّى عندما يزول، أنا المفتون الذي سينشّف لكِ عرق الطريق (أنا فاقد الشيء الذي يعطيه، أنا بائع الوهم وتاجر الأمنيات وأنا.... أنا زبوني الوحيد).

بيدين مكتوفتين أراقب حياتي تتهاوى، لم أعد أطمح بأن أكون شخصًا جيدًا ومثاليًا أمام الآخرين، تعبت من تمثيل هذا الدور، لقد استنزفت الحياة كلّ مخزوني من الأقنعة وفلاتر التزويق. فالأقنعة لا تشفي الغرز والجروح وإنّما تخفيها، أريد أن أوقف الزمن أو أبطّئه لأركن حياتي على الطريق، أريد أن أخرج منها لبعض الوقت، أريد أن أستنشق هواءً نقيًا وأتفقّد أخطاء قصّتها الإملائيّة، أن أركّز في تفاصيلها وألوم كاتبها على هذه الحبكة السيئة. أعيش كأنّ جيشًا من الأشباح يطاردني من مكان إلى مكان، استطال الظل وظلّ يهزّني، رجّني وأدركت فجأة أنّه لم يكن ظلًا، كان إنسانًا مثلي من لحم ودم، رجلًا حقيقيًا أمسكني من ياقتي، وسحبني إلى الباب من تلابيبي ثم ركلني ركلة أطاحت بي في الفضاء، وأخذت أتدحرج بين النجوم، واتعثّر بالكواكب، وعدت طفلًا يعبث في أوتار جيتار عمّه خلسة ويتتبّع الموسيقى في غرف مظلمة (أفتش في كومة الألعاب

عن حلم قديم ودهشة بعيدة..

طفل حانق

يتحسس رضوض حياته في ساعة متأخرة من العمر..

أنا لم أكبر يا الله

أحدهم دفعني).

١٠

همتُ بأرضٍ ذات خضار، وأرحت ركابي بعد ترحال وتسيار. وقد كنت قبل هيامي غريب الدار، كثير الأسفار، وكنتُ أتردّدُ فيها سحابة النّهار، وأتفقّد ما بها من المشاهد والآثار، وسلّمت عليها تسليم المشنوق، وابتهجت بها ابتهاج العاشق بالمعشوق. ورحتُ أقلّب وجهي في السماء، وأقول سبحان من علّم آدم الأسماء، وسلّم إبراهيم من النار الرمضاء، وصلّ يا ربّ على صاحب القبة الخضراء، المرتجف حبًا في غار حِراء، وعلى آله وصحبه النجباء، بعدد من في الأرض والسماء.

أمّا بعد فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، وهذه حكايتي بين أيديكم، وتحت أعينكم، العقول في خفيّاتها أسرى مقيّدة، والأحاسيس في جَليّاتها فوضى مبدّدة، والأقوال في وصف تشاكلها وتباينها مختلفة، وهذا خبرٌ والله طريف، الفكر فيه يورث الوسواس في الصدور، والسكون عنه يصدّ عن الجواز والعبور، والسؤال عنه يحمِل التُهمة، والجواب يزيد في الحيرة، فهل رأيتم قولًا كلّما بان غمض؟ وهل رأيتم عرقًا كلّما سكن نَبَض؟ وهل رأيتم نارًا كلّما أُطفئت شبّت؟ وهل رأيتم بيانًا كلّما وضح أشكل؟ فوحقّ الحق إن السرّ في مقاماتي هذه لمكتوم، وإن الغيب فيها لمعلوم، وإن الظاهر منها لمفهوم، وإن الباطن لموهوم، وهكذا زال الخداع، وعليه تحيُّر الطباع، وعلى أثر حديثنا سقط القناع. ولو ساعدتني اللغات على اختلافها، واستجابت لي الخواطر على ائتلافها والتفافها، لأن أدنو مما أنا ممنوٌّ به، ومحطوطٌ فيه ومراد به، ومعكوس معه قولهم:

(فقرٌ كفقر الأنبياء وغربةٌ

وصبابةٌ ليس البلاء بواحدِ)

وهذا وهمي الذي لم تمزّقه الرزايا، وسرّي الذي لم تكتنفه البلايا، وعلى علّاتي التي وصفتها، وخلّاتي التي رصفتها، وأقنعتي التي رميتها، أختتم حديثي بمقدّمته وأقول: سحرتنا أرضٌ فحللناها، وملكتنا وملكناها، وعمدنا لقداح الوجد فأجلناها، وقلنا عمّر الله بغداد، ورحم العباد، وأجارنا من الهجر والبِعاد.

فأقبلت تخطو بجفلة ووجلة، وضحكت على ما بحت كأنّها طفلة.

***

أمين صباح كُبّة

كاتب من العراق صدر له عن دار الرافدين (مقامات إيلاف)

 

تُعتبر موراساكي شيكيبو من أشهر الشخصيات الأدبية في تاريخ اليابان، كما تُعتبر قصتها الأمير جنجي من روائع الأدب الياباني.

قصة الأمير جنجي تعبر عن العلاقات العاطفية المرتبطة بالسياسة، لأن البطل الرئيسي في الرواية، أمير، والشخصيات الثانوية أيضا من البلاط الإمبراطوري في اليابان في ظل حكم أسرة هييان(794ــــــ1185م).

و موراساكي" ابنة رجل سياسي كبير، وخدَمتْ في بلاط الإمبراطور سيوزي، لذلك خبرتْ عن قرب البلاط الإمبراطوري، وكتبتْ عن ذلك بتفصيل وحميمية في روايتها حكاية جنجي "( قصة الحضارة،اليابان، ص 103)..

توفيتْ والدتها وهي تزال صغيرة، فتزوج أبوها للمرة الثانية! تزوجت موراساكي من فوجيوارا نوبوتاكا عام 998م وهو مسئول سياسي كبير، لكنه كان يكبرها سنا، وبعد عامين من ذلك الزواج توفي زوجها فترملت وهي لا تزال في ربيع الشباب !.. وبسبب مواهبها دخلتْ موراساكي القصر الإمبراطوري وهي أرملة لخدمة إحدى بنات البلاط..

كانت تكتب الشعر، وتقرأ في الكتب الكلاسيكية الصينية (باللغة الصينية) وتلتزمُ بالبوذية وقيمها في حياتها اليومية! وفي البلاط الإمبراطوري اقتربت أكثر من الصراع السياسي حول توريث العروش الذي يتقاطع مع العلاقات الغرامية ورغبات الأباطرة والسياسيين وزوجاتهم !..

ورواية جنجي ضخمة تتجاوز صفحتها ألف صفحة كُتبتْ باللغة اليابانية القديمة، وتُرجمت فيما بعد الى اليابانية المعاصرة كما عرفت طريقها الى اللغات العالمية منذ سنة 1925 كالانجليزية والروسية والفرنسية والعربية والاسبانية ...

ويعتبرها الكثير من النقاد المعاصرين في اليابان وفي العالم أول رواية في العالم (وفق المعايير الغربية) إذ سبقت رواية دون كيخوت بأكثر من خمسه قرون!..

وجنجي بطل الرواية تتقاطع حياته مع الكاتبة موراساكي اذ توفتْ والدته، وهو لا يزال طفل صغير!.. "ونرى الكاتبة السيدة موراساكي تقص لنا مغامراته بالتفصيل على نحو تحس فيه بفرحها برواية قصته، ملتمسه له ولنفسها العذر التماسا رقيقا" (قصة الحضارة، اليابان، ص103)..

وكان للرواية تأثير كبير وعميق في تطور النثر الياباني وما زالت حتى اليوم تُستلهم من طرف الكتاب والفنانين والمخرجين في اليابان...

ويرى مؤرخ الحضارات الكبير ويل دويرانت أنه "لم يُنتج في القصة ما يوازي بروعته قصه جنجي آو ما يساوي هذه القصة في مبلغ تأثيرها على تطور اللغة تطورا أدبيا"(قصة الحضارة، اليابان، ص103).

***

عبد القادر رالة

افتتح رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، الأربعاء الماضي، معرض العراق الدولي للكتاب، الذي يُقام بنسخته الخامسة على أرض معرض بغداد الدولي، وتجول السوداني في أرجاء وأجنحة المعرض، واطلع على مشاركات دور النشر والمؤسسات الثقافية العراقية والعربية والأجنبية، حيث أكد دعم الحكومة للحراك الثقافي، ونتاجات المثقفين العراقيين، وكل ما يصبّ في تعزيز مناهل المعرفة والاطلاع لدى الجمهور العراقي، المعرض يستمر لغاية 14 كانون الأول الجاري، وبمشاركة واسعة ضمت أكثر من 350 دار نشر عربية وأجنبية، إلى جانب دور النشر العراقية والمؤسسات الثقافية والإعلامية، ومنهاج المعض سيضم فعاليات واسعا ومتنوعا يضم نقاشات وحوارات فكرية واجتماعية وثقافية إضافة إلى مجموعة فعاليات فنية وقراءات شعرية خلال أيام المعرض ما يعكس اجواء ثقافية مبهجة،

لا تزال العلاقة بين الكاتب والقارئ معقدة وشائكة، وتحتاج للكثير من الدراسات والمقاربات، وذلك من أجل معرفة مكامنها ومخزوناتها الدلالية والبنيوية التي تشكلت وتمظهرت خلال كل تلك القرون الطويلة من مسيرة الكتابة الإبداعية، العلاقة الجدلية والمدهشة بين الكاتب والقارئ، بعد التخلّص طبعاً من مخاتلات وتأثيرات النص، مسألة قديمة - حديثة وقضية عميقة متجددة.

الكتابة والقراءة، علاقة ثنائية تلازمية، تتشكّل وتتكوّن من عدة ألوان ومستويات وتمر بمراحل مختلفة ومتعددة، الكاتب هو من ينسج النص ويُدحرجه لعقل القارئ، لتبدأ تلك العلاقة التشاركية التكاملية بين طرفين لا يمكن التنبؤ بشكل ومستوى التواصل المعرفي والكيميائي بينهما.

وكما هو معروف فإن لكل كاتب قارئه المتخيل، تماماً كما لكل قارئ كاتبه المتمثل، وبعيداً عن النص والحالة، والزمان والمكان، والرقيب والظرف، وكل أدوات ومعدات الفعل الكتابي التي تؤثر كثيراً على قواعد "اللعبة الكتابية"، يستمر التنافس على أشده بين الطرفين الشريكين: الكاتب والقارئ ، وهل يبحث القارئ عن كاتب يُجيب عن أسئلته أم عن كاتب يولّد الأسئلة ليُجيب عنها هو؟، وهل يخاف الكاتب من قارئه الشبح أم يعتبره الشريك المعين الذي يحمل معه طموحاته ومعاناته؟، وهل يُمارس الكاتب حرفته بحثاً عن كسب إعجاب واستحسان القارئ أم يكتب من أجل إرضاء غروره ونرجسيته؟، وهل علاقة الكاتب بالقارئ ممتدة ومتصلة، أم هي مرتبطة ومعلّقة باكتمال النص؟ تساؤلات تنتظر من يجيب عليها؟

يقول الكاتب والأديب المصري الشهير توفيق الحكيم "1898 - 1987 "أريد من قارئي أن يكون مكملاً لي، لا مؤمناً بي، لقد مرت العلاقة بين الكاتب والقارئ بمراحل وتطورات كثيرة وكبيرة، ولكنها لم تفقد رغبتها الملحة بالشراكة والتكامل. نعم، هي تتعرض الآن لتحولات وتحديات مثيرة بسبب سيطرة وهيمنة وسائل الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكنها رغم كل ذلك أثبتت دائماً أنها علاقة وطيدة وعضوية، وقادرة على التشكّل والتلوّن، لأنها علاقة أزلية وحتمية

***

نهاد الحديثي

 

يمثل الابداع الفني والتشكيلي منه بالخصوص مجالا من مجالات التعبيرية البينة والعالية عن تلك الأحلام والهواجس والرغبات الكامنة في الذات الانسانية حيث القول بالذاكرة الدفينة والمستبطنة لاعتمالات الفنان لكونه الرائي تجاه ما يغفل عنه الآخرون أو لا ينتبهون له وفق ايقاع مجتر ساحق للتفاصيل الدالة والأشياء العميقة والعناصر الحية المقيمة في الذوات ..

ومن هنا نلمس هذا الذهاب الفني الجمالي تجاه ما يستنهض الانتباه الى ما به يقوى الانسان حين تختلط عليه وأمامه الأحوال والمشاهد والأصوات والحركات.. انها لعبة الفن الجميلة الواعية والأنيقة في دلالات سياقاتها ومساراتها في عالم معولم يستوجب النظر الى الذات في صفائها وبهائها .. وهنا ليس ثمة أفضل من تلك النظرات القائلة بالبراءة والحلم والبهجة والحب والجمال ..لأجل التحليق...و الطيران ..سموا وعلوا وتخففا من أدران الواقع وملابساته وضجيجه وهيجانه الرجيم قتلا للجميل والنبيل والحالم في ذات هذا الانسان...انسان اليوم..684 sabra faraj

وهكذا ولهذا.. تأخذنا الفنانة التشكيلية صابرة بن فرج في ابداعها الفني ضمن رسوماتها ولوحاتها التشكيلية قولا بهذه الطفولة والحلم وما هو سحر وفاتن من عوالم أخرى ..الى عبارة تشكيلية فيها ذاكرة عالقة بدواخلها حيث الطفلة التي كانت تخط وترسم وتلون على الحائط في خربشات بها ذلك الحلم القديم الذي يقود الى عوالم بها الجمال والسلام والجنان والفرحة العارمة.. بل والطيران في تحليق ملون بين عناصر شتى من أدوات الأطفال ولعبهم ورغباتهم الجمة...صابرة في لوحاتها الفنية على غرار لوحة " الربيع " ولوحة " الأرجوحة " ولوحة " الطاحونة الهوائية " مختلفة الأحجام وبتقنية مختلطة وعلى القماش...تأخذنا الى شواسع فيها بهجة النفس ومتعة النظر وروح الطفولة التي تختزل العالم وما الى ذلك في كثير من جمالية التعاطي الفني رسما وتلوينا ..هي حالة من شاعرية الفن الذي تعمل عليه وضمنه الفنانة صابرة من سنوات وضمن مشاركاتها الفنية في المعارض بل وفي سياق بحثها الابداعي تشكيليا ووجدانيا وانسانيا وفنيا وهنا تدعو الفنانة بن فرج جمهور الفن وأحباء التشكيل الجمالي الى معرضها الفني الشخصي الذي تم افتتاحه عشية يوم السبت 30 من شهر نوفمبر 2024 بحضور جمع من الفنانين التشكيليين والنقاد وأحباء الفنون.. ليتواصل الى غاية يوم 30 من شهر ديسمبر ب" أرشيفارت " بجهة المرسى..

عنوان المعرض لافت ودال وهو جوهر فكرة هذه الأعمال الفنية المقدمة ضمن هذا المعرض وهو "... وسلالم للطيران "..هي بمثابة رحلة جوية تشوفا وعناقا وانصهارا

في شواسع هذا العالم الحالم الذي يستعيد طفولة الأشياء وجنانها وفراديس تفاصيلها الملونة .

و هنا تبرز الفكرة الجمالية وما تحيل اليه هذه التجربة عند الفنانة صابرة من توق لعالم فيه قوة الفن اذ تطغى على السيء والرديء والقبيح انتصارا للفن في أبعاده المختلفة وللانسان في طفولته الباذخة فالخربشات الأولى على جدران المنازل هي خربشات الروح التي تكبر وتفشي أسرار بهائها في الأرجاء نحتا للقيمة وقولا بالسحر والجمال في عنفوان من الشعور والخيال والموسيقى الطالعة في العمل الفني بين الرسومات وتلويناتها في هرمنة وتناسق أنيقين أناقة فن صابرة وفق سفر نحو آفاق بها الخضرة والطيور والسمكات الطائرة وما هو مجال فاتن لكي يسرد الأطفال حكاياتهم اليانعة حيث الطفلة في هذه الحالات من الجمال بين الأرجوحة والنواعير واللعب ترقب هذه العوالم بعينين من أمل وجمال وحلم ... حلم مزركش وفضاء ملون بما فوق واقع الحال..

فن بما هو عالم بأسره حيث الذات الفنانة في حوارها المخصوص تجاه الذات والآخرين والعالم في ضروب من التقصد والتشوف والحلم أمام عالم بتبدلاته القديمة والحديثة اذ تبرز العناصر والأشياء كينابيع لتوليد الرؤى والأفكار وما به تسعد الذات وهي في جوهر اشتغالاتها الانسانية والوجدانية والجمالية بكثير من حرقة النظر والسؤال ... والقلق المبين.

انها لعبة الفن الدالة الى الدواخل وهي تزخر بالرغبات الجامحة حبا في القول والافصاح وفق تعبيرية تنحت من ظاهر التفاصيل حوارا ملونا بممكنات الفن من تلوين ورسم مثلما تملي علينا هذه التجربة التي نحن بصددها والقائلة بالابداع الفني في رصد الأحوال على هيئاتها الشتى حيث الفكرة وتقاطعات التعاطي معها لينتهي الأمر الى ما يشبه سحرا سرديا ديدن الذات المنتجة له الذهاب بعيدا في دروب الفن وبخصوصية وتفرد هما العنوان المشتغل ضمنه والمبحوث عنه ليصار الى حلم مفتوح...

هكذا هي الممارسة الفنية التي نظرت الى بعد من أبعادها وفي زاوية من زواياها المتعددة فنانة عملت من سنوات وضمن شغفها الفني المأخوذ بالرغبة في الابتكار والبحث الدائم ليصير العمل الفني عبارة الذات .. ذات الفنانة وهي في عنفوان اشتغالها على بهائها التشكيلي المتقصد والموزع على أعمالها الفنية المنجزة من

ولع فني وذهاب ضمن الآفاق الجمالية تجاه الطفلة حيث المسافات الملونة بين الذكرى والاستعادة والحلم في كون يمضي من الذات ليعود اليها في تجواله مع الآخرين..

"...و سلالم للطيران " رحلة فسيحة النظر الجمالي والأحلام اليانعة والطفولة الباذخة وغيرها من تعبيرات الفن في مواجهة السقوط والتنميط والفراغ..انه الفن يحلق عاليا وبعيدا وفق بوصلة الذات الضاجة بالحياة في عالم الحروب والدمار والتداعيات المريبة..هكذا تخيرت صابرة الفنانة المجتهدة نهجها الفني وخلال هذا المعرض الشخصي قولا بالقيمة وتأصيلا لكيان مبعثر يحتاج طفولة وحلما لترميمه .

معرض وتجربة متميزة للفنانة صابرة بن فرج وفق عوالم بروح فنية فيها من عالي التقنية والتعبيرية والاحساس الكثير.. ويتواصل هذا النشاط الفني التشكيلي الى غاية يوم 30 من شهر ديسمبر 2024 وذلك ب" أرشيفارت " بجهة المرسى..

***

شمس الدين العوني

 

عندما يُذكر امامنا الشعر الحر في بلدان العرب، تطوف في اذهاننا صور نازك الملائكة والسياب والبياتي. ونعرف جيدا ان السياب مات على سرير المرض في الكويت، والبياتي دفن في سوريا، ومصر احتضنت قبر نازك الملائكة، واذا أردت المزيد ستجد الجواهري الكبير بعيدا عن دجلة الخير في مقبرة الغرباء في دمشق. وقريبا منه مصطفى جمال الدين عاشق بغداد الذي تمنى لها عمرا اخضر تواجه به الاعاصير، فيما يرقد بلند الحيدري وسعدي يوسف في احدى مقابر لندن، وهناك قبور في الغربة لفوزي كريم ومؤيد الراوي، وسركون بولص ولميعة عباس عمارة وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي، وتحتضن مقبرة الشهداء الفلسطينيين في بيروت قبر عراب الكتابة الصحفية شمران الياسري .

في السنوات الاخيرة تحاول بغداد ترميم ذاكرتها الثقافية مدينة سكنية باسم الجواهري، شارع باسم ابو كاطع، ومجسر فائق حسن ونصب في شارع السراي لأبرز اعلامها " نازك الملائكة " الشاعرة التي عاشت وماتت وهي تنتمي إلى فكر وثقافة مضادة لاثنين، التخلّف ودعاة الوطنية الزائفة . لم يسهم احد مثلما فعلت نازك الملائكة في فرض التجريب الشعري الذي عرف بالشعر الحر على خارطة الادب العربي. فقد كانت اول من كتب ونظر له، فارتبط باسمها لانها ابدعت ودافعت عنه. كانت حجر الاساس في تشكيل ظاهرة ادبية. وكان لها شرف الريادة ببلورتها لنظرية شعرية حديثة وايضا ثورة اجتماعية لم يكن بامكان امرأة غيرها ان تكتب في منتصف الاربعينيات قصيدة تندد فيها بازدواجية المعايير بالنسبة للمرأة في مجتماعاتنا، فكانت قصيدتها " غسلا للعار " نص من نصوص المقاومة في سبيل تحرير المجتمع كاملاً :

ياجارات الحارة .. يا فتيات القرية

الخبز سنعجنه بدموع مآقينا

سنقص جدائلنا وسنسلخ ايدينا

لتظل ثيابهم بيض اللون نقية

لا بسمة، لا فرحة، لا لفتة. فالمدينة

ترقبنا في قبضة والدنا واخينا

وغدا من يدري أي قفار

ستوارينا غسلا للعار

عاشت نازك الملائكة حياتها مثل دون كيشوت تحارب طواحين الجهل والموت، لكنها في النهاية مثل بطل سيرفانتس استسلمت بعد أن وجدت نفسها وحيدة، يحيط بها صمت دائم .. المرأة التي فتحت أبواب الحداثة الشعرية، أمضت سنواتها الاخيرة منزوية، توغل في الصمت، وسيتآمر عليها العمر والمرض لتسقط في العشرين من حزيران عام 2007 بعيدة عن بلادها التي احبتها وتمنت ان تستند في ايامها الاخيرة على اسوارها .

تنتبه بغداد اخيرا لنازك الملائكة، نصب في السراي ومكتبه في القشلة، ينبهان الاجيال القادمة أن في هذه البلاد عاشت امرأة عراقية كانت جريئة ومحبة سيكتب لها ولذكراها البقاء.

***

علي حسين

كلما حلت بالأمة العربية كارثة او مرت عليها ذكرى كارثة وقرأت او سمعت او شاهدت بهذه المناسبة مظاهرة او مسيرة محروسة من جميع الجهات لأنها عفوية يتقدمها صف من وجهاء واعيان القضية يسيرون معبرين بوجوههم المقطبة المتجهمة عن ذكرى العار القومي او يوم الحداد العالمي دون ان تنزل من عين أي منهم دمعة واحدة سرعان ما اتلمس ما تبقى من شعري وانا أتسائل عما اذا كانت هناك علاقة بالفعل بين الرعب والاهوال والمفاجئات وبين نمو الشعر؟ لأنه اذا كانت مثل هذه العلاقة موجودة فعلاً فمعنى ذلك انه لن ينقضي العام الأول من الثمانينات الا وأكون مثل "بول بريمر" تماماً وفيما كنت اشير تحت المطر لأي سيارة تاكسي لكي تنقلني الى أي مكان في هذا الليل البهيم واذا بشاعر تقدمي يبرز لي من الضباب ويبادرني بلهفة... أين انت يا رجل؟ عندي حفلة تعارف صغيرة في البيت وحبذا لو تقبل دعوتي.

قلت مستغرباً ...من الحضور؟

قال: وفد صداقة من الدول الاشتراكية ويسعدني ان تتعرف اليهم.

قلت: آسف.

قال: ولكن هناك الكثير من الفودكا والعشاء "فيليه" من فخذ الغزال جئت به خصيصاً من أعماق السهول الروسية.

قلت: تقصد انه غزال تقدمي؟

قال ضاحكاً، تقريباً.

قلتُ: حسناً لن اذهب ولو كان العشاء فيليه من فخذ بريجنيف.

قال: اهو موقف؟

قلتُ: ابداً كل ما هنالك اني لبيت دعوة من هذا النوع من قبل واقسمت ان لا اعيدها اذ شربنا نخب كل الأحزاب والقوى والتجمعات التقدمية في اوروبا وأمريكا.

حتى جاء الخبز والملاعق ونخب كل الثورات في اسيا وافريقيا وحتى جاءت السلطة وهذا كان منذ سنتين فما بالك الان والعالم يبيض ثورات؟

قال: لا...لا انت غاضب لسبب اخر، رفع العلم الإسرائيلي في سماء مصر، لا تحزن يا صديقي ولا تتشاءم، اتفاقيات كامب ديفيد ونظام السادات والحلف الامبريالي كله سيسقط.

قلت بلهفة: كيف؟

قال بإرادة الشعوب وقواها التقدمية وسوف تعود فلسطين الى أهلها

قلت: اليس هو الشعار المطروح منذ عام 1948 قبل الميلاد؟

قال: نعم

قلتُ: في هذه الحالة ارجو ان تبلغ صديقي الشاعر يوسف الخطيب ان لا يوجه لي الدعوة لتناول الغداء في يافا او حيفا كما فعل صبيحة حرب حزيران

قال: بل ستحضر وتكون في طليعة المدعوين

قلتُ: لا احب الظهور واذا كان لا بد فسأجلس على طرف المائدة

قال منشرحاُ: والان ما علينا الا دعم وتأييد التدخل السوفييتي في شؤون أفغانستان بناء على طلب حكومتها لان القضية العربية مربوطة جدلا بما يجري في أفغانستان وهذا تعليق لكاتب تقدمي إنكليزي مصداقا لما تقول وبعد ان القيت التعليق دون ان انظر اليه، تقدم ومن خلال الضباب أيضا طليعي اخر وبادرني معاتبا" رأيتك تتحدث مع واحد من جماعة موسكو وهم مشبوهون ومرتهنون لاي نظام والماركسية اللينينية منهم براء فللوقوف في وجه الامبريالية أعدموا ملايين الفلاحين في بداية الثورة لياكلوا خبزهم في نهايتها من حقول الامبريالية وبالرجاء والتوسل وهذا كتاب لريجيس دوبريه يؤيد هذه المقولة من اول سطر، وما ان اتبعت الكتاب بالتعليق الذي سبقه حتى برز لي من الضباب أيضا ناقد متطرف وقال: لقد رايتك تتحدث مع واحد من جماعة "ماو" انهم منحرفون مزيفون للعقيدة الماركسية اللينينية. لقد ابادوا العصافير في بلادهم ليتحولوا هم الى عصافير على اغصان الامبريالية وكل ما يفعلونه الان هو الزقزقة عن الاشتراكية وهذه مقابلة مع رودنسون تفضح اكاذيبهم وعمالتهم.

 وما كاد ينصرف حتى كنت وجها لوجه مع من اقصى أقصى اليسار وقد بادرني مزبدا مرغيا: لقد رايتك تتحدث مع واحد من جماعة تروتسكي وهي جماعة منقرضة ومشكوك بأمرها منذ زمن بعيد وعليك ان تنتظر نهايتهم جميعا

قلت: لم يعد عندي جلد حتى لانتظار باص

قال: ان ما يحتاجه العالم الان هو يسار يكتسح الأخضر واليابس وهو في طور التكوين فكل الشارع العربي يساري

قلت: نعم الشارع يساري والازمة يمينية

قال: انت مضلل ومسكين وبحاجة الى من يرشدك ويحميك . هل تنظم الينا؟

قلت: ابعدني عن السياسة ارجوك

قال: حسنا هناك لجنة أدبية وليست سياسية للدفاع عن حرية الكاتب العربي وهي يسارية. ما رأيك؟

قلت: لجنة يسارية تنبت هكذا فجأة للدفاع عن الكاتب العربي، عن الفلاح العربي، عن الكندرجي العربي لن انتسب اليها قبل ان اعرف بالضبط كم عدد أعضائها وكم دولارا رأسمالها

فصرخ مزمجرا. أمريكا. أمريكا..اللعنة على أمريكا انها وهم. انظر ما جرى ويجري لها في ايران وأفغانستان والسلفادور وبوغوتا على ايدي شعوبها ونحن جزء من هذا العالم المتفجر وعليك " شئت ام ابيت" ان تنتظر الثورة العربية الشاملة.

قلت مذعوراً: تقصد ان الثورات التي مرت علينا كانت " أكل هواء" مقدمات وان الضربة الكبرى لم تأتي بعد؟

 قال : طبعاً ان الماركسية اللينينية ستنتصر وسوف تحقق الرفاه المبرمج والتوازن بين الدخل والانفاق والانفاق الإنتاج لان راس المال...

قاطعته متوسلاً... وانا اهم بالانصراف.." اخي امنوا لي خبزاتي ودخاناتي كل يوم وصندلين لولدي كل سنتين وانا ممنون شوارب ماركس ولينين وانغلز واسبارتاكوس".

...................................

عبد الرضا حمد جاسم

من كتاب سأخون وطني لمحمد الماغوط

 

اسمي "أكسيل" وُلدتُ لعائلة أمازيغية أباً عن جَدْ، نعيش شمال ِإفريقيّة منذ سالف الزمان أنا وعشيرتي. كنّا نعيش في سلام ووئام إلى أن أتى سكان الضفة الأخرى للبحر المتوسط، عندها قُلبت حياتُنا رأسا على عقب، تغيرت عاداتنا وأساليب حياتنا طُمست هويتُنا وأصبحنا نسخة مصغرة عن سكان الضفة الأخرى.

بعد سنوات من الترحال والتنقل الدائم قررنا أخيرا الاستقرار في مكان يسمى شمال إفريقيا إنها منطقة تقع في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط أطلق عليها فيما بعد قارة إفريقيا. في البداية واجهنا صعوبات عدة في الاندماج مع المحيط الخارجي لذلك حرصنا على إيجاد حلول للصمود أمام وحشية الطبيعة فتعلم الرجال صيد مخلوقات الغابة لنأكلها وطوروا من طرق الصيد حتى نكون في مأمن من تلك الكائنات ففي أول لقاء بها أصابت العديد من الرجال بجروح وقَتلت البعض الأخر لذلك قررنا استعمال طرق أخرى للصيد تكون ناجعة أكثر فاستغنينا عن القتال المباشر معها وأصبحنا نستعمل نوع من الحجارة المصقولة وجدناها مصادفة على شاطئ البحر كنا نربط هذه الحجارة على الأعواد ونستعملها كسلاح أطلق عليها فيما بعد بالرمح في حين تعلمت النساء صنع ملابس لِتقينَا برد الشتاء، حسنا ليست الملابس التي ستكون في عصركم عندما تقرؤون المخطوط بل ملابس بدائية لشعب يعيش في تجاويف جبلية بقينا على هذا الحال مدة لا أعلمها ثم قررنا أخيرا الخروج من الكهوف والانتقال للعيش على ضفاف المتوسط وبعد عدة محاولات اكتشفنا أخيرا طريقة لصنع أكواخ صغيرة باستخدام سيقان النباتات والقش لكن سرعان ما أدركنا أنها لن تصمد طويلا أمام وحشية الشتاء لذلك عملنا على تطويرها فاستعملنا مادة أخرى تشبه التربة ولكنها إذا مزجت بماء البحر تصبح طرية بعض الشيء وتستطيع التحكم فيها وإذا جفت تصبح صلبة كجدران الكهف لذلك اعتمدناها في بناء أكواخنا فتلك الكهوف التي كنا نعيشها، سكن فيها أجدادنا القدامى منذ غابر الزمان ولزالت صامدة حتى الآن.

حقا إنه لعجيب أمر هذا الكون، أحيانا تشعر وكأن كل موجوداته مسخرة لخدمتنا نحن بنوا البشر، كانت إفريقية تحبنا ونحبها نحرثها ونزرعها وتدر علينا من خيراتها وفواكهها دون توقف طالما اعتبرناها مكانا مقدسا ومباركا من الآلهة.

مع مرور الزمن اصبح بنوا جنسي مبدعين في صناعة الأواني والتماثيل الطينية فقد تعلمنا جيدا كيفية تشكيله فصنعنا منه العجبَ حتى أننا كنا نصنع آلهتنا منه أي أننا كنا نصنع تماثيل مختلفة منها ما هو على شكل إنسان ومنها ما هو مزيج بين الإنسان وبقية المخلوقات الأخرى ثم تتم عبادتها، لكنني حقيقة لم أكن مثلهم فأنا لا أسطيع الركوع لمخلوق أنا بخالقه، كنت أؤمن في قرارة نفسي بأن هناك قوة خفية أو شيئا ما لا اعلم ماهيته هو خالق الكون وكل الموجودات. كنت في بداية الأمر أعتقد أن الآلهة تجسدت في هيئة النار فمنذ اكتشافنا لها وأنا منبهر بقدراتها فهي في نظري التي بيدها مفاتيح الحياة، لقد رأيت بنفسي قدرتها على إحياء من تريد وقتل من تريد، إن فصل الشتاء بالنسبة لنا فصل الموت، ففيه يموت العديد من الناس إما بسبب المرض أو البرد ومع ظهور النار أصبحت هي من تقينا برد الشتاء، ولكنها حين تغضب علينا تحرقنا بلهبها، لذلك كنت اعتقد أنها جديرة بالعبادة لكن بمرور الوقت اكتشفت أنها مائلة للزوال، فذات يوم غضبت علينا غضبا شديدا أحرقت فيه معظم منازلنا التي صنعناها من القش قبل اكتشافنا للطين واحرقت الأشجار وكل الموجودات لقد حاصرتنا من كل مكان لم يبق شيء إلا وطاله لهيب النار كان ذلك اليوم الجحيم بعينه صراخ يسمع من كل الجهات الكل يحمل اغراضه ويركض، تشعر وكأن قوة خارقة تحاصرك من كل مكان وتبتلع كل ما يعترضها، عندما وصلنا ضفة البحر كان المنظر خلفنا مخيف كيان ضخم من النار يلتهم كل ما يعترضه حتى وصل للبحر كنا نظن أنها النهاية وسنلقى مصيرنا المحتوم هنا لكن فجأة نزلت مطر من السماء بغزارة أطفئت النار ! نعم لقد انهزمت النار أمام المطر فأيقنت حينها انها غير جديرة بالعبادة فهي فانية فرفعت رأسي يومها للسماء وقلت أن المطر هي احق بالعبادة فهي من حماني من لهيب النار انا وقبيلتي ولكن لم تمر مدة من الزمن آلا وتوقفت المطر عن النزول فأيقنت انها هي الأخرى زائلة وتخضع لقانون موضوع من قبل طرف قوي بيده كل شيء، لذلك قررت عبادة خالق الأكوان خالق النار والماء الشمس والقمر.

***

آمنة المسلمي - تونس

 

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

في خطاب قبوله لجائزة نوبل، أكد سول بيلو أن "الفن وحده هو القادر على اختراق الحقائق الظاهرية لهذا العالم. وهناك حقيقة أخرى، الحقيقة الحقيقية، التي نغفل عنها. وهذه الحقيقة الأخرى ترسل إلينا دوماً تلميحات، والتي لا نستطيع أن نستقبلها من دون الفن". وقد ألقى بابلو نيرودا الضوء على هذه الفكرة من زاوية أخرى في استعارته الرائعة عن السبب الذي يجعلنا نبدع الفن، لكن الأسئلة حول ما يدفع الفنانين للوصول إلى ذلك الواقع الآخر وكيف يقومون بذلك تظل واحدة من أعظم الألغاز في التجربة البشرية.

لم يتناول أحد هذا اللغز الثابت برؤية أكثر عمقًا من فرجينيا وولف (25 يناير 1882 – 28 مارس 1941). في إحدى الفقرات الأكثر إثارة للإعجاب التي كُتبت على الإطلاق، والتي توجد في كتابها لحظات الوجود (مكتبة العامة) — المجموعة الرائعة التي نُشرت بعد وفاتها والتي تضم الكتابات الذاتية الوحيدة لوولف — تتأمل في ما جعلها كاتبة وتلقي نظرة على جوهر الآلية التي نطلق عليها الفن.650 virginiawoolf

تكتب وولف:

كطفلة، كانت أيامي، تمامًا كما هي الآن، تحتوي على نسبة كبيرة من هذا القطن الوهمي، هذا الوجود غير الحقيقي. كان الأسابيع تمر في سانت آيفز دون أن تترك أي أثر عليّ. ثم، بدون سبب أعلمه، حدثت صدمة مفاجئة وعنيفة؛ كان هناك شيء حدث بعنف لدرجة أنني تذكرتها طوال حياتي. سأقدم بعض الأمثلة. الأول: كنت أتشاجر مع ثوبي [أخ وولف الأكبر] في الحديقة. كنا نتبادل اللكمات بأيدينا. في اللحظة التي رفعت فيها يدي لضربه، شعرت: لماذا أؤذي شخصًا آخر؟ خفضت يدي على الفور، ووقفت هناك، وتركته يضربني. أتذكر الشعور. كان شعورًا بالحزن اليائس. كأنني أصبحت واعية لشيء مروع؛ ولقوة عجزى الخاصة. انسحبت وحدي، أشعر بالكآبة الشديدة. المثال الثاني كان أيضًا في حديقة سانت آيفز. كنت أنظر إلى سرير الزهور بجانب الباب الأمامي؛ قلت: "هذا هو الكل". كنت أنظر إلى نبات بأوراق منتشرة؛ وفجأة بدا واضحًا أن الزهرة نفسها كانت جزءًا من الأرض؛ أن حلقة تحيط بما كان الزهرة؛ وأن ذلك كان الزهرة الحقيقية؛ جزء من الأرض؛ جزء من الزهرة. كانت فكرة وضعتها جانبًا باعتبارها ستكون مفيدة لي لاحقًا. الحالة الثالثة كانت أيضًا في سانت آيفز. كان بعض الأشخاص الذين يُدعون فالبى قد أقاموا في سانت آيفز، وغادروا. كنا ننتظر على العشاء ذات ليلة، وعرفت بطريقة ما أن والدي أو والدتي قالا إن السيد فالبى قد انتحر. التالي الذي أتذكره هو أنني كنت في الحديقة ليلاً وأسير على الممر بجانب شجرة التفاح. بدا لي أن شجرة التفاح مرتبطة برعب انتحار السيد فالبى. لم أستطع المرور بجانبها. وقفت هناك أنظر إلى تجاعيد اللحاء الرمادي-الأخضر — كان ذلك في ليلة مضيئة بالقمر — في حالة من الرعب. بدا لي أنني أُسحب إلى أسفل، بلا أمل، إلى بئر من اليأس المطلق الذي لا أستطيع الهروب منه. بدا جسدي مشلولًا.

كانت هذه ثلاث حالات من لحظات استثنائية. غالبًا ما أرويها، أو بالأحرى، تبرز إلى السطح بشكل غير متوقع. ولكن الآن، بعد أن قمت بكتابتها لأول مرة، أدركت شيئًا لم أدركه من قبل. انتهت اثنتان من هذه اللحظات في حالة من اليأس. بينما انتهت الأخرى، على العكس، في حالة من الرضا. عندما قلت عن الزهرة "هذا هو الكل"، شعرت أنني قد قمت باكتشاف. شعرت أنني قد خزنت في ذهني شيئًا يجب أن أعود إليه، لأدور عليه واستكشافه. يبدو لي الآن أن هذه كانت فرقًا عميقًا. كان الفرق، في المقام الأول، بين اليأس والرضا. أعتقد أن هذا الفرق نشأ من أنني كنت غير قادرة تمامًا على التعامل مع ألم اكتشاف أن الناس يؤذون بعضهم البعض، وأن شخصًا رأيته قد انتحر. لقد أوقفني الشعور بالرعب، ولم أكن قادرة على التصرف. لكن في حالة الزهرة، وجدت سببًا؛ وبالتالي كنت قادرة على التعامل مع الإحساس. لم أكن عاجزة. كنت واعية — وإن كان ذلك عن بُعد — أنني سأفسر ذلك في الوقت المناسب.

تجادل وولف أن مصدر الدافع الإبداعي يكمن في الفرق النوعي الحاسم بين التجارب التي أدت إلى اليأس وتلك التي أثارت الرضا:

"كلما تقدم الإنسان في العمر، يكون لديه قدرة أكبر من خلال العقل لتقديم تفسير؛ وهذا التفسير يقلل من قوة الصدمة. أعتقد أن هذا صحيح، لأنه رغم أنني ما زلت أملك الخصوصية التي تجعلني أتلقى هذه الصدمات المفاجئة، إلا أنها الآن دائمًا ما تكون مرحب بها؛ بعد المفاجأة الأولى، أشعر دائمًا على الفور أنها ذات قيمة خاصة. وهكذا أذهب إلى افتراض أن القدرة على استقبال الصدمات هي ما يجعلني كاتبة."

على نحو ملائم، حوّلت وولف هذه الرؤية في وقت لاحق إلى سطر جميل في روايتها مدام دالوواي: "إن التعويض عن التقدم في السن هو أن المشاعر تظل قوية كما كانت دائماً، ولكن المرء يكتسب ـ أخيراً! ـ القوة التي تضيف النكهة العليا للوجود، ـ قوة الاستيلاء على الخبرة، وتحويلها ببطء، في ضوء النهار". ولكنها هنا تواصل البحث بشكل أعمق عن مصدر هذا النشاط الزلزالي للروح:

"أجازف بالتفسير بأن الصدمة في حالتي تتبعها فورًا الرغبة في تفسيرها. أشعر وكأنني تلقيت ضربة؛ لكنها ليست، كما ظننت في طفولتي، مجرد ضربة من عدو مخفي خلف قطن الحياة اليومية؛ بل هي، أو ستصبح، كشفًا من نوع ما؛ إنها علامة على شيء حقيقي خلف المظاهر؛ وأجعلها حقيقية من خلال وضعها في كلمات. فقط بوضعها في كلمات أجعلها كاملة؛ وهذه الكمالية تعني أنها فقدت قدرتها على إيذائي؛ وتمنحني، ربما لأنني بذلك أزيل الألم، سعادة كبيرة في جمع الأجزاء المفصولة. ربما تكون هذه أقوى متعة معروفة لي. إنها النشوة التي أشعر بها عندما أكتشف أثناء الكتابة ما ينتمي إلى ما؛ عندما أجعل المشهد صحيحًا؛ وعندما أجعل الشخصية تتماسك.

تنهي وولف بتلخيص رائع لفلسفتها الشخصية — وهو التعبير المباشر الوحيد لها الذي يظهر في أي من كتاباتها:

"من هذا، أستنتج ما قد أسميه فلسفة؛ على أي حال، إنها فكرة ثابتة لدي؛ أن خلف القطن الوهمي يوجد نمط مخفي؛ أننا — أعني جميع البشر — مرتبطون بهذا النمط؛ أن العالم كله هو عمل فني؛ أننا أجزاء من هذا العمل الفني. إن هاملت أو رباعيات بيتهوفن هي الحقيقة حول هذا الكتلة الواسعة التي نطلق عليها اسم العالم. لكن لا يوجد شكسبير، ولا يوجد بيتهوفن؛ وبالتأكيد وبشكل قاطع، لا يوجد إله؛ نحن الكلمات؛ نحن الموسيقى؛ نحن الشيء ذاته. وأرى هذا عندما أتعرض لصدمة."

(انتهى)

***

....................

الكاتبة: ماريا بوبوفا/  Maria Popova (بالبلغارية: Мария Попова؛ من مواليد 28 يوليو 1984) كاتبة مقالات ومؤلفة كتب وشاعرة، وكاتبة تعليقات أدبية وفنية ونقد ثقافي، وجدت قبولًا واسعًا سواء لكتاباتها أو للأسلوب البصري المصاحب لها. في عام 2006، بدأت مدونة Brain Pickings، وهي منشور على الإنترنت ناضلت للحفاظ عليه خاليًا من الإعلانات. المدونة، التي أعيدت تسميتها إلى The Marginalian في عيد ميلادها الخامس عشر في عام 2021، تعرض كتاباتها عن الكتب والفنون والفلسفة والثقافة وغيرها من الموضوعات.

محطة من دفتر الذاكرة

لا أغالي ان اعترفت، ان حبك هو الحياة، ان صبرك إكسير الحياة، وأن ضمك لي كل يوم يعيد لي الحياة.

سفرتي هذه في طريق العودة إلى وطني السويد من ساحل الشمس على متن الطائرة الإسكندنافية البيضاء ألهمتني الكتابة فوق السحاب وعلى علو شاهق بعيد عن الأرض ومشاكلها من حروب وخصام وبشر جاحدون وعلى صهوة هذا الجواد الحديدي. قارئي الكريم، الكتابة متعة غير اعتيادية خاصة على متن طائرة تجوب بينً الغيوم سابحة ففيها ترى الغيوم بأشكالها وألوانها متجمعة تحت هذا الغول المارد الحديدي التي يسمى طائرة نفاثة والتي تزن آلاف الأطنان وهي تطير كالطير وقد أفردت جناحيها فوق السحب عابرة القارات والمحيطات دون أي عايق أو مانع.

رغم أني أسافر مرات عدده كل عام ومنذ اكثر من نصف قرن فلا زلت أعاني من صعوبة النوم ليلة قبل السفر حيث استيقظ مرات عدده منً جراء حلم رأيت فيه نفسي باني تأخرت عن موعد السفر او حتى ضاع مني شيئا ما وطبعا مع مرور قطار العمر بدأ ذاكرتي القريبة تذبل كأنها ذاكرة الأسماك اليابانية البرتقالية حيث أنسى دوما شيئا ما في البيت رغم أني أحاول ان أفكر جبريا وحسابيا وأراجع كل صغيرة وكبيرة في قائمة أعددتها لهذا الغرض حيث اعد حقيبتي وأدقق وثائقي لكني اعترف لكم باني أنسى دوما احد التفاصيل الصغيرة. ولا اخبر الكثيرين بموعد سفري لان أم أطفالي تبقى قلقة لحين وصولي إلى البيت إلا أني أحبذ دوما ان يعرف احد الأبناء او الأصدقاء المقربون بموعد وصولي، فقط. ورغم أني لمً اكن ارغب بالسفر الآن وفي نهاية الخريف تاركا شمس الأندلس البديعة رغم انه موسم الشتاءً على الأبواب وآنذاك لا يتعدى فيه درجات الحرارة ١٧ مئوية ولا تصفر قط أوراق الأشجار بل تبقى خضراء طول العام في حين تنتشر أشجار البرتقال (النارنج)على طول شوارع مدن الأندلس الساحلية وفي غرناطة، قرطبة ، قاديس، المرية والعاصمة إشبيلية ومدن أخرى أقول بان بوادر البرد والأيام الداجية المظلمة في مدن القطب الشمالي تبدّا مع الخريف وتستمر إلى بدايات الربيع حيث يكون النهار قصيرا جدا والظلام الدامس يلف كل شيء والثلوج تغطي كل مكان وحتى الصقيع تنتشر في لياليها لكني أجبرت هذه المرة على السفر لأمرين او ثلاث بالأحرى الأول ابني البكر سيعقد قرانه في مدينة "مالمو " الساحلية والقريبة من مملكة الدنمارك التي تفصلها جسر طويل مع العاصمة كوبنهاغن الذي يصله الزائر بالقطار السريع في دقائق ويجب علي كوالد للعريس ان أحترم تراثي وأعرافي وانً احظر هذه المناسبة المهمة في حياة ابني على أمل ان لا تكرر والأمر الآخر ان امً الأولاد قد أجرت عملية جراحية يستوجب بقائي بجانبها ومساعدتها في أمور المنزل والتي أجيدها نتيجة حياة العزوبية التي طالت اكثر من عشر سنوات.

الأمر الثالث مرتبط بالتطورات السياسية في هذه المملكة والتي بدأت بوادرها منذ سنوات مع صعود وتيرة المنادين بالقومية وبالصفاء العرقي وما يسمى ب النارية الجديدة في السياسة ومحور سياستهم الشعبية تتمركز في العداء لكل اجنبي ولاجئ جاءهم من الشرق. ووصولهم كقوة سياسية عنً طريق الانتخابات أعطى لهم زخما كبيرا ووصلوا إلى تبوء مقاعد في برلمانات دولهم وفي برلمان الاتحاد الأوربي كذلكً. مع وصولهم إلى مواقع القرار في معظم دول الاتحاد الأوربي ومع الأسف كنتيجة مباشرة لتدفق اللاجئين من دول الشرق الحزينة ودور الإعلام في نشر سلوكهم السلبي والجنائي وعدم ملائمتهم لشروط الحياة في الغرب وثقافاتها وأعرافها وما اصطلح بتسميته ب "الصدمة الثقافية" والتي كانت احد اهم أسبابها ارتفاع التوجهات الدينية والاجتماعية والتقوقع حيث أسلوب الحياة الدينية التي فرضت على تلك المجتمعات حتى إذا علمنا ان معظم الدول الأوربية علمانية التوجه ولا تعترف حتى بالدين الإسلامي كدين رسمي على أراضيها بل تترك الشخص حرا في أجراء عباداته وشعائره فلا نجد مثلا دولة أوربية يكون فيها مثلا يوم الجمعة عطلة رسمية . هذا الخط العدائي الذي بدأ يبرز كل يومً اكثر وأكثر وحتى في سنً القوانينً واتخذ قرارات المنع بأنواعه شمل حتى المتقاعدين اللذين أقاموا طول حياتهم في هذه البلاد وأرادوا تحقيق حلمهم الأخيرة في ان يكون خاتمة أيامهم في وطنهم الأم. لكن التغيرات الجديدة التي جاءت مع السياسة التي تتبعها حزب الديمقراطيين السويديين القومية والسلبيةً وانعكاس تلك السياسة على إداء جميع الأحزاب السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين المتطرف وعلى قوانين وقرارات الحكومة أدى إلى منعهم من البقاء لفترات طويلة خارج المملكة على أساس حصولهم على مساعدات من الدولة قد يستغلها البعض وحدد مدة الإقامة ان لا يزيد ذلك عن ثلاث اشهر. هذا السلاح الجديد الرقابي القسري الذي استخدم في أنظمة غير ديمقراطية من قبل يؤثر سلبا حتى على ملاين من أبناء الوطن الأصليين من المتقاعدين السويديين اللذين اختاروا العيش في دول أجوائها حارة وملائمة لأعمارهم بعد ان شاب المشيب وأدوا واجبهم تجاه وطنهم الأم. الجدير بالذكر ان راتب الشعبي الذي يتقاضاه المتقاعد لا يكفي لدفع إيجار البيت مما يؤدي إلى العيش على معونات الدولة ولا ريب ان العديد من القوانين التي سنت في السنوات الأخيرة تحول المجتمع خطوة بخطوة إلى مخبرين من موظفين دولة يجبرون على إخبار عن وجود المهاجرين الغير شرعيين في البلاد والتبليغ عن هؤلاء ممن رفض طلبات لجوئهم وكذلك الشهادة المجهولة والتي ستؤثر سلبا على عدالة قرارات المحكمة حيث لا يمكن معرفة هوية الشاهد وقد تكون كيدية و بعد ان شدد العمل بالتعليمات الخاصة بالهجرة في البلاد مع العلم بان مئات الألوف من المواطنين اذو الأصول السويدية يهاجرون ويتركون البلاد والولادات منخفضة جدا. في زيارتي الأخيرة وانا اهم بالخروج من قاعة مجيئ الحقائب وقفتني احدى الشرطيات لتسألني؛

- منذ متى وأنتم خارج السويد؟

كانت الصدمة بالنسبة لي شديدة لأني عملت بإخلاص ٣٥ عاما ودفعت الضرائب واحترمت قوانين البلد…. كل عام ولم أتوقع ان اسأل وأنا تجاوزت السبعين هذا السؤل فتلعثمت في الإجابة فطلب مني التنحي جانبا ودخول احد الغرف شعرت كأني مجرم وجاني عمل جريمة بسفره للاستجمام خارج مملكة السويد

ولا يوجد داعي انً اكمل تجربتي الحزينة تلك….

وقد حصل نفس السيناريو مع اخي عند عودته في مطار ستوكهولم. استوقفني هذه المرة وأنا عاود من الأندلس إلى وطني في القطب الشمالي مملكة السويد وأنا جالس في الطاولة احرف ثلاث تدل علىً شركة الخطوط الجوية الإسكندنافية التي تنتمي اليها الطائرة في سفرتي هذه والتي ستستغرق أربع ساعات أي احرف SAS وصولا إلى العاصمة استوكهولم ومن ثم استقل طائرة أخرى إلى مدينة غوتنبرغ حيث ينتظرني سفرة أخرى إلى مدينتي حيث بيتي مدينتي الجميلة يونشولنك وهي ميناء تقع على الضفة الجنوبية من بحيرة فترن الكبيرة والتي تمتد مسافة ١٦٠ كمً شمالا وتعتبر اكبر خزان لمياه الشرب النقي في اوربا حيث يمنع إنشاء المعامل والمصانع على ضفافها وترتبط من الشمال ببحر بلطيق عن طريق قناة مائي يعتبر قبلة للسواح لجمال الأماكن التي يمر فيها السفن الشراعية واليختات الشخصية وتسمى ( يوتا قنال ) ورغم تفاوت ارتفاع الأراضي التي تمر منها القناة فقد عولج ذلك عنً طريق بناء أحواض مائية ترفع اوً تنكس السفن والقوارب واليختات المارة منها ذهابا وإيابا. وقد استغلت شركات صناعة الأفلام السينمائية هذا القناة لتصوير العديد من الأفلام السينمائية.

الخط الزمني الفاصل بين خيال ذلك الكاتب في ألف ليلة وليلة الذي تخيل الغول الذي يخرج من المصباح يطير وعلى ظهره جلس علاء الدين وبين هذه الطائرة التي اجلس فيها واكتب كلماتي هذه ، شاسع والتجربة خيالية الطيران بحد ذاته نراه في مسارها التاريخيّ حلما تكرر . حيث نرى في معظم الحضارات القديمة أن البشر حلموا بالطيران وحتى تخيلوا ان لبعض الحيوانات أجنحة تمكنها بالطيران كالثور والحصان وحتى الفيل وحيوانات أخرى ناهيك عن أنهم تصوروا بان هناك بشر على شكل الله لهمً أجنحة كذلك. لم يتخيل أجدادي باني يوما سأركب هذا الحصان الحديدي وعلى صوت هدير محركاتها اكتب هذه الكلمات لكم باطمئنان وارى قمارة الطائرة وقد جلست وراء مقود القيادة فتاة شقراء جميلة ذكرت اسمها "انجلينا" أي الملاك بالترجمة العربية تحدثت بالإنكليزية ومن ثم باللغة السويدية بنبرات تطرب السامع وهي تتحدث للمسافرين عن برنامج الرحلة وتقدم طاقم الطائرة بأسمائهم في حين تدور حوريتان بأباريق من الشاي والقهوة ، اللتان تقدمان مجاناً ، حول المسافرين وعلى محياهن ابتسامة وبريق ازرق مائل إلى الرمادي في أعينهن وذاك قلما نجده ونحن نتجول في شوارع مدن الشرق مع الاعتذار ل الشاعر جرير والقائل    :

إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا

اعتذرت متأسفة الشقراء، قائدة الطائرة لاحقا من المسافرين عن طريق البث راديو الداخلي لأنها ستتأخر في الهبوط من موعدها المحدد بخمسة دقائق لأننا في واقع الحال بدأنا الرحلة متأخرين من موعد إقلاع الطائرة بقليل ما يلفت النظر في الرحلات بالطائرة وجود مسافرين قلقين، مرتبكين وربما خائفين ، نتيجة مشاهدتهم للأفلام السينمائية حيث موضوع المحبب لمخرجين الكوارث والحروب والقتل وطبعا الجنس، هؤلاء المرتبكين من المسافرين تراهم دوما يحاولون ان يكونوا بين اوائل من يتدافعون يقفون في اول الطابور قبل الإذن لهم بدخول الممرات المؤدية إلى باب الطائرة (الخرطوم) وحال وصولهم إلى باب الطائرة لاعتلائها تراهم يتزاحمون وكذلك يفعلون عند هبوط الطائرة هم اول من يقومون من مقاعدهم و بسرعة حتى قبل الإعلان كابتن الطائرة عن إطفاء المحركات وتوقفها الكامل وهؤلاء هم انفسهم الذين بسببهم تتأخر الرحلات ويتأخر بذلك ركوب الركاب الأخرين لأن هؤلاء لا يجدون حتى مقاعدهم ولديهم دوما أغراض كثيرة يعيقون مسار الركاب غالقين الممر الضيق لسير الركاب لإيجاد مقاعدهم ووضع حاجاتهم في الأماكن المخصصة أي الدواليب العالية ومن إيجاد مقاعدهم . وربما انتم بنفسكم قد لاحظتم ذلك في أسفاركم إلى الخارج. كما في السفر بالطائرة تحصل دوما تأخير وطبعا حصل معنا نفس الشيء عند هبوطنا في العاصمة حيث تأخرت الطائرة الثانية ساعة كاملة عن الإقلاع مما أدى ذلك إلى تأخري على باص مدينتي والذي في العادة تسير مرتين فقط في اليوم بين المطار ومدينتي التي أقيم فيها منذ ٣٦ عاما. والتي تبعد حوالي ١٤٠ كم من المطار ومع كل التعب والجوع أقول الجوع لأني عادة لا آكل أبدا من الطعام المقدم في الطائرات ليس لأنه غالي الثمن، بل لأنه بدون طعم ومليء بالمواد الحافظة وكمياتها قليلة جدا لا تشبع المسافر في السفرات الطويلة، بل اشرب القهوة وهي معالجة كذلك كي تكون صالحة في ظروف السفر بالطائرات.

اتصلت مرغما بابني الصغير ورجوته ان يأتي إلى المطار ولأنه يعمل في دورية المسائية وعدني ان يأتي لاصطحابي إلى بيتي حال انتهاء عمله. أجواء السفر تظهر دوما سلوكيات البشر حيث نرى ركاب ساحلي الوجه من الهائمين وآخرين صامتين بينما نجد نساء يثرثرن طوال مدة السفرة ودون انقطاع وهناك دوما من يريد ان يكون العدول من يدخل إلى غرفة التواليت الصغيرة جدا وترهم يتزاحمون في طابور على نيل شرف دخولها قبل الآخرين وحتى حينما تكون الطائرة لا تزال جاثمة على الأرض على المدرج. اماً أنا فأعاني دوما من تشنجات عضلية والآلام في رقبتي وظهري يعيق جلوسي في مقعدي الوفير وغالبا لا أقوم من مكاني في رحلاتي واشرب فنجان من القهوةً تلو الأخرى ولا أستسيغ أكل في الطائرة ولا أحبذ النوم لذا تراني الآن اكتب لكمً هذهً السطور. أبناء الدول الإسكندنافية بصورة عامة والشباب منهم بصورة خاصة حين يسافرون إلى دول للتصييف تراهم يبداون باحتساء الخمر حال وصولهم داخل الطائرة ولا يضيعون الوقت في أي شي آخر كأنهم في سباق للشرب لا ينتهي إلا داخل الطائرة وهم في طريق العودة إلى ديارهم ولا ادري ماذا يفهمون من السفر التي تبدأ بسكر وتنتهي بسفر. خاصة في السفرات السياحية (چارتر) حيث يكون المرء قد حجز كل شيء مقدماً ودفعً قيمتها مقدما. في هذه المحطة تصل الطائرة إلى احد اكبر مدن السويد واعني گ وتابورك أي قلعة الگوتيين وهي ميناء كنت قد عملت فيها لفترة قصيرة قبل ٣٥ عاما سآتي إلى تفاصيلها في حديثي عنً تلك الأيام وهنا استقبلني ابني الشاب "قيصر " وعانقني ورجعنا معا الىً مدينتنا التي تبعد حوالي ١٤٠ كم من المطار. دار حديثنا طول الطريق حول التغيرات التي طرأت في المجتمع السويدي في الأعوام الأخيرة وعن ما قدمته أنا بنفسي لمدينتي وكيف أردت ان اتركً ارثا لأحفادي وما أهمية هذا الإرث لعدم وجود جذور لنا في وطننا الجديد مملكة السويد.

***

د. توفيق رفيق التونچي

على متن الطائرة "ساس" في رحلتها المرقمة Sk1584, SK165:  2024

في لوحات أحمد قليج خطابان يسيران بالتوازي في أحدهما تتلاقح جملة الانفعالات مع ذاك الحس الانساني والجمالي بداخل الفنان لتعكس من خلال حركة الفرشاة العريضة والمشبعة بصياغة مشهدية أكثر عمقا وتعبيرا عن المضمون والمأساة وهو يحتمي هنا بخبرته وقدرته على تفكيك وتحليل اللون لمكوناته وبمصداقية انفعالاته عبر إيقاعها الحركي المترابط والذي يمنح عجينته تلك القوة القادرة على تبرير ذلك الحضور المتباين والمتوازن لألوانه بالمجمل. 21 ahmad klach

أما الخطاب الثاني فهو شرح وتوضيح موجه للعامة نمسك به من خلال تلك الخطوط المخلصة والملخصة للواقع المرئي والملتزمة بحدود الشكل الواقعي بحيث يكتشف المتلقي من خلالها ملامح لشخوص انسانية تشرح الحدث.. تشرد.. معاناة.. حفاة.. عراة إلا من أوجاعهم وهمومهم التي حيكت كحكاية متواصلة مع الحدث في الخلفية لتغطيهم بجملة انفعالات يترجمها الخطاب الأول.

تلك هي لوحته تترجم كم انفعالاته وتحلق بثقة تعكس ما يتمتع به من قدرات لتترجم أخيرا بالخطوط حركات وشخوص رحلته كمن يقرأ ويفسر للعامة لوحته وأمام تلك القراءة تتضارب الآراء فمتعة الكشف والاستكشاف تبقى مهمة القراء.

ولكني أشير هنا إلى أنه لا يكشف كل الخيوط ويترك لمخيلة القارئ استكمال تلك الخطوط  إذا أن متعة العبث بعجينة اللون واشتقاقاته المتواصلة مع سكين أو فرشاة لازالت تطرحه وتحركه بشغف منتقية تلال الدرجات الزاهية المتقاربة والمتباينة بكامل قوتها ونقائها لتساير الأسود بكل سيادته والأبيض بكامل نصاعته  هي شغله الشاغل وهو ما يعطي عمله في مراحله الأولى سمة العمل التجريدي وفي المرحلة التالية يترك لعجينة الخلفية المتشكلة مما تبقى من مزيج الألوان مضيفاً الأبيض على سطح الباليت لتتحقق مهمة الكشف عن أشكاله وتكويناته النسائية والانسانية بحضورها الواقعي والغير خاضع لأية تحويرات وليستكمل ما تبقى من أجزاء كاشفا بالخط هما تحمله رؤاه.

تجربة أحمد قليج تجربة امتلكت أدواتها وخطت لها اسلوباً ينتمي للحدث والفكرة وللواقعية التعبيرية وبحس أكثر حرية يجعل من عمله ولوحته أقرب للتجريد المتكامل إن استثنينا تلك الخطوط المحددة للشكل الواقعي بحرفية التي لا تميل باتجاهات التحوير والذي هو (التحوير) الصفة المميزة للفنانين التعبيريين أما تعبيريتة فهو يؤكدها عبر الحركات والتوضعات وعبر فرشات تتحرك بحرية مشحونة بكم من الانفعالات المضبوطة بخبرته اللونية التي تمكنه من السيطرة عليها لينحى معها باتجاه التجريد.

بتعبير آخر أقول تتداخل الواقعيته التعبيرية والانفعالية الحركية للفنان قليج مع رؤى أكثر تجريداً عبر أسلوبية التغطية اللونية للأجساد والشخوص والخلفيات المتناغمة معها وهذا ما يجعلنا نخمن أن خطوات عمله تبدأ بفرش الوانه بتلقائية ومباشرة وليدة الخبرة ثم يشتغل على الخطوط اللاحقة مخلصاً لواقعية الشكل الإنساني وخادما لتعبريته عبر الملامح  الوجوه وتوضعات الجسد  العاكسة لصور الحياة والتجمعات النسائية والانسانية ضمن البئر الفقيرة والمعدمة ووسط الحدث حيث الخراب والدمار وما يخلفه من تعاضد في جانب وانهيار أخلاقي في الجانب الآخر.

وعلى الجانبين أقول هي مخلفات الحرب ضحاياها الفقراء والأبرياء إذ تزيدهم تعاسة وبؤساً في الوقت الذي يتعاظم جشع المسببين لها وتتعاظم ثرواتهم معها.

***

الفينيق حسين صقور

الملوك والموسيقى ومعنى الحياة

بقلم: ماريا بوبوفا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

ولكن ماذا لو لم تكن الصداقة والحب نقطتين متعارضتين يمكن أن ننتقل بينهما، بل إنهما مكانان يتداخلان بدرجات متفاوتة؟ في ظل المثل الرومانسي للحب، أصبحنا نتوقع أن تحتوي كل قصة حب عظيمة في داخلها، بالإضافة إلى العاطفة الجنسية، على صداقة قوية. ولكننا نتمسك بشكوك عميقة في العكس ــ صداقة أفلاطونية ملونة بألوان عاطفية للحب الرومانسي، لا تتخذ شكلاً مادياً أبداً، بل تتوهج دائماً بكثافة خافتة بشكل مصطنع بسبب تسمية الصداقة البسيطة. وربما لا نحتاج إلى تصنيف هذه العوالم العاطفية المتعددة الأشكال بعد كل شيء؛ وربما تكون مقاومة الرغبة في التصنيف والاحتواء هي السبيل الوحيد لتحقيق العدالة لثراء المشاعر والعواطف المتلألئة التي تتمتع بها.

إن الشهادة المشجعة على هذا الاحتمال تأتي من حياة عالمة الأحياء البحرية الرائدة، والمحافظ على البيئة، وعالمة الطبيعة، وصانعة العجائب راشيل كارسون (27 مايو/أيار 1907 - 14 أبريل/نيسان 1964)، التي ساهمت أكثر من أي شخص آخر في إيقاظ الوعي البيئي الحديث ــ كتابها "الربيع الصامت" الذي صدر عام 1962، قبل ثمانية عشر شهراً من إنهاء حياتها، أدى إلى إنشاء يوم الأرض وتأسيس وكالة حماية البيئة الأميركية، وأشعل الحركة البيئية كما نعرفها اليوم..

لكن تحت عقل كارسن اللامع وعاطفتها الحامية للعالم الطبيعي، كان هناك عالم داخلي غني وعاطفي، يحييه نفس الشدة من الحب الذكي والعاطفي.

في أواخر عام 1952، وقبل أن تنتقل كارسون إلى جزيرة ساوثبورت في ولاية مين مع والدتها، كتبت لها ربة منزل محلية تدعى دوروثي فريمان رسالة دافئة ترحب بها في مجتمع الجزيرة المتماسك. (كانت كارسون قد أصبحت كاتبة مشهورة بالفعل — فقد حقق كتابها "البحر حولنا" الذي نُشر في 1951 أرقامًا قياسية بالبقاء على قوائم الكتب الأكثر مبيعًا لمدة ثمانية عشر شهرًا.) وتحولت مراسلاتهما إلى صداقة سريعة أضاءت بلهفة اللقاء الأول بينهما.

في 30 ديسمبر 1953، زارت راشيل منزل عائلة فريمان وأقامت هناك لليلة واحدة. كتبت إلى دوروثي بمجرد عودتها إلى منزلها: "الواقع يمكن أن يقصر بسهولة عن الآمال والتوقعات، خاصة عندما تكون هذه التوقعات مرتفعة". وأضافت: "يا عزيزتي، ليس هناك شيء واحد فيك يمكنني تغييره إذا استطعت!" وأرفقت بالرسالة أبياتا من شعر كييتس:

"شيء من الجمال هو فرح أبدي:

يزداد جماله، ولن يمرّ

إلى العدم؛ بل سيبقى

حديقة هادئة لنا، وسبات

مليء بالأحلام الجميلة."

وأضافت:

أنا متأكدة، يا عزيزتي، أن هذا سيكون فرحًا إلى الأبد، وسيزداد جمالًا مع مرور السنين، وأنه في الفترات التي نبتعد فيها عن بعضنا البعض، لا يمكننا أن نحصل على كل سعادة يوم الأربعاء، ولكن سيكون هناك، في قلب كل منا، واحة صغيرة من السلام و"الأحلام السعيدة" حيث يكون الآخر.

كانت دوروثي متزوجة ومخلصة لزوجها، ولكنها سرعان ما أصبحت محورية في حياة راشيل بشكل غير مسبوق. وعلى الرغم من أن علاقتهما كانت في الغالب عن طريق المراسلات، فإنها نمت لتصبح مليئة بالعاطفة الشديدة وتم التعبير عنها بلغة رومانسية لدرجة أن مصطلح "الصداقة" لا يمكنه احتواؤها. كانت راشيل تخاطب دوروثي بـ "عزيزتي"، وغالبًا "عزيزتي جدًا". كانت العبارة الختامية في رسالة كتبتها في فبراير 1954 — "عزيزتي — دائمًا ودائمًا — أحبكِ كثيرًا" — نموذجًا لعاطفتهما المتبادلة. وفي رسالة أخرى كانت تخطط فيها لزيارتهما الأولى منذ لقائهما الأول، تنفست راشيل قائلة: "لكن، يا عزيزتي، أريد أن أكون معكِ بشدة لدرجة أن الأمر تؤلمني!"

ومع ذلك، لم تكن علاقتهما سرية أبدًا. شاركت دوروثي رسائلهما مع زوجها، والتي ردت عليها راشيل بسعادة صادقة:

كم كان لطيفًا منه أن يقول ما قاله. ربما تكون هذه اللمسة الأخيرة من الكمال في هذه الحكاية بأسرها... يعني لي كثيرًا أن أعلم أنكِ تملكين زوجًا متفهمًا ومحبًا ورائعًا... أريد له أن يعرف ما تعنيين لي.

وعلى مدى السنوات الاثنتي عشرة المتبقية من حياة راشيل كارسون، كان حب دوروثي وتفانيها اليومي هو الذي درء عن العالمة شعورها بالوحدة المؤلم وصراعها مع الاكتئاب، وحفز خيالها الإبداعي والفكري، وغذى روحها الملهمة بينما أعطت شكلاً لبعض أكثر الأفكار تأثيرًا في القرن العشرين في كتاباتها. في أوائل فبراير 1954، عبرت راشيل عن أهمية دور دوروثي في حياتها في رسالة بالغة الجمال، التي وُجدت في كتاب:  دائمًا، راشيل: رسائل راشيل كارسون ودوروثي فريمان، 1952-1964 (مكتبة عامة):

لا أظن أن أحدًا يعرف حقًا كيف يعمل الكاتب المبدع (ربما هو أو هي أقل الناس علمًا بذلك!) أو ما نوع الغذاء الذي يحتاجه روحه. كل ما أنا متأكدة منه هو أنني بحاجة ماسة لأن أعرف أن هناك شخصًا ما مخلصًا لي كإنسان، ولديه القدرة وعمق الفهم ليشارك، بشكل غير مباشر، العبء الثقيل أحيانًا للمجهود الإبداعي، معترفًا بالحزن، والإرهاق الكبير للعقل والجسد، واليأس القاتم الذي قد ينطوي عليه — شخصٌ يقدرني وما أحاول خلقه... القليلون الذين فهموا المشكلة الإبداعية لم يكونوا من الأشخاص الذين شعرت بالقرب العاطفي منهم؛ أولئك الذين أحبوا الجانب غير الكتابي مني لم يفهموا الكاتب أبدًا، بطريقة غريبة! ثم، يا عزيزتي، دخلتِ حياتي! … علمت حين رأيتك لأول مرة أنني أريد أن أراكِ أكثر — أحببتكِ قبل أن تغادري ساوثبورت — ومنذ بداية مراسلاتنا في الخريف الماضي بدأتُ أشعر بتلك القدرة على الانغماس التام في الأجزاء الفكرية والإبداعية من حياتي، بالإضافة إلى كونكِ صديقة محبوبة جدًا. ويومًا بعد يوم، تحقق كل ما شعرت به فيكِ، ولكن بشكل أكثر روعة مما كنت أتخيل...

أشعر بمثل هذه الموجة من البهجة والعجب في كل مرة أتوقف فيها لأفكر كيف في مثل هذا الوقت المظلم وعندما لم أتوقعه على الإطلاق، جاء شيء جميل ومرضي للغاية إلى حياتي.

كانت هذه الرسالة بمثابة إجابة على رسالة أخرى كتبتها دوروثي قبل بضعة أيام، حيث تأملت في علاقتهما وسألت راشيل في دهشة متسامية: "ألا تتعجبين أبدًا من نفسك، عندما تجدين نفسك في مثل هذه التجربة العاطفية الطاغية؟" بعد أسبوع، أعادت راشيل النظر في السؤال وقدمت إجابة أكثر مباشرة:

لقد تساءلت منذ ذلك الحين... ما إذا كنت قد نسيت أن أوضح أنه — بالإضافة إلى كل الإشباع الفكري الذي ربما تطرقت إليه طويلاً — فإنه حقًا بالنسبة لي، كما هو بالنسبة لك، "تجربة عاطفية طاغية." إذا لم أكن قد أوضحت ذلك، أعتقد أنه يمكنني الآن أن أثق في أن قلبك يعرف ذلك. كنت أفكر اليوم، وبأعمق درجات الامتنان التي آمل أن تعرفيها، كم هو رائع حقًا تأكيد اهتمامك الثابت والمستمر بي، ليلاً ونهارًا. بدون ذلك، لا أعرف حقًا ماذا كنت سأفعل الآن، في أيام تبدو أحيانًا مظلمة بلا أفق.

ولعل الجانب الأكثر جمالاً في علاقتهما كان التبادلية العميقة والكرم الهائل الذي أظهرته كل منهما للأخرى. وبنظرة امتنان لعظمة ما تساهم به فريمان في حياتها، تتساءل راشيل عما تساهم به بدورها في حياة دوروثي:

وبما أن أحد الأشياء التي أبهرتني فيك منذ البداية كانت جودة حياتك العائلية الرائعة، فقد كنت أعلم... أن السبب لم يكن نقص الحب. فلا أحد يستطيع أن يكون معك ومع ستان حتى لفترة قصيرة دون أن يدرك مدى تفانيك ولطفك. وأتساءل عما إذا كانت حقيقة أنك عشت، وسكبت الكثير من الحب، قد جعلتك أكثر تقبلاً للتفاني الذي يقدمه هذا الوافد الجديد في حياتك. لقد كتبت بشكل جميل للغاية، قبل أسابيع، عن كيف تنمو قدرة المرء على إعطاء الحب مع ممارسته، لذا ربما كلما تلقينا المزيد من الحب، كلما تمكنا من استيعابه، وبهذا المعنى لا يكتفي أحد منا أبدًا. وأنا أعلم أن حقيقة أننا، إلى حد لا يصدق "أرواح متقاربة"، وأننا لأسباب عديدة نحتاج إلى كل ما نعنيه لبعضنا البعض، ربما تكمن في قلب حبنا. ولكن كلما فكرت في كل ما قاله كل منا، كلما شعرت بأن هناك شيئاً ما ربما سيظل إلى الأبد بعيد المنال وغير ملموس ـ وأن الكل هو شيء أكبر من مجموع "الأسباب" المختلفة. يقول هنري بيستون [أحد مؤلفي كارسون وأبطالها المفضلين، والذي قام مؤخراً بمراجعة كتابها "تحت ريح البحر"] في المراجعة التي أرسلها إليكم اليوم: "الشمس ـ هي دائماً أكثر من مجرد كتلة عملاقة من الأيونات، إنها روعة ولغز، وقوة وإلهية، إنها الحياة ورمز الحياة". لقد كانت تحليلاتنا جميلة ومريحة ومرضية، لكنها ربما لن تكون أبداً كاملة — ولن تشمل أبداً كل "البهاء والغموض".

استمر هذا "البهاء والغموض" في الظهور والتوسع بينهما، ولم يزداد إلا ثراءً بمرور الوقت. بعد عامين، كتبت راشيل إلى دوروثي:

حبيبتي الغالية،

بمناسبة عيد ميلادك، هذه رسالة لأخبرك — كما لو أنك لا تعرف — كم أحبك بعمق ورقة. لقد أصبحتَ تحتل مكانًا في حياتي لا يمكن لأي شخص آخر أن يشغله، ومن الغريب الآن أن أتأمل في كل تلك السنوات الفارغة عندما لم تكن هناك. ولكن ربما لا ينبغي لنا أن نندم على تلك السنوات — ربما بدلاً من ذلك يجب أن نغمر أنفسنا في الدهشة والامتنان لأن صداقة بهذا القدر من الرضا والفرح والجمال قد جاءت إلينا في سنوات العمر المتوسطة — عندما، ربما، كنا في أمس الحاجة إليها!

[…]

حبيبتي، هل تعلمين كم هو رائع أن أمتلكك؟ آمل أن تكون قد علمت ذلك.

أحبك.

راشيل

في ربيع عام 1960، بينما كانت راشيل كارسون تقترب من إنهاء مسودة الفصلين في كتاب الربيع الصامت اللذين يعالجان التأثيرات المسرطنة للمواد الكيميائية، تم تشخيص إصابتها بسرطان الثدي. وبحلول ديسمبر، وعلى الرغم من خضوعها لعملية جراحية، كان السرطان قد انتشر إلى أماكن أخرى من جسدها. ومع ذلك، استمرت في العمل بلا كلل على الكتاب ومشاريع أخرى رغم تدهور حالتها الصحية بشكل متزايد.

في سبتمبر من عام 1963، وبعد وقت قصير من شهادتها أمام لجنة الاستشارات العلمية للرئيس جون ف. كينيدي، والتي كان لها دور محوري في تشكيل أول السياسات التنظيمية للمبيدات، كتبت رسالة مذهلة إلى دوروثي. كانت الرسالة تحتوي على تأمل في وفاتها الخاصة، كان عميقًا، مؤثرًا، مليئًا بالحنان والسمو بحيث لا يمكن أن تُعبر إلا إلى الشخص الذي كان يعرف قلبها أكثر من أي شخص آخر. كتبت:

عزيزتي،

هذه ملاحظة إضافية لما قضيناه من وقت في نيواغين، شيء أعتقد أنني أستطيع كتابته بشكل أفضل مما أستطيع قوله. بالنسبة لي، كان أحد أجمل ساعات الصيف، وستظل كل التفاصيل في ذاكرتي: ذلك السماء الزرقاء في سبتمبر، أصوات الرياح في أشجار التنوب وأمواج البحر على الصخور، النوارس التي كانت مشغولة بالتنقل بحثًا عن الطعام، تهبط برشاقة متأنية، المناظر البعيدة لرأس غريفيث ونقطة تود، اليوم كانت واضحة جدًا كما لو أنها نقشت بوضوح، رغم أنها كانت يومًا ما مرئية جزئيًا وسط الضباب المتلاطم. ولكن أكثر من كل شيء، سأظل أتذكر الفراشات الملكية، ذلك الانسياب البطيء نحو الغرب لجناح صغير بعد الآخر، كل واحدة منها مُسحَرة بقوة غير مرئية.

تحدثنا قليلاً عن هجرتها، وتاريخ حياتها. هل تعود؟ اعتقدنا أنها لا تفعل؛ لأن هذه كانت على الأغلب، على الأقل بالنسبة لمعظمها، الرحلة الأخيرة في حياتها.

لكن خطر لي هذا بعد الظهر، وأنا أتذكر، أن ذلك كان مشهدًا سعيدًا، وأننا لم نشعر بالحزن حين تحدثنا عن حقيقة أنه لن يكون هناك عودة. وكان ذلك صوابًا — لأنه عندما تصل أي كائنات حية إلى نهاية دورة حياتها، نقبل هذه النهاية على أنها طبيعية.

بالنسبة للفراشة الملكية، تقاس تلك الدورة بفترة زمنية معروفة من الأشهر. أما بالنسبة لنا، فالمقياس هو شيء آخر، لا نعرف مداه. ولكن الفكرة واحدة: عندما تنتهي تلك الدورة غير الملموسة، تكون نهاية الحياة شيئًا طبيعيًا وغير محزن.

هذا ما علمتني إياه تلك الومضات الحية المتألقة هذا الصباح. شعرت بسعادة عميقة من ذلك — وآمل أن تشعر أنت أيضًا. شكرًا لك على هذا الصباح.

راشيل

وفي رسالة أخرى كتبتها قبل ثلاثة أشهر من وفاتها ولكن تم تسليمها بعد وفاتها، أعادت النظر في موضوع وفاتها من منظور علاقتها بدوروثي، الهدية العظيمة في حياتها:

عزيزتي،

[...]

عندما أفكر في العديد من كلمات الوداع التي ميزت عقدًا (تقريبًا) من صداقتنا، أدرك أنها كانت غير واضحة تقريبًا. أتذكر بشكل رئيسي تدفق الأفكار التي لم يتم التعبير عنها بالكلمات بطريقة أو بأخرى - الصمت المثقل بالأشياء غير المذكورة. ولكن بعد ذلك، كنا نعلم أو نأمل، أن هناك دائمًا فرصة أخرى - ودائمًا ما تكون هناك رسائل لملء الفجوات.

مع وعي واضح ومتواضع وقريب من الصدمة تجاه قرب وفاتها، تضيف:

لقد عشت حياة غنية، مليئة بالمكافآت والرضا التي لا يحصل عليها الكثيرون، وإذا كان لا بد لها أن تنتهي الآن، فأنا أشعر أنني قد حققت معظم ما كنت أرغب في تحقيقه. لم يكن هذا صحيحًا منذ عامين، عندما أدركت لأول مرة أن وقتي قد أصبح قصيرًا، وأنا ممتنة جدًا لأنني حصلت على هذا الوقت الإضافي.

أسفي، /عزيزتي، هو على حزنكم، وعلى ترك روجر [ابن شقيقة كارسن اليتيم البالغ من العمر إحدى عشرة سنة، الذي تبنته]، حينما كنت أرغب بشدة في رؤيته ينمو إلى رجولة، وعلى العزيز جيفي [قط كارسن] الذي ترتبط حياته بحياتي.

[…]

لكن كفى عن ذلك. ما أريد كتابته هو الفرح والمرح والسعادة التي شاركناها — فهذه هي الأشياء التي أريدك أن تتذكرها — أريد أن أعيش في ذاكرتك كذكرى سعيدة. سأكتب المزيد   عن تلك الأشياء. لكن الليلة أنا متعبة ويجب علي إطفاء الضوء. وفي الوقت نفسه، هناك هذه الكلمة — وحبي سيظل حيًا دائمًا.

راشيل

في رسالتها الأخيرة، التي كُتبت بينما كانت فريمان في طريقها لزيارة راشيل كارسن في سريرها قبل وفاتها، لكن تم تسليمها بعد أسبوعين من وفاة كارسن، كتبت:

عزيزتي،

أنت في طريقك إليَّ صباح الغد، لكن لدي شعور غريب أنني قد لا أكون هنا عندما تصل — لذا هذه مجرد ملاحظة صغيرة إضافية للوداع، في حال حدث ذلك. لقد مررت بالكثير من الألم (القلب) في الأيام القليلة الماضية، وأنا متعبة في كل عظمة من جسدي. وهذه الليلة هناك شيء غريب في رؤيتي، ربما لا يعني شيئًا. ولكن بالطبع فكرت، ماذا لو لم أستطع الكتابة — أو لم أستطع الرؤية للكتابة — غدًا؟ لذا، كلمة قبل أن أطفئ الضوء.

[…]

عزيزتي — إذا أخذني القلب فجأة، فقط اعلم كم سيكون الأمر أسهل لي بهذه الطريقة. لكنني حزينة على ترك أحبائي. أما بالنسبة لي، فلا بأس تمامًا. منذ فترة قصيرة، جلست متأخرة في دراستي وأستمع إلى بيتهوفن، وحققت شعورًا حقيقيًا من السلام وحتى السعادة.

لا تنسَي أبدًا، عزيزتي، كم أحببتك طوال هذه السنوات.

راشيل

(تمت)

***

.........................

كاتبة المقال: ماريا بوبوفا/  Maria Popova (بالبلغارية: Мария Попова؛ من مواليد 28 يوليو 1984) كاتبة مقالات ومؤلفة كتب وشاعرة، وكاتبة تعليقات أدبية وفنية ونقد ثقافي، وجدت قبولًا واسعًا سواء لكتاباتها أو للأسلوب البصري المصاحب لها. في عام 2006، بدأت مدونة Brain Pickings، وهي منشور على الإنترنت ناضلت للحفاظ عليه خاليًا من الإعلانات. المدونة، التي أعيدت تسميتها إلى The Marginalian في عيد ميلادها الخامس عشر في عام 2021، تعرض كتاباتها عن الكتب والفنون والفلسفة والثقافة وغيرها من الموضوعات.

عندما وقع "ميخائيل ستروغوف" أسيرًا لدى التتار، خططوا أن يعموه بالحديد المحمّى. كان رجلًا صلبًا، لكنه حمل في قلبه حبًا دفينًا؛ ولأجل هذا الحب البعيد، سالت دموعه. وكانت تلك الدموع، تحديدًا، هي ما أنقذه من العمى، إذ خففت من حرارة الحديد. مشهد "ديدي هوبرمان" لهذا البكاء البطولي يُعيد تشكيل تصورنا للدموع، فهي لم تكن ضعفًا بل كانت حالة من التحول، قدرةً على التعبير عن ألم إنساني صارخ بعمق لا يقدر عليه سوى أصحاب القلوب القوية. أعادت هذه الصورة للفيلسوف الطفلَ الخائفَ الذي كانه ذات يوم، وجعلت مشاعره تكتسب شرعية مدهشة، حيث يمكن للرجل، على غرار ستروغوف، أن يُظهر عواطفه دون أن يكون ذلك نقصًا في رجولته.

في أعمال "داروين" المصورة للعواطف الإنسانية والحيوانية، يظهر أطفال يبكون، ينوحون. بالنسبة لداروين، كانت العاطفة ظاهرة بدائية موجودة لدى الطيور، والكلاب، والقطط، وأيضًا لدى البشر الأدنى، إما لأنهم ينتمون إلى "أجناس بشرية قليلة الصلة بالأوروبيين" أو لأنهم أطفال أو نساء، حيث تظهر بشكل واضح لدى "المجانين والعجائز". بصيغة أخرى، الإنجليز والبالغون لا يبكون، وهذه الهرمية النفسية والقيمية ليست بعيدة عن بعض أفكار "فرويد"، حيث كان يعتقد أن الوهم العاطفي جزء من مرحلة طفولية في الشخصية، ويتجلى أساسًا لدى النساء، لكنه لا يليق بالذكر البالغ.

إن دعوة "كبح الدموع" شائعة بين من يُطلب منهم إظهار الصلابة، وأداء أدوار تعاكس التعبير العلني عن العاطفة، ومع أن البكاء أصبح مسموحًا به علنًا، حتى في عالم الرياضة، إلا أن بكاء طفل بصوت عالٍ في مكان عام قد يخلق توترًا، حيث يظل بكاؤنا الشخصي محاطًا بأسئلة في دواخلنا، فهو يربكنا حينما يظهر فجأة ويخرج عن سيطرتنا.

الشخص الذي يبكي يكشف عن جوهره للآخرين، مُظهِرًا جزءًا من معاناته الداخلية التي لا يستطيع إخفاءها، ومع ذلك، هناك خطر أن يُعتبر هذا الكشف ضعفًا أو "رثاء ذاتيا" يجلب تعاطف لحضي، حيث يظهر الصراع الأبدي بين (الباثوس)، كحالة من التأثر العاطفي، وبين (اللوغوس)، كحالة من العقلانية. بعد "نيتشه"، بدأت الفلسفة تميل إلى الاعتراف بالعواطف، لكن التناقض بين العاطفة والعقلانية لا يزال قائمًا في الوعي العام، حيث تٌعبر الدموع، والاحمرار، والتعرق عن حركة الروح في الجسد، وهي ليست مجرد أحاسيس وضيعة بل ضرورية لفهم ما يدور في داخلنا ولتحديد اتجاهنا.

في تلك اللحظات التي تسيطر فيها العاطفة، وتنفصل عن وعينا، تبدو الذات كأنها ليست "سيدة بيتها"، لكنها في المقابل تمنحنا الفرصة لأن نُرى ونُفهَم.

فالانتقال من "أنا أبكي" إلى "هو يبكي" يشكل بُعدًا للذات ينقل الألم الشخصي إلى مشهد مرئي يُحسّه الجميع. وفي الطقوس الجنائزية، يتحول الحزن الفردي إلى حزن جماعي، ويكتسب بعدًا أخلاقيًا يوحّد المجتمع.

الدموع تعكس تجسيدًا مزدوجًا للعواطف؛ فهي من جهة، تفريغٌ طبيعي للتوتر والحزن، تنبع من أعماق النفس حين تعجز الكلمات عن التعبير. لكن، من جهة أخرى، تعتبر تجليًا لحالة الوجود الإنساني، فهي تعبير عن الضعف الذي يسكننا جميعًا، وعن الشوق والحنين لأشياء لا تُنال بسهولة. "ديدي-هوبرمان" يرى في الدموع نافذة تفتح على قضايا إنسانية كبرى، حيث تقلب التوازن بين العاطفة والعقلانية، وتجعلنا نواجه ذواتنا بصدق تام. فالدموع، لا تعبر فقط عن انفعال لحظي، بل تمثل فيضًا من الوعي الداخلي وانعكاسًا للصلة العميقة بين الإنسان وذاته، وبين الفرد والمجتمع.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

السينما رافد ثقافي مهم وأجمل ما فيها انها تواكب الأحداث والمتغيرات العالمية على مختلف الصعد وتتناولها في أفلام رائعة، فخلال مسيرتها الطويلة الزاخرة بالمتعة والأبداع لم تكن السينما بمعزل عن الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها الشعوب انما ومنذ بداياتها رصدت السينما مختلف الوقائع التاريخية والظواهر المختلفة من كوارث وحروب وصراعات سياسية وآخرها ظاهرة الارهاب الذي ضرب مساحات واسعة من العالم واشاع الرعب فيه وجعل الشعوب تعيش قلقا حقيقيا نتيجة الخسائر المادية والبشرية التي تسبب بها، وقد تصدت السينما المصرية لهذه الهجمة البربرية وقبل ان تصبح ظاهرة وذلك من خلال افلامها (الارهاب 1989) و(الارهاب والكباب 1992) و(الارهابي 1994) التي تناولت مخاطر الارهاب وتأثيره على استقرار وأمن المجتمعات ثم جاءت السينما العالمية لتنتج كما كبيرا من الافلام عن الارهاب وذلك بعد ان استفحل وبات ظاهرة تهدد مساحات واسعة من العالم ومن بينها فيلم (ليلة سعيدة ألف مرة) انتاج نرويجي 2013 الذي أدت فيه دور البطولة الممثلة الفرنسية " جوليت بينوش"، فبعد حصول هذه النجمة على جائزة الأوسكار عن دورها الثانوي في فيلم (المريض الانكليزي 1997) وترشحها مرة أخرى للأوسكار عن دورها في فيلم (شكولاته 2000) تعود نجمة السينما الفرنسية الممثلة (جولييت بينوش) لتبهرنا من جديد في فيلمها (ليلة سعيدة ألف مرة) انتاج ايرلندي ــ نرويجي 2013 والذي أدت فيه دور "ربيكا" المصورة الحربية لإحدى وكالات الأمم المتحدة حيث تغامر بحياتها وتتواجد في اخطر المناطق عنفا وتطرفا هما كابول وكينيا وذلك من أجل الفوز بلقطات حية وناطقة تقوم بتوثيقها من ميدان العمليات الارهابية.

الفيلم يبدو في الظاهر انه يتناول موضوع الارهاب لكنه في الحقيقة يعكس وجهين من الصراع، وجه ظاهر يوحي بأن الفيلم يستهدف ظاهرة الارهاب وجرائمه وذلك من خلال استهلاله بمشهد توثيق " ربيكا " ــ المصورة الحربية لعملية تفخيخ فتاة انتحارية بالأحزمة الناسفة في مدينة كابول الافغانية ومن ثم انفجار الفتاة داخل سيارة في سوق المدينة وكذلك مشهد آخر يوثّق ما حدث من انتهاكات في مخيم للاجئين في كينيا على حدود السودان على يد جماعة ارهابية اثناء تصويرها لأوضاع اللاجئين هناك، وفي كلتا الحادثتين كادت " ربيكا " تذهب ضحية تهورها ومغامرتها وهو ما تسبب في حدوث ازمة بعلاقتها مع عائلتها ــ زوجها وابنتيها ــ حيث يرفض الزوج طريقة عيشها المليئة بالمخاطر نتيجة لوظيفتها، فزوجها وبناتها يرون أنهم بحاجة إليها وطرح هذه الأزمة هو جزء من رسالة الفيلم التي جاءت لتؤكد على الارهاب وتأثيره على الحياة العامة عند الشعوب المبتلاة بالتطرف وما ينجم عنه من فوضى ورعب وتخريب للبنى التحتية وكذلك انعكاسه على الحياة الخاصة للمتصدين له والمتمثل بتدهور العلاقة بين المصورة وعائلتها. أما الوجه الاخر ــ الباطن ــ للفيلم هو الصراع الذي تعيشه ربيكا بين الطموح والحب، الطموح الذي يتمثل في رغبتها التواجد في اكثر المناطق خطورة طمعا في الشهرة المتحصلة من الفوز بصور حية من ميدان العمليات الارهابية رغم المخاطرة الكبيرة والذي أشارت اليه ابنتها " ستيف " عند الحديث عن عائلتها في اجتماع مدرسي وقالت عن امها (انها تذهب الى اماكن حيث توجد المشاكل، أماكن لا يهتم بها بقية العالم كثيرا)، وبين حب ربيكا للعائلة التي ترفض استمرارها في هذا العمل الذي سبب للعائلة القلق والفوضى وبالتالي القطيعة بين افرادها. يحتدم هذا الصراع تارة ويهدأ تارة اخرى فتدخل (ريبيكا) في صراع وحيرة، حيث أنها تحب أسرتها وكذلك تعشق عملها. ويستمر الترقب والتكهن بأي منهما ستضحي بطموحها أم بحبها؟ وتأتي النهاية الطبيعية التي تلجأ فيها ربيكا الى الخيار الأسلم لها ولعائلتها.

***

ثامر الحاج امين

المسافر: اعددت جدول مباحثاتي مع الأمين العام للجامعة العربية، وركبت رأسي قبل طائرتي وانطلقت الى تونس الخضراء، ولما علم بأنني "كاتب" استقبلني في المطبخ ولكنه بدد في الحال ما اعتبرته إهانة شخصية لي عندما ربت على كتفي وجدول مباحثاتي وقال:

القليبي: لا تبتئس يا بني فأول تعارف بين خروشوف ونيكسون كان في المطبخ وانا اجتمع بك في هذا المكان تقديرا مني ومن الجامعة التي امثلها للدور الكبير الذي يلعبه الأدب والادباء في هذه المرحلة.

المسافر: شكراً يا سيدي.

القليبي: وكان بودي ان استقبلك شخصياً في المطار واعود بك بسيارة الجامعة وتحت اعلامها.

المسافر: كم علماً لها الان يا سيدي؟

 القليبي: لا اعرف لكن منذ الاعلان عن اتفاق شولتز بين لبنان وإسرائيل لم اغادر مكتبي ولم أرى حتى زوجتي واطفالي، بانتظار ردود الفعل العربية عليه.

المسافر: وهل هو خطير الى هذه الدرجة يا سيدي؟

 القليبي: انه بالتأكيد سوف يقلب معظم التحالفات والتوازنات القائمة في المنطقة، فإسرائيل هي إسرائيل لا يمكن ان تعيد شيء اخذته بالقوة دون ثمن يوازيه واكثر.

المسافر: ولكنها اخذت سيناء بالقوة واعادتها بالكامل للشقيقة مصر.

القليبي: واخذت جنوب لبنان بدلا عنه.

المسافر: ولكنها ستعيده حسب نصوص الاتفاق.

القليبي: ما الذي ستأخذه من العرب بدلا منه. انها في اعقاب كل حرب تضع الامة العربية وفي المقدمة منها لبنان في زاوية حادة كمنقار الصقر ليكون شعبها العصافير المطلوبة دوليا وإقليميا فهل نسمح له بذلك؟

المسافر: كلا والف كلا ولكن كيف؟

القليبي: بارتفاع الى مستوى المسؤولية.

المسافر: وهل هذا الاتجاه متوفر الان يا سيدي؟

القليبي: نعم وعندي تأكيدات قاطعة حول هذا الموضوع.

المسافر: ولكن ها قد مضت أسابيع واكثر على توقيع الاتفاق والصمت العربي يكاد يكون مطبقا.

القليبي: بالعكس هذا دليل على استغراق الدول العربية في دراسة الاتفاق وتقويمه من جميع جوانبه قبل تحديد موقفها النهائي منه فالمرحلة خطيرة والمسؤولية اخطر وانا أتوقع ظهور هذه المواقف وردودها الى امانة الجامعة تباعا بين لحظة وأخرى ويبدو ان وجهك خير عايّ وعلى الجامعة العربية وعلى الامة العربية باسرها.

المسافر: وجهي انا لماذا؟

القليبي: الا تسمع لاقطة البرقيات الالكترونية كيف اخذت تصفر؟ ان سيل البرقيات اخذ يتوالى، لا تعبث بها ارجوك انها برقيات تاريخية في ظرف تاريخي.

المسافر: إذاً تفاؤلك كان في محله؟

القليبي: طبعاً فعندي تأكيدات حول ذلك.

المسافر: برقية عاجلة من ثلاث دول عربية دفعة واحدة تعلن رفضها القاطع للاتفاق. عظيم وهذه برقية من ثلاث دول عربية اخرى تعلن موافقتها المبدئية عليه...على كل حال، موقف.

و هذه برقية من اربع دول جديدة تعلن تحفظها مؤقتاً من الاتفاق، ريثما تقوم باتصالاتها مع الدول التي رفضت الاتفاق لتعرف لماذا رفضته ومع الدول المؤيدة له لتعرف لماذا أيدته وذلك حرصاً منها على وحدة الصف العربي.

و هذه برقية جديدة من دولة جديدة تعلن انها ترفض الاتفاق اذا كان يتناقض مع مقررات قمة فاس وذلك حرصاً على وحدة الهدف.

وهذه برقية من دولة أخرى تعلن موافقتها على الاتفاق اذا كان لا يتناقض مع مقررات قمة فاس والرباط حرصاً منها على وحدة المصير.

و هذه برقية ثانية من الدول التي كانت قد رفضت بشكل قاطع تعلن موافقتها المبدئية عليه اذا كان يسمح بعودة مصر الى الحضيرة العربية وذلك لأسباب تتعلق بأمنها القومي.

و هذه برقية من الدول التي كانت قد وافقت عليه بشكل مبدئي تعلن رفضها القاطع له اذا كان غطاء لمشروع ريغان لأسباب تتعلق بسياستها الاستراتيجية.

و هذه برقية من خمس دول أخرى تعلن تحللها من كافة التزاماتها السابقة وانها ستحدد مواقفها الجديدة من الاتفاق بعد تفسير الملاحق المرفقة به لأسباب تتعلق بأمنها السياسي.

و هذه برقية أخرى مستعجلة من الدول التي كانت قد رفضته ثم ايدته تعلن انها لا تستطيع تحديد موقفها النهائي قبل ان تتضح مواقف كافة الأطراف على الساحة اللبنانية لأسباب تتعلق بدورها القومي.

وهذه برقية أخرى من الدول التي كانت قد ايدته ثم رفضته تعلن أيضا انها لا تستطيع تحديد موقفها النهائي من الاتفاق لأسباب تتعلق بدورها الجغرافي.

و هذه برقية من الأغلبية الصامتة بين الدول العربية تعلن انها ما زالت كالعهد بها وفية لالتزاماتها، امينة على مبادئها، ثابته على مواقفها في راب الصدع وتوفير الجهد لتحرير لبنان ورفاهية شعبه وفرض سلطته الشرعية على كامل ترابه ولكنها لا تستطيع بلورة موقفها النهائي من الاتفاق قبل فرز كافة المعطيات التي كانت قائمة على الساحة اللبنانية قبل المفاوضات وبلورتها مع كافة المعطيات التي استجدت على الساحة العربية خلال المفاوضات ومن ثم بلورة الموقف في لبنان من الدول المؤيدة لانتمائه العربي قبل الاتفاق والمعارضة له بعد الاتفاق وذلك لأسباب تتعلق بدوره الفلسطيني والعربي على حد سواء والله الموفق

المسافر: الموفق على ماذا؟

القليبي: على كسب الوقت ريثما تتوضح بعض الأمور.

المسافر: واضحة كعين الشمس فكل هذه العواطف المشبوهة والكلمات المعسولة عربياً ودولياً عن الأدوار التاريخية والحضارية في المنطقة من اجل الغاء دور الثورة الفلسطينية وحجب الأضواء عنها ارضاً وفكراً وشعباً.

القليبي: بل لنصرتها وحماية وحدتها وأهدافها، وعندي تأكيدات قاطعة بذلك.

الو سنترال...اعطني الثورة الفلسطينية.

السنترال :لا صوت لها يا سيدي.

القليبي: ابحث عنها في أي مكان اريد ان اتحدث معها باي وسيلة.

السنترال: مستحيل يا سيدي فمكاتبها في تونس ومعسكراتها في عدن ومقاتلوها في البقاع وصحافتها في قبرص واطفالها في المخيمات وشهدائها في البرادات وشبابها في مراكز الهجرة والجوازات.

القليبي: اعطني المسؤول الفلسطيني الذي تجده.

السنترال: سافر الى كوبا لنصرة الشعوب في أمريكا اللاتينية.

القليبي: الاحداث تتصاعد اعطني وزير الخارجية الكوبي.

السنترال: سافر الى المنطقة لوقف الهجمة اليمينية الشرسة عليها وعلى اليسار العربي.

القليبي: اعطني رئيس اليسار العربي.

السنترال: أي يسار؟

القليبي: اليسار العربي الماركسي.

 السنترال: عرفته، لقد سافر لأداء مناسك العمرة.

القليبي: الاحداث تتشابك اعطني مفتي المنطقة لأعرف ما هي القصة.

السنترال: سافر الى موسكو لحضور الاحتفالات بذكرى ميلاد لينين.

القليبي: بصراحة....لم نعد نفهم ما يجري وما سيجري.

المسافر: وهذا هو المطلوب.

التالية والأخيرة (15)/ يا شارع الضباب

***

عبد الرضا حمد جاسم

...........................

* من كتاب سأخون بلدي لمحمد الماغوط

 

رَنَّ "هاتِفي" بخَبَر، أفضاهُ لي صديقٌ مُقيمُ في باريسَ السَّمَر، وكانَ بسَقيمِ عَيشٍ في بغدادَ قد كَفَر، وبِنَسيمِ ضِفافَ "السِّينَ" قد ظَفَر، والسِّينُ هوَ اسمٌ لذاكَ النَّهَر.

استوطَنَ حّذوَهُ واتَّخذَ مِن برجِ ايفِلَ قِبلَةً لمَقطَنِهِ على مَدِّ البَصَر.

ثمَّ حَثيثاً غادَرَ صدِيقِي حديثاً مِن شَذرٍ مَذَر، وبَادَرَ الى قَولِ الخَبَر؛

- لقد حُزتُ على جِنسِيَّةٍ إفرنجيَّةِ بفَخَر. ويا لهُ من نبأٍ سارٍّ مُنتَظَر، ومُدعاةٍ لابتهاجٍ بصَخَبٍ على جُفُونِ السَّهَر!

- أصِدقاً ما قلتَ مِن خَبرٍ بابتهاجٍ وفَخَر؟ أوَلم ترَ من العَوائِقِ ما فيهِ مُزدَجَر؟

- نعم، وعَلامَ العوَائِقُ والبَوائِقُ والقَهَر، وما مِن مُديرٍ إفرنجيٍّ هَهُنا ذي صَفِيرٍ مُزدَجَر، وما مِن مُوَّظفٍ ذي وجهٍ مُصفَرٍّ مُكفَهَر. بل إنِّي لستُ مَلزمَاً لأكونَ في دائِرةِ الجِنسِيَّةِ لديهم مُّحتَضَر، لإنَّ الأمرَ كلُّهُ سَلسٌ يَسيرٌ مُختَصَر، ويكمنُ برقمِ طابعٍ بثَلاثينَ "يُورو" أرسِلُهُ لهم ببَريدٍ مضمُونٍ مُعتَبَر.

- ويْ! أوَصِدقاً ما تَقولُ، أم هو التَّملُّقُ بِفَخر! أمهاجرٌ يَتَجَنَّسُ دونَ كَبَدٍ بكمَدٍ وقَهر. أحقَّاً الأمرُ لا يستَوجبُ إلّا طابعاً مُرسَلاً ببَريدٍ مضمُونٍ مُعتَبَر. وَيْ، لئن كانَ ذاكَ كذلكَ، فالخَطبُ إذاً يستدعيَ السَّهرَ بسَمَر. ولا تَثريبَ عليكَ يا صاحُ ولا حرجَ من ذا سَهر، ولكَ أن تَجعلَ أمَدَ السَّهرِ شهراً فَشَهراً فوقَهُ شهر، واجعَلِ السَّمَرَ فيهِ حكايَتي وماطوَتْ من قَهَر.

وإنَّ ما سَأرويهِ لكَ هوَ واللهِ حقٌّ، وما كانَ من عَجيبِ الخَبر، ولا من غَريبِ الضَرَر..

كنتُ قد وقفتُ قبل أيامٍ قُدَّامَ دائِرَةَ الجنسيَّةِ في بغدادَ بِأنَفَةٍ وانشِراحٍ وبلا ضَجَر، إمتِثالاً لإمرِ حُكومَتي بِتَحديثِ "الِبِطاقةِ المُوَحَّدَة" المُعتَبَر. وإذ أرشَدنيَ القائمونَ هناكَ الى حَجزِ موعدٍ للمراجعةِ يَمتدٌّ لشَهرٍ مَعهُ شَهَر. وإذِ أبانوا ليَ ألّا حَجزَ دونَ دفَعِ مبلغٍ ماليٍّ (أصُوليٍّ) مُقَدَّراً بِقَدر. فأسرَرتُ القَولَ باستِهجانٍ وبضَجَر؛

إنَّ هذا لأمرٌ وضيعٌ غيرُ مُحتَرمٍ ولا مُعتَبَر!

أمالاً عليَّ دَفعُهُ ثمناً لحَجزِ ميعادٍ مُنتَظَر!

لمَ المَال! علامَ المَال؟ لا أدري لمَ ! بيدَ أنِّي فَرَكتُ بيَديَّ ثمَّ تَرَكتُ الدَّائرةَ بِكَدَر، على أملٍ في عَودٍ اليها مُعتمِراً وملبياً بلبَاسِ إحرامٍ وطَنيٍّ مُبتَدَر، لباسٍ مِن عَلمٍ عراقيٍّ مُحتَضَر، حينَما تَكونُ المَناسِكُ في دائرةِ الجنسيَّةِ قد خَلَت من زحامِ حَجيجٍ مُستَعَر، فأحجُّ بلا عُسرٍ وأُكبِّرُ للعراقِ بِيسرٍ مُستَقَر.

أجل، تَرَكتُ الدَّائرةَ بِحَسرةٍ بل بِكَدَر، فَيَمَّمتُ وجهي شَطرَ "مصرف الرَّشيدِ" بتؤدةٍ ذاتِ بَصَر، لأستَلِمَ راتباً تقاعدياً بعدَما اكتَملَ الشَّهَر، لكنِ المَصرَفُ أمَرَني بدفعِ ٢٥ ألفَ دينارٍ ولعُذرِ الدَّفعِ قد طَمَر، ولمَّا سألتُ ردَّ عليَّ المُوظفُ بردٍّ قانونيٍّ مُختَبَر: "إنَّها أُجورُ المُعتمدِ ليَجلبَ لنا من هَيئةِ التَّقاعدِ صِحَّةَ الصُّدورِ لملفِكَ في ذا شَهَر".

لَعمريَ إنَّ هذا لأمرٌ وضيعٌ غيرُ مُحتَرمٍ ولا مُختَبَر!

أمالاً عليَّ دَفعُهُ ثمناً لصحةِ صُدورٍ مُنتَظَر!

لمَ المَال! علامَ المَال؟ لا أدري لمَ ! بيدَ أنِّي فَرَكتُ بيَديَّ وَدَفعتُ إجلالاً لقَداسةِ المَصرفِ في ذا دَهَر، فهوَ نَبعُ النَّهَرِ في ذا شهرٍ وفي كلٍّ شَهَر.

أنا أبداً، لن أصَرِّحَ بعدَ هذا السَّفَر، لدَائِرتَي الجِنسيَّةِ والمصرفِ بنَكدٍ وبِقَهَر؛

"تبَّاً لكَ يا وَطَن، يا أسَّ كلِّ كَمَدٍ مُعتَصَر" !

كلّا، وحَاشَا لوَطَني، وهوَ لمُقَليَ المَقَر..

فَوَطني حَوى الجَالغيَّ ودجلةَ، واحتَوى كُبَّةَ السَّرايِّ والقشلةَ، وشايَّ الشَّاهبَندَرَ المُقَدَّرَ بقَدَر.

كلّا، لا وَزَرَ، على وَطَنٍ رَوَى النَّجمُ حَرفَ العُنفوانِ المُستَطر، وَرَوى مِن ماءِ فُراتِهِ العاكِفُ والبادي والطَّيرُ والشَّجَر.

وَطَنٌ زَوى شَطَّ العرَبِ، وهوى طُرفَةَ بَصراويٍّ حينَ السَّمَر، ونَفرةَ كرديٍّ "نَه خبر"، وتلكَ نَفرةٌ لا تقبَلُ قسمةً إلّا على نفسِها بقَدَر.

في وَطَني ورُغمَ كلِّ هَمٍّ وغمٍّ وقَهَر، لم تزلِ التَّحيةُ تُلقى مِن على مَدِّ البَصَر، ولم تزلْ فيهِ ضحكةُ خَالتي بلا سَبَب، وعُبُوسُ عَمِّي لأدنى جَلَب، واستدانةُ جاري لدِينَاري بسَبَبٍ وبلا سَبَب.

وطني، وَطَنٌ أصيلٌ جَميلٌ وإن أمسَتِ الخُطى فيهِ كئيبةً وبِحَذَر، وأنا لن أنالَ مِنهُ ولو أضحَيتُ ناراً تلظَّى بسعر. وأمّا جنسيَّتي فلا تَثريبَ ولا ضرارَ ولا ضَرَر، وسأنقَلِبُ في قادمٍ بلباسِ إحرامٍ وَطَنيٍّ لأرميَ حِجاراتٍ على كلِّ مُوَسوِسٍ لي بهجرَةٍ وسَفَر؛

 "لبَّيكِ يا بِطاقةً حمَّالةً للقَهَر"

***

علي الجنابي

 

يجسد الفنان فائق العبودي لقاء ثقافيًا فريدًا بين الشرق والغرب، إذ استطاع، من طريق جذوره العراقية وتجاربه في البيئة الأوروبية، أن يطور هُوِيَّة فنية غنية ومعقدة، وفي هذا السياق، تعكس أعمال العبودي تشابكًا بين التراث العراقي القديم والحداثة الأوروبية، مما جعله قادرًا على استحضار القضايا الإنسانية والثقافية المعاصرة بأسلوبه المميز.

الجذور العراقية: العمق الرمزي والغنى الثقافي

تمثل جذور العبودي العراقية الأساس في رؤيته الفنية، حيث يستند إلى التراث الحضاري والرموز القديمة، والأساطير التي تميز الثقافة العراقية، وقد أثرت هذه الخلفية على أعماله في العناصر التالية:

الرموز الأسطورية والتاريخية: يستوحي العبودي من رموز تاريخية وأساطير عراقية قديمة وغيرها من الأساطير الرافدينية، حيث يستخدم هذه الرموز وسيلة للتعبير عن قضايا معاصرة، مما يعطي أعماله عمقًا إضافيًا ومعاني مترابطة بين الماضي والحاضر.

الألوان والأشكال: تأثرت ألوانه لوحاته بخلفيتها الشرقية، إذ يستخدم الألوان الدافئة، والترابية التي تعكس أجواء الصحراء العراقية والطبيعة المحلية، مع الاحتفاظ بدلالات خاصة للون ترتبط بعواطف، ومفاهيم معقدة.

التعبير عن القضايا الإنسانية: العراق، بماضيه الثقافي الغني وتاريخه المعاصر المملوء بالصراعات، يشكل مصدر إلهام للعبودي في تصوير الأزمات الإنسانية، من ألم وفراق، وحنين.

 يظهر ذلك في الأشكال التي تتخذ طابعًا معبرًا يعبر عن قضايا مرتبطة بالذاكرة الجمعية للعراقيين.609 faeq

البيئة الأوروبية: الأسلوب الحداثي والانفتاح الفني

عند انتقاله إلى أوروبا، وجد العبودي نفسه في بيئة فنية مختلفة تمامًا، قائمة على التجديد والابتكار والانفتاح على مختلف: المدارس، والأساليب، وقد أثرت هذه البيئة على تطور هويته الفنية بطرق متعددة

التجريدية والابتكار الفني: تأثر العبودي بالمدارس الفنية الأوروبية الحديثة، فتبنى الأساليب الرمزية والمفاهيمية التي تتيح له حرية أكبر في التعبير، مما ساعده على تطوير رموزه الفنية بأسلوب حديث يجمع بين الوضوح والغموض، مما يدفع المتلقي للتأمل والتفاعل مع العمل.

التفاعل مع الثقافات المتعددة: منحته البيئة الأوروبية، خاصةً السويسرية، فرصة للتفاعل مع جَمهور متعدد الثقافات، مما أثر على فهمه للفن بصفة وسيلة تواصل عالمية. أصبح العبودي قادرًا على إيصال رسائل تتجاوز الحدود الثقافية، حيث تتواصل رموزه مع المتلقين على مستويات مختلفة تعبر عن المشتركات الإنسانية.

التقنيات والوسائط المتقدمة: بفضل البحث المستمر والتجريب، بدأ العبودي في استكشاف تقنيات جديدة في الرسم تميز بها، مثل الخامات، والمواد المختلفة التي مكنته من تعتيق لوحاته لإعطائها صورة أو روحية الأثر.

هذه التقنيات سمحت له بتطوير تعبيره الفني، مما أضاف أبعادًا مبتكرة إلى رموزه التقليدية.

تأثير التشابك الثقافي في تشكيل الهُوِيَّة الفنية للعبودي

يتجلى التأثير المتبادل بين الجذور العراقية والبيئة الأوروبية بوضوح في أعمال فائق العبودي، حيث استطاع أن يطور: هُوِيَّة فنية فريدة من نوعها تتميز بالخصائص التالية

التنوع الأسلوبي: تميز العبودي بقدرته على الانتقال بين أساليب متعددة، من الواقعية في بدياته الفنية، إلى التجريدية، والرمزية، مع الحفاظ على وحدته الأسلوبية التي تعكس تأثيرًا مزدوجًا بين الشرق والغرب.

التأويل المتعدد للرموز: بسبب تأثير الثقافتين، تحمل أعماله أبعادًا رمزية متعددة قد تختلف في تأويلها بين المتلقين، حيث يرى المتلقي الشرقي في الرموز صلة بالتراث والتاريخ، في حين يجد المتلقي الغربي في هذه الرموز معنى عالمي وإنساني.

التعبير عن الهُوِيَّة والانتماء: يشعر العبودي بانتماء مزدوج لكل من العراق وأوروبا، وهذا الشعور بالانتماء المشترك يتجلى في أعماله كصراع داخلي بين ثقافتين، مما يجعل فنه يعبر عن هُوِيَّة معقدة تجمع بين الحنين إلى الجذور والانفتاح على الجديد.

ساهمت الجذور العراقية والبيئة الأوروبية في تشكيل هُوِيَّة فائق العبودي الفنية في تكامل بين التقليد والابتكار، والأصالة والمعاصرة. ويعد هذا التشابك الثقافي مصدر إلهام لأعماله، حيث يقدم الفن باعتباره لغة مشتركة تجمع بين تجارِب الشعوب وثقافاتها، ويظهر في الوقت ذاته قضايا إنسانية مشتركة.

***

الدكتور صائب غازي: كندا

في المثقف اليوم