أقلام ثقافية

مصطفى غلمان: في دأب الكتاب وتَعَشُّقه

إلى محمد ايت لعميم صديقا وإنسانا

يتمعن الناظر فيما سيؤول إليه حاله، لو افتقد روح ذاكرته؟ كيف يحيا، وكيف يدرأ عن عزلته شح الطلع ومكانة الارتقاء؟ . والأعجب أن الذاكرة لا تفوق نباهة، ولا استذكاء، نبش لهيبها وإرواءه بما تجبل النفس على التحبيب والإفراغ النوسطالجي، وما نستحضره اليوم في هذه اللحظة الجميلة، ونحن بإزاء تكريم صديقنا سي محمد ايت لعميم، هو جزء من هذا التصور، حيث نعمد جميعنا إلى تحريك قٍدر الذاكرة وتفييئها، لنعيد إثارة الأحاسيس الثاوية فينا، مندسين تحت لفيف شجرها المفتون بأسرار الصداقة ومحبة الكتابة والحرص على استمرار ولعنا بالثقافة وشجونها، كما أحلامنا وطموحاتنا.

لا أذكر شيئا من معين هذه المسيرة الطويلة، من رفقتي بالمكرم، منذ ما يقرب الثلاثين سنة ونيف، إلا وأذكر ما يملأ بؤبؤ تاريخ من علاقة آسرة بالثقافة والكتاب. ولا أذكر ايت لعميم، إلا وأذكر صورته متأبطا كتابا أو ملتحفا رواية أو مكتشفا قولة في معبر الفكر وسداد الكلٍم. والأغلب أنني أذهب إليه مشمرا بهاجس الاستماع وتلقي الجديد أكثر من أي شيء آخر. وهو إذ يفطن إلى ذلك، لا يحجب عني البتة، رؤيته كمستبصر حكيم، يتقرب بما يقول لوجه المعطي، ضاربا بالأمثال ومتعللا بيواقيت المنثور في كل بقاع الإبداع، يمخر عباب المسك، كأنه يروي الأحجار الصماء من يبوسة الوهن وانفراط التأمل.

وإذ أتذكر يوما ونحن ذاهبان مشيا لملاقاة خوان غويتوسولو بداية تسعينيات القرن الماضي، أرخي بطول سمعي وبصري متوثبا، كي ألقٍف ما تعج به سنارته، على مفرق شغف الرجل وانتباته الجديد على أرض جامع الفنا، يحكي لي ايت لعميم عن سرديات صاحب ثلاثية "السيرك" (1957) و"أعياد" (1958) و"الاستفاقة من السَّكرة"(1958)، عاشق اللغة العربية الحالم بـ"سرفانتيس"، وكيف كان يتباهى بهويته المراكشية وعشقه الأبدي لدروبها وحوارييها وناسها البسطاء وتراثها المعماري الخالد.

يتوق ايت لعميم دوما ، إلى مخالفة أقرانه من التراجمة والنقاد والباحثين، في البحث المضني عن انوجاد استثنائي يليق بقيمة الأدب وجواهره المتفردة. ولا يجد مانعا من ارتقاء هذا الاختيار الصعب، شرط أن تكون جودة المأمول أوفر نفعا وتنفعا، من أن يطاله هدر أو هشاشة. فهو مستبد بعوالم الشعريات، ذهنية كانت أو نظمية، يلحقها طوق الجمال والجلال، دون افتراق أو انتحال. فيروم معظما أبي الطيب المتنبي، الذي خصه بمكانة مرموقة في بحثه الأكاديمي لنيل الدكتوراه. وهو مبتل بقصيدة النثر وحصادها السيروري الدؤوب على طول مرمى الجدل الذي حاصرها منذ ثمانينيات القرن الماضي، ودليلنا هذا الكتاب الذي نتناول جزءا مما كسبت يداه.1078 ghalman

وهو مبهور بتاريخ المخطوط وتحقيقاته، لم يأل جهدا في الحفاظ على تراث قدوته الأول والده الفقيه طيب الله ثرا، ويزاحم كل طيب وثرى لبيب فيما يهجع إليه فؤاده ويندى. كما أنه قارئ متمكن في شؤون الفكر والأدب والفلسفة، ولا يجد أي رفض لطبيعة تكوينه وتوجهه في قياس النصوص المتقدة، أن يعول على آليات خطابات البلاغة والنقد وعلوم النحو والصرف والعلوم المجاورة لها، حتى إنك لتحن إلى طفولتك وشبابك عند استذكار فضاءات المسيد والمدرسة والجامعة، عندما كنا نتسابق لحفظ القرآن وأحاديث الرسول ومعلقات شعراء الجاهلية وغير ذلك...

هذه بعض من نثارات ما صادته ذاكرتي، كتبت بعضها في مذكرات تنتظر فرصة للخروج، وهي على وفرة أمواهها، تعترك في صدور البوح، وتتعالق في مفارز الاستيقاظ...

وهنا أتمثل قول الشاعر:

سلام على تلك الدفاتر إن لي ..

إليها غراماً فوق كل غرام

سلام عليها إن حييت وإن أمت..

فهذا وداع والدموع دوامي

 وما للجاحظ الصنديد على ذلك ببخيل، وهو الذي ترك ملحمته الحيوانية مفتونة بالكتابة والانكتاب، إذ يقول:

"من لم تكن نفقته التي تخرج على الكتب ألذ عنده من إنفاق عشاق القيان لم يبلغ في العلم مبلغاً رضياً".

***

د. مصـطـــفَى غَـــلْمَــان

...................................

* مقدمة لعنوان قراءة بمناسبة الاحتفاء بكتابات الناقد والباحث د محمد ايت لعميم، التي نظمت بكلية اللغة العربية بمراكش يوم السبت 15 فبراير 2025

في المثقف اليوم