أقلام ثقافية
علي الطائي: الشعرُ للشعر

سألني أحدُهم: لماذا تكتبُ الشّعرَ؟
وسألني آخرُ: ما نفعُكَ من كتابةِ الشعر؟
وآخرُ: ماذا جلبَ لكَ الشعرُ؟ أما كان لك شُغلٌ بغَيره؟
قلتُ مع نفسي (قبل أن أجيبه): لو كان هذا شاعراً، ما سألني هذا السؤال. ولو كان ناقداً حقيقياً، ما سألني.
عدتُ إليه فكان جوابي (على سذاجته)، والحق أقول، أنني لم أكن أعلم ما الجواب، إلا أنني قلت له: أكتبُ الشعرَ للشعرِ. أكتبُ الشعرَ لنفسي.
حينما يتثاءبُ الإنسانُ، فاعلم أنه بحاجةٍ إلى النومِ، وحينما يستأذنك في الذهابِ، فاعلم أنه ربما تعبَ من الجلوسِ إليك. وأنا حينما أقضي ساعاتٍ طوالًا في كتابةِ قصيدةٍ ما، فاعلم أنني بحاجةٍ لأن أكتبَ القصيدةَ. أكتبُها لأنني أبوحُ بمكنونِ عواطفي فأضعها على محكِّ الأفكار وكأنني أعرضُها للجمهورِ وأقول: هذا ما أحببتُ إخبارَكم بهِ فلا تتأملوا ولا تفكروا كثيرًا.
ربما هي من بابِ الفرديةِ، وعرضِ الأنا للآخرينِ بصناعةٍ ذاتيةٍ. ربما هي محطةٌ من محطاتِ إراحةِ العقلِ ومحاكاةِ الأفكارِ. ربما وربما...
ثم سألني سؤالاً آخرَ: لِمَن تكتبُ الشِّعرَ؟
فوجدتني متحررًا في الإجابةِ نوعًا ما، وحالي في معرِضِها أيسرُ، فقلتُ في جوابي: لكم!!! ولي كذلك!!!
قال: وما قصةُ الشيطانِ الذي يعتري الشاعرِ، وهل هذا من خرافاتِ الفلكلورِ الإنسانيِّ؟
قلتُ: إنها من الأساطيرِ القديمةِ التي راجت عن اليونانِ قبل آلافٍ من السنينِ. شيطانُ الشعرِ كان يُطلقُ على أحد الآلهةِ اليونانيةِ المسمى "أبوللو"، وهو إلهُ الشعرِ، أو شيطانهُ لأنه كان يرمزُ إلى الشر. لكن، دعني أقول لك، إن الشيطان في الشعرِ ليس إلا حالةً من الفوضى التي تصيبُ العقلَ حين يُحاصرُ بفيضٍ من المشاعرِ والأفكارِ، مثل طوفانٍ لا يتوقفُ. إنه ليس كائنًا ماديًا يتلبسُ الشاعرَ، بل هو تجسيدٌ للإرهاقِ النفسي والفكري الذي يرافقُ عمليةَ الإبداعِ، تلك اللحظةَ التي يشعرُ فيها الشاعرُ أن كلماتِ القصيدةِ تفرُّ من بين أصابعهِ، وأن الجملَ لا تنسابُ كما ينبغي، وتختلطُ الصورُ لتصبحَ لغزًا يضيقُ به العقلُ قبل القلمِ.
الشعرُ، كما أراهُ، ليس مسألةَ إلهامٍ عفوي أو شيطانٍ متمردٍ يوسوسُ للشاعرِ. إنما هو، ببساطةٍ، حالةٌ من التوهجِ الداخلي، لحظةٌ يتمُ فيها التقاطُ خيطٍ رقيقٍ من الإلهامِ وسطَ العدمِ. الشاعرُ، في تلك اللحظةِ، لا يكتبُ للمكاسبِ أو للثناءِ، بل لأنه لا يستطيعُ أن يطفئَ تلك النارَ التي تشعلُ فيهِ كل فكرةٍ، وكل لحظةٍ حياةٍ. إنه لا يكتبُ ليُعجبَ أحدًا، ولا ليحظى بشرفِ التقديرِ. يكتبُ، ببساطةٍ، لأنه يحتاجُ إلى الكتابةِ؛ لأن الكتابةَ هي منفذهُ الوحيدُ ليفهمَ نفسه، ولينقشَ وجوده في الحياةِ على ورقٍ لا يشيخُ.
ومن هنا تأتي الإجابةُ البسيطةُ على السؤالِ الذي لا ينتهي: لماذا تكتبُ الشعر؟
أكتبُ الشعرَ لأنني أحتاجهُ. أحتاجهُ كما يحتاجُ الإنسانُ إلى التنفسِ، وكما يحتاجُ الطائرُ إلى السماءِ. هو لا يطلبُ مني أن أبررَ وجودهُ، بل هو موجودٌ فيّ بشكلٍ طبيعيٍ. مثل الندى الذي يتساقطُ صباحًا على الزهورِ، لا يسألُ عن جدوى وجودهِ، ولكنه يحيي الأرضَ، ويُطهر الروحَ من شوائبها.
الشعرُ، في نهايةِ المطافِ، ليس مجردَ كلماتٍ تتناغمُ مع بعضها، بل هو كائنٌ حيٌ يتنفسُ عبرنا.
وحينما تسألني لِمَن تكتبُ الشعر، سأقولُ لك: أكتبُه لأولئك الذين يفتحون أعينهم على العالمِ في لحظةٍ من الوعيِ، لأولئك الذين يتذوقون الجمالَ في أبسطِ الأشياءِ وأعمقها. أكتبُه لمن يقرؤون بين السطورِ، لمن لا يخشون من مواجهةِ القسوةِ والضعفِ، من يعترفون بخطاياهم دون خوفٍ أو ترددٍ، ومن لا يهابون من الجلوسِ مع أنفسهم في صمتٍ طويلٍ. هؤلاء هم الذين يفهمون ما بين الكلماتِ، الذين يعرفون أن الشعرَ ليس ترفًا، بل هو متاهةٌ تحتاجُ إلى بصيرةٍ عميقةٍ كي تجدَ المخرجَ.
ولكن هناك أيضًا أولئك الذين يسألون عن نفعِ الشعرِ، وكأن الشعرَ يجبُ أن يخدمَ غرضًا ماديًا أو اجتماعيًا محددًا. ما نفعُ الشعرِ، يسألون، وإذا لم يعطِك شيئًا ماديًا، فماذا أنت رابحٌ منهُ؟ أما كان لك شُغلٌ في أعمالٍ أخرى؟ والجواب، ببساطةٍ، هو: الشعرُ ليس بضاعةً تُباعُ في الأسواقِ، ولا سلعةً تُعرضُ على رفوفِ المحلاتِ. الشعرُ هو الفنُّ الذي لا يُرى سوى من خلالِ الوعيِ الذي يراهُ، ومن خلالِ الروحِ التي تتفاعلُ معهُ. فالشعرُ هو الطيرانُ في سماءٍ غيرِ مرئيةٍ، هو الصعودُ إلى قمةِ جبلٍ بعيدٍ دون أن تلمسَ قدمُك الأرضَ، هو إبحارٌ في بحرٍ هائجٍ دون أن تعرفَ أين ستنتهي رحلتك.
الشعرُ لا يُقاسُ بالنتائجِ أو الجوائزِ التي قد تُمنحُ لهُ. ليس هو قيمةٌ تُقاسُ بما تحقق من ربحٍ أو شهرةٍ، بل هو البحثُ عن الجمالِ في أقسى الظروفِ، هو الهروبُ من الضغوطاتِ اليوميةِ والاتصالُ المباشرُ مع الذاتِ العليا. لا تكتبُ الشعرَ لتربحَ، ولا لتثبتَ شيئًا للآخرين. تكتبُ الشعرَ لأنك، ببساطةٍ، تجدُ في الكتابةِ سلامًا لا تجدهُ في أيِّ مكانٍ آخر، تكتبُ الشعرَ لأنك لا تستطيعُ العيشَ دون هذا الصدى الداخليِّ الذي يخرجُ من الأعماقِ ليعبرَ عن كل ما يجولُ في داخلك.
وأخيرًا، عندما يسألني أحدهم: ماذا جلبَ لك الشعر؟ سأقولُ ببساطةٍ: جلبَ لي الحياةَ، جلبَ لي فهمًا أعمقَ لوجودي. جلبَ لي من يشاركوني هذا الفضاءَ الذي لا يدخلهُ إلا من يعرفُ أن الأدبَ ليس مجردَ كلماتٍ على ورقٍ، بل هو صوتٌ داخليٌ لا يتوقفُ عن الترديدِ. الشعرُ هو أن نعيشَ اللحظةَ بكلِّ تفاصيلها، دون التعلقِ بالنتائجِ أو بالمكاسبِ. هو أن نتنفسَ الكلماتِ ونسمعها تخرجُ منا، ثم نتركُها تُحلّقُ في فضاءٍ شاسعٍ، يُدركهُ من يملكُ القدرةَ على الاستماعِ.
***
بقلم د. علي الطائي