أقلام ثقافية

حميدة القحطاني: في العمق.. حيث يُولد الأُنس الحقيقي

الأُنس ليس فعلًا منفصلًا، بل هو ثمرة تواصلٍ عميق مع الآخر. ذاك النوع من التواصل الذي ينسج الألفة بخيوط غير مرئية: تشابه في القيم حتى تكاد تتطابق، انسجام في الرؤى، وتجانس في الأفكار والقناعات. هو ما يحدث حين تلامس الروح روحًا، حين تُفهم دون شرح، ويُفهم عالمك الداخلي دون أن تبذل جهدًا في ترجمته.

أن تجلس مع شخص لا تحتاج أن تشرح له من أنت، ولا أن تبرر له ما فيك، فقط تكون… فيشعرك حضوره بالأمان والسكينة. أن تبوح له بما يثقل صدرك دون أن يخطر ببالك أنه سيحاكمك أو يصدر حكمًا عليك… ذاك هو الأُنس الحقيقي.

لكن التواصل في أيامنا صار هشًا، سطحيًا، يملؤه الانشغال بالمظاهر، وتثقل كاهله الأحكام. بات المعنى غائبًا عن كثير من اللقاءات، وغاب العمق في الحديث إلا عن القلائل… أولئك النادرين الذين يشبهون العملات الثمينة، قِلّة لكنهم يُغنونك عن العالم كله.

هم وحدهم من يمنحونك الإيمان، والبهجة، والإشراق. معهم لا تشعر أنك فرد تائه، بل كأنك أُمّة تواجه تحديات الحياة بثقة وسند. في هذا النوع من التواصل تكمن السعادة… ويولد المعنى.

وإن لم تجد هذا التواصل مع شخص، ستجده مع وردةٍ تنبض بالحياة، أو شجرةٍ تخاطبك بصمتها، مع لوحةٍ فنية تنفتح لها نوافذ روحك لالتقاط أدق التفاصيل الكامنة فيها، أو مع فكرةٍ مثمرة تحرّك جوارحك وتهزّ قلبك. وربما مع طيف إنسانٍ رحل منذ زمن، لكنه خلّد اسمه في كتاب، أو ترك أثرًا شاهِدًا على قصته مع الله.

حين تنفتح أبواب قلبك في ساعة إخلاصٍ وانقطاعٍ تام، سيحدث هذا التواصل العميق. لا تنتظر أن يأتيك… بل كن أنت المبادر، كن المستعد. وعندها، سيسكن الأُنس في أيامك، ويبهج روحك، ولو من أبسط الأشياء.

***

د. حميدة القحطاني

 

في المثقف اليوم