أقلام ثقافية
علي حسين: نازك في السراي
عندما يُذكر امامنا الشعر الحر في بلدان العرب، تطوف في اذهاننا صور نازك الملائكة والسياب والبياتي. ونعرف جيدا ان السياب مات على سرير المرض في الكويت، والبياتي دفن في سوريا، ومصر احتضنت قبر نازك الملائكة، واذا أردت المزيد ستجد الجواهري الكبير بعيدا عن دجلة الخير في مقبرة الغرباء في دمشق. وقريبا منه مصطفى جمال الدين عاشق بغداد الذي تمنى لها عمرا اخضر تواجه به الاعاصير، فيما يرقد بلند الحيدري وسعدي يوسف في احدى مقابر لندن، وهناك قبور في الغربة لفوزي كريم ومؤيد الراوي، وسركون بولص ولميعة عباس عمارة وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي، وتحتضن مقبرة الشهداء الفلسطينيين في بيروت قبر عراب الكتابة الصحفية شمران الياسري .
في السنوات الاخيرة تحاول بغداد ترميم ذاكرتها الثقافية مدينة سكنية باسم الجواهري، شارع باسم ابو كاطع، ومجسر فائق حسن ونصب في شارع السراي لأبرز اعلامها " نازك الملائكة " الشاعرة التي عاشت وماتت وهي تنتمي إلى فكر وثقافة مضادة لاثنين، التخلّف ودعاة الوطنية الزائفة . لم يسهم احد مثلما فعلت نازك الملائكة في فرض التجريب الشعري الذي عرف بالشعر الحر على خارطة الادب العربي. فقد كانت اول من كتب ونظر له، فارتبط باسمها لانها ابدعت ودافعت عنه. كانت حجر الاساس في تشكيل ظاهرة ادبية. وكان لها شرف الريادة ببلورتها لنظرية شعرية حديثة وايضا ثورة اجتماعية لم يكن بامكان امرأة غيرها ان تكتب في منتصف الاربعينيات قصيدة تندد فيها بازدواجية المعايير بالنسبة للمرأة في مجتماعاتنا، فكانت قصيدتها " غسلا للعار " نص من نصوص المقاومة في سبيل تحرير المجتمع كاملاً :
ياجارات الحارة .. يا فتيات القرية
الخبز سنعجنه بدموع مآقينا
سنقص جدائلنا وسنسلخ ايدينا
لتظل ثيابهم بيض اللون نقية
لا بسمة، لا فرحة، لا لفتة. فالمدينة
ترقبنا في قبضة والدنا واخينا
وغدا من يدري أي قفار
ستوارينا غسلا للعار
عاشت نازك الملائكة حياتها مثل دون كيشوت تحارب طواحين الجهل والموت، لكنها في النهاية مثل بطل سيرفانتس استسلمت بعد أن وجدت نفسها وحيدة، يحيط بها صمت دائم .. المرأة التي فتحت أبواب الحداثة الشعرية، أمضت سنواتها الاخيرة منزوية، توغل في الصمت، وسيتآمر عليها العمر والمرض لتسقط في العشرين من حزيران عام 2007 بعيدة عن بلادها التي احبتها وتمنت ان تستند في ايامها الاخيرة على اسوارها .
تنتبه بغداد اخيرا لنازك الملائكة، نصب في السراي ومكتبه في القشلة، ينبهان الاجيال القادمة أن في هذه البلاد عاشت امرأة عراقية كانت جريئة ومحبة سيكتب لها ولذكراها البقاء.
***
علي حسين