أقلام ثقافية

يُصبح الجسدُ استعارةً.. هيذر كريستل تتحدث عن فقدان ضلعها وكتابة مذكراتها

بقلم: هيذر كريستيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لا ينبغي السماح بإخراج ضلعٍ من جسد أي كاتب، فما بالك بشاعرة.  فالاستعارة قوية جدًا لدرجة أنه، بعد الجراحة، ستضطر إلى التعامل ليس فقط مع الآثار الجانبية المعتادة (الإمساك، وجرح صغير في الرئة، وألم يتطلب مسكنًا بقوة "عشرة" على مقياس الوجوه المتألمة المنتشر)، ولكن أيضًا مع صدى باقٍ يهدد بالانفجار في كل جملة تلتها، سواء كانت تنطق بها أو تكتبها.

تصرخ: أخذوا ضلعي!"

تجيبها الصديقة الزائرة في محاولة للمساعدة

"وهل صنعتِ امرأة؟"

تقول الكاتبة، تلك الإلهةَ الخرقاء اليائسة.

"لا "

ثم تضيف:

"لكنني، صنعتُ كتابًا."

***

هل لديك مذكرات بداخلك، لكنك تعانين في إخراجها؟"

يسأل غلاف كتاب تعليمي. أجد هذا مضحكًا للغاية، وكأن المذكرات هي الشيء الذي يصعب عليك شرحه لطبيب المستقيم في غرفة الطوارئ. كما يبدو غير دقيق؛ فالكتب تمر عبر الجسد، وتتشكل بطرق معينة بفعل الجسد، لكنها — من خلال تجربتي — لا تنبثق ببساطة كاملة التشكّل من الداخل.

شعرتُ وكأنها صفقة من حكاية خيالية: أتنازل عن ضلعي، فيسلمني رجل صغير ملتحٍ كتابي، أخيرًا مُذهّبًا.

ومع ذلك! أخذوا ضلعي! في ذلك الوقت، كنت أحاول إنهاء التعديلات على رواية In the Rhododendrons، وهو مذكرات كنت أعمل عليها منذ ست سنوات. بدا الأمر كصفقة من قصة خيالية: أتخلى عن ضلعي، فيعطيني رجل ذو لحية كتابي، وقد أصبح ذهبيًا أخيرًا. في الثاني من أبريل 2024، استيقظت لأجد يدي اليمنى وذراعي ثقيلتين ومتورمتين، بلون غير جذاب بين الرمادي والأرجواني الداكن. بدا أن هذا أمر سيء، لذا ذهبت إلى غرفة الطوارئ، حيث أخبروني أنني مصابة بتجلط دموي في الوريد العميق بالقرب من عظمة الترقوة، بالإضافة إلى وجود انسداد رئوي صغير. السبب كان متلازمة باجيت-شروتر، وهي حالة نادرة يتطور فيها الضلع العلوي وعظمة الترقوة والعضلة بطريقة (غالبًا نتيجة للتمارين الرياضية المرهقة المتكررة) بحيث يتم سحق أحد الأوردة الرئيسية التي تمر عبر المنطقة تدريجيًا إلى درجة أن الدم لا يستطيع التحرك بشكل طبيعي، بل يتجمع في كتل من المادة الحمراء اللزجة.

قال لي الجراح بعد أن نقلوني إلى غرفة المستشفى استعدادًا للعلاج العاجل: "توجد هذه الحالة غالبًا في الرياضيين الشبان شديدي اللياقة البدنية"، فشعرت أنني أستحق درجة A للتمارين المكثفة التي كنت أقوم بها تقريبًا يوميًا لمدة أربع سنوات. في وقت لاحق، في غرفة العمليات، أثنت ممرضة على عضلاتي، فوضعت نجمًا ذهبيًا آخر على مخططاتي الداخلية قبل أن أفقد الوعي. غروري ليس له علاج معروف.

خلال فترة الاستشفاء الأولى تلك، كان التركيز منصبًا ببساطة على إزالة الجلطة، وهي عملية من جزأين، قضيت بينهما الليل في وحدة العناية المركزة، في ألم لا يُحتمل وبركة من البول تخصني. وقد نتج هذا الأخير عن رفض ممرّض الليل تصديق أن الجهاز ذي الاسم المروّع "بيوروِك" لم يكن يعمل بشكل صحيح، إضافة إلى رفضه طلبي البسيط بأن يتفحّص، كما تعلم، أغطية السرير.

أما السبب وراء الألم فكان رفضه مساعدتي على إمالة جسدي المجمَّد قليلًا إلى الجانب، إذ قال إن ذلك قد يؤدي إلى طعن الأعضاء الداخلية بالقُسطرة المثبتة في أعلى فخذي. ولم يكن بإمكانه إعطائي مسكنًا للألم، خوفًا من أن يتداخل مع المواد المختلفة التي كانت تسري بالفعل في عروقي وتدفع أرقامي—وكان لديّ الكثير من الأرقام—إلى مناطق الطوارئ.

قلت:

"أرجوك"

لكنه لم يسمعني ومضى مبتعدًا. بكيت. بلغ وجهي الدرجة القصوى من الألم.

وكأن الكلمات كانت سُلّمًا يمكنني التشبث به بدل السقوط في الهوّة المحيطة بي، بدأت أردد القصائد لنفسي، وحين نفدت، لم يتبقَّ لي سوى ترديد ترنيمة بسيطة: "أنا شاعرة، أنا إنسانة، أنا شاعرة، أنا إنسانة"، وأنا أشعر بوحدة تامة، وكأنني منبوذة، مستبعدة من كل تعاطف بشري.

لم يكن هناك شيء سوى الظلام ونقاط وامضة. حمراء، صفراء، خضراء.

وفي الصباح، حين أعادت الشمس الألوان الأخرى إلى الغرفة، أبدت الممرّضات الجديدات امتعاضهن وهن يغيّرن فراشي وأدويتي.

قلن لي:

"عليكِ أن تُخبِرينا بهذه الأمور! نريد أن نتجنب الألم"

لم تُجرَ العملية التالية، وهي إزالة الضلع المسبّب للمشاكل، إلا بعد مرور شهر آخر. بعد ذلك، أراني الجرّاح صورةً له. بدا وكأنه ضلع احتياطي، وهو كذلك بالفعل، إذا أخذنا كل الأمور بعين الاعتبار.

في اليوم السابق لذهابي إلى غرفة الطوارئ، كنتُ قد أرسلتُ مسودة المخطوطة إلى والدتي عبر البريد، لأنني كنت بحاجة إلى أن تتحقّق من الحقائق الأساسية في السرد، ولأنني كنتُ أعلم أنها ستجد قراءة الصفحات أمراً صعباً. كنتُ أرغب في تمهيد أكثر الطرق لطفاً نحو نشر الكتاب. ثم عدتُ إلى المنزل ومارستُ التمارين باستخدام أوزان جديدة أثقل من المعتاد، في محاولةٍ لإبعاد ذهني عن كل شيء.

عندما بدأتُ العمل على رواية " بين نباتات الرودودندرون"  كنتُ أتصوّر أنه سيدور حول موضوع حدائق كيو، تلك المساحة النباتية الواسعة التي كانت والدتي تلعب فيها في طفولتها، على مقربةٍ من منزلها في الجانب الغربي من ضواحي لندن. كنتُ أعرف كيف أُنشئ مثل هذا البناء؛ فقد سبق أن فعلتُ ذلك في كتاب البكاء. من تلك النقطة المركزية في كيو، كنتُ أظنّ أنّني سأجد محاور تشعّ منها — تواريخ شخصية وعامة، معلومات علمية واقتصادية وثقافية، مع اهتمام مستمر بحياة وأعمال فرجينيا وولف، التي كانت قد أقامت في الجوار ذات يوم.

أحدُ المحاور المشعّة في سجلّ تاريخي الشخصي يتضمّن ليلة لا أتذكّرها تمامًا، كنتُ فيها فتاة في الرابعة عشرة من العمر، ثملة، دخلتُ مع رجل إلى زقاق خلف نادٍ ليليّ في لندن، وخرجتُ ودمٌ على ملابسي الداخليّة. لم يكن ذلك أمرًا تافهًا، لكنه أيضًا لم يبدُ وكأنه في صميم الكتاب.

شهرًا بعد شهر، كنت أضيف دائرةً تلو الأخرى: بيت النخيل الضخم في حدائق كيو، وكيف كان زجاجه في السابق أخضر اللون، والطريقة التي وصفت بها وولف بريقه، "كما لو أن سوقًا كاملًا من المظلات الخضراء اللامعة قد فُتح تحت الشمس"، ثم أوجه الشبه المعمارية بينه وبين قصر الكريستال، وكيف أن أول مشاة بريطانية قُتلت بسيارة كانت على مضمار السباق قرب قصر الكريستال، وكيف أنها — قبل أن تصدمها السيارة — رفعت مظلتها وكأنها قد تحميها.

كان هذا مجرد خط واحد من خطوط الاستقصاء. وقد تورّمت المسوّدة لتتجاوز 120 ألف كلمة، قرأتها وكيلتي الأدبية — ببطولة — ثم اقترحت بلطف أن أبدأ بتقليصها. هناك سطر من قصيدة لتوني توست غالبًا ما أفكر فيه: "لا أعرف كيف أتحدث عن والدي البيولوجي، لذا سأصف البحيرة."كانت لديّ بحيرات كثيرة. وبدأتُ عملية تجفيفها.

من المنطقي أن يصبح إتمام تأليف كتاب صعب مرتبطًا مجازيًا بمغامراتي الطبية المتزامنة.

في أول حديث لي مع المحررة، سألتني عمّا أظن أن الكتاب يدور حوله، في جوهره، فلجأت إلى كذبة مريحة: قلت إن الكتاب—مع بعض الانحرافات العرضية—يدور حول ثلاث نساء: أمي، وفرجينيا وولف، وأنا. ثم رأيت، لخيبة أملي، أن هذا كان صحيحًا، مما عنى أنني لن أكتفي فقط بمواصلة هذا الاستنزاف، بل سيتوجب علي أيضًا أن أنظر مباشرة في أحداث من حياتي كنت، حتى تلك اللحظة، أُبقيها تحت الماء. وما هو أصعب من ذلك، كان علي أن أرى الروابط بينها.

تنقلت بين دفاتر يومياتي القديمة، ورسائل، وأحاديث مع العائلة، وغالبًا كنت أتمنى لو أنني أجد معانيَ مغايرة لما هو موجود فعلًا، لكن ما إن تعلّمت ما تعلّمته، حتى بات الكتاب يطلب حضور هذا الفهم الجديد. لا يمكنك أن تنسى ما عرفت، لكن يمكنك أن تصوغه في كلمات تُرضيك، تصنع كُلاً حيث لم يكن هناك شيء.

حين وضعت المخطوطة في ظرف لأرسلها إلى أمي، ارتجفت يداي. كنت قد بذلت كل ما في وسعي لأكون عادلة، ولأفهم تجربتها هي أيضًا، لكن كما يذكّرني الناس دائمًا، مقتبسين داني ألتمان: "لا أحد يقول بحماسة: يا للفرحة! هناك كاتبة مذكرات في العائلة!"

هل كان التوتر الناتج عن تخيّل أمي تقرأ كتابي هو ما جعلني أرفع أوزانًا أثقل من المعتاد في تلك الليلة، وأتمرن حتى أسحق أفكاري؟ هل كان فعل كتابة الكتاب، مثل إزالة الضلع، نوعًا من التحرّر؟

حين أكون في خضم الكتابة، يصبح العالم بأسره قائمًا على علاقات محتملة. ولكي أقول الحقيقة، فإن هذا الأمر يكون مثيرًا في العادة، حتى عند التعامل مع مواضيع صعبة. الصور تتكاثر، ولا شيء يخلو من معانٍ متعددة. "كل شيء"، كما كانت وولف تمزح مع شاعر أحبّته، "كان في الحقيقة شيئًا آخر." لذا يبدو منطقيًا أن يكون فعل إتمام كتابٍ مُتطلب قد ارتبط مجازيًا بمغامراتي الطبية المتزامنة.

ومن داخل هذه الحالة المتشابكة، صرت أطرح على نفسي سؤالًا: ماذا كنت سأفعل لو اضطررت للاختيار بين وجود الكتاب واحتفاظي بضُلعي، وبالتالي تجنبي لشهور من العمليات الجراحية المتعددة وتعافيّ المعقّد والمضني؟ وكنت أختار الكتاب في كل مرة. وهذا جيد. فهذا يعني أنني أؤمن بهذا العمل، رغم قلقي المعتاد (وولفيّ الطابع) من ظهوره الوشيك إلى العالم.

لكن هذا لم يحدث. لم يكن هناك رجل صغير يحدّق في ضلعي وهو يحمل كتابًا ذهبيًا في يده. (ماذا عساه كان سيفعل به؟) التجويف الصغير الذي يقع الآن تحت ترقوتي لا يشبه بأي حال شكل صفحاتي.

صحيح أنني أستطيع أن أرسم روابط (مثل التمرين الذي ذكرتُه، أو عادتي في العمل منحنية لساعات فوق اللابتوب على أرضية الخزانة، بوضعيّة فأر شديد التركيز ومدرّب جيدًا)، لكن ثمة الكثير من العوامل الأخرى التي سيتعين عليّ استبعادها كي أجعل هذا المعنى المبسّط ينجح.

ولذا أواصل إرغام نفسي على الاعتراف بأنه لم يكن هناك تبادل، ولا صفقة، ولا حكاية خرافية. ها هو الكتاب، وها هو ضلعي. أحدهما حكاية، والآخر حياتي. أحدهما فن، والآخر جسدي. وأنا أعرف الفرق. فقط، وللأفضل أو للأسوأ، في المرض كما في الصحة—أنا أعيش في كليهما.

***

.....................

الكاتبة: هيذر كريستل / Heather Christle مؤلفة المجموعات الشعرية: "المزرعة الصعبة"، و"الأشجار"، الحائزة على جائزة "بيليفر" للشعر، و"المدهش"، و"غروب الشمس". نُشرت قصائدها في مجلة "نيويوركر"، ومجلة "لندن ريفيو أوف بوكس"، ومجلة "بويتري"، والعديد من المجلات الأخرى. تُدرّس الكتابة الإبداعية في جامعة إيموري بأتلانتا. "الكتاب الباكي" هو أول كتاب لها في مجال الكتابة غير الروائية. مؤلفة كتاب "Between the Rhododendrons" تتأمل في المرض، وفيرجينيا وولف، وصفقةٌ من حكاية خيالية

 

في المثقف اليوم