أقلام ثقافية
رشيد الخيّون: "على دروب أبوظبي".. تدوين الشّفاهيّ

أغلب التّاريخ المدون أصله شفاهيّ وجدَ مَن يدونه، ومفردة «الشَّفاهيّ»، منحوتة مِن الشّفة، «وشافَهَه: أَدْنَى شَفتَه مِنْ شَفته فكلَّمه مُشافَهةً» (ابن منظور، لسان العرب). لذا، مَن ينفي سلاسل السَّند في الرّوايات، ويدعي أنَّها مختلقةٌ كافة، لا يُقدر قيمة الشّفاهي ولا المدون.
فما عدا المذكرات، المدونة بأقلام أصحابها، وما صنفه المؤرخون، كلّ ما نقرؤه في الأصل كان شفاهيَّاً، وكم نقرأ مِن عناوين «الأماليّ» عند الأقدمين، يمليها أصحابها مِن شفاههم، فأصبحت مدونات تُشكل جزءاً مِن التُّراث الثَّقافيّ. حصلتُ على كتاب السّيد موسى الهاشميّ «على دروب أبو ظبيّ مِن البدايات إلى التّحولات» (أبوظبي 2025)، مما اقتنيته مِن معرض أبوظبي للكتاب الأخير.
ترددتُ بأخذه، لنشره على الورق الثَّقيل، يحار المسافر بحمله، لكنني وجدته مِن كتب «الأمالي»، التي أجمع منها، ولي «أمالي السّيد طالب الرّفاعيّ». أعدَّ الكتاب الدّكتور حمد الكعبي وإبراهيم الملا، وملتُ لو كان عنوانه «أمالي السّيد موسى الهاشميّ». عاصر الهاشميّ الزَّمنين: شظف العيش وعسره بمنافحة الرّمال، والعمران والرّفاه.
يقول: «ولدتُ في زمن صعب، لم أجد سوى البحر، رفيقاً لي، ومؤنساً لوحشتي، كان تراب الفريج (الحارة) والمسالك الضّيقة الفاصلة بين بيوتاته المتواضعة هي ملعبي». أغرت الهاشميَّ السّيارات مبكراً، لفت نظره هذا الكائن وهو يجوب الصّحراء، وقد دخلت السّيارة ومدت طرقاتٍ وشوارعَ رمليَّة، خطوطاً عشوائية تائهة، لا تمت بصلة لشوارع ومسالك أبوظبي اليوم المُهندَسة، بعد أنْ كان الهاشمي يقطع المسافات على ظهور الجمال، وبعد الحرب العالمية الثانية أخذ الإنكليز يبيعون السّيارات، فظهرت سوقها، وانتشرت.
ذكر الكتاب كراج تصليح السَّيارات، على قلتها، فتح إلى جانبه ميكانيكي عراقيَّ ورشة للتصليح السّريع. لم يذكر الهاشميّ الاسم، وما جاء به آنذاك في سفينة مِن البصرة، عبر الخليج العربيّ، فكانت أبوظبي محطته الأخيرة؟ وهل ظل مقيماً بها، وورث وجوده أبناءً وأحفاداً، أم أنقرض عقبه، ولم يُعرف له أثر؟ يروي الهاشميَّ صفحة مِن حياة أبوظبي الاجتماعيّة، وما تذكره عن «الحصن» (قصر الحكم)، البناء الشّاخص الوحيد وسط أبوظبي آنذاك، وكان موج البحر يلتطم بجداره، والآن بينهما مسافات، وكاسر أمواج.
تحدث عن الحكام وعلاقتهم بالنَّاس، عن أول إنارة كهرباء، عن صغائر ما يتعلق بالملابس، فالحمدانيَّة التي تعتمر اليوم على الرّؤوس، نسبة إلى الشيخ حمدان بن محمد بن خليفة بن زايد بن خليفة بن شخبوط آل نهيان (الذي توفي عام 1989)، كانت له طريقةٌ بشدها، تذكرَ الدَّقائق عن يوميات مؤسس النَّهضة وبانيها.
قد لا تحفل كتب الرّحالين بما جاء في الكتاب، عصر ما قبل النَّهضة وما بعده. تحدث عن حكايات الغواصين وتجار اللؤلؤ، والشّعراء وما حفظ من أفواههم. ذاق العطش، ذاكراً قيمة الماء العذب، وندرته كالكبريت الأحمر، وعن عيونه داخل البحر التي استدل عليها الغواصون. لذا، لابد مِن تذكير الجيل الجديد بالبدايات، فجيل الهاشمي يُقدر رفاه ما هو فيه الآن، يوم مست الرّمال الحارقة جلودهم.
أرى الكتاب إضافة لكتابة تاريخ المكان وإنسانه، فكم تاريخ صار بحكم المفقود، لعدم التَّدوين، والأيام تجري والأجيال تتعاقب، ووقائع تختفي، بينها ثقافة الأمكنة. لذلك عُقدت مؤتمرات عن التدوين الشّفاهيّ، وخصوصاً بالبوادي، التي ندر فيها القلم والورق، وهي غنية بما في الصّدور، ربّما أبرز النَّاشطين في هذا المضمار الباحث الثبت سعد الصُّويان، أخذ يسابق الزَّمن، لتسجيل ذاكرة الشّفاهيين مِن أهل البادية، فكم مِن تاريخ وعِلم بدأ مِن الشّفةِ ثم الكتاب.
مع سلوتي بالكتاب، لما بذله المدوِّنان مِن جهد، يبقى فضولي عن الميكانيكي العِراقي، لأي سبب ترك نعمة الخمسينيات بعراقه، ليقيم بمكان وزمن قيمه الهاشمي بـ «الصّعب»! أقول: أي برج شاهق نُصب محل ورشته؟
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي