أقلام ثقافية

عبد السلام فاروق: ماتريوشكا من أسوان.. آخر إبداعات فتحى سليمان

بدءاً من غلاف الرواية البديع، وعلامة التعجب التى سترتسم فى مخيلتك وأنت تقرأ اسم الرواية، والتى تزداد حجماً عندما تقرأ حروف اللغة الروسية بحروف صغيرة كترجمة لاسم الرواية.. تشعر أنك مقبل على قراءة عمل مختلف للروائى المصري فتحى سليمان.. وهو روائى ومنتير ومعد برامج تليفزيونية من مواليد أسوان وله عدد من الأعمال الروائية السابقة لها نفس الطراز الملفت فى اختيار اسم العمل.. (على محطة فاتن حمامة).. (بولاق أبو العلا).. (شاي باللبن فى الزمالك)..

أول ما سوف تستشعره من السطور الأولى للرواية أنها ذات لغة سهلة سلسة تنتقل بك بين المعانى والأخيلة بشكل تلقائى بسيط وممتع دون عناء.. وبرغم تلك المباشرة والسهولة تدرك سريعاً أنها لغة ذكية عميقة بليغة تختصر عليك المسافات والأزمنة والمشاهد فى كلمات مختصرة منتقاة.. وهى تتأرجح لغة الحكى والسرد وبين اللغة الشاعرية فى بعض منحنياتها، كما يقتضى موضوع الرواية، أو عندما يأتى الراوى على ذكر ما يحبه من مشاهد، فهو عندما يذكر بلاد المنشأ يقول: (أسوان.. المدينة التي تقع فى آخر الدنيا وأول السماء.. وأينما كنت تعرف أين ينام النيل، كل الطرق تؤدى إلى نسيمه، وكل الأنفاس تتناغم مع أمواجه. النيل هو الطفل البكرى لكل عائلة، وهو خال اليتامى ووكيل كل العرائس. فى أسوان رؤية النيل ترمُّ جروح الروح)..

الحكاية تبدأ من عام 2004 بمشهد قصير خاطف قبل أن تعود بك سريعاً بطريقة الفلاش باك إلى عام 1959 حيث بدأت بلقاء عابر بين بطل الرواية"حسن" وبين امرأة روسية يراها بالصدفة فى القاهرة تدعى " أولجا"، ثم إذا بالصدفة تجمعه بها فى أسوان التى كانت مسرحاً للالتقاء الأضداد أيام بناء السد العالى.. هنا تتحول الرواية إلى كادر سينمائى يعود بك القهقرى سنوات كثيرة حتى لكأنك فى أجواء تلك الحقبة وتندمج معها ومع أجواء العمل الضخم الذى جمع بين أشتات ومتناقضات عديدة.. خليط متباين من أنحاء مصر "صعايدة وبحاروة وسواحلية" مهندسون وعمال فى مختلف التخصصات، وبينهم خبراء وعمال وعاملات من الاتحاد السوفيتى بينهم بطلة الرواية. إنه التقاء الأضداد.. الرجل الأسوانى الأسمر بالسوفيتية البيضاء، والتقاء الشمال الثلجى بالجنوب القائظ، والتقاء صدفة اللقاء بصدفة الفراق؛ إذ لم تكد علاقة الحب تولد وتتحول إلى ثمرة حتى يأت الفراق عنيفاً خاطفاً ليغلق تلك المرحلة من الرواية وينقل القارئ إلى مرحلة جديدة من رحلة بحث ونجاح فى الحياة ، ثم صدام مع واقع اجتماعى مرير يتزوج فيه بطل الرواية زواجاً تقليديا لا يدوم، وتأتى ثمرته فى صورة ابن لا يعيش مع أبيه ويتجرع من أمه كراهية وبغضاء تتنامى ضد أبيه.. إنهما ضدين جديدين فى الرواية.. كلاهما على طرفى نقيض.. أحدهما ينطلق لروسيا يتعلم فيها اللغة الروسية حتى يصير كأهلها، ويحصل على دكتوراه فى بناء السفن ، ولا يتوقف عن البحث عن حبه المفقود فى هذه الأثناء.. بينما ابنه الذى أنجبه من زواجه التقليدى الذى انتهى سريعا بالطلاق بات متطرفاً فى أفكاره واتجاهاته، وفى اللقاء الوحيد الذى جمع بينهما يحدث الصدام بين اتجاهين متضادين يمينى ويسارى.. فكيف ينتهى هذا الصراع؟ وهل يلتقى بطل الرواية مجدداً بحبه المفقود؟ وكيف يحدث هذا اللقاء إن حدث؟

تلك تساؤلات تظل تدور فى ذهن القارئ حتى يجد نفسه قد أتى على الرواية كلها بلا شعور منه، بسبب ما تتركه فى الذهن من خيوط غير مكتملة، وفخاخ تشويقية متقنة تستحثك على التوغل فى قراءة الرواية حتى آخرها..

أجاد الروائى فتحى سليمان استخدام أدواته لصياغة عمل متكامل بارع النسج.. وبدت براعته واضحة فى طريقته الانسيابية للانتقال بين مراحل الرواية من حيث المحتوى القصصى واللغوى بحيث لا تشعر بالاختلاف الطفيف بين اللغة الشاعرية الأولى واللغة السردية التالية، أو بين اللون الوردى الذى يصبغ بدايات الرواية، واللون الرمادى الذى بدأ يشيع فى الرواية شيئاً فشيئاً بها.. غير أن تلك الانتقالة الانسيابية أهملت فى طريقها الوصفى للأحداث والأماكن، أن تهتم بوصف الشخصيات بنفس القدر.. فكان عبورها السطحى على الشخصيات سبباً فى غياب التعاطف معها أو ضدها، كما تسبب فى شئ من التشتت حولها، حتى لتضطر أحياناً للعودة إلى صفحات سابقة لتتأكد من اسم شخصية ما أو صلتها بالحكاية.. فى المجمل لم يؤثر ذلك الأمر كثيراً على بنيان الرواية وجودتها..

ماتريوشكا من أسوان.. عمل جديد بديع لفتحى سليمان يستحق القراءة..

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم