أقلام ثقافية
مزهر جبر لساعدي: قراءة في رواية احدب نوتردام.. سرديات التنوير
في البداية وقبل كل شيء؛ لست انا بناقد وليس في نيتي ان اكونه، إنما حين اقرأ عمل ما واجد من ان هذا العمال يستحق تقديم قراءة له؛ اكتب قراءة له. رواية احدب نوتر داب كنت قد قرأته في بداية السبعينيات من القرن الماضي؛ من ثم اعدتُ قرأتها قبل ايام. في هذه القراءة وجدت فيها الكثير من العلامات والدلالات، كما الكثير من الاسئلة عن حقبة ظلام وظلم القرون الوسطى التي كانت فيها اوروبا تحت هيمنة وظلام وظلم الكنيسة؛ خلال ما يقارب العشرة قرون الى نهاية القرن الخامس عشر، وبداية القرن السادس عشر. انها اي هذه الرواية قد قالت الكثير عن بدايات انهيار قرون الظلم والظلام. من رحم هذا الظلم وهذه العتمة؛ بدأ عصر النور والانوار الذي شكل اللبنة التي منها من وبينها ومن وسطها؛ انفجر في فرنسا وفي عموم اوروبا عصر النهضة. رواية احدب نتوردام تصور بصورة مؤلمة وواضحة في آن واحد؛ الحياة في باريس في نهاية القرن الخامس عشر؛ وكيف يجري تماما استخدام او استثمار الدين من خلال تحكم الكنيسة في كل ما يجري على الارض من حياة الناس الى الاحكام التي تطال الناس وتسلب منهم حياتهم وحريتهم وكرامتهم وانسانيتهم. فقد استخدمت الكنيسة محاكم التفتيش في كل من يقف بالضد منها، او يحاول ان يفند اراءها سواء في السياسية او في الدين او في كل ماله علاقة بحياة الناس. رواية احدب نتوردام تعكس بصورة جلية؛ واقع الحياة في تلك العصور، عصور القرون الوسطى، وفي نهاية اخر قرن من القرون الوسطى المظلمة في اوروبا، وبداية عصر النهضة والاستكشاف والتنوير. كما انها ترجمت ما يمور في المجتمع الباريسي وبالتالي في كل المجتمع الفرنسي، بل الاوروبي وبالذات في غرب اوروبا وفي وسطها؛ من حركات مضادة لكل طروحات الكنيسة في تلك الفترة اي في اواخر القرن الخامس عشر. انها حقا ملحمة انسانية مؤلمة وموجعة في ان واحد؛ فقد كانت الكنيسة لا تتحكم بالمجتمع فقط، بل انها تتحكم ايضا بالقصر الرئاسي في فرساي، اي ان الحكم في القصر الرئاسي يستمد شرعيته؛ من موافقة الكنيسة وليس من الشعب. في ظل هذه الاجواء والظروف سواء ما كان منها سياسيا او دينيا، او اي ملمح اخر من ملامح الحياة كل الحياة؛ تخضع كليا لإرادة الكنيسة، ومحاكم التفتيش، محاكم تفتيش القرون الوسطى. كانت هناك حركة مضادة لها، لها فعلها في المجتمع الفرنسي. في وقت كان هناك على الجانب الثاني في باريس؛ مجتمع الظل او مجتمع المهمشين الذين يرزحون تحت ظل الفقر والعوز والحرمان وانتشار بيوت الدعارة؛ في احياء كاملة في الضواحي. الغجرية الراقصة والمغنية والتي تتقن فن الغناء والرقص بطريقة مذهلة كما انها تتمتع بجمال اخاذ؛ كانت قد خرجت من مجتمع الدعارة هذا بطريقة مؤلمة جدا. والدتها كانت تعرض نفسها او جسدها للبيع في اسواق بيع الجسد في تلك النواحي المهملة جدا، والتي ترزح تحت فقر مدقع. فقد حملت وهي لا تعرف من والد الطفلة التي سوف تولد لاحقا، والتي حين وضعتها كانت على قدر كبير جدا من الجمال. الوالدة تعلقت بها كثيرا حتى صارت لا تفارقها ابدا. في احد المرات من سوء الصدفة؛ كانت لشغل ما غادرت البيت لبعض الوقت. حين عادت لم تكن الطفلة في مكانها، بل كان هناك شبح مخيف جدا، فلا هو بإنسان ولا هو بحيوان هو في مكان بين الاثنين، بين الانسان والحيوان. وجه قبيح جدا، وحدبة في الظهر. في قارعة الطريق او في مكان على قارعة الطريق؛ وضعته هناك، مع اطفال اخرين في ساحة اعدتها الكنسية مسبقا لهذا الغرض، اي لعرض هؤلاء الاطفال او هؤلاء الرضع؛ لمن يريد من الناس ان يتبنى اي منهم. ظل الطفل الشبح او الطفل المخيف والمرعب جدا، ظل هو الوحيد الذي لم يتبناه اي احد. لكن في النهاية تبناه راهب عرف في المجتمع بالتقوى والاحسان. تتركز هنا بؤرة الرواية في الاحدب والراقصة والراهب والذي هو واحد من اعضاء محاكم التفتيش. تحمل الرواية مع انها رواية كلاسيكية؛ الكثير من الرموز والدلالات التي اراد الروائي بها او من خلال شخوصها الرئيسية؛ ان يقول رؤيته وأراءه في تلك المرحلة التاريخية المهمة والتي لاحقا هي من رسمت الحياة المستقبلية في فرنسا بل في كل اوروبا؛ بعد تخلص فرنسا من نفوذ وهيمنة الكنيسة، وانتهاء تحكمها في المجتمع والحكم والسياسة والناس. الراقصة الغجرية والتي هي ليست غجرية بل انها ابنة شابة فقيرة في احياء بيع الجسد، لكنها عاشت في احضان الغجر الى ان شب طوقها. حين كانت طفلة؛ قام الغجر بسرقتها ووضعوا مكانها، الطفل الرضيع الاحدب. كانت تعيش من عروضها في الغناء والرقص في الساحات. في احد المرات كان هناك عرض موسيقي غنائي؛ في مسرحية غنائية؛ لمخرج وموسيقي وشاعر وكاتب في وقت واحد؛ في بداية مشواره في التأليف والانتاج المسرحي؛ حين قام بعرض مسرحيته في الساحة التي تم اعددها لهذا الغرض؛ جاءت هي الغجرية وقامت بعرضها الغنائي مما ادى الى ان ينصرف الجمهور عنه إليها. لكنه في ذات الوقت كان قد تعلق بحبها، وتزوجها زواجا دراماتيكيا. كيف حدث هذا الزواج؛ هذه هي بؤرة الرواية؛ بشخوصها الرئيسية؛ الراقصة والاحدب والراهب.. الزمن الروائي للرواية حيث؛ تدور احداثها في هذه المرحلة التي سبقت عصر النهضة الاوروبية والتنوير؛ والتي فيها اختمرت كل عناصر الانفجار الذي لاحقا كانت هذه العناصر؛ هي الاسس الذي تم البناء عليها؛ في بداية التخلص تماما من نفوذ وسيطرة الكنيسة.. تخرج الراقصة الغجرية في ظلام الليل وحيدة تماما في دروب ضيقة ليس فيها اي حركة لبشر في ساعة متأخرة من ليل غاطس كاملا في الدمس. تتفاجيء بشلة من لصوص الليل يقودهم شبح مخيف كأنه حيوان خرج من غابة كثة؛ يجندلها الشبح حتى انها لم تتمكن من الصراخ. في هذه اللحظة ومن حيث لا تتوقع؛ يخرج من اعماق الظلام فارس شاب من سلاح الفرسان الملكي؛ ينقذها من عصابة اللصوص وقطاع الطرق. تقع في حبه بسرعة ومن دون ادنى تفكير، كما هو الأخر كان قد وقع في حبها على الرغم من ان له خطيبه من طبقته. في التوازي الزمني والمكاني تقوم العصابة بزعامة وحش الليل؛ باختطاف المخرج والكاتب والذي هو الأخر كان قد وقع في حبها؛ كما انه كان هو السبب في انقاذها حين ارشد وبسرعة الفارس الشاب الى ان هناك على مقربة قريبة جدا؛ ثمة اختطاف للراقصة الغجرية. لكن الذي حدث لاحقا حين انصرف الفارس الشاب؛ قامت العصابة بقيادة وحش الليل بتنظيم جلسة محاكمة للمخرج والكاتب؛ ووضعوه امام خيار وحيد؛ وهو ان تقبل به الراقصة الغجرية كزوج لها وان لم تقبل فان مصيره الموت. جيء بها، بعد ان تركها الفارس وحيدة في الليل، ظانا من انها قد نجت منهم؛ الى دهليز المحكمة التي هي من صناعة الراهب من دون ان يظهر هو في الصورة، إنما سياق السرد قدم لنا هذه الصورة وبوضوح بالكلمات؛ وقاموا بتوجيه السؤال لها؛ هل تقبل بالكاتب زوجا لها؛ المفاجأة كانت هي قولها نعم اقبل به. ان كل هذا الذي حدث هو بتخطيط من الراهب والذي هو احد اعضاء محكمة التفتيش. فقد وقع هو الأخر في حبها. الرهب الذي كان قبل سنوات قد تبنى الطفل الشبح او الذي هو في مكان بين الانسان والحيوان حتى سيطر عليه سيطرة تامة، اذ اوكل عليه دق نواقص الكنيسة عندما يحين وقت الصلاة. الاحدب الشبح المخيف والذي يشبه الحيوان اكثر مما يشبه الانسان؛ كان يتمتع بقوة خارقة جدا. اراد الراهب الحصول عليها باي ثمن، فقد كان قد احبها بطريقة جنونية. من بين تلك الوسائل هو اختطافها من قبل الوحش المطيع له مع عصابة اللصوص. لكن هذه الوسيلة قد فشلت تماما. فما كان منه الا ان قام بتحريض العناصر التي تتبع محكمة التفتيش والتي هي الأخرى تابعة الى الكنيسة. فقد اتهمت بالهرطة والتدليس. ليتم سجنها، لكنها تمكنت من الهروب قبل ان يتم تقديمها الى المحكمة ومن ثم حتما الى المقصلة. كان السبب في تهريبها هو الراهب الذي طلب منها ان تكون له هو وحده مقابل ذلك ان يخلصها من المحكمة كليا. لكنها رفضته بإصرار وقالت له انها تحب الفارس الشاب الذي انقذها. في هذا الوقت او في كل السنوات التي مضت كانت الام حبيسة في غرفة مغلقة؛ بحجة من انها مجنونه؛ لا ترى العالم الا من كوة صغيرة في الجدار. لكنها لم تأييس ابدا من انها ذات يوم لسوف ترى ابنتها. قصة الغجرية ما كان لها الا ان تنتشر في الاحياء الفقيرة، والتي اعتبرت او انهم اعتبروها واحدة منهم، وعلهم ان يهبوا لإنقاذها. لتفجر غضب الجماهير المهمشة من اتون محاكم التفتيش. هنا يتجلى تماما علاقة الكنيسة مع القصر الرئاسي في فرساي، إنما الامبراطور او الملك الفرنسي، لويس الحادي عشر؛ كان حينها في زيارة الى باريس. عندما علم بالغضب الجماهيري وبثورة هؤلاء الناس من الكادحين والعمال وما هو يقع في خانتهم او في تصنيفهم. حتى كادت هذه الجماهير ان تسيطر على باريس. قال لمن ابلغه هذه الاخبار؛ وهو ايدها كليا ظنا من انها كانت ضد قاضي باريس الذي يكن له كرها شديدا، وليس ضد الكنيسة؛ ومباركا لثورة المظلومين ومشجعا عليها. لكن حين علم من انها كانت ضد الكنيسة؛ امر الدرك وسلاح الفرسان بالتصدي لهذا التمرد وقبره قبل ان ينتشر الى بقاع اخرى من فرنسا. هنا يصبح لنا الامر واضحا كل الوضوح وهو علاقة القصر الرئاسي بالكنيسة؛ علاقة تخادمية ومنافع متبادلة بين الاثنين الكنيسة ومحكمة التفتيش(القاضي يشرف على ادارة باريس وليس له علاقة بمحكمة التفتيش) والقصر الرئاسي. حين يسجن ويعذب الوحش او الغول الوحشي الذي شكل ويشكل الخادم المطيع للراهب؛ للجريمة التي قام بها باختطاف او محاولة اختطاف الراقصة الغجرية، وبأمر من الفارس الشاب من سلاح فرنسان القصر الملكي، وقبل اتهام الراقصة بالتدليس والهرطة والتي كان وراء هذا الاتهام هو الراهب؛ عندما مرت بالقرب منه وهو يُعذَب قامت بسقيه بالماء واطعامه بما كان عندها منه حينها. في اثناء مطاردة الراقصة الغجرية من قبل سلاح الفرنسان، وهو يحاول اخماد ثورة الجياع والعمال والمهملين من الناس، وبعد تحرير الغول او الوحش المطيع للراهب، قام هذا الوحش بإخفائها في الكنيسة كي لا يصل إليها سلاح الفرنسان؛ لأن لكنيسة من الاماكن المحرمة الوصول إليها واعتقال من يلوذ بها طلبا للنجاة. هنا يتمكن الراهب من الوصول إليها على الرغم من تحفظ الوحش عليها واخفاء سرها عن الراهب، ويساومها بالقبول به مقابل ان يخلصها من سلاح الفرنسان وايضا من محكمة التفتيش. لكنها ترفض رفضا قاطعا. من كوة في جدار الكنيسة تبصر الفارس الشاب من سلاح الفرنسان فتنادي عليه بأعلى صوتها. في النهاية يتم اخراجها من مخبئها بحيلة شارك فيها الراهب. تم بعدها سوقها الى المقصلة. قبل ان تصعد إليها ابصرت امها؛ التي خرجت من محبسها حين عملت من ان الراقصة هي ابنتها التي كانت قبل سنوات خلت قد فقدتها. تعرفت عليها من القلادة التي حملتها الراقصة الغجرية خلال سنوات. قدمها لها الوحش وهي في سجنها، واعلمها بكل ما جرى ولسوف يجري لأبنتها. امام المقصلة يجتمع الراهب والحدب والام والراقصة التي تدفع من قبل الجلاد الذي يأتمر بأمر الراهب؛ كي تصعد سريعا الى المقصلة. تنادي امها. تحضنها امها في اخر مرة لها في الحياة؛ اذا تفارق الحياة وهي تحضن ابنتها. يقطع رأس الراقصة الغجرية. لتسدل الستار على حياتها الى حين.. الراهب يقذف به الاحدب من على برج الكنيسة حين اراد ان يتسلل الى الغرفة التي تضم الراقصة؛ قبل اعتقالها من قبل سلاح الفرنسان الملكي؛ ليموت ممزقا، كما ان الوحش الاحدب يموت هو الأخر عند ارض المقصلة، موتا طبيعيا هو اشبه بالانتحار وليس الانتحار تجسيدا. ان الرمز والدلالات والعلامات التي قالتها الرواية عبر شخوصها الرئيسة؛ الراهب الذي يمثل تماما فساد الكنيسة وسيطرة رجال الدين فيها على مقاليد والاوضاع والظروف واحوال وحياة الناس؛ بإدانته التي جاءت له، من الكنيسة ذاتها نزولا عند رغبة الناس وخوفا من غضبهم لاحقا؛ يمثل بداية تراجع دور الكنيسة في حياة الناس وفي سياسة الدولة، في المستقبل القريب؛ وهذا هو ما حدث بعد سنوات اي في بداية القرن السادس عشر او اخر سنوات القرن الخامس عشر. الاحدب الوحش على الرغم من اطاعته للراهب، لكنه في نهاية الامر كان قد تمرد عليه واصطف الى جانب الراقصة، والى جانب ثورة الكادحين من ابناء الشعب الذي كان يئن تحت وطأة الظلام والظلم والجهل. الاحدب على الرغم من قبحه الا انه في الداخل منه؛ فيه الكثير من الرقة والعطف والانسانية. حين اكتشف حجم الظلم والقسوة التي كان يمارسها الراهب والذي يمثل كل من الكنيسة ومحاكم التفتيش؛ انحاز الى جانب الراقصة والى جانب ثورة الجياع والمظلومين الذي اتخذوا من مطاردة سلاح الفرنسان للراقصة سببا لهم للثورة. ان رواية احدب نتوردام؛ زمنها الروائي هو نهاية القرن الخامس عشر؛ الذي شكل نهاية قرون من ظلام القرون الوسطى في فرنسا واوروبا. لقد تلت بعد سنوات من زمن هذه الرواية التي كتبت من قبل شاعر وروائي فرنسي، فكتور هوجو؛ انها كانت في سرديتها تحمل نبوءة بداية عصر الانوار والتنوير وانتهاء عصر الظلام. فقد تلت سنوات هذه الرواية؛ ثورات فرنسية عديدة؛ استمرت لقرنين حتى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقبلها، في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر؛ الذي حدثت فيهما على التوالي؛ كمونة باريس الثانية والاولى. الكلمة الحرة هي من تسلط الاضواء الساطعة على الظلام والعتمة؛ لتعري وتكشف؛ رجالهما وادواتهما.. رواية احدب نتوردام من اصدار المركز الثقافي العربي في المغرب؛ تقع الرواية في 411صفحة من القطع المتوسط. ملاحظة ضرورة القول بها في هذه السطور المتواضعة: ان البعض من الاعمال سواء في الرواية او في الشعر او في اي جنس أخر؛ تظل صالحة ومفيدة للقراءة ومن ثم في الاستفادة منها في التحليل والاستنتاج للواقع المعيش في الاطار العام وليس في التطابق الكلي؛ لعدة عقود وحتى لعدة قرون..
***
مزهر جبر الساعدي