أقلام ثقافية

رشيد الخيّون: المخطوطات.. بين الموجود والمفقود

عندما نقرأ عن شغف الأقدمين، بجمع الكتب العربيَّة الإسلاميَّة، نعني المخطوطات، فكان ظهور آلة الطّباعة حداً بين المخطوط والمطبوع، وذلك خلال القرنين السَّادس عشر والسَّابع عشر. لذا، لم يسترعِ ما خُط بعدهما الاهتمام، كأثر مخطوط، وإنْ ظهرت المخطوطات القديمة مطبوعات، فتبقى أصولها بمنزلة الآثار.

كانت أسواق الكتب تبيع المخطوط، ودكاكينها تُعرف بالوراقين (التَّوحيدي، الإمتاع والمؤانسة). صُنفت كتب عديدة، منها موسوعات في الوراقة والوراقين، نفعت المهتمين بعالم المخطوطات، جمعت فيها تراجم المئات مِن باعة الكتب ونُساخها، بينهم وراقات ونساخات نساء، ومؤلفون بمنزلة أبي حيان التّوحيديّ(ت: 414هج)، الذي اضطر إلى النسخ لوزراء، أقل منه مرتبةً، لذا صنف فيهم «ذم الوزيرين».

حضرتُ معرض المخطوطات السُّعوديّ، الذي أقامته وزارة الثّقافة السُّعوديَّة مؤخراً، حيث محافظة «الدِّرعيَّة»، ووجدته مناسبة لمعرفة النَّفائس مِن الخزائن الداخليَّة، والمعروض كان نماذجَ فقط (2000 مخطوط)، في مختلف المعارف: الفقه، والطِّب، والتاريخ، والجغرافيا، والمنطق والفلسفة، كذلك كان المعرض مناسبة لقيام ورش عِلم حفظ المخطوطات، وتعليم فن قراءة الخطوط القديمة، في زمن تراجع فيه القرطاس والقلم.

أقيمت ندوات، تصدرها محققو ومقتنو المخطوطات، عرب وسعوديون معروفون، كان الأبرز المحقق البغداديّ بشار عواد معروف، الذي حقق نحو خمسمائة مجلد، وأخيراً أنجز تحقيق تاريخ الطَّبريّ (عشرون مجلداً)، سيصدر قريباً عن «دارة الملك عبد العزيز» بالرِّياض، وغيره مِن أمهات التّاريخ، وتراجم الرّجال، ومِن المحققين تُعرف النَّفائس، فقبل مؤلف الكتاب اعرف مُحققه.

عندما نقول المفقود أكثر مِن الموجود، نحسب الدَّمار، الذي أصاب خزائن المخطوطات، عند اجتياح المغول لبغداد(656هج)، مع تحفظنا على رواية ابن خلدون(ت: 808هج) أنّ الكُتب كافة ألقيت في دجلة(ديوان المبتدأ والخبر)، وابن تغري(ت: 867هج) قال: حرقوا الكتب، وجعلوها آجراً لجسر عبر النّهر(النّجوم الزَّاهرة). كيف تكون القراطيس آجراً؟ وأخذ عنهما المتأخرون وأضافوا: جرى دجلة بالأسود والأحمر(الحبر والدَّم).

إلا أنَّ المرجح، خلال الحصار: «كان أهل الحلة والكوفة والسّيب يجلبون إلى بغداد الأطعمة، فانتفع النّاس بذلك، وكانوا يبتاعون بأثمانها الكُتب النّفيسة»(الحوادث، تحقيق بشار معروف). نعم الكتب لا تعني المغول، ولا أي غزاة، وقد جربنا غزاةً(متحضرين)، فماذا فعلوا(2003)؟ فما بالك بالمغول(1258م)، لكننا نتحدث عن صدق الرواية أو تلفيقها.

تحدث أُسامة بن منقذ(ت: 584هج) عن ضياع أربعة آلاف مجلد له، باستحواذ قراصنة عليها وإتلافها(الاعتبار)، وأنَّ ولده مُرهْف(ت: 613هج) كان جامعاً للكتب، ولمحنةٍ اضطر إلى بيع الآلاف منها، وياقوت الحموي(ت: 626هج) اشترى كتباً منه(معجم الأدباء)، وهذا وغيره يُعد تراثاً مفقوداً.

أكثر المخطوطات المفقودة، ما يُعرف بـ «الأمهات» - بخطوط المؤلفين - فصار ضياعها ذريعة لمنكري التاريخ، مع أنَّ أغلب المؤلفين تُنسخ كتبهم، ومِن عظائم الكتب وصلنا مدوّناً بطريقة «الأمالي» - إملاء المؤلف - مع عدم وجود ثقافة حفظ الأصول، لكن العديد مِن الكُتب نُسخ في عصر مؤلفيها، ومنها مقروء عليهم، حتّى في العصر الحديث، مَن لا يحب خط يده لرداءته، مثلما فعل معروف الرُّصافي(ت: 1945) بكتبه، مع صديقه صاحب الخط الجميل، الوزير مصطفى عليّ(ت: 1980).

مَن يطلع على كتب الفهارس، مثل «الفهرست» للنّديم الوراق(ت: 388هج)، سيجد ثروة مِن الكتب ليس لنا إلا عناوينها، وهناك كتب أنقذها الخصوم، من الفقد، عندما ردوا عليها، وما اقتُبس مِن المفقودات، وحفظته بطون الكتب.

تستحق المخطوطات العناية، بمعارض سنوية، مستقلة، أو ضمن معارض الكتب، نقول هذا لمَن يُقدر أهميتها، وأهمية التّاريخ، لا مَن ينكره بعذر عدم وجود المخطوطات الأُمهات. أقول: إذا كتب شمس الدّين السَّخاويّ(ت: 902هج) «الإعلان بالتّوبيخ لمَن ذمَ التّاريخ»، يكون «الإعلان بالتّوبيخ لمن أنكر التّاريخ»، فالآلاف المؤلفة مِن المخطوطات، في مختلف المعارف، لم تُكتب مسرحياتٍ ودرامياتٍ، إنما وقائع عاشها النّاس، دُونت على الرّقِ والورق.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم