أقلام ثقافية

ثامر الحاج أمين: جلال الدين الرومي.. العارف الذي توضأ بالمحبة

حين دنت منيته واجتمع الأتباع حوله داعين له بالسلامة وتجاوز محنة المرض التفت اليهم قائلا (الأرض جائعة وتطلب لقمة دسمة) ولم تمر أيام قليلة حتى فارق الحياة وكان هو اللقمة الدسمة التي أرادت الأرض ان تفرح به وتزداد خصوبة من فيض عطائه وعظيم فكره، وبهذه الجملة المعبرّة عن حكمة وحياة زاخرة بالتجارب ودع الحياة في مدينة قونية التركية امام العارفين والمتصوفين (جلال الدين الرومي 1207 ــ 1273م) أحد أبرز أعلام التصوف الفلسفي في التاريخ الإسلامي تاركا وراءه إرثا جماليا وانسانيا جليلاً، وعلى الرغم من تواضعه ولم ير ضرورة من إشادة القبور الضخمة وكان يقول (ان الضريح الحقيقي يجدر بناؤه في القلب) الّا ان الأمور لم تجري حسب رغبته، فالأتراك ولشدة تعلقهم برمزهم المقدس العارف " جلال الدين الرومي" خالفوه الرأي وشيدوا له عام 1926 ضريحا ضخماً في مدينته قونية ــ 460 كم عن اسطنبول ــ وعلى مساحة تقدر بـ 6500 متر مربع وصار اليوم مزاراً معروفا في تركيا، ويروى ان في يوم تشييعه هرع سكان قونية جميعاً لحمل نعشه على اكتافهم دون تمييز بين عِرق وعِرق ولا بين دين ودين وكان اليهود والنصارى يتلون التوراة والانجيل، والمسلمون ينحّونهم فلا يتنحون وبلغ ذلك حاكم المدينة، فقال لقساوستهم ورهبانهم: مالكم ولهذا الأمر والجنازة لعالم مسلم؟ فقالوا: به عرفنا الحقيقة، هكذا صار جلال الدين الرومي مصدر إلهام لكل الناس وثروة نفيسة لكل الشعوب المثقفة لما في فلسفته من موعظة وحث على التسامح بين الناس بعيدا عن قومياتهم ومذاهبهم .
عاش الرومي شخصية متعددة الابعاد فهو شاعر ومتصوف وقديس ومرشد روحي وكان زاهدا بالمال والملذات ماعدا الحب، فهو لا يحسد احد على ماله او ملكه بل يكفيه فخرا انه اسير الحب حيث يقول (بارك الله لعبيد المادة وعباد الجسم في ملكهم وأموالهم، لا ننازعهم في شيء، أمَّا نحن فأسارى دولة الحب التي لا تزول ولا تحول) فهو يرى للحب مفعول سحري اذ « يحوِّل المُر حلوًا، والتراب تبرًا»، معتبرًا أن تلك العاطفة السامية تصل بالإنسان إلى حالة من السعادة قد لا يصل اليها بالطاعات والعبادات فقط وينصح ان تكون عماد العبادة هو نظافة القلب وسلامته من الأحقاد والبغضاء (توضأ بالمحبة...فالصلاة لا تجوز بقلب حقود) ويعطي للحب صفة الخلود في قوله (وكل شيءٍ إلى زوال ويبقى الحب) ويجد نفسه (مولود للعشق) ويعتبر الحب هو رديف الحياة لذا ينصح (لا تكن بلا حب، كي لا تشعر بأنك ميت، مُت في الحب وابق حيا للأبد) ويرى ايضا انه (من دون الحب .. كل الموسيقى ضجيج، كل الرقص جنون، كل العبادات عبء) .
ان جانبا كبيرا من ثقافة الرومي وفلسفته العميقة تناولت الحب على انه وسيلة لبلوغ السمو والرفعة، كما يرى ان جميع من جهلوا الهوى اموات ويعيب على تجار الحروب (إنهم مشغولون بالدماء.. بالفناء، أما نحن فمشغولون بالبقاء، هم يدقون طبول الحرب، نحن لا ندق إلا طبول الحب) وكان يؤمن بأن الحب هو جوهر الوجود الانساني ويراه نعمة ومصدرا للسعادة والسلام الداخلي وله قوة سحرية في السمو بالأرواح واحاطتها بالقدسية حيث يقول عن قوة تأثيره:


لو أن زهرة نبتت لي
في كل مرة فكرت فيك
لمشيت في حديقتي إلى الأبد
ما لمس الحب شيئا إلا وجعله مقدسا
الحب لا يمكن ان تتعلمه او تدرسه
الحب يأتيك كنعمة .. !

بهذه اللغة البسيطة والعاطفة الصافية والبصيرة المتنورة تمكن الرومي ان يصل بإرثه إلى جموع واسعة من الناس واصبحت قصائده وعلى مدى عقود طويلة مصدر الهام العديد من البشر في العالم واهتمام المنظمات الدولية المعنية بالثقافة.
***
ثامر الحاج امين

في المثقف اليوم