أقلام ثقافية

زهرة الحواشي: حكايتي مع صالح القرمادي (4)

أو عمّ صالح كما كان يحلو لأصدقائه وطلبته ان يسمّوه

بدأت بترجمة النّصوص بعد أن قرأت ما يكفي عن شخصيته حتى ألج إلى فكره ومراميه وقناعاته ومذهبه وهذه حسب رأيي أوّل خطوة يتوجّب على المترجم أن يقوم بها في ترجمة الشّعر  فلا يكفي أن يمتلك النّص  ويحيط بلغته ويتقنها إذ لا مفرّ من أن يستحضر معه روح الشّاعر المؤلف ويسبر أغوارها ويكنه مكامن الوجع والفرح ومبعث الأحاسيس التي دفعته أو أغرته حتى يعلن ثورته ويصرخ بحروفه خارج كيانه ويطلقها للعالم الخارجي والمتلقّي

فإذا تحقق ذلك وامتلأ الشاعر المترجم بالشاعر المؤلف وجعل الأخير من الأوّل مسكنا لروحه يأوي إليه كلّما فتح المترجم صفحة من صفحات الكتاب ولهجت ذاته بما يخالجه عندها فقط تبدأ المسارب تتضّح والمعاني تتجلّى كما تتجلّى العروس في بهائها.

بدأت إذن بالترجمة وكلّما أتممت جزء من النّص أعود لمراجعته وأنا مرتعبة .

كان يخيّل إليّ أنّ عمّ صالح بذلك لوجه البشوش يقف أمامي وهو الأستاذ الذي أفنى سنواتٍ في التّدريس الجامعي لشتى اللغات والترجمة لآلاف الطّلاب وهو مؤسس علم الألسنية والباحث في غياهبها...

كان يخيّل إليّ أنّه يراقبني أنا "الدّخيلة" القادمة من شعبة البيولوجيا وحديثة العهد بالكتابة والاّداب وما أبعد عالمي عن عالمه وما أصغر جدولي أمام محيطه حتى أني اسميته حوت العنبر الأحمر لطابعه الثّوري وخاطبته:

Cachalot

je t'avale sec

indigeste tu es

je fouille dans ton ventre

je cherche l'ambre

des clés

mon carmin

où il est

حوت العنبر

بلهف شربتك

عسر الهضم على رقائق حواسي

أبحث في جوفك عن المدلولات

سلمني مفاتيح العنبر

قرمزي

هل تسمعني

وقد اكتشفت من بعض نصوصه مثل قصيدة    mer ma brune à sièste

mer ma brune aux cils serpents

brune ma mer aux fils d'argent

 شغفه الشديد بالبحر وذوبانه في امواجه.

كان يقف امامي كالعملاق فأبدو لنفسي دودة "تتشعبط" في جداراته وهو يرمقني بعيون ثاقبة وايضا بعين الامتنان لأنّي نقضت الغبار عن لحمته الحيّة التي كانت على وشك الاندثار ... ومعها ذاته وصفاته .

كان يلوّح لي بابتسامته الشّهيرة التي تعلو محيّاه وكان يهمس لي بلطف : حذار ايتها المغامرة العنيدة

حذار أن تحيد بك الألفاظ إلى معان لم أقصدها !

نعم كنت خائفة أن أخطئ في حقّ تلك الأمانة وكنت أقرأ ما ترجمته وأعيد قراءته ثم أتفطّن إلى أنّ النّصين لا يلتقيان بعد فأمزّق ما كتبت وأعيد المحاولة من جديد وأبحث عن المعاني من جديد ولكن الغموض في بعض النّصوص جعلني اتراجع مرات عديدة خاصة عندما اتّصل ببعض الشعراء في تونس أو في فرنسا ويعتذرون لي عن عدم فهم الجملة أو اللفظة التي اعترضتني.

قصائد اللحمة الحيّة مختلفة الأطوار والأطوال والوجوه والأنماط و كأنه اختزل فيها كل أعماق تونس شمالا وشرقا وغربا وجنوبا وسماء وأرضا وكلّ ابعادها الاجتماعيةوخاط أجزائها  بدراية ابن الأحياء الشعبية المفقّرة وبعين المثقّف الثوري العضوي الڨرامشي معتمدا تلك الكلمات الدّارجة le substrat dialectal فجعلها  فصلا واحدا ناسفا لكلّ الحدود  (و الشّرح بحور والحديث يطول.. )

استمرّيت في عنادي حتى بدأت أشعر أنّ النصوص الأصلية أخذت تلين في معانيها وأنّ النّصوص المترجمة بدأت تنصهر  معها (بدات تطيب) حتى أصبحتُ أحيانا لا أفرّق بين الأصل والتّرجمة وعندها فقط بدأت أفكّر في نشر الكتاب .

يتبع.

***

زهرة الحواشي - تونس

 

في المثقف اليوم