أقلام ثقافية
محمد سعد: رحلة في ظلال الوجود.. تأملات بين الحياة والموت!

بعد منتصف الليل، حين تهدأ الضوضاء وينحسر ضجيج الحياة اليومية، تتحول قريتنا إلى مرآة للأرواح التي مضت، وتطفو الذكريات على سطح الظلام. الكلاب تعوي عند أطراف المقابر، كأنها تحرس أسرار الموتى أو تروي لنا حكايات لم نسمعها من قبل. أسير في الشارع الممتد ناحية "الدائرة"، حيث كانت تلتقي طرقات القرية، وأتأمل هذا الليل الشتائي البارد الذي يلف الأشياء بهدوء مهيب.
أتلفّت يمنةً ويسرة، فأرى البيوت التي كانت يومًا ما تعج بالحياة. أين أصحابها الآن؟ تلك الديار التي ضحكوا فيها، احتفلوا، بكوا، وتخاصموا، أصبحت مجرد جدران صامتة تحنّ إلى من سكنها. اليوم فقط، استقبلت مقابر القرية جثمان رجل وامرأة، كما تفعل كل يوم. نخرج جميعًا لتقديم واجب العزاء، ثم نعود إلى منازلنا، نتساءل: من سيعزينا حين يأتي دورنا؟
عند المقابر، تتجلى الحقيقة الكبرى: نحن مجرد عابرين، نظن أننا خالدون حتى نصبح ذكرى على لسان من بعدنا. يتراءى لي شريط من الذكريات، وأتذكر أستاذنا الراحل محمود عبد العزيز حسين، الذي كان يعمل في مؤسسة الأهرام. في زمنه، كان منزله فيلا تميّزت عن بيوت الطين التي كانت تحيط بها، لكنه اليوم مجرد ذكرى، مثل غيره.
ثم تأخذني الذكريات إلى أيام الطفولة، إلى حوش المدرسة الابتدائية، حيث كانت القرية بأسرها تتدفق للإدلاء بأصواتها في الانتخابات. أستعيد مشاهد الصراع على كرسي مجلس الشعب، والوجوه التي كانت تملأ المكان بالحماس والتنافس. أتذكر مهرجانات كرة القدم السنوية، وأصوات الهتافات التي كانت تدوي في الأرجاء، كأنها كانت إعلانًا للحياة.
ولكن، أين هم الآن؟ أين نحن؟ كم يبدو غريبًا أن نتشبث بالحياة، نخوض معاركنا الصغيرة، كأننا سنبقى إلى الأبد، غير مدركين أن النهاية تتربص بنا بصمت. نقاتل من أجل وهم السلطة، نتنازع على أشياء زائلة، ثم نختفي كما اختفى الذين سبقونا. أمام المقابر، تتلاشى كل الفوارق؛ لا غني ولا فقير، لا قوي ولا ضعيف، كلهم سواسية تحت التراب.
أقف هناك، في هذا السكون، وأسرح في الفلسفة الوجودية: ما نحن إلا لحظات تمضي، أسماء تكتب على شواهد، وصدى يتردد في ذاكرة من تبقى. الموت ليس مجرد نهاية، بل هو المرآة التي تعكس زيف صراعاتنا. وبينما أعود أدراجي، أترك خلفي أسئلة بلا إجابات، وأمضي، مثل الجميع، في طريقٍ لا رجوع منه.
ربما الحياة ليست سوى حلم عابر، والموت هو الصحوة الكبرى. نحن نعيش بين ولادة غير مخيرة ونهاية لا مهرب منها، وبينهما نخوض معاركنا اليومية دون أن ندرك أن الزمن لا ينتظر أحدًا. وفي النهاية، تبقى الحقيقة واحدة: لا شيء يدوم، سوى الأثر الذي نتركه في قلوب الآخرين.
يقول أحد الحكماء: "الحياة حلم يوقظنا منه الموت." فهل نحن مستعدون لتلك اليقظة؟
***
من يوميات كاتب في الأرياف
محمد سعد عبد اللطيف - كاتب وباحث مصري