نصوص أدبية

نصوص أدبية

قصص قصيرة جداً

مَكبوس

لا أكادُ أجزمُ بأنَّ الرؤيا في المنام تتغيَّر مجرياتها وتفاسيرها حسب المكان، ففي  بيتٍ قديمٍ البناء، صغيرِ المساحة، لا يكفي عائلتنا بتاتاً، كانت أحلامي ورديَّة، عجبي أن يتكرّرَ فيها أنَّنا نسكن  بيتاً جديداً كبيراً، فبالإضافة إلى غرفة النوم، لديَّ غرفةُ مكتب، سأصبح بتواجدي المُنتظم فيها مؤدّياً لطقوس الكاتب المحترف .

تحقَّق الحلم، وانتقلنا إلى بيتٍ جديد. كان أول ما تبادرَ في ذهني حين أغفو غفوتي الأولى في هذا البيت، أن أحلامي الملوَّنة، هنا، ستحلِّقُ بي إلى روضةٍ خضراء، روضةِ مزهرةٍ بأجمل أنواع الورود، ومثمرة بأطيب أنواع الفواكه والخضراوات. وفيها بيتٌ ذو تصميمٍ معماريٍ باذخ، تتوّفر داخلهُ كلُّ وسائل الراحة.

ما حدثَ أنَّني كلَّما غفوتُ في مقامي الجديد، يزورني كابوسٌ لعين، فأفزّ من نومي مذعوراً، غرفة نومي الواسعةُ بدأت تتصاغرُ ... تتصاغر، حتى اصبح حجمها بحجم جسدي، وفراشي الوثير تحوَّلَ إلى ............

لا أستطيع نطقها لأنَّ الكابوسَ هجمَّ عليَّ من جديد، فأصبحتُ فاقدَ القدرةِ على كلِّ شيء. ثمّةَ صوتٌ يجاورني: لا تحلم باتّساع، لا تطمعْ كثيراً، الطيُّبون واقعهم مزرٍ، هو خيّاطُ أحلامهم وكوابيسهم .

**

عينُ الموت

لا أحدَ يعرفُ ماذا كانِ في خلدِ ممثّلنا الراحل، وهو يؤدّي دورهُ أمام الكاميرا، كان يتحدَّثُ عن الموت مع ممثلٍ آخر، كان يسألهُ، عينٌ عليه، وعينٌ على الكاميرا، (ماذا رأيت في الموت؟)، إذ ذاك ما الذي أوحى له بأن عينَ الكاميرا هي عينُ الموت، وكأنها تتحدّى كلماته، وبأنها ستنقضُّ عليه، فسقطَ على الأرضِ جثةً هامدة !

**

تشييع نهر

كان شديدَ الرغبةِ في تعلّم السّباحة، ودَّ لو تعلَّمها منذ الصِّغر، والآن، وقد مضى به قطارُ العمر إلى مشارفَ الكهولة، أدركَ أنَّ فرصةَ عبوره نهرَ الفرات في مدينتهِ عوماً، قد غادرتهُ إلى غير رجعة، مردِّداً  مقولة.. إنَّ التعلمَ في الصغر كالنقشِ في الحَجر.

هواهُ كبيرٌ  في ممارسةِ السباحة، رغبةً في فكِّ أسارِ يومياته من روتينها القاتل، فالعومُ في نهرٍ جارٍ يمنحهُ الطاقةُ على التجدُّد، فكلُّ دقيقةِ عومٍ هي غسيلُ مللهِ وكآبتهِ في مياهٍ جديدة، غير مياهِ الدقيقة السابقة، فقد قالَ الفيلسوف أوغستين؛ إنّك لا تنزلُ النّهرَ مرَّتين.

في يومٍ غارب، مشى في شوارعَ خاوية، إلى النهر، الذي طالما حلمَ في السباحة به، صاحَ ضاحكاً: تحقَّق حُلمي في عبور النهر بعد عشرات السنين.

لكنَّها ضحكةٌ دامعة، فقد عبرَ النهرَ مشياً، كما السائرُ في جنازةِ نهرٍ كبير، تحملُها ما لا يُعَدُّ من أذرعِ الحالمينَ بسباحتهِ يوماً !!

**

بابٌ ونافذة

كانَ يحلمُ بها دائماً، تزورُه في بيتها القديم، وليس بيتاً آخر، كانت لا تعاتبهُ على عدم زيارتهِ لها في مكانها الجديد، بل تتواشجُ تفاصيل الزيارة مع أمورٍ حياتيَّةٍ شتّى، كأنَّ وحشةَ هذا المكان لا تُشغلُها كثيراً.. ويخجلُ من تلقاءِ ذاتهِ إزاءَ عدم زيارتها هناك. فقط مرَّةً واحدة.. لم تتكرَّرْ..عتبٌ دفينٌ في داخله يتولّد، عندما يستيقظُ متذّكراً تفاصيلَ ضبابيَّةً عن تلك الأحلام.

لكنَّهُ في أعماق ذاته يتمنّى ألاّ يحلمَ أنَّهُ زائرُها المتوَّحدُ في ذلك المكانِ الموحشِ المعتم، ففي حالتها زائرةً لبيتها القديم، تتحرَّكُ بحيويَّة، رغمَ كبرِ سنِّها وجلالةِ قدرِها لدى الجميع. واعتادَ رؤيتها تمارس ما ألفَ منها من أعمالِ البيت، من دون تحسّبٍ أنَّها سترحلُ إلى ذلك المكان الضيق.

لكنّهُ يخشى ألاّ يستطيعَ ممارسةَ أيِّ شيءٍ في مكانٍ تزدادُ توصيفاتهُ قتامةً وهموداً. قد يستطيعُ في الليلةِ الأولى أن يرسمَ باباً ونافذة.. ولكن في الثانية.. يشيّعهُ القلمُ والورقةُ من مدادِ وحشتهِ الهشَّةِ إلى العناوين الشاحبةِ لصحف الغد!! !

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

لقد أقبل الشتاء إلينا باكرًا، وكان الجو باردًا، حتى إن النَفَسَ التي خرجت من أفواهنا، كانت مجرد مليمترات قبل أن تتجمد. مشينا في مساحة بيضاء ناصعة، وغطى الثلج أجسادنا، حتى لم يعد من الممكن تمييزنا، بَدَونا كأشباح تتحرك في وحشة الأرض وصمتها. قوة مسلحة تخترق طرقًا صخرية، لا حياة فيها، عالَمًا ساكنًا كأنه أفق مجهول الأبعاد.

ساد الصمت في كل مكان، ولم نفتح فمنا بكلمة واحدة، لئلا تتجمد أنفاسنا، وتفسد جهودنا، وتقودنا إلى الهلاك، والضلال. في هذه اللحظة تذكرت نكتة عبد الله آغا، عندما كان يتحدث عن رحلته مع بعض مقاتليهم، في أجواء باردة تحت الصفر. قال: إنه نادى على مقاتليهم من بيشمرگة حزبهم:

ـ حمه، نوري، صادق… ولكن لم يرد أحد منهم.

وأضاف بتواضع:

ـ وحالما وصلنا الى أحد الكهوف، وأشرقت الشمس، وإذا بصوت يصدح في الهواء؛ يردد الأسماء: حمه، نوري، صادق…

عندما سئل عن مصدر الصوت، أجاب بثقة كبيرة:

ـ عندما ناديتهم في المرة الاولى، بدا صوتي متجمدًا من قسوة البرد، وما إن بزغت الشمس، حتى ذاب حرارتها كلماتي وأصبحت مسموعة.

لم يكن في حساباتنا أي شعور بالتسلية أو قضاء وقت ممتع، فهطول الثلج بهذه الغزارة يعد عائقًا حقيقيًا في مسيرتنا الطويلة، ثم إن الرياح السامة في هذا البرد القارس كانت تصفع وجوهنا، وتمر عبر مسامات قُفازاتنا الرقيقة، كأنها سكاكين قاصِلة تترك شروخًا خلفها.

وفي المنحدرات الحادة تنفث الريح الثلوج؛ فتتطاير باتجاه الطريق الضيق الواقع بين السفوح العالية، والهاوية السحيقة؛ فتخفي الأرض الصلبة عن الأنظار. كان هذا المقدار المتراكم على الأرض كافيًا لمواصلة المشي، وتحريك القدمين بخطوات متقنة لتتناغم مع استقبال الأرض لها. كلما استمر تساقط الثلوج، ونفخ الريح لها من المنحدرات المطلة على الطريق، وتجمعها أكوامًا؛ أثقلت حركة القدمين من التقدم بسهولة؛ لأنهما تغوصان فيها.

لو كانت البغال معنا في رحلتنا؛ ليسرت علينا مشقة البحث، واتخاذ الحذر؛ لأنها متمرسة في تناغمها مع الأرض فضلًا على ذلك، فهي تمشي على أربع، وقادرة على فتح الطريق، مما تفسح لنا الفرصة في تتبع آثار حوافرها؛ والأنكى من ذلك، هو ما نحمله من حقائب على ظهورنا، وعلى أكتافنا أسلحتنا الشخصية، وحول بطوننا مخازن الرصاص، وهذا ما يزيد الطين بلة.

تلك الإرادة الفذة كانت في العمق، صفة الأنصار، لا تستسلم للموت ببساطة، تجده على الرغْم من هيجان العواصف، وضراوة الأعاصير في كنف الثلوج، والصقيع منتصبًا بقامته العمودية متحديًا الأهوال الشاقة.

***

كفاح الزهاوي

مقطع من روايتي القادمة

أرغفةٌ حائِرةٌ أضاعَت النَّار

كلماتٌ تغرقُ في حِبرِها

هرمَّت  الشوارع

تاهَ الوَردُ...عن نــــــــداه

في خُطوطِ الذَّاكرة

أميالٌ حلم

تنبت على ضفتيك

وبيني وبينَك

قوس قُزَح

وصفصافة حنين

*

شفتاي نايات ايلول

تغفو في عيني عصفور

تنتظر المطـر

ورَوحِي تَجثو

على أنفاسِكَ المُتعَبة

تُبَلِل رِيقَك

تُراقِبُك

كيفَ تلمِسُ طرفَ المَوت

وتُحيكُهُ  يَاسَمينَاً أبَدِيا

*

اختبئُ بينَ

آهاتِ الرَّحيل

وغَفوَةِ الريـح

غداً يزهِرُ اللَّيلُ

وقـد  يأتي بِعاصِفَة

بعدَ السَّيل

تُرى...... ما لونُ عَينَيك !.

***

سلوى فرح - كندا

 

الحب

لا يحتمل الصراخ

هو طفل

لا يكبر إلا

في شفاه الهدوء

قبلة حينا

وحينا همسَة

*

الحب

مهنة ليل

وعادات حزن

جميل تهوي

بالنفس إلى نفسها

لتغدو للروح روحا

تمضي بها أُنْسَا

*

الحب

أغنية

تنأى وتدنو

بالساهرين

وتلقي العشاق

رعشة لينتشي

الحضن بعد لمسَة

*

الحب

حين تملأ صورتَها

عليك المساء

وتنصرف منك

إليها غائبا

لِتُشفي نظرة

وتُبعث حِسَا

*

الحب

كل ما لم تقله

لها بعد

وما لن تقل

وكيف القول

والنطق عند

الجمال ينسَى

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: كي أستريح من أي عطب رومانسي

 

بي مِنَ القولِ ما بي

وَما لا يُقالُ

وَمِنَ الحُزنِ ما لا يُطيقُ رِجالُ

*

بي مِنَ الصّمتِ ما لو أُبيحَ بِهِ

لاستوتْ كُلُّ أرضٍ بِها

وَجِبالُ

بي من الوَجَعِ اللانهائيِّ

ما قدْ

تَخِرُّ له نائباتٌ ثِقالُ

*

بي من الحبِّ شِعرًا شُعورًا

بل شاعِرًا

جُدْ بِالوصفِ جُدْ

يا خيالُ

بي جرحٌ

تجاذَبَهُ قومٌ تُبّعٌ

ثُمّ مالَ بهم حيثُ مالوا

بي من كلِّ ثاكلةٍ

آهَةٌ حرّى صَرْخَةٌ

ليسَ منها احتمالُ

طفلةٌ بي

وبي لوعةٌ كسرتْ لحنَ أغنيتي

بي دَمْعي الْمُسالُ

نجدةٌ بي

أبي يا أخي

يا أمي احْتَوي خافِقي

فاحْتَوَتها رِمالُ

بي من الحَبَقِ امرأةٌ

كلما عبقَتْ هَمَستْ:

أنتَ عِشقي الحلالُ

كُلّما سرّحَتْ خيلَ فكرَتِها

صفعَتْ قلبَها:

إنّ هذا مُحالُ

رجلٌ بي

تَصَبّرَ حينًا وَحينًا تراءى له ما تراءى

ضَلالُ

بي من التّيه ما بي

وأزمنةٌ بل وأمكنةٌ

ما شُدّت رِحالُ

بي من غُربةِ الرّوحِ في وَطَني

صُوَرٌ

أرقامٌ بِها وَزَوالُ

بي

شِعري وذاكرتي جُرحي

بي

خناجرُ مشبوبةٌ وقتالُ

بي جنونُ الحربِ

بشاعتُها

موتٌ ذاهِبٌ آيِبٌ

ما يزالُ

***

سماح خليفة - فلسطين

 

ألا من عودة؟

علامة استفهام تبحث عن إجابة

في زحمة متناقضات

لزمن أسير

*

تحاصرني

فتارة ترمقني بنظرة

ترتعد لها أوصالي

وأخرى تحنو وكأني بها

تهدهد أحلامي الفزعات

فألوذ

مستغيثة بدمعة

تنهي سجال النظرات

*

لكن أنّى ذلك؟!

وحروف أنفاسي تشهق

وتشهق

وتشهق

وحينما تزفر

تلتهم النيران

علامة استفهام بلهاء

تبحث عن إجابة

***

ابتسام الحاج زكي/العراق

 

(كن عاقلاً يا ألمي)

شارل بودلير

***

أحملُ الفنجان إلى الفجر بأناملي

كأنّني أمسكُ بحياة الأسرار

ينتشرُ في قلبي صباحاً يهوى القهوةَ

وسماءً من الرائحة.

عبيرٌ، يتحلّق حولي، وأطوف حوله، كأنّنا في قلبٍ واحدٍ

تسافرُ بي

أحنين أنتَ أيّها القلب، أم رائحةٌ تهبُّ على كلّ مكان؟

أيها الألم: كن عاقلاً

أيتها الذكريات لتكوني عادِلةً ، واعتمدي عليّ.

تحملُ طيّةً في تضاريسك الشاسعة، كأنها طيّات أرجاء

فنجان قهوتي، ذو أفكارٍ متضاربةٍ

وذو قلبٍ منذ ولادته يهفو إلى قلبٍ.

وهذا الذي يتقدّم وأولئك الذين يزحفون، كلهم إلى مرفأ عواصفي

فنجان أسرار يحمل حكايات شهرزاد، رشفةً أثر أخرى

من ذا الذي يجمعنا، ويلّمنا أسراراً لا تُنسى؟

صافياً أهديتك الجبلَ

تاهت مشاعري…

***

نوال الوزاني

سطوة الريح

وجنون العاصفة

جعلت العصافير

العنادل

القبرات

واليمام

تحسب حساباتها

وتجعلها ترسم على

مرايا قلوبها نسرا

وحدوة حصان

ميممة صوب

مروج وحقول

احلامها امنياتها

ورؤاها وقرص

الشمس وعذوبة

النسيم جعلت

من بنات اوى والثعالب

تندب حظها في

جحورها العفنة والمهترئة

وصبيان وصبايا الحي

اراها حزينة حزينة في

تخوم حقول ومروج

رغباتها المحترقة

فيما انا قرب

دالية عمري الحزين

احتضن الغيوم

النجوم والشموس

مغنيا للخصب

للامل الاخضر

وللشجر .

***

سالم الياس مدالو

أخلياءَ نحنُ  ذائبين في التفرجِ

ضفادعُ تنطُ تارةً لحتفها

طوراً لمجهولِ القيعانِ

يوهمنا خيطُ العنكبوتِ بوهنهِ

انما نحنُ اوهنُ منهُ في أباحةِ

لسعاتِ الجمرِ فوقَ اجسادنا

متى نمسكُ العصا من اطرافها

لنفلقَ بحارَ الظلماتِ

قبلَ  انْ يفلقنا تداعي برودةِ عقلنا

لقد رمينا شباكنا بماضٍ

غريبٍ كدخانِ ارضٍ غزواتُ فشلنا

وأهتزازُ اجسادِ الخيولِ

المأخوذةِ عنوةً بلا حوارٍ للموتٍ

انَّا نساقُ  كرهاً تحتَ عناوين البلاهةِ

تحتَ سقفِ بلادتنا

انَّا عشاقُ القبورِ وتكريمِ الدفانِ

لانهُ يرفسُ أجسادنا تحتَ الاتربةِ

لنفيها دونَ هوادةِ

أباطرةِ الكلمةِ والموروثِ

نمني الارواحَ انتظاراتٍ في واحاتٍ

نأتي بالتيجانِ وريشِ الطواويسِ

لملوكِ قتلنا

ونقلدُ صدورنا اوسمةَ المحارِ

مخاريقنا  تتناسلُ

بلاطَ الشهداءِ غفلةً تطاردنا

الغافقيُ وزيدٌ أساطيرنا المنمقةُ

انها انتكاساتُ فشلٍ

وثورةٌ من بني قينقاع تعيدُ سحرَ

تعاويذهم وتبطلُ وصاينا

التي انتحرتْ بسيفٍ وحشي

مَن يأتي بكذبةِ قميصِ يوسف

او سجاح بنت الحارث ومسيلمة الحنفي

او اباطيلِ الرسائلِ البدويةِ

معجونةً بالاشهارِ الذي مسخنا

حتى نادتنا الفتوحاتُ ففتحنا لها الصدورَ

ودفنا ارضنا وجنتنا الموعودةَ بالحواري

انزلنا المعلقاتِ السبعةَ

اكتشفنا عنصريتنا التي لا تطهرها

مجموعاتنا  المطرزةُ باناشيدِ الحريةِ

بمباركةِ جوازاتنا المحجوزةِ بكلِّ المطاراتِ

التهافتُ على البحارِ الثلجيةِ

هو التهافتُ الذي رسمَ انتحارنا

أجلسنا على ارضِ الفخارِ

لتحترقَ اماسينا الحالمةُ بالعتقِ

من شباكِ صيدها الازليِّ

كوني يا اوتارَ قيثارةِ العمرِ

الفٓ وترٍ يقطعُ اصابعي

لأغردَ في الليلِ الحالكِ

احاكي

أنا القديسُ الذي سقاني الغمامُ

بياضاً

وأنا المليكُ لحاراتِ بؤسِ تطفلي

وأنا بينَ كرتي ثلجٍ جمرةٌ لا تطفئها

بحورُ الكونِ

لقد انزلَ اللهُ فيّ التمردِ حين عشقتهُ

وأنا لغةُ الحريةِ دونَ مبعثٍ

أنا الانسانُ طليقُ الجناحينِ

ومخالبي غرزةُ ثأرٍ

بليتُ ببشرٍ وحلاجِ التصوفِ

خذني بددْ شموعَ ضوئي في الظلامِ

اعطِ لمتنِ بدايتي عاصفةً هوجاءَ

انا القادمُ بحصانِ الرفضِ

شاهراً  دمي  وغطاءِ رأسي شمساً وأنبعاثاً

أنا الذي اوهمَ اباهُ أنَّ غاغرين زارَ القمرَ

وأنَّ امرأةً طافتْ على جدرانه تعبداً

وعلْمُ (الزنادقة) ما زالَ على سطحهِ

ينتظرُ نفخَ الروحِ في جسدهِ

كلا لنمكثَ كلَّ القرونِ نبشرَ الدنيا

نصفُ الانسانِ عورةٌ ونصفهُ الاخر

يضيعُ في متاهاتِ القذارةِ

نحنُ تائهون نعدُ القرونَ متى

يزورنا العتقُ لنصليَ صلاةَ الحريةِ

نطوفُ لبغدادَ علها تبعثُ النصرَ

نرمي من اعالي جبالنا المستباحةِ

الفَ حجرٍ نرجمُ شياطينَ وسحرةَ الشرقِ نعلقُ اكاذيبهم فوقَ المدى ونكتبُ عندَ مداخل ِالمدنِ

(عراق ليس سوى عراق)؛

***

عبدالامير العبادي

لطالما شعرت أنها طفلة مختلفة عن غيرها، من ثبات خطواتها تبدو واثقة أكثرمن باقي أترابها، كبرت عزيزة الروح لا تحب التخلف أو الغياب عن المواقف الجادة، غدها ليس ضبابا ولا صورة من هباء  هي الأيام فقط التي قد تعاندها حينا وتقسو عليها كثيرا أحيانا أخرى، لكن يوقظها الظل أن ضلت الطريق إلى أحلامها الطفولية البريئة، ويرسم لها الليل الطويل صورا تداعبها على عتبات ذلك المجهول القادم إليها تراه سيحط رحاله على قدرها وهي الأنثى المفعمة بالنشاط والأمل الممزوج بكثير من الألم، لكن ذلك الحلم بعد الرحيل الطويل أكيد سيستقر لتفتح له الأبواب لبداية الانطلاق إلى عالم لا يزال تراه حلما بين تلافيف الذاكرة  أحلام محلقة بعيون الصباح في المدى المزين بأكاليل الورود التي يذوب في كف مساءاتها التي تعدها بغد جميل تعانق فيه وجه القمر وسط المزارع النائية فتمتلآ من ضيائه وتبتسم وهي تغني لطيور الفجر . تفكير إيمان الطفولي يحمل الكثير من الأسئلة التي غالبا تعجز عن إيجاد بداية للإجابة عليها، فتطفئ حيرتها بدمع لامع، تثري بصمتها كلام يتكسر بين مرايا وقع الفقر والحاجة . لا تزال ترقب ذلك القادم المجهول لربما يمسح عنها غبار الشقاء، إنها مثل عصفورة حائرة،حاملة قلقها في برد المساءات التي تمضي ولا تأتي بجديد. يمتد السكون كأن غيمة حطت على حبل الوريد، ترسم حكايتها بالكلمات لهيبا في المدار، وصمت هذه البيوت التي تقمع حلم كل أنثى تطمح للعلا، ولكن كلما ارتقى حلمها وارتفع فوق واقعها يسحبها إلى رصيف مرصع بالأمنيات المجمدة، لكن هي تراه ومؤمنة أنه سيأتي في الربيع ويذيب ما علا حلمها من ثلوج عنيدة لتنطلق من نقطة البداية نحو حلمها الأبدي.

كانت عائلتها كبيرة، ولم يقدر والدها على إعالتهم لصعوبة الحياة الريفية وانعدام الأمل، شحذت همتها وهي الابنة الكبرى لتساعد والدها،فأخذت تنتقي المواد البلاستيكية من القمامات لإعادة تدويرها، ومرة تبيع خبز الدار على قارعة الطريق الرئيسي للسيارات، لم تكشف مسيرة حياتها التفاصيل مثل بائعة الخبز للكاتب الفرنسي كزافيه دومونتبان، ولا بائعة الكبريت للأديب الدانماركي هانس كرستيان أندرسن، هي طفلة مثابرة، تفرح بفستان جميل يحضره والدها لأيام العيد بألوانه الزاهية، هي لا تبحث عن الموضة ولا تتابع أحدث بيوت الأزياء، المهم فستان تعكس ألوانه أحلامها الوردية . اعتادت إيمان كل صباح الذهاب إلى مدرستها البعيدة عن منزلها سيرا في الطرق الطينية التي تثقل حذاءها البالي بالوحل والأمطار تبلل قدميها الصغيرتين والصقيع يجرح وجهها حتى تكاد لا تقوى على مسك قلمها دون أن تنفخ فيهما كي تتدفأ بحرارة زفيرها، عاشت تعاند قسوة برد الشتاء ولهيب الصيف  الذي أحرق وجهها، لكن لم يكن يهمها الأمر غير أن تساعد والديها في حمل مسؤولية البيت وتخفيف المعاناة ولو بقدر قليل، الفقر والحاجة جعلت منها أنثى صلبة، قوية قوة الرجال وقوة الطبيعة وقسوتها، فكم حاولت كسر رتابة الأشياء المحيطة بها ومحو غصة تستوطن أحلامها، ولما كبرت صار أكثر ضيقا وأفظع مما كان متوقعا،هي تعلم أنه من الصعب أن يجد الإنسان الاختيار الذي يبحث عنه وإن اجتهد من أجله وكثير وهو يركض ليصل يجد الخيبة تركض قبله وتحاصره كي لا يصل إلى غده المنتظر، يهرب لكن الحصار يعود ويضيق عليه فتعود إليه مجبرة وقلبها، يتراجع من الظلام إلى الظلام، وقلبها لم يعد يقبل الحطام كبقية البنات في سنها فقد أصبحت ترى درب الدراسة ما زال طويلا ولا يحل مشكلتها ولا مشاكل عائلتها أو يوفر لهم الحياة الكريمة ولن تقدرأن تحقق ما تحلم به، فهي تدور في حلقة مفرغة، تتبعت نداء قلبها وعقلها معا وهي مقتنعة بهذا الاختيار الذي وجدته حلا مناسبا في غياب كل الحلول الأخرى الممكنة وهو ما يعني خلاصها من رمادية الحياة التي عاشتها والتي كانت ستقضي على ما في دنياها من ألوان جميلة  لو فقدت أملها الذي هو سر من أسرار صمودها، فبعض الأمور تتطلب التضحية والاجتهاد والصبر حتى يظهر بصيص الأمل .

تحب إيمان الرياضة وكانت تمارسها  خلال دراستها بالمدرسة الإعدادية وكانت تنال العلامة الكاملة، أثار انتباه استاذ التربية الرياضية نشاطها وخفتها وسرعة حركاتها، كانت حديث القاعات الرياضية في تلك المدينة التي تبعد كثيرا عن قريتها، ويوما نقل إليها أحد زملائها في الدراسة عرضا من أحد مدربي الملاكمة للانضمام إلى فريق الملاكمة بالقاعة وستنال مقابل مالي كل حصة تدريبية، كان العرض مغري حتى أخبرت به والدها فضحك اشفاقا عليها من أن يتكسر أنفها ! لم يمانع الأب، وفي الغد ذهبت والتقت بالمدرب صاحب العرض فسلمها مبلغا من المال لتحضر نفسها وتقدم ملفا كاملا لإدارة القاعة، فرحت إيمان بالمبلغ ورأته على قلته كبيرا يكفي لشراء مقلمة لأدواتها المدرسية التي كانت تضيعها في كل مرة، كانت إيمان تريد أن تظهر وسط زميلاتها بشكل محترم ومشرف ولو بأبسط الأشياء دون أن تكلف والدها أعباء إضافية، وكان والدها يشجعهاعلى مواصلة الدراسة والنجاح ونيل شهادة البكالوريا، أما والدتها فكانت تريدها ناجحة في أي مجال دراسي أو رياضي المهم عندها أن ابنتها إيمان تكون ناجحة في حياتها ولكن والدها بقي ممتعضا من غيابها بالمدينة للتدريب ومن عودتها متأخرة إلى المنزل ليلا، فأهل القرية محافظين جدا والألسنة الطويلة لا ترحم . بعد أن كانت قد تسلمت النقود من مدربها تغيبت مرة أخرى وأمام إصرار مدربها على عودتها التقاها وأعطاها بدلة رياضية وأصر أن تبدأ التدريب معه وتنبأ لها أن تكون يوما بطلة أوليمبية، لم تفهم إيمان ما المقصود من بطلة أوليمبية، ولما كان من الصعب أن تستمر إيمان في التدريب بالقاعة البعيدة التي تنتقل إليها سيراعادت إلى بيع خبز الدار على الطريق لتوفر المال اللازم لتذكرة الحافلة والتكفل بمصاريفها، والدها لا يعمل عملا منتظما ودخله غير ثابت، وكانت تعاني الحرمان الكبير، يعلم أهل قريتها أنها تمارس أعمالا ليست مناسبة لعمرها، كانت محاربة قوية يثني عليها الجميع إذ ما تحملته يفوق بكثير ما يتحمله الرجال، كانت الأنثى التي يضرب بها المثل في التحدي والإصرار. تركت إيمان مقاعد الدراسة مضطرة لإعالة أسرتها ووجدت فرصة لتتفرغ للرياضة وقتا أطول، وبعد مرور بضعة أشهر من التدريب خاضت أول تجربة وكانت متأكدة من نجاحها، كانت ابتسامتها تجعل من الخريف ربيعا، ومن الليل المظلم صباحا فهي تعلم أنها ليست الوحيدة التي لسعتها الأيام وعسى أن تكون ابتسامتها دواء لكل داء، فهي تحيا دون أن تلحق الضرر بأي إنسان أوتتسبب يوما في أذى أو ألم لأي كائن بأي كلمة أو فعل أو بسوء الظن، تدري جيدا قيمة أن تخدم من هم بحاجة لها، ملتزمة بالهدوء والتعقل الذي لا يعكر سكينتها ، كما تجيد احتواء مشاعرها التعيسة وابتلاع أحزانها واستبدالها بالمشاعر السعيدة .

في غمار تدريباتها أخبرها المدرب أنها تم ترشيحها لخوض منافسات البطولة الوطنية للملاكمة صنف أواسط  ستنظم في مدينة أخرى، كانت أول مرة تسافر إلى خارج مدينتها بدون أسرتها، كان ذلك لقاؤها الأول مع إحدى المشاركات خاضت من قبل بطولة العالم، الجميع كانوا يشكون في أنها يمكن أن تربح المنازلة، وكانت المفاجأة عندما تغلبت إيمان على منافستها بفارق في النقاط كبير، ومن حينها أدركت إيمان أنها على أبواب الطريق لتصنع مجدا لنفسها بعدما أصبحت بطلة وطنية بجدارة، ولكن الظروف تعاندها مرة أخرى فنجاحها العفوي الذي تم بفضل موهبتها الشخصية لم يشفع لها كي تتجنب ظروفا ترتبت منذ ولادتها في عائلة فقيرة ونشأت في محيط مغلق على نفسه، لم تستسلم لمصيرها ولم تخضع للألم والفشل، كما لم تضيع الكثير من الوقت الثمين ولم تفقد ثقتها بنفسها لأنها بدأت تعي أن بضع سنوات قليلة من العمل الدؤوب والسعي المستمر كفيل بتغيير كلمة الحظوظ، إنها تؤمن كل الإيمان بأن كل من يعمل بجد وثبات ولا يجعل للتشاؤم سبيلا إلى نفسه سينجح، إرادتها تولد في نفسها مزيدا من دفق الثقة التي لا تعني بالضرورة عندها الاعتقاد بامتلاك الموهبة غير الموجودة أصلا، بل تؤمن بأن يتقبل المرء حالته الحاضرة كما هي ويحاول تحسينها ورفع مستواها، وما من شك إنه سينجح إذا وضع هدف تحقيق النجاح نصب عينيه وعلى ذلك كان نجاحها الأول كبطلة وطنية صغيرة رغم جهلها لأمور كثيرة في الحياة . أخيرا بدا لها طيف النجاح الذي حفزها على الاستمرار فضاعفت التدريبات خلال ساعات الليل، ورحبت بها عمتها ببيتها القريب من قاعة الملاكمة وصار زوج عمتها سندها في المدينة البعيدة عن قريتها النائية، قررت إيمان الاستقرار عندها ومواصلة دراستها بالثانوية، عاشت مكتفية بالمبلغ الذي تتقاضاه بما جنته بعد فوزها بالبطولة الوطنية وقسمته بين لوازم دراستها وتدريبها الرياضي، كانت هذه الظروف مرحلة انتقالية بعدما صار لها راتب شهري إذ تمكنت من تقليص فارق المستوى الاجتماعي بينها وبين زميلاتها، ثم انطلقت بكل جد واجتهاد في رحلة حياتها تستمد لحظات الفرح الجميلة لتدفعها إلى الأمام مودعة واقع ماضيها المرير وذكرياتها الحزينة التي ظلت هاجسا يؤرقها بالليل ويزعجها بالنهار، تلك الذكريات المتقلبة كانت تشعرها دوما بعدم الاطمئنان عاشت الأجواء التعيسة والأنواء والشقاء، فتعلمت منذ صغر سنها ومن تجاربها في الحياة أن لا الفرح يبقى ولا الحزن يدوم وما عليها إلاّ اتخاذ قراراتها بنفسها دون أن يؤدي بها إلى الندم، تستمد حكمتها في التصرف من ذكرياتها الحزينة حتى وإن لم ترجح كفة الذكريات السعيدة موقنة أن الجمال والأمل والغنى والصحة كلها مسائل نسبية تتفاوت فيها الأحكام من حال إلى حال، وقد يبلغ بها الحال إلى الضحك حد البكاء أو البكاء حد الضحك.

توالت بطولات إيمان بأدائها المميز والقوي داخل الوطن، تسع بطولات متتالية جعلتها تنتقل إلى التحضير للبطولة الإفريقية، تمكنت من نيل الميدالية الذهبية، ظلت في تطور مستمر معتمدة على نفسها حتى نظمت لها الدولة الدورات التدريبية خارج الوطن التي مثلت لها قفزة عملاقة نقلتها من قريتها الصغيرة إلى أسفار عبر دول العالم الذي بدا لها أوسع مما كانت تتخيله. كانت أحلامها من قبل مرهونة بعدد الخبز الذي تبيعه، والآن تشعر أن الحياة تبتسم لها بكل الألوان التي تمنتها واشتهتها لتلوين قلبها الحزين، فالبقاء على ساحة الحلم روعة وجمال، وحسها النقي و إصرارها على النجاح هو حلاوة الروح وبراءة البياض عندما تسافر بحلمها إلى أقاصي النجوم المتوهجة بالحنين والشوق في كل مرة إلى ارتفاع راية وطنها خفاقة في الأعالي مكتملة بكل عناصر الحب والوفاء للأرض التي ولدت بها إنه وطنها الجزائر، لونها ومزاجها وطقوسها على أرضه هو الشعور الدافئ الذي يراودها وهي تتأمل الوان الراية التي تعلو بالشعور المتجدد كالمطر والضوء والعطر، إنه يحفزها ويذلل أمامها الصعاب، ويخفف المواجع ويلوّن مساحات الهيام ومعه تنتشي الخلايا، إنه وطنها الجزائر الذي هو الشيء الوحيد الثابت فيها فهو حاجتها وجنونها،تحتضنه بوجهها المطل كنهار رائع فتشتعل عندها لحظة الحماس المنسجمة التي تعبر بها بكل التعابير وهي فوق حلبة الملاكمة فهناك تبرز فصول ونقاط الحصاد .

بعد سلسلة انجازاتها المبهرة والمتواصلة  تأهلت إيمان إلى الألعاب الأوليمبية بطوكيو، كان حلما لم تتصور يوما أنها ستبلغه، لكن إيمانها بقدرتها الفنية وثقتها الكبيرة في امكانياتها البدنية جعلها تحققه، لكن المفارقة أن الحلم تحقق في فترة عانى فيها العالم كله من وباء كوفيد 19 الذي فرض قيودا على التحضيرات وحصرها في أماكن معينة، وكان السفر خارج الوطن مقننا وهذا ما جعلها تحتل الرتبة الخامسة في البطولة لم يفشلها هذا الظرف الطارئ والحساس بل زادها خبرة ورفع معنوياتها أكثر حيث ازدادت الرغبة فيها للتأهل ثانية والمشاركة في الألعاب الأوليمبية بعدما لمست الحماسة واروح التنافسية  عند كل رياضي ورياضية، قررت أن تعمل أكثر لضمان  التأهل للألعاب الأوليمبية بباريس 2024 ممثلة للجزائر في رياضة الملاكمة،. ويحل اليوم الموعود وتلتقي فوق الحلبة بمنافسة الأولى أنجيلا كريني الإيطالية التي انسحبت باكية بعد 46 ثانية إثر تلقيها لكمة قوية، حسمت إيمان النزال ولكنها لم تحسم الجدل المثار حولها أخذت ترقب منافستها وهي تبكي مرددة ما سمعته من إشاعات مغرضة فقط لتبرر هزيمتها وما زاد الأمر سوءا دخول رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني على الخط في حملة التشكيك في الملاكمة إيمان. كان حدثا غير مألوف في الدورات للرياضية العالمية، ادعاءات سخيفة وأكاذيب غير مؤسسة جاءت في إطار حملة تنمر شعواء انضم إليها المرشح للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب خلال كلمته في تجمع شعبي لحملته الانتخابية، وكاتبة سلسلة هاري بوتر جوان كاثلين روينج لتحطيم الملاكمة إيمان، ولكن كانت وقفة الشعب الجزائري والعربي خير سند لها وقد اتضح أن ما تعرضت له يدخل في خانة الحسابات السياسية أرادت بعض الأطراف الدولية إدماجها بالرياضة لإفراغ شحنة حقدهم بعد إخفاقاتهم السابقة في العديد من القضايا الدولية، عرفت إيمان أنها الحرب عليها وأنها حرب شرسة فزادها ذلك قوة وإيمانا لأن الحرب الإعلامية كانت أيضا ضد بلدها وما منحتها الشجاعة هي تلك الوقفة التضامنية من أهلها وشعبها وهبة وطنها على كل المستويات إلى جانبها في كل المحافل العالمية، أيقنت يومها أنها ليست وحدها وأن القضية أكبر من ذاتها، شاهدت دفاع والدها بالأوراق الثبوتية عارضا شهادة ميلادها مولودته الأنثى، وفرحة أمها بها هدية الله تعالى لها غفت في أحضانها كعصفورة آمنة، كالورد والريحان يعبق منها رحيق الأنوثة في عينيها تزهر كل الألوان، تسطع عيناها كقنديل على أبواب الشقاء لتخفف تعبها، لقد أسعدت أيامها، كان يوم ميلادها سراجا أضاء فوانيس العمر المظلمة، ابتهجت إيمان بسماع كلمات والدها،وانتشت روحها بتشجيع رئيس دولتها عبد المجيد تبون، وبكل من أحبها داخل الوطن، كفكفت دموعها وألقت أحزانها وراء ظهرها غير مبالية، إنها تمثل اليوم الوطن والعلم هي مثل الصبر الجميل في الاحتواء الهادئ والاستيعاب الواعي للأحداث من خلال ما سجلته الصورة وعكسته المواقف . واصلت تحديها في مقابلتها الثانية أمام الملاكمة المجرية لوكاهاموري  بكل عزم وإيمان بالفوز، تغاضت عن إساءتها لها عندما صورتها كالوحش على صفحتها الرسمية فكانت النهاية هزيمة مذلة على الحلبة وليس في مواقع التواصل الاجتماعي، كانت إيمان ترد بالفعل على كل من حاول أن يحتقرها ويتنمر عليها وليس بالبذاءات والكلام المسيء، لقد بالغت مختلف وسائل الإعلام الغربية والصحافة العالمية والأوساط الحقوقية والدبلوماسية الغربية في الإساءة إليها والنيل المشين السافر من كرامتها، لامست المواقف حدود العنصرية القميئة، وتداولت أروقة منظمة الأمم المتحدة طبيعة الاتهامات المتبادلة بعد أن اتهم نائب مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة بوليانسكي الجزائر بإشراك رجل بمنافسة الملاكمة في أوليمبياد باريس 2024مع النساء !! كان الرد الجزائري على لسان الدبلوماسي توفيق كودري الذي عبر بشدة عن رفضه لهذه التصريحات مشددا على أن الملاكمة إيمان خليف ولدت وعاشت أنثى، إنها رياضية وبطلة مارست الرياضة بكل المقاييس وأنه لا يوجد أدني شك من ذلك، إلا من له أجندة سياسية مجهولة المقاصد، وعليه تم إحالة الأمر إلى اللجنة الأوليمبية الدولية التي أعلنت بكل وضوح شهادتها التي اسكتت كل مشكك، نظرت إيمان بكل شجاعة إلى كل من حولها متسائلة في عجب  إن كانت هي الآتية من قرية صغيرة نائية   من قلبت العالم كله رأسا على عقب، هل هي بائعة الخبز على الطريق من تقف أمريكا وروسيا وأوروبا في وجهها.

جلست خلال لحظات الراحة منزوية في مكان بعيد عن أعين الصحفيين والرياضيين تتفحص متعجبة عبر هاتفها أخبارها التي ملأت العالم وكأن كل أخبار العالم توقفت وكل القضايا الدولية انتهت والحروب هدأت ولم يبق فوق الكرة الأرضية إلا قضيتها، أغلقت هاتفها وأخدت ترقب من حولها وتتبع خلسة حركاتهم وسكناتهم وتعابيرهم المريبة، صادفها مدربها المخلص وبادرها ناصحا أن لا تبحث في السلبيات حولها،   الناس تبحث في اللاشئ، إن بحثهم مرضي، عنصري، تشكيكي، تراهم يتحدثون عن النجاح والإبداع  والمناخ الرائع الذي يعيشونه، وبعد ذلك تنبري أقلامهم السوداء على بياض الأوراق الجميلة تنثر السموم لتلطخ جمال البياض، علينا أن نجدد بكل إيجابية الأمل وأن نتحكم بكل هدوء في الانفعالات، استجمعت إيمان إرادة التحدي في نفسها واستعادت العزم لتملك السيطرة على مجرى حياتها، في كل مقابلة على حلبة الملاكمة يتلاقى الخصمان وكل منهما يبلغ الآخر بالضربات واللكمات ما أراد قوله، ماضيه وحاضره وربما مستقبله دون تردد أو التفت لتفاهاتهم، لديها نهجها كعربية ومسلمة ولها واقع تعيشه، فقط عندما تنظر لكل من أحبها من كل أنحاء العالم وإلى من ألّف الأشعار من أجلها وأطرب بالأغاني مسامعها، وإلى كل من تتبعها مهتما بأخبارها، عليها أن تتهيأ جيدا فلاتزال هناك منازلات أخري تنتظرها على الحلبة، وهناك يكون الانتقام. أجرت إيمان مقابلتها الثالثة مع الملاكمة التايلاندية وفازت فوزا عظيما، ومنها تأهلت للمباراة النهائية. كان كلما اقترب موعد المنازلة زادت حدة حملة التنمر ضدها، فما زادها ذلك إلا عزيمة وإصرارا أكبر، لقد أصبحت على بعد خطوة واحدة من تحقيق هدفها،وتعلم أنهم يحاولون النيل من معنوياتها بتشويه صورتها والحقائق بكل الطرق المشبوهة حتى تلك التي تنال من شرفها وتسيء إلى كرامتها بغرض تحطيمها، أدركت وفهمت أنها لعبة سياسيين بدول توصف بالعظمى يتلونون ويغيرون جلدهم كالثعابين وقتما شاؤوا وكيفما أرادوا، قوة خفية تحرك الحماسة في نفسها وتجدد إرادة التحدي في قلبها، ودمائها الحارة المتدفقة تأبى عليها أن تكون فريسة، لن ينفعهم ما خططوا له، لن يمنعوها من الوصول إلى هدفها، إنها من أمة راضية بما قسمه الله تعالى لها، تؤمن بأن أخلاقها تسطر درب حياتها حتى لو مشته حافية فوق الأشواك، أمة لا تفرط في مبادئها، عزمت أن يكون ردها الوحيد فوق الحلبة، وكان لها ما أرادت، انتصار مشرف على منافستها الصينية، حققت حلمها بالفوز بسموها على الصغائر وترفعها عن البذاءات، وبوعيها وحبها وولائها لوطنها الجزائر الحبيبة، إن ما قدته كان ردا لجميل بلدها الذي ألبسها ثوب العز وكساها بالكرامة وحباها بالعافية والخير والأمان، لقد صوبت بوصلة العطاء نحو الوطن والهوية والعرق الإنساني، أنشدت النشيد الوطني " قسما "وعيناها لا تفارقان علم بلادها يرتفع أمامها، لقد ردت الاعتبار لنفسها ولبلدها بالعمل، وبالإيمان والإرادة ..

***

قصة قصيرة

بقلم: صبحة بغورة

شعر وترجمة

 د. بهجت عباس

***

يا مَن قضيتَ العمر رهـنَ الخيالْ

أفــقْ! فـمــا دنــيــاكَ إلا ضــلالْ

وحَــرِّر العـقــل مِــن الاعـتـقـالْ

ولا تقــلْ للشيء هــــذا مُحـــالْ

*

فالنبع يجري صافياً في الجبالْ

ولــمْ تــزلْ تزحـف بين التـلالْ

فالروحُ إنْ لمْ تكُ ذاتَ اشتعالْ

أولى بـها أنْ تطلبَ الارتحـــالْ

*

وبعد أنْ سلكْتُ دربَ المـعــال

وصارت الأحـلامُ قـيـدَ المنــالْ

حمّلـتُ ما لـم يـكُ قطُّ فــي البالْ

عِـبْـئــاً ثقيـلاً فــي ليـالٍ طِــوالْ

***

English

Bahjat Abbas

O you, who spent your life a hostage to illusion.

Awake! Your world is nothing but deception.

Free the mind from the apprehension,

And don’t say for any thing: it is impossible.

*

The spring runs clear in the mountains

And you still crawl between the hills

If the soul is not vibrant,

It’s better for it to ask for departure.

*

After I took the path of prestige

And dreams became within reach.

I was loaded with what was never in mind.

Heavy burden during long nights.

***

Deutsch

Bahjat Abbas

O du, der dein Leben als Geisel der Illusion verbracht hast.

Wach! Deine Welt ist nichts als Täuschung

Befreie den Geist von der Besorgnis,

Und sage nicht für Etwas es ist unmöglich.

*

Die Quelle fließt klar in die Bergen

Und du kriechst immer noch zwischen den Hügeln.

Falls die Seele nicht lebhaft sein sollte,

ist es besser für sie, um die Abreise zu bitten.

*

Nachdem ich den Weg des Prestiges eingeschlagen habe,

Und Träume zum Greifen nah wurden,

War ich voll von Dingen, die nie in den Sinn waren.

Schwere Belastung in langen Nächten.

***

د. بهجت عباس

 

 

 

لــــم  تــكــوني  نـــزوةً عــابــرةً

تُــنعِشُ  الــرُّوحَ وتَــنْفُضُّ سَرِيعا

*

إنَّــمــا الــحُــبُّ الَّــذي يَــجْتاحُني

يَــأْسِرُ الــقَلْبَ ويَــحْتَلُّ الــضُّلُوعا

*

ثـــارَ كــالْــبُرْكانِ فــي أَوْرِدَتــي

فَــغَدَتْ  نــارًا وقــدْ كانَتْ صَقِيعا

*

أَنْــتِ  كــالْغَيْثِ على شَوْقي هَمى

حَــوَّلَ  الْــيابِسَ فــي حَقْلي رَبِيعا

*

شَــهْــرَزادي كــانَ لَــيْلي مُــظْلِمًا

فَــغَــدا لَــيْلي شُــمُوسًا وشُــمُوعا

*

أَيْــقَــظَ  الْــفَجْرُ شُــجُوني خِــلْسَةً

بَعْدَ داجِي اللَّيْلِ فَازْدادَتْ سُطُوعا

*

حــاذِري أَنْ تَجْهِلي شَوْقي وحُبِّي

كَــيْ تَــزِيدِيني الْــتِياعًا وَولُــوعا

*

إنَّــنــي  الْــمَــارِدُ  فـــي قُــمْــقُمِه

وإِذا ثـــارَ فَــلَــنْ يَــبْــقى قَــنُوعا

*

لا  تَــلُــومِيني إذا شَــوْقــي طَــغا

لَــسْتُ قِــدِّيسًا ولا كُــنْتُ يَــسُوعا

*

أو كَــمــا الــطُّوفانُ فــي ثَــوْرَتِه

يَــغْمُرُ الأَرْضَ ويَجْتاحُ الزُّرُوعا

*

إنَّـــكِ  الْــحُــبُّ  الَّـــذي أَنْــشُــدُه

وأَنا  في الْحُبِّ لا أَرْضَى رُجُوعا

*

لَــحْــظُكِ الْــفَــتَّانُ أَفْــنى قُــدْرَتي

سَــدَّدَ الــسَّهْمَ فَــأَرْداني صَــرِيعا

*

كُــنْتُ  كــالْفِرْعَوْنِ فــي عِصْيانِه

مِنْ هَوَى عَيْنَيْكِ قَدْ صِرْتُ مُطِيعا

*

فَــأَحِــبِّــيــني  كَــثِــيــرًا إنَّــــنــي

في  غِيابِ الْحُبِّ قَدْ عانَيْتُ جُوعا

*

رَغْــمَ  أَنَّ الــشَّيْبَ يَــغْزُو مَفْرِقي

إنَّــني في الْعِشْقِ ما زِلْتُ رَضِيعا

* *

عــبــد الــناصر عليوي الــعــبيدي

شاعِرٌ حاولَ يوماً أنْ يَعُومْ

في بِحارٍ مِنْ غُيُومْ

قالَ لا أحتاجُ أنْ آخذَ مِصْباحاً معي

أو بوصَلَةْ

لَمْ يُكُنْ يعرفُ أنّ القافِلَةْ

غادَرَتْهُ

قبلَ أنْ يَبْلُغَ غَيْمَةْ

لَمْ يُكُنْ يعرفُ أهواءَ الغيومْ

عندما تَحْجُبُ عَنْ عينيهِ

إشعاعَ النُّجُومْ

لَمْ يَكُنْ يغويهُ يوماً

غير أنْ يُبْحرَ دوماً

يَتَمَنّى

أنْ يدومْ

حُلْمُهُ

بدّدتْ ريحُ الهُمُومْ

غيمهُ

فمتى سوفَ يعومْ؟

-2-

ذاتَ صُبحٍ

وَهْوَ يَصْحُو بعيونٍ مُقْفَلَةْ

أشْرَقَتْ في مُقْلَتَيْهِ القافِلةْ

لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أنْ يَتكَهّنْ

ما الذي سوفَ يراهْ

راحَ يمشي مثلَ أعمى

في دُرُوبٍ قاحلةْ

غمرتْهُ الأسئلةْ

وهَوَتْ فوقَ خطاهْ

أَنْجُمٌ مُشْتَعِلَةْ

***

شعر: خالد الحلّي

عارياً يركضُ

تحتَ شمسِ اللهِ

واللهبِ العظيمْ

هارباً يلهثُ

من شرارِ الصيفِ

ومن حرِّ الجحيمْ

لا شيءَ يحميهِ

لا ظلَّ يأويهِ

ولا هواءَ يمسُّهُ

ولا كهرباءَ ترحمُهُ

فمضى يركضُ

مقهوراً ومجنوناً

في عراءِ الأرضِ

والكونِ الحريقِ

علَّهُ يلقى خلاصاً

في الفراغِ

في السماءِ

في فراديسِ النعيمْ

**

هكذا حالُ العراقيِّ الفقيرْ

يعيشُ بالنيّاتِ والبركاتِ

و" كما خلَقْتَني ربي "

وعلى الرزقِ الصغيرْ

راضٍ بلقمتِهِ

حتى وإنْ كانت حصىً

شروى ترابٍ

أَو نَقيرٍ أَو شَعيرْ

ياآآآهْ يازمنَ النذالةِ

والسفالةِ والتفاهةِ

والقرودِ والحميرْ

**

هكذا صارَالعراقيُّ الكريمْ

من بعدِ (عاراتِ الرئيسِ)

والخسيسِ والزنيمْ

إِذْ كانَ يوصِمُ

كلَّ عراقيٍّ طيِّبٍ

وعارفٍ وعظيمْ

بأَنَّهُ " كانَ حافياً

ونحنُ أعطيناهُ

النعالَ والكساءَ

و نحنُ أَهديناهُ

إلى الصراطِ المستقيمْ "

**

وهكذااااا أَصبحَ

ابنُ الرافدينْ

في زمانِ القادمينْ

على دبابةٍ أمريكيةْ

وفي شاحنةٍ  إيرانيةْ

وعلى متونِ طائراتٍ

صهيو- أَطلسية " "

مُكتظةٍ بالسمِّ والعفنْ

وهكذا أُستبيحتِ البلادْ

وهكذا قَدْ خَرَّبوا الوطنْ

**

يا لهذا العراقيِّ الـحزينْ

كمْ هوَ مظلومٌ

وكمْ هوَ منهوبٌ

وكمْ هوَ عارٍ

وكمْ هوَ فقيرٌ

الى أَبدِ الآبدينْ

***

سعد جاسم

2024 -8 -3

 

لا يهمني ان اتجهت شرقا أو غربا

مع امرأة لعوب تطارد شغفها

بمشاعر مسروقة ومستباحة

ليس لدي شكوى ضد قافية

تهمس بها ما تشاء من تبريرات

ومن رسائل غبية

تتوسل الأغصان ان تشفع لك

عند سيقان سنابلها

مثل بائع أحلام

خسر للتو في آخر معاركه

يتوسل أرقه والنجوم التي ترافقه

يتوسل آهاته والوسادة المبتلة بدموعه

يبكي ايام شقائه

وتعوده الضائع لامرأة

كان يمنيها ... ان غدا يوم آخر

لن أسميها حبيبته فهو لا يعرف

معنى الحب ولا الحب يعرفه

لكنها تعرف لعبة أكاذيبه

ولعبة  رذاذات خيانته

وجروح قلبها تنزف بآهاته

ما بيننا غدت مسافات بعيدة

لم تعد أنت أنت

عافك حنين الناي يا شاعري

فمواسم السحب لا تحمل

حتى قطرات الندى

لا تخبئ راسك خلف شكوى ضالة

وكيف يختبئ جسد نعامة

الآن أيقنت ان الحب كذبة

ابتدعها الشعراء

لتزويق قصائدهم

***

سنية عبد عون رشو

وكآخر الموجات

التي تحرك البحر

في ذاكرة العشاق

تطل على رمال العمر

على الظمأ المكتنز بالأشواق

وكآخر المحطات

التي استغرقت عمراً

في مراعاة فروق الحضور

وهي تشرب عرق الطريق

ومن قلبي ذي الأبواب السبعة

من ضحكة الروح

المتكئة على الجسر

تناجي سمرة المساء

تخرج عليّ

بكلك يا شغف الماضي

حين ينازع ليكون اليوم

يا تفاصيلي الهاربة

من دفتر مذكرات

مراهقة بضفائر من ليل

يا شجن الطين

حين ذبول الزهرات

وبلوغ الرعشة

حين تحط

فراشة على خد النور

يا أسمر

مازلت أنا

مازلت هنا

تأسرني الألوان

وتخاطبني العتمة

بحروف مسحورة

مازلت أنمنم وجهك

أرسمه على أجنحة النحلات

وأغني

فيرقص حقل النرجس

مازلت أبادر

بمصافحة الواقع

بخيال باهر

مازالت أجاهر بالحب ...

***

أريج محمد

6/8/2024

 

رواية جيب

كانت أمنيتي الوحيدة هي أن ألتقي السيد محمود المنقذ..

هكذا يسمّونه

أو

ربما هو الذي سمّى نفسه

لا فرق عندي

لكني

رسمت ملامحه في ذهني قبل أن ألتقيه، وأراه بعينيّ، وتيقنت من أنه ليس وهما. ليس أسطورة.. يمكنه أن ينقذني كما أنقذ الكثيرين قبلي، تخيلته رجلا في الثلاثين من عمره ذا شنب غليظ يبدو أكبر من عمره بعشر سنوات، هل يسبق الزمن ياترى على وفق رؤيتي أم أنه يرضخ للسنين؟

كلّ مامر قد يكون صفات عرضية لشخص واقعي، والأهم مما قيل أن السيد المنقذ لا يخفق أبدا في أيّة عمليّة يتبناها.

هذا رأي غالبية الناس فيه..

أيضاً

وضعت في بالي أنه يستلم أجورا على مايقدمه من خدمة لطالبي الخلاص والهاربين من عذاب يطاردهم. أحياناً

بغض النظر عن مبلغ يقدم إليه ناقصا، وفي بعض الحالات يتساهل مع المعوز فيطلب منه أن يرد إليه بقية النقص حين تتحسن الحال، وتبلغ به الطيبة إلى الحدّ الذي يغض النظر عن بعض النقص فلا يسأل عنه، والرابط الوحيد بينه وبيننا نحن طالبي النجاة هو كلمة شرف!

لايهمّه إن كنت مذنبا أم بريئا..

بل الذي يعنيه أن يساعدك على الهرب.

من حقّك الهرب والعيش في أيّ مكان تراه يحفظ حياتك!

يتهامس ذوو الحاجة إلى الخلاص باسمه

وإن شكّ بعضهم أن السلطة نفسها تعرفه وتغضّ النظر!

بخصوصصيّة أدق تجد فيه يخلّصها من أعدائها..

أمّا أنا فلم يكن المال ليعوزني.. كنت على استعداد لأن أدفع له أي مبلغ يحدده مقابل أن ينقذ حياتي.

كنت أشك في وجوده حقا غير أني آمنت به بعد الأحداث الأخيرة التي هزت البلد كلّه..

وفي أسوأ الحالات:

قد يكون وهماً لكن عليّ أن أختلقه لعلّه يجعلني أهرب إلى البعيد حيث لا عين تلاحقني ولا سيف يَسلّط على رقبتي.

ولم يكن أمامي مجال آخر..

هكذا تصوّرت:

ربّما الأوهام تنقذنا

أو تدمّرنا

مثل الوهم الجديد الذي تخيّله غيري وراح يلاحقني ولا حيلة لي فيه.

كم حاولت قدر الإمكان أن أبتعد عن المشاكل ولا أنحاز لطرف ما ولا أنفعل بما يدور حولي فلعلّ انفعالي يُرضي طرفا ويسخط آخرين مع ذلك التقطتني الأحداث المتضاربة مع من القطتْ ممن انساقوا بإرادتهم..

لا أبرؤ أحداً غير نفسي

لأنني متأكد من أني لم أقترف إثماً

قد يجد أيّ منّا نفسه في دوّامة.. ظننت أني حالة تختلف عن الآخرين سوى أن الوضع الجديد الذي فاجأني لم يجعل لي حرّيّة الاختيار.. هناك حلّ واحد أمامي فقط هو الهرب..

الهرب وحده

 وقتها -قبل أيّ موقف سلبيّ يتّخذه عنّي-ضمَّتني جلسة مع أبي وأمي وأخويّ:أختي وأخي.. رحنا نتابع ننصت إلى المذياع.. نتابع بشغف أغنية شائعة لمطربة محبوبة تتأوه من الغدر والهجر.. الأغنية توقفت عند المنتصف أعقبها تلاحق مارشات عسكرية..

نشيد وطني شائع الصيت

قال أبي: هل هناك انقلاب

وانبرت أختي تقول:

ربما يكون يوم غد عطلة !

 وإذا بالخبر يهطل فجأة فوق رأسي بصيغة لم تخطر على بال.

آخر شئ أتوقعه:

مذيع الأخبار يعلن عن حركة مشبوهة جديدة:

إحباط محاولة

تحدٍّ جديد للسلطة..

زمرة حاقدة..

خفافيش تتحرّك في الظلام..

مصطلحات قديمة ظنّها الناس انتهتْ.. ماتت وَقُبِرَتْ فظهرتْ من جديد، مثل بروز أيّ فطرٍ سامٍ لاتتوقعه..

راح المذيع يعلن عن أسماء المشبوهين..

إستغراب، وأذناي تنتصبان لتبتلعا الصوت الحماسيّ ذا النبرة العالية الحادّة.

جوارحي..

عيناي..

إحساسي

أعرف بعض الأسماء التي وردت في قائمة الإدانة.. عشرة ومازال المذيع يقرأ.. لا أنكر أن صداقة حميمية ربطتني ببضعة منهم، أما الآخرون فبيني وبينهم سلام طريق أو لم يخطروا ببالي.. لا أعرفهم.. ولم أسمع بهم.. لا أنكر أننا جلسنا وناقشنا مواضيع متشعّبة.. تحدثنا، استحسنا واستهجنا. أسفت لأصدقائي الذين استبعدت الشكّ فيهم.. غير خافٍ عن حدسي أنّ هناك فترة هدوء خانق خيمت خلال الأيام الماضية أحسست بها وأحسّها غيري الى حد الاختناق إذ يمكن أن نتذكر أيّ حدث سوى اننا ننسى ان الهدوء التام اذا خيم طويلا فإن صخبا ضاريا ينقض فجأة عليه.

كنت أتوجّس من الهدوء القاسي وأنتبه أحيانا إلى حياة الناس العادية، أراهم يأكلون ويلبسون، ينامون، فأردد مع نفسي هل تحتوينا الحياة بوجه واحد.

صبغة واحدة!

ثمّ

أنسى

أتجاهل عمداً ما تأتي به الأيام القادمة بعد الحياة الرتيبة التي نعيشها

وفجأة

كما لو كانت نغمة نشاز تتهادى إلى أذني..

نغمة حاقدة..

نغمة ذات رائحة كريهة مقرفة..

أصبحت من حيث لا أدري أنا الهدف..

بين مصدّق ومكذّب

الخبر يبهرني

كنت في ترتيب متأخر

أخي الأصغر يعد على أصابعه.. يذكر أنّ الرقم 19 سبق اسمي..

أنا العشرون

محمد العابد

لا أظنّ هناك شخصا غيري

لست في ذيل القائمة ولا في أوّلها ولعلّ اسمي أقرب إلى النهاية.

محمد العابد بعض الأحيان يرد خطأ عن غير عمد المذيع يقرأ الياء باء لم لا يكون العايد بدلا من العابد.

هل أخطأت الآنسة الكاتبة وهي تنقر على لوحة البورد أم أخرج إلى الشارع فأنادي أنّ العاصفة التي انبثقت من رحم السكون القاسي الرتيب أخطأت هذفها وإني برئ؟

أعرف نفسي جيدا

أحاول أن أقف في المنتصف لئلا أُحْسَب على أيّ طرف.

بغضّ النظر عن منزلتي..

أيّة وظيفة أشغل

ربّما أكون موظفا عاديّاً

عاملا في معمل

أو أبيع الخبز

في معمل سجائر

تاجر كبير

منظّف.. حمال.. ساعي بريد..

معلّم مدرسة

موظف كبير في دائرة

أشتغلت في عدة مهن.. ومارست حرفا كثيرة ولم أستقرّ على أيّة منها..

لأكن في أيّة منزلة عليا أم سفلى

لعلني كلّ هؤلاء:

أو

أحدهم

ولو خًيّرت لاخترت وظيفة أخرى غير التي أشغلها. كنت أتمنّى أن أصبح غواصا أنفذ في أعماق الماء، أمنية أثارت السخرية بخاصة أفراد عائلتي الأقربين. أين نحن من البحر يامعتوه ونحن بلد قاري ليس لنا إلا منفذ من خليج صغير مخنوق على بحر الله الواسع..

إذن

 سأنسى كلّ ماقلت ، فما حدث غريب عنّي ولا يسوّغ لأحد اتهامي بفعل لم أقترفه.

المفاجأة نفسها جعلتني لا أنتبه إلى أسماء تلت اسمي ولا التفت الى ماقالته وسيلة الإعلام: غراب نوح المذياع..

أهلي أنفسهم تركوا الأسماء الأخرى التي وردت بعد اسمي.

أخي الأصغر ترك العدّ والتفت إليّ:

محمد العابد لكنهم لم يذكروا اسم الأب ولا الجدّ الجد .. لو ذكروا الاسم كاملا..

سألني أبي:

هل أنت متأكد من نفسك؟

وقالت أمّي:هل كنت تخفي عنّا. زهل فكّرت بنا؟

كيف أردّ الشبهة عنّي وخصمي ليس سهلا ولا يحبطني أيّ شئ بقدر اللوم والتقريع ؟ أنا على يقين أني لست معهم ولا أظنّهم انضمّوا إلى تنظيم سرّي لا أخالف أحدا الرأي وأقف محايدا.. ولا أستسيغ العصيان فهل أظنّه التباسا.. شخصا آخر.. شبهة جاءت في غير موضعها.. !أضاف أبي متشبّثا بأمل ضعيف:

مادمت تعرف نفسك وتنزِّهها عن التورّط فيما يشين فلعله شخص آخر غيرك حمل اسمك.

واندفعت أمي:

بلا شكّ شخص غيرك. فأنت طول عمرك تبتعد عن المشاكل.

وأكد أخي الأصغر بحماس:

هناك أكثر من شخص يحمل اسم محمّد العابد.

كيف أثبت أنّه غيري ، والأسماء التي سمعتها أعرفها وفيهم من أصدقائي، ولو ادعيت أنّي لست معهم فمن يسمعني في هذا الصخب والفوضى ؟!

وردت أختي بانكسار:

لا أستبعد أن تخرج غدا مظاهرات عارمة تطالب السلطة بقطف الرؤوس !

أكّدت أمّي :الناس دائما يحرّضون على الشرّ.

البيت في ضجة وقلق.

صدمة

ذهول

مرجل لنار هادئة يمكن أن تستعر في أيّة لحظة..

الوقت يداهمني

ومنذ تلك اللحظة بحثت عن السيد محمود المنقذ

التفت إلى الجميع وفي بالي ألا أرجع في كلامي:

من المحتمل أن يداهموا المنزل سأغادر من الباب الخلفيّ

ازداد قلق أبي فسأل:

وأين تظن نفسك تختفي.

هناك احتمالان منزل صهري الذي لا أرغب فيه وصديقي نجاح الخالص

تهلل وجه أخي المضطرب، ونسي أنّنا في محنة ، فلمزني:

لا تنس أن تسلمني على الآنسة بدرية!

لاح بعض ارتياح على وجه أمّي:

يمكن أن تختفي بضعة أيام عند زوج أختك في المزرعة الكبيرة حتى يبين الصحّ وينكشف المستور لكن بيت صديقك نجاح.

قاطعت بحماس اليائس:

أو أهرب إلى خارج البلد فلن أسلّم نفسي لأحاججهم ببراءتي.

هي الفكرة ذاتها التي راودتني.. الملجأ لبضعة أيّام.. بيت أختي قبل بيت صديقي نجاح إذ لا أريد أن أخطئ بحقّه. لا أقصد السياسة بل أمرا آخر.. أما زوج أختي فلا أخفي أنّي قبلت على مضض مصاهرته.. سمعت عن علاقته بالدولة واللمز حول ممتلكاته والطرق غير المشروعة التي نمت بها ثروته. رجل قانون تحتاجه الحكومة ويحتاجها.. كلاهما يتلاعب بالآخر..

أموال

مزارع..

مشاريع

قال أبي ومن منا سلم من كلام الناس.. وقالت أمي الأنبياء والأولياء أنفسهم لم يسلموا من الألسن، فكيف بنا نحن البشر العاديين.. فهل ينكرني صهري السيد ممدوح الراضي صاحب المنزلة الرفيعة والنفوذ الكبير.. لا أشكّ.. بعض الاحتمالات مثل الكوابيس، ومازلت أتماسك وأنا أترنّح من هول الصدمة.. ما عليّ إلا أن أغامر فأنا في نقطة الصفر الآن:

قال أبي مؤكّدا:

فكرة رائعة في المزرعة أكثر من مخبأ ولزوج أختك نفوذ يبعد الشبهة عنه، القانون بيده، فلا أحد يظنّ به الظنون.

وخرجت من الباب الخلفي لتأتي بعد هربي بساعة ، على وفق ماسمعت فيما بعد، مفرزة من شرطة يصحبهم كلب ففي الوقت الذي اقتحموا البيت وقلبوا مافيه ثم اسستجوبوا أهلي الذين ادّعوا أنهم لم يروني منذ أيام كان الكلب عند خزانتي يشتمّ ملابسي. …

2

هناك في المزرعة كان الوضع مختلفا لم أسكن في بيت أختي الفخم بل في الطرف الجنوبي حيث الغرفة التي يشرف من يسكن فيها على الدواجن. في أوّل لقاء. بدا ممدوح الراضي متجهما ربّما لم يشكّ في أنني آوي إليه منذ اللحظة التي سمع فيها اسمي، وقال بانفعال بارد إنه سيؤويني مراعاة منه لواقع اجتماعي أما ماقمت به فهو عمل دنيء.. كيف تسوّل لي نفسي أن أتفاعل مع تنظيم سِرّيٍّ يسعى إلى أن يقلب الوضع في البلد رأسا على عقب، بعدما شاع الهدوء الذي ننعم به وأحسّ به العدوّ والصديق.. راح يذكِّرني بما سلف ويلومني إذ لم أرغب في العمل معه والحق إنّه عرض علي أن أكون كبير العمال في مزارعه أو أن أدخل شريكا معه في أحد مشاريعه.. لم يحدّد أي مشروع سواء في الداخل أم خارج البلد، وشجعتني أختي ورغّبتني إلى درجة التقريع.. غير إنّي رفضتُ العمل معه لشكّي فيه.. مثلما رفضت زواج أختي منه.. ثمّ لم أكن لأرغب قطّ في أن أتخلى عن وظيفتي أو الوظائف التي أَلِفْتُ نفسي عليها.. استهوتني كل الحقول.. جميع الوظائف.. أثق بنفسي أنّي يمكن أن أفعل أيّ شئ.. أصلح لكلّ مهنة، في الوقت نفسه لا أخالف أحدا رأيه.. أقسمت لصهري أنّي لا أعرف أيّ شيء وقد فاجأني الأمر ليس أمامي سوى هذا الحلّ، فها انا أقف منكسراً أمام رجل عارضت في زواجه من أختي.. لقد توسّلت إليه ألا يتحلّى عنّي، وقلت شبه يائس لن أبقى طويلا بضعة أيام ثم اذهب الى صديق لأجدّ عنده في البحث عن محمود المنقذ..

كان صهري يعقّب بعد أن رقّ لتضرع أختي:

سأتجاهل ضميري وأخالف القانون!

فردّت عليه بابتسامة واسعة:أعرفك معدنك طيب!

قضيت أوّل ليلة لي في غرفة مراقبة الدواجن وكلّف صهري المراقب المناوب بمهمة أخرى. لم أسمع في الليل إلا خوار بقرة وبعض همهمة من الدجاج ثم السكون التام.. الحق راودني قلق وصداع فظيع.. حملت المصباح اليدوي وذهبت الى عنبر االدجاج المحصّنن.. شاهدت عن بعد خيال ثعلب يحوم عند السور وتهادى إلى سمعي صرير جندب بعيد.

وشئ أشبه بالهمهمة

ولعلّه السكون الذي تخيّلته همهمة بعيدة.

لاشئ في الخارج..

رغبة ما راودتني أن أخرج في الظلام

وتقدمت نحو أحد عنابر الدجاج..

ارتقيت الدرجات الثلاث، وفتحت الباب بحذر.. .. لم يكن هناك ظلام فقد فاجأني نور ساطع يتدلّى من حيث صفّ مصابيح ساطعة تنتشرمن اليمين حتى الشمال.. كان الدجاج ينهش الحبوب.. يظن بفضل الضوء النّهار لما يزل ساطعا فياكل وياكل..

ضوء مخادع في غير وقته

ودجاج نهم لا يشبع

ولا يعرف الليل!

نظيف حقا

رشيق

جميل

ولا يتوقف عن الأكل.

الفضول نفسه دفعني إلى أن أحمل المصباح وأخرج في الليلة التالية.. ليس هناك من ثعلب.. هناك تمثال صغير يتحرك قرب الحظيرة فرفعت المصباح إليه فوقع بصري على أرنب بريّ يقضم شيئا ما..

تجاهلته

وتوجهت إلى العنبر فوجدت الدجاج يلتهم الحبوب بنهم غير مألوف، ودفعني الفضول نفسه إلى أن أدخل الحظيرة الأخرى التي رأيت الأرنب عند نهايتها، كانت القاعة مظلمة .. كشفها المصباح. تململت بعض دجاجات تحت الضوء، ونقّت إحداها نقّة مكتومة، وأبصرت على القش عند مجرى على طول الحظيرة أكداس البيض.

دجاج ينام بهدوء

وآخر في مكان ثان صاح تحت الضوء يلتهم الحب!

فعدت وأغلقت الباب ورجعت إلى غرفتي وقد تلفّتّث مرات لعلني أبصر الأرنب البري الذي غاب.

ياترى كم ليلة أقضي هنا؟

في رأسي تجول فكرة ما.. صديقي جمال الصالح لا أظنه يرفضني

لعلني تحاشيته لأمر ما

رحت أقضي النهار بالتطلّع عبر النافذة الى الأفق الطويل العريض الذي يسابق عيني بصفاء وهدوء. مشهد غفلت عنه طويلا.. لم أتواصل معه من قبل إلا في سفرة عابرة أو جولة لا أخطط لها.. لا أنكر أنّ هناك قلقا شفافا يراودني بين حين وآخر:ماذا لو خانني صهري، هل أحلم بخراب بيت أختي تلك الرائعة الرقيقة هل تطلب الطلاق وتثور بوجه زوجها؟ إذن الافق اللامتناهي يأخذني على الرغم من الهاجس المتوحّش إلى نسمةٍ شفّافةٍ تحلّقُ فوق إسطبل البقر وبين قطعة من السحاب انحدرت تهرول مثل حصان رشيق، . قطيع الغنم عن يمين المزرعة، وكنت في الصباح الباكر فتحت النوافذ العليا لحظيرة الدواجن الكبيرة وأطفات نور المصابيح التي رأيتها متوهجة في الليل لتنطلق الدجاجات التي لا تنام داخل باحة ذات سياج.. قضيت الوقت الى منتصف النهار أنثر في الفتحات الحب.. ثم انتقلت الى عنبر الدجاج الاخر. .. كانت هناك كميات هائلة من البيض ولم اع الا على صوت اختي وهي تقول بنغمةٍجافّةٍ حزينة:

ستأتي عاملة تجمع البيض.. لانريد أحدا يصل إلى مكانك.

لقد أطفأت النور

قالت معاتبة:

لو كنت قبلت الشغل بدلا من السياسة الراضي صهرك.. يحبّني ويحترمني.. لم يزعجني أيّ يوم.. هل تظنه يجعلك عاملا.. هل يختار لك وظيفة قليلة الشأن لا تليق بك.. امسح الأفكار السوداء من رأسك يا أخي نحن لانريد لك إلّا الخير.

يشيع في أساريري بعض ارتياح على الرغم من عتاب عذب مغلّف بتأنيب قاسٍ فأقول

 حسنا أنك دافعت عن أخيك أمامه دفاع المستميت

 تكون محطئا إن تتخيلني أتخلى عنك!

لتنسي الماضي.. ومعارضتي لزواجك. نحن أبناء اليوم.. (ضحكت أحاول أن أغير الموضوع) دعيني أسألك هل تخرج الثعالب في الليل؟

 رأيتها ؟ولم خرجتَ في الظلام ؟

على الأقل أنا الحارس البديل هكذا ُيُخَيَلُ إليّ ولا أرغب أن أرى نفسي ضيفا غير مرغوب فيه

مطّت شفتها يائسة ، وواصلتُ:

نعم رأيت احدها قلت استطلع

الثعالب تجذبها رائحة الدجاج لكن الأبواب محكمة الاغلاق.

لا تقلقي لن أنسى الباب مفتوحا.

أكدت

 الثعلب جشع كل الحيوانات تكتفي بفريسة وحين تشبع تترك الأحياء الا الثعلب فإنه لا يكتفي بعد أن يشبع الا يقتل بقية الدجاج، ولو لم نجعل أرض العتابر من الإسمنت لكان يحفر نفقا إليها

قلت ضاحكا:

حقا إنها روح شريرة حين تصل إلى هذه الدرجة لكن اطمئِنّي لن أنسى الباب!

وغادرت العنبر لتتركني أقضي مع الأفق والدجاج يوما آخر.. مجال آخر امتدّ أمام بصري

سعة أخرى

امتداد كأنّه لا متناه

وكان صحوا سكن فيه الهواء وشاع الدفء، أمامي دجاج يخرج في الهواء يلتهم بنهم وخفة مايجده تحت مناقيره من دود الأرض وحبّ متناثر، وقد يتزاحم حول شئ ما يشبعه نقرا فأتبيّن أنّه فأر صغير ميت فازت به دجاجة ضخمة من الدجاح الذي لاينام فهربت به لتنفرد بعيدا عن السرب فتبتلعه كلّه دفعةً واحدة ، أو تطالعني بعض بقرات بأخرجتها عاملة من عنبر البقر إلاى الحقللحقل فتقضم على بطء شديد الحشائش ، وتتطلّع في الأفق البعيد بنظرات بليدة.. حرية ناعمة صامتة يهتك سرّها على فترات صياح ديكة، أو نواح طيور، ولعلني كنت أشعر بالضجر إذا طال اختبائي في هذا المكان.

وفي ضحى اليوم الثالث

جاءتني اختي بمريلتها البيضاء تهادت الي من طرف المزرعة الشمالي وبالطريق عرضا قطفت بعض حبات الباذنجان وبعض الخيار رأيتها على غير عادتها لا قلق مثلما بدا على وجهها ساعة فاجأتهم بحضوري كانت تشيع على وجهها علامات ارتياح:

ألق

خفة

رشاقة

راحت تدندن، وهي تتطلّع إليّ بابتسامة، واسعة

وبادرتني:

صهرك بعثني إليك.. لديه أخبار حسنة عنك هيا معي إلى المنزل..

ماذا أهي البراءة أم الوساطة:قلت بذهول:

آمل أن يكون كذلك

ودفعني فضول لأسألها

ماذا كنت تفعلين لو سلَّمني زوجك.

فردت بحدة ولما يزل الارتياح على وجهها:

أمر محال الراضي لايكسر الأعراف أما إذا فعلها فلن أقبل به0 وصرت على أسنانها) لماذا تقول ذلك؟

وحين وصلت نهض يستقبلني بطريقة مختلفة ، وقد وجدت له عذرا في أنه منع ولديه وبنته من أن يختلطوا بي فترة اختفائي في غرفة المراقبة لئلا يفلت لسان أحدهم، طلب من أختي بلطفٍ أن تخرج ، فانصاعت وغادرت على عجل:

يامحمّد هل تصدّق أنّك برئ!

قلت بثقة مشوبة بفرح خفي:

أعرف نفسي جيدا.. طوال عمري لا أعارض من أختلف معه في الرأي ، فكيف بالدولة ذات السلطة والجبروت، ولا أذكر موقفا ذكرت فيه الدولة بخير أو سوء، ولو لم أعرف نفسي غير ذي ذنب لما لجأت إليك.

فضحك ضحكة غريبة:

لاتستعجل أنت برئ ومتهم في الوقت نفسه

تغيرت ملامحي حدّ البلاهة:

هل هو لغز؟

فوضع رجلا على وقال بثقة عمياء:

فعلا لغز

فسّر لي كلامك أرجوك!

هل تثق بي.

بكلّ تأكيد وإلّا لما لجأت إليك.

كل مافي الأمر أنّ المتهم الأساس في قضيّة التنظيم السري هو السياسي المعروف محمّد العايد!

باستهجان:

وماعلاقتي أنا بموضوع التنظيم وتغيير نظام الحكم؟

خطأ ليس إِلّا ، ياعزيزي، الدولمة تخطئ مثلنا نحن البشر.. وتبقى التأويلات فإمّا أن تكون كاتبة الطابعة أخطأت بالاسم، أو أن الحكومة أخطأت باسمك، أو إِنَّهَاتعمدت الخطأ لأمر ما.. هناك سرّ.. (وكرّر واثقا) سرّ بالتأكيد.

إذن أنا على وفق أسوأ الاحتمالات ضحيّة خطأ طباعي في هذه الحالة على الدولة أن تعتذر لي عن الخطأ!

هل جننت؟(قالها أشبه باللائم)بصفتي صديق الدولة أحذِّرك:الحكومة لا تعترف أبدا بأيّ خطأ ترتكبه.. لأنها لو فعلت ذلك لافسحت المجال للفوضى وكثرة الاعتراضات وَلَنَبَشَ مواطنوها عليها الماضي أووه أيّة حكومة لا تسعى لإسقاط هيبتها.

لذت بالصمت كأنّ الذهول يجرني إلى نوم عميق لكنه راح يهزّ رأسه ويواصل:

أمّا أنا فأظن الحكومة تعمّدت التصحيف لتجعل العايد يظنّ نفسه بعيدا عن الشبهات الآن حتى يحين الوقت المناسب..

كأني لا أريد أن يتوقف عن الثرثرة:

أنا الآن في ورطة لم أتعمّدها الدولة تعرفني برئ ولا تعتذر فما ذا أفعل؟

أنا على استعداد لأعينك على الهرب.. أهرب هو الحلّ الوحيد سأسعى لأجعل المهرِّب المنقذ يلتقيك لكن ليس هنا في بيتي.. إختر أيّاً من أصدقائك الذين تثق بهم!

لامجال أمامي

ولا فرصة

وفي ذهني صديقي الأقرب (نجاح الخالص)

ولم يكن هناك من حلٍّ أمامي سوى أن أقتنع بالهرب فأقصد منزل صديقي (الخالص) فأقابل بدريّة من جديد!

3

لم أعد خائفا.. السلطة تطاردني ولاتطاردني..

ترغب في أن أغادر..

لكنهم لو عثروا بي لن تكون هناك رحمة ولن يعترفوا بحطأ ارتكبوه

ولم تغادر صورة بدرية ذهني طوال الطريق.. تلك هي نقطة الضعف التي جعلتني أبتعد عن صديقي الأكثر قربا لي (نجاح الخالص).

كنا نتزاور، نتحدّث ، نتشاور، طبعه هادئ مثلي، ولا يتدخّل في مواضيع حسّاسة ، في بعض أوقات الفراغ عملت معه في توزيع الصحف، وفي صباغة الجدران، مصروف جيب إضافي، دخلنا النادي الرياضي معا فاحترنا أيّةً نختار:الملاكمة ، المصارعة، رفع الأثقال، ولم يكن في بالنا أيّة رياضة، ثمّ وقع اختيارنا على كرة المنضدة.. بعد أيام مللنا.. كنت خلال زياراتي ألاحظ نظرات أخته الغريبة، صُدمت، وطردتُ من فكري سوء الظنّ، ألحت بنظراتها عليّ، ومنحتني أكثر من فرصة للحديث معها بإشارات لا غموض فيها، وضحكتْ ذات يوم في غياب أخيها وهي تناديني بكلمة :حجر..

ولاعتبارت أخلاقية قطعت زياراتي لبيت نجاح ثمّ سمعت أن أخته ارتبطت بعلاقة حبّ مع شاب في حارتهم.. شاب طائش سرعان ما خطبت له فزادت الشكوك فيها وعلاقتها ثمّ اتسعت الظنون واستعرت وكثر الكلام حين أشيع عن فسخ الخطوبة إلى درجة أنّ أمي نفسها التي تكن احتراما لعائلة صديقي قالت عن بدرية إنها عار وإنّها على الرّغم من جمالها فتاة مسترجلة وإني حسنا فعلت حين قللت من زيارتي لهم!

استقبلني نجاح باهتمام بالغ ، وقال هو يصحيني الى الصالة:

-ياصديقي الآن عرفت سر انقطاعك عن زيارتي لأنك لم ترغب في أن تلحقني شبهة من جراء ترددك على بيتنا !

وقد سكت.. هذا أفضل من ان يعرف أنّي تحاشيته بسبب أخته وقلت بارتياح مع شيء من القلق

-هل يمكن أن أقضي في بيتك يومين او بضعة ايام

- يومين بضعة أيام ممكن ولو كان الأمر بيدي لأبقيتككما تشاء لكنك تعرف ان أخويّ وزوجتيهمابرفق الاولاد يزوروننا على فترات، ولا نقدر أن نخفيك في إحدى الغرف طيلة بقائهم عندنا.

- آمل ألا يستغرق الوضع أكثر من يومين حتى أكون عند محمود المنقذ.

فهز رأسه بتفاؤل:

حسنا تفعل فالمنقذ صاحب عمليات لا تخيب.. يعرف التمويه ويستطيع أن يرسلك إلى الخارج ويبعث من في الخارج إلينا!

وجاءت بدرية تحمل صينية القهوة فانبهرت حين رأتني إذ حسبت أنّ زائرا غيري جاءهم.. نظرة التحدّي والجرأة نفسها.. الرغبة ذاتها.. لا تعرف الانكسار، فنهضت مرحبا بها وسألت نجاح:

- أين الخالة؟

قالت تسبق أخاها:

في بيت أخي الأكبر فزوجته على وشك الولادة

عندئذ تنفست الصعداء لاخوفا من وجود الخالة أمّ صديقي في البيت بل من زيارة الأبناء والأحفاد ، في هذه الأثناء رنّ جرس الهاتف فالتقط(نجاح) السمّاعة فأوحت نبرة صوته ببعض المفاجأة وتغيرت إلى هدوء مطلق، ولاح ارتياح على وجهه، بقي يكرر أهلا أهلا.. أنا سعيد جدا.. تحت أمرك.. هو بمثابة أخي، لا تقلق. اطمئن.. ولم تتوقف بدريّة عن نظراتها الغريبة المشوبة بعتاب وبعض الدلال ثمّ وضع (نجاح)سماعة الهاتف ونفث الهواء طويلا، واسترخى على المقعد قبالتي وهو يقول:

-من تظنّ اتّصل بي؟

-هل هو أحد الأصدقاء؟

-إطمئن ياصديقي إنّه ذو المقام الرفيع صهرك طلب مقابلتي الآن!

-بهذه السرعة شكرا له!

(والتفت إلى بدرية مؤكِّدا)ليكن كلّ شئ بالسر ولا يدخلن أحد البيت من الجيران أو المعارف.

-إنه لأمر محرج

أبدا ليس هناك من إحراج!

لكن ربما لاترتاح بدرية..

فقال بكلّ براءة:

البيت بيتك لاتقلق

وأكدت بدرية تخاطب أخاها : لا تلتفت إلى كلامه أختك بمائة رجل، ومحمّد بطل وخجول!.

كنت أواجه نظراتها كمتهم أمام قاض.. لو وجدت ملجأ آخر بعد بيت أختي غير هذا البيت.. لا أدري لم خانتنتني الجرأة.

حلوة

لطيفة..

طويلة..

ممتلئة..

في الوقت نفسه تفوح أحيانا الوقاحة من نظرتها الخاطفة.. والجرأة.. جرأة أقرب إلى التحدّي.. وبعض الأحيان تصبح نغمتها فظة.. كأنها تسترجل.. لا أدري كيف تجمع بين الخشونة والرقة:

-إذن هكذا انقطعت عن زيارتنا لأنك لاتريد أن يقع بيتنا في شبهة!

رمت أن أغيّر الموضوع:

-الحقيقة آسف لانقطاعي عنكم فجأة..

-طبعا السياسة أبعدتك!

-وآسف لما سمعته عن فسخ الخطبة!

فاقتربت منّي تسبقها نظراتها الغريبة:

طظ فيه.. اسأل نفسك لو تشجعت فطلبت يدي.. لكن آه منك ظننتك تخجل واذا هي السياسة الآن أنا معجبة بك جدا أنت بطل وليذهب كل الماضي الى الجحيم

هي هي.. قد تفاجئ صراحتها أيّ غريب.. صراحة تحدت بها إخوتها الثلاثة، عاندتهم.. صبرت على عنف الأكبر وسخرية الأوسط حتى تزوجا وغادرا البيت، وبسبب جرأتها قطعتُ علاقتي بأخيها أقرب الأصدقاء إليّ. كان من الممكن أن أبادلها النظرات والحب أقبّلها.. أضمّها سوى اني لم أرغب في أن أطعنك يانجاح:

- في مثل هذه الظروف؟ أنا مطارد

فاحتكّ كتفها بكتفي:

-بالعكس أنت لاتثير الشفقة بل في منتهى الروعة لذيذ.

شعرت بخوف وضعف:

مستقبلي مجهول

سأكون معك لاتتردد حتّى لو دخلت السجن.

تظنني بطلا، وقد نزل عليّ بلاء التهمة والتمرد ولا علم لي به، فوجدت نفسي أمام امرأة شرسة قويّة لاتؤمن بضعفي كونها سمعت بي شرسا مثلها ورأت الظروف تعيدني ثانية أمامها.. عدت بشكل آخر غير الصورة التي رسمتها لي في ذاكرتها.. .. وحدنا.. ، ومثلما اختارت خطيبها السابق المغامر العنيف، اختارتني بحسّها الشرس القوي:

-لا تسرحي بعيدا أرجوك.

-أنت لم تكن ضعيفا مثلما توقعتك.. بل تتظاهر لكي لا تكشف سرّ قوتك.. ممثل تجيد دورك..

قلت مستسلما:

كما ترين تقدرين أن تفعلي بي ماتشائين!

فاجأتني ، وكنت أتوقّع:

 أريد أن أكون لك!

ارتبكت، بعض الذهول.. وداريت اعتذاري:

-وماعلي أن أفعل وأنا أنتظر أن أخرج من البلد بوثائق مزوّرة..

فالتقطت يدي وهزت كتفي:

-اطلبني من أخي وسأخرج معك!

-إنك تبحثين عن فضيحة لعائلتك!

-لايهّمني!

تأمّلت قليلا..

في لحظات أيقنت أني لن أنجو منها ما لم أطاوعها ولو كذبا أضطرّ للكذب.. لا يهمّها أن تهدم..

تدمّر..

تنتقم..

فيها التناقض كلّه.. روح طفل.. وقسزة لبوة هائجة، قلت بابتسامة واسعة أستعيد بها توازني:أتصرّف على وفق ماترغب..

- ولم لا أهرب في البدء أرتّب أموري هناك حين أصبح في الخارج ثمّ أطلب يدك ، فتأتين إليّ من غير أيّة تبعات..

فضحكت بدلال وقالت:

إدفع لي مهرا الآن في هذه اللحظة.

-مهر؟أيّ مهر.

-قبلني هذا هو مهري وسأظل أنتظر دعوتك إليّ لآتي عندك في أيّ بلد نكون.

ارتبكت، وقد فهمت سر نظراتها الغريبة الجريئة التي دفعتني إلى أن أقلِّلَ زياراتي فأنقطع عنهم، فخرجت برهة عن ارتباكي وقلت:

متملصا أكبت رغبتي:

لو قبلتك وتجاهلتك بعد نجاتي، ولا تنسي أن الشعور بالأمان يدفعنا للنسيان، ويصرفنا عن أمور نحبّها ونعتزّ بها.

قالت محتدّة:

من مثلك لا يطعن في الظهر أنت لاتخون صديقك نجاح.

فتجرأت كما لو أنّي أعاتبها:

أظنني لست الأوّل إذا فعلتها.

فأطلقت ابتسامة شامتة وقالت:

- لا إلّا إذا كنت تقصد خطيبي السابق فإنّه قبّلني مرتين مع ذلك تبقى أنت السبب لو أنّ السياسة لم تبعدك عنّا لكانت شفتاك أوّل من تقبلان شفتيّ فهل يحقّ لك أن تغار.. قبلني وسأنتظرك!

دقائق حاسمة

خوف أم لامبالاة؟

تأنيب ضمير..

ثمّ تجاهل لأيّ وازع

اقتربت منّي فثارت أحاسيسي.. تلاشى العالم وفقدت الخوف.. التهبت.. اقتربت منها فطوّقت عنقي بيديها :

التصقنا

حرارة جسدها

لهفتي

غبت معها بقبلة طويلة لم نستفق من وقعها الناعم اللذيذ المتلاحق إلّا على صوت الباب فتراجعتْ واستدارت نحو الباب الجانبيّ ويداها تلملمان ثوبها ثمّ خرجت إلى إحدى الغرف وعادت مع دخول أخيها الصالة:

-أبشر ياصديقي.. صهرك اتفق مع المنقذ إنّه بالباب ينتظرك!

تساءلت:بهذه السّرعة وقلت بين الدهشة والشك:

-أشكرك وإن كان الشكر لا يفيك حقك!

واندفعت بدريّة:

محمد سّوف يتصل بك حين يستقرّ في الخارج..

فاجأه قول أخته لعلّه شكّ بشئ ما، وهو أعرف الناس بها ، أو قرأ من عيني ارتباكي ، لا أنكر أنّي طعنته إذ لم يكن أمامي أيّ خيارٍ لكنّي قد أغالي إذا قلت شكّ فيّ سوى أنّه ابتسم بانزعاج وقال:

الأفضل أن تلجأ إلى الهاتف بدلا عن الرسائل.. أنت تفهم قصدي.. المهم أن تعبر الحدود بسلام وأمان عندئذٍ لكلّ حادث حديث.

فعانقته وصافحت بدرية التي قالت بنظرة ذات دلالة

لا تنس أن تطمئننا عليك حين تعبر الحدود ونجاح بانتظار مكالمتك!!

3

إنّها المرّة لأولى التي يقع فيها بصري على السيد محمود المنقذ..

شكل لم أتخيّله من قبل..

 لقد سمعت عنه الكثير من الناس، وعن مغامراته في البلد والخارج.. شخصيّة لها وقعها الخاص، يختلف فيه الناس ويتفقون.. تخيّلته عملاقاً طويلاً أشقرَ البشرة مثل القراصنة البحّارة الذين يغزون البحار ، ويصارعون الأمواج، ذو عضلات مفتولة ، وقبضتان قويتان ثمّ خلال دقائق اختفت الصورة المثالية فأصبحت أقف أمام رجل يقود سيّارة للأجرة في الثلاثين ضئيل الحجم ، قصير ، نحيف البنية مضمر العضلات.

هكذا رأيته في أوّل لقاء.

قدّم لي نظارة قاتمة ، وأمرني أن أضعها على عيني:

أنت أعمى تسمع ولا تبصر، لا تلتفت للإشارة أو تعابير الوجوه فإنّها أسرع مايشي بك، وما عليك لكي تنجوَ إلّا أن تطيع أذنيك فقط!

وقبل أن يقود السيارة، استل عصا من على المقعد المجاور له ، والتفت ثانية نحوي:

اعتمد عليها في مشيك!

ثمّ

انطلق يقود السيّارة

ظلّ يحدّثني طوال الطريق

يوجّه تعليمات..

يطمئنني

حين تفكّر بالنجاة تنجو وحين يركبك هاجس التردّد والخوف تكبو

 (ثمّ يفتخر):كل عملياتي ناجحة والحمد لله، ومسألة تهريبك إلى الخارج في غاية اليسر، لا تعتمد على شئ سوى أذنيك واترك عينيك إلى ساعة وصولك برَّ الأمان!

راحت السيّارة تشقّ طريقها، فتعبر أماكن أعرفها، ومررتُ ببعضها، ومشاهد وطرقا لم أرها من قبل، كلّ مارأيته تجلّى لي بلون قاتمٍ بين الأبيض والأسود..

البريق

والخضرة

والحمرة

وجه المدينة الملوّن..

اختفى..

لم يبق سوى البياض والسواد

كأنّني أطالع شريطا أبيض وأسود من أيّام زمان

، وقبل أن تتوقّف السيّارة عند رصيف المخبأ الآمن ، قال:

- ها نحن نقترب.. حسناً. لا تنس أنّك أعمى.. تجاهل عينيك.. انس الألوان.. لا تدع رأسك يلتف مع حركات الأيدي..

ووقفت السيارة في شارع ضيق مهمل عند بناية قديمة، آجر أصفر بعضه متآكل، ومن الرصيف امتدّ طريق فرعي ضيق يفضي إلى اتجاهين :عن اليمين ممرّ نحو باحةٍ واسعة داكنة المعالم وباب مغلق وممشى على شمال القادم من الرصيف يفضي نحو سلّم ذي درجات من معدن وحافتين علاهما بعض الصدأ، صعد قبلي بتؤدة وحذر كأنّه يقودني، وظلّ يشجعني:

انتبه إنه اثنتا عشرة درجة ثبت عصاك جيدا واستعن بإحدى يديك.. امسك الحاجز بقوّة..

كانت مبالغة منه أو يروم أن يثبت أنّي أعمى، فيزيل الشبهة، ولا أحد في تلك الساعة في المكان. أجبت:

كم بقي من ت الدرجات؟

قلت لك إنها اثنتا عشرة.. على مهلك.. بقي القليل..

مارست العمى خلفه مع أنّ لي عينين.. الآن في هذه اللحظة أشعر أني لست بحاجة لهما، وعندما ارتقيت إلى السطح، قابلتني باحة واسعة في نهايتها باب لغرفة قديمة، دفع الباب بيديه فانفرج الداخل عن سرير وثمّة نافذة مغلقة ، وفي يمين الغرفة ثلاجة ، وباب، وكان هناك أيضا مصباح يتدلى وسط الغرفة من السقف:

-الحمام ودورة المياه والمغسلة.. في الثلاجة عندك أكل أسبوع ستأكل الطعام باردا.. عندك معلبات وفاكهة وخضار، صهرك. وأهلك أعطوني مبلغا يكفيك ويكفي رحلتك إلى الخارج..

-هل يمكنني أن أفتح النافذة :

هذا ممكن.. في الليل أم النهار.. إجلس أمامها والنظارات على عينيك.. من يرك يظنك أنك تملأ رأيتك بالهواء وتتأمل..

-لا أظن أحدا يرفع عينيه إلى هذا العلو ليرى أعمى ذا نظارة سوداء يتأمل من النافذة

فجأةحذّرني، وهو يشير إلى المصباح:

-لا تشعله في الليل فتلفت الأنظار.

أكدت بضحكةٍ مفتعلة :

-حسنا نبهتني فلست بحاجة لأكون الأعمى الوحيد الذي يحتاج إلى النور..

-هل مناك من شئ آخر في بالك؟

-ليت معي مذياعا أتابع من خلاله الأخبار.

-لو كان فيه فائدة لك لوجدته في الغرفة!

بعد صمت قصير:

إذا ضجرت إحمل عصاك واستعن بها ثمّ اهبط إلى الممر الداخلي حيث تجد رفاقك العمي!

-عمي؟!

نعم عمي، تحت غرفتك مقهى للعميان، لا يدخله ذو بصر.. يبدأ كلّ يوم الساعة الخامسة.. غناء.. طرب إنشاد.. وراحة بال..

-أليس هناك من مبصر!

-أبدا حتى العاملون ممن يقدمون الشاي والقهوة عُميّ، تسلّ في هذا المكان إنّه يطرد الشبهات عنك وإذا سألك أحد عن اسمك قل ( ضيف الله سرحان)هو الاسم الذي تحمله في وثيقة سفرك..

اعتراني ذهول حول اسمي الجديد:

-لم اخترت هذا الاسم وليس اسما آخر.

-هذه شغلتي أنت بعماك وعصاك أكثر قربا لهذا الاسم من أي تسمية أخرى..

-نعم مفهوم!

- لا تثق بأيِّ أحد إلا إذا سمعت كلمة السر الجواد يصهل. تذكر الجواد يصهل ولا تخرج إلا إلى المقهى بعصاك.

-متى تأتي؟

-في أيّ وقت.. لست على عجالة من أمري.. توقّع أيّة ساعة.. تدرب على أن تكون أعمى. عندك الحمّام.. أحلق ذقنك فصورتك في وثائقك الجديدة ستكون كما أنت من دون ذقن!

وغادر وقد ردّ الباب خلفه.

كان الوقت أقرب للعصر وسأعيش الليل في الظلام ربما من الأفضل أن أترك النافذة مفتوحة ليتسلل منها ضوء الشارع أو ضوء القمر أيّ ضوء كان.

لكن عليّ أن أنتظر وأنتظر..

لستُ قلقا فثقتي بالمنقذ كبيرة.. أمامي أسبوع أقلّ أو أكثر لأخرج إلى عالمٍ جديدٍ يوفر لي الأمان.. لغة أخرى تحتلف.. وثقافة جديدة..

فكرب مشتت ولست خائفا

سحبت الكرسي القريب من السرير عند قدمي، وواجهت النافذة، فتحت المصراع فانبسط أمامي مشهد آخر مستوحى من النظارة القاتمة ورتابة المكان القديم…

لقد سعى بي الخيال إلى ماقبل ساعات

الشارع الضيق ينبسط أمامي، حوانيت تبيع الحبال والعطارة والألياف، والصابون المحليّ، في هذه اللحظة رأيت امرأة تطلّ على باحة منزلها تطعم دجاجات أخذت تتراجع مع ظهور المرأة إلى القن، وديكا يطلق صيحة ويطارد دجاجة وسط الباحة ثمّ يرتقيها، وكان الخيال القريب يلاحقني، انتبهت الى اليسار فوقع بصري على سطح دار وطفل يترقب السماء بر هة ثمّ يلوّح بيديه، ويطلق حشرجة أشبه بالهديل فهبط بعد دقائق سرب حمام ، فالتقط أحدى الحمامات ودفعها إلى داخل قفص واسع مركون بين الحائط والبلكونة، وهشّ الجميع إلى الداخل ثمّ أغلق باب القفص، ومن حيث لا أدري اخذ بصري يهبط من الفضاء الى السوق المتعب القديم ، كان هناك رغبة تشدني الى الأرض.. النظارات وعيناي مازالوا مشغولتين بأمور متأثرة شتى أما خيالي فقد توهج وسط السهول بصورة ساخنة.. بدرية التي أعجبت بجمالها.. عينيها.. طولها الشارع أحببت كل ما فيها وكرهت طريقتها.. قوتها التي تطغى على انوثتها.. هشونتها.. لم تكن تبالي بأحد ولا تخاف احدا..

لا أغالط نفسي

إنّي كنت على وشكّ أن أحبّها

أو

لغض النظر عن جرأتها المعهودة وامدفاعها

كنت معجبا بالجانب الرّقيق فيها

طولها..

نعومتها

باض بشرتها

مشيتها:راقصة ترقص أو راقصة تمشي

عائلتنا لم تكن ترتاح لها. زمي تقول عنها مسترجلة ، وتأسف كونها البنة ناس محترمين.. وأبي يستعيذ منها.. نصحني ألا أقطع علاقتي بصديقي نجاح.. الصديق في هذا الزمان يعادل الذهب.. يمكن أن نلتقي في أي مكان عدا بيتهم.. أخي الأصغر يلمزني من طرف خفي.. ربما يظننونها سهلة.. فيها بعض الوقاحة.. أنا نفسي لم أرد تشوب علاقتي بصديقي نجاح أيّة شائبة، قد أقع في خطيئة ما.. وعندما قبلتني أو قبّلتها صباح اليوم شعرت بلذة رهيبة. زشفتاي. زأنفاسي. زنعومة عائلة أعقبتها حرارة لفحت شفتيّ.. كنت أحاول أن أمرر يدي على صدرها غير أنّي ، فجأة، هكذا من دون مقدمات خلت فم أفعى يطبق على فمي..

ولولا عودة أخيها لكنت غائبا عن الوعي

ووجدتها تلعقني في مكمني الجديد

هي على بعد خطوات مني

حالما نزل بصري من علوّ ووقع على الشارع رأيتها تعبر السّوق..

طافت فيه

دخلت محلّ الصابون ثم خرجت وبيها لفافة

ثمّ

دخلت محل اليف وخرجت

وقادتها قدماها إلى محل العطور فالمناشف

تقضي في كلّ محلّ دقائق معدودة

وفي آخر المطاف وقفت وسط الشارع الضيق.

أخذت تتعرى من ملابسها قطعة قطعة.. وحالما اكتمل عريها.. تلبدت السماء بغيمة هطت عليها.. راح الناس يمرون غير مبالين بمنظرها الغريب، وهرع أصحاب المحلات إلى بضاعتهم التي عرضوها على الرّصيف يلمّونها إلى داخل دكاكينهم، ولم يبق في وسط الشارع إلا بدرية عارية

قائمة كتمثال من لؤلؤ..

استغرقت تستلهم القطرات ووجهها نحو الغيم، ظلت تدلك شعرها وجسدها ذا البريق بالصابون البلدي فتهبط رغوة كثيفة بيضاء علىالأرض.

تلعب بالماء على جسدها..

تعبث بالمطر

وأصحاب المحلات يلملمون أشياءهم من على الأرصفة غير مبالين

بل أحد يعنى بالمنظر الغريب

إلا أنا

فشككت في نفسي ألا أكون مثلهم

لا أبالي

عندئذٍ

 رفعت النظارة القاتمة من على عينيّ

فلم أر المطر ولا الغيم

ولابدرية

كان الباعة. زيغلقون أبواب محلاتهم فقد آذنت الشمس بالغروب، وثمّة عاملة ترتدي الثياب السوداء تمسك بيدها انبوبا مطاطية اتصل طرفه بالحنفيّة العموميّةفتبدؤ بغسل الشارع والرصيف، في الوقت نفسه تهادت إليّ نغمة قديمة من مقهى العميان.

4

أعدت النظارة إلى عيني

والتقطت عصاي

تراودني رغبة في أن أغمض عيني ولم أفعل.

خانتني الجرأة والخوف من الظلمة.

بدأت أتلمّس حاجز السلّم، طال العزف، وكلّما هبطت خطوة، ازداد لأذنيّ سطوع الموسيقى.. وتبيت صوتا شجيا لنشيد جماعيّ، ثمّ صوتا لمغن لا أعرفه، ليس من مطربي الإذاعة فقد حفظت أصواتهم وأغانيهم..

لم أتبيّن الكلمات لكن جمال الصوت أدركني

مع آخر درجة هبطت وأنا ألوّح بعصاي على الأرض.. قابلني الدرب اليمين حيث الخارج الذي حظر عليّ اجتيازه، فالتفت إلى شمالي نحو المدخل المفضي إلى المقهى

أظنهم استقبلوا خطواتي البطيئة ووقع عصاي بآذانهم المرهفة فرفعوا رؤسهم إلى الباب..

مازلت أخادع عيني

أتلمس الممرّ إلى أيّة منضدة، ويبدو أنّ كلّ اثنين اشتركا بمنضدة، اليست هناك من عتمة تامة فضوء الشاارع يتسلل إلى المكان من خلال النوافذ وفتحات التهوية، فلم يكن المكان بحاجة إلى الإنارة، هناك حاجز في أقصى المكان ، وعامل يحضر الشاي ، ومشروبات أخرى، لا أشكّ أنه أعمى محترف، ولا أشكّ أنّ الجميع عميان، كما لا أشكّ بنفسي، وتبينت دكة المنصة التي تقابل الباب الفرعيّ، كان العازفون ثلاثة، والمنشدون ثلاثة والمغني يجلس وسطهم..

توقفوا لحظات كأنّما لفت نظرهم حضوري المفاجئ ثمّ انطلق المغني :

أخفيت في لجّ السكون خواطري فالصمت أعذبه صدى إطراقي

ووقفت ألتمس الظلام لعلني  آنست نارا عذبة الإحراق

كنت مأخوذا باللحن والمغني فوقفت كالتمثال أتابع بأذني وقد نسيت عينيّ فاستفقت على صوت الشخص الجالس وحده :

يمكن ياسيدي أن تجلس معي!

سبقتني عصاي تنوء ذات اليمين واليسار كأنّي-وأنا أسير بأذنيّ نحو الكرسيّ الذي أفترض أني أراه-أشبه بطفل يتفادى التعثّر، ، فجلست، وبدأت الكلام مستعينا باسمي الجديد:

-اسمي ضيف الله سرحان!

-تستطيع أن تسميني خليل التائه(وصفق بيديه نحو البار)فهرع على عجل أسرع من المبصرين النادل الشابّ:

-أمرك سيد خليل

التفت إليّ وقال شاي أم قهوة أم عصير؟

-ليكن شايا!

فغادر النادل مسرعا ، والتفت إليّ السيد خليل:

- أهو يرافقك منذ الولادة أم بسبب حادث؟

كان عليّ أن اختلف خبرا ما:

-حادث سير منذ الطفولة.

-تعني أنّك رأيت ضوء الشمس ومازال شبحه يرتسم على عينيك!

-هل تقول لي هنيئا لك؟

-ياسيدي هنيئا لك والعبرة في النهاية.

ترك أفراك الجوقة أدولت العزف وهبطوا الدكّة ، يلتمسون طريقهم بعصيهم واحتل كل اثنين كرسيّا في حين جلس الممطرب وحده على كرسيّ أمام طاولة على يمين البار، فملت على صاحبي أسأله:

-هل يغنّي المطرب نفسه مرّة لأخرى؟

فوسعت ابتسامته، وحرّك رأسه نحوي:

-لا تتعجّل ستأتي شفق السماء بعد لحظات.

وقدم النادل، بكأس شاي وضعه أمامي، فدبّت أصابعي ، كدودة قزّ ، وعندما رفعت المأس إلى فمي، توقفت برهة:

-إنّه من دون سكّر!

- هنا نرى الأشياء كلّها حلوة ستتعوّد عليه وتراه في قابل الأيام أفضل فلا تخالطه بشئ آخر قط.

قال عبارته، ونهض يستعين بعصاه، وهو يقول:

- استأذن منك، فأنا من جوقتها!

ثمّ

في الوقت الذي وصل وجلس والتقط الطبل

كأنّ الأمور تجري بمواقيتها

دخلت تتقدّم جوقتها..

طويلة شاهقة الطول

تغطّي عينيها نظّارة، وتلفّ شعرها ليبدو مثل التاج

ملكة بفستان طويل

تتهادى بمشيتها كأنّها مبصرة غير أنّها تتلكّأ قليلا لكي تبقى على مسافة قصيرة بينها وبين تابعتها اللائي يتلمسّن الطريق بالعصيّ.

صعدت المسرح أو الدكة، وجلست في المنصف جنب عازف الطبل. وجلست فتيات الإنشاد الأربع العازفات عن يمينها ، في حين اتخذت ثلاثة من الفتيات مجلسهن على اليسار، عزفن دقائق من دون صوت ، وراحت الجوقة تنشد ألحانا شجيّة ، فتمايل الجالسون طربا، ومع ارتعاش الموسيقى وعلوّ نغمة العزف، وتوقف المنشدات، انطلقت شفق السماء بصوت عذب تذوّقت عذوبته، كأنّي لم أسمع غناء من قبل:

لا تقل لي كان عهدا وانقضى قد يكون الهجر أحيانا لقاء

إنّه الصّمت بعينيك ارتمى وصحا في ذات يوم كبرياء

نحن مذ كنا بدأناه فلم تعرف الأرض سوانا غرباء

تمايلت الرؤوس وبلغ الطرب مداه، ولم يكن الحاضرون مثلنا نحن المبصريين ، يستحسنون بالكلمات، ويصفقون، يسمعون كأنّ على رؤوسهم الطير، ولربّما غفا أحدهم مثل رضيع يغفو على غناء أمّه، راحت شفق القلوب تردد الأبيات، والعازفون، وبين لحظة وأخرى أجرؤ فأرفع رأسي لأبصر صاحبي الطبّال يوقع أنغامه من الطبلة على البطئ من المغنية، ويسرع حين يأتي دور فرقة الإنشاد بشعر أفهمه ولا أتبين كلماته، حتى انتهت الوصلة الموسيقية وران السكون على المقهى، فنزل الطبّال والتمس طريقه بعصاه إلى طاولة أخرى، وهبطت الفرقة النسوية لتجلس كلّ منشدة وعازفة وحدها أو تجالس من تحب من النساء والرجال، وراحت المغنية الفارعة الطول، تمرّ على الكراسي، تحيي وتبتسم، ولم تغفل عن منضدتي:

وقفت أمامي، فلمحتها من طرف خفي.. النظارات القاتمة السّوداء عجزت عن أن تخفي ملامح وجهها الجميلة وهيبة تاجها، راودتني رهبة أكثر مما هو خوف:

- اليوم الأول لك هنا

-نعم سيدتي

-ما اسمك؟

-

-حسنا هنا كل له اسم نحن نطلقه عليه، فاصبر على اسمك الحالي، فلعلّك لاترغب في البقاء معنا، فإذا مارغبت أبدلناه لك باسم آخر.

عرفت من تلميحها أنّ هناك من عانوا من عاهة العمى لم يرغبوا في أن يصبحوا زبائن دائميين، أمّا أنا فقدسُحِرْت بالأضواء من أوّل ليلة، والنور يملأ عيني، فهل أغامر بأذنيّ، في البدء طردني سمعي ويؤويني الآن، وانحنت لتجلس قبالتي ووضعتيديها على المنضدة، وكانت تدندن بنغم لم أتبينه.

-لو سمحت هل تفصحين لي عما تترنمين به؟

-لن تتعلم كل شئ بيوم واحد!

-لا أكذب عليك هناك رغبة عندي.

فتأملت لحظة، وقالت:

فكّر جيدا كل أعضاء النادي إما يعزفون أو يغنون أو ينشدون، هل جربت صوتك؟

أدندن مع نفسي أحيانا.

لاتعرف صوتك؟

شعرت ببعض الخجل، هل أبدو عاجزا أمامها:

تحبين أن أجربه؟

يمكنك أن تجرّبه في الشارع ، تجلس على الرصيف.. ترفع صوتك والمارة تروح وتجئ، يظنون أنك تشحذ، فيلقون إليك النقود، أمّا قصدك فهو أن تثير حسّهم تستفزّ سمعهم، عندئذ يمكنك أن تأتي هنا لتصعد وتؤدي صوتك بإية صيغة كانت..

ونهضت وهي تؤكّد:

فكّر جيدا قبل أي شئ.

وتلاشت بين الجالسين، كان المشهد يتغيّر كلّ ساعة، تنزل جوقة العزف والإنشاد والمغني، يتركون أدواتهم، فيصعد من الجالسين أحدهم يصبح مطربا ، وآخرون، يحتلون الكراسي، يعزون وينشدون.. العدد نفسه ينزل، فيصعد بعده عدد آخر.

يغنون

يعزفون

وينشدون

لكنّي لم أتبيّن أَيَّةً من ترنيماتهم

ولا تستبينها أذناي

ولا أميّز ماذا يقول المغنّي

الأصوات عذبة

والإنشاد عذب جميل

ولم استبن إِلّا أبيات الشعر الثلاثة التي غنّتها قوت القلوب أوّل يوم، لقد جرّيت بنفسي عالم الغناء، دخلت الغرفة، وغتيت أمام المرآة بعيني المجرّدتين، فلم أستسغ صوتي، وجدته عاديا.. أنشدت مديحا، وقرأت قرآنا، ثمّ ارتديت النظّارة وأغمضت عينيّ، ومارست صوتي نفسه في الغناء والترتيل والإنشاء، فرأيته نغمة أخرى. زنغمة جعلتني أتمايل إلى الأمام والخلف، وأشعر بخفة الطير من دون نجاح، وعندما دخلت في اليوم المقهى، وانتظرت على شوق شفق الأصيل ، فهبطت بعد وصلتهاالتي غنّتها ليلة أمس، وجالست من اختارت من زبائن الطاولات، وأعرضت عن آخرين، إلى أم وقفت عند منضدتي، وهي تسألني قبل أن تتلمس كرسيّها:

نعم، هل مارست صوتك.

قضيت النهار كلّه.

حسنا فعلت.

هل اقتنعت به؟

نعم لكني لم أقض إلا يوما وليلة هنا.

فاستنكرت عليّ حُجّتي:

لا تظنه وقتا قصيرا يوم وليلة تعني دهرا.

فسكت، وران سكون على على المقهى قبل أن تستعد فرقة للصعود:

قد تعدينه فضيلا أو جهلا حين أسألك لِمَ أعدت ما غنيته بالأمس؟

أنا مسرورة بالسؤال ولعلك لاتراه يبين على وجهي.

(الحق كنت أنظر إلى المنضدة خجلا من أن أكشف خيانتي)

-لست بليدا يا سيدتي

تجلهلت مجاملتي:

لكلّ قوم ودولة سلام خاص بهم يسبق يومهم، وهذا هو السلام الذي نبدأ به ليلنا فتسمعه ثابتا لايعتريه التغيير!

ربما هو التناقض فهناك مغن سبقها، ولم أصبر:

هناك مطرب سبقك.

كان يتمرّن والدليل أنك لا تتذكّر ماقاله ، وعندما صعدت ابتدا العمل بعد غنائي، ولكي تدرك أكثر يمكن أن أسال:هل هناك غناء تسمعه قبل غناء أمك عقب الولادة؟

شكرا لك (ومع نفسي :أراك آية لا أشكّ فيها)فماترينه في حقّي؟ هل أكون منشدا أم قارئا أم مغنيا!

جرِّب على ماتقدر عليه.

فهززت رأسي وانحينت رافعا نظري نحو السقف:

الصوت أقرب إلي من العود والطبل والمزمار أو أيّة آلة أخرى.

فأطلقت ضحكة رنانة:

ها أنت تكتشف نفسك لو كان العالم كله يغني ويعزف لما حدثت حروب ومشاكل!

ونهضت، وهي تؤكّد:

لا تتعجل

4

زال عني كل قلق وخوف

أيّام مرت جعلتني حقّا أظنها دهرا،

كان عليّ أن أقضي النهار في الغربة، أرقد ساعات، وأدفع الكرسيّ باتجاه النافذة.. لم أشعر أنّ النظارة تضايقني، والمشهد فيه الكثير من المفارقات، رأيت ساحة البيت فارغة والدجاج داخل القن، ولم أر سرب الحمام قادما ولا الصبيّ، أمّا الذي أثار نكراني هو الباعة أنفسهم:كانوا جميعهم عراة.. منظر مقزز. زلا أحد يلقي بفضوله على الآخر، هناك ضجة لا أعرف مصدرها تأتي من بعيد.. ومرت امرأة وسط الطريق الضيق، كانت تتكلل بالسواد وتغطي نفسها من قمة رأسها حتى أخمص عينيها.. لا أدري.. قد تكون بدريّة هذه المرّة. عبرت الطريق ولم تلق بالا للباعة العراة. بل هي بدرية من غير شكّ عرفتها من مشيها وطولها ، الوجه الآخر المهيب لها، زادني يقينا أنها عبرت تدندن بكلماتٍ ما فأدركت أذناي صوتها، وقد راودتني نفسي أن أخلع النظارة عن عيني، فأبصرت السوق في وضعه المعتاد ضجّة باردة كئيبة، أصحاب المحلات منشغلون، والزيائن منهمكون في الشراء وعاملة النظافة تطالع الأرصفة وتلتقط الأرصفة الصناديق الفارغة لترميها في الحاوية الكبيرة.

لاشئ آخر

 أمّا أنا فقد كنت أدندن مع نفسي أيّ كلمة تمرّ بذهني :سوق.. بدريّة.. مذياع.. صورة.. شفق.. طريق..

فجأة

سمعت نقرات على الباب

فتوقفت

واقتربت من الباب.. تساءلت بهمس:

-من؟

-الجواد يصهل!

طالعني وجه آخر غريب فتراجعت مذهولا، شاب في العشرين من عمره أشقر ، مبهم الملامح:

-رائع صوتك ولو كنت مكانك لاحترفت الغناء

من أنت؟

أنا محمود المنقذ؟

الذي جاء بي إلى هنا واتفق معي على كلمة السرّ شخص غيرك هو محمود المنقذ وقد سمعته ورأيته وأخبرني هو نفسه باسمه.

هذه قضايا جزئيّة أنا محمود المنقذ، وأنا من أوصلك إلى هنا كل شئ يتغيّر ماعدا كلمة السرّ.

وخطا نحو المنضدة ، فوضع عليها بعض الطعام، وقال:

استعدّ سآتي اليوم قبل الغروب لأصحبك للخارج!

ليست مفاجأة:

هل يأتيني محمد آخر غيرك

فسخر من كلمتي بابتسامة:

لا عليك من الوجوه كل من هو آت محمود المنقذ والعبرة في كلمة إحفظها كلمة السرّ الجديدة :صهيل السيف!

وخرج

وعلى شفتيّ علامة استغراب!

كان الوقت ضحى، لقد تغيرت الوجوه من حولي، فهل يأتيني محمود المنقذ بوجه آخر غداة الهرب، وفي المساء رحلت إلى المقهى، كانت الفرقة تدندن فاستعنت بعصاي ، ولم أجلس قطّ، اتخذت طريقي وربما تعثرت لأبعد شبهة البصر عنّي، فامزلقت إلى المسرخ بتؤدة وحذر ، وكنت أتلمس الكراسي..

جلست

وتوقفت الفرقة عن الترنم

فانطلفق صوتي بكلمات شتى ورحو يعزفون:

الطريق الغريب

السكون

الشارع

الهرب

اللؤبؤ.. البكاء.. طير السماء.. هناك الحنظل

وفي الوقت المناسب، دخلت الملكة التي تميل إليها القلوب، فسكت وتوقفت الفرقة عن العزف والدندنة ثمّ هبطنا بعضنا يتوكّأ على عصاه مثلي، وآخرون يتلمسون مسيرهم بأيديهم كالسائرين في النوم، فصعدت فرقة النساء، وغنت الملكة نشيدها الثابت، فترنمنا به كأننا نسمعه للمرة الأولى ، وخلال مرورها على الكراسي، وجديثها مع كل زبون، صعد بعضهم فغنى ، وحين وصلت إليّ بادرتني:

صوتك جميل

متى أخرج من الكلمات إلى الجمل

لا تستبق الأحدث

وهل ترينني أصلح لأكون مطربا أم منشدا؟

ذلك قرار يخصك وحدك

هل أفكّر ثانية بالهرب؟

لكن متى يأتي محمود المنقذ؟

ولعلّ تأنيب الضمير يدفعني لأن أعترف للملكة أني مبصر أروم أن أصبح أعمى.. لقد أدركت حقّا قيمة صوتي وأذنيّ، لن ومن حسن حظيّ تفاجأت في اليوم الثالث قبل الغروب بشكل جديد:

طرقات على الباب، فتساءلت:من

-صهيل السيف

فتحت الباب فوقع بصري على شيخ طويل القامة، نحيف في الخمسين من عمره، غزا الشيب سوالفه:

من أنا أنا محمود المنقذ!

وناولني جريدة حكومية، وقال:

إقرأ

هل من أمر

هناك أحد عشر شخصاكل واحد يسمّى محمّد العابد، سلّموا أنفسهم إلى الحكومة، فأثبتوا براءتهم.

أكاد لا أصدق

بل صدق!

كيف اعترفت الدولة بخطأها

لا أدرب فهذلا ليس من شأني

تطلّعت في الصحيفة فوقع بصري على الوجوه، وسألت:

أهذا كلّ ما في الأمر؟

هل أنت مستعد لأن تذهب وتثبت براءتك؟

كانت صورة بدرية تلاحقني في هذه اللحظة، اسيخيب ظنّها بي.. لقد رسمتني بطلا. زيشبهها تماما في التحدي.. تخلّت عن خطيبها وارتمت بأحظاني.. :

لن أفعل ذلك.

عليك إذن أن تأتي معي لأصحبك إلى خارج البلد كما اتفقت مع أهلك!

صمت ، وفجأة..

من دون تردد قلت:

محال لن أرحلّ

فنظر إليّ نظرات غريبة وقال:

إسمع ياهذا أنا أخذت حقّي من أهلك. زالجميع يعرفني لم أخفق في أيّة عملية أتبناها.. الكل يثق بي.. أنت حرّ.. تذهب لتعترف.. تأتي معي.. الزورق حاضر.. ساعات وتكون في الخارج.. القرار لك!

صمت برهة كادت تطول ثم قلت جازما

أقسم لك أن أمنيتي كانت بعد أن سمعت إدانتي كانت أن ألتقيك ، كنت ملاذي الوحيد في أن توصلني إلى ملاذ آمن، لكن إسمح لقد تغيّر الأمر الآن..

مهما يكن فالأمر فالخارج أفضل.

لا أظنّ.

فهزّ رأسه مقتنعا وقال:

حسنا ليست مشكلتي.. عليك أن تغادر الغرفة مادمت لاتحبّ أن ترافقني.. آمل ألّا أجد أي أثر لك يوم غد!

قال عبارته وخرج، وكانت الشمس قد غربت تماما ، فوضعت النظارة على عيني، وفي نيتي ألا أخلعها من على عينيّ أبدا، ثمّ التمست عصاي، ، في تألك اللحظة، غلقت عيني ّتماما، وخرجت ألتمس الطريق بطيئا بطيئا إلى حيث المقهى.

***

د. قصي الشيخ عسكر

..............................

* انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة في 27|7|2024

 

قريبا جدا

ستخسرين الحرب

سينتحر جنودك المتعبون

الواحد تلو الآخر

سنتهار قلعتك المنيعة

سيفر الشيطان من شقوق أظافرك

سيخطف طائر العقعق

تاجك المرصع بذهب الليبيدو

ستملأ الغيوم عينيك الكاسرتين

وعلى ظهرك المقوس

ستحملين نعشك

دورقا من الدموع السوداء

طيورا نافقة من الوداع

سيعضك الزمن من شفتيك المتهدلتين

تبكين طويلا في الخرائب

تتبعك جوقة مريعة

من البوم والغربان

ماضيك المليء بالوحل والبلهارسيا

صوتك الأشيب القميء

أشباح من درب التبانة

سيكسر الندم جمجمتك

بكعب بندقية من القرون الوسطى

ستبكين تضحكين تصعدين تهبطين

مطوقة بتصفيق حار

من ذئاب متناقضاتك

سيؤبنك موسيقار أعمى

تحت شجرة هرمة

سيهاجمك الرعد

بقداس حزين

ستكون الهوة السوداء

ملاذك الأخير.

***

فتحي مهذب - تونس

 

فلسطين

تعلمك الحب،

والحب

يعلمك الحياة،

فاصعد إليها

تكن من العاشقين

*

وتعلم منها

لغة السماء،

وحوار المقدس

في صدى الكائنات

واصرخ اسمَها

بكل نبضك

لتعلم أنها حية فيك

وأن البقاء للميتين

*

لا موت قبلكِ

لا موت بعدكِ

هل كنا يوما؟

كلا،

وكيف نكون؟

وأنتِ الحرية كلها

ونحن السجن

والسجان والسجين

*

قُتلنا يوم

لَم نعد نحبكِ،

كم مرة قتلنا؟

لا أحد يذكر

ربما موتى

ربما نشيد

من حزنه علينا

الحزن أشد حزنا

من حزين

*

تعبت الحناجر

نغتربُ،

نرحلُ،

ونهاجرُ بعيدا عنا

ولا فرحَ بالعائدين

*

فلسطين

أعتذر

تنقصني المسافاتُ إلي

لأحدد غيابي

من العبور إليك

ويكفيني سفرُ الجهات

بداخلي

كي أعرفَ

ما البحرُ

وما الشرق وما الأرض

وما اليمين

*

وإخوتي يملؤهم الليل

نبيذا ونساء

وها أنا كما أنا

نحيل مني

ومن حلمي

ومن زهر المبعدين

*

يداي صغيرتان

وخطاي سياج

وأمي تحبني،

وتحبني،

ثم تحبني حين أعود

وحينا طفلا

وحينا قتيلْ

وحينا منفى

وحينا أسيرْ

وحينا وحينا وحينا

وحينْ

*

فكم نعشقك

يا نبية الله

يا منتهى القلب

وآخِر الياسمين

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان/ هذا العالم لا يشبه أمي

 

قصة قصيرة جدا

كنت في آخر مقاعد الصف، ترمقني الوجوه شزرا، تتلاطف معي بعض الفتيات في مثل سني ... وعند إستراحة ما بعد الفصل، تنطلق أقدامنا خارج غفة الفصل الدراسي، ننطلق طوابير نحو ساحة المدرسة. كان الكل ينعتني بطفل الأنابيب رغم أني كنت ﻻ أنقص شيئا عنهم، يداي سليمتان و رجلي نشيطتان، بل أطولهم في القامة ... عندما تنتهي كل الفصول الدراسية كنت أحمل حقيبتي المدرسية عنوة عني، ادفع بقدمي دفعا عابثا، اجرجر حقيبتي خلفي، وعندما تلتقي عيون الاولاد في الشارع بموضع وجودي، يهتف بي احدهم دون شك : - هذا ولد الأنابيب ؟ كانوا يضحكون مني تهكما و سخرية ﻻذعة المذاق و المزاج ... اقترب من البيت، ادفع الباب الخشبي منزعجا و أنا اجرجر حقيبتي المدرسية خلفي إلى حين رميها وسط البيت، تلمحني امي من خلف نافذة المطبخ، حيث تتناهى لي رائحة مرق الباميا اللذيذة،و لكني كنت أشعر برغبة حارقة إلى دفن راسي في الوسادة و النوم طويلا دون استيقاظ، شعرت و أنا مطروح الجسد فوق سريري ثمة يدان تعابث بعض من خصلات شعري :- ها ماما منو زعلك حبيبي اليوم ؟ كنت اتظاهر بعدم الاكتراث للوهلة الاولى تحت مؤثر الخدر اللذيذ الذي احدثته أصابع أمي و هي تمسح على جبهتي، كنت أحب أمي لدرجة الجنون، فهي التي أصبحت لي كل شيء بعد ممات والدي في ذلك الحادث المؤسف ... فتحت عيناي في وجه أمي قائلا :- ماما متى أصبح جندياً كبيراً وأذهب للحرب كي اتخلص من نعوت الأولاد لي بالمدرسة بطفل الأنابيب، السنون تمضي مسرعة و الحرب تتضاعف في عجلتها الطاحنة، لم أشعر إلا و أنا لك الجندي الهزيل وسط مجموعة من الجنود ... تنداح الأمر بالهجوم على مواضع العدو خلال هذا اليوم، السحب سوداء مثقلة بالمطر المغموم، فجأة تداهمنا قذائف العدو من كل جانب بعد ساعة من ظهيرة هذا اليوم، لم أكن اهجس بشيء سوى انقذاف جسدي خلف الكواليس ... الكواليس، حيث كنت نطفة لزجة داخل الدوارق الزجاجية، كنت شبه قطرة مائية تندلق عبر فتحات الأنابيب ... كنت طفلا عندما وضعوا جثتي في التابوت الذي يغطيه العلم من كل جانب ... اختفت صرخات الأولاد في المدرسة، غاب الكل جنودا في الحرب، وحتى أمي لم تستقبل جثماني، لكونها ماتت قبلي بعدة أعوام، لذا بقيت وحدي داخل الأنابيب منذ سنوات والآن أنا وحدي داخل التابوت الذي لم يستقبله أحد، لعلهم كانوا يعلمون بي أني طفل الأنابيب، رغم مت شهيدا في الحرب رجلا كاملا، وها أنا الآن وحدي داخل النعش تجرجر كفني تيارات من رياح متسللة من أحدى ثقوب التابوت؟.

***

حيدر عبد الرضا

 

إلى كل متعطش للحرية والكرامة

تريدونني أن أكون أسيرا

فإني أسير لحب بلادي

وشمس بلادي

وعبق النسيم بيافا وحيفا

وعبق النسيم بأوراسنا

وماء الجداول في كل فج

وفي كل نهر

وفي كل واد

**

تريدونني أن أكون طريدا

فلن يطرد حقدكم ما نما يانعا

في فؤادي

فإيمان قلبي يداوي جراحي

ويمسح لون الأسى والحداد

ويزرع في القلب حبّا جديدا

لكلّ الثكالى

لكل الغلابى

وكل العباد

من الطيبين

من الثائرين بأرض الجهاد

من الحالمين بنور الصباح

من الحالمين بقطعة خبز

وحبّة تمر

وجرعة ماء

من الحالمين بضوء القمر

من الناقمين على كل عاد

**

كفاكم ...كفاكم

أيا من تريدون إذلال شعب

فلن تبلغوا طول هذي الجبال

ولن تخرقوا الأرض ضربا ورفسا

بتلك النعال

ولن تنقصوا ساعة من ليالي الخريف

ولن تنقصوا ساعة من ليالي الشتاء

ولن تلبسوا الليل ضوء النهار

فنحن على الدرب سرنا وسرنا

وأنّا سنبلغ رغم المحال

إلى غاية الكادحين

إلى غاية الحالمين

ومن عالم النور نستل نورا

يشق ظلام الدجى في بلادي

ويسفر - يا أمة - صبحنا

وتشرق شمس المنى في بلادي

***

شعر: تواتيت نصرالدين

 

في الميدانِ،  ذئاب الليل تنهش أرضِ القدسِ

وغزة الشهيدة تُحملُ في التابوت،

لكن لا!

الآن نقول لا،

غزّة تقاوم،

تكسر خشب التابوت، كسراّ

ويدٌ تشدُّ ويدٌ تزئرْ

غزّة تقاوم... ويافا تقاوم

والضفة والجليل، ترفع صارية الثأر الثأرِ

وتقول الآن، لا ... وغداً لا

سوف يُمحى من الأرضِ، الغاشمْ

ولن يبقَ في الأرض يوماً، محتلٌّ ظالمْ

يا أرض غزة، نقول لا،

من أجل الشهيد، ودمعة الأمّ الحزينةِ

من أجل روح الطفل القتيل ورغيفه المُدمى

نقول لا...

*

وفي السوح الدامية، تقول غزة لا

تكسر قيد الوهمِ كسراً،

ترفع راية النصرِ

وكُل ترابها يصرخ : اهلا بالموتِ الغاضبْ

وجنود الأعداء الموتى

اهلا بالزمن الضائع...

*

وفي لغة الرفض الساخطْ

حين يقتلُ طفلٌ في البرد القارسْ

وتموت الحبلى،

والرجل الصامد يبكي،

والأم الثكلى بين الموتى تهوي

ينتفض الجبل الراسيْ

والعظمُ الغارقُ في الاعماقْ

حتى يصرخ مغتاظاً: أين الثأرُ

أين الثأرُ يا مد الموت العاتي

أين الموتى الأعداء!

أينَ الوطن الأولّ، وطفلي الغارقُ في الأرجاءْ

أين الثأرُ! يا أجيال النصرِ

***

كمال انمار

 

ماذا لو توقف

هذا المسخ

عن لعبة

الخيوط الواهنة؟!

وأدرك

حتمية اليقين

أجل...

فالسقوط المدوّي

هو مآل

قفزاته البهلوانية

*

بالأمس كان مهادنا

واليوم

صار لاعنا

والخوف كل الخوف

...

نعم

فالغد بات قريبا

*

لكن...

ما ذنبها أنفاسنا

الباحثة عن فسحة

لشهقاتها؟!

***

ابتسام الحاج زكي - العراق

دجالون بِلِحَىً ماكرة

يجمعهم ظلامُ الظُّلَّامِ

في (خفافيشِهِ)

بِخَلْفِيَّتِهِم المُؤَدلَجَةْ!

*

تُحَدِّقُ في عيونِ ضحاياهم

بَسْمَةٌ تَصْطَنِعَهُمْ

لــ(مـــآرِبِهِمْ)

وتَغْسِلُ وجهــهم

لِتُبَاركَ خُبْثهم النًــاعِم

وسُمِّيَّتهم القاتلة !

*

سُوسهم تَنْخِرُ جسد الأمة

بخامسٍ!

وترتديهم حرباويتهم

فيَنْسَلُّونَ بدبيبٍ مُشَفَّر

فَتَجِنُّ المسافة

من بلوغ نَفْعِيتهم

قبل أن يرتد للوقتِ طَرْفَهُ المُبينْ!

*

يموتُ الدولارُ في سبيلهم

والجِنْسُ لديهم

فقيهٌ

يُفتي بضرورتِهِ القهرية

وإشباع شَبَقهُ بأعمار

ثلاثة عشر!

*

تَعْرفهم بِلَكَاعَتِهِمْ

وإرجافِهِمْ

فمِنْ عَتَـــاد الدين وعُدَّتِـهِ

هُمْ يَرْجِعُونَ بِـ(ثُلْثِهِ)

يتغامزون!

فماأدراكَ بما يُضْمِرون

وما يُضْمِرون!؟

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

ترددت كثيراً قبل كتابة هذه السطور .. لم أستطع جر أحرف اللغة من الكساد الكتابي الذي أطاح بي منذ ثلاثة أيام ونبض ....

 كيف أصف ما لا يوصف حين أردت لبلاغتي أن تكون على مقدار حضورك...؟!

إن اثرك على كل ما أكتب تجده متغلغلا' في جذور سطوري بحيث إنني عندما ينتابني الصمت الكتابي يتسلل إلي صوتك ....

إنني عندما أخط بحبري تحت ضوء الورق أشعر بأنني وطأة بخف كلماتي على مقربة من نبضك لا ورقك...

وإنني لا أشك بأنك ترتشف تلك الأحرف مع فنجان قهوتك أو إنك تضعها كقطرات عطرية على يسارك ....

رأيت شخصاً غريباً يجلس على كرسيك الذي كنت تجلس عليه ذات مساء عندما كنا على مائدة الكلمات فما كان مني إلا إنني تخيلتك بظلك الطويل الذي امتد إلى البعيد، وحركة أصابعك عندما كنت تلوح لي مبتعدا...

اليس غريباً أن تكون للأشياء ذاكرة تعيد إلينا ملامح الوجوه وأنغام الموسيقى ووقع  الحديث ....؟!

 حتى تلك الكلمات التي تغيغم بها تجد طريقها إلي من خلال تلك الذاكرة الموصودة بإحكام حرف ...

أغفر لي غزارة حديثي بعد هذا الإحتباس اللغوي لأنني أردت أن أصف لك ما أعجز عن وصفه .

***

مريم الشكيلية - سلطنة عمان......

لا ترحلي عني،

ولا تغربي

أمامك يمٌ عميق المدى..

وتيه من الرمل يملؤه الصدى..

لا تتركي

همس الرياح

وعطر الخزاما

وانشودة في رحاب الندامى

تفرين مني إلام

أهذا هو الوجد

في خواتيم الحيارى

أم الأسر في الحب عندي

كنظم القوافي..

تحت همس الطواحين

أو في شتات المنافي..

**

لا تتركيني

مع الظل أشكو

وحيداً ، في معجم الحب

لا في العراء

فلا تتعبيني

بحب

أراه هياماً في الزوايا

يملأ الرحب

عطرا ووهجاً وخمرا

**

قلت ما عندي ..

اذهبي الان

الى حيث شئت

ايتها اليافعة الحالمة

الى أي ظل تريدينه باذخاً

ان تكوني

فراغك يشغل القلب وهما

وقلبك غائب عندي

وهمسك لم يعد يافعا

ايتها اليافعة الشقية

هل تحبين

سكون الليالي الندية

أم ، تفرين عند مطلع الفجر

حين يرقص السنديان

في نسيمات الهوى

خلف قامتك البهية..

ايتها الماكرة الفتية..

ستنسين هول الليالي السخية

والسنين التي بعدها والخوالي

ستنسينها

والصواري

تئن في زحام الليالي العصية..!!

***

د. جودت صالح

14 / تموز / 2024

....................

(*) من وحي أغنية أجنبية

 

قصتان قصيرتان جداً

شرنقةٌ سوداء

كانت تحلمُ كلَّ ليلة في مأواها البائس، بأنَّ عنكبوتاً هائلَ الحجم، تلتفُّ  خيوطهُ السودُ الضخمة على جسدها الضامر، ولكنَّها في كلِّ مرةٍ تصفعهُ بنعالها المتهرّئ، ومن  ثمَّ تستيقظُ مرتعبةً، والفجر قد بدأ ينسج خيوطه الشمسية.. وفي غمار كدحها في العمل كخادمةٍ في مدرسة متوسطةٍ مازال أحد أبنائها الخمسة يدرسُ فيها، تنسى سؤال المدرساتِ عن تفسير ذلك الكابوس – الحلم .

كانت طالبةً  في الزمنِ الأغبر، وكانَ أبوها البائسُ الحال،  حارسَ تلك المدرسة، فأسكن عائلته في غرفةٍ خلفية، لم تواصلْ دراستها، وإنما أجبرها أبوها للذهابِ  إلى بيتِ زوجها الذي لم يكنْ أفضلَ حالاً من غرفةِ الحراسة. زوجٌ جاهلٌ، كلُّ طموحهِ أن يحصلَ على عملٍ بأجرٍ يومي نهاراً، ويهدرُ ما يحصلُ عليه على الكحولِ والحبوبِ المخدّرة ليلاً، شاءَ حظها العاثرُ أن يعودَ في إحدى الليالي ثملاً جداً، فيطردها وأبناءها لتعودَ إلى شرنقةِ المدرسةِ المتوسطةِ عاملةَ خدمة. مات أبوها قهراً من العوز والأمراض، فأشفقت عليها إدارة المدرسة، بأن  تبقى في تلك الغرفة الخلفية، مادام معها أبناؤها.

وفي أحدِ الصباحاتِ تناهى لـها خبران، خبرُ مقتلِ زوجها إثر معركةِ بالسكاكين مع أصدقاءِ السوءِ فيما بينهم، والثاني، خبرُ تفوُّق ابنها الأكبر “جهاد” في الامتحانات العامة للدراسة الإعدادية، وبمعدّلٍ عالٍ يتيح له الدخول إلى  كليتي الطب أو الهندسة، فقالتْ بصوتٍ جهوريٍّ بعد أن كانت  تكلّم نفسها بصوتٍ واطئ:

- مات العنكبوت الأسود بنعالي البالي، بثاراتي مات.. بأبنائي الملائكة.

كلُّ من يراها يقول إنها جُنّت، إذ خرجتْ راكضةً حافيةَ القدمين، من تلك المدرسةِ –الشرنقة إلى الخارجِ الرحبِ، الذي تراه تمددَّ وتوسَّع بشكل لم تألفْه من قبل، خرجتْ تستقبلُ ابنها الذي ثأر لها من الشرنقة البالية للعنكبوت الأسود.

***

أين بيت الداء؟

كنت أعاني الإفلاس، وأنا جليسٌ بمفردي في مقهى على رصيف شارعٍ ضيق، تمخرهُ المركباتُ ذهاباً وإياباً، مثيرةً الغبار على وجوه جلاّس المقهى. هناك جليسانِ بقربي، فلأستمعْ إلى حديثهما، لعلّي أنشغلُ بفحواه عن صُداعِ الإفلاس.

- عجبي من ثريٍّ يمرض، وهو يملكُ ما يستطيعُ أن يشتري بأمواله  أرقى الوصفات الطبية من مناشئ عالمية، فضلاً عن العلاج في الخارج- قال الأول.

- فردّ الثاني - الأمراضُ مثل الموت، لا تستثني فقيراً أو غنيّاً، جاهلاً أو عالماً - وأضاف- لذلك الأثرياءُ يُمرضُهم النّهمُ في الأكل والإسراف في الشرب، و”بلاوي” كثيرة لا تُحصى.

- اسألوني؛ أين بيت الداء؟ سأجيبكم- فاجأتهم بتدخّلي، وأكملتُ وهم مازالوا ساهمين- الفقر بيت الداء..

نهضت مبتعداً "حديثهما يزيد صداع الإفلاس" متّجهاً نحو كورنيش السماوة. نعاسٌ شديدٌ دهمني حينما اقتربتُ من إحدى المساطب، فلأنمْ هنا... ليس لي سكن..

-ها.. حضرة الدكتور، ماذا وجدتَ عندي من أمراض؟

-قلتُ ذلك- وأنا مستلقٍ في عيادةٍ غريبةِ الشكل، لاتشبهُ جميعَ عياداتِ أطباءِ السماوة المنتشرةِ  في جميعِ أحيائها التجارية. وقد انطبعتْ في بالي صورةٌ معلّقةٌ على أحد جدران صالة الاستقبال في العيادة، صورةُ شابٍ فقيرٍ يكرع الصّفناتِ في أحد المقاهي، لا قنينةَ ماءٍ ولا استكانَ شاي ولا علبةَ سكائر، وتظهر بطاناتِ جيوبِ بنطالهِ المهلهل، وقد برزت خاويةً إلى الخارج.

- لديك كلّ الأمراض-  ردّ الطبيب.

حين نهضتُ  من سرير الفحص، التفتُّ إلى صورةِ شخصٍ آخر، في غرفة الطبيب، تكادُ تتدفقُ من وجهه مياهُ العافية وبجنبه كيسٌ مليءٌ بالنقود.

صورتا فقيرٍ وغنيٍّ أدارتا رأسي، ما هو السّر؟ وكدت أقع، لمّا رأيت الوصفةً عبارةً عن صكٍّ كُتبَ عليهِ مبلغٌ كبير، بالنسبة لي، سينقذني من الإفلاس.

نهضتُ من مصطبةِ الكورنيش، وصرخت:

- هذا الطبيب يوزّع صكوكاً على المرضى، بدلاً عن الوصفات الغالية الثمن، يقول إنّها طريقةٌ أوروبيةٌ اقترحها طبيبٌ كندي، لعلاج مرضى الفقر المزمن.

تجمّع حولي أناسٌ كثيرون، ومن بينهم جليسا المقهى، تناولا الصك، وقال أحدهما: أنظرْ إنّه صكٌّ فعلاً مُجيّرٌ باسمه، ومعنونٌ إلى بنكِ الإعاناتِ الطبيةِ باسم الطبيب الفلاني.

فما كانَ من المتجمهرين إلاّ أن هرعوا راكضينَ إلى عيادةِ الطبيب المذكور. لكنَّ الصكَّ اختفى، ليعودَ صداعي المزمن شامتاَ بي، متسكعاً معي على ضفاف نهر الخيال.

***

باقر صاحب – أديب وناقد عراقي

 

انتظر طويلا أن تبتسم له الحياة لكنها ظلت مُكشِّرة في وجهه بلا سبب وجيه كما تراءى له، كان يفرط في التساؤل عن سر هذا الجفاء وقلبِ ظهرٍ المِجن الذي يلقاه منها، دون أن يفلح في الوصول إلى جواب مقنع يشفي غليل حيرته.

في كل صباح يستيقظ على مناظر مقززة، سقف بتشققات مخيفة، نافذة بمزلاج مكسور ودهان شاحب، صورة كبيرة لشارلي شابلان على الجدار الوسخ، وبلاط بزليج ضارب في القدم.

يتجاوز كل هذا ويزيح الغطاء عن جسده المتعب ثم يقوم مهرولا نحو الحمام المتهالك، يقضي حاجته ثم يغتسل، ويرتدي بدلته الباهتة ويغادر الشقة الوضيعة التي عشش بها منذ عقدين ونصف، في كثير من الأحيان يقصد المقهى الشعبي لصاحبه المعلم عزوز، يتناول طعام الإفطار الذي يتكون غالبا من "السفنج" والشاي الساخن، وقد يتجاذب أطراف الحديث مع بعض معارفه ممن يقصدون المقهى لتناول إفطارهم، يدور الحديث عادة عن غلاء المعيشة، وندرة الأمطار، وقد يَردُّ بعضهم ما يقع إلى شيوع الفاحشة وانحراف سلوك الناس، وابتعادهم عن نهج السلف الصالح، في حين يقول البعض الأخر أن سبب ندرة المطر سببه التلوث البيئي والصناعات الكيميائية والبتروكيماويات والتعدين. اعتاد هو أن يظل محايدا في تدخلاته متجنباً الجدل العقيم لأن له قناعة بأن الحجاج واللجاجة أشبه بصرخة في واد مادام الحل والعقد بيد فئة جُبلَت على صَمِّ الأذان وتجاهل الرأي العام للشعوب.

في المكتب يجلس كعادته صامتا غير مهتم بالحوار الذي يتبادله زملائه الثلاثة، وهم سيدة في منتصف العمر وكهلان يقاربانه في السن، كان حديثهم في مجمله يدور حول مشاكل الأبناء، وارتفاع أسعار المدارس الخصوصية ، وصعوبة الولوج إلى المستشفيات والمصحات بسبب غلاء تسعيراتها وهزالة التعويضات التي تقدمها التعاضديات وصناديق الاحتياط الاجتماعي، وقد ينزلق الحديث فينصب في اتجاه الفساد الذي أصبح مستشريا في الإدارة وسيادة المحسوبية في الترقيات، كان يكتفي بتحريك رأسه متظاهرا بالاهتمام تارة، أو ينشغل بإدخال بعض الملفات إلى الحاسوب والتحقق من صحة معطياتها ثم الموافقة عليها.

في إحدى المرات سألته زميلته: عن السر في عدم زواجه إلى اليوم وقد أصبح على أعتاب الخمسين، ظل صامتا وهو يبحلق فيها، لعنها ألف مرة في سرّه، تبّا لها من حيزبون تتدخل فيما لا يعنيها، حسبها ما فعلت بزوجها وما سببت له من مشاكل جرت بذكرها الركبان، ولولا تدخل ذوي النيات الحسنة لكان فارقها غير آسف على عشرتها، ردَّ على سؤالها مبتسما : " كل شيء نصيب، ونصيبي أن أظل عازبا، وقد أموت وأنا عازب، وربما وقعت المعجزة وتزوجت "

هناك أشياء كثيرة تخلق المفارقة، وتغير مسارات الانسان، وقد تلعب الصدفة دورا مهما في صنع توليفة تربط بين المفارقة والمسار، وينتج عن ذلك سياق قد تكون نتائجه إيجابية وفي أحيان أخرى قد تكون سلبية، وهذا حال صاحبنا الذي خسر الرهان ولازمته كل سلبيات الكون.

بعد انتهاء الدوام في الإدارة يغادر المبنى الضخم من الباب الخلفي القريب من المكتب الذي يقضي به سحابة يومه.

يستهويه أن يجول بأنظاره متأملا ما حوله من عربات من مختلف الأحجام تمرق من الشوارع التي يمر بها، كما أنه لا يتردد من سرقة نظرات خجولة لبعض النساء اللواتي تسرن على الرصيف، كل ذلك يجرى في حضرة عشرات الأفكار التي كانت تشج رأسه، وتسبب له قلقا مضنيا يربك حياته، هناك سؤال أنطولوجي يحاصره دائما ويؤثر عليه، يطرحه ويكرر طرحه :" ما فائدة الحياة إن كنّا نتعذب ونشقى ونحن نستحث الخطى نحو النهاية الحتمية؟".

زمن الوحدة الذي يحاصره لا يسمح له بالسلوان وتَغْييبِ الهواجس التي تتربص به وتفترس كل لحظة طمأنينة تعنُّ له.

مأساته تكمن في  الفراغ المتناسل، في الصمت القاتل والجدران الباردة، وغياب القدرة على الخروج من ترسبات الماضي الشاحب الذي عاش في أحضان إهابه.

هو يدمن على قراءة بعض الكتب الفلسفية ويرى فيها أحيانا وسيلة خلاص من عزلته ووحدته، لأنه يجد فيها تصريفا لمجمل الأفكار التي تهاجمه وهو في خلوته، لهذا فهو لا يتردد في الانسياق خلف فلسفة إميل سيوران التشاؤمية المبنية على الأفكار الانتحارية، ويجد متعة في ترديد قولته التي حفظها عن ظهر قلب:"  لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل. أما الآخرون، فلماذا يكون لهم مبرّر للموت وهم لا يملكون مبرّراً للحياة؟"

عندما يصل إلى شقته، يفتح نافذة الصالون الصغير الذي يحتوي على أريكتين باهتتي اللون، ومائدة من خشب الزان، ثم يدخل غرفة النوم، ينزع عنه البدلة ، ويلبس كندورة مراكشية، يلج إلى المطبخ، يضع حلة الأكل المتبقي من طعام العشاء على فرن الغاز،

عندما يسمع صوت غليانه يفرغ محتوى الحلة في صحن خزفي، يحمل صينية الأكل إلى الصالون، يجلس على إحدى الأريكتين، ويترك لنفسه فرصة لاسترجاع الأنفاس، ثم يبدأ بالأكل، نادرا ما تكون شهيته مفتوحة، فهو يأكل فقط ليعيش والباقي لا يَهمّه.

ينهى تناول وجبة طعامه، يشعل لفافة تبغ ينفت دخانها بانتشاءٍ، عبر موجات الدخان المتصاعدة يرى شذرات من حياته متقطعة يصعب لَمُّها لأنها أشبه بشظايا غير متوازنة.

 هي أحلام توارتْ وآلام تجدَّدت وأنت لا تملك سوى أن تردّد مع نتشه قولته الشهيرة:"  من يملك غاية للعيش، يمكنه تحمّل أيّ شيء يعترضه في الحياة" وغايتك أنت أن تعيش حرا وسيدا لنفسك لا عبدا لوظيفتك ولمسؤولياتك وأفكارك. ولن تغير تكشيرة الحياة وجفاؤها شيئا من حالك ووضعك، لأن ما من متعة ترغب فيها أو تتطلع إليها إلا وتقتضي أن تعيش تجربة المخاطرة ومواجهة الصعب والعسير.

***

محمد محضار

20 يوليوز 2024

أَيْــنَ الَّــذِينَ تَــفَلْسَفُوا وَتَمَنْطَقُوا

وَلَــهُمْ (كَفَرَسَانِ الهَوَا) صَوْلاتُ

*

هُمْ يَلْدَغُونَ مَدَى الزَّمَانِ جُلُودَنَا

لا  يَــــهْــدَأُونَ  كَــأَنَّــهُمْ  حَــيَّــاتُ

*

مَــا بَالُهُمْ صَمَتُوا وَزَالَ فَحِيحُهُمْ

لَــمْ تَــخْتَلِجْ بِــحُلُوقِهِمْ أَصْــوَاتٌ

*

كَالأَرْنَبِ الخَرْسَاءِ تَلْزَمُ جُحْرَهَا

وَبِــهَا تَــمُرُّ الــخَيْلُ وَالــغَارَاتُ

*

أَفَــلا  تَسِيرُ مَعَ الجُمُوعِ خُيُولُهُمْ

آنَ  الآوَانُ وَحَــانَتِ  الــفُرْصَاتُ

*

كَــي تَسْتَعِيدَ سَلِيبَهَا مِنْ خَصْمِهَا

فَــلِــمِثْلِ  هَـــذَا  تُــعْقَدُ الــرَّايَاتُ

*

وعَدَتْ كثيراً سوفَ تُدركُ ثأرَها

الــيوم، تــبدأُ من هنا، الثاراتُ

*

الــصَّمْتُ  لَيْسَ بِطَبْعِهِمْ، فَتَرَاهُمُ

فِــي  كُــلِّ  نَــازِلَةٍ لَــهُمْ  بَصَمَاتُ

*

الْــخَوْفُ أَخْرَسَهُمْ وَقَصَّ لِسَانَهُمْ

وَضَجِيجُهُمْ  شَهِدَتْ لَهُ السَّاحَاتُ

*

فَغَدًا  إِذَا زَالَ السَّحَابُ وَأَشْرَقَتْ

شَــمْسٌ، تَــعُودُ لِعَهْدِهَا الدَّبكَاتُ

*

عَــاشَ  الَّذِينَ لِعُرْيِهِمْ لَمْ يَخْجَلُوا

فَتَفَاخَرُوا، وَمَنِ اسْتَحَوْا قَدْ مَاتُوا

****

عــبد الناصر عــليوي العبيدي

Hallucinations.

مع ترجمة الدكتور  يوسف حنا.. فلسطين.

***

أحيانا أتوقع أشياء مباغتة جدا

- مطر من النعاس يخطف شياه رأسي

يجر مخيلتي مثل جرو..

- كلاب مشوهة تتقاتل داخل قفصي الصدري..

- ناس ملثمون يهطلون من معطفي البني..

- باص مليء بالمجانين

يفرقع عظام فراغنا العائلي..

- جنازة عذبة بطعم الفراولو

تقلم أظافرها في المبغى..

أحيانا أتوقع أشياء غريبة

ظهور الله بعد منتصف الليل.

عودة شقيقي ميخائيل من أقطار اللاشيء..

الشمس ملطخة بالدماء أمام المستشفى

كسورها عميقة ووجهها مكسو بكدمات زرقاء..

السماء تأكل الأشجار بفم من الهلام الخالص..

جاري الذي قتله المعتزلة في الكازينو

براهينه التي خذلته في الحرب

لاعب الجمباز الذي إختفى في الظل..

أحيانا أتوقع نزول المطر من عينيك الغائمتين

وصراخ اللقالق فوق رأسك

ومناداة الأشجار لبعضها

بلكنة باذخة

وإضاءة الخيول في الإسطبل.

***

بقلم فتحي مهذب تونس

......................

Hallucinations

By Fathi Muhadub / Tunisia

Translation from Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

Sometimes I expect very surprising things

- A rain of drowsiness snatches my head sheep

drags my imagination like a puppy...

- Deformed dogs fighting inside my rib cage...

- Masked people are falling from my brown coat.

- A bus full of madmen

cracking the bones of our family void...

- A sweet strawberry flavor funeral

trims its nails in the brothel.

Sometimes I expect strange things

God's appearance after midnight.

The return of my brother Mikhail from the countries of nothingness.

The sun stained with blood in front of the hospital

Her fractures are deep and her face is covered with blue bruises.

The sky eats trees with an empty jelly mouth.

My neighbor who was killed by Al Mu'tazila * in the casino

His evidences failed him in the war

The gymnast who disappeared into the shadows...

Sometimes I expect rain from your cloudy eyes

And the screaming of storks over your head

Trees' calling out each other

With a sumptuous accent

And horses lighting in the stable.

***

………………….

* Al Mu'tazila is an Islamic group that appeared in early Islāmic history in the dispute over Alī's leadership of the Muslim community after the death of the third caliph, Uthman.

 

تراني المرآة

لا أراني

وجهي

يحول وجهه عني

أين صورتي

عاريا منها

وذاك الجواد القديم

أين من كانوا

بالأمس أمسي؟

لا تكفي المرآة

كي أعبر إلى نفسي

*

تقولين لوركا

بعدما سقطت وردة

بين البنادق

والسقوط بعض العاشق،

تقولين لوركا

والموت

عودة الأرض إلى المنفى

وصوتي الوئيد

*

كم كنت أصرخ

غرناطة، غرناطة

لا تقتليني مرة أخرى

مازالت أمي

تحب رائحة الكلام في ثيابي

وتحفظ دمعي جيدا

من النشيد إلى النشيد

*

بين عريّ الصحراء

و لغة البدو القدامى

لا أذكر أني ...

عدنا

من فوضى الأناشيد

نشيدين أقتل بينهما

قداس

يؤجل زهوري

إلى خريف مضى

وأغنية

تُقبلني جرة نبيذ

*

أيا زفرتي الأخيرة

ألا تتعبين

تركت غدي خلفي

تحت حوافر الحديد

تركت الحمام

يؤنس الماء والمآذن

تركته شهيد

متى نعود إلينا؟

يا حلمي البعيد

*

وهذي لغتنا

تُعيد مفرداتها

لاجئ

أسير

ضحية

و تغلق بعدنا قواميسها

و لا تعود إلى سيرتها الأولى

كيف أقرأ ليلي؟

كيف أصدق البلاغة؟

و ظلك شريد

فاخترْ لقبركَ اسما جديد

*

أتذكرين سيدتي

محاكم التفتيش،

لا تفارق حديقة بيتنا القديم

و تنزع القمر كل ليلة

عن طوق حبيبتي

كي لا يضيء الحلم في دمي

ولا أعود إلى نفسي

من رحلة التعب الطويلة

و شتائي الطريد

أنا الآن ما لا أريد

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: هذا العالم لا يشبه أمي

 

كُلَّما تَتَداخَلُ الفُصولُ

تَنمو الطَّحالِبُ

فوقَ المَرايا

تُدَغدِغُ حَناياها

أخيلَةً مَنسيةً

مازالت هُناكَ في الأعماقِ

تُسامِرُ رَجعُ الصَّدى

ثُلوجٌ تُداعِبُ جَبهةَ حُزيران

وشَّمسٌ تَلفَحُ

حَنايا تِشرين

حٌروفٌ تتلَعثَمُ

فوقَ الكُتبِ المُغبرَّةِ

ينتابني منك الخَجل

مَعذِرَةً

فلا دَمعاً تَبقَّى لأذرِفُهُ

دُموعي الأخيرة

أنفقتُها في رِحلتي الكَئيبة

وحتَّى تِلك الَّتي اِقترَضْتُها

من عُيونِ القَمرِ

نَفدَت منذُ صَارَ

أقربُ خِلَّاني

صَوتُ القَدرِ

رُوحي تَتضوَّرُ شَوقاً

في انتظارِ ذِكرى

جِئتُ أحلُبُ ضِرعَ الشَّمسِ

كي أرتَشِفَ بَعضَ الضَّوءِ

لأضيء به دَهاليزَ الَّلهفةِ

فضَاعت مِنِّي بينَ الزَّبَدِ

حَفنةُ النُّورِ

واستقرَّت في الهاويةِ

تَصرخُ أنفاسي جُوعاً

فتُصيبُ التُّخمةُ أحلامي

وتَغمُرُ فيوضُ الشَّلالِ

وسائِدَ الَّليلِ الهَشَّةِ

تأتَين مع أولِ قَطرةِ نَدى

مِثلَ طَيفٍ تَائهٍ

مِثلَ عُصفورٍ جَريحٍ

يتوكَّأُ على عَصا

تأتَينَ مثلَ حِكايةٍ من سَرابٍ

عُيونُها مَسمولَةٌ

وجَديلتُها مَقصوصَةٌ

تئِنُ عِشقاً

وتَهمِسُ هَلوسَةً

تَشكو لي شَهريار

الَّذي غَالبَه النُّعاسُ

قبل إعلانِ نَواقيسَ النِّهايةِ

***

جورج عازار – السويد

كانت متعبةً للغاية حتى وقعت أسير النوم عميقًا وشاملًا. لم تكن لديها القدرة على الهروب من أسرها حتى الفجر، أُخلي سبيلها في ظل جو صباحي مشرق والموثق بالخضرة، تتألق في السماء أنواع الطيور .

عاشت في زمن انتشرت فيه التقنية الحديثة، ودون شك كان عقلها مبتلًا بماء تطورها، إلا أنها كانت عاكفة على قراءة الأساطير والانغماس في الأوهام والخرافات، لأن الجو العام كان ملبدًا بغيوم اللاوعي.

لم تكن تهتم على الإطلاق بالمستقبل، ولم تدغدغ أحاسيسها آفاق التمدن والتحضر، علما أنها كانت مواظبة على استخدام الإلكترونيات المتقدمة والاعتماد على مصادر تدفقها؛ لأن عقلها لم يكن يستطيع التمييز ورؤية الازدهار بعيون متحررة، بل عقلها عاش في بيئة كانت ولا تزال تتمرغ في وحل الماضي.

كان وباء الفقر، والجهل، وهوان الفكر هو الأكثر شيوعًا في هذا الوَسْط المتدهور. حالما فتحت عينيها، وجدت نفسها أمام رجلِ ملتحٍ يقف منتصبًا كالشبح، يرتدي زيًا يعود إلى زمن ما قبل أكثر من ألف عام.

التقت عيونهما في توجس وغموض؛ وقد اعترتها نوبة استياء مفاجئة، وتَخَضب وجهها بحمرة شديدة. كان ينظر إليها بعين ملؤها الشهوة؛ فهو يرى وجها خارق الجمال، يخطف انتباهه بمزيد من القوة. بدأ الرجل يرخى العِنان لخياله، ابتسم لها واشتهاها على الفور، فهي ليست سوى جاريةً وجسدًا للمتعةِ.

إن ما تشعر به في هذه اللحظات ليست أخيلة سراب أو مصادفة عبثية؛ وإنما واقع محسوس دون أن تفلح في فك طلاسم اللغز المبهم. نشأت تتفرس فيه بازدراء، وطفت على وجهها انطباعة الدهشة والريبة، فلم تملأ منه عينيها، لا سيما عندما شاهدت أشياء غريبة، أثارت في نفسها تساؤلات عدة: رداء الرجل غير مألوف، وطريقة كلامه وتفوهه بلهجة، كما في ـ المسلسلات التاريخية ـ التي تشاهدها على شاشة التلفزيون.

كانت تقدح ذهنها كي تلملم أفكارها في مزيج محبوك بنسيج رهيف يساعد في الحفاظ على الراحة والأمان، ولم يمض على الأمر وقت طويل قبل أن تبدأ الهواجس الخفية المخبأة في مكان ما هناك في الظهور، تلك الهواجس التي بدت وكأنها شعور خفي، إلا انها تكتسي مظهرًا محسوسًا. إنها معركة بين الجديد القديم والقديم الجديد.

"بات من الصعب وصف الأبعاد الفكرية لدن عقول استهجنت وَسْط ـ صراعات الحضارات ـ وهيمنتها على شريحة واسعة من المجتمع، تعيش في غياهب الجهل المسرف".

كل مباهج الحياة التي استمتعت بها لم تكن تعني لها شيئا، في الوقت الذي كانت تعيش في فراش وثير وناعم وبيت فخم وتركب أفخر السيارات، إلا أنها ما زالت مملوءة ذهنيًا برغبات عفا عليها الزمن تسري في أعماقها بيسر، تنظر إلى الأشياء الجديدة بنظارات سوداء؛ بسبب تلك التراكمات الكمية لأفكار جامدة رست على أرصفة الخلايا الصدئة وتوالت عبر الأجيال حتى أدت إلى تلف كامل في أجهزة الدماغ.

مع أن النفس قد تتحرر من بعض حماقاتها، ولكن التصاقها بتلك البيئة لا بد أن يرغمها أن تسقط في وحل القطيع، إن هذا الظلام الذي يحيط بأفق روحها الداخلي يجعلها لا تعي وعيًا سليًما في كل ما يجرى من تناقضات في نفسها؛ وثمة هناك أشياء عدة ساطعة كالشمس؛ ولكن الضباب الكثيف المحيط بصفحة الدماغ، يمنعها من الرؤية الواضحة.

فجأة اختفت الفتاة كالسراب، فيما لبث الرجل واقفًا في مكانه، وعلى وجهه تبرق ابتسامة الفرح وأسارير الاندهاش معًا.

***

كفاح الزهاوي

كانت رحلة العودة من الماضي القريب جد مؤلمة، لم تهملها لحظة سكون أو راحة نفسية. تتهاطل عليها الذكريات بشكل مفزع وتؤذي راحتها النفسية. فكرت طويلا، توقف دماغها عند نقط الصفر. ولم تعد تستحمل. اما الجنون أو الموت. لم تكن تظن يوما أنها ستلج القضاء من أجل الحصول على حريتها من الرجل الذي اختارته من بين الآلاف. وبنت معه بيتا دافئا وجميلا. ولجت مكتب المحامية، وجلست بهدوء ينذر بعاصفة هوجاء. كانت جد متوترة. سألتها المحامية: "لماذا تطلبين الطلاق؟" نظرات مترددة لكنها ثائرة وراغبة في الخلاص. أجابتها بصوت خافت رغم قوته الداخلية:" لم أعد أستطيع التنفس في بيتي." وبدأت الحكاية:

يوم تخرجت صفاء وحصلت على دبلوم الهندسة، كان هناك مع أحد أصدقائه، يرمقها من بعيد ويرميها بنظرات اعجاب. اقترب منها وهنأها على كفاحها الدراسي وقال لها:" مبروك." وابتسم وتوارى للخلف تاركا صوته يدندن حولها. يراقبها ويبتسم. ارتبكت في البداية، وتطورت العلاقة الى لقاءات يومية. حتى أنه كان يكلمها يوميا ويسألها عن يومها وأين توجد ومن يوجد معها. كانت صفاء لا تبالي بهذا الاهتمام الزائد، بل اعتبرته حبا حقيقيا يملأ عليها عالمها. نبهتها احدى صديقاتها الى هذا الامتلاك المغلف بالحب وقالت لها: " ان ملاحقته لك بهذا الشكل، لا يبشر بخير. "

كانت صفاء تعيش في عالم آخر، مملوءا بالهمسات والقبلات والعشق. تركتهم يلاحظون ويحذرون ومشت أميالا معه ولم ترغب في الاستماع إليهم. اعتقدت أنهم فاقدي الإحساس الحقيقي بالحب.

طلبت منها المحامية أن تشرح لها بالتفصيل الممل عن احساسها في تلك اللحظات. كانت ملامح وجهها صامتة، فقدت لمعان بريق عينيها المعهود، تتأمل الفراغ الذي أمامها بدون حياة. قالت:" كنت سعيدة جدا، سعيدة وكأنني طفلة تراقص لعب العيد."

عاشت معه أياما كلها صفاء واهتمام مبالغ فيه لحد الشعور بالاختناق. هاتفها يوما وهي في مكتبها. تركت الهاتف يرن، فرمته داخل حقيبتها وأكملت عملها. هنا، امتلأت مآقيها بالدموع، وانزلقت دمعة مباغتة لم تكن تنتظرها، وتركتها تنام على خدها، سألتها المحامية:" ما بك؟ هل تذكرتي شيئا مؤلما." ابتسمت صفاء ابتسامة استهزاء ومرارة وقالت لها: "من هنا بدأت محنتي التي كنت أرفض أن أراها أو أشعر بها." وتابعت بنفس المرارة:" عدت الى البيت وكلي فرح بلقائه. كان هناك، بعينين يحملان شرارة الموت، صرخ في وجهي وقال لي: "لقد اتصلت بك مرارا. مع من كنت؟ " وتحول الى وحش، لم أفهم ساعتها ما يحدث لي. اعتقدت أنني أعيش كابوسا وسأستيقظ منه. لم أتكلم. تسمرت في مكاني كطفلة خائفة من العقوبة. واستمرت الأسئلة تنهال على كأنني في استنطاق. وما زلت أتذكر كلمته الأخيرة، التي غيرت حياتي وجعلتني أسيرته بإرادتي.

تنفست بعمق شديد وتابعت:" تحرك بخطوات متوترة داخل الغرفة واقترب مني وهمس لي كأنه سيشفي سرا "أسمح لك الآن بالنوم، لكن اياك أن تكرري فعلتك هاته." صمت رهيب بمكتب المحامية. كسره سؤالها: "وماذا بعد؟"

أصبحت صفاء، تعيش على حساب مزاجه، تهاب هيجانه. تجيب عند كل رنة وحتى ولو تكررت آلاف المرات. في يوم، كانت مع صديقة مقربة لها، يتناولان وجبة الغذاء. رن هاتفها، كان يمطرها بالأسئلة، ماذا تفعل ومع من تجلس ومتى ستعود الى البيت. تفاجأت صديقتها من هذا السلوك الغريب ومن ردة فعلها وخصوصا أنها تعرفها جيدا. قالت لها بصوت يحمل انفعالا باطنيا: "لماذا تسمحين له أن يتعامل معك هكذا؟ ماذا حصل لك؟" لم تجب، ابتسمت وتابعت أكلها.

انفعلت ورمت بحقيبتها جانبا، وصرخت بشكل هيستيري وقالت للمحامية: "كنت أريد أن أقولها بأنه عنيف معي، ويمارس علي رقابة شديدة." كنت أريد أن أقول لها: "انه يتدخل في لباسي ومواعيدي. حتى حسابي في البنك يمارس عليه رقابة." لكن كنت مكبلة، لست أدري لماذا؟ وانهارت وبكت كثيرا.

طلبت منها المحامية أن تستريح قليلا، أو تؤجل المقابلة الى الغد. لكن صفاء رفضت وصممت على الاستمرار. كأنها تهاب أن يسيطر عليها صوته من جديد ويعيدها الى سجنه من جديد. وقفت واتجهت صوب النافذة التي تطل على الشارع الرئيسي، ضجيج السيارات يملأ الفضاء ويتجاوز حدود المكان، ليستقر كضيف ثقيل في كل ركن من أركان المكتب. عادت وجلست مع ابتسامة رقيقة رغم حزنها. وقالت: "بعدها نمت باكرا، وحاولت أن أهرب منه حتى لا أتعرض لاستنطاق آخر. " وهنا سألتها المحامية:" هل كان يسألك دون توقف؟" ضحكت بشكل جنوني كأنها تنتقم من صمتها الذي دام لسنوات وقالت: "كانت متعته أن يوقظني من نومي، ويتلذذ في طرح الأسئلة. ويعود في الصباح، كأنه شخص آخر، يطلب الصفح بحجة أنه يحبني."

كان يوما ربيعيا، شمسه هادئة تلامس الأجساد بكل حب وهمسات باردة تائهة تتسابق مع خطوات المارة وتحدث بلبلة جميلة حولهم. خرجت من عملها وهي تريد أن تقوم بشيء مغاير، تريد أن تتحرر من رقابته لكي تشعر بوجودها. منذ زواجها منه، وهي رهينة عالمه العنيف والصغير. كانت تبحث عن فرصة ولو فرصة صغيرة تعيد بها الأمس القريب عندما كانت سيدة نفسها. تريد أن تتنفس بكل حرية. أخذت سيارتها وانطلقت دون هدف. وصلت الى بلدة صغيرة كلها أشجار ووديان، عصافير تغني حولها حتى ظنت أنها فرحة بمجيئها. مشت حتى أخذ منها التعب مبلغه. افترشت الأرض ونظراتها مسافرة عبر الزمن تبحث عن صفاء التائهة، عانقتها هبات ريح مسائية وروت روحها العطشى للحرية والانعتاق ونامت نوما عميقا. استيقظت مفزوعة لا تدري أين توجد. وشك الليل أن يستوطن المكان، تسابقت مع عقارب الساعة لكي تصل الى البيت قبله. هنا، صمتت. كانت نظرات المحامية تحمل انتظارا وفزعا. قالت بصوت واهن:" عشت أسوأ ليلة في حياتي" وانهارت.

ولجت بيتها في هدوء غير معهود، كانت خائفة كطفلة رفضت الانصياع الى الأوامر. فكان هناك واقفا وحوله ظلام كثيف، اخترق صوته جدار الصمت. وامتلكها رعب شديد واستولى عليها كانتشار قطرة مداد في بقعة ماء. وقال لها بصوت حكيم يحمل عنفا: "أين كنت؟" ارتعشت مفاصلها وكادت تسقط أرضا، أخذت نفسا عميقا وقالت:" كنت في المكتب، ثم تمشيت قليلا في الغابة."

ثار كما يثور البركان في غفلة من الجميع وصرخ: ماذا قلت لك، لما أطلبك في الهاتف، أجدك. لكن أنت غير مطيعة." وأضاف وهو يخطو بخطوات بطيئة كأنه يتحين الفرصة للهجوم على ضحيته:" مع من كنت؟"

وامتلكتها حالة من البكاء الهيستيري، حتى أن المحامية طلبت منها انهاء المقابلة من جديد الى يوم آخر. احتضنتها ومسحت على رأسها. تنهدت صفاء ودفعت الكلام من فمها دفعا:" صفعني وشدني من شعري وكاد يخنقني."

قالت لها المحامية بانفعال:" أنت تعرفين سلوكه العدواني اتجاهك، لماذا عدت الى البيت بعدما تأخرت؟ لماذا لم تخبر أهلك؟ أو الشرطة؟" مسحت دموعها وعدلت من لباسها وشعرها، وابتسمت وقالت لها: كان الخوف يكبل كل حركاتي، خجلت من نفسي أن أخبر أهلي. أما بالنسبة للشرطة، قلت لنفسي " سيحكم بكم من سنة؟ أكيد سينتقم مني فيما بعد."

ثم أعادت المحامية السؤال بشكل آخر:" متى قررت رفع دعوة الطلاق والابتعاد عنه؟"

لما استيقظت في اليوم الموالي، كان يغني. مرحا، استغربت من وجود قهوتي على سريري، وطلب مني ان أرتاح وقبلني وقال لي بانه يحبني. وخرج.  نظرت الى المحامية وقالت بصوت عالي: "أليس هذا جنونا.؟"

 اقتربت يومها من المرآة، وجدتني  شبحا يفزع ويحدث الرعب في النفوس. لست أنا، رأيت وجها ميتا لا أثر للحياة فيه. قلت لنفسي" من أنا؟ ماذا أنتظر؟ ". فسمعت صوتا وهاجا كالنور سكن وجداني وأنار لي الطريق، وحرر دماغي من شلل تام وأعاد لي تلك الحرية التي تاهت عني وشعرت ساعتها بانتعاش غريب وبتدفق الدم في كل شراييني وبتسارع نبضات قلبي، كنت مثل الشجرة التي تعاد اليها الحياة بعد جفاف طويل.

قامت صفاء تستعد لمغادرة المكتب، فابتسمت كأنها تنظر الى الحياة لأول مرة، عاد اللمعان الى عينيها، تغيرت ملامحها وودعت الدموع والخوف، وقفت وأخذت حقيبة يدها واتجهت صوب الباب. سألتها المحامية باستغراب كبير: "الى أين يا صفاء؟ يجب ان نتمم إجراءات الطلاق."

قالت لها بقوة أكثرو بصوت واثق وسعيد:" أنا ذاهبة الى بيتي. الآن أستطيع أن أتنفس بكل حرية. " واضافت: "أكملي إجراءات الطلاق كلها."

***

أمينة شرادي

قصة: فرناندا ترياس

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

جاء بالخبر داريو، ابن الخباز.علمنا أن شيئًا ما قد حدث بمجرد أن رأيناه يقف على دواستى دراجته، ويقترب في شمس الظهيرة. فقال أحدهم: من ذاك؟ مهلا، إنه داريو!  كنا نجلس على الشرفة، منهكين من الهواء الساخن الساكن الذي استقر خلال الأسبوع الماضي، وكان صوت المروحة الشبيه بصوت موج البحر هو الشيء الوحيد الذي يمكن سماعه. قبالتي، كانت كلارا تغفو، وفستانها مطوي فوق فخذيها النحيلتين، وكان صدرها، مثل طائر هزيل محنط، يرتفع بما يكفي للسماح بدخول القليل من الهواء. وبجانبها كانت تجلس ماما، مرتدية ملابس سوداء على الرغم من موجة الحر الشديدة. وقد لمت شعرها مرفوعا إلى لخلف باستخدام دبابيس الشعر وبدت كعكتها وكأنها برج سيء البناء. وعلى مسافة بعيدة جلست جوردا تيريزا وزوجها خيسوس. كانا كلاهما يرتدي ملابس جديدة كما يحلو لهما أن يفعلا في الأعياد الوطنية. إنها ترتدي فستان بلون زهور عباد الشمس وهو يرتدي قميصًا خاطته جوردا له ببقايا القماش. هذا ما كنت أفكر فيه قبل أن يكتشف شخص ما، ربما كان جوردا، الدراجة على الطريق. ثم قالت كلارا: "نعم، إنه داريو". جلسنا قليلًا، ولكن لم يكن ذلك كافيًا للنهوض من كراسي الاستلقاء. رسمت ماما علامة الصليب، وكان القلق على وجوهنا بمثابة نذير شؤم لما سيحدث في المستقبل.

قالت أمي وهي تومئ برأسها:

- هيلدا، اذهبي لإصلاح شيء ما لهذا المسكين.

أدخلت قدمي في صندلي ووقفت ببطء. طقطقت عظامي. بدا أن شيئًا بداخلي يقاوم الحركة، ويهدد بالتقطيع مثل غصن جاف. أثناء مروري أمام المروحة، بهوائها الخفيف الدافئ، توقفت لمدة دقيقة حتى أدع النسيم يضرب وجهي ويداعب شعري.

عندما اقترب أكثر، سمعت صوت إطارات دراجته على الحصى. كنت أنتظره عند الباب وفي يدي كوب من عصير الليمون. توقف داريو على بعد أمتار قليلة من المنزل. وضع قدمه على الأرض وقفز عن الدراجة، التي أثارت الغبار أثناء سقوطها جانبًا. "مرحباً سينيورا هيلدا،" قال من بعيد. كان منتفخًا من الحرارة، وكانت عيناه غائرتين في وجهه، مثل فتحتين أحدثتهما ضربة. كان يمسك بحزمة من الورق البني. كانت الشمس تضرب بقوة، وعلى الرغم من أنني لجأت إلى الخط المظلل الذي تشكله الحواف، إلا أنني بدأت أشعر بالشعر المبلل على مؤخرة رقبتي مرة أخرى، والحرارة القاسية تتصاعد من الأرض.

سالته:

- ماذا لديك هناك؟

اتخذ بضع خطوات نحوي، غير حاسمة. لم يكن الطفل المسكين متأكدًا مما إذا كان يجب أن يخبرني بالأخبار أولاً.

- ألم تخبرك والدتك أنه من الممكن أن تمرضى في هذا الوقت من اليوم؟

لم تكن لديه الجرأة للاقتراب، أو ربما لم يكن يعرف ما يقول، لأنه وقف ساكنًا في شعاع الشمس، مستقيمًا ومهيبًا مثل جندي بينما كان العرق يتقطر من وجهه ويبلّل قميصه.

قال:

- إنه خبز عيد الميلاد الحلو. ثم قدم لي اللفة ورفعها بكلتا يديه.

طلبت منه أن يأتي إلى الشرفة.

- خذ، هل تريد بعض عصير الليمون؟

أومأ برأسه واقترب بخطوات خائفة. أعطاني اللفة، وبمجرد أن تحررت يداه، مسح جبهته وعينيه بكفيه الممدودتين، ثم أخذ الكأس. كان الغلاف ساخنًا للغاية، وشعرت بالخبز اللزج المسطح عبر الورق.

قلت له:

- شكراً لأمك .

لكنني لا أعرف إذا كان قد سمعني، لأن الكاس غطى وجهه حتى حاجبيه وهو يبتلع عصير الليمون في جرعة واحدة.

عندما انتهى، نظر إلي وتحدث ببطء، وكان لا يزال يلهث.

- لقد عاد.

نظر إلى الكأس الفارغ كما لو كان ينتظر شيئًا ما. ثم أدار لسانه، الذي تخيلته باردًا ورطبًا، وبدا أنه استجمع شجاعته:

- قال السيد أوغستو لوالدتي ولم تصدقه، لكنه قال إن الجميع رأوه، وأنه هنا، حيًا ويركل. هذا ما قاله لها أوغوستو، وأنه في طريقه إلى هنا، وأنه من الأفضل إخبار السيدة لويزا بذلك حتى لا تصاب بالإغماء.

-    إغماء.

-  نعم، إغماء.

قالها مرة أخرى، وتألق شيء ما في عينيه، إحساس بأن شيئًا فظيعًا قد يحدث.

- حسنًا، سأخبرها. هل تريد كوبًا آخر؟

تردد، ثم رفض برأسه ونظر إلى الدراجة الملقاة على الطريق.

- أشكر والدتك على الخبز. ولا تقلق، سأخبر السيدة لويزا بذلك.

يبدو أن هذا يهدئه. ربما كان قلقًا من أن أسحبه إلى الشرفة وأجبره على تكرار تلك الكلمات نفسها أمام والدتي. ثم الإغماء، ونوبة الإغماء، وصرخة السعادة المطلقة. ربما الدموع. رفعت يداها إلى السماء، وعيناها فارغتان، ولسانها متراجع، مما أدى إلى خنق حلقها الجاف. ولم تعد تؤمن بالمعجزات. وكان هناك داريو، كالملاك بمقوديه المعدنيين الساخنين والصدئين.

ولم أفاجأ بالخبر كما لم أفاجأ بالخبر السابق عن وفاته البعيدة. ربما لأنني منذ صغري اعتدت أن أتخيله ميتا، ملقى داخل التابوت، ليس شاحبا أو باردا، ولكن كما لو كان نائما، ورأسه محاط بالورود. بدأ الأمر في العام الذي أرسلوا فيه والدتي إلى مستشفى ميسيريكورديا للطب النفسي. لقد تُركنا أنا وأختي في رعاية فابيو. كانت كلارا طفلة صغيرة، ولا تتذكر أي شيء. لكني أتذكر البرد، وجسدي يرتجف تحت الملاءة البيضاء الصلبة. كان علي أن أستحم قبل أن أنام، واعتقدت أن فابيو سيسمح لي بغسل نفسي، وكان يبقى دائمًا في الحمام. حتى يومنا هذا، أستحم والراديو مفتوح لتجنب تذكر صمت الماء. بعد ذلك، كان يلفني بمنشفة كبيرة ويجففني. في بعض الأحيان، عندما كنت أحاول النوم، كنت أتخيل فابيو ميتًا، مع تاج من الورود. في بعض الأحيان كان التابوت عبارة عن حوض الاستحمام. في بعض الأحيان كنت الوحيدة التي تسهر على جنازته.

ربما لهذا السبب لم أتفاجأ. لكن كلارا بكت عليه بعنف، وبالغت في كل حشرجة صدر في صدرها الهيكلي. كانت ستخبر من يستمع إليها عن اليوم الذي أنقذها فيه فابيو من الانهيار في الكوخ الخشبي. ومن يدري كم مرة سمعتها تقول: "كان أخي كل شيء بالنسبة لي". ماما، صامتة وفخورة، اقتصرت على ارتداء ملابس الحداد. وحتى يومنا هذا، بعد مرور اثني عشر عامًا على ما يشبه الجنازة من بعيد، لا تزال الملابس السوداء البالية التي فرضتها على نفسها هي طريقتها لتظهر للجميع أنها تعاني من أعمق حزن لا يُنسى. ولكن ليس أنا. لم أنضم إلى جوقة النساء المندبات، بما في ذلك جوردا، وكنت أعتقد في أعماقي دائمًا أن الشيء الوحيد الذي يريده أخي هو الابتعاد عنا، وعن ماما بشكل خاص، وأن البلدة بأكملها اعتقدت أنه كان فائزًا أو بطلًا. لقد أصبح الآن شيئًا أكثر من ذلك: رجل ميت تم إحياؤه وقد عاد مليئًا بالمغامرات العظيمة والحكايات عن كيف أخذه الموت بشكل غير متوقع.

وقفت هناك عند المدخل الرئيسي أشاهد داريو وهو يبتعد. أمسكت الحزمة التي تحتوي على الخبز الناعم والمتكتل بيد واحدة. وفي الآخر كأس الصبي. لقد ذابت مكعبات الثلج واستفدت من الزجاج المبلل لتبريد جبهتي ورقبتي. هذه المرة بدأ بالسير على المنحدر وكان بالكاد مرئيًا، مختبئًا خلف سحابة من الغبار. إذا كنت أفكر في شيء ما، لا أتذكر ما كان عليه. أحيانًا يكون التفكير في أشياء كثيرة في وقت واحد بمثابة عدم التفكير في أي شيء على الإطلاق. كل ما أعرفه هو أنني انتظرت هناك لفترة طويلة. انتظرت، أي حتى بعد أن لم يكن هناك أي أثر للدراجة وبدأت الأرض تستقر مرة أخرى، لم يعد هناك أي أثر.

لم تكن الشمس تصل إلى غرفة الطعام، وأومضت الشموع على المذبح في الظلام البارد والعفن. لقد لطخت النيران الجدار بالسخام، وفي وسط العمودين الأسودين علقت مسابح وصور العذراء وصلبان وقلوب صغيرة نازفة متوجة بالأشواك. في الأسفل، على الخزانة الجانبية، كانت هناك مجموعة من الصور لفابيو في كل الأعمار تقريبًا، محاطًا بالزهور البلاستيكية، والبطاقات المقدسة، والصلوات التي تركها أقاربه وأصدقاؤه: لقد كان وسيمًا ميتًا أكثر منه حيًا. الآن يمكننا أن نحبه أكثر. كيف سيكون حاله الآن؟ عجوز. ربما جريح، بلا أرجل، بلا أصابع، مع رقعة فوق عين واحدة. أو منهكًا منذ السنين، بلا أسنان، دمرته العناصر وكل الأكاذيب مثل علبة بازلاء مهجورة. فكرت في العلبة ورأيت نفسي أطلق النار عليها في صدرها. ثلاثة ثقوب مستديرة تمامًا، هدفي على النقطة كما كان من قبل. تم حفظ البندقية في خزانة الماهوجني أسفل المذبح مباشرة. كان علي فقط أن أدير المفتاح وأنتظره عند مدخل العقار. بعد كل شيء، لم يكن أحد يتوقعه. لن يخرج أحد للبحث عنه. كان بإمكاني رؤيته: علبة صفيح قديمة ومثقوبة، ومن خلال الثقوب، تتلاشى الذكريات مع آخر احتمال لأي عودة.

تركت الكأس في المطبخ، ومررت بجوار المروحة دون توقف، وصعدت الدرج ببطء كما نزلت، وسقطت على الكرسي. خلعت الصندل بقدم واحدة وتركته يسقط على الأرض الصلبة بضربة قوية، ثم بالأخرى. لقد انتظروا جميعًا في صمت أثناء خلعهما.

قلت وقد بدأت في فك الحزمة على حجري:

- لقد أرسلوا لنا هذا الخبز.

قالت أمي:

- هيلدا .

وعلى الرغم من السطوع، حجب الظل وجهها.

الخبز الساخن، المطحون، المتجعد والمتشقق، بدا الآن وكأنه دماغ مكشوف، زهرة فظيعة ومؤلمة.

كررت بحزم:

- إنهم يرسلون لنا هذا الخبز، ويطلبون مني الحضور. انفصلت الابنة الكبرى عن زوجها وأخذ الرجل كل شيء: الأثاث والمال وكل شيء. لقد دُمرت.

- وما دخلك في ذلك؟

هززت كتفي:

- ليس لديهم أي شخص آخر.

أخذت جوردا نفسًا سريعًا كما لو كانت ستقول شيئًا لكن خيسوس أشار إليها بأن تلتزم الصمت. نظرت للأعلى. ومن بعيد، في أقصى الجزء الجنوبي من الطريق، كان هناك شخص أسود، لا يزال غير محسوس بالنسبة للآخرين، يشق طريقه ببطء نحونا.

***

.......................

(تمت)

المؤلفة: فرناندا ترياس / Fernanda Trías كاتبة من الأوروجواي. ولدت في مونتيفيديو عام 1976. وهي مؤلفة ثلاث روايات ومجموعتين قصصيتين. في عام 2004، حصلت على منحة اليونسكو للكتابة في كاماك، وهو مقر إقامة الفنانين في مارناي سور سين. عاشت لمدة خمس سنوات في قرية بروفينس التي تعود للقرون الوسطى وبضعة أشهر في لندن. أمضت سنة واحدة في برلين وسنتين في بوينس آيرس. حصل ترياسي على درجة الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة نيويورك وكان تلميذا للكاتب الأوروجوياني ماريو ليفريرو. قامت بدمج مختارات من السرد الجديد في كولومبيا والولايات المتحدة وأوروجواي وبيرو وألمانيا (Neues vom Fluss: Junge Literatur aus Argentinien, Uruguay und Paraguay, 2010) وإنجلترا (الكاتبات الأوروجوايانيات، 2012). تم اختيار روايتها "لا أزوتيا" (2001) من بين أفضل الكتب لهذا العام من قبل الملحق الثقافي إلباييس، وفازت بالجائزة الثالثة للسرد المحرر لجائزة الأدب الوطني في أوروغواي (2002). في عام 2006 حصلت على جائزة مؤسسة بنك بوسطن للثقافة الوطنية.

وضع ابهامه على الصفحة، حدق جيدا قبل أن يتنقل بالبصمة على المساحة البيضاء، تنمل الإبهام، بات شبه مخدر، استبدله بالسبابة، تنملت، جرب الأوسط فالخنصر فالبنصر، وقفت يده كلها فوق البياض الممتد كغيمة ملفوفة بسحب من عهن منفوش، امتصته السحب، فانزلق في كومات من ضباب رمادي يتجه نحو التعمق في سواد مكدس، مزدحم، غلفه المجهول بخيوط عنكبوت يفيض سما.

ما الفرق بين الحياة والموت؟ سألته نفس شاردة من غيبوبة مكتظة بالتناقض، ما الفرق بين الثقة المنزوعة من القلب المعذب بالحنين لتجربة الثقة الموطدة في القبور؟ سألت النفس الواهمة بشيء من اليقين المخلوع من نفس تتوق للشيء الخفي، ربما النقاء، وربما الصفاء.

قالت النفس المتوثبة: القبور لا تتحدث، لكن العظام المتحللة المتكلسة، يمكن أن تخبرك بالكثير عمن انسلخ عنها، عن عمره، طوله، جنسه، مرضه، حتى أنها تستطيع الاسترسال بالحديث كمذياع لا يتوقف. بمن أثق إذا؟ بالشمس التي تغيب؟ بالقمر الذي يأفل؟ بالجليد؟ بالصحراء؟ حتى هذه كغيرها، لا تكف عن الصفير والجواح والهسهسة والطقطقة.

هناك شيء فيَ ذاتي، تكويني، يرجني، يخضني، كما يرج الزلزال الأرض من أعماقها، وكما يخض الفيضان ما على سطحها، يحمله من مكان ليضعه في مكان لا يشبه ما كان يألف ويعهد ويعرف، في كائنات تتوغل، تتعمق، تتجذر، تمد جذوعها وسيقانها، فيغزوها فطر يكاد لا يرى، يفتتها، يحللها، وينثرها فوق مكان البصمة تماما، فيختفي النثار، وتتلاشى البصمة، يقتحم المجهول غامض من الغيب المخبأ في الإضمار القصي عن المحسوس، الملموس. تتقاطر العقارب من كل الجهات، لكنها رغم ما تملك من عيون تظل عمياء عن رؤية البؤرة التي تتضفر بأعماقي كضباع لا تكف عن سفك الروح أمام الحياة، فهي هكذا خلقت، كالكلاب التي تستمد حياتها، بقاءها، من الألم المعتصر من الضحية التي تنهش وهي تراقب بلوعة اختفاء روحها المطحونة بين الأنياب والأضراس.

كان عليك منذ أزمان غابرة، منذ عصور تمددت فيك من الخاصرة حتى الخاصرة، أن تدرك مرة واحدة، بأن الأشياء تقرأ من بدايتها حتى نهايتها، كي تدخل الذاكرة كبيضة تتحول يرقة، فشرنقة تفتح عالمها للطيران بأجنحة تتقن الصعود والهبوط والدوران والالتواء، رغم حداثة اللحظة التي فردت الجناحين في أفق مفتوح.

الحياة الآن تم اختبارها، بالجوارح، وبالنفس والروح، لكن الموت شبحا يطاردك منذ اللحظات التي رآك النور ورأتك الظلمة، بينهما حاجز يومي يسحبك نحو الوسن، ورغما عنك، عن أنفك، وكل ما فيك، يقذفك بنوم يغيبك عن الوجود، عن الإحساس، عن اللذة الغامرة، والألم المكتسح، لتكون معزولا عن الدنيا وكل ما فيها، كأنك لم تختبرها ولم تختبرك، لم تشاهدها أو تشاهدك، وحين تصحو، تكون كالمخبوط الخارج من صرع أمسك بنواصيك وأقدامك، لكنك فور فرك العينين، تنسى كل شيء عن الموت الذي كنت تغرق فيه حد العجز عن اليقظة.

الفرق بينك وبين ذاتك عميق، تماما كالفرق بين القدرة على اكتساب التجربة من الصرخة التي مزقت السمع  وأطفأت البصر فيك، لكنك رغم ذلك بقيت كما اللحن تحن للصرخة ذاتها، لتدور في فراغ يقودك نحو فراغ لا يتسع سوى لفراغ، كالحلم الذي جاءك ليجس قدرتك على التعلم من اللحظة، لحظة الفزع من رؤيتك للعالم وهو ينهار ويتمزق، كسراب يكسره ويشظيه الصدى، يومها داهمك الحلم، وربما الرؤيا، رأيتك وأنت ترى الأرض تقضم من تحت قدميك، تتهاوى، وأنت تركض نحو الريح، تركض وتركض، والأرض تتلاشى، تتبخر، ولا يبقى من ورائك سوى موطن كعب القدم، وأنت تعدو بكل ما فيك من قوة، وكأنك مجموعة من خيل جامحة متوترة غاضبة، وخلفك، تحت الكعبين فقط مساحة واحدة للأمام تستعد للتهاوي والتلاشي والذوبان، الخوف يمسك بقبضته الصارمة النائتة خفق القلب المتسارع المشتبك مع اللهاث والعرق والرعب، فقط يمكنك العدو والركض ، وأنت محشو بالجزع والخرع، الحياة كلها، الوجود كله، الكون كله، ليس فيه سوى العدو الموصول بالعدو، فالأرض من ورائك لا مكان فيها لقدم، لصوت، لرؤية، لعين، عليك الإسراع ما استطعت، فإن لم يجد كعب القدم مكانا على الحافة التي يلاحقها الاندثار ستغيب في العدم، التوجس يغذي الجبن فيك وأنت تحاول طي ما تبقى من الأرض، وفجأة، تصل حافة الكون، نهايته، فلا الأمام أمام، ولا الوراء وراء، هوة من فراغ تنتصب أمام عينيك، وهوة من فراغ تبتلع الخلف، تتقلى الروح وتشوى، يختطفك العجز المطلق، فتصحو وأنت تشرق بلعاب أغلق الحنجرة، تتلوى، تقفز وكأنك ممسوس، الموت الذي طاردك في الحلم، هو ذاته الذي يخضخضك ويرجك، وأنت أنت ذاتك، ما زلت لا تعلم يقينا، أخرجت من الحلم، أم ما زلت فيه.

أرأيت كم أنت غافل عن لحظة التجربة؟ حتى الحلم الذي جاء من الموت لينتشلك من الغفلة، لم يتمكن من تلقينك درسا عن الثقة، عن البصمة التي طبعت فوق بياض لم يحمل غير البياض، ما زلت أذكر حديث الأنامل معك، ربما، وربما لوحدها عوالم وأكوان، ربما، لم تسمع أنين الإبهام حين طويته للأسفل، ولم تسمع شهقة السبابة وهي تنادي الإبهام ليقف معها على حدود التوحد، فتنتفض الوسطى لاجئة للخنصر، أما البنصر فيأخذه الشده والدهشة، يعلو صليل الأصابع وهي تبحث عن مكانها، عن تجربتها، عن ثقتها التي تشابهت الآن مع غفلتك وجهلك وهما يصدقان بثقة المؤقت المتغير، فيعلو صرير النفس المفجوعة ليغطي البصمة ويلوث البياض الذي كان قبل طي الإبهام يظن بأنه يملك نقاء أو صفاء.

ماذا تريد من الحلم؟ الهروب من ذاتك التي تصفدك بمعاتبتها وقرعها ولومها لك؟ أم الدخول في حالة اليأس الذي يفجر القنوط؟ أنت لا تعرف، وذاتك ذاتها لا تعرف، لكنك تستطيع تذكر الحلم بكل ما فيه، كتلك الأفعى العملاقة التي كانت تسير نحوك وأنت جامد، مغلول بالحيرة والذهول، لا تملك من إرادتك سوى انتظار وصولها إليك، رغم خروج معدتك في مسار نحو الحلق، وسقوط القلب في هاوية الرعب، قدماك في الأرض كوتدين يغوصان نحو العمق، تماما كما كانا لحظة الهروب من اندثار الأرض، وحين وصلتك والتفت بكل ثقلها وقوتها عليك، ضاقت الروح، لكنها كانت خبيثة إلى حد الخبث الذي لا يحد ولا يوصف، فهي تشد حتى توصلك مرحلة النهاية، ثم ترخي، تراك تنفست نفسا واحدا، فتعود لتضغط بكل قوتها وهي تنتصب برأسها أمام عينيك، هي تراك فريسة بلا حول ولا قوة، وأنت تراها من خلال عيونها التي تغوص فيك، الموت الذي ناداك ذات يوم لتدرك معنى التجربة، لكنك فور نهوضك منه، من الحلم، عدت لطبيعتك، القادر على التعود من خلال إنكار الحلم وما فيه من رسائل، أنا لا أعرف لماذا تركتك الأفعى طريح الأرض؟ ربما لم تجد فيك ما يستحق أن تقتل، وربما شمت فيك رائحة سم سيقتلها، كأنك ضفدع لا يتقن التغذي سوى على ما يحقنه بسم زعاف.

الموت هو اليقين النابت من المطلق الذي لا مطلق غيره، من الخالق، خالق الموت، وخالق الحياة، والناس مثلك تماما، يهبطون بإرادة الغرور المنزوع من الصلف، يؤمنون بالحياة كبداية، اسبقية، فقط لأنهم شاهدوا الأجنة وهي تخرج من الأرحام، ولمسوا العجز المطلق القادم مع البكاء المتوحد مع الألم، ألم المخاض، وطلقات الولادة، ليختلط هذا كله بالزغاريد والأهازيج وتشقق الوجوه من الحبور المتفجر بوصول المولود لعتبة التراب والرمال والسوافي.

فرح متقد، يُذهب العقل، ويُغيب الإدراك، يمحق الفطنة التي لم تتوقف أمام الغيم المرصوف بالمجهول، لتسأل بلوعة تلهف وفجيعة، جوى وشجو: من أين جاء هذا المولود الملطخ بالأشياء؟ بالغرائب والعجائب؟ من معلوم؟ أم من مجهول؟ من جلي بَيِنٍ محدد؟ أم من العدم المحشو بالعدم؟ كل هذا لا يدور بين الحاجبين والمحجرين، حتى أنه لا يقع في مساحة البصر والبصيرة، لعجزنا فقط عن فهم الموت الذي منه انتقلنا للرحم، لنخرج منه ملامسين التراب الذي خلقنا منه، ومنه نأكل، وإليه سنعود ونحن غارقين بالموت الذي ييبس الجسد ويشحنه بالبرودة والتجمد.

الموت أسبق من الحياة، وهو صاحب السطوة التي تغل بكل بساطة مفرطة بالبساطة، كل شيء وجد في الوجود، حتى الشموس والأقمار، الكواكب والنجوم، المجرات والثقوب السوداء، كلها جاءت من الموت، من يقين الموت، وهي مرهونة لوقت ما، لتعود إليه، خاضعة، صاغرة، مقهورة، خانعة، ذليلة، مذعنة، فلا حول لمخلوق سوى الوقوف أمام الوقت بانتظار الموت.

هل ما زلت أنا أحاول رسم بصمتي فوق الصفحة البيضاء؟ ربما، وربما دائما هي أكبر من امتداد الزمن في الزمن، والوقت في الوقت، فهي غامضة، خفية، تحمل التأويلات والتوقعات، الشيء وضده، اللاشيء ونقيضه، لذلك فقط، توطدت علاقتي بها أكثر من علاقتي مع الذي يسكنني، يحتل ذهولي وشغفي، ذلك الشيء الغريب المتحرك، اللزج، الدبق، الذي يخلعني من جذوري، ويغرسني بجذوري، هو يشبهني، في عشقة لمفرد ربما، ويشبهني حين أنتظر الموت، في أحايين كثيرة على بوابة الميلاد.

هذه الحياة، مزقتني، ولصقتني، فتتني، وجمعتني، نثرتني في الهباء، لملمتني، خبأتني في قمع عاصفة لولبية، نحتتني على رمال في صحارى تغزوها الرياح ولا يعرفها الغيم أو المطر، كأنها تشدني من ناصيتي نحو حوارية واحدة ووحيدة، الجفاف، اليبس، النشفان، وكلها صور مبسطة من صورة الموت حين يرفع الغطاء ويتحول البصر من حالة العجز التي رافقت العمر، ليتحول إلى حديد، ليرى ما لا تستطيع المخلوقات كلها رؤيته وهي منغمسة بغرورها الذي تزوده الحياة بها منذ لحظة الميلاد التي أهملت الصلة بين القادم من الرحم والتراب الذي وقع عليه فاختلط به وتسرب تحت الجلد كامنا حتى اللحظة التي تحول البصر بها إلى حديد.

ما الذي تعنيه البصمة التي أرقتني فترة طويلة من عمري؟ وماذا يعني إن كانت على صفحة بيضاء أو سوداء؟ خمرية أم توتية؟ على حجر كريم أو حجر كلسي؟

كل شيء سينتهي، وأول النهايات "ربما" التضاد والتناقض، التباين والتعارض، التضارب والتنازع، "ربما" الثغرات والفجوات، التفارق والتناقص، ومعها ستختفي اللذات، تتلاشى، تندثر وتنقرض، ستذوب زرقة السماء، ويفنى الصبح المتنفس من العتمة، سيندرس الشفق الذي كان يؤجج الجمال والهيبة، ويُمحق الشفق المبلل بدماء الأفق المسفوح، سيغيب الولد والحفيد، وتطوى كل ذكرياتهم مثل غزال استقر في مِعَد أسود غزاها الدود والنسور، سيحل ظلام مكدس في ظلام، حجب ظلمات تتشابه وتختلف مع حجب ظلمات الرحم المستعد للحياة، فقط سيصحو التراب الذي تخفى تحت الجلد يوم وقعت عليه يوم الولادة، سيرافقك نحو اللحد الضيق، شديد الضيق، وسيغطيك التراب بتراكم يعزل حتى رائحتك عن سطح القبر، ومن جوفك، سيخرج الدود، كجيوش لا تحدها العين ولا يدركها البصر، ستهضمك ثم تهضم ذاتها، فقط تراب فوق تراب، هذا كل ما القبر حين يفتح ليوضع مكانك جسد جديد، عاد من الحياة، للأصل الذي نبت منه، الموت، العدم، اليقين.

قالت أناي، وأناي، لذاتي، وذواتي: هل أدركت سر الحياة؟ سر الوجود؟ هل أشبعت الصفحات والكتب ولو نزرا قليلا من شيْ ينأى بك عن ألم كلمة واحدة من قريب أو بعيد؟ هل كان الفرح الذي اجتاحك في لحظة مفعمة بالتدفق والسيلان، غير مخلوط بالحزن الذي يقف على خيط أدق من خيط العنكبوت؟ هل فككت لمرة واحدة لغز الواضح الجلي؟

كل الأشياء تختبرك، توغل في صناعتك بكل زفرة وشهقة، بل بما هو أقل من ذلك بملايين المرات، لكنك كعاجز، مشلول، كسيح، تظن بأنك من يختبر الأشياء، من يرتبها في الأنا والذات، حتى يصل الأمر إلى اعتقاد راسخ، بأنك تمسك التجربة وتفليها كما يفلي القرد ذاته من القمل والصبئان، يصيبك الزهو وتنتفخ الثقة، زهو الجهل، وثقة الخديعة، فيضيع العمر وأنت تجدف بين دوامات وحوامات دون أن تغادر مكانك.

فتأتي اللحظة من ذاكرة النسيان تماما، تهزك، ترجك، تخضك، لكنك الآن بلا حول، بلا قوة، لا تستطيع اللمس أو الهمس، فقط جحوظ ممعن بالجحوظ، كل الكون، كل الوجود، كل القوى العاتية المدمرة، والقوى المتفجرة لتبث الحياة والجمال في صحراء طحنها الجفاف حتى الموت، كل هذا وغيره، من البعوضة وحتى المجران والأفلاك، ترضخ للبرودة التي تتسلل من قدميك، كدبيب نمل دؤوب، لتدخلك عالم لا أحد على الأرض يعلم عنه شيئا، وإن كنا نغذي أنفسنا بما نملك من أخبار، كلها بتفاصيلها شيء يبقى خاضعا للحظة التي يحدث التصادم معها لحظة تسبيل العين التي كانت قبل هنيهة فقط تشد العالم نحوها، فتفشل، لإن التصادم أوقف الزمن، وخيب الذهول، وقمع الذهول.

حتى وأنا أكتب الآن ما أكتب، وأظن بأني أمسك بالحروف لوصف ما أريد، شرح ما أصبو لشرحه، لست سوى أنا تحاول التحايل على أناها، وذات تستمرئ خديعة ذاتها، هذا التداخل، التشابك بين الوعي والغيب، بين الإدراك والمجهول، بين المعرفة والجهل، بين العجز والقدرة، يوزع التثاؤب والوسن على كل شيء، فيتمكن الغبش، الضباب من تحطيم شعاع الشموس وانفجارت الكواكب والنجوم، حين يلفها الدخان.

ماذا تريد؟ قالت الأنا والذات.

لمس الحقيقة بيدي، قلت.

قالت الأنا والذات: ألم تر بأنك ما زلت تبحث عن المحسوس، هل النار تؤذي الميت؟ وهل يؤذي سقوط نيزك رأسا تمدد فوق دكة الغسل؟

قلت للأنا والذات: هل وصلت للحقيقة؟

قالت الأنا والذات: ربما، أليس ربما هي رفيقة أنفاسك منذ الميلاد؟

قلت: ربما، لكني الآن أستطيع فقط القول بكل ثقة، رغم ما يعتريني من نوازع واختلاطات، سألجأ فقط للفطرة، فهي اليقين الذي لم أدرك من قبل، بأنها اليقين الذي يتساوى مع يقين الموت. وحين يأتي الموت، بأي شكل من الأشكال، سأخرج فطرتي من أعماقي وأدمجها بلحظات الرحيل وعيون الغياب، فهي رغم كل شكوكي ووساوسي، تبقى نعمة الله التي زرعها فينا رحمة وإحسان، رأفة ومحبة وحنان، لنمسك بالنقاء المولود من البراءة، البراءة المتفجرة من السكينة. عل هذا اليقين بالفطرة، يرافق خطواتي وميلادي الخالد حين أسجى باللحد لتبدأ مرحلة التواصل مع الله جل في علاه.

***

مأمون أحمد مصطفى زيدان

نقترب كثيرا من سمائك

من نظامك الفلكي الغامض

مجرة أحاسيسك الملغزة

كهوفك البدائية

أنا وظلي المتساقط كالبرج الهرم

ثمة سرد ناعم

يتدفق من عينيك الكستنائيتين

معبأ  بجماليات اللامعنى

أنت شبه ميتة

غير أن وجهك مرصع بالياقوت والنوستالجيا

الكرسي المتحرك يتكلم أيضا

على إيقاع مفاصله

ينقر قلبي تينة علاقتنا الناضجة

أنت تتألمين

كما لو كنت رسولة في قرية مليئة بكفار قريش

كنت أطرد الجواسيس

من شرفة المساء

أهب هذا الزمن التراجيدي

المزيد من حقن المورفين

لئلا تسقطين في شرك المحو

وتمتلىء روحي المسحورة بالضوء

بالعظايا والسحليات

يطلع النهار من قبعتك الكنسية

والليل من أظافر الموتى

أو من برية متناقضاتي

ترشقين عينيك في ساعتي اليدوية

حيث يبدو الزمن مثل أرنب عجوز

مهدد بطلقة طائشة

الفراغ متجمد تحت كتفيك الغائمتين

الهواجس تتحرك مثل كلاب الصيد

قلنا  بعد هذا القصف

سيهبط الملاك

يملأ بيتنا المتداعي

بالأزهار والمعجزات

سنرمي تابوت الحظ السيء لكلاب المجرة

نتحرر من أفاعي السحرة

سأسحب غيمة الوداع من عينيك

العالم جميل خارج البيت

القطارات ملآى بالقمح والنبيذ والسكارى

والنساء يطردن ذئاب الأسئلة الكبرى

بكعوب أحذيتهن

المجانين يقرعون النواقيس

في الحلبة

تحت رعاية الشمس

الصلوات تتطاير في الهواء

وعلى ثوب الراعي رائحة الكنيسة

الغفران بقدمين متوثبتين

القتلة في قاع البئر

إذن

هشمي كرسيك الأشيب

بضحكة مدوية

لنقفز من أكواريوم العذاب

إلى سحر الواقعي

المستقبل في انتظارك

بتاج من الذهب الخالص.

***

فتحي مهذب - تونس

 

من بين ضلوع الألم

من أعماق حزني الدامي المخضّب بالحسرة

المدفون في آهات القلب المكلوم

بالفراق الأمّر

المترع بالحرمان الشقي

من سهاد عيوني التي اتعبها السهر

احلم يبزغ فرحي شمسا

وينبت فجر احلامي الكبيرة

قمرا في سماء روحي الضائعة

ويزهرالربيع خضرة وشجرا وارف الظلال

وتتفتح ازهار النرجس عنفوانا

يعبق برائحة الحياة الزكيّة

اميرتي

قلق دامع يلازمني

وحزن اليم يوجعني

كيف يختار قلبي وفي حبك يشقى

كيف يختار قلبي؟

ويسكنه الصبّ ولهانا بجمالك

وتئن انفاسي شوقا لفراقك

زمن ذقت فيه مرارة عيشي

وأيامي التي ما فارقتها

إغماضة عين اتعبها السهر

اناجيك

فلم يعد بي  للصبر منتظرا

***

علي محمد اليوسف

«شعبي العزيز، غداً إن شاء الله ستخترق الحدود، غداً إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غداً إن شاء الله ستطؤون أرضاً من أراضيكم وستلمسون رملاً من رمالكم وستقبلون أرضاً من وطنكم العزيز"

إذا كانت هذه الكلمات هي انطلاق عبقرية، شرارة عزم وتصميم، يوم دعا ملك البلاد عقول المغاربة الواعية لتقتحم أرضا طال عنها غيابهم وهي قطعة منهم، مصير حاضرهم ومستقبلهم، وعليهم أن يصلوا معها الرحم ليسترجعوا خيرهم الذي نهبه مستعمر، وفيه يطمع جار نصاب حقير، لا يوقر حرمة أو يحترم جوارا، فإنها بالنسبة لي كطفلة كنتها لا تعي ما حولها،كانت لي فرحة طاغية هي ما يطول المحيطين بي، حبا في الصدور يجيش،ونشيدا على الأفواه يردده الصغار والكبار ..

هي فرحة وأدها في عيوني، وسفكها في صدري لئيم حقير، ذئب بشري، صورته لازالت تؤرقني بعذاب،تلازمني بذكرى لأخطر جريمة يمكن أن تلحق طفلة بريئة، عند الصدمة وبعد الصدمة،قلق لا يمكن أن يمحوه زمن،بوسواس قهري يلازم نفسها ..

عشرون عاما قد مرت كلكلا طاغيا ثقيلا ثانية بعد أخرى بلا نسيان حتى في أدق اللحظات من حياتي، إذ في كل لحظة لا أزداد إلا وعيا بما وقع، واحتقارا لذئاب بين الناس تحوم بِشَرٍّ ..

كانت الشوارع هتافات ونداءات عارمة من صغير وكبير، غبطة تكتسح الدروب و الطرقات، موظفين وعمالا، مثقفين وغير مثقفين، الدور والأحياء،الدكاكين والمتاجر، المعامل والمصانع، الجميع تغمره السعادة والاستعداد،والتضحية ما يملأ النفوس المؤمنة بقضية وطنية مقدسة قدم المغاربة عن بكرة أبيهم قسما سرمديا خالدا بعدم التنازل عنها، خلفا عن سلف،ومن المهد الى اللحد، ولئن تبدى توجس هيمن على بعض المتشككين فسرعان ما تبدد بحماس منقطع النظير حين طغى الإقبال على التسجيل للمساهمة في ثورة التحرير واستوعب الناس فلسفة المسيرة وأهدافها .

كنت أتمسك بيد أمي وأنا مشدوهة بما أرى من حولي، كانت السويقة القريبة من حينا والتي قلما تكون غاصة يوم الاثنين صباحا تعج بالزوار ولا حديث الا على المسيرة الخضراء التي ستنطلق بعشر سكان الوطن ذكورا وإناثا كما كنت أسمع دون أن أقدر العدد أو أستوعب ضخامته ..

قبل يومي هذا لم أكن أعرف معنى التحرش والاغتصاب،كنا أطفالا نلعب في الحي ذكورا وإناثا، نتجارى، نتسابق، نتعانق وقد نتخاصم لكن لا أحد يفكر في الإساءة لغيره، فبراءتنا تتجلى في كل مانقوم به كأطفال.. كما لا أحد يفكر في الإساءة الينا ..

كانت أمي منشغلة بباب السويقة في الحديث مع نسوة من الحي وأنا مشدوهة بحماس الشباب والأطفال الذين لا يتحدثون الا عن المسيرة،أو يرددون أناشيدها مع التلفزة والمحطات الاذاعية لا انتبه لخطواتي وهي تبتعد قليلا عن أمي ..

يد قوية ترفعني من إبطي الأيمن وتدخل بي تحت سقيفة، ترميني فوق أعمدة متلاشية ثم تشرع تخلع تباني ..

هول المفاجأة والصدمة صار رعبا هو ما أخرسني بصمت، فعل بي الرجل مافعل بعد أن وضع لصاقا على فمي، وأوثق قدمي مع يدي وما لبث أن تركني تحت دثار سميك من قلع ثم انصرف ..

كنت أسمع نداءات أمي ونسوة أُخَر، والكل عني يبحث ولا استطيع الرد،عيوني تدرف ماءها غزيزا، وأنفاسي مخنوقة داخل صدري .

لم يكن عمري يسمح لي بحركة قادرة على فك وثاقي ولا عقلي يستوعب ما يقع،طفلة في سنتها الأولى بالمدرسة، أتنفس فقرا في حي عشوائي، اسكن براكة قصديرية لا يمكن أن نلجها الا بعد القفزعلى قنوات مكسورة لمياه الصرف الصحي .. والدي به كسر في الركبة بعد سقوط من سرير بِناء لا يغادرحصيرة عليها هيدورة خروف هي فراشه بالليل والنهار، تشاركه فيها أمي أذا حان برد، لا يمكن أن أعرف نفسي هل كنت جميلة أم قبيحة فما ينتجه المحيط الذي أسكنه غير البشاعة،الفقر والقبح ..

خمسة أيام و الرجل يأتيني مرتين في اليوم، يقدم لي ماء وقليلا من اكل، يفعل بي ما يريد ثم يتركني لدموعي وغصات صدري ..

كلما بكيت وتوسلت، كان عقابي مزيدا من الاغتصاب، أتألم، وفي مكاني أتبول ..

سلوك متوحش، يضاعف قهري من ابتعادي عن أمي وأبي ..

ذات يوم بليل أتاني شاب غير الذئب الذي اغتصبني، حسسني بقليل من السعادة،بل بقوة السعادة وهو يفك رباطي، فقد توهمت وصول الفرج، تبسمت في وجهه، وضعني في شواري ثم رماني فوق حصان وانطلق ..

طول الطريق، فشلي، وتفتيت قوتي بعذاب الوضع ما جعلني أغفو الى أن سمعت صاحب الحصان يقول لي:

ـ أنت كنت بعيدة كثيرا عن بيتكم لهذا يلزم أن تركبي القطار مع أحد أعواني للعودة الى أمك ..

أستغربت،متى تم ترحيلي عن مكان كان قد رماني فيه الذئب الذي سرقني؟

يوم وليلة والقطار يدك الأرض الى أن وصلنا محطة قطار في قرية

أنزلني مرافقي، لكن ما توجست منه أني لم أكن وحيدة، كنا ست بنات وعشرة ذكور أترابا في نفس العمرنزلوا من عربات متفرقة، تم حشرنا مع دموعنا وغصاتنا في سيارة كبيرة يسوقها جندي صحراوي بلباس عسكري يغطي وجهه بلثام أسود لا تظهرمنه غير عيون تقذف شررا،كان يرافقه في القيادة جندي آخر مسلح ببندقية يرتدي نفس اللباس لا يختلفان الا في لون اللثام بين أسود وأزرق الى أن وجدنا نفوسنا نخترق صحراء شاسعة بعضنا قد غيبته نومة والبعض الآخر قد هده جوع ..

لا أحد منا كان يعرف اللهجة التي كان الرجلان يتكلمان بها غير أن كلمات كانت تتردد بتكرار على ألسنتهم، أم دريكة، بشار، تندوف ..

في هذه أنزلونا في مخيم، نصفنا كان غائبا عن وعيه، سقونا ماء وقدموا لنا حليبا وثمرا ..

غاب عنا الذكور وبقينا نحن الاناث وحدنا، لا نعرف لنا مصيرا بل لا نعرف حتى نفوسنا فنعي ماذا نريد وماذا يحاك ضدنا؟.. لكن التجربة التي لايمكن أن تنمحي من عقلي أننا صرنا بؤرة اغتصاب يومي،هوذا الذي كوَّن إحساسنا بالعار وشعورنا بالذنب والاحتقار، طفلات لاقدرة لنا على المواجهة ..

كنا جميعا والينا قد انضافت أخريات لا نبحث الا عن أمهاتنا ولا نتمنى الا لحظة بين أحضانهن، كنا نساق لمخيمات في الخلاء واحدة بعد آخرى صامتات،ويا ويل من قطرت دمعا أو شكت تعبا فمصيرها الضرب والاغتصاب العنيف لجنديين أو أكثر كل منهم يأتي صبية من جهة ..

ثلاث طفلات صغيرات منا قد فقدن الحياة تحت عنف الاغتصاب،

كل مخيم كنا نتلقى فيه أسئلة من رجال غلاظ شداد، وجوههم متجهمة عبوس، سباب وغضب، ويجب أن تكون الإجابة منا على شكل موحد حسب ما يتم تلقينه إلينا، كان يجب أن نحفظ أسماء قبائل ودواويروشيوخ لندعي أننا منهم خطفنا جنود مغاربة من بين أحضان أمهاتنا ورموننا على الحدود الجزائرية ..

خرجنا صغيرات ونسينا التفاصيل..

في بعض المخيمات كان يفرض علينا نسيان لهجة كلامنا والنطق بلهجة قالوا أنها لغة الصحراء الحرة واسمها الحسانية وعلينا أن ننسى لغة علمتها فرنسا لآبائنا وأجدادنا ..

بين حين وآخر كنا نحشر في سيارات رباعية الدفع ويتم تسفيرنا الى مسافة بعيدة عن تندوف ثم تقلنا في جوف الليل وتحت أجنحة الظلام طائرة عسكرية الى الجزائر العاصمة فيفرض علينا خلع ملابسنا والاستحمام بماء في صهاريج يتم صبه من الطائرة، والدخول عاريات الى أندية خاصة بالرعايا الفرنسيين و الشيوخ الضباط من الجزائريين للرقص والتعري والجنس، كان روادها شيوخا يعشقون النوم مع طفلات صغيرات .. كنا نقضي ليال بنهاراتها الى أن ينهار الشيوخ وينامون على أرائك هزازة، كانت كل من أرادت منا أن تنجو من الاغتصاب الجماعي بعد العودة الى المخيمات عليها أن تجني أكثر الأموال التي لم يكن لنا فيها أي نصيب ..كثيرا ماساءلت نفسي بعد أن كبرت ووعيت أكثر:

أية متعة يجدها الشيوخ في طفلات صغيرات هزيلات يؤرقهن الاغتصاب واليتم القسري ؟..

أكثرالفتيات صرن حاملات بدءا من الحادية عشرة من عمرهن، كان الوليد الذكر يؤخذ بعد الوضع مباشرة أما البنت فالى أن تبلغ الأربعين يوما .. حين يبلغ الأطفال الخامسة يساقون الى دولة اسمها كوبا عبر مطارات الجزائر، أما البنات فتوضع الذميمات مع الذكور للتدريب على الأعمال العسكرية محليا تحت إشراف ضباط من الجزائر وإيران أو البيع للامهات العاقرات أو يدفعن خادمات في البيوت الجزائرية أو يتم تصديرهن الى أوروبا الشرقية كما كان يتناهى الى أسماعنا، في حين فان الجميلات يتم الاحتفاظ بهن في تندوف ولا واحدة منا قد تعرف لها ابنا أوبنتا بل أصلا كنا لا نعرف لهم أبا ..

كانت تجربة قاسية، عنيفة، أزلية لانعرف متى قد تبتدئ ومتى ستنتهي، كانت السيطرة على مشاعرنا تتم بكل الطرق، بلاقيم ولا أخلاق، ولا كرامة إنسانية المهم ان ننضبط لما يريدون، ان نمتثل لكل سيطرة ترضيهم ولها قد خططوا شرعة ومنهاجا .. كوابيس مقيتة ومرعبة قد عشناها ..

ذات ليلة كنا نتهيا للاحتفال بانتصار ادعوا أن الجزائر قد حققته على المغرب في إحدى المؤتمرات وقد صادف زيارة بعض الشباب الذين كانوا أبواقا للدعاية الجزائرية في أمريكا الجنوبية، كان صحفي يتكلم الاسبانية ويعاني بتلعثم مع العربية يرافق أحدهم ما أن أبصرني حتى تسمر في مكانه وأطلق صفيرة إعجاب، يومها أدركت أني جميلة بل تأكدت من ذلك فكثيرات ممن كن معي ومن الجنود والشيوخ الفرنسيين الذين ناموا معي في الجزائر كانوا يتاسفون على جمالي الذي يذوي في الاغتصاب بين الهمج في تندوف..

تقدم الشاب مني، رفع يدي الى شفتيه وقبلها أحتراما ثم قال:

ـ أنت رائعة الجمال مارأيك لو ترافقينني الى وطني ؟

لم أتردد في القبول وكيف لي أن أرفض وأنا سأترك بؤرة نتنة؛

فكم من مرة توسلت شيخا اختلى بي أن يتبناني أو يحررني لأشتغل عنده خادمة حتى أنقد نفسي من وضع صار سياطا بالليل والنهار ..

مرة قال لي شيخ فرنسي:

ـ لوبقيت في إحدى المدن المغربية في الصحراء الغربية لكنت أحسن حالا، هنا الناس كراغلة أجلاف لا ذمة لهم ولا عهد

بكيت وقلت له:

أنا لا أعرف عما تتحدث عنه انا لست صحراوية أنا من مدينة في شمال المغرب

تنبه الشيخ الى عيون تراقبه عبر إحدى النوافذ فانكتم وشرع يقبلني

طلب مني الصحفي اسمي فزودته باسم منح لي بعد وصولي الى تندوف "أريام بنت المداح "

قال وعياناه تكادان تلتهمان وجهي:

ـ أذكريني جيدا سأعود اليك قريبا !! ..

ثم أخذ لي صورأ بآلة فتوغرافية كانت معه ..

بعد شهر كنت لأول مرة أحمل بطاقة وطنية وجواز سفر بولونيين تحت اسم "ماريا فرنانديز ثم أركب طائرة الى الاوركواي ..

وقد علمت من بعد أن عسكر تندوف قد قايضوني بمقالات يكتبها الصحفي ضد المغرب ويتم توزيعها على دول أميركا الجنوبية ..

إن المهم عندهم أن يذكر المغرب بسوء ويعلنون انهزامه ولو كذبا ..

أخيرا وجدت رجلا ينقدني من براثن القهر والفسق، وخيام الذل والعار، يحبني لذاتي كأنثى بجمال موهوب لم يحركه فيَّ ماضٍ مخٍز، تعلق بي وأقسم أن يمحو كل صورة اغتصبت طفولتي وخدشت براءتي، ساعدني على أن أعيش الحياة ..

لأول مرة أحسست أني أمارس دوري كأنثى،وأني حقا بين أحضان رجل يعاملني كامرأة، لاذئب ينهش جسدي ..

قدمني لطبيب نفسي مكنني من أن أستعيد بعضا من توازني وأخوض تجارب حياتي من جديد بعيدا عن الرذائل مستمتعة بوجودي معه دون إحساس بذنب أو عار مما مضى من حياتي ..

ـ عليك ان تحبي نفسك، ربما منك قد سقطت بتلات ورد فعليك أن تجدديها بإقبال على الحياة،أن تقبليها بكل براءة الطفولة التي يجب ان تستعيديها بلا أفكار رجعية.. ثقي أن عودك طري سيبرعم ويورق من جديد ..

تزوجني بعد ستة اشهر من إقامتي معه وكانت هديته مع خاتم زواجي همسة في مسامعي:

استعدي لنسافر الى وطنك بحثا عن والديك..

عانقته، ووجيب صدري يضرب كطبول الليالي في رمضان خلف أبواب المنازل التقليدية ..

هل أرتاح؟ وهل أدفن فترة من صباي بنسيان إذا ما دفنت وجهي في صدر أمي عند اللقاء؟؟ !!..

***

محمد الدرقاوي المغرب

اعيذ الوصفَ ان ينبو

وفي أفواهكم يخبو

*

إذا كانت تراقصه

لعوبٌ للهوى تصبو !

*

تخاصره ، فتلثمه

فمُذ كانت له تحبو

*

تثيرُ الوصفَ ممتطياً

جوادَ الشعر لا يكبو

*

لها ذكرى وإياه

فكاعبةٌ ، وذا قلب ُ

*

تميدُ فترتمي بيديه

سكرى انه نهبُ

*

تثير غرائزاً ثكلى

لأن زمانه صعبُ

*

سيعبقُ بطنُ راحتِه

أريجاً ، انه الحبُّ

*

وفي عربات ليلته

أيائلُ ما لها خبُّ

*

فبين النجم والأقمار

يعدو ذلك الركبُ

*

فيخطفُ صورة سحرية

الالوان لا تنبو

*

لفاتنة سبته هوًى

فجلَّ الخالقُ الربُّ

***

حيدر علي الفتلاوي

 

في نصوص اليوم