أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: قصتي مع أبي حيّان التوحيدي

تعرّفت عليه، أول مرّة، وقرأت له وأنا لمّا أزل في الصف الخامس أو السادس، كان ذلك عندما طلب مني بائع فلافل كنت مولعا بفلافله، أن أقترب منه ليفاجئني بكتاب دون غلاف قائلا ما مُفاده، اقرأ هذا الكتاب. أعرف أنك تُحبّ الكتب. انا مُتأكد من أنه سيعجبك. حملت الكتاب وطرت به إلى بيتنا في الحي الشرقي من مدينة الناصرة، ورحت اقرأ مُقلّبًا صفحاته برغبة هائلة ودهشة نادرة، كنت مُعجبًا بما أطالعه في ذلك الكتاب، مِن نقد لاذع لهذا الوزير العربي القديم أو ذاك، أما ما أعجبني في العُمق، فهو أن ذلك الكتاب سمّى الأشياء بأسمائها وكان صريحًا ومكشوفًا إلى اقصى ما يُمكن أن يصل إليه الكلام من الانكشاف والصراحة. وكان السؤال الذي أقلقني هو مَن هو مؤلف ذلك الكتاب؟، فانا أريد أن أتعرّف إليه وإلى بقية مؤلفاته اذا كانت له مثل تلك المؤلفات. لم يطل تساؤلي هذا، بعد أيام وضعت الكتاب في حقيبتي المدرسية وعندما حان وقت درس التاريخ، وقفت في مدخل غرفة الدرس انتظر مُدرّس التاريخ الأستاذ محمود كناعنة، فقد كنت أعرف أنه قارئ مُطّلع ونهم، وأنه سيعرف من هو مؤلف ذلك الكتاب.. بل ما هو عُنوانه.. تناول المُعلّم الكتاب مِن يدي.. قلب صفحاته وقدم لي الإجابة الوافية الشافية لكلّ ما أقلقني وأثار حُبّ استطلاعي، فيما يتعلّق بالكتاب ممزق الغلاف. قال هذا كتاب مثالب الوزيرين، أما مؤلفه فهو أبو حيان التوحيدي.
وتمضي الأيام، الشهور والسنين، ليبقى ذلك الاسم يرنّ في أذني، وكنت كلّما أعدت قراءته شعرت وكأنني اقرأه المرة الأولى. وكانت مؤلفات أبي حيّان التوحيدي وكلّ ما يتعلّق به، وُجهتي أنّى ترحّلت وتنقّلت، بعد عام النكبة الكبرى 67، انفتحتنا قليلًا على مناطق عربية، في طليعتها الضفة الغربية ، وكنت قد شببت عن الطوف قليلًا، وشرعت في شراء الكتب والمجلات من بسطة، كان يمتلكها شخصان من مدينتي، هما هاني السفاريني وعزيز أبو سنّة، طيّب الله ذكرهما، وكان كتاب " أبو حيان التوحيدي- أديب الفلاسفة وفيلسوف الادباء"، تأليف الدكتور فؤاد زكريا، من أوائل الكتب التي حصلت عليها آنذاك، بعدها أخذت أتردّد على المكتبة الحديثة لصاحبها الصديق الكاتب المرحوم ادمون شحادة، وكنت دائمَ الالحاح عليه في أن يُحضرَ لي مؤلفات أبي حيّان التوحيدي، خاصة كتابه " الامتاع والمؤانسة"، وبقيتُ أسأله فترةً ليست قصيرة مِن الزمن، إلى أن جاء اليوم الذي قدّم إلي فيه الكتاب الاخاذ، الساحر الضخم، الذي طالما قرعت رأسه وأقلقت راحته بطلبي إياه منه. في فترات تالية حصلت مِن هذه المكتبة أو تلك على كتب أبي حيّان فها أنذا أحصل على كتابهِ الآسر عن الصداقة والصديق، وبعده أحصل على كتاب المُقابسات، والاشارات الإلهية، والرسالة البغدادية، كما أحصل على كتابه الضخم البصائر والذخائر، وقد ضممتُ هذه الكتب وغيرها من مؤلفاته العزيزة الغالية، إلى مكتبتي البيتية، وهي ما زالت هناك، تنتظرني وانتظرها.
إضافة إلى ما تقدّم أحببت في أبي حيّان ثقافته الموسوعية الواسعة، تلك المعلومات التي عبّر عنها في كتابه الامتاع والمؤانسة، فأنا في كلّ واحدة من المسامرات التي ضمّها الكتاب أجد نفسي أمام وجبة أدبية ثقاقية وافية وكافية، أما لغته فهي قريبة من قلبي وعفلي، وتؤكد ما قيل عنه وقرأته فيما بعد وعن رصانة أسلوبه الادبي الذي أعاد إلى النثر العربي رونقه بعد أن شهد شيئًا من الترهل، وبعث الحياة في تلك الرصانة التي عُرف بها أديبا العربية الأكبران أبو عثمان ابن بحر الجاحظ وعبد الله ابن المُقفّع.
في فترات تالية لاحظت إلى تلك الشاعرية المتدفّقة في أسلوبه المُميّز، لا سيّما في كتابه الإشارات الإلهية، فهو يكتب في هذا الكتاب، ما يشبه قصيدة النثر، ويكاد الكلام فيه يطير بجناحين من تصوف ومشاعر سيالة متدفقة، تدُل فيما تدل على محبة غامرة بالتعبير الادبي الرصين وبالروح الشفافة المتشوّفة لكلّ ما هو رقيق وجميل في الحياة. عندما قرأت هذا الكتاب، بتحقيق الكاتب المفكر العربي المصري عبد الرحمن بدوي، شعرتُ أن ما ضمّنه إياه أبو حيان التوحيدي، يمكن اعتباره عابرًا للازمان وأنه كتب في القرن الرابع الهجري في الواقع غير انه مناسب للقراءة في كل العصور، وفي عصرنا الحالي بالتحديد، هل كان أبو حيان حداثيا الى ذلك الحد؟، هذا ما اعتقدت به وما أزال، لا سيّما وفق تعريف مُحرّر مجلة "شعر" الشاعر اللبناني يوسف الخال، عندما عرّف الحداثة بأنها مُلامسة الشاعر المبدع عامة للحسّ العصري، وأذكر في هذا السياق أن يوسف الخال، رفع مفهومَه للحداثة إلى مستوى عالٍ، عندما رأى فيه مفهومًا يتخطى الازمان ويُعبُر القرون، وهو ما يعني، وفق ما كتب، أننا قد نرى في شاعر عاش قبل ألف سنة وأكثر شاعرًا حداثيًا.. وأكثر حداثة من شعراء يعيشون بين ظهرانينا!!..
بهذا المفهوم تعاملت مع ما خلّفه أبو حيان التوحيدي من تراث أدبيّ ثمين، وطالما تذكّرت وأنا اقرأ ما ينشره الكثيرون مُدّعين أنه قصيدة النثر، ما كتبه أبو حيان في اشاراته الإلهية، ذلك الكتاب التصوفي، مُجنّح الكلمات، طائر العبارات، فرأيت الفرق بين العبث والجد، أو بين الهزل والجد وفق تعبير الجاحظ. في ذيل هذه المقالة سأنشر قطعة او قطعتين من هذا الكتاب مرتّبًا إياهما ترتيبًا شعريًا لإثارة مَن يحب أن يستثار.
أمر آخر جذبني إلى هذا الكاتب الذي أطلِق عليه لقب جاحظ القرن الرابع الهجري، ولمن لا يعرف، يُعتبر هذا القرن من أزهى فترات النثر الادبي العربي والادب العربي عامة. وما زاد في اعجابي به وتقديري لإبداعه الادبي، هو حساسيته وثقافته الموسوعية، كما ذكرت آنفًا، أمّا فيما يتعلّق بثقافته هذه، فيمكنني القول في إنها تمثّلت في فيض من المعلومات التي تمكّن صاحبُها مِن عرضِها بأبهي شكل وأروع صورة، وأما حساسيته، فهي ذلك الشعور بالأنفة والاعتزاز بالنفس، رغم ضيق ذات اليد الذي عاشه حتى أيامه الأخيرة في الحياة، ومما يُذكر في هذا المجال أنه عاش غريبًا ووصف الغربة في أشد أنواعها قسوة، بأنها إنما تكون في الوطن وبين الاهل، عندما لا يفهمنا هؤلاء متعمّدين قاصدين.
كلّ هذا التقدير والاحترام لهذا الكاتب، دفعني في أواخر السبعينيات (عام 1979 تحديدًا)، لأن أكتب مجموعة شعريةً كاملةً وضعتُ لها عُنوانًا يخصّه هو " قصائد إلى أبي حيان التوحيدي". وقد صدرت هذه المجموعة بالاشتراك فيما بين دار المشرق وجامعة حيفا، وأذكر أنني خاطبت نفسيني الشبيهة بنفسية أبي حيّان التوحيدي، في اكثر مِن وُجهةٍ وناحية، منها النقمة على واقع مكروه ومرّ، وغُربة المثقف في وطنه وبين أهله، ليعيش أقسى أنواع الغربة واشدّها وقعًا على النفس المُعذّبة، أقول خاطبته قائلّا: ضع يدكّ على خدِك أو فارحل أن الليلَ طويل.
***
ناجي ظاهر
.........................
*ذيل أو حاشية. نموذجان من نثر أبي حيّان التوحيدي منتزعان ومرتّبان بطريقة قصيدة النثر، أقدمهما فيما يلي:
* يا هذا أين أنت عن غريبٍ طالت غربته في وطنه،
وقلَّ حظّه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟
قد عَلاهُ الشُّحوب وهو في كِنّْ،
وغلبه الحُزن حتى صار كأنه شِنّ.
إن نَطَقَ نطق حزنانَ منقطعاً، وإن سَكَتَ سكت حيرانَ مرتدعاً.
وإن قَرُبَ قربَ خاضعاً، وإن بَعُدَ بعدَ خاشعاً،
وإن ظَهَرَ ظهرَ ذليلاً، وإن توارى عليلاً،
وإن طَلَبَ طلبَ واليأسُ غالبٌ عليه، وإن أمسَكَ أمسك والبلاءُ قاصدٌ إليه.
وإن أصبَحَ أصبح حائل اللون من وساوس الفكر،
وإن أمسَى أمسى مُنْتَهَبَ السرِّ من هَواتِكْ السّتْر؛
وإن قالَ قال هائباً، وإن سكتَ سكتَ خائباً؛
* يا هذا!
دعْ سكران الهوى حتى يتهادى في سكره،
ودع مقلّد الحال حتى يتمادى في نكره،
ودع مدبّر الخلق حتى يوصف بذكره.
ودع المحتاج حتى يموت على حاجته،
والمريض حتى يتناهى في دنفه،
والتلف حتّى يفضي إلى تلفه.
عندما تجاوز ابو حيان التوحيدي التسعين عاما من العمر، قام بإحراق كتبه، مُعلّلًا فعله هذا بقوله.
* ثم اعلم، علّمكَ الله الخير، أنّ هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته، فأما ما كان سرّاً فلم أجِد له من يتحلّى بحقيقته راغباً، وأما ما كان علانية، فلم أصب من يحرص عليه طالباً، على أنّي جمعت أكثرها للناس، ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة بينهم ولمدّ الجاه عندهم فحرمت ذلك كلّه، ولا شكّ في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي، وربطه بأمري، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجّة عليّ لا لي، وممّا شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه، أنّي فقدت ولداً نجيباً، وصديقاً حبيباً، وصاحباً قريباً، وتابعاً أديباً، ورئيساً منيباً، فشقّ عليّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنّسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفّحوها، ويتراءون نقضي وعيبي من أجلها فإن قلت: ولم تسمهم بسوء الظن، وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم.
*لحُسن الحظ نجا مُعظم النتاج الادبي لأبي حيّان مِن الحرق.
النص أعلاه منقول عن معجم الادباء لياقوت الرومي الحموي.
*في الرسمة المرفقة أدناه. أبو حيان التوحيدي كما تخيّله الفنان