أقلام ثقافية
ليلى موتلي: الكتابة عن مكان لم تذهب إليه أبدًا

بقلم: ليلى موتلي
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
لطالما كنتُ مهووسةً بخرائط جوجل، وخاصةً ميزة "عرض الشارع"، لكن هوسي زاد بعد أن أصبحتُ روائية. أمضيتُ ساعاتٍ لا تُعدّ وأنا أتجول افتراضيًا في الطرقات عبر مقاطع "القيادة الافتراضية" على يوتيوب، أستكشف زوايا الشوارع النائية على جوجل إيرث، أحفظ أسماء الأماكن بتفاصيلها الدقيقة، كأنني أعيش هناك، كل ذلك من أجل أن أنقل الأماكن بدقة إلى قصصي القصيرة، أو لأصف مسقط رأس شخصياتي بأمانة.
عندما قررتُ أن يكون مكان أحداث روايتي الثانية في فلوريدا، ظننتُ أن بحثي المكثف عبر خرائط جوجل وقراءة الكتب السياحية سيكفيانني. تصورت أنني قادرة على استحضار الأجواء والأماكن دون أن تطأ قدماي تلك الأرض. لكن ما إن شرعتُ في الكتابة، حتى اكتشفتُ أن الواقع أكثر تعقيدًا مما تخيلت، وأن الفجوة بين المشاهدة الافتراضية والمعايشة الحقيقية لا يمكن تجسيرها بمجرد الصور والقراءة.
كنتُ أعلم أن أحداث الكتاب يجب أن تدور في فلوريدا قبل أن أكتب الكلمة الأولى منه. كان المكان الوحيد في البلاد الذي يعكس تمامًا مواضيع الكتاب، وفي الوقت نفسه يُقدم أجواءً جنوبيةً نابضةً بالحياة وجميلةً في ولايةٍ تُقيّد فيها بشدة إمكانية الإجهاض. كان من المفترض أن يكون هذا كتابًا عن الأمهات الشابات اللواتي نادرًا ما يُنظر إليهن بتعقيداتهن، دون إصدار أحكام عليهن أو خجل منهنّ، وأن تدور أحداثه في منطقةٍ من فلوريدا مهملةٍ وغامضةٍ ومعقدة.
فلوريدا هي ولايةُ التناقضات بامتياز: من تاريخها الاستعماري وعلاقتها بالاستعباد، إلى مجتمعاتها المهاجرة وسياساتها المحافظة، ومن مياهها الفيروزية الساحرة إلى مستنقعاتها الكثيفة. وفي خضم هذه التناقضات، تعيش الأمهات الصغيرات في حالة من التمزق بين براءة مراهقتهنّ ومسؤوليات الأمومة، يواجهنّ بهجة التحدي وكآبته في آن، وغالباً ما يواجهنّ التهميش وسوء الفهم بسبب هذا الموقف الحرج.لكن المشكلة الأكبر كانت أنني لم أطأ قدماً يوماً ما على شمال غرب فلوريدا. لم أتنفس هواءها، ولم أشعر بحرارة شمسها اللاذعة، ولم أسمع همسات نسائمها بين أشجار الصنوبر الطويلة. كل ما عرفته عنها جاء عبر شاشة باردة وكتب جافة، وكأنني أحاول فهم نبض قلب من خلال رسم تخطيطي.
بمجرد أن قررتُ أن يكون مكان أحداث روايتي "الفتيات اللاتي كبرن سريعًا" في منطقة فلوريدا بان هاندل، انغمستُ في البحث. استكشفتُ "الساحل المنسي"، تلك المياه الزمردية الساحرة، البلدات الصغيرة الفقيرة المنتشرة كالجزر المنعزلة، ومنتجعات الشواطئ الفاخرة التي تزين الساحل. حاولتُ فهم الجغرافيا من خلال الكتب وخرائط جوجل والمدوّنات السياحية. حاولتُ تعلّم اللهجة المحلية بنبرتها الجنوبية المميزة عبر المنتديات والمقابلات وصفحات اليوتيوب. لكن مهما استعنتُ بكل هذه المصادر المتاحة لي من شقتي في أوكلاند، ظلّ هناك شيء ناقص. ظلّ المكان يقاومني، كسراب لا يمكن الإمساك به. كأنني أحاول التقاط أنفاس الهواء الرطب عبر نافذة مغلقة.
أؤمن بأن من مهام الكاتب أن يتخيّل ما يتجاوز ذاته. كما أؤمن بوجود حدود لما يمكننا معرفته من دون أن نعيشه، ولو على نحو غير مباشر. قالت توني موريسون في مقابلة مع المؤسسة الوطنية للفنون (NEA) إنها كانت تقول لطلابها في جامعة برينستون أن يتوقفوا عن الاكتفاء بكتابة ما يعرفونه، لأنهم، ببساطة، لا يعرفون شيئًا بعد. وأرادت منهم أن يتوقفوا عن "التسجيل والتعليق"، وأن يبدؤوا بدلًا من ذلك بـ"التخيّل والخلق".
إن نصيحة "اكتب ما تعرف" تتعارض مع جوهر الأدب الخيالي نفسه. فعندما نقيّد أنفسنا بما نعتقد أننا نعرفه فقط، فإننا نخنق مخيّلتنا، ونحرم أنفسنا من مشقة التشكّل والخلق والتصوّر لما هو أوسع بكثير من شريحة المعرفة الضئيلة التي نملكها.
لكنّنا ككُتّاب نتحمّل مسؤوليةَ القيام بواجبنا بأقصى درجات الجدية. ليس من المقبول أن نختار الطريق الأسهل، أو أن نزعم معرفتنا بشيء لمجرّد أننا اطّلعنا عليه، أو بحثنا عنه، أو سمعنا به. خاصةً عندما يتعلّق الأمر بالكتابة عن أماكن أخرى، أو ثقافات أخرى، أو مجتمعات أخرى، علينا أن نفترض مسبقًا أن هناك ثروةً من التجارب تفوق إدراكنا لدرجة أننا لا نعرف حتى ما هي الأسئلة التي يجب طرحها. علينا أن نسلّم بأننا لن نصل إلى الفهم الكامل، وأن نكون مستعدّين لتحمّل مسؤولية أوجه القصور في عملنا. وفي الوقت نفسه، يجب أن نبذل جهدًا مضنيًا للاقتراب قدر الإمكان من الحقيقة، وأن نكون مستعدّين للتخلّي عن المشروع إذا اكتشفنا أن الهوّة بيننا وبين الموضوع أكبر من أن تُجسّر.فإن كنا كسولين في تصوّراتنا، أو مقصّرين في سعينا نحو الأصالة، فقد نلحق ضررًا أكبر من النفع الذي نبتغيه.
لقد اكتشفتُ أنه من المستحيل أن أكتب بمهارة عن مكان لم أزرْه قط. كتبتُ النصف الأول من رواية "الفتيات اللاتي كبرن سريعًا" قبل أن أطأ أرض منطقة فلوريدا بان هاندل. ظننتُ أن زيارتي السابقة لميامي وجورجيا، وساعات البحث الطويلة، ستكفيني لتصوير المكان دون معايشته شخصيًا. لكن مسودة تلو الأخرى، كانت كتاباتي تفتقر للروح. ظلّت المياه مجرد لون أخضر باهت، والرمال مجرد رمال، والطرقات لا تختلف عن أي طريق عادي.
قررتْ أن أكتب عن مدينة خيالية في المنطقة، ظنًا مني أن هذا سيمنحني سلطة تشكيل الواقع وخلق معالم جغرافية جديدة. لكن مخيلتي عجزت عن استحضار التفاصيل: ما المحلات الموجودة في المركز التجاري الصغير؟ كيف يمشي الناس؟ ماذا يرتدون؟ ما الارتفاع الدقيق للكثبان الرملية وملمسها؟ فحجزتُ تذكرة سفر.
قضيتُ بضعة أيام في منطقة بانهاندل بفلوريدا، ومعي كاميرا، وسيارة مستأجرة، ودون أي خطة. ولم أكن مستعدة لمدى خطئي. ليس لأن الأوصاف في المسودات الأولى كانت غير دقيقة، بل لأنها كانت مجتزأة وغير محددة، غير قادرة على التقاط نغمة الأصوات المحلية، ورائحة المحيط الممزوجة بواقي الشمس والبنزين المنبعث من عشرات الشاحنات الصغيرة في موقف سيارات الشاطئ، وكيف بدا المكان وكأنه عالق في أوائل الألفية الثانية من حيث خزائن الملابس وواجهات المتاجر وخدمة الواي فاي.
لم أكن لأفهم خشونة الأرض أو مخلوقاتها أو أو اتساع سمائها اللانهائي دون أن أراها بنفسي. قضيت أيامًا أقود السيارة وأمشي، وأسمع الناس يتحدثون على الشواطئ والمطاعم، وحتى في قلب الغابة المستنقعية حيث صادفت رجلاً أسود يرتدي بنطال جينز، نصحني بالحذر من الثعابين، ثم واصل سيره في الغابة. دوّنت صفحات من الملاحظات، وسجلت صوت الأمواج، والتقطت مئات الصور، وعندما عدت إلى المنزل، أحييت المشهد.
فجأةً، أصبح للكتاب لونٌ وصوتٌ وطعم. لم يعد يخصني وحدي، لأنه لم يعد قائمًا فقط على ما لدي من مراجع ومعرفة مسبقة. كان عليّ أن أوسّع مخيلتي. وكان لا بد لي أن أرى هذا المكان، أن أشعر به، أن أسمعه، حتى أمتلك الإطار الذي يسمح لي بتخيّل حياة هذه الشخصيات. لم أكن لأعيش تجربة العيش من هناك، والعيش لسنوات بين من أكتب عنهم، لكنني كنت أعرف أنني أقرب ما يمكن إلى الواقع.
لقد خلقتُ بان هاندل فلوريدا الخاص بي: مكاناً حميماً، غنياً بالحياة، يسهل استشعاره، مفعماً بالتعاطف والإعجاب الصادق. بنيتُ عالماً قادراً على احتضان قصتي بدقة وإنسانية. في النهاية، تدور هذه الرواية حول الأمومة الشابة في منطقة صغيرة من فلوريدا، نادرًا ما نعتبرها مجرد وجهة لقضاء عطلة الربيع، لكنها تستحق أن تُكتب كفضاء ملموس، حيوي، متناقض - حيث تواجه هؤلاء الفتيات التحديات ويقررن إما أن يغرقن أو يسبحن.
(تمت)
***
...........................
ليلى موتلي / Leila Mottley مؤلفة رواية "الزحف الليلي"، التي اختارها نادي أوبرا للكتاب، وتصدرت قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعًا، ولم تُثر مجموعتها الشعرية أي دهشة. وهي أيضًا حائزة على لقب شاعرة الشباب في أوكلاند لعام ٢٠١٨. وُلدت ونشأت في أوكلاند، حيث لا تزال تعيش.