أقلام ثقافية

عبد السلام فاروق: محمد سلماوي.. 80عاما من العطاء

ودعوة لم تصلني!

لماذا لا يدعى الكتاب إلى احتفالات الكتاب؟ سؤال مرير خطر لي وأنا أتصفح صور الاحتفال الذي أقامته مؤسسة الأهرام قبل أيام، ثم تلك الاحتفالية الكبرى للمجلس الأعلى للثقافة.. كل الوجوه كانت هناك، إلا وجهي المتواضع! 

لكني- كما تعودت-  سأصنع من جرحي كلمات، ومن غيابي حضورا. ها أنا ذا أرفع كأسي الوهمية معكم - أيها القراء الأعزاء - لنشرب معا من نبيذ الذكريات: ثمانينيه صديقنا محمد سلماوي، ذلك الساحر الذي علمني - منذ لقائنا الأول في الدور الرابع بجريدة الأهرام - أن الصحافة يمكن أن تكون شعرا، وأن الرواية يجب أن تكون ضميرا. 

كان سلماوي يمر بمكتبي كنسيم هادئ، يرمق أوراقي بنظرة عارف، ثم يهمس: "لا تكتب إلا ما يؤلمك إذا لم تكتبه". اليوم، يؤلمني ألا أكون بين المحتفين به، لكني سأكتب - كما علمني- لأن الكلمة وطننا الأخير حين تغيب عنا الدعوات الرسمية! 

فهل تسمحون لي- أيها الأصدقاء- أن أبدأ هذه المقالة التي هي احتفال خاص بنا نحن المغضوب علينا من بروتوكولات التكريم؟!

لا شيء يمنح الأمم شرعية البقاء مثل ذاكرتها الثقافية. حين تضيء الدولة مصابيح التكريم حول أحد أبنائها، فهي لا تهدي وساما لشخص بقدر ما تعلق جرس إنذار على جدار النسيان. محمد سلماوي، الكاتب الذي حول الحروف إلى مرايا تعكس نبض الشارع المصري، لم يكن يوما مجرد حروف تقرأ، بل كان جسرا بين زمنين: زمن الصحافة الحرة التي تنير العقول قبل الصفحات، وزمن الرواية التي تحفر في جسد المجتمع بحثا عن الجوهر الإنساني. 

يخطئ من يظن أن الاحتفاء بالرموز طقس احتفالي عابر. التاريخ يعلمنا أن الحضارات العظيمة ولدت من رحم الكلمة التي رفضت أن تسقط. يوم وقف الخديوي إسماعيل يحيط أحمد شوقي ببهاء التتويج، لم يكن يكرم شاعرا، بل كان يزرع بذور هوية عربية ترفض الانكسار. اليوم، نحن أمام مشهد مماثل: تكريم سلماوي هو استمرار لتلك السلسلة الذهبية التي بدأها رفاعة الطهطاوي، وحمل مشعلها طه حسين، ويسير بها جيل جديد على درب الضاد. 

ما أجمل أن تتحول قاعة التكريم إلى فضاء يتلاقى فيه الوزير أحمد فؤاد هنو والأكاديمي العريق الدكتور حسين حمودة، مع نقاد شباب! هنا، في هذا التداخل الرقيق بين الأجيال، تكمن رسالة الاحتفاء الحقيقية: الثقافة ليست تراثا محنطا في المتاحف، بل نهر يجري، يحمل معه أسئلة الماضي وإجابات المستقبل. لقد علمنا سلماوي، من خلال رواياته التي تنبض بالحياة كـ "الخرز الملون"، أن الكلمة الصادقة تشبه النيل؛ تغذي الأرواح دون أن تطلب إذنا. 

الثقافة للجميع 

في زمن السحابة الرقمية، لم تعد قاعات الأوبرا وحدها حاملة لواء الثقافة. انتقاد بث الاحتفالية عبر "فيسبوك" يشبه انتقاد القدماء لاختراع الطباعة! ألم يقل طه حسين إن الثقافة يجب أن تصل إلى كل بيت كالماء والهواء؟ الاحتفاء بسلماوي عبر الشاشات الصغيرة هو اعتراف بأن الثقافة الجادة ليست حكرا على النخبة، بل هي خبز يومي للجميع. 

قد يقول قائل: "ما الفائدة من احتفال في زمن الحروب الثقافية والانهيار الاقتصادي؟". لكن الحضارة، كالشجرة العتيقة، لا تسقط عاصفة واحدة جذورها. يوم نحتفل بسلماوي، نحن لا ننقش اسمه على جدار الماضي، بل نزرعه في تربة الغد كبذرة تنبت جيلا جديدا من الحراس: حراس الكلمة التي تضيء، والفكر الذي يحرر، والذاكرة التي تقاوم. 

بين سلطة التراث وتمرد الحداثة 

في زحام الصراع بين الأصالة والمعاصرة، تظهر الثقافة كمصلح ماهر يجمع شتات الهوية دون أن يكسر مراياها. خذ مثلا المسرح المصري: حين يعيد المخرج الشاب قراءة "الست هدي" بطريقة تفاعلية مع الجمهور عبر "التيك توك"، فهو لا يخون تراث نجيب الريحاني، بل يزرع بذور مسرح جديد في تربة جيل لم يعرف فرق الفنانين. هنا تكمن المفارقة العبقرية للفن: كلما انغمس في حاضره، اكتشف جذوره الضاربة في الماضي. 

المثقف العربي.. حارس الأسئلة

هل يعيش المثقف العربي أزمته الأكثر شراسة اليوم؟ حين كان طه حسين يناقش "مستقبل الثقافة"، كان السؤال هو كيف نبني. أما اليوم، فالسؤال الجارح: كيف نحمي ما تبقى؟ لكن التاريخ يعلمنا أن الثقافة العربية ولدت من رحم الأزمات. أليس ابن خلدون كتب "المقدمة" في ظل انهيار الدول؟ وعباس محمود العقاد صقل أفكاره تحت وطأة الاستعمار؟ اليوم، يعاد المشهد بأدوات جديدة: كاتبة المدونات التي تترجم رواياتها إلى الإنجليزية مباشرة، والفنان التشكيلي الذي يبيع لوحاته بـ "النفط الرقمي" (NFT)، كل هؤلاء يحملون مشعل المقاومة الثقافية بلسان عصرهم. 

لا ينبغي للدولة أن تكون مجرد حارس متشدد للتراث، ولا ممولا خجولا للحداثة. التجربة الماليزية في دمج الثقافة الإسلامية مع آليات السوق العالمية تثبت أن الجسر بين الهوية والانفتاح ممكن. في مصر، مشروع "الذاكرة الثقافية الرقمية" الذي أطلقته مكتبة الإسكندرية مؤخرا- برفع مخطوطات نادرة إلى السحابة الإلكترونية - هو اعتراف ضمني بأن الثقافة يجب أن تسبح في الفضاء الافتراضي كالأسماك في الماء. 

لكن.. ماذا عن خطر تحول الإبداع إلى سلعة؟ ها هي معارض الكتب تشبه مولا تجاريا أكثر منه ساحة ثقافية، وها هي روايات الأكثر مبيعا تزيح الأعمال العميقة إلى رفوف النسيان. هنا يجب أن نتذكر كلمات أدونيس: "الثقافة التي تبيع نفسها تفقد روحها". لكن الحل ليس في العزلة، بل في خلق توازن ذكي: مؤسسات خاصة تدعم المشاريع التجريبية، وجوائز أدبية ترفض أن تكون مجرد ديكور إعلامي. 

لا تنظر باستعلاء إلى فتاة الثانوية التي تكتب خواطرها على "الإنستجرام" بلغة هجينة بين العربية والإنجليزية. ألم تكن قصائد الصعاليك في الجاهلية صرخة ضد سطوة القبيلة؟ أليس "التكست" (Text) الشعري اليوم هو ابن الشرعي للقصيدة العمودية؟ الثقافة الحقيقية ليست حبرا على ورق، بل هي قبيلة متنقلة تحمل أدواتها حيث ترحل: من ألواح الطين إلى شاشات اللمس. 

في الختام، الثقافة العربية اليوم كراكب الأمواج: تحتاج إلى مهارة فائقة لتحافظ على توازنها بين أمواج العولمة العاتية وصخور التطرف الثقافي. لكنها- ككل أم عظيمة- تعرف أن أبناءها المبدعين، من محمد سلماوي إلى صانعي المحتوى المجهولين في زوايا الشبكة العنكبوتية، هم أملها في أن تظل حكاية هذه الأمة تروى... بلغة لا تشيخ.

***

د. عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم