أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: المبدع الروائي النموذج

تحوّل منذ سنوات بعيدة إلى كاتب روائي يُشار إليه بالبنان، ويصلح أن يكون نموذجًا يمضي آخرون في أثره وعلى خطاه، فقد خلّف انتاجا روائيا رياديا في مجاله، ما فرض كتابة العشرات وربما المئات من الكتب والاطاريح الجامعية عنه وعن نتاجه الروائي الغزير من ناحية، وما أدى من ناحية أخرى إلى تحويل العديد من رواياته، او معظمها بالأحرى، إلى أفلام سينمائية شاهدها، إضافة الى مثقفي الامة بسطاؤها وأميوها أيضًا. وقد عاش عمرًا مديدًا مكّنه من بناء عالمه الروائي المتكامل وفي مركزه الحارة العربية المصرية، والتاريخ المصري بشقيه الفرعوني القديم والمصري الجديد. ابداعاته هذه خوّلته لأن يكون أول كاتب روائي عربي يحصل على جائزة نوبل الأدبية لعام 1988، ورغم أن الكثيرين عزوا فوزه بهذه الجائرة ألى تأييده لاتفاقية كامب ديفيد، بين مصر وإسرائيل، فإن أحدا لم يشكك في قيمته وقيمة عطائه الروائي الريادي في ادبنا العربي المعاصر.
كل هذا الحضور الطاغي للكاتب الروائي نجيب محفوظ (11 كانون الأول 1911- 30 آب 2006)، وجّه إليه الأنظار وجعل من تجربته في الكتابة الروائية، هدفًا تتطلع إليه وإلى ما حفل به من اسرار، وإلى معرفة مكنوناته وخفاياه، فما هي الارهاصات الأولى التي أحاطت بحياته؟.. بماذا اتصفت حياته مع الكتابة الروائية، ما هي الدوافع التي حركت شُعلة الابداع في داخله. بل كيف كتب وما هي طقوس الكتابة التي اتبعها ومارسها؟
الكاتب الراحل جمال الغيطاني، صاحب الرواية الشهيرة الزيني بركات، أحد مُرافقي كاتبنا ومحبيه الكبار، وضع عام 1980 كتابًا حواريًا معه أطلق عليه عنوانا دالّا هو نجيب محفوظ يتذكر، وقد وجّه إليه فيه العديد.. العديد من الأسئلة التي دارت حول حياته ودوافعه الأولية للسلوك في طريق الكتابة الروائية، إضافة الى الكثير من الأسئلة حول العملية الإبداعية لديه. وقد صدرت الطبعة الثالثة من هذا الكتاب مُرفقة بمقدمة توافق على كلّ ما ورد في الكتاب، وكأنما هي من كتابة محفوظ ذاته، عام 1987. هذا الكتاب لفت نظر الكاتب الدكتور عزت قرني، فأقبل على قراءة الطبعة المذكورة من هذا الكتاب، وقرر ان يركّز ما ورد فيه من معلومات تتعلّق بحياة محفوظ مع الكتابة والابداع، مركّزًا على العملية الإبداعية، بكلّ ما حفلت به من طقوس، بعضها سبق وعُرف عن محفوظ وبعضها الآخر يكشف في الكتاب أول مرّة، كما قرر ان يصدر ما سجله في دراسة، في كتاب خاص أطلق عليه عنوانا دالا هو فعل الابداع الفني عند نجيب محفوظ.
يتحدّث مؤلف هذا الكتاب في قسمه الأول عن حياة محفوظ مع الابداع الروائي الفني، وعما اكتنفها واحاط بها من ملابسات، ويتحدّث في القسم الثاني من كتابه عن الفعل الإبداعي الفني الروائي، الذي مارسه محفوظ أولًا ومكّنه بالتالي مِن المُضي في طريق الكتابة الطويل الصعب والممتد. يُشير الكاتب عزت قرني، مستعينًا بما ردّ به نجيب محفوظ على محاوره جمال الغيطاني حينًا وعلى تعليقات الغيطاني/ مُحرّر الكتاب، حينًا آخر. من أجل تقديم صورة كاملة أو قريبة من الكمال، نحاول فيما يلي أن نقدّم صورةً موجزة جدًا لمحفوظ، دوافعه، تكوينه وممارسته العمل الابداع، محاولين قدر الإمكان استخلاص الدرس من هذه التجربة الرائدة فعلًا وقولًا.
*كانت نشأة نجيب محفوظ في طفولته في حي الجمالية نسبة الى بدر الدين جمال امير الجيوش والقائد المشهور في العصر الفاطمى وباني اهم اسوار القاهرة. في طفولته انتقلت عائلته للإقامة في حي العباسية، غير أنه بقي مرتبطًا إلى أخريات كتابته الأدبية بحي الجمالية، بل إن محفوظًا يطلق تصريحًا طريفًا، مُفاده انه كلّما أعياه العثور على الموضوع المناسب للكتابة الروائية، كان يتذكّر ذلك الحي أو يسير فيه لتنثال عليه الذكريات والمواضيع، وهذا لا يعني ان ذاك كان مصدره الأول والوحيد، فقد تعددت مصادره في الكتابة الروائية وقد استمد مصادره هذه من اماكن عاش او سار فيها ووضع اسماءها عناوين لعدد من رواياته أيضا، ومن قراءاته واحداث حياته استمد الثلاثية والكرنك مثلا، في حين استمد بعضها مما قرأه واطلع عليه من وسائل الاعلام، اللص والكلاب مثلا.
فيما يتعلّق بالبدايات الأولى، نقرأ في الكتاب، أن محفوظًا نشأ في طفولته الأولى في أجواء وطنية ملتهبة، ثورة عام 1919، وانه تشرب من هذه الأجواء وتأثر بها، لا سيما وأن والديه كانا متحمسين ومتشجعين لحزب الوفد الوطني بقيادة الشخصية الوطنية المعروفة سعد زعلول، الامر الذي ساهم في بلورة الحس الوطني لدى محفوظ وادى الى تعلقه الشديد بالتاريخ المصري، ودفعه بالتالي إلى افتتاح حياته الأدبية بكتابة ثلاث روايات تعترف مادتها من التاريخ الفرعوني وهي: كفاح طيبة، رادوبيس وعبث الاقدار، وكان محفوظ قد خطط لكتابة العديد من الروايات المماثلة لهذه، إلا أن ظروفا خاصة دفعته لكتابة الروايات الواقعية ومنها زقاق المدق، خان الخليلي والثلاثية الروائية بين القصرين، قصر الشوق والسكرية، وما إليها من الروايات.
كتاب الفعل الإبداعي عند نجيب محفوظ يتوقّف مُطوّلًا عند موضوع عنوانه، متطرّقًا إلى عدد من جوانبها وخطوطها العامة، التي تكشف عن اسرار العملية الإبداعية الفنية لدى محفوظ كما رواها للغيطاني، في مقدمتها التهيئة، الوقت وتنفيذ الكتابة ذاتها وما بعدها. فيما يلي نتوسّع قليلا بكلٍّ من هذه النقاط أو الاسرار.
*يعتبر نجيب محفوظ نفسه قارئا نهما، علما انه لم يكن في بيته ابان طفولته سوي رواية(تأسيسية) واحدة هي رواية حديث عيسي بن هشام لمحمد المويلحي، ويرى محفوظ في عملية القراءة امرا لا بُدّ منه وفي غاية الضرورة للكاتب، فتراه متنقلًا بين المكتبات باحثًا عن كلّ ما هو جديد وجادّ من الإصدارات الحديثة، ويُقبل على قراءة كلّ ما يقوم باقتنائه من هذه الكتب، وقد قرأ محفوظ، كما يرد في الكتاب، الكثير والغزير من الابداعات الأجنبية، كما أنه يقرأ باللغة الإنجليزية أيضًا، ويتقن الفرنسية، ويذكر الكتاب أن محفوظًا قرأ أمهات الروايات الحديثة للعشرات من الكتاب الروس أمثال تولستوي ودستويفسكي، وقرأ للفرنسيين أمثال اميل زولا ومارسيل بروست، كما قرا للانجليز أمثال الايرلندي جيمس جويس، والامريكي ارنست همنجواي ( لم يحبب لهذا الأخير الا رواية واحدة هي الشيخ والبحر). هذا بصورة عامة أما بصورة خاصة فإن محفوظًا يكثّف قراءاته بعد فروغه من الكتابة اليومية. هذه الكتابة التي تتواصل في العادة مدة سبعة أشهر من العام، جراء اصابته بمرض السكري. التهيئة للكتابة بهذا تعتبر طقسًا هامًا ولا بدّ منه في ممارسة محفوظ للكتابة الروائية.
*منذ سنوات بعيدة، ومنذ البدايات الأولى، في الخامسة والعشرين من عمره، عندما قرّر محفوظ ان تكون الكتابة الروائية حرفته ومحور حياته، أدرك أنه لا بُدّ له مِن أن يقوم بتنظيم وقته، وتقسيمه بصورة صارمة، فوقت للوظيفة في وزارة الأوقاف، ووقت للمقهى، وهو أحد مصادر الاستلهام لدى محفوظ، إضافة الى وقت للراحة، يوم الخميس، وآخر للعائلة/ يوم الجمعة، وبقيّة الأيام ابتداءً من الساعة الخامسة مساء حتى الثامنة، للكتابة والإنتاج الكتابي، الروائي تحديدًا. هكذا يُلاحظ أن محفوظًا حريص على تقسيم وقته، من أجل إنجاز ما يريد انجاه من كتابات روائية. هذه الكتابة تتمّ بشكل يومي، مع التركيز الشديد على دينامية التطور الحتمي الداخلي لأحداث الرواية، أما كيف تتواصل الكتابة، فإن محفوظًا يقوم بمعايشة شخصيات روايته الذين عادة ما يتمّ استقاؤهم من الواقع، بيد أنهم يتحوّلون في الرواية إلى شخوص آخرين غير أولئك الذين سبق وعرفهم الكاتب كما يقول، إلى هذا هو يقوم بمعايشة أحداث الرواية، فتراه منقطعا خلال فترات طويلة نسبيًا، بهذه المعايشة، الامر الذي يُمكّنه من مواصلة الكتابة بيسر اقل.
*عندما يفرغ محفوظ من كتابة روايته، بعد أشهر أو سنوات، هو كتب الثلاثية خلال سنوات، في حين كتب الحرافيش في سنة، علمًا انه فكر فيها سنة تحضيرية، يقوم بتبييض الرواية مُعيدًا النظر فيها وفيما خرجت عليه، ويحتاج بعد ذلك إلى وقت كي يراجعها وكي يُعدها للنشر. كتابته للرواية بهذا تستغرق منه في العادة وقتًا ليس قصيرًا، وما يهمه أولًا وقبل كلّ شيء أن يكون راضيًا عما سجّله فيها من مواقف واحداث، يقودها ويكوّنها التخييل الفني الروائي، أكاد أقول التوالدي، وان يكون مناسبًا لكاتب يريد ان يقدم أفضل ما لديه لقارئ يتوقّع منه الكثير.
***
ناجي ظاهر