أقلام ثقافية

ناجي ظاهر: تداعيات الحنين

حدث ذلك قبل حوالي العقد من الزمان، يوم ناولني الشاعر الصديق الدكتور فهد أبو خضرة مجموعة شعرية لموهبة جديدة وصاعدة من مدينة حيفا كما قال. كنت حينها أقوم بالتعاون مع هيئة تحرير مواقف، المجلة التي أصدرتها عبر سنوات جمعية المواكب، وتوقّفت حاليًا عن الصدور. تناولت المجموعة من يد الصديق فهد. قرأتها وقدّمتها إلى المطبعة لتصدر ضمن منشورات مواقف، مُحمّلةً بعنوان حين يجن الحنين، وقد صدرت مُرفقة بالعدد الجديد من المجلة. تلك كانت المجموعة الشعرية الأولى للشاعرة حنان جريس خوري، ابنة مدينة حيفا التي رحلت يوم الاحد الخامس عشر من آب العام الفائت 2024.

صاحبة هذه المجموعة هي ابنة لعائلة مُهجّرة من قريتها البروة، والدها هو الأستاذ المُربّي ومعلّم اللغة العربية الأستاذ جريس جبران خوري (1938- 2021)، ووالدتها هي المُربية فادية خوري، أما عمُّها شقيق والدها الأكبر فهو الكاتب المعروف سليم خوري(1934- 1991) صاحب وريث الجزار. كانت حنان ابنة لعائلة مُحبّة عاشقة للغة العربية وآدابها، غير انها اختارت أن تدرس علم الاجتماع وعلوم الفيزياء والرياضيات للقب الجامعي الأول، والفلسفة وعلم النفس والدين للقب الثاني، من جامعة القدس العبرية. عملت حنان أخصائيّةً اجتماعية في مجال الصحة، وقد عملت في مستشفى هداسا عين كارم ومستشفى رمّبام وغيرها من المؤسسات العلاجية الاجتماعية النفسية. في الفترة الأخيرة ألمّ بها المرض ولم يمهلها طويلًا، فرحلت وهي لما تُكمل عامها الثاني والخمسين.

بالعودة إلى مجموعتها الأولى هذه، قُمت في البداية بالاتصال بها لاطلاعها على مُجريات طباعتها، كما كان دأبنا في مواقف، في التعامل مع مَن نقوم بطباعة كتاب لاحدهم، وما زلت أتذكر تلك اللهفة وذلك الامل الذي ردت علي به، فقد كانت متشوّقة كلّ الشوق، لطباعة مجموعتها الشعرية الأولى التي تُطبع لها وهي لما تزل في ذروة الشباب، أما المُناسبة التي كمنت وراء تقديم الدكتور فهد أبو خضرة تلك المجموعة، لتصدر ضمن منشورات مواقف، فقد جاءت بعد أمسية شعرية، عُقدت في خيمة البادية في عُسفيا، وضمّت لوحات فنّية من إبداع الفنان الحيفاوي كميل ضو المعروف ببراعته الفنية في مجال الخط العربي، وقد قامت اللوحات التي عُرضت آنذاك على كلمات من ابداعات حنان جريس خوري، وهو ما لفت نظر الدكتور فهد إليها، لا سيما عندما استمع إليها وهي تُنشد شيئًا من كتاباتها الشعرية. لقد تعرّفت خلال اتصالي بحنان عليها اكثر وأذكر أنني اتفقت معها، على أن تزورنا في موعد، قُمنا بتحديده في مطبعة النهضة في الناصرة، حيث كنا نقوم بتحرير المجلة أولًا وطباعتها ثانيًا، وذلك برفقة والدها أستاذ اللغة العربية المحترم.

في الموعد المُحدّد استقبلنا صاحبة الكتاب ووالدها الأستاذ المعروف، وجرى بيننا حديث حول الشعر والادب، فهمتُ خلاله أنها لم تكن وافدة جديدة على عالم الادب والشعر، وأن موهبتها في ذلك المجال المحبّب ابتدأت منذ أيام دراستها الابتدائية، وأنها نمت يومًا بعد يوم، شهرًا اثر شهر وسنةً بعد سنة. أطلعتُ يومها زائري على المُقدِّمة التي كتبتها للكتاب، فأعربت صاحبته عن سُرورها بها، موضحةً أن ما كتبته جاء في الصميم وعبّر عن مكنونات ما أرادت أن تقوله، عن والشوق لكل ما هو جميل وراسخ في النفس التواقة للرقة والحلم الرومانسي. أما والدُها فقد فضّل الصمت، وعندما جرى الحديث عن علاقة صداقة ربطتني بأخيه الكاتب الراحل سليم حوري، افترشت وجهَه ابتسامة فاضت بكلّ ما لديه مِن ذكريات طيبة عن أخيه الكاتب القصصي والمسرحي اللامع.

بعد صدور مجموعة حين جن الحنين، تواصلَ الاتصالُ فيما بيننا قليلًا إلى أن انقطع، ليستمر بصورة أخرى، أعرفُها جيدًا، فأنا أتابعُ كلّ ما يتعلّق بالحياة الأدبية في البلاد، وبما أنني كنت مُشاركًا في صدور ذلك الكتب، فقد تابعت أخباره باهتمام شديد، فهذه أمسية شعرية تَحتفي به، يتولّى إدارتها الصديق الإعلامي رشيد خير، إضافة إلى كوكبة من أصحاب الأسماء الذين أكن لهم الكثير من التقدير والاحترام مثل الكاتب الصديق فتحي فوراني وعضو الكنيست في قترة سابقة عصام مخّول، وغيرهم ممن لا تحضُرني أسماؤهم للأسف، بل ها هو الصديق رشيد خير يستضيف صاحبة الكتاب، بعد نحو العام من صدوره، وها هي تستفيض في التحدّث عنه وعن محبّتها للكلمة المجنحة الطائرة. بل ها هو نادي حيفا الثقافي بإدارة الصديق المثقّف فؤاد نقارة وخدينته سوزي، يحتفل يجنون الحنين، ويرحّب بها ضيفًة عزيزًة غاليًة في ديوانه الفخم.

والآن بعد أن رحلت حنان جريس خوري عن اثنين وخمسين عاما لا أكثر، ماذا بإمكاني أن أضيف، لقد أصدرت حنان بعد خمسة أعوام من مجموعتها الأولى تلك، مجموعتها الثانية والأخيرة، مُحمّلةً إياها عنوانًا يُكمل عنوان كتابها الأول، هو في حضن الورد. رحم الله حنان جريس خوري، فقد أحبت والدها حُبًّا جمًّا وقدّرته حقّ التقدير، ولم تَعش بعد رحيله سوى ثلاث سنوات.. لتمضي مُواصلةً في طريق الشعر، الحنين والورد.

***

ناجي ظاهر

في المثقف اليوم