رواية جيب
كانت أمنيتي الوحيدة هي أن ألتقي السيد محمود المنقذ..
هكذا يسمّونه
أو
ربما هو الذي سمّى نفسه
لا فرق عندي
لكني
رسمت ملامحه في ذهني قبل أن ألتقيه، وأراه بعينيّ، وتيقنت من أنه ليس وهما. ليس أسطورة.. يمكنه أن ينقذني كما أنقذ الكثيرين قبلي، تخيلته رجلا في الثلاثين من عمره ذا شنب غليظ يبدو أكبر من عمره بعشر سنوات، هل يسبق الزمن ياترى على وفق رؤيتي أم أنه يرضخ للسنين؟
كلّ مامر قد يكون صفات عرضية لشخص واقعي، والأهم مما قيل أن السيد المنقذ لا يخفق أبدا في أيّة عمليّة يتبناها.
هذا رأي غالبية الناس فيه..
أيضاً
وضعت في بالي أنه يستلم أجورا على مايقدمه من خدمة لطالبي الخلاص والهاربين من عذاب يطاردهم. أحياناً
بغض النظر عن مبلغ يقدم إليه ناقصا، وفي بعض الحالات يتساهل مع المعوز فيطلب منه أن يرد إليه بقية النقص حين تتحسن الحال، وتبلغ به الطيبة إلى الحدّ الذي يغض النظر عن بعض النقص فلا يسأل عنه، والرابط الوحيد بينه وبيننا نحن طالبي النجاة هو كلمة شرف!
لايهمّه إن كنت مذنبا أم بريئا..
بل الذي يعنيه أن يساعدك على الهرب.
من حقّك الهرب والعيش في أيّ مكان تراه يحفظ حياتك!
يتهامس ذوو الحاجة إلى الخلاص باسمه
وإن شكّ بعضهم أن السلطة نفسها تعرفه وتغضّ النظر!
بخصوصصيّة أدق تجد فيه يخلّصها من أعدائها..
أمّا أنا فلم يكن المال ليعوزني.. كنت على استعداد لأن أدفع له أي مبلغ يحدده مقابل أن ينقذ حياتي.
كنت أشك في وجوده حقا غير أني آمنت به بعد الأحداث الأخيرة التي هزت البلد كلّه..
وفي أسوأ الحالات:
قد يكون وهماً لكن عليّ أن أختلقه لعلّه يجعلني أهرب إلى البعيد حيث لا عين تلاحقني ولا سيف يَسلّط على رقبتي.
ولم يكن أمامي مجال آخر..
هكذا تصوّرت:
ربّما الأوهام تنقذنا
أو تدمّرنا
مثل الوهم الجديد الذي تخيّله غيري وراح يلاحقني ولا حيلة لي فيه.
كم حاولت قدر الإمكان أن أبتعد عن المشاكل ولا أنحاز لطرف ما ولا أنفعل بما يدور حولي فلعلّ انفعالي يُرضي طرفا ويسخط آخرين مع ذلك التقطتني الأحداث المتضاربة مع من القطتْ ممن انساقوا بإرادتهم..
لا أبرؤ أحداً غير نفسي
لأنني متأكد من أني لم أقترف إثماً
قد يجد أيّ منّا نفسه في دوّامة.. ظننت أني حالة تختلف عن الآخرين سوى أن الوضع الجديد الذي فاجأني لم يجعل لي حرّيّة الاختيار.. هناك حلّ واحد أمامي فقط هو الهرب..
الهرب وحده
وقتها -قبل أيّ موقف سلبيّ يتّخذه عنّي-ضمَّتني جلسة مع أبي وأمي وأخويّ:أختي وأخي.. رحنا نتابع ننصت إلى المذياع.. نتابع بشغف أغنية شائعة لمطربة محبوبة تتأوه من الغدر والهجر.. الأغنية توقفت عند المنتصف أعقبها تلاحق مارشات عسكرية..
نشيد وطني شائع الصيت
قال أبي: هل هناك انقلاب
وانبرت أختي تقول:
ربما يكون يوم غد عطلة !
وإذا بالخبر يهطل فجأة فوق رأسي بصيغة لم تخطر على بال.
آخر شئ أتوقعه:
مذيع الأخبار يعلن عن حركة مشبوهة جديدة:
إحباط محاولة
تحدٍّ جديد للسلطة..
زمرة حاقدة..
خفافيش تتحرّك في الظلام..
مصطلحات قديمة ظنّها الناس انتهتْ.. ماتت وَقُبِرَتْ فظهرتْ من جديد، مثل بروز أيّ فطرٍ سامٍ لاتتوقعه..
راح المذيع يعلن عن أسماء المشبوهين..
إستغراب، وأذناي تنتصبان لتبتلعا الصوت الحماسيّ ذا النبرة العالية الحادّة.
جوارحي..
عيناي..
إحساسي
أعرف بعض الأسماء التي وردت في قائمة الإدانة.. عشرة ومازال المذيع يقرأ.. لا أنكر أن صداقة حميمية ربطتني ببضعة منهم، أما الآخرون فبيني وبينهم سلام طريق أو لم يخطروا ببالي.. لا أعرفهم.. ولم أسمع بهم.. لا أنكر أننا جلسنا وناقشنا مواضيع متشعّبة.. تحدثنا، استحسنا واستهجنا. أسفت لأصدقائي الذين استبعدت الشكّ فيهم.. غير خافٍ عن حدسي أنّ هناك فترة هدوء خانق خيمت خلال الأيام الماضية أحسست بها وأحسّها غيري الى حد الاختناق إذ يمكن أن نتذكر أيّ حدث سوى اننا ننسى ان الهدوء التام اذا خيم طويلا فإن صخبا ضاريا ينقض فجأة عليه.
كنت أتوجّس من الهدوء القاسي وأنتبه أحيانا إلى حياة الناس العادية، أراهم يأكلون ويلبسون، ينامون، فأردد مع نفسي هل تحتوينا الحياة بوجه واحد.
صبغة واحدة!
ثمّ
أنسى
أتجاهل عمداً ما تأتي به الأيام القادمة بعد الحياة الرتيبة التي نعيشها
وفجأة
كما لو كانت نغمة نشاز تتهادى إلى أذني..
نغمة حاقدة..
نغمة ذات رائحة كريهة مقرفة..
أصبحت من حيث لا أدري أنا الهدف..
بين مصدّق ومكذّب
الخبر يبهرني
كنت في ترتيب متأخر
أخي الأصغر يعد على أصابعه.. يذكر أنّ الرقم 19 سبق اسمي..
أنا العشرون
محمد العابد
لا أظنّ هناك شخصا غيري
لست في ذيل القائمة ولا في أوّلها ولعلّ اسمي أقرب إلى النهاية.
محمد العابد بعض الأحيان يرد خطأ عن غير عمد المذيع يقرأ الياء باء لم لا يكون العايد بدلا من العابد.
هل أخطأت الآنسة الكاتبة وهي تنقر على لوحة البورد أم أخرج إلى الشارع فأنادي أنّ العاصفة التي انبثقت من رحم السكون القاسي الرتيب أخطأت هذفها وإني برئ؟
أعرف نفسي جيدا
أحاول أن أقف في المنتصف لئلا أُحْسَب على أيّ طرف.
بغضّ النظر عن منزلتي..
أيّة وظيفة أشغل
ربّما أكون موظفا عاديّاً
عاملا في معمل
أو أبيع الخبز
في معمل سجائر
تاجر كبير
منظّف.. حمال.. ساعي بريد..
معلّم مدرسة
موظف كبير في دائرة
أشتغلت في عدة مهن.. ومارست حرفا كثيرة ولم أستقرّ على أيّة منها..
لأكن في أيّة منزلة عليا أم سفلى
لعلني كلّ هؤلاء:
أو
أحدهم
ولو خًيّرت لاخترت وظيفة أخرى غير التي أشغلها. كنت أتمنّى أن أصبح غواصا أنفذ في أعماق الماء، أمنية أثارت السخرية بخاصة أفراد عائلتي الأقربين. أين نحن من البحر يامعتوه ونحن بلد قاري ليس لنا إلا منفذ من خليج صغير مخنوق على بحر الله الواسع..
إذن
سأنسى كلّ ماقلت ، فما حدث غريب عنّي ولا يسوّغ لأحد اتهامي بفعل لم أقترفه.
المفاجأة نفسها جعلتني لا أنتبه إلى أسماء تلت اسمي ولا التفت الى ماقالته وسيلة الإعلام: غراب نوح المذياع..
أهلي أنفسهم تركوا الأسماء الأخرى التي وردت بعد اسمي.
أخي الأصغر ترك العدّ والتفت إليّ:
محمد العابد لكنهم لم يذكروا اسم الأب ولا الجدّ الجد .. لو ذكروا الاسم كاملا..
سألني أبي:
هل أنت متأكد من نفسك؟
وقالت أمّي:هل كنت تخفي عنّا. زهل فكّرت بنا؟
كيف أردّ الشبهة عنّي وخصمي ليس سهلا ولا يحبطني أيّ شئ بقدر اللوم والتقريع ؟ أنا على يقين أني لست معهم ولا أظنّهم انضمّوا إلى تنظيم سرّي لا أخالف أحدا الرأي وأقف محايدا.. ولا أستسيغ العصيان فهل أظنّه التباسا.. شخصا آخر.. شبهة جاءت في غير موضعها.. !أضاف أبي متشبّثا بأمل ضعيف:
مادمت تعرف نفسك وتنزِّهها عن التورّط فيما يشين فلعله شخص آخر غيرك حمل اسمك.
واندفعت أمي:
بلا شكّ شخص غيرك. فأنت طول عمرك تبتعد عن المشاكل.
وأكد أخي الأصغر بحماس:
هناك أكثر من شخص يحمل اسم محمّد العابد.
كيف أثبت أنّه غيري ، والأسماء التي سمعتها أعرفها وفيهم من أصدقائي، ولو ادعيت أنّي لست معهم فمن يسمعني في هذا الصخب والفوضى ؟!
وردت أختي بانكسار:
لا أستبعد أن تخرج غدا مظاهرات عارمة تطالب السلطة بقطف الرؤوس !
أكّدت أمّي :الناس دائما يحرّضون على الشرّ.
البيت في ضجة وقلق.
صدمة
ذهول
مرجل لنار هادئة يمكن أن تستعر في أيّة لحظة..
الوقت يداهمني
ومنذ تلك اللحظة بحثت عن السيد محمود المنقذ
التفت إلى الجميع وفي بالي ألا أرجع في كلامي:
من المحتمل أن يداهموا المنزل سأغادر من الباب الخلفيّ
ازداد قلق أبي فسأل:
وأين تظن نفسك تختفي.
هناك احتمالان منزل صهري الذي لا أرغب فيه وصديقي نجاح الخالص
تهلل وجه أخي المضطرب، ونسي أنّنا في محنة ، فلمزني:
لا تنس أن تسلمني على الآنسة بدرية!
لاح بعض ارتياح على وجه أمّي:
يمكن أن تختفي بضعة أيام عند زوج أختك في المزرعة الكبيرة حتى يبين الصحّ وينكشف المستور لكن بيت صديقك نجاح.
قاطعت بحماس اليائس:
أو أهرب إلى خارج البلد فلن أسلّم نفسي لأحاججهم ببراءتي.
هي الفكرة ذاتها التي راودتني.. الملجأ لبضعة أيّام.. بيت أختي قبل بيت صديقي نجاح إذ لا أريد أن أخطئ بحقّه. لا أقصد السياسة بل أمرا آخر.. أما زوج أختي فلا أخفي أنّي قبلت على مضض مصاهرته.. سمعت عن علاقته بالدولة واللمز حول ممتلكاته والطرق غير المشروعة التي نمت بها ثروته. رجل قانون تحتاجه الحكومة ويحتاجها.. كلاهما يتلاعب بالآخر..
أموال
مزارع..
مشاريع
قال أبي ومن منا سلم من كلام الناس.. وقالت أمي الأنبياء والأولياء أنفسهم لم يسلموا من الألسن، فكيف بنا نحن البشر العاديين.. فهل ينكرني صهري السيد ممدوح الراضي صاحب المنزلة الرفيعة والنفوذ الكبير.. لا أشكّ.. بعض الاحتمالات مثل الكوابيس، ومازلت أتماسك وأنا أترنّح من هول الصدمة.. ما عليّ إلا أن أغامر فأنا في نقطة الصفر الآن:
قال أبي مؤكّدا:
فكرة رائعة في المزرعة أكثر من مخبأ ولزوج أختك نفوذ يبعد الشبهة عنه، القانون بيده، فلا أحد يظنّ به الظنون.
وخرجت من الباب الخلفي لتأتي بعد هربي بساعة ، على وفق ماسمعت فيما بعد، مفرزة من شرطة يصحبهم كلب ففي الوقت الذي اقتحموا البيت وقلبوا مافيه ثم اسستجوبوا أهلي الذين ادّعوا أنهم لم يروني منذ أيام كان الكلب عند خزانتي يشتمّ ملابسي. …
2
هناك في المزرعة كان الوضع مختلفا لم أسكن في بيت أختي الفخم بل في الطرف الجنوبي حيث الغرفة التي يشرف من يسكن فيها على الدواجن. في أوّل لقاء. بدا ممدوح الراضي متجهما ربّما لم يشكّ في أنني آوي إليه منذ اللحظة التي سمع فيها اسمي، وقال بانفعال بارد إنه سيؤويني مراعاة منه لواقع اجتماعي أما ماقمت به فهو عمل دنيء.. كيف تسوّل لي نفسي أن أتفاعل مع تنظيم سِرّيٍّ يسعى إلى أن يقلب الوضع في البلد رأسا على عقب، بعدما شاع الهدوء الذي ننعم به وأحسّ به العدوّ والصديق.. راح يذكِّرني بما سلف ويلومني إذ لم أرغب في العمل معه والحق إنّه عرض علي أن أكون كبير العمال في مزارعه أو أن أدخل شريكا معه في أحد مشاريعه.. لم يحدّد أي مشروع سواء في الداخل أم خارج البلد، وشجعتني أختي ورغّبتني إلى درجة التقريع.. غير إنّي رفضتُ العمل معه لشكّي فيه.. مثلما رفضت زواج أختي منه.. ثمّ لم أكن لأرغب قطّ في أن أتخلى عن وظيفتي أو الوظائف التي أَلِفْتُ نفسي عليها.. استهوتني كل الحقول.. جميع الوظائف.. أثق بنفسي أنّي يمكن أن أفعل أيّ شئ.. أصلح لكلّ مهنة، في الوقت نفسه لا أخالف أحدا رأيه.. أقسمت لصهري أنّي لا أعرف أيّ شيء وقد فاجأني الأمر ليس أمامي سوى هذا الحلّ، فها انا أقف منكسراً أمام رجل عارضت في زواجه من أختي.. لقد توسّلت إليه ألا يتحلّى عنّي، وقلت شبه يائس لن أبقى طويلا بضعة أيام ثم اذهب الى صديق لأجدّ عنده في البحث عن محمود المنقذ..
كان صهري يعقّب بعد أن رقّ لتضرع أختي:
سأتجاهل ضميري وأخالف القانون!
فردّت عليه بابتسامة واسعة:أعرفك معدنك طيب!
قضيت أوّل ليلة لي في غرفة مراقبة الدواجن وكلّف صهري المراقب المناوب بمهمة أخرى. لم أسمع في الليل إلا خوار بقرة وبعض همهمة من الدجاج ثم السكون التام.. الحق راودني قلق وصداع فظيع.. حملت المصباح اليدوي وذهبت الى عنبر االدجاج المحصّنن.. شاهدت عن بعد خيال ثعلب يحوم عند السور وتهادى إلى سمعي صرير جندب بعيد.
وشئ أشبه بالهمهمة
ولعلّه السكون الذي تخيّلته همهمة بعيدة.
لاشئ في الخارج..
رغبة ما راودتني أن أخرج في الظلام
وتقدمت نحو أحد عنابر الدجاج..
ارتقيت الدرجات الثلاث، وفتحت الباب بحذر.. .. لم يكن هناك ظلام فقد فاجأني نور ساطع يتدلّى من حيث صفّ مصابيح ساطعة تنتشرمن اليمين حتى الشمال.. كان الدجاج ينهش الحبوب.. يظن بفضل الضوء النّهار لما يزل ساطعا فياكل وياكل..
ضوء مخادع في غير وقته
ودجاج نهم لا يشبع
ولا يعرف الليل!
نظيف حقا
رشيق
جميل
ولا يتوقف عن الأكل.
الفضول نفسه دفعني إلى أن أحمل المصباح وأخرج في الليلة التالية.. ليس هناك من ثعلب.. هناك تمثال صغير يتحرك قرب الحظيرة فرفعت المصباح إليه فوقع بصري على أرنب بريّ يقضم شيئا ما..
تجاهلته
وتوجهت إلى العنبر فوجدت الدجاج يلتهم الحبوب بنهم غير مألوف، ودفعني الفضول نفسه إلى أن أدخل الحظيرة الأخرى التي رأيت الأرنب عند نهايتها، كانت القاعة مظلمة .. كشفها المصباح. تململت بعض دجاجات تحت الضوء، ونقّت إحداها نقّة مكتومة، وأبصرت على القش عند مجرى على طول الحظيرة أكداس البيض.
دجاج ينام بهدوء
وآخر في مكان ثان صاح تحت الضوء يلتهم الحب!
فعدت وأغلقت الباب ورجعت إلى غرفتي وقد تلفّتّث مرات لعلني أبصر الأرنب البري الذي غاب.
ياترى كم ليلة أقضي هنا؟
في رأسي تجول فكرة ما.. صديقي جمال الصالح لا أظنه يرفضني
لعلني تحاشيته لأمر ما
رحت أقضي النهار بالتطلّع عبر النافذة الى الأفق الطويل العريض الذي يسابق عيني بصفاء وهدوء. مشهد غفلت عنه طويلا.. لم أتواصل معه من قبل إلا في سفرة عابرة أو جولة لا أخطط لها.. لا أنكر أنّ هناك قلقا شفافا يراودني بين حين وآخر:ماذا لو خانني صهري، هل أحلم بخراب بيت أختي تلك الرائعة الرقيقة هل تطلب الطلاق وتثور بوجه زوجها؟ إذن الافق اللامتناهي يأخذني على الرغم من الهاجس المتوحّش إلى نسمةٍ شفّافةٍ تحلّقُ فوق إسطبل البقر وبين قطعة من السحاب انحدرت تهرول مثل حصان رشيق، . قطيع الغنم عن يمين المزرعة، وكنت في الصباح الباكر فتحت النوافذ العليا لحظيرة الدواجن الكبيرة وأطفات نور المصابيح التي رأيتها متوهجة في الليل لتنطلق الدجاجات التي لا تنام داخل باحة ذات سياج.. قضيت الوقت الى منتصف النهار أنثر في الفتحات الحب.. ثم انتقلت الى عنبر الدجاج الاخر. .. كانت هناك كميات هائلة من البيض ولم اع الا على صوت اختي وهي تقول بنغمةٍجافّةٍ حزينة:
ستأتي عاملة تجمع البيض.. لانريد أحدا يصل إلى مكانك.
لقد أطفأت النور
قالت معاتبة:
لو كنت قبلت الشغل بدلا من السياسة الراضي صهرك.. يحبّني ويحترمني.. لم يزعجني أيّ يوم.. هل تظنه يجعلك عاملا.. هل يختار لك وظيفة قليلة الشأن لا تليق بك.. امسح الأفكار السوداء من رأسك يا أخي نحن لانريد لك إلّا الخير.
يشيع في أساريري بعض ارتياح على الرغم من عتاب عذب مغلّف بتأنيب قاسٍ فأقول
حسنا أنك دافعت عن أخيك أمامه دفاع المستميت
تكون محطئا إن تتخيلني أتخلى عنك!
لتنسي الماضي.. ومعارضتي لزواجك. نحن أبناء اليوم.. (ضحكت أحاول أن أغير الموضوع) دعيني أسألك هل تخرج الثعالب في الليل؟
رأيتها ؟ولم خرجتَ في الظلام ؟
على الأقل أنا الحارس البديل هكذا ُيُخَيَلُ إليّ ولا أرغب أن أرى نفسي ضيفا غير مرغوب فيه
مطّت شفتها يائسة ، وواصلتُ:
نعم رأيت احدها قلت استطلع
الثعالب تجذبها رائحة الدجاج لكن الأبواب محكمة الاغلاق.
لا تقلقي لن أنسى الباب مفتوحا.
أكدت
الثعلب جشع كل الحيوانات تكتفي بفريسة وحين تشبع تترك الأحياء الا الثعلب فإنه لا يكتفي بعد أن يشبع الا يقتل بقية الدجاج، ولو لم نجعل أرض العتابر من الإسمنت لكان يحفر نفقا إليها
قلت ضاحكا:
حقا إنها روح شريرة حين تصل إلى هذه الدرجة لكن اطمئِنّي لن أنسى الباب!
وغادرت العنبر لتتركني أقضي مع الأفق والدجاج يوما آخر.. مجال آخر امتدّ أمام بصري
سعة أخرى
امتداد كأنّه لا متناه
وكان صحوا سكن فيه الهواء وشاع الدفء، أمامي دجاج يخرج في الهواء يلتهم بنهم وخفة مايجده تحت مناقيره من دود الأرض وحبّ متناثر، وقد يتزاحم حول شئ ما يشبعه نقرا فأتبيّن أنّه فأر صغير ميت فازت به دجاجة ضخمة من الدجاح الذي لاينام فهربت به لتنفرد بعيدا عن السرب فتبتلعه كلّه دفعةً واحدة ، أو تطالعني بعض بقرات بأخرجتها عاملة من عنبر البقر إلاى الحقللحقل فتقضم على بطء شديد الحشائش ، وتتطلّع في الأفق البعيد بنظرات بليدة.. حرية ناعمة صامتة يهتك سرّها على فترات صياح ديكة، أو نواح طيور، ولعلني كنت أشعر بالضجر إذا طال اختبائي في هذا المكان.
وفي ضحى اليوم الثالث
جاءتني اختي بمريلتها البيضاء تهادت الي من طرف المزرعة الشمالي وبالطريق عرضا قطفت بعض حبات الباذنجان وبعض الخيار رأيتها على غير عادتها لا قلق مثلما بدا على وجهها ساعة فاجأتهم بحضوري كانت تشيع على وجهها علامات ارتياح:
ألق
خفة
رشاقة
راحت تدندن، وهي تتطلّع إليّ بابتسامة، واسعة
وبادرتني:
صهرك بعثني إليك.. لديه أخبار حسنة عنك هيا معي إلى المنزل..
ماذا أهي البراءة أم الوساطة:قلت بذهول:
آمل أن يكون كذلك
ودفعني فضول لأسألها
ماذا كنت تفعلين لو سلَّمني زوجك.
فردت بحدة ولما يزل الارتياح على وجهها:
أمر محال الراضي لايكسر الأعراف أما إذا فعلها فلن أقبل به0 وصرت على أسنانها) لماذا تقول ذلك؟
وحين وصلت نهض يستقبلني بطريقة مختلفة ، وقد وجدت له عذرا في أنه منع ولديه وبنته من أن يختلطوا بي فترة اختفائي في غرفة المراقبة لئلا يفلت لسان أحدهم، طلب من أختي بلطفٍ أن تخرج ، فانصاعت وغادرت على عجل:
يامحمّد هل تصدّق أنّك برئ!
قلت بثقة مشوبة بفرح خفي:
أعرف نفسي جيدا.. طوال عمري لا أعارض من أختلف معه في الرأي ، فكيف بالدولة ذات السلطة والجبروت، ولا أذكر موقفا ذكرت فيه الدولة بخير أو سوء، ولو لم أعرف نفسي غير ذي ذنب لما لجأت إليك.
فضحك ضحكة غريبة:
لاتستعجل أنت برئ ومتهم في الوقت نفسه
تغيرت ملامحي حدّ البلاهة:
هل هو لغز؟
فوضع رجلا على وقال بثقة عمياء:
فعلا لغز
فسّر لي كلامك أرجوك!
هل تثق بي.
بكلّ تأكيد وإلّا لما لجأت إليك.
كل مافي الأمر أنّ المتهم الأساس في قضيّة التنظيم السري هو السياسي المعروف محمّد العايد!
باستهجان:
وماعلاقتي أنا بموضوع التنظيم وتغيير نظام الحكم؟
خطأ ليس إِلّا ، ياعزيزي، الدولمة تخطئ مثلنا نحن البشر.. وتبقى التأويلات فإمّا أن تكون كاتبة الطابعة أخطأت بالاسم، أو أن الحكومة أخطأت باسمك، أو إِنَّهَاتعمدت الخطأ لأمر ما.. هناك سرّ.. (وكرّر واثقا) سرّ بالتأكيد.
إذن أنا على وفق أسوأ الاحتمالات ضحيّة خطأ طباعي في هذه الحالة على الدولة أن تعتذر لي عن الخطأ!
هل جننت؟(قالها أشبه باللائم)بصفتي صديق الدولة أحذِّرك:الحكومة لا تعترف أبدا بأيّ خطأ ترتكبه.. لأنها لو فعلت ذلك لافسحت المجال للفوضى وكثرة الاعتراضات وَلَنَبَشَ مواطنوها عليها الماضي أووه أيّة حكومة لا تسعى لإسقاط هيبتها.
لذت بالصمت كأنّ الذهول يجرني إلى نوم عميق لكنه راح يهزّ رأسه ويواصل:
أمّا أنا فأظن الحكومة تعمّدت التصحيف لتجعل العايد يظنّ نفسه بعيدا عن الشبهات الآن حتى يحين الوقت المناسب..
كأني لا أريد أن يتوقف عن الثرثرة:
أنا الآن في ورطة لم أتعمّدها الدولة تعرفني برئ ولا تعتذر فما ذا أفعل؟
أنا على استعداد لأعينك على الهرب.. أهرب هو الحلّ الوحيد سأسعى لأجعل المهرِّب المنقذ يلتقيك لكن ليس هنا في بيتي.. إختر أيّاً من أصدقائك الذين تثق بهم!
لامجال أمامي
ولا فرصة
وفي ذهني صديقي الأقرب (نجاح الخالص)
ولم يكن هناك من حلٍّ أمامي سوى أن أقتنع بالهرب فأقصد منزل صديقي (الخالص) فأقابل بدريّة من جديد!
3
لم أعد خائفا.. السلطة تطاردني ولاتطاردني..
ترغب في أن أغادر..
لكنهم لو عثروا بي لن تكون هناك رحمة ولن يعترفوا بحطأ ارتكبوه
ولم تغادر صورة بدرية ذهني طوال الطريق.. تلك هي نقطة الضعف التي جعلتني أبتعد عن صديقي الأكثر قربا لي (نجاح الخالص).
كنا نتزاور، نتحدّث ، نتشاور، طبعه هادئ مثلي، ولا يتدخّل في مواضيع حسّاسة ، في بعض أوقات الفراغ عملت معه في توزيع الصحف، وفي صباغة الجدران، مصروف جيب إضافي، دخلنا النادي الرياضي معا فاحترنا أيّةً نختار:الملاكمة ، المصارعة، رفع الأثقال، ولم يكن في بالنا أيّة رياضة، ثمّ وقع اختيارنا على كرة المنضدة.. بعد أيام مللنا.. كنت خلال زياراتي ألاحظ نظرات أخته الغريبة، صُدمت، وطردتُ من فكري سوء الظنّ، ألحت بنظراتها عليّ، ومنحتني أكثر من فرصة للحديث معها بإشارات لا غموض فيها، وضحكتْ ذات يوم في غياب أخيها وهي تناديني بكلمة :حجر..
ولاعتبارت أخلاقية قطعت زياراتي لبيت نجاح ثمّ سمعت أن أخته ارتبطت بعلاقة حبّ مع شاب في حارتهم.. شاب طائش سرعان ما خطبت له فزادت الشكوك فيها وعلاقتها ثمّ اتسعت الظنون واستعرت وكثر الكلام حين أشيع عن فسخ الخطوبة إلى درجة أنّ أمي نفسها التي تكن احتراما لعائلة صديقي قالت عن بدرية إنها عار وإنّها على الرّغم من جمالها فتاة مسترجلة وإني حسنا فعلت حين قللت من زيارتي لهم!
استقبلني نجاح باهتمام بالغ ، وقال هو يصحيني الى الصالة:
-ياصديقي الآن عرفت سر انقطاعك عن زيارتي لأنك لم ترغب في أن تلحقني شبهة من جراء ترددك على بيتنا !
وقد سكت.. هذا أفضل من ان يعرف أنّي تحاشيته بسبب أخته وقلت بارتياح مع شيء من القلق
-هل يمكن أن أقضي في بيتك يومين او بضعة ايام
- يومين بضعة أيام ممكن ولو كان الأمر بيدي لأبقيتككما تشاء لكنك تعرف ان أخويّ وزوجتيهمابرفق الاولاد يزوروننا على فترات، ولا نقدر أن نخفيك في إحدى الغرف طيلة بقائهم عندنا.
- آمل ألا يستغرق الوضع أكثر من يومين حتى أكون عند محمود المنقذ.
فهز رأسه بتفاؤل:
حسنا تفعل فالمنقذ صاحب عمليات لا تخيب.. يعرف التمويه ويستطيع أن يرسلك إلى الخارج ويبعث من في الخارج إلينا!
وجاءت بدرية تحمل صينية القهوة فانبهرت حين رأتني إذ حسبت أنّ زائرا غيري جاءهم.. نظرة التحدّي والجرأة نفسها.. الرغبة ذاتها.. لا تعرف الانكسار، فنهضت مرحبا بها وسألت نجاح:
- أين الخالة؟
قالت تسبق أخاها:
في بيت أخي الأكبر فزوجته على وشك الولادة
عندئذ تنفست الصعداء لاخوفا من وجود الخالة أمّ صديقي في البيت بل من زيارة الأبناء والأحفاد ، في هذه الأثناء رنّ جرس الهاتف فالتقط(نجاح) السمّاعة فأوحت نبرة صوته ببعض المفاجأة وتغيرت إلى هدوء مطلق، ولاح ارتياح على وجهه، بقي يكرر أهلا أهلا.. أنا سعيد جدا.. تحت أمرك.. هو بمثابة أخي، لا تقلق. اطمئن.. ولم تتوقف بدريّة عن نظراتها الغريبة المشوبة بعتاب وبعض الدلال ثمّ وضع (نجاح)سماعة الهاتف ونفث الهواء طويلا، واسترخى على المقعد قبالتي وهو يقول:
-من تظنّ اتّصل بي؟
-هل هو أحد الأصدقاء؟
-إطمئن ياصديقي إنّه ذو المقام الرفيع صهرك طلب مقابلتي الآن!
-بهذه السرعة شكرا له!
(والتفت إلى بدرية مؤكِّدا)ليكن كلّ شئ بالسر ولا يدخلن أحد البيت من الجيران أو المعارف.
-إنه لأمر محرج
أبدا ليس هناك من إحراج!
لكن ربما لاترتاح بدرية..
فقال بكلّ براءة:
البيت بيتك لاتقلق
وأكدت بدرية تخاطب أخاها : لا تلتفت إلى كلامه أختك بمائة رجل، ومحمّد بطل وخجول!.
كنت أواجه نظراتها كمتهم أمام قاض.. لو وجدت ملجأ آخر بعد بيت أختي غير هذا البيت.. لا أدري لم خانتنتني الجرأة.
حلوة
لطيفة..
طويلة..
ممتلئة..
في الوقت نفسه تفوح أحيانا الوقاحة من نظرتها الخاطفة.. والجرأة.. جرأة أقرب إلى التحدّي.. وبعض الأحيان تصبح نغمتها فظة.. كأنها تسترجل.. لا أدري كيف تجمع بين الخشونة والرقة:
-إذن هكذا انقطعت عن زيارتنا لأنك لاتريد أن يقع بيتنا في شبهة!
رمت أن أغيّر الموضوع:
-الحقيقة آسف لانقطاعي عنكم فجأة..
-طبعا السياسة أبعدتك!
-وآسف لما سمعته عن فسخ الخطبة!
فاقتربت منّي تسبقها نظراتها الغريبة:
طظ فيه.. اسأل نفسك لو تشجعت فطلبت يدي.. لكن آه منك ظننتك تخجل واذا هي السياسة الآن أنا معجبة بك جدا أنت بطل وليذهب كل الماضي الى الجحيم
هي هي.. قد تفاجئ صراحتها أيّ غريب.. صراحة تحدت بها إخوتها الثلاثة، عاندتهم.. صبرت على عنف الأكبر وسخرية الأوسط حتى تزوجا وغادرا البيت، وبسبب جرأتها قطعتُ علاقتي بأخيها أقرب الأصدقاء إليّ. كان من الممكن أن أبادلها النظرات والحب أقبّلها.. أضمّها سوى اني لم أرغب في أن أطعنك يانجاح:
- في مثل هذه الظروف؟ أنا مطارد
فاحتكّ كتفها بكتفي:
-بالعكس أنت لاتثير الشفقة بل في منتهى الروعة لذيذ.
شعرت بخوف وضعف:
مستقبلي مجهول
سأكون معك لاتتردد حتّى لو دخلت السجن.
تظنني بطلا، وقد نزل عليّ بلاء التهمة والتمرد ولا علم لي به، فوجدت نفسي أمام امرأة شرسة قويّة لاتؤمن بضعفي كونها سمعت بي شرسا مثلها ورأت الظروف تعيدني ثانية أمامها.. عدت بشكل آخر غير الصورة التي رسمتها لي في ذاكرتها.. .. وحدنا.. ، ومثلما اختارت خطيبها السابق المغامر العنيف، اختارتني بحسّها الشرس القوي:
-لا تسرحي بعيدا أرجوك.
-أنت لم تكن ضعيفا مثلما توقعتك.. بل تتظاهر لكي لا تكشف سرّ قوتك.. ممثل تجيد دورك..
قلت مستسلما:
كما ترين تقدرين أن تفعلي بي ماتشائين!
فاجأتني ، وكنت أتوقّع:
أريد أن أكون لك!
ارتبكت، بعض الذهول.. وداريت اعتذاري:
-وماعلي أن أفعل وأنا أنتظر أن أخرج من البلد بوثائق مزوّرة..
فالتقطت يدي وهزت كتفي:
-اطلبني من أخي وسأخرج معك!
-إنك تبحثين عن فضيحة لعائلتك!
-لايهّمني!
تأمّلت قليلا..
في لحظات أيقنت أني لن أنجو منها ما لم أطاوعها ولو كذبا أضطرّ للكذب.. لا يهمّها أن تهدم..
تدمّر..
تنتقم..
فيها التناقض كلّه.. روح طفل.. وقسزة لبوة هائجة، قلت بابتسامة واسعة أستعيد بها توازني:أتصرّف على وفق ماترغب..
- ولم لا أهرب في البدء أرتّب أموري هناك حين أصبح في الخارج ثمّ أطلب يدك ، فتأتين إليّ من غير أيّة تبعات..
فضحكت بدلال وقالت:
إدفع لي مهرا الآن في هذه اللحظة.
-مهر؟أيّ مهر.
-قبلني هذا هو مهري وسأظل أنتظر دعوتك إليّ لآتي عندك في أيّ بلد نكون.
ارتبكت، وقد فهمت سر نظراتها الغريبة الجريئة التي دفعتني إلى أن أقلِّلَ زياراتي فأنقطع عنهم، فخرجت برهة عن ارتباكي وقلت:
متملصا أكبت رغبتي:
لو قبلتك وتجاهلتك بعد نجاتي، ولا تنسي أن الشعور بالأمان يدفعنا للنسيان، ويصرفنا عن أمور نحبّها ونعتزّ بها.
قالت محتدّة:
من مثلك لا يطعن في الظهر أنت لاتخون صديقك نجاح.
فتجرأت كما لو أنّي أعاتبها:
أظنني لست الأوّل إذا فعلتها.
فأطلقت ابتسامة شامتة وقالت:
- لا إلّا إذا كنت تقصد خطيبي السابق فإنّه قبّلني مرتين مع ذلك تبقى أنت السبب لو أنّ السياسة لم تبعدك عنّا لكانت شفتاك أوّل من تقبلان شفتيّ فهل يحقّ لك أن تغار.. قبلني وسأنتظرك!
دقائق حاسمة
خوف أم لامبالاة؟
تأنيب ضمير..
ثمّ تجاهل لأيّ وازع
اقتربت منّي فثارت أحاسيسي.. تلاشى العالم وفقدت الخوف.. التهبت.. اقتربت منها فطوّقت عنقي بيديها :
التصقنا
حرارة جسدها
لهفتي
غبت معها بقبلة طويلة لم نستفق من وقعها الناعم اللذيذ المتلاحق إلّا على صوت الباب فتراجعتْ واستدارت نحو الباب الجانبيّ ويداها تلملمان ثوبها ثمّ خرجت إلى إحدى الغرف وعادت مع دخول أخيها الصالة:
-أبشر ياصديقي.. صهرك اتفق مع المنقذ إنّه بالباب ينتظرك!
تساءلت:بهذه السّرعة وقلت بين الدهشة والشك:
-أشكرك وإن كان الشكر لا يفيك حقك!
واندفعت بدريّة:
محمد سّوف يتصل بك حين يستقرّ في الخارج..
فاجأه قول أخته لعلّه شكّ بشئ ما، وهو أعرف الناس بها ، أو قرأ من عيني ارتباكي ، لا أنكر أنّي طعنته إذ لم يكن أمامي أيّ خيارٍ لكنّي قد أغالي إذا قلت شكّ فيّ سوى أنّه ابتسم بانزعاج وقال:
الأفضل أن تلجأ إلى الهاتف بدلا عن الرسائل.. أنت تفهم قصدي.. المهم أن تعبر الحدود بسلام وأمان عندئذٍ لكلّ حادث حديث.
فعانقته وصافحت بدرية التي قالت بنظرة ذات دلالة
لا تنس أن تطمئننا عليك حين تعبر الحدود ونجاح بانتظار مكالمتك!!
3
إنّها المرّة لأولى التي يقع فيها بصري على السيد محمود المنقذ..
شكل لم أتخيّله من قبل..
لقد سمعت عنه الكثير من الناس، وعن مغامراته في البلد والخارج.. شخصيّة لها وقعها الخاص، يختلف فيه الناس ويتفقون.. تخيّلته عملاقاً طويلاً أشقرَ البشرة مثل القراصنة البحّارة الذين يغزون البحار ، ويصارعون الأمواج، ذو عضلات مفتولة ، وقبضتان قويتان ثمّ خلال دقائق اختفت الصورة المثالية فأصبحت أقف أمام رجل يقود سيّارة للأجرة في الثلاثين ضئيل الحجم ، قصير ، نحيف البنية مضمر العضلات.
هكذا رأيته في أوّل لقاء.
قدّم لي نظارة قاتمة ، وأمرني أن أضعها على عيني:
أنت أعمى تسمع ولا تبصر، لا تلتفت للإشارة أو تعابير الوجوه فإنّها أسرع مايشي بك، وما عليك لكي تنجوَ إلّا أن تطيع أذنيك فقط!
وقبل أن يقود السيارة، استل عصا من على المقعد المجاور له ، والتفت ثانية نحوي:
اعتمد عليها في مشيك!
ثمّ
انطلق يقود السيّارة
ظلّ يحدّثني طوال الطريق
يوجّه تعليمات..
يطمئنني
حين تفكّر بالنجاة تنجو وحين يركبك هاجس التردّد والخوف تكبو
(ثمّ يفتخر):كل عملياتي ناجحة والحمد لله، ومسألة تهريبك إلى الخارج في غاية اليسر، لا تعتمد على شئ سوى أذنيك واترك عينيك إلى ساعة وصولك برَّ الأمان!
راحت السيّارة تشقّ طريقها، فتعبر أماكن أعرفها، ومررتُ ببعضها، ومشاهد وطرقا لم أرها من قبل، كلّ مارأيته تجلّى لي بلون قاتمٍ بين الأبيض والأسود..
البريق
والخضرة
والحمرة
وجه المدينة الملوّن..
اختفى..
لم يبق سوى البياض والسواد
كأنّني أطالع شريطا أبيض وأسود من أيّام زمان
، وقبل أن تتوقّف السيّارة عند رصيف المخبأ الآمن ، قال:
- ها نحن نقترب.. حسناً. لا تنس أنّك أعمى.. تجاهل عينيك.. انس الألوان.. لا تدع رأسك يلتف مع حركات الأيدي..
ووقفت السيارة في شارع ضيق مهمل عند بناية قديمة، آجر أصفر بعضه متآكل، ومن الرصيف امتدّ طريق فرعي ضيق يفضي إلى اتجاهين :عن اليمين ممرّ نحو باحةٍ واسعة داكنة المعالم وباب مغلق وممشى على شمال القادم من الرصيف يفضي نحو سلّم ذي درجات من معدن وحافتين علاهما بعض الصدأ، صعد قبلي بتؤدة وحذر كأنّه يقودني، وظلّ يشجعني:
انتبه إنه اثنتا عشرة درجة ثبت عصاك جيدا واستعن بإحدى يديك.. امسك الحاجز بقوّة..
كانت مبالغة منه أو يروم أن يثبت أنّي أعمى، فيزيل الشبهة، ولا أحد في تلك الساعة في المكان. أجبت:
كم بقي من ت الدرجات؟
قلت لك إنها اثنتا عشرة.. على مهلك.. بقي القليل..
مارست العمى خلفه مع أنّ لي عينين.. الآن في هذه اللحظة أشعر أني لست بحاجة لهما، وعندما ارتقيت إلى السطح، قابلتني باحة واسعة في نهايتها باب لغرفة قديمة، دفع الباب بيديه فانفرج الداخل عن سرير وثمّة نافذة مغلقة ، وفي يمين الغرفة ثلاجة ، وباب، وكان هناك أيضا مصباح يتدلى وسط الغرفة من السقف:
-الحمام ودورة المياه والمغسلة.. في الثلاجة عندك أكل أسبوع ستأكل الطعام باردا.. عندك معلبات وفاكهة وخضار، صهرك. وأهلك أعطوني مبلغا يكفيك ويكفي رحلتك إلى الخارج..
-هل يمكنني أن أفتح النافذة :
هذا ممكن.. في الليل أم النهار.. إجلس أمامها والنظارات على عينيك.. من يرك يظنك أنك تملأ رأيتك بالهواء وتتأمل..
-لا أظن أحدا يرفع عينيه إلى هذا العلو ليرى أعمى ذا نظارة سوداء يتأمل من النافذة
فجأةحذّرني، وهو يشير إلى المصباح:
-لا تشعله في الليل فتلفت الأنظار.
أكدت بضحكةٍ مفتعلة :
-حسنا نبهتني فلست بحاجة لأكون الأعمى الوحيد الذي يحتاج إلى النور..
-هل مناك من شئ آخر في بالك؟
-ليت معي مذياعا أتابع من خلاله الأخبار.
-لو كان فيه فائدة لك لوجدته في الغرفة!
بعد صمت قصير:
إذا ضجرت إحمل عصاك واستعن بها ثمّ اهبط إلى الممر الداخلي حيث تجد رفاقك العمي!
-عمي؟!
نعم عمي، تحت غرفتك مقهى للعميان، لا يدخله ذو بصر.. يبدأ كلّ يوم الساعة الخامسة.. غناء.. طرب إنشاد.. وراحة بال..
-أليس هناك من مبصر!
-أبدا حتى العاملون ممن يقدمون الشاي والقهوة عُميّ، تسلّ في هذا المكان إنّه يطرد الشبهات عنك وإذا سألك أحد عن اسمك قل ( ضيف الله سرحان)هو الاسم الذي تحمله في وثيقة سفرك..
اعتراني ذهول حول اسمي الجديد:
-لم اخترت هذا الاسم وليس اسما آخر.
-هذه شغلتي أنت بعماك وعصاك أكثر قربا لهذا الاسم من أي تسمية أخرى..
-نعم مفهوم!
- لا تثق بأيِّ أحد إلا إذا سمعت كلمة السر الجواد يصهل. تذكر الجواد يصهل ولا تخرج إلا إلى المقهى بعصاك.
-متى تأتي؟
-في أيّ وقت.. لست على عجالة من أمري.. توقّع أيّة ساعة.. تدرب على أن تكون أعمى. عندك الحمّام.. أحلق ذقنك فصورتك في وثائقك الجديدة ستكون كما أنت من دون ذقن!
وغادر وقد ردّ الباب خلفه.
كان الوقت أقرب للعصر وسأعيش الليل في الظلام ربما من الأفضل أن أترك النافذة مفتوحة ليتسلل منها ضوء الشارع أو ضوء القمر أيّ ضوء كان.
لكن عليّ أن أنتظر وأنتظر..
لستُ قلقا فثقتي بالمنقذ كبيرة.. أمامي أسبوع أقلّ أو أكثر لأخرج إلى عالمٍ جديدٍ يوفر لي الأمان.. لغة أخرى تحتلف.. وثقافة جديدة..
فكرب مشتت ولست خائفا
سحبت الكرسي القريب من السرير عند قدمي، وواجهت النافذة، فتحت المصراع فانبسط أمامي مشهد آخر مستوحى من النظارة القاتمة ورتابة المكان القديم…
لقد سعى بي الخيال إلى ماقبل ساعات
الشارع الضيق ينبسط أمامي، حوانيت تبيع الحبال والعطارة والألياف، والصابون المحليّ، في هذه اللحظة رأيت امرأة تطلّ على باحة منزلها تطعم دجاجات أخذت تتراجع مع ظهور المرأة إلى القن، وديكا يطلق صيحة ويطارد دجاجة وسط الباحة ثمّ يرتقيها، وكان الخيال القريب يلاحقني، انتبهت الى اليسار فوقع بصري على سطح دار وطفل يترقب السماء بر هة ثمّ يلوّح بيديه، ويطلق حشرجة أشبه بالهديل فهبط بعد دقائق سرب حمام ، فالتقط أحدى الحمامات ودفعها إلى داخل قفص واسع مركون بين الحائط والبلكونة، وهشّ الجميع إلى الداخل ثمّ أغلق باب القفص، ومن حيث لا أدري اخذ بصري يهبط من الفضاء الى السوق المتعب القديم ، كان هناك رغبة تشدني الى الأرض.. النظارات وعيناي مازالوا مشغولتين بأمور متأثرة شتى أما خيالي فقد توهج وسط السهول بصورة ساخنة.. بدرية التي أعجبت بجمالها.. عينيها.. طولها الشارع أحببت كل ما فيها وكرهت طريقتها.. قوتها التي تطغى على انوثتها.. هشونتها.. لم تكن تبالي بأحد ولا تخاف احدا..
لا أغالط نفسي
إنّي كنت على وشكّ أن أحبّها
أو
لغض النظر عن جرأتها المعهودة وامدفاعها
كنت معجبا بالجانب الرّقيق فيها
طولها..
نعومتها
باض بشرتها
مشيتها:راقصة ترقص أو راقصة تمشي
عائلتنا لم تكن ترتاح لها. زمي تقول عنها مسترجلة ، وتأسف كونها البنة ناس محترمين.. وأبي يستعيذ منها.. نصحني ألا أقطع علاقتي بصديقي نجاح.. الصديق في هذا الزمان يعادل الذهب.. يمكن أن نلتقي في أي مكان عدا بيتهم.. أخي الأصغر يلمزني من طرف خفي.. ربما يظننونها سهلة.. فيها بعض الوقاحة.. أنا نفسي لم أرد تشوب علاقتي بصديقي نجاح أيّة شائبة، قد أقع في خطيئة ما.. وعندما قبلتني أو قبّلتها صباح اليوم شعرت بلذة رهيبة. زشفتاي. زأنفاسي. زنعومة عائلة أعقبتها حرارة لفحت شفتيّ.. كنت أحاول أن أمرر يدي على صدرها غير أنّي ، فجأة، هكذا من دون مقدمات خلت فم أفعى يطبق على فمي..
ولولا عودة أخيها لكنت غائبا عن الوعي
ووجدتها تلعقني في مكمني الجديد
هي على بعد خطوات مني
حالما نزل بصري من علوّ ووقع على الشارع رأيتها تعبر السّوق..
طافت فيه
دخلت محلّ الصابون ثم خرجت وبيها لفافة
ثمّ
دخلت محل اليف وخرجت
وقادتها قدماها إلى محل العطور فالمناشف
تقضي في كلّ محلّ دقائق معدودة
وفي آخر المطاف وقفت وسط الشارع الضيق.
أخذت تتعرى من ملابسها قطعة قطعة.. وحالما اكتمل عريها.. تلبدت السماء بغيمة هطت عليها.. راح الناس يمرون غير مبالين بمنظرها الغريب، وهرع أصحاب المحلات إلى بضاعتهم التي عرضوها على الرّصيف يلمّونها إلى داخل دكاكينهم، ولم يبق في وسط الشارع إلا بدرية عارية
قائمة كتمثال من لؤلؤ..
استغرقت تستلهم القطرات ووجهها نحو الغيم، ظلت تدلك شعرها وجسدها ذا البريق بالصابون البلدي فتهبط رغوة كثيفة بيضاء علىالأرض.
تلعب بالماء على جسدها..
تعبث بالمطر
وأصحاب المحلات يلملمون أشياءهم من على الأرصفة غير مبالين
بل أحد يعنى بالمنظر الغريب
إلا أنا
فشككت في نفسي ألا أكون مثلهم
لا أبالي
عندئذٍ
رفعت النظارة القاتمة من على عينيّ
فلم أر المطر ولا الغيم
ولابدرية
كان الباعة. زيغلقون أبواب محلاتهم فقد آذنت الشمس بالغروب، وثمّة عاملة ترتدي الثياب السوداء تمسك بيدها انبوبا مطاطية اتصل طرفه بالحنفيّة العموميّةفتبدؤ بغسل الشارع والرصيف، في الوقت نفسه تهادت إليّ نغمة قديمة من مقهى العميان.
4
أعدت النظارة إلى عيني
والتقطت عصاي
تراودني رغبة في أن أغمض عيني ولم أفعل.
خانتني الجرأة والخوف من الظلمة.
بدأت أتلمّس حاجز السلّم، طال العزف، وكلّما هبطت خطوة، ازداد لأذنيّ سطوع الموسيقى.. وتبيت صوتا شجيا لنشيد جماعيّ، ثمّ صوتا لمغن لا أعرفه، ليس من مطربي الإذاعة فقد حفظت أصواتهم وأغانيهم..
لم أتبيّن الكلمات لكن جمال الصوت أدركني
مع آخر درجة هبطت وأنا ألوّح بعصاي على الأرض.. قابلني الدرب اليمين حيث الخارج الذي حظر عليّ اجتيازه، فالتفت إلى شمالي نحو المدخل المفضي إلى المقهى
أظنهم استقبلوا خطواتي البطيئة ووقع عصاي بآذانهم المرهفة فرفعوا رؤسهم إلى الباب..
مازلت أخادع عيني
أتلمس الممرّ إلى أيّة منضدة، ويبدو أنّ كلّ اثنين اشتركا بمنضدة، اليست هناك من عتمة تامة فضوء الشاارع يتسلل إلى المكان من خلال النوافذ وفتحات التهوية، فلم يكن المكان بحاجة إلى الإنارة، هناك حاجز في أقصى المكان ، وعامل يحضر الشاي ، ومشروبات أخرى، لا أشكّ أنه أعمى محترف، ولا أشكّ أنّ الجميع عميان، كما لا أشكّ بنفسي، وتبينت دكة المنصة التي تقابل الباب الفرعيّ، كان العازفون ثلاثة، والمنشدون ثلاثة والمغني يجلس وسطهم..
توقفوا لحظات كأنّما لفت نظرهم حضوري المفاجئ ثمّ انطلق المغني :
أخفيت في لجّ السكون خواطري فالصمت أعذبه صدى إطراقي
ووقفت ألتمس الظلام لعلني آنست نارا عذبة الإحراق
كنت مأخوذا باللحن والمغني فوقفت كالتمثال أتابع بأذني وقد نسيت عينيّ فاستفقت على صوت الشخص الجالس وحده :
يمكن ياسيدي أن تجلس معي!
سبقتني عصاي تنوء ذات اليمين واليسار كأنّي-وأنا أسير بأذنيّ نحو الكرسيّ الذي أفترض أني أراه-أشبه بطفل يتفادى التعثّر، ، فجلست، وبدأت الكلام مستعينا باسمي الجديد:
-اسمي ضيف الله سرحان!
-تستطيع أن تسميني خليل التائه(وصفق بيديه نحو البار)فهرع على عجل أسرع من المبصرين النادل الشابّ:
-أمرك سيد خليل
التفت إليّ وقال شاي أم قهوة أم عصير؟
-ليكن شايا!
فغادر النادل مسرعا ، والتفت إليّ السيد خليل:
- أهو يرافقك منذ الولادة أم بسبب حادث؟
كان عليّ أن اختلف خبرا ما:
-حادث سير منذ الطفولة.
-تعني أنّك رأيت ضوء الشمس ومازال شبحه يرتسم على عينيك!
-هل تقول لي هنيئا لك؟
-ياسيدي هنيئا لك والعبرة في النهاية.
ترك أفراك الجوقة أدولت العزف وهبطوا الدكّة ، يلتمسون طريقهم بعصيهم واحتل كل اثنين كرسيّا في حين جلس الممطرب وحده على كرسيّ أمام طاولة على يمين البار، فملت على صاحبي أسأله:
-هل يغنّي المطرب نفسه مرّة لأخرى؟
فوسعت ابتسامته، وحرّك رأسه نحوي:
-لا تتعجّل ستأتي شفق السماء بعد لحظات.
وقدم النادل، بكأس شاي وضعه أمامي، فدبّت أصابعي ، كدودة قزّ ، وعندما رفعت المأس إلى فمي، توقفت برهة:
-إنّه من دون سكّر!
- هنا نرى الأشياء كلّها حلوة ستتعوّد عليه وتراه في قابل الأيام أفضل فلا تخالطه بشئ آخر قط.
قال عبارته، ونهض يستعين بعصاه، وهو يقول:
- استأذن منك، فأنا من جوقتها!
ثمّ
في الوقت الذي وصل وجلس والتقط الطبل
كأنّ الأمور تجري بمواقيتها
دخلت تتقدّم جوقتها..
طويلة شاهقة الطول
تغطّي عينيها نظّارة، وتلفّ شعرها ليبدو مثل التاج
ملكة بفستان طويل
تتهادى بمشيتها كأنّها مبصرة غير أنّها تتلكّأ قليلا لكي تبقى على مسافة قصيرة بينها وبين تابعتها اللائي يتلمسّن الطريق بالعصيّ.
صعدت المسرح أو الدكة، وجلست في المنصف جنب عازف الطبل. وجلست فتيات الإنشاد الأربع العازفات عن يمينها ، في حين اتخذت ثلاثة من الفتيات مجلسهن على اليسار، عزفن دقائق من دون صوت ، وراحت الجوقة تنشد ألحانا شجيّة ، فتمايل الجالسون طربا، ومع ارتعاش الموسيقى وعلوّ نغمة العزف، وتوقف المنشدات، انطلقت شفق السماء بصوت عذب تذوّقت عذوبته، كأنّي لم أسمع غناء من قبل:
لا تقل لي كان عهدا وانقضى قد يكون الهجر أحيانا لقاء
إنّه الصّمت بعينيك ارتمى وصحا في ذات يوم كبرياء
نحن مذ كنا بدأناه فلم تعرف الأرض سوانا غرباء
تمايلت الرؤوس وبلغ الطرب مداه، ولم يكن الحاضرون مثلنا نحن المبصريين ، يستحسنون بالكلمات، ويصفقون، يسمعون كأنّ على رؤوسهم الطير، ولربّما غفا أحدهم مثل رضيع يغفو على غناء أمّه، راحت شفق القلوب تردد الأبيات، والعازفون، وبين لحظة وأخرى أجرؤ فأرفع رأسي لأبصر صاحبي الطبّال يوقع أنغامه من الطبلة على البطئ من المغنية، ويسرع حين يأتي دور فرقة الإنشاد بشعر أفهمه ولا أتبين كلماته، حتى انتهت الوصلة الموسيقية وران السكون على المقهى، فنزل الطبّال والتمس طريقه بعصاه إلى طاولة أخرى، وهبطت الفرقة النسوية لتجلس كلّ منشدة وعازفة وحدها أو تجالس من تحب من النساء والرجال، وراحت المغنية الفارعة الطول، تمرّ على الكراسي، تحيي وتبتسم، ولم تغفل عن منضدتي:
وقفت أمامي، فلمحتها من طرف خفي.. النظارات القاتمة السّوداء عجزت عن أن تخفي ملامح وجهها الجميلة وهيبة تاجها، راودتني رهبة أكثر مما هو خوف:
- اليوم الأول لك هنا
-نعم سيدتي
-ما اسمك؟
-
-حسنا هنا كل له اسم نحن نطلقه عليه، فاصبر على اسمك الحالي، فلعلّك لاترغب في البقاء معنا، فإذا مارغبت أبدلناه لك باسم آخر.
عرفت من تلميحها أنّ هناك من عانوا من عاهة العمى لم يرغبوا في أن يصبحوا زبائن دائميين، أمّا أنا فقدسُحِرْت بالأضواء من أوّل ليلة، والنور يملأ عيني، فهل أغامر بأذنيّ، في البدء طردني سمعي ويؤويني الآن، وانحنت لتجلس قبالتي ووضعتيديها على المنضدة، وكانت تدندن بنغم لم أتبينه.
-لو سمحت هل تفصحين لي عما تترنمين به؟
-لن تتعلم كل شئ بيوم واحد!
-لا أكذب عليك هناك رغبة عندي.
فتأملت لحظة، وقالت:
فكّر جيدا كل أعضاء النادي إما يعزفون أو يغنون أو ينشدون، هل جربت صوتك؟
أدندن مع نفسي أحيانا.
لاتعرف صوتك؟
شعرت ببعض الخجل، هل أبدو عاجزا أمامها:
تحبين أن أجربه؟
يمكنك أن تجرّبه في الشارع ، تجلس على الرصيف.. ترفع صوتك والمارة تروح وتجئ، يظنون أنك تشحذ، فيلقون إليك النقود، أمّا قصدك فهو أن تثير حسّهم تستفزّ سمعهم، عندئذ يمكنك أن تأتي هنا لتصعد وتؤدي صوتك بإية صيغة كانت..
ونهضت وهي تؤكّد:
فكّر جيدا قبل أي شئ.
وتلاشت بين الجالسين، كان المشهد يتغيّر كلّ ساعة، تنزل جوقة العزف والإنشاد والمغني، يتركون أدواتهم، فيصعد من الجالسين أحدهم يصبح مطربا ، وآخرون، يحتلون الكراسي، يعزون وينشدون.. العدد نفسه ينزل، فيصعد بعده عدد آخر.
يغنون
يعزفون
وينشدون
لكنّي لم أتبيّن أَيَّةً من ترنيماتهم
ولا تستبينها أذناي
ولا أميّز ماذا يقول المغنّي
الأصوات عذبة
والإنشاد عذب جميل
ولم استبن إِلّا أبيات الشعر الثلاثة التي غنّتها قوت القلوب أوّل يوم، لقد جرّيت بنفسي عالم الغناء، دخلت الغرفة، وغتيت أمام المرآة بعيني المجرّدتين، فلم أستسغ صوتي، وجدته عاديا.. أنشدت مديحا، وقرأت قرآنا، ثمّ ارتديت النظّارة وأغمضت عينيّ، ومارست صوتي نفسه في الغناء والترتيل والإنشاء، فرأيته نغمة أخرى. زنغمة جعلتني أتمايل إلى الأمام والخلف، وأشعر بخفة الطير من دون نجاح، وعندما دخلت في اليوم المقهى، وانتظرت على شوق شفق الأصيل ، فهبطت بعد وصلتهاالتي غنّتها ليلة أمس، وجالست من اختارت من زبائن الطاولات، وأعرضت عن آخرين، إلى أم وقفت عند منضدتي، وهي تسألني قبل أن تتلمس كرسيّها:
نعم، هل مارست صوتك.
قضيت النهار كلّه.
حسنا فعلت.
هل اقتنعت به؟
نعم لكني لم أقض إلا يوما وليلة هنا.
فاستنكرت عليّ حُجّتي:
لا تظنه وقتا قصيرا يوم وليلة تعني دهرا.
فسكت، وران سكون على على المقهى قبل أن تستعد فرقة للصعود:
قد تعدينه فضيلا أو جهلا حين أسألك لِمَ أعدت ما غنيته بالأمس؟
أنا مسرورة بالسؤال ولعلك لاتراه يبين على وجهي.
(الحق كنت أنظر إلى المنضدة خجلا من أن أكشف خيانتي)
-لست بليدا يا سيدتي
تجلهلت مجاملتي:
لكلّ قوم ودولة سلام خاص بهم يسبق يومهم، وهذا هو السلام الذي نبدأ به ليلنا فتسمعه ثابتا لايعتريه التغيير!
ربما هو التناقض فهناك مغن سبقها، ولم أصبر:
هناك مطرب سبقك.
كان يتمرّن والدليل أنك لا تتذكّر ماقاله ، وعندما صعدت ابتدا العمل بعد غنائي، ولكي تدرك أكثر يمكن أن أسال:هل هناك غناء تسمعه قبل غناء أمك عقب الولادة؟
شكرا لك (ومع نفسي :أراك آية لا أشكّ فيها)فماترينه في حقّي؟ هل أكون منشدا أم قارئا أم مغنيا!
جرِّب على ماتقدر عليه.
فهززت رأسي وانحينت رافعا نظري نحو السقف:
الصوت أقرب إلي من العود والطبل والمزمار أو أيّة آلة أخرى.
فأطلقت ضحكة رنانة:
ها أنت تكتشف نفسك لو كان العالم كله يغني ويعزف لما حدثت حروب ومشاكل!
ونهضت، وهي تؤكّد:
لا تتعجل
4
زال عني كل قلق وخوف
أيّام مرت جعلتني حقّا أظنها دهرا،
كان عليّ أن أقضي النهار في الغربة، أرقد ساعات، وأدفع الكرسيّ باتجاه النافذة.. لم أشعر أنّ النظارة تضايقني، والمشهد فيه الكثير من المفارقات، رأيت ساحة البيت فارغة والدجاج داخل القن، ولم أر سرب الحمام قادما ولا الصبيّ، أمّا الذي أثار نكراني هو الباعة أنفسهم:كانوا جميعهم عراة.. منظر مقزز. زلا أحد يلقي بفضوله على الآخر، هناك ضجة لا أعرف مصدرها تأتي من بعيد.. ومرت امرأة وسط الطريق الضيق، كانت تتكلل بالسواد وتغطي نفسها من قمة رأسها حتى أخمص عينيها.. لا أدري.. قد تكون بدريّة هذه المرّة. عبرت الطريق ولم تلق بالا للباعة العراة. بل هي بدرية من غير شكّ عرفتها من مشيها وطولها ، الوجه الآخر المهيب لها، زادني يقينا أنها عبرت تدندن بكلماتٍ ما فأدركت أذناي صوتها، وقد راودتني نفسي أن أخلع النظارة عن عيني، فأبصرت السوق في وضعه المعتاد ضجّة باردة كئيبة، أصحاب المحلات منشغلون، والزيائن منهمكون في الشراء وعاملة النظافة تطالع الأرصفة وتلتقط الأرصفة الصناديق الفارغة لترميها في الحاوية الكبيرة.
لاشئ آخر
أمّا أنا فقد كنت أدندن مع نفسي أيّ كلمة تمرّ بذهني :سوق.. بدريّة.. مذياع.. صورة.. شفق.. طريق..
فجأة
سمعت نقرات على الباب
فتوقفت
واقتربت من الباب.. تساءلت بهمس:
-من؟
-الجواد يصهل!
طالعني وجه آخر غريب فتراجعت مذهولا، شاب في العشرين من عمره أشقر ، مبهم الملامح:
-رائع صوتك ولو كنت مكانك لاحترفت الغناء
من أنت؟
أنا محمود المنقذ؟
الذي جاء بي إلى هنا واتفق معي على كلمة السرّ شخص غيرك هو محمود المنقذ وقد سمعته ورأيته وأخبرني هو نفسه باسمه.
هذه قضايا جزئيّة أنا محمود المنقذ، وأنا من أوصلك إلى هنا كل شئ يتغيّر ماعدا كلمة السرّ.
وخطا نحو المنضدة ، فوضع عليها بعض الطعام، وقال:
استعدّ سآتي اليوم قبل الغروب لأصحبك للخارج!
ليست مفاجأة:
هل يأتيني محمد آخر غيرك
فسخر من كلمتي بابتسامة:
لا عليك من الوجوه كل من هو آت محمود المنقذ والعبرة في كلمة إحفظها كلمة السرّ الجديدة :صهيل السيف!
وخرج
وعلى شفتيّ علامة استغراب!
كان الوقت ضحى، لقد تغيرت الوجوه من حولي، فهل يأتيني محمود المنقذ بوجه آخر غداة الهرب، وفي المساء رحلت إلى المقهى، كانت الفرقة تدندن فاستعنت بعصاي ، ولم أجلس قطّ، اتخذت طريقي وربما تعثرت لأبعد شبهة البصر عنّي، فامزلقت إلى المسرخ بتؤدة وحذر ، وكنت أتلمس الكراسي..
جلست
وتوقفت الفرقة عن الترنم
فانطلفق صوتي بكلمات شتى ورحو يعزفون:
الطريق الغريب
السكون
الشارع
الهرب
اللؤبؤ.. البكاء.. طير السماء.. هناك الحنظل
وفي الوقت المناسب، دخلت الملكة التي تميل إليها القلوب، فسكت وتوقفت الفرقة عن العزف والدندنة ثمّ هبطنا بعضنا يتوكّأ على عصاه مثلي، وآخرون يتلمسون مسيرهم بأيديهم كالسائرين في النوم، فصعدت فرقة النساء، وغنت الملكة نشيدها الثابت، فترنمنا به كأننا نسمعه للمرة الأولى ، وخلال مرورها على الكراسي، وجديثها مع كل زبون، صعد بعضهم فغنى ، وحين وصلت إليّ بادرتني:
صوتك جميل
متى أخرج من الكلمات إلى الجمل
لا تستبق الأحدث
وهل ترينني أصلح لأكون مطربا أم منشدا؟
ذلك قرار يخصك وحدك
هل أفكّر ثانية بالهرب؟
لكن متى يأتي محمود المنقذ؟
ولعلّ تأنيب الضمير يدفعني لأن أعترف للملكة أني مبصر أروم أن أصبح أعمى.. لقد أدركت حقّا قيمة صوتي وأذنيّ، لن ومن حسن حظيّ تفاجأت في اليوم الثالث قبل الغروب بشكل جديد:
طرقات على الباب، فتساءلت:من
-صهيل السيف
فتحت الباب فوقع بصري على شيخ طويل القامة، نحيف في الخمسين من عمره، غزا الشيب سوالفه:
من أنا أنا محمود المنقذ!
وناولني جريدة حكومية، وقال:
إقرأ
هل من أمر
هناك أحد عشر شخصاكل واحد يسمّى محمّد العابد، سلّموا أنفسهم إلى الحكومة، فأثبتوا براءتهم.
أكاد لا أصدق
بل صدق!
كيف اعترفت الدولة بخطأها
لا أدرب فهذلا ليس من شأني
تطلّعت في الصحيفة فوقع بصري على الوجوه، وسألت:
أهذا كلّ ما في الأمر؟
هل أنت مستعد لأن تذهب وتثبت براءتك؟
كانت صورة بدرية تلاحقني في هذه اللحظة، اسيخيب ظنّها بي.. لقد رسمتني بطلا. زيشبهها تماما في التحدي.. تخلّت عن خطيبها وارتمت بأحظاني.. :
لن أفعل ذلك.
عليك إذن أن تأتي معي لأصحبك إلى خارج البلد كما اتفقت مع أهلك!
صمت ، وفجأة..
من دون تردد قلت:
محال لن أرحلّ
فنظر إليّ نظرات غريبة وقال:
إسمع ياهذا أنا أخذت حقّي من أهلك. زالجميع يعرفني لم أخفق في أيّة عملية أتبناها.. الكل يثق بي.. أنت حرّ.. تذهب لتعترف.. تأتي معي.. الزورق حاضر.. ساعات وتكون في الخارج.. القرار لك!
صمت برهة كادت تطول ثم قلت جازما
أقسم لك أن أمنيتي كانت بعد أن سمعت إدانتي كانت أن ألتقيك ، كنت ملاذي الوحيد في أن توصلني إلى ملاذ آمن، لكن إسمح لقد تغيّر الأمر الآن..
مهما يكن فالأمر فالخارج أفضل.
لا أظنّ.
فهزّ رأسه مقتنعا وقال:
حسنا ليست مشكلتي.. عليك أن تغادر الغرفة مادمت لاتحبّ أن ترافقني.. آمل ألّا أجد أي أثر لك يوم غد!
قال عبارته وخرج، وكانت الشمس قد غربت تماما ، فوضعت النظارة على عيني، وفي نيتي ألا أخلعها من على عينيّ أبدا، ثمّ التمست عصاي، ، في تألك اللحظة، غلقت عيني ّتماما، وخرجت ألتمس الطريق بطيئا بطيئا إلى حيث المقهى.
***
د. قصي الشيخ عسكر
..............................
* انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة في 27|7|2024