أقلام ثقافية

ثامر الحاج امين: سطور من زُهد ونزاهة موفق محمد

لم يكن بالمفاجأة موكب التشييع الشعبي والرسمي الذي جرى للشاعر العراقي " موفق محمد " والذي شاركت فيه جموع غفيرة من فئات الشعب وكان أشبه بطوفان بشري من الحزن والدموع والغضب، فـ " موفق محمد " لم يكن شاعرا كغيره من الشعراء التقليديين انما كان صوتا شعريا تفرد بالشجاعة وبالجرأة في نقد الأنظمة الدكتاتورية والحكام الفاسدين، فقد وقف بشعره الى جانب الانسان العراقي في محنته مع السلطات الجائرة، وقصائده كانت خير نصير للفقراء وصرخة قضّت مضاجع الحكام الفاسدين والقت في قلوبهم الرعب وسوطا ظل لسنوات يجلد بها ظهورهم، مثلما كانت اشعاره بلسما لجراح الشعب وأملهم في الخلاص من زمرة البغي والفساد . كان متوقعا هذا الموكب المهيب من محبي الشاعر واصدقائه وابناء مدينته الذين ساروا خلف جنازته، فالشاعر موفق محمد كان جديرا بهذا التكريم الذي شهده في حياته ممثلا بالمحبة التي حظي بها من قطاعات واسعة من الشعب وبالنصب التذكاري الذي كرمه به الحليّون وشيدوه في قلب المدينة، ما جرى في موكب التشييع من مشاركة شعبية يوكد حقيقة هي ان قيمة الانسان ومنزلته بما يقدمه من عطاء ومواقف وبما يترك من إرث إيجابي في المجتمع، ففارق كبير بين انسان يموت والكل يسارع الى نعيه واستذكار نضاله ومواقفه الوطنية والانسانية الجريئة وبين اخر يموت واللعنة تلاحقه جراء عمالته ولصوصيته وفساده ومشاركته في خراب بلده، ربما في الميتة الأولى تموت فقيرا لا مال تتركه خلفك ولكنك ستعيش خالدا بما قدمته لشعبك دون مقابل اما في ميتة الاخر فقد يترك خلفه خزائن من المال والذهب لكنه مالا حراما مغمسا بأنفاس المحرومين وآهاتهم ومن يرث هذا المال السحت سوف يعيش مجلجلا بالعار والفضائح .

لحظات متابعتي لموكب تشييع الشاعر موفق محمد، حضرني قول الشاعر ابو العتاهية (انت اليوم اوعظ منك حيا) فالجموع الغفيرة التي سارت خلف جنازته هي النخب الثقافية واصدقائه ومحبيه ومن قرأ له متأثرا بصرخته وبمفرداته التي كانت حمما من الجمر ينفث بها بوجه الفاسدين، وقبل هذا كان الشاعر قد عاش حياته محاطا بمحبة الشعب واشعاره تتناقلها شرائح مختلفة لما فيها من نصرة للمظلومين ورفعة للوطنيين يضاف الى انها أي حياته اتسمت بالزهد والنزاهة، ففي تسعينيات القرن الماضي وعند اشتداد ظروف الحصار على الشعب العراقي ولكي يبقى الشاعر موفق محمد نظيفا ينعم باللقمة الحلال فانه لجأ الى فتح بسطية شاي في ركن منزو من شارع اربعين في الحلة وكان حينها مدرسا مرموقا وشاعرا معروفا على الساحتين الشعرية العراقية والعربية، وعند تقديمي له وحواري معه في احدى الجلسات الشعرية سألته عن هذه المحطة المؤثرة في حياته فأجابني بكل زهو وتواضع : (بائع الشاي التسعيني الذي هو موفق محمد  جعلني مدرسا مخلصا وأديت التزامي الوظيفي في التدريس بكل اخلاص ولم اتعامل مع طالب) فهو لم يكتفي بدروس المنهج التي كان يعطيها لطلابه انما كان يغذيهم بدروس من الحياة فقد كان يحثهم على النزاهة ناصحا (لا تنطي حتى تنجح، لأنه راح تصير حرامي عمرك كله، لأن بعدين من يصير عندك منصب ما تنطي الا تأخذ) وكان صادقا فيما يقول فقد انهى خدمته الوظيفية نظيف اليد والسمعة، كان يؤمن ان الأداء والمنجز هما من يخلّدان الانسان لذا يقول في حديث لأحدى القنوات (من تكبر .. الفلوس ما تفرحك، يفرحك منجزك الي تركته وراك حقول من الخيرات والثمار ومن العلماء) وشهادة عن زهده بالمناصب والامتيازات يذكر الكاتب ناظم السعود في معرض تقديمه لديوان الشاعر موفق محمد (عبدئيل)  الصادر عام 2000 انه (الشاعر الستيني الوحيد الذي لم يتسلق المناصب ولم ينظم الى احدى الجماعات والشلل او دوائر العلاقات وما أكثرها، كما انه الوحيد من بين ابناء جيله الذي لم يسع الى اصدار مجموعة شعرية) وأُضيف على ما قاله السعود ان موفق محمد هو الشاعر العراقي الوحيد الذي شُيد له تمثال وهو حي يرزق، وقد كتب عن هذا التكريم الشاعر والناقد ريسان الخزعلي  نصا جميلا يقول فيه:

(لا حاجة لك بعد الان

أن تسأل عن:

الخلود وعبدئيل

وسعدي الحلّي وشط الحلَّه

لقد أصبحت حيّا مرّتين

حياتُك وقد رأيتَها

وموتُك .. يُهديك نصْبا يراك

فكم أنت طيّع للحضور ..؟

ترى موتَك حيّا .. وحيّا يراك الموت ..!)

لا شك ان هذه السطور القليلة تمثل بعضا من ملامح سيرة وضاءة لشاعر أحب شعبه وبادله الشعب بحب أرقى وأسمى حين سار وراء جنازته بتلك الجموع الغفيرة وهي تودع شاعرا وانسانا تناهشت جسده المصائب والهموم فلم ينكسر امامهما ولم يهادن ورحل مرفوع الرأس تاركا بصمة مشرقة في ضمير الشعر والتاريخ .

***

ثامر الحاج امين

 

في المثقف اليوم