نصوص أدبية

نصوص أدبية

في رثاء أمي الحبيبة (مُلْك محمد عبد العزيز)

التي وافاها الأجل في 26 / 12 / 2024

***

أُمَّــــــاهُ أخشى أنْ أقولَ كــلاما

لا يَرْوي حُزْني...أو يُزيحُ رُكَـــاما

*

تَخشى حروفي إنْ رَثَتْكِ بِدَمْعِهَا

يوماً تجِفُّ.. وتنضَبُ اسْتِــلْهَــاما

*

أُمَّـــــاهُ.. أظْمَـــأَ مُقْلَتَـايَ فِرَاقُــكِ

وحَشَا بِبَـــرْدِ المُوجِعَاتِ عِظَـاما

*

وكَسَـاني وُحْشَتَــهُ بثوبٍ مُظٰلِمٍ

لأَرَى نَهَــــارَ السَّـــائِغاتِ ظَــلاما

*

بتُرابِ قَبْــركِ قد تَعَفَّــرَ مِزْهَــري

وبِــَـهِ توجَّــــهَ للصلاةِ وقــــــاما

*

وتَـلَا دِمَاءَهُ في مقامكِ فارْتَوَتْ

أزهــــــــــار مَتْـنِهِ وانْتَشَتْ آلاما

*

في ظِلِّكِ ابْتَسَمَتْ ملائكةُ الهوى

لـي واحْتَـــــوَتْني بثوبِها إنْعَــاما

*

أوْقَفْتُ عُمْــري في رِضَاكِ وإنَّني

أرثيكِ يا(مُلْكَ) الفؤادِ خِتَــــــاما

*

أمزانها سَــــالتْ بِعَلْقَـــمِ نَأْيُــــكِ

هَجْسًـــــا بوادي الناظمينَ أقاما

*

عَجَـلَاتهُ مَرَّتْ على صَحْــــرَائِهِمٰ

نَصَبَتْ عليها مَنـــارةً وخِيـــــاما

*

ها قد عَرَفْتي المــــوتَ قَبٰلنا إنَّنا

نَـــدْريهِ إلا أنْ يكــونُ لِـــَـــــزاما

*

والله قـــدَّرَ أن يكـون رَحِيـــــلُكِ

يوم (الخميسِ) مَساؤهُ إعــــلاما

*

ناجَيْتُ باسْمِكِ مَنْ بِرَحْمَتِــهِ التي

وَسِعَتْ يجيبُ.. ويَسْتَجيبُ إذا مَا...

*

صــــــلَّى عليكِ اللهُ مِنْ سَبْعٍ وما

في الأرضِ سَبَّحَ للجليلِ وهَــــاما

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

على كتفه

حطت عصفورة

الريش الزغب

داعب وجهه فالتهب

إستغرق ضاحكا

همست كلمات

في إذنيه

على وجهه انكب

فعلا نشيجه

وبكى ..

اخبرته :

سيقتل ضحى

عند إعتلاء الشمس

صهوة البحر

وبضوءها يكفن

وستلثم الشمس

جراحه العشرة

فتزهر بكل جرح

قرنفلة حمراء

بعدد سنوات عمره

وفي الليلة الأولى

ستضاء السماء له

بنجوم عشرة

ويجف دمه

في كل جراحه العشرة

بعدد سنوات عمره

***

صالح البياتي

في حينا الفقير

دشن وزير الثقافة مركزا

يعنى بقضايا الشعر والشعراء

تعالج فيه القصائد الرديئة

في مدح الزعيم الأوحد

الذي ينام قرير العين

*

وعندما يعتلي الشاعر الكبير المنصة

ويتلو على اتباعه ومريده

ملحمته الهوميرية

وتراجيديات الروم والاغريق

ومعارك الحرب والسلام

على ارض الفرس والهند والسند

ويبكي اطلال حضارات سادت ثم بادت

تجدني اركن في الصف الخلفي

ثم اغط في سبات عميق

واحلم بيوتيوبيا الشعراء الصعاليك

حتى يدوسني حصان طراودة

واكتب اليادة  جديدة عن الحريم والعبيد

هنالك في باحة قصر السيد الزعيم

طائر سجين يلعب على وتر الحرية

ويسخر من فزاعة مكبلة

في حديقة الاميرة المدللة

وبصوت حزين تغني الجارية:

لا تنامي ايتها العتمة

حتى يستيقظ الليل

وتنط الضفادع

على ضفة نهر هادىء

تحت ضوء القمر

*

الشاعر الذي يهز سرير الزعيم

حتى ينام في مهده

فهو شاعر ثقيل الظل

يضع على ظهره

سرج متعب ولجام مزعج ومشنقة

يخاطب الكراسي الفارغة

في بيوت الشعر المكتظة

بالجنود والضباط الكسلاء

وينتحل هوية مرشد عسكري شاعر

ورؤساء تحرير الصفحات الثقافية

في جرائد الزعيم الأوحد

***

بن يونس ماجن

 

من حدود العتمة

تبدأ مسيرة ضوء

تخطو في المدى

خطوات وئيدة

سارح في السموات…

في زوايا الكون

غيوم الأفكار

شاردة…

تدفع بها رياح القلق

يفكر…

بذلك الألم

بذلك الأمل

ذروة شكوك

مزدحمة…

فراغ قاتل…

لا مكان للنسيان

ذكريات أليفة

نوافذها مفتوحة

نسائم الحنين

تعبر جدران المنازل المهدمة

تتلاطم ستائر الشوق

تقيم ساعات الأمس

في انتظار

لا يدركه الملل

شاخص الى زرقة السماء

يرمقها بعيون

مشبعة بالأحلام

حتى ينكشف السر

عن إيقاع ضوء آت

من الأعالي

من داخل النفوس

لتزهر اشجار ايامنا

آيات بينات…

***

عباس علي مراد

منذ تخرّج أبو الجعافر من السجن وحلف بالطلاق على زوجته مُسبّبة ايداعه السجن.. منذ ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وربّما ثلاث ساعات، فهو لا ينسى ذلك الوقت الفاصل في حياته وفي علاقته بزوجته تحديدًا.. منذ ذلك الوقت وهو يفكّر في تلك المرأة التي تحدّثت إليه صديقته الختيارة عنها وعن اهتمامها به وبأخباره أثناء فترة سجنه. لقد علّمه السجن الكثير الكثير فبات بأدواء النساء خبيرا. هو يعرف أنه إذا ما عرف مفتاح المرأة، أي امرأة، تمكّن من فتح بابها المغلق ودخل إلى رحابه دون شور ولا دستور. وضع خريج السجون الهُمام يديه وراء رأسه على شكل مثلثين أو هرمين مُتحفّزين للانقضاض على واحة في صحراء.. واسعة مترامية الأطراف وراح يفكّر في مِفتاح تلك المرأة. فكيف سيصل إلى بابها حقيقة وكيف سيتمكن من فتحه؟ وماذا عليه أن يفعل كي يقوم بهكذا مهمة دون كبير عناء أو عظيم جهد؟.. ماذا بإمكانه أن يفعل في هذا الصباح الشتوي المُزغرد المغنّي... لينعم بالدفء الغامر والراحة الخالصة؟..

"لكل امرأة مفتاحها"، قال في دخيلة نفسه فأي المفاتيح يمكن أن يفتح باب تلك المهتمة به وبأخباره؟.. لقد طرق بابها الموارب قبل أيام فانفتح من تلقاء ذاته، وهو لا ينكر أنه نَعِمَ بالقرب منها ومما نشرته من ورود جورية في بستانها المترف، غير أنه سرعان ما اكتشف أنها إنما تلعب معه لعبة القط والفار، فكلّما اقترب ابتعدت وكلّما ابتعد اقتربت. تحرّك في مسترخاه، "أنا يجب أن افعل شيئًا.. لست عاجزًا وسوف أصل إليها". وكان أول ما فكّر فيه هو أن يقوم بالتوجّه إلى البرية المحاذية لبلدته ليلتقط لها إضمامة ساحرة باهرة من أزهارها البرّية، غير أنه ما إن تذكّر أن تلك.. كانت الطريقة التي اوصلته إلى زوجته.. المُتسبّبة في سجنه حتى هتف لنفسه "كلا انا لا يمكن أن أسلك في الطريق الخطأ مرتين وألا الذغ من جحر واحد مرتين.

فتح عينيه وأغمضهما.. استسلم لنوع ما من الوسن. ورأى بأم حلمه نفسه في حديقة حافلة بالورود والأمواه والوجه الحسن. كان وجهها.. وجه تلك الفاتنة صاحبة اللعبّة المُضنية، لعبة القط والفار، يُطلّ عليه من كل زاوية وركن. عندما فتح عينيه عاوده تفكيره الملحّ بها. وكان يشعر بأنه أشبه ما يكون بعدًا عنها.. بُعد الألف ميل وما عليه الآن إلا أن يضع الخطوة الأولى على جبهة الميل الأول.

أطلّت الحيرة من عينيه اللامعتين. وفي لحظة مُغافلة للوقت والزمن لاحت له صورة تلك الختيارة التي أخبرته باهتمام تلك المحبوبة المستعصية عليه، إبّان مكوثه في السجن. ترى هل سيجد الحل لدى تلك الختيارة.. بعد ان تعقدت اموره وسُدّت في وجهه كل الطرق.

هكذا امتطى أبو الجعافر رجليه وانطلق باتجاه تلك الختيارة. لم يكن الطريق طويلًا وإن خُيّل إليه أنه كذلك. تسلّل على أطراف قدميه ليدخل إلى غرفتها الوحيدة وتعمّد مُفاجأتها، غير أن ما تبيّن له، بعد تجاوزه باب تلك الغرفة واقترابه من وسطها، أنها ليست هناك. جلس الضيف الحبّوب على حافة سرير مُضيفته ومثيرة أفكاره الغائبة. استرخى على السرير الوحيد في الغرفة. كان سرير ختيارته مريحًا إلى اقصى حدّ. فاستسلم إلى ملك الكرى.. ونام، ولم يستيقظ إلا على يد تُمسّد جبينه، وتسوّى خصلات شعره بحيث تُبعدها عن وجهه وجبينه الشاب. تحكّم فيه استولى عليه أمير الغرام، ولم يعد يميّز بين واقع وحلم، فواصل استسلامه لليد الحنون المُحبّة الحانية. وعندما فتح عينيه هذه المرة، رأى وجه محبوبته العاصية المُستعصية. شعور دافئ افترش وجهه.. وحلم ورديّ سرى في جسده المُلتهب غرامًا شوقًا وتوقًا. فانصاع لمشاعره الفياضة تلك.. وتابع حلمه متداخلًا فيه.. ولم يُخرجه من حلمه هذا سوى يد تلك الختيارة اللطيفة.. كان ذلك عندما هزّته هائبة به أن يفيق.

اقتعد الضيف المُفاجئ طرف سرير ختيارته وفاتحة أبواب أشواقه وآلامه في الآن ذاته، وراح يتحدّث إليها باكيًا شاكيا ما لاقاه من الآم صدّ وحرمان تكاد تكون أقسى مما عاناه في أيام سجنه وليليها المعتمات. تحدّث عمّا اختزنه من مشاعر طيبة، وغالى في التعبير عمّا يجيش بنفسه من مشاعر ترافقها الام عظام. فمدّت ختيارته يدها إلى جبينه بحنوّ لا حدود له، الامر الذي أنساه معاناته، مع تلك اللاعبة الماهرة في ميادين المحبّة.. قُربًا وبُعدًا. اخذته يدها من نفسه، حتى أنه بات يعتقد أن تلك الختيارة استعارت صورة تلك المحبوبة العاصية المستعصية عليه. فقرّر ان يخوض غمار اللعبة الغرامية حتى ذراها السامقة العالية. أرسل ابتسامة حنونًا تعلّم إرسالها أيام الغرام الأولى مع زوجته الناكرة، فبادلته مُجالسته النظرة الموازية. ما جعله يسألها عن نوع العطور الساحرة التي يتنسّمها مع هبّات الهواء الرخية الهابّة في الغرفة. ما إن سمعت ختيارته إطراءه هذا حتى توجّهت إلى عُلبة خشبيّة عتيقة ذات زجاج بلوريّ من تحت سريرها.. تناولت منها قارورة طيب.. ورشّت منه بعضًا من رذاذها على جسدها.. منتقلة بيدها الحانية لترشّ منها على جسده غامرة إياه من راسه الى اساسه. عبقت الغرفة بالرائحة الذكية المشتهاة منتشرة في الآفاق والأجواء. فما كان منه.. هو ضحية زوجته الناكرة المتنكرة.. خريج السجن المُظلم الظالم، إلا أن لمعت في خاطرة سانحة ما لبث أن شرع في تنفيذها.

أمسك أبو الجعافر بيد ختيارته وانطلق مندفعًا نحو باب غرفتها المعتّق العتيق. ضمن محاولة للانطلاق في الفضاء الرحب، تمنّعت صاحبة اليد عليه قليلًا غير أنها ما لبثت أن انصاعت له وللرائحة الذكية المنتشرة في الأجواء. انطلق الاثنان باتجاه تلك المرأة المحبوبة المستعصية، بُعدًا وقُربًا.. انطلق وفي نفسه رغبة جامحة في أن يُفجّر ما يشعر به بين المرأتين.. الصبيّة المُستعصية.. والختيارة المُرتضية..

انطلق الاثنان في الشارع الطويل، وما لبثا أن توقّفا قرب فيللا مُشرئبة بعنقها نحو السماء.. صلفًا وخيلاءً.. دخل الاثنان إلى ردهات الفيللا متنقّلين مثل ديك بلدي ودجاجة أمريكية عُتقية. وسرعان ما توقّفا قُبالة محيرة أبي الجعافر وسالبة لبّه. فاحت الرائحة الذكيّة في كلّ أنحاء الغرفة، وقالت ابتسامات تلك المحبوبة المستعصية للعاشق المحتار إنه ربح اللعبة.. فَهِمَ ذلك من طلبها السماح له بأن تقبّله، فمدّ لها خده.. وفي باله أن يمُدّ شفتيه.. وهو يرسل نظرة آملة إلى ختيارته مرافقته.. نظرة غير متأكدة وحافلة بالشك.

***

قصة: ناجي ظاهر

يلتقي الماء بالماءِ

لكنّ كلّ الفصول تضيق.

*

يدخل الظلّ في الظلّ

كيف العبور إليك وهذي الظلال حريق؟

*

أيها المستطيل

تمدّد قليلا

لتلمس دائرة الاختناق.

*

أيها الميّت المتجمّد في دمنا

هل لقيت قلاع المدينة؟

-   شاهدتها

تتوغّل صوب السراب.

*

أمزج الأصفر القروي

بأزرق كل البحار

لأرسم أخضر قلبك أيتها العاشقة.

*

مالها النحلة الملكية

تهجر هذا التُّويجَ

وتحرد منتحبة؟

*

ينكر اللون لونه

لو يتعرّى.

*

تشتهي الريح خدّ المحيط

فتخنقها شوكة طائشة.

*

كيف لا يلتقي الطفل

بالمعجزة؟

*

للبنفسجة القمرية

أن تتفتّح فوق سريري

وتكسو هذا الخراب.

*

عندما لاذت النار بالنار

صرّخ نيرون

في وجه روما

لتهلك كل الخليقة

ثم أموت.

*

مَثَلٌ شائع:

قمم الأرض لا تلتقي

إنما للرجال لقاء.

*

ليس هذا الجدار سميكا

لتعبره النملة العاملة

ولكنها متعبة.

*

أيها المطر الطفل عجّل خطاك

فقد ترحل الأرض قبل لقاك.

*

إن لقيت الحقيقة قدام بابك

ذات صباح

فلا تركب الحافلة.

*

ضحكة الميّت المتجول لا تلتقي بسواها

ولكنّها تستقرّ بقعر البيوت.

*

لا يحطّ الجراد على قرية

مرّتين.

*

البياض لقاء لحلمين

فرّا من الذاكرة.

*

التي نذرت وجهها للرماد

لا يليق بها غير ثوب الحداد.

*

ضيعتني المدينة

منذ التقيت بنفسي.

***

محمد نجيب بوجناح - تونس

في الشهر الفائت جيء بنا مع الفوج إلى هذا الفج من أرض المعركة المجنونة. خمسة رجال بثياب العسكرية الرثة. لم نغتسل منذ زمن لكثرة أيام المعارك وساعاتها المرعبة الموحشة. في اليوم الأول من الشهر صدحت حنجرة عبد الرحيم الضامن بشجنها المؤسي، عند الساتر الذي يختفي ملجأنا بين انحناءته الحادة. ناح عبد الرحيم وتوجع وكنا جميعا نلوك الحزن مع صوته تأسيا دون جزع. الأسبوع الفائت كان عبد الرحيم جاثيا على ركبتيه أمام باب الملجأ يترنح مثل شحاذ يستعطف المارة. اختار هذه الزاوية دون غيرها ليتكئ عند حافتها ضاما بين أصابعه خاتم خطوبته الذي ألبسته إياه حبيبته  في  إجازته الأخيرة. فتح أصابعه ووضع الخاتم في أصبعه الأوسط ثم استله ووضعه في أصبع البنصر من اليد الأخرى، كرر ذلك وهو ينشد مناحته، تهدج صوته حزنا دون أن نرى له  دمعا.

البارحة، كانت النجوم تلمع في الطرف الآخر من العالم، وظلمة المساء تسدل عتمتها لتغلق الأفق البعيد، والناس في المدن البعيدة نيام، ربما يتظاهرون بالنوم، ولكن جفونهم كانت مغلقة بانتظار مداهمة النوم، لم يكن هناك سوانا يتنصت أصوات المدافع وأزيز الرصاص وانفلاق القنابل، نمد أجسادنا في الملجأ الرطب نترقب القادم بعيون جاحظة فزعة.

في حديث طويل قال عبد الرحيم بأن في قريته القصية هناك في الجنوب، يتبادل الناس المحبة والخوف والتوجع وحتى الشتائم بالغناء، ولن تجد بينهم من لا يمتلك صوت غريد. هكذا قال عبد الرحيم وهو في حالة انشراح ونشوة، يدير الخاتم حول أصبعه ثم راح ينشد.

حين يغني عبد الرحيم أراه وكأنه وحده من يمتلك المكان وكل شيء فيه. جميعا كنا نشعر ذلك، لذا نعافه لهواجسه وتلذذه . البارحة غنى وشاركناه، فكنا نردد معه مثل جوق، وكأنا مارسنا الغناء طويلا، وعرفنا بعضنا منذ سنين بعيدة. صار عبد الرحيم ملاكنا الذي نرقب تجليات صوته لنحلق بعيدا مع أشجانه، ونبعد عنا وحشة الحرب وترقب الموت، ولكل منا أرجوحة من حكايات خوف وألم وتوجع، كنا نتتبعها بين تموجات ورخامة صوته.

كانت لي أسبابي لكتم ألمي وأسراري الشخصية، لم أكن أرغب البوح عنها. لم أود سرد حكاياتي حتى لعبد الرحيم الذي يسرني بالكثير من أسراره، ولست عارضا مشكلة عزوفي الذهاب إلى بيت أمي لوجود الرجل الذي حل بديلا عن أبي، رغم ما أشعر به من ألم ممض لفراقها. وهناك في عيون شركائي في الحظيرة المسكونة بالترقب والرعب اليومي، ما يشفع لذرف الدموع. ولكن عبد الرحيم كان صلدا صلبا رغم غنائه الموجوع الذي يدمي القلب.

البارحة مساءً أدار خاتم خطوبته بين كفيه لمرات، وكانت عيناه السوداوان تدوران في أفق بعيد، عند حافة السماء المغبرة المرمية خلف الساتر الترابي، وصوته يعلو شجنا، كان كمن يحلق في الريح ويمسك السحاب. للمرة الأولى شاهدت دمعة منفردة تسربت هابطة فوق وجنته المتغضنة، وكانت أصابعه تعتصر خاتم الخطوبة بقوة.

اليوم كان المساء شاحبا مغلقا تخترقه التماعات القنابل المتساقطة بهمجية، كنا فيه واجمين مذهولين موجوعين، تلامس أكفنا وجه عبد الرحيم البارد الشاحب، كان يتلوى مثل سمكة أخرجت من الماء، يتأوه بوهن شديد ولا يستطيع رفع جفنيه، بقعة الدم التي نزت من جسده تحيط به مثل دائرة سوداء.

ـ القنبلة سقطت جواره؟

ـ كلا، فقد انفلقت عندما كان يغني فوق الساتر وشظاياها حزت الكثير من المواضع في جسده.

هكذا اختلفنا حول مكان مقتله حين وجدناه جاثما بين جدار الملجأ وحافة الساتر الترابي. ارتخى جسده كليا وكان القمر شاحبا شحيح الضوء مصلوبا في قلب السماء، حينها لاحظت بأن أصابع الكف اليسرى لعبد الرحيم قد بترت واختفى معها  خاتم الخطوبة.

ليومين متتالين بحثنا في تجاويف الأرض القريبة من المكان الذي قتل فيه وخلف الساتر الترابي عن أصابع الكف، أو الأحرى عن الخاتم، لنلحقه بجثته ولكن محاولاتنا خابت تماماً.

***

فرات المحسن

"كل الذين عرفتهم"*

عادوا …

من الوليمة

دون وجوهٍ

دون أصابع

مشبعة أرواحهم

خيانة وضغينة…

**

كل الذين أودّهم

تركوا ذكرياتنا على الرصيف،

تناثرت أوراقها في القلب المثقلِ بالحنين

بين الدفاتر…

وقوداً لتنور أمي…

***

في الزمن السري…

رحلوا…

هاجروا…

وما عاد الرصيفُ

يحتضن أقدامنا،

ويغسلنا بالمطر

ومن بقي، مائدةً للمجزرة…

يا لهذه الحياة!

أينما التَفَتَ …

تراها مجازر

مترامية الأطراف…

صَمَّاءَ جائرة.

***

كريم شنشل

 

كما أراك

هل أنت كما اراك

في الحلم!

جنة نخيل

خصور نحيلة

قامات منتصبة

تستعرض عظمتك

كما جنود سليمان

في العالمين

هل العراق

غير الكوثرين !

كأسين سومريين

مزاجهما خمرة شمس

قمر ونجمتين

***

الأخ الأكبر

يا لهذا ألأخ الأكبر

الأمريكاني

من أخ سئ

يختال بطرا

على الأرض

بعيون زائغة

من نحاس

وقلب قاس

من حجر صوان

وبمكان ما

طفل يبكي لا يسمعه

لم يكد يحبس دموعه

حتى حطت حمامة

من حيث لا يدري

من اي سماء جاءت

حمامة ضمأى

تنقر راحة كفيه

فتأخذ دمعة صغيرة

وتعطيه دمية

ثم تطير في الأعالي

***

الجائحة

رأيت العالم

في زمن جائحته

عاريا كما هو

مرتعبا كطفل

ورآني

كما أنا

شبحا خائفاً

يتوارى خلف

قناع شجاعته

**

ارجحت ضجري

بكرسي وهمي هزاز

وبسيجار كوبي أتخيله

بين الشفتين

ولكي أدلل نفسي أكثر

امتطيت في نزوة عابرة

صهوة فرس عربية

وابحرت بقارب فينيقي

على صفحات بيضاء

لكتاب الكوميديا الإلهية

قلت لدانتي:

لنمضي يا رفيقي الايطالي

نسرح جيشا رومانيا

بزي المارينز

لا عمل لديه

سوى مسح غبار الارض

بمكانس خوذ حمراء غبية

لنعطيه عملا آخر

اكثر فائدة للبشرية

ان يقتلع بأسنانه الذرية

اشواك الأرض

ولنقم معا نحول

مشافي كل مجانين السلطة

قاعات للرقص الغجري

ومعابد الأوثان

حانات للخمرة

ومواخير للذة

نفتح فيها كوة

على غرف سرية

لرؤساء الألفية الثانية

بعد العقدين وخمسة اعوام

**

ارقص يا رفيقي

كما السنة نار مجوسية

اقطع ازرار قميصك

افتحه شراعا وابحر

سيورد الجوري

في وجنتيك

فبعض الوقار

ستار رخيص

ارقص حتى الاغماء

لتتساقط احزانك

كأوراق الأشجار

في خريف ينتظر

يهتف

مرحبًا بك

***

صالح البياتي

 

في النهارات المضيئة

تلبس العنادل

حلة ابتهاجاتها

وفراشات الحقول الخضر

تزهو بفرح لكن

في الجهة الاخرى

من سياج الخديعة

تعوي بنات اوى

الثعالب والذئاب

مهددة بتهشيم

مرايا حب العنادل

والعصافير للحقول

وللمروج الخضر وقرب

السفوح والهضاب المضيئة

تتناسل الايايل والغزلان

واحصنة البرق

الريح والمطر

تصهل.. تصهل

صهيلها العقيقي الناضج

معلنة عن مدى حبها

للشموس للنجوم

للشفق الازرق

ولهالة القمر.

***

سالم الياس مدالو

 

مذ كانت كثبان الريح

تكتب للصحراء معالمها

وتهتف للعوسج ان يصغي*

كانت اقدام الريح

ترسم مشوار مصائرنا

لا تعبئ في شيء

غير سموات لا تمطر إلا غيثاً

عند طلوع الفجر..

تحمل للكون بشائرها

حين يكون اليعسوب تلاشى*

او مات من القهر..

**

تقول: إلام أعاند نفسي

ولماذا اليعسوب يلاحق ظلي؟

ولماذا بات الهوس المضني

يناور بين ظلال الصحراء

وبين الصفصاف؟

يخالف كل الأعراف..

فمن اين تجيء الحمى

وكيف تسير الاقدام على الرمل

المثلوج بنار الاجلاف..؟

**

العلكة..

جاءتني تمضغ علكتها

وقامتها تلويها بدلال

وجديلتها تدفعها نحو الخلف

وبين الحين والحين

تخرج علكتها بالوناً وردي

يفرقع، حتى يظهر ثانية ليغيب

مع غيبوبة جفنيها

حين تحدق في الاعلى لتجيب

هي في شغل شاغل في علكتها

وانا في غيبوبة سحنتها

مبهورا بخلق الله..

***

د. جودت صالح

30/12/2024

.......................

* العوسج / شجيرة ذات اشواك حادة وسامة تتأقلم مع الظروف المناخية بين كثبان الصحارى.

* اليعسوب / حشرة (أيبيروتكا – باللغة اليونانية القديمة- أبرة الشيطان او حشرة التنين -

 

(الى روح شقيقتي "أم نوفل" الحاجة أحلام عباس السماوي الحسناوي

تغمدها الله بعظيم رحمته ورضوانه)

***

أحـتـالُ ـ مـن وجَـعـي ـ عـلـيّ فـأزعَـمُ

أنَّ الــمــواجِــعَ لــلــمــسَـــرَّةِ سُـــلَّـــمُ

*

كـثُـرَتْ عـلـيَّ مـن الـهـمـومِ ذئـابُـهــا

فـكـأنَّ بـيْ ذئــبَ الـهــمــومِ مُــتــيّــمُ

*

أمــشـي فـمـا أدري أتـحـمِـلُــنـي الــى

خَـلــفـي الـخُــطـى؟ أمْ أنــنـي أتــقَــدَّمُ؟

*

يــومٌ ولا أقــسـى رحــيـــلُ شــقــيــقــةٍ

هـي مــن فـــؤادي لا أعــــزُّ وأعــظـمُ

*

بَـلَـغَـتْ مـن الـشَـرَفِ الـتـمـامَ وبَـلَّـغَـتْ (1)

" سِــتًّـًا " جـمـيـعُـهُـمُ الـنـجـيـبُ الأكــرمُ

*

" سِــتّـا " ولـيـس كـمِـثـلِـهِــم في بِــرِّهِـمْ

فــكــأنـهــم لِــسِــوارِ بِــرٍّ مِـِـعـــصَـــمُ

*

فـكـأنـهــا لِــبـلاغــة الــمــبــنــى يـــدٌ

وكـأنـهــا لــفــصـاحـةِ الــمـعــنـى فــمُ

*

نــهــرٌ ولـكــن لا ضِــفــافَ لــهُ ولا (2)

لـمـثـيـلــهِ  فـي الـطـهــرِ إلآ زمــزمُ

*

حـوراءُ قُــدوَتُـهـا بـصـبــرٍ " زيـنـبٌ "

عـصـمـاءُ قُـدوتـهــا بـطـهــرٍ " مـريَــمُ " (3)

*

ورثـتْ عـن الأمِّ الـمـروءةَ والــتُّـقـى

وعـن الأبِ الـشـرَفَ الـذي يُـتـوَسَّـمُ

*

وعــن الـشـهــيــدِ الـبـعــلِ طـودَ إرادةٍ (4)

لـم يُــثْــنِـهــا الـمـتـجَـبِّـرُ الــمُــتـجَـهِّـمُ

*

يــا أمَّ نــوفــلَ والـلــيـالـي طـبـعُــهـــا

تــبــنـي كـمـا شــاءَ الــزمـانُ وتـهــدمُ

*

تُــدنـي مـن الــمـرءِ الــبـعــيــدَ وربَّـمـا

تُـقـصـي الـقـريـبَ وتـسـتـبـيـحُ وتُـرغِـمُ

*

يــا أمَّ نــوفــلَ أشــــتــكــي مــنـي وقــد

أعـيــا أطـبَّـائـي وصـحـبـي الــبــلـسَــمُ

*

طَحَـنـتْ رَحـى الأيـامِ أمـسـي واسـتـبـى

يــومـي ضَــبــابُ غَــدٍ وغَـيـبٌ  مُــبـهَــمُ

*

يـا أمَّ نــوفَــلَ والشـهـورُ تــشــابَـهَــتْ

فـي الــفـاجـعـاتِ فـكــلُّـهــنَّ " مُـحَــرَّمُ "

*

يـأ أمَّ نـوفــلَ والــفـصــولُ تــمـاثــلــتْ

فـي الـمُــعـسِـراتِ فـمـا لِــيُـسـرٍ مـوسِـمُ

*

غَـرَّبـتُ فـي خـطـوي فَـشَـرَّقَ خافِـقي

والــحــالـــتـــانِ مَــتــاهـــةٌ وتــوهُّـــمُ

*

يـــا أمَّ نــوفــلَ كــلُّ صـــرحٍ قــائِــمٍ

لا بُـــدّ  ذاتَ غـــدٍ يُـــدَكُّ ويُـــهـــدَمُ

***

رمَّــمْـــتُ لـــو أنَّ الـــزمـانَ يُــرَمَّــمُ

ورَدَمـتُ لـو بـئـرُ الــفـواجِـعِ  يُــردَمُ

*

يــا أمَّ نــوفــلَ مــا جـزعــتُ لأنـنـي

أشـكـو الـظـمـاءَ وأنَّ صـحـنـي مُـعـدَمُ

*

لـكــنْ لأنَّ الــقــائــمــيــنَ بــأمــرِنــا

غـالٍ عـلـيـهـمْ فـي الــمــزادِ الــدِّرهَـمُ

*

فـهـمـو عـلـيٌّ والـحـسـيـنُ خـطـابــةً (5)

أمّـأ الـفـعـالُ فـهـم يـزيـدُ ومُـلـجِـمُ

*

يــا أمَّ نــوفــلَ والــرزيــئــةُ أنـهــم

قــد حَـلـلـوا مـا لا  يَـحِـلُّ  وحـرمـوا

*

أحـنـتْ مـن الـدَّجَـلِ الـمـآذنُ رأسَـهـا

واسـتـوحَـشـتْ لـيـلَ الـعـراقِ الأنجـمُ

*

وطـنـي يــتــيــمٌ لا أبٌ فــيــذودُ عـن

طــفــلٍ ... ولا أمٌّ تَـحِــنُّ وتــرحَــمُ

*

ثُـكِلـتْ بـدجـلـتِهـا الـضـفافُ وأصحرَتْ

فــيــه الــحــقــولُ فـكــلَّ  يــومٍ مـأتــمُ

*

يــا أمَّ نــوفــلَ مـا الـحـيـاةُ إذا اســتــوى

فـيـهـا " الـمُهَـتَّـكُ " والـنـجيـبُ الأكرمُ

*

ولــربــمـا عـابَ الــذي ورث الـخــنــا

شـرفَ الـنـجيـبِ وعـابَ نـورًا مُـظـلِـمُ

**

يـا أمَّ نـوفـلَ حـسـبـنـا مـن ضـعــفــنـا

أنـّـا بــمـعــركــةِ الـحــيــاةِ ســـنُـهــزَمُ

ولــربَّـمـا يُــردي الـســلـيـمَ مُـعَـسَّــلٌ

ولــربَّـمـا يُــشـفـي الـعـلـيـلَ الـعـلـقَــمُ

*

نـبـكي ونــسـتــبـكي ونـعـلـمُ أنـنـا الـ

مـوتُ الــمـؤجَّـلُ والــفـنـاءُ الـمُـحـكـمُ

*

الــمــوتُ قــهّــارٌ ولا مـن غــالــبٍ

إلآهُ .. فـهْــو الـحـاكـمُ الــمُــتـحـكِّـمُ

*

هـي زورةٌ ـ وادي الـسـلامِ ـ وبـعـدهـا (6)

مـثـوايَ حـيـن يـجـفُّ نـبـضـي والـدمُ

*

عَـتَـبـي عـلـيــكِ سَـبَـقْـتِـنـي فـي رِحـلــةٍ

مـا  بــعــدهــا وصــلٌ يُــسِــرُّ ويُــنـعِــمُ

*

مَــنْ ذا  تــؤمُّ بــنــا  صَــلاةَ مــسَـــرَّةٍ

إنْ غـابَ عــنّــا وجـهُــكِ الــمُـتَــبَـسِّــمُ؟

*

مـنـي الـسـلامُ عـلـيـكِ مـا طـافَ امـرؤٌ

وســعــى وقـام الـى الـصـلاةِ الـمـسـلـمُ

***

يحيى السماوي

النجف الأشرف الأشرف ـ

مقبرة وادي السلام في 29/12/2024821 samawi

(1) ستّا: إشارة الى أطفالها الستة الذين أحسنت تربيتهم بعد اختطاف زوجها فكانوا ـ بعد أن كبروا ـ مثالا عظيما في البرّ ومكارم الأخلاق وفي الرجولة والشرف النضالي والجهادي حتى أن بعضهم أمضى السنين في سجون النظام الديكتاتوري البائد .

(2) نهر: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي .

(3)  إشارة الى صبر الفقيدة منذ اختطاف زوجها من قبل نظام صدام حسين عام 1979 وحتى سقوطه عام 2003 حيث لم يُعثر له على  أثر في المقابر الجماعية فاتضح أنه من بين الذين تم فرم أجسادهم وإذابتهم في حامض الكبريتيك المركز ..

(4) وعصماء: صفة مشبهة تعني الفرس الأسود الذي في أحد أطرافه بياض .. كما تعني الفريدة التي لا مثيل لها في الفصاحة والبلاغة .. وتعني أيضا المرأة التي عصمها الله من الفاحشة والخطيئة فكانت نِعم الزوج لزوجها ـ وهو المعنى المقصود في القصيدة .

(5) يزيد وملجم: هما الملعونان يزيد بن معاوية وعبد الرحمن بن ملجم قتلة الإمامين علي بن أبي طالب والحسين بن علي عليهما السلام .

(6) وادي السلام: هي مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف

أخبرتك ان العمر مضى

وأخبرتك انك ملاذ وحدتي

وما زارني الا طيفك

فلماذا خذلتني ..؟؟

غِبّ عهدك القديم

الا تذكر سنينا سقيناها معا

دموعا باهظة المخاض

كيف بعت قلبي

في سوق النخاسة

بدرهم صدأ

وقتلت براءة شجونه

هارب وجعي

من صبره المعتق

فساقه الوهم اليك

أعذارك القديمة بت أمقتها

أعرفها

وتلك الأكاذيب

غدونا شواطئ بلا ذكريات

أسئلتي تبحث

عن قارب ضل مرساه

محفورة بذاكرتي تلك الحقائق

لا تلمني ان رميتها

تحت احذية السابلة

وآن الأوان ان أتقيأ

فرحة وعودك المؤجلة

كي لا أبدو شاحبة أمام مرآتي

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

كانت الحاجّة غُبنة في طريقها إلى الشيخ مسعود، عمادها الأول ومستقر معرفتها. عندما تتالت صور ذلك المشهد الرهيب تترى على مخيّلتها. رجل يسقط من برندا الطابق الثالث القائم قُبالة شقتها في الطابق الثاني. رجل يسقط مِن هناك. وظلُّ رجل آخر في الأعلى. وكانت الحيرة تعبث بها وتأخذها هائمة بها من شجرة شمّاء إلى صخرة عمياء غائرة في أعماق الأرض. ". الطريق إلى بيت الشيخ مسعود ما زال طويلا"، قالت لنفسها وتابعت "عنده سأجد الحلّ لتلك المعاناة.. تلك المعاناة كبرت يومًا إثر يوم، حتى وصلت إلى تعقيدات وتشابكات.. إما حياة واما سجن وموت. منذ نحو الاربعين عامًا.. أيام كانت الحاجة المصون صبيّة في ذروت تفتح زهرتها تعرّفت إلى الشيخ مسعود. بالأحرى.. عرفتها به امرأة مُسنّة كانت تقيم في البيت السابع فيما بعد بيت أهلها.. في الحي القديم. كان ذلك يوم شكت لها من عبوس الحظ لها وانغلاق ابواب الفرح في وجهها واكفهرار السماء الواسعة بينها وبين خطيبها. عندما وقفت في حينها بين يدي الشيخ مسعود سألها أن تروي له عن كلّ ما حصل لها مع خطيبها فروت كلّ صغيرة وكبيرة بينها وبينه شاكية له انصراف خطيبها عنها وانقطاعه عنها لمصلحة صبية أخرى منافسة. يومها سألها الشيخ مسعود هل ضايقته بشيء.. فنفت أن تكون قد قامت بأي مضايقة له. بل استرسلت في حديث مطوّل عن تكريم أهلها لخطيبها وعن تلك العلاقة الودّية الرائعة التي ربطت فيما بينها وبينها. وهي مازالت تتذكّر كيف أن الشيخ مسعود الذي كان يكبرها باقل من عقدين من الزمن هزّ يومها برأسه ووعدها أن تعود العلاقة بينها وبين خطيبها المولّى كما كانت من ذي قبل وأكثر. لقد مضى على ذلك اللقاء ردح مديد من الزمن، وقد ارتبطت بخطيبها بعد ان صدق كلام الشيخ الموقّر، وأنجبت الأولاد.. والأولاد انجبوا أبناء، ورحل زوجها العزيز الغالي من دنيانا.. وها هي تجد نفسها في موقف هي أحوج ما تكون فيه لمعونة الشيخ مسعود ومُساعدته، فالأمر يدور حول حياة تتواصل أو موت يتفاصل..

وضعت الحاجّة يدها على جبينها وهي ترسل نظرات مستطلعة في الطريق الطويل أمامها. وكانت كلّما خطت خطوة شعرت بثقل المسؤولية المنوطة بها. كانت تودّ لو أنها لم ترَ ذلك المشهد ولم تكون واقفة في شرفة بيتها في ذلك اليوم المشؤوم. امتلكت الحيرة عليها جُماع نفسها واستحوذت على دنيا تفكيرها، وتساءلت بينها وبين نفسها عمّا سيقوله لها ذلك الشيخ المُبجّل، الشيخ مسعود. هنا أطلّ طيف مُرافقتها الأولى ذاتها الى بيت الشيخ قبل كلّ تلك السنين " تابعي الطريق. لم يبق عليك إلا أقلّه. تابعي يا أخيتي. عند الشيخ ستجدين الإجابة الشافية لسؤالك الصعب.. الشيخ مسعود إنسان عاقل ومثلما وجد لك الحلّ لسؤلك المستعصي أيام خطوبتك فإنه سيجد الإجابة لسؤالك المقّعد الراهن.. "، حفزها صوت تلك المرأة ساكنة البيت السابع في تلك الأيام الشابّة الماضية على مواصلة الطريق.. غير أن الطريق ما زال طويلا.

مضت الحاجّة غُبنة تشقّ عُباب العتمة بعد أن ابتدأت في الهبوط على الارض. ومضى طيفُ تلك المرأة إلى جانبها يحثّها كلّما أحسّت بوهن ما على المواصلة.. مسؤولية كبيرة تتوقف على شهادتها ضد انسان مسكين.. هي كانت الشاهدة الوحيدة على ذلك الحادث المُرعب الذي ذهب ضحية له انسان خائف ويتوقف عليها مصير انسان مسكين.. إلى حدّ ما.

توقّفت الحاجة الحائرة قُبالة بيت كبير، قام في السفح العالي للجبل المحاذي للقرية. سارت خطوات توقّفت بعدها أمام الباب المفتوح، ودلفت إليه لتجد نفسها تقف وجهًا لوحه قُبالة الشيخ مسعود. ابتسم لها الشيخ الجالس قرب كوانين النار وعليها دلّة القهوة السادة. رحب بها ترحيب مَن يعرفها ويعرف أنها لا تأتي إلا للبحث عن إجابة لسؤال صعب محير. أهلًا وسهلًا بك. رحب بها فردّت وبك.. ماذا وراؤك سألها. فردّت.. تذكر مصرع ذلك الشاب (وذكرت اسمه)، عندما حاول الهروب من شقة عشيقته بعد أن ضبطه صاحب البيت مع زوجته في وضع غرامي حميم. نعم نعم أذكر.. تابعي.. أهاب بها الشيخ الموقّر. تابعي.. أذكر.. أذكر. تابعت الحاجة غُبنة أنت تعرف ما حدث يومها.. فقد تحدّث به القاصي والداني. وعلم به وبما احتواه من تفاصيل جميع أهل البلدة. وها أنا ذي أتيت إليك لأفضي بسرّ كبير احتبسته في صدرى منذ السنة الماضية. سرّ جعلني الشاهدة الوحيدة فقد كنت يومها أقف في شباك بيتي المطلّ على بيت الحادث المؤسف. وقد رأيت جارنا يقف في أعلى برندا بيته في الطابق الثالث، في حين تعلّق عشيق زوحته بطرف البرندا. لقد رأيت الزوج صاحب البيت يُفلت يديّ عشيق زوجته ليسقط المسكين من اعلى وليلق بالتالي مصرعه. وقد جرت تحقيقات واسعة النطاق في ذلك الحادث المحزن.. وها هي المحكمة تطلبني للإدلاء بشهادتي العيانيّة. فاذا ما شهدت بما رأته عيناي هاتان ذهب الزوج المخيون ضحية أخرى.. وقضى ما تبقى له من عمر رهن أربعة جدران وبرودة سجن لا يرحم لا ابن ولا ابنة. فهل أشهد بما شاهدته أم أخرج ذلك الزوج من دائرة الفرندا. وأدّعي أن العشيق سقط دون أن يتسبب له الزوج بأي أذى؟. أريد أن استمع إلى رايك.. ارشدني.. للخروج من هذه الورطة.. فهل يمكنني أنا الحاجة إلى بيت الله أن أحرّف شهادتي لإنقاذ ذلك الرجل وللترحم على مَن فقد حياته نتيجة خطأ ما كان عليه أن يرتكبه. هزّ الشيخ مسعود رأسه غارسًا عينيه ذوي الحاجبين الكثين في طيف تلك المرأة المرافقة للحاجة غُبنة" هذه قضية معقّدة يا حاجة. معقدة جدًا. فاذا ما شهدت ضد ذلك الرجل المخيون ساهمت في إغلاق بيت آخر بعد أن أغلق بيت ذلك العشيق المسكين. وتسبّبت في حرمان ابن وابنة من أبيهما. وكمن فطن إلى سؤال مُلحّ قال:" هل أنت متأكدة من أن الزوج تسبّب في سقوط العشيق. "، فتراجعت الحاجة متذكرة تلك اللحظة القاتلة وخطر لها خاطر،، تأثر بما طرحه الشيخ ضمن سؤاله.. قالت كان الظلام مخيّمًا ويغطّي كلّ شيء.. لم أشاهد ما حدث مئة بالمائة. بإمكانك أن تدلي بشهادتك كما تروينها الآن فإنقاذ إنسان أفضل من الحاقه بضحية مولّية.. انتهى أمرها. قدمي شهادتك واتكلي على الله..، بدت علامات القبول واضحة على وجه الحاجة وخرجت من الغرفة تشكر الشيخ المتفهم ويرافقها شيء من الرضا.

ما إن استقبل الشارع الطويل ذاته الحاجة غُبنة وانطلقت فيه وكلّ خطوة تدنيها من بيتها وموقع الجريمة. حتى وجدت طيف المرأة ساكنة البيت السابع يهتف بها لا تشهدي الا بما رايته.. لا تشهدي زورًا.. فالعدالة واسعة مترامية الأطراف وهي أكبر من الجميع.

 ***

قصة: ناجي ظاهر

 

(حين وردني نعي العزيز كتبت قصيدة أشبه بالارتجال وقد نقّحتها وأضفت إليها مع الشكر سلفا للمثقّف)

***

كفكف دموعك هل يفيد نحيب

أم يرجعنَّ من الممات حبيب

*

أأبا عديّ ألف كلا لم يمت

من كان  في حبِّ الحسين يذوب

*

جبل تسامى للسماء رزانة

تبكي عليه نواظر وقلوب

*

يا أيها السند الذي بفراقه

سُدَّتْ عليّ متاهة   ودروب

*

يوم به الأحزان حلت فجأة

فالفجر من شَجَنٍ يكاد يغيب

*

أحلامنا خلف السّراب تشتّتت

والليل يطبق والفراغ رهيب

*

تجري أمانينا فتسبق يومنا

ليردّنا عن نيلها المكتوب

*

ماذا أحدث عن زمان بائس

متلوِّن فيه النقيّ غريب

*

الحاقدون عليك لم يتغيروا

أيحول عن طبعٍ لئيمٍ ذيب

*

وإذا النفوس على الدنايا غُذِّيت

عجزت رُقى عنها وحار طبيب

*

غنيتَ للأمل  الجميل ملاحما

والخوف باد والزمان مريب

*

ونسجت في آال الرسول قصائدا

حيث القوافي  وقعهنّ قشيب

*

ونطقت بالحق  الصريح  بموقف

الموت يسأل والدماء تجيب

*

تدعو إلى الخير العميم بعالم

قد أرهقته مطامع وحروب

*

فعليك من رب غفور رحمة

يندى بها مسك الجنان وطيب

***

قصي الشيخ عسكر

 

"أنظر إلى تاريخي أراه محمّلا بالخسائر. لا شيء جدير بالذّكر مع ذلك، كلّ ما حدث كان بشكل عبثيّ وغير ضروري. أهم أحداث حياتي كانت في الحقيقة محض معارك خضتها مع نفسي ودفعت نفسي لأجلها دون سبب وجيه.."

كانت تخطّ هذه الكلمات في مفكّرتها وهي تلتهم سيجارتها بشراهة. شعرت بأمواج الأفكار تتلاطم بعنف داخل رأسها، تتسارع وتتصارع، بعضها قويّ يفرض نفسه والبعض الآخر يأتي بهدوء ثمّ يختفي. استرخت بعينين نصف مغمضتين بينما أصابعها تمسك بالسيجارة الّتي تكاد تذوب. ثمّ جعلت تنفث دخانها في الهواء برفق في شكل سحب خفيفة تتناثر ثمّ تتلاشى ببطء.

تنفّست بعمق وهي تمدّ يدها بحذر الى الخاتم الموضوع على الطاولة ثم بسطت كفّها وأخذت تحدّق فيه فشعرت أنّ زرقة تلك الجوهرة تستفزّها رغم ارتباط ذلك اللّون عندها بالهدوء والسّكينة عادة وشيء من الحزن اللّذيذ أحيانا. خمّنت أنّ المشي قليلاً سيخفّف من حدّة هذه المشاعر التّي خلّفتها تلك الشّابّة قبل أن ترحل مسرعة دون تفسير واضح فأخذت معطفها وخرجت لا تعرف أيّما وجهة تقصد..

كانت ليلة شتويّة من ليالي ديسمبر الباردة لكنّ برودة الطّقس آخر شيء قد يثنيها عن الخروج فأحكمت معطفها حول جسدها وهي تشعر بالنّسائم تداعبها بلمسات ودّ وتمرّر أصابعها برقّة لاذعة فوق وجنتيها وأنفها. لطالما كانت ليالي الشّتاء توقظ بداخلها ذكريات متضاربة وتولّد لديها مزيجًا من الشّاعريّة والدفء من جهة والوحدة القاسية الّتي التصقت بروحها ليالٍ عدّة من جهة أخرى. وبينما كانت تسير استوقفها مقهى قديم اعتادت ارتياده قبل ثلاث سنوات فشعرت بقوّة عجيبة تدفعها للدّخول رغم شعورها بأنّ قدميها قد التصقتا بالأرض تأبيان الانزياح والمُضيّ قُدُما غير أنّها - وقبل أن تطيل تحليل الموقف- دفعت الباب بهدوء ودخلت وهي تعبر القِلّة المتواجدة هناك متّجهة نحو طاولة فارغة تعرفها وتألفُها منذ زمن وكأنّما تلك الطّاولة قد رفضت كلّ جليس في تلك اللّيلة لعلمها بأنها تستعدّ لاستقبال صديقة قديمة. سحبت الكرسي بحركة آليّة وجلست وقد ثبّتت عينيها بالباب وكأنّما تنتظر دخول شخص ما. وما هي الاّ لحظات حتى جاءها النّادل فقالت دون أن تدير رأسها إليه:

"- قهوة سوداء، رجاءً"

فأومأ الرّجل برأسه مستجيبا وذهب. شعرت بالصّداع يثقل رأسها فدفنت وجهها بين يديها في انتظار القهوة وقد تناهت الى مسمعها نغمات مقطوعة "الخريف" لفيفالدي تنبعث من الجهاز الصغير المخبّأ بزاوية المقهى وكأنّما موسيقى الفصول الاربعة قد تبعتها الى هناك. وبينما هي غارقة في تأملاتها سمعت الكرسيّ المقابل لها يُسحب

"لم أتأخّر، أليس كذلك؟" جاءها الصّوت هادئا وعميقًا كما عهدته. رفعت رأسها ببطء فوجدته يجلس أمامها، كما كان دومًا، ينظر اليها بابتسامته الخافتة. لم تُبدِ أيّ دهشة بل ابتسمت وهي تحدّق بعينيه، نفس العينين بسوادهما الدّاكن ونظرتهما الثّاقبة التي دائما ما تشعر وكأنها تتسلل خلسة وتقرأ اعماقها، ثمّ قالت:

"-كنت أعلم أنّك ستأتي، دائما تعود."

ابتسم وهمّ بالحديث فقاطعه النّادل وهو يضع القهوة على الطّاولة ثمّ غادر. فرفعت ايزلي يدها في إشارة لمناداته ثانية وقالت محتجّة:

"- لم يأخذ طلبك!"

لكنّه أمسك بيدها وقال:

" لا تقلقي، كما تعلمين، لا أحتاج لشيء" ثمّ استطرد مبتسما وقد انتبه الى الخاتم ذي الجوهرة الزّرقاء في اصبعها: " لازلتِ تحتفظين بآخر هديّة قدّمتها لك."

ارتبكت قليلا لكن سرعان ما استعادت هدوءها، محاولة التّمسّك بلحظة تخشى أن تتلاشى. سحبت يدها برفق ونظرت الى الفنجان أمامها ثمّ أطبقت يديها حوله تستشعر دفأه.

"أتعلمين" قال وهو يتّكئ على الطّاولة " كان يوما طويلا، لكنّني انتظرت هذه اللّحظة طوال الوقت."

لم تردّ، فقط نظرت إليه بعمق فتابع وهو يسحب الكرسيّ قليلا ليقترب: "لقد عملت اليوم على تحقيق صحفيّ عن قضيّةٍ مرهقة لكنّها بالغة الأهمّيّة، تعلمين كيف تعمل الشّركات الكبرى على التّستّر عن أعمالها؟ واحدة منها تسبّبت اليوم في تدمير قرية بأكملها جرّاء تسرّب كيميائي. ليس ذلك فحسب بل إنّهم لم يعوّضوا الأهالي حتّى الآن، هؤلاء النّاس لا صوت ينصرهم، لقد فقدوا كلّ شيء منازلهم، أراضيهم وحتّى آمالهم.."

أخذ نفسا عميقا وتابع في أسف: " تحدّثت الى امرأة فقدت ابنيها تباعا بسبب التّلوّث. أخبرتني وهي تبكي بحرقة عن كمّ التّضحيات والجهد الذي بذلته في تنشأتهما. كانت تراقبهما وهما ينموان وتحرص على دراستهما رغم الصعوبات وكأنّما هي بذلك ترعى الأمل الّذي سينتشل عائلتها الصغيرة من بؤسها. شعرتُ بصدري ينقبض وأنا أسمعها غير أنّني إلى جانب الألم رأيت اصرارا عظيما وهي تخبرني أنّها لن تستسلم وأنّها ستحمي البقيّة بأيّ ثمن حتى لو كانت وحدها."

ابتسم ابتسامة خافتة وتابع "هذا الايمان هو ما يجعلني أواصل رغم كلّ شيء. سأحرص على الوقوف الى جانب هؤلاء الأشخاص وكلّ من أجده مظلوما.. تعرفين، ايزلي، كلّ ما أفعله، كلّ كلمة أكتبها، أشعر أحيانا أنّها نقطة في بحر لكنّني أقول لنفسي نقطة واحدة قد تغيّر مسار موجة."

بدا عليها التّأثّر بسبب ما أخبرها به ثمّ نظرت إلى يده الّتي لا تزال على الطّاولة وقالت بنبرة تكاد لا تُسمع: " وأنت، هل تغيّرت؟"

ابتسم بحزن وخفض رأسه قائلا: " ربّما، لازلت أحاول أن أفهم هذا العالم حتّى بعد هذه المدّة الطّويلة، إنّني أستمرّ بتغيير نفسي علّني أناسب الحياة، علّني أستطيع أن أعيش"

تراءت في عينها دمعة عنيدة سرعان ما مسحتها ثم عادت تتفرّس في ملامحه وفجأة انفتح باب المقهى بقوّة واندفعت الرّياح الى الدّاخل فشعرت بقشعريرة تسري في جسدها. "هل تتذكرين؟" وقف قائلا "اعتدنا الخروج والتّسكّع معا في مثل هذه اللّيالي الباردة" ثمّ مدّ يده مبتسما "أترافقينني؟"

ابتسمت ايزلي وهي تنظر الى يده الممدودة إليها، شعور بين الحذر والشّوق يتغلغل بداخلها، ثمّ أمسكت يده وخرجا معا من المقهى.

كان الشّارع يبدو وكأنّه يغفو تحت أضواء خافتة تمتزج مع لمعان الرّذاذ الخفيف المتساقط.

" هل تذكرين عندما رقصنا هنا للمرّة الأولى؟"

" وكيف لي أن أنسى؟" ردّت ايزلي ضاحكة " كُنتَ دائما تجرؤ  على فعل أشياء لا يمكنني تخيّلها."

ابتسم وهو يلفّ ذراعه حول خصرها بخفّة، استعدادا للحركة الأولى. بدأت الموسيقى تتردّد في عقلها كأنّها صدى بعيد، مقطوعة " الرّبيع" وقد استجابت خطواتهما الراقصة للحركة الأولى بألحانها المشرقة المتسارعة الّتي تشبه زقزقة العصافير. وبدأت الحركة الثانية من المقطوعة بانسيابها الهادئ. فاستدار بها بلطف وكأنّهما في رقصة قديمة اعتاداها دون تدريب رغم ما انطوت عليه من عفويّة. كانا يدوران ببطء تحت أضواء الشّارع وكأنّهما الوحيدين في العالم.

شعرت ايزلي وكأنّها في حلم جميل لا تريد أن ينتهي. " هل أنتَ هنا حقّا؟" سألت وهي تنظر في عينيه ونظراتها تشي بشيء من الرّجاء المشحون بالارتباك بينما تتابع خطواتها خطواته.

" أنا هنا بقدر ما تريدينني أن أكون" أجابها بنبرة غامضة تغلّفها ابتسامة لطيفة .

"كيف تعود في كلّ مرّة ثمّ ترحل من جديد وأين تذهب؟" سألته ايزلي بنبرة غلب عليها الحزن والاضطراب رغم محاولاتها للمحافظة على هدوئها.

لم يردّ مباشرة، رمقها طويلا ثمّ أجاب: " أنتِ من جعلتني أعود، ايزلي، أنا هنا لأنّك لم تتركي لي خَيارا"

أرعبتها النّبرة الّتي تحدّث بها ووقعت الكلمات على مسمعها وقع دويّ شديد شعرت به يسحبها من عالم الأحلام الرّاقص.

توقّفت عن الحركة فجأة ونظرت إليه مليّا، شعرت بثقل في صدرها وبكلماتها تتمزّق من حلقها تمزّقا عنيفًا :" أنت لست هُنا حقّا، أليس كذلك؟"

تناهت إلى مسمعها نغمات المقطوعة تتعالى شيئا فشيئا وكأنّها تطغى على كلّ صوت آخر وشعرت بانفصالها عن الواقع وتجمُّد الوقت، لا شيء يتحرّك سوى أنفاسها المضطربة ونظراتهما المتشابكة.

"لماذا الآن؟" سألته

ابتسم ابتسامة باهتة وأجابها: " ربّما لأنّك مستعدّة الآن لتواجهيني..أو لتواجهي نفسك." شعرت بكلماته تمزّق غلافا رقيقًا داخلها لكن قبل أن تتمكّن من الرّد عليها انطفأت الموسيقى فجأة فأغلقت عينيها كأنّما تخشى فتحهما على الحقيقة، إنّها تخشى أن تفتحهما ولا تجده، أن يتلاشى السّراب الّذي جاهدت كي تتشبّث ببقاءه وهاهي الآن تشعر به ينساب من بين أصابعها. حاولت أن تتخيّل صوت خطواته وهو يغادر اذ لا يمكن أن يتبخّر فجأة. لقد كان هنا منذ لحظات، استمعت بشغف الى أحاديثه وشعرت بلمساته.

"سيّدتي، لا أقصد التّطفّل ولكنّ البرد لا يُحتمل وأنت تقفين هناك منذ ساعة تقريبا، ستتجمدين." جاءها صوت النّادل وهو يطلّ عليها من أمام المقهى كأنّما هو ناطق باسم واقع لا تريده.

" وداعا." همست بصوت يائس ثمّ سارت نحو منزلها وقد استبدّ بها الصّداع. عند اقترابها من مدخل المنزل وبينما هي تجترّ أحداث اللّيلة غير قادرة على التّمييز بين ما حدث ولم يحدث لمحت حنين تقترب منها وقد بدت عليها علامات حزن وتيه شديدين هي الأخرى. استغربت لتواجدها في هذا المكان في وقت متأخّر وتوقّعت أن تتوقّف لتحدّثها أو تطلب الدّخول لكنّ حنين اكتفت بأن حيّتها بابتسامة غامضة ثمّ أكملت الّسير نحو المقهى فتابعتها بنظراتها حتّى رأتها تلجُ إليه..

في المنزل، بحثت بجنون عن شيء يمكن أن يمنحها إجابة عمّا يحصل لها. أيّ ذكرى ملموسة تستطيع أن تنقذها من الانفصال العميق الّذي تشعر به لكنّها لم تهتدِ إلى شيء حتّى تراءى لها صندوق خشبيّ متوسّط الحجم تغطّيه كومة من الملابس. هرعت إليه تفتحه فوجدت به بضع صفحات من جرائد مختلفة. تغيّرت ملامحها المتلهّفة وارتسمت عليها آثار الصّدمة وهي تقرأ الأخبار واحدا تلو الآخر.

"طفلة تنجو من حادثة مروعة داخل منزلها..

 نجت الطّفلة ذات السّتّ سنوات من محاولة اعتداء عليها من قبل والدتها، التي تعاني من إدمان الكحول واضطرابات نفسية. الحادث انتهى بمقتل الأم على يد طليقها، الذي يواجه حاليًّا اتّهامات بالقتل المتعمّد.

نُقلت الطّفلة إلى مركز حماية الأطفال."

"الشّابّة ايزلي تُحدث تغييرا في مجتمع الصّحّة النّفسيّة بفضل طريقتها الّتي تمزج بين الفنون والحديث"

" برنامج الطّبيبة النّفسيّة ايزلي لتقديم الدّعم النّفسي للأطفال المحرومين في المناطق النّائية يحظى بدعم واسع"

استمرّت بالتّقليب بين العناوين والصّفحات المتناثرة حولها حتى استقرت عيناها على عنوان " العدل أيضا يمكن أن يُباع" وعنوان آخر " احدى الشّركات الكبرى تدمّر حياة المئات..و السّلطات تقف مكتوفة اليدين.."

تذكّرت تلك القضيّة الأخيرة الّتي حدّثها عنها مرّات عديدة وقد قادته الى الفاجعة الكبرى.

"تمّ اغتيال الصّحفي الاستقصائي "خليل الحسن" بعد مسيرة اعلامية حافلة مساء هذا اليوم في حادثة هزّت الأوساط الاعلامية والسّياسيّة وقد عُثر عليه مقتولا أمام منزله في ظروف غامضة. واشتهر بشجاعته في فضح الفساد وكشف الحقائق ممّا جعله هدفا محتملا للعديد من الأطراف المتضررة من تحقيقاته."

ارتعدت ايزلي وهي تقرأ الخبر. شعرت وكأنّ الكلمات تتسرّب كجمرات تحرق أعصابها وعقلها. أعادت قراءة السّطور ببطء لعلّ هنالك خطأ ما وهي تتمتم في حيرة "المقال بتاريخ الثالث عشر من ديسمبر 2019 اي منذ ثلاث سنوات! هل مات حقّا؟"

امتلأت عيناها بالدّموع لكنّها لم تبكِ بل جلست في صمت يشبه السّقوط في هاوية لا نهاية لها. وقد جعلت الذّكريات تتدفّق متدافعة في عقلها..

أحسّت باعياء شديد وبرأسها يكاد يسقط عن جسدها من شدّة الصّداع فمشت بخطوات متعثّرة حتّى أدركت السّرير وارتمت عليه كأنّما فقدت الوعي..

فتحت ايزلي عينيها اذ أزعجها النّور السّاطع الّذي تسلّل من النّافذة لينكسر على الجدار مع أوّل خيوط الصّباح. نهضت متثاقلة لتُغلق النّافذة واذ بهاتفها الخلويّ يرنّ. رفعت الخطّ دون أن تتكلّم فتناهى الى مسمعها صوت نسائيّ يقول:

" صباح الخير سيّدة ايزلي. أتّصل لأذكّرك بموعدك مع الطّبيب النّفسيّ هذا اليوم على السّاعة الحادية عشر."

أجابت بصوت مقتضب: " أشكرك."

 أغلقت الهاتف ثم جلست الى النّافذة وجعلت تراقب العالم الخارجي بعينين بلّوريّتين. تبدو الحياة فيه هادئة جدّا وكأنّ لا أحد يلاحظ جنونها. بات واضحا الآن أنّ العاصفة الّتي هبّت البارحة لم تمزّق سواها وأنّ العالم لا يهتمّ بالمعاناة الّتي تعيشها فهي مجرّد شذرة ضئيلة من بين مجموعة لامتناهية من الشّذرات الّتي ترتعش كلّ منها وحيدة وهي تصارع عوالمها الدّاخليّة مع أنّ صورتها الخارجيّة ثابتة. تساءلت في نفسها " هل نحن نخلق الوهم أم الوهم هو الّذي يخلقنا؟"

اتجهت بهدوء الى الأوراق المتناثرة في الغرفة وأخذت تجمعها ثم أعادتها الى الصّندوق دون أن يبدو عليها الاكتراث وبعدها أغلقت جميع النّوافذ. ساد السّكون أرجاء الغرفة ولم يبقَ سوى صوت مقطوعة "الشّتاء" يعصف داخلها كعاصفة هادئة. ثمّ تقدّمت نحو الحمّام ببرود شديد كأنّها تعيش لحظة اعتراف بجميع الآلام الّتي تجاهلتها لسنوات. فتحت الصّنبور ببطء وهي تملأ الحوض وتراقب انعكاس وجهها الّذي بدا يحدّق بها شاحبا كأنّها عائدة من معركة عتيدة. جلست على الحافّة تصغي الى الألحان الأخيرة لهذه المقطوعة الّتي رافقتها مدّة طويلة فبدت وكأنّها تصف فصول حياتها. أخذت نفسا عميقا وقالت"لا أعلم متى بدأ الوهم لكنّني أعلم أين سينتهي."

نهضت بهدوء ودخلت الحوض وغمرت جسدها بالماء. غاصت تحته بلا حركة أو مقاومة وهي تستمع بالسّكون المستمرّ والموسيقى تغمر جميع أرجاء البيت.

انتهت.

***

مريم عبد الجواد - تونس

 

حِينَ تَجِيءْ

تَمْلَأُ بُسْتَانَ اَلدَّهْشَةِ عِطْرًا

ثُمَّ تُضِيءْ

تَأتِي فَجْرًا، وتُغادِرُ ظُهْرًا

تُقْدِمُ سِرًّا، وَ تُبَارِحُ جَهْرًا

وَ إذا ما صَارَتْ وَسْطَ اَلْبُسْتَانْ

تَلْبَسُ طاقيةً للإخفاءِ،

و ذاتَ صَبَاحْ

ضاعَتْ طَاقِيَتُها

لَكِنّا

بَعْدَ مريرِ البحثِ عَرِفْنا

إنَّ هنالِكَ زاجلْ

يأتيها عند ضِفافٍ ظَامِئَةٍ

برسائلَ غامِضَةٍ

لَمْ يَفْتَحْها أحَدٌ

**

فِي يَوْمٍ كَالِحْ

كَانَتْ تُعَولُ فِيهِ اَلرِّيحْ

جَاءَتْ بَاكِيَةً وَهْيَ تَصِيحْ

آهٍ .. آهٍ .. آهٍ .. آهْ

يا أُمًّاهْ:

لَوْ قَتَلُونِي بَدَلاً مِنْ قَتْلِ اَلزَّاجِلِ

لَوْ قَتَلُونِي بَدَلاً مِنْ . . .

لَوْ قَتَلُونِي بَدَلاً . . .

ظَلَّتْ تَبْكِي .. تَبْكِي

لَمْ تَتْرُكْ أَمَلاً

لدُمُوعٍ يَسْفَحُها إِنْسَانْ

وَ دُمُوعٍ يَذْرُفُها بُسْتَانْ

***

شعر: خالد الحلّي

سَــدِدْ خُـطاكَ، وأشّــرْ مـوضِعَ الخـللِ

واسـتـنهِـض الحَـسْـمَ انـقاذاً مِن الزَللِ

*

إمـارةُ الـمُـلْـكِ، كُــرسِـــيٌ قــوائـمُـهُ

تـنهارُ بالســوء والـتـدليـسِ والـهَــزَلِ

*

إحرِصْ عـلى أن تــنامَ العـيـنُ هـادئـةً

لا ظلمَ ..لا سُحْتَ ..لا إخلالَ في العمل

*

إنّ السـيـادةَ فــي الأعــمال تَـرْقــبُـهــا

ســيادةُ الـكوْنِ، فاحـذَرْ كبْـوَةَ الخَـطَـلِ

*

يـبـقى الـسُـموّ بِـعِـز النفـس مُـؤتـلِـقـاً

لافي المظاهـرِ، أو فـي زِيـنَـةِ الحُـلَل

*

إنّ الوِســـامَ عـلى صَـدرٍ يـلـيــقُ بـه

قــوْلاً وفِـعـلاً، لــه حَـظٌ مِــن الأمَــلِ

*

مـَـراتِــبُ الــعِــز، بـالأفـعـال خـالِــدَة

ومَـن يكـن عـالةً، يدنـو مِـن الـشَــللِ

*

مَــنْ يـبـتغي مَـسْـلكا ً يزهو به كَـذِبا ً

يَهْوِي به السوءُ، في دَرْكٍ مِـن العِـللِ

*

قـــد أودَعـوكَ بـمِـلء العـين مِـقودَهـم

اقْـــسَـمْـتَ تَسعى الى الحُسْنى بِلا مَلَلِ

*

فاطْلِـقْ عِـنـانَـك لا تـثـنـيـك جَـعْـجـعـةٌ

ان الـتـرددَ، لا يُـرقـي الــــى الــقُــلَـلِ

*

فالـســيـفُ قـوّتُـه: إيــمانُ مُـمْـسِــكـهِ

والعـيـنُ يُـعـرَفُ مَغْـزاهـا مِـن المُـقَـلِ

*

إنّ الأمانيَّ فـــي تسْــويـف مَـوْعِـدِهــا

يـُهـَـدِدُ الـثـقــةَ الـعـليـاءَ، بـالــفَـــشَــلِ

*

ادْرِك شـراعَـــك، فالأنـظـارُ فـي وَجَــلٍ

مِـن غَـدْرةِ الريـح فاسْـبقهـا على عَجَـلِ

*

ونَـمْ بـعَـيـنٍ، ودَعْ أخـرى عــلى حَــذَرٍ

مِـن مَخْـلب الذئب، أو مِن بِرْكة الوَحَـلِ

***

(على وزن البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

إذا كانَ نهرٌ صغيرٌ لديكَ سيُمسي مجرهْ

وبستانُ نخلٍ ستُصبحُ كونْ

فكيفَ يكونُ لديكَ التقاءُ الفراتينِ نوناً يُجِننُ نونْ

وهُما في الزمانِ كتابٌ

وهُما في المكانِ عيونْ..

***

شعر: كريم الأسدي

............................

 * ملاحظة: زمان ومكان كتابة هذه القصيدة: الرابع والعشرون من كانون الأول (ديسمبر) 2024، في العراق.. ويوم الرابع والعشرين من ديسمبر هو تأريخ ولادة المسيح وتأريخ وفاة السياب في نفس الوقت.

 

قالوا: كَبِرتَ على الغَزَلْ

وعلى أساطِيرِ الغَزَلْ

*

ما العمرُ إلاّ قصةٌ

والحبُّ فصلٌ ما اكتَمَلْ

*

ما زلتُ في وهجِ الصِّبا

والعشقُ في صدري اشتعلْ

*

الحبُّ نبضٌ في الدما  ءِ وإن كَبِرنا، لم يَزَلْ

*

لكِنَّني حُمِّلْتُ حُز  نًا أرهقَ الصدرَ الثَّمِلْ

*

يا ليلُ، هل تهفو النجو  مُ إلى سرابٍ مُكتمِلْ؟

*

أم أنها تبكي اشتيا  قًا للضياءِ المُرتَحِلْ؟

*

يا من يُجادلُ في الهوى

ألَمُ الهوى حلوٌ، عَسَلْ

*

والعشقُ إن ضاقت بنا

دنياهُ يَمنحنا الأملْ

*

وَدَعُوا مَلامَتَكُم، فإنِّـ  ـي بالهوى مَلِكٌ، بَطَلْ

*

ما كان حظّي في الهوى

يمشي على دربِ الزلل

*

ما زلتُ أبحرُ في الخيا  لِ وما ارتضيتُ لهُ بدلْ

*

أوَ يهرمُ العشقُ النبيـ  لُ إذا نأى عنهُ الملل؟

*

قد كنتُ أكتبُ للحسا  نِ قصائدي تحتَ الظُّلَلْ

*

واليومَ أكتبُ للظلا  لِ حديثَ عاشقٍ اعتزَلْ؟

*

يا مَن تُجادلُ في المحبـَّ  ـةِ كيفَ يُنسيكَ الجَدَلْ؟

*

الحبُّ فطرةُ كلِّ قلـ  ـبٍ لا يُقاسُ ويُحتَمَلْ

*

هيا امنحيني من رضا  كِ حكايةً تُنسي الخجلْ؟

*

وَدَعِي بَقايَا العمرِ تَسـ  ـري مثلَ ضوءٍ في المُقَلْ

*

وأعيدي لي صبحَ الربيـ  ـعِ إذا تبدَّلَ وارتحلْ

*

يا من تعيدين الحيا  ةَ بنظرةٍ رغمَ الوجل

*

الحبُّ في صدري قصيـ  ــدٌ قد تغنّى واحتفلْ

*

قلبي كطفلٍ لا يُفيـ  ــقُ مِنَ الأَمانِي، لا يَمَلْ

*

إن كنتُ شيخًا في الزما  نِ ففي الهوى طفلٌ الغَزَلْ

***

بقلم: د. علي الطائي

كتبت بتاريخ 26-12-2024 (مجزوء الكامل)

وحيداً

أتلو آياتِ الرَّحْمَةِ

ومناديلُ الدَّمعِ ثقيلةٌ

أنهَكتها الأيّامْ

وحيداً

أعصرُ الهمَّ

وأُعتِّقهُ في جرارِ البوحِ

والرّوحُ تنثرُ قمحَ الوهمِ

على سهولِ الحاجةِ

وتنامْ

كيفَ لهذا اليأسِ

أنْ يُعربِشَ على جدرانٍ

تَهَشَّمَتْ بوَمضةِ البَرقِ

وباتَتْ أكوامَ ركامٍ ..

رُكامِ الوجوهِ البريئةِ

ركامِ الأصابِعِ المرتَعِشَةِ

ركامِ الأحاديثِ المؤجَّلةِ

ركامِ أُسرةٍ

اجتمَعَتْ على مائدةِ العشاءِ

ركامِ رَجلٍ يَحْتَضِنُ

مولوداً جديداً

ركامِ أُمٍّ تَنْثرُ الغطاءَ

على أطفالِها

خَوفاً منَ الصَّقيعِ

ركامِ الدفاتِرِ والكتبِ

في محفَظَةِ المدرَسَةِ

وركامٍ يَمْسَحُ ملامِحَ وجُودنا

يَتَقيَّأُ مُسْتَقْبلنا

كمدفَعٍ

ويدثِّرنا

بِهَزَّةٍ أرضيَّةٍ وَينامْ ..!

***

سلام البهية السماوي

عودي نهارا ً مُشرقا ً باسما ً

لا ليلة ً عاصفة ً شاتيه ْ

*

عودي كما البُلْبل ُ صدّاحة ً

بالحُب ِّ لا أ ُغنية ً باكيهْ

*

عودي كما كنت ِ فأحْلامُنا

توشك ُ أن ْ تسقط َ في الهاويه ْ

*

لا تؤثري الشك ًّ على حبِّنا

وحاذري من رِيحه ِ العاتيه ْ

*

كما يجئُ الحبُّ في لحظة ٍ

فقدْ يموت ُ الحب ُّ في ثانيه ْ

*

أين َ الحديث ُ العذْب ُ يا حلوتي

وأيْن َ.. أيْن َ البسْمة ُ الصافيه ْ

*

مُنْذ ُ شهور ٍ لَم ْ يَعُدْ حُبّنا

يُلمَس ُ فيه ِ أثر ُ العافيه ْ

*

في لحظة ٍ تَحوّلتْ بغْتة ً

حَمامة ُ الحب ِّ إلى طاغيه ْ

*

مُنْذ ُ شهور ٍ أنْت ِ مهووسة ٌ

أن ْ تصبحي الآمرة َ الناهية

***

..................

القصيــــــدة الثانيـــــــة:

إنّي انتظرتُ بأنْ تعودي نادمهْ

لكنْ رجعتِ كما السماء القاتمهْ

*

مزروعة ً بالرعْدِ والأمطار تنْ

تفضين ّ في وجهي زوابع َ ناقمهْ

*

أنْ تعصفي مثل ّ الرياح ِ وتعبثي

بعواطفي أو أن تعودي غانمهْ

*

هذا الخيارُ رفضتهُ ورفضتُ أنْ

أحيا بغير مشاعري المتناغمهْ

**

لا لنْ يُغامرَ من جديدٍ زورقي

حيث ُ العواصفُ والسماءُ الغائمهْ

*

إنّي عرفت ُ البحْرَ في هيجانهِ

وأخافُ من أمواجهِ المتلاطمهْ

*

لا تذكري الماضي فقدْ ودّعتُهُ

لا توقظي فيَّ الجراح َ النائمهْ

*

لا تُرغميني أنْ أغيّر َ موقفي

لا شئ يُزعجني كنفس ٍ راغمهْ

*

لا تُلبسي الأشياء َ غيْرَ مقاسها

فالشئُ لا يختارُ إلاّ عالمَهْ

*

إنّي مللت ُ من الحكايات التي

نُسِجَت بأخيلةِ النفوسِ الواهمهْ

*

لا تطلبي مِنّي اعترافا ً زائفا ً

انّي ظلمْتُك ِ حيث ُ أنْت ِ الظالمهْ

*

أنا لستُ محتاجا ً لكشف ِ دفاتري

أوْ أنْ أقدّم َ في ذنوبي قائمهْ

*

فات َ الأوان ُ فما الحسابُ بنافعٍ

والقصّةُ اخْتُتِمَتْ بأسوأ خاتمهْ

***

جميل حسين الساعدي

تـأتـيـنـنــي فـي الـحُـلـمِ أمـطـارًا

فـيـعـشـبُ رمـلَ صـحـرائـي

ويـغـسـلُ حـزنـيَ الـمـمـتـدَّ مـن أمـسـي

الـى يـومـي الـعـلـيـلْ

*

وحـمـامـةً تـأتـيـنَ

تُـلـبِـسُـنـي قـمـيـصـًا مـن هـديـلْ

*

وبِـشـارةً عـذراءَ عـن

مـفـتـاحِ قُـفـلِ الـمـسـتـحـيـلْ

*

وتـبـتُّـلاً ..

فـيـعـودُ طـفـلاً شـيـخُ بـاديـةِ الـسـمـاوةِ

خـلـفـهُ يـمـشـي مـن الأزهـارِ جـيـشٌ

والـسـواقـي والـنـخـيـلْ

*

يـطـوي الـفـيـافـي

يـقـتـفـي آثـارَ قـيـس بـنِ الـمُـلـوَّحِ والـسـمـوألِ

والـيـنـابـيـعِ الـتـي ســتُـقـيـمُ غـدرانـًا

وأنـهـرَ سـلـسـبـيـلْ

*

لِـتـقـومَ مـمـلـكـةُ الـمـسَـرَّةِ والـهـوى

فـيـهـا الـنـسـاءُ جـمـيـعـهـنَّ " بُـثـيـنـةٌ "

وجـمـيـعُ حـادٍ فـي مـضـاربِـهـا

" جـمـيـلْ "

*

مـن أيـن أبـتـدئُ الـحـكـايـةَ؟

نـكَّـسـتْ أعـذاقَـهـا غـابـاتُ نـخـلِ الأمَّـتـيـنِ

وفَـرّتِ الـشـطـآنُ مـن أنـهـارهـا

والـمـوجُ فـرَّ

فـلـمْ تـعُـدْ كـالأمسِ دجـلـةُ والـفـراتُ

ولا كـمـا فـي الأمـسِ " نِـيـلْ "

*

أحـتـالُ أحـيـانـًا عـلـى قـلـقـي بــرثـرةٍ

أنـشُّ بـهـا ذئـابَ الـصـمـتِ عـن غزلانِ حـنـجـرتـي ..

أنـا نـهـرٌ بـلا مـاءٍ

وفـانـوسٌ بـلا زيـتٍ

وصـحـراءٌ بـلا كَـمَـإٍ

أنـا الـحَـيُّ الـقـتـيـلْ

*

مـا بـيْ؟

تـوهَّـمـتُ الـمـنـافي سـوف تُـدنـي مـن أبـاريـقـي

الــشــذا والـزنـجـبـيـلْ

*

فـأنـا وأنـتِ

حـكـايـةُ الـرِّيـم الـتـي تـأبـى ســوى

مـرعـى الـشـريـدِ الـسـومـريِّ ..

أنـا وأنـتِ

الـقـوسُ والـسـهـمُ ..

الـصَّـدى والـصـوتُ ..

والـتـنُّـورُ والـمـحـراثُ ..

كـيـفَ إذنْ نـعـيـدُ الـمـوجَ لـلأنـهـارِ؟

والأشـجـارَ لـلـبـسـتـانِ؟

والـصـلـواتِ لـلـمـحـرابِ؟

كـيـف تـقـومُ أوروكُ الـجـديـدةُ؟

كـيـفَ؟

أشـبَـكَـتِ الـدروبُ عـلـى الـشـريـدِ الـسـومـريِّ (*)

ولـم يَـعُـدْ فـي كـأسِـهِ غـيـرُ الـحـبـابِ

ومـنْ سُـلافـةِ عـمـرهِ

إلآ الـقـلـيـلْ

***

يحيى السماوي

السماوة في 27/12/2024

........................

(*): أشبكَ: إختلطَ والتبس ..

 

زفرة من رحمِ العدم، هي ...

صوت في الريحِ يُخبرُنا أنّ الحُلمَ مرهونٌ بالسيرِ فوقَ الجُرح.

ونحن، كطيرٍ بلا عشّ، نبحثُ عن مأوى في سرابِ الأيام...

*

في كلِّ صباحٍ، نلبسُ درعَنا غيرَ المرئيّ،

نخوضُ معاركَ دونَ سيوفٍ أو قرع طبول.

معركةُ البقاءِ ضدّ ظلالِ الخوف،

ومعركةُ الحبّ ضدّ أسوارِ الصمت.

نحنُ الجيوشُ الوحيدةُ في ساحاتٍ يكتنفها الغموض،

حيث لا أعداءَ واضحين، ولا حلفاءَ مخلصين.

*

تُخبرُنا أنّها لا تهدي مجدًا دونَ ألم،

فنُقاتلُ الريحَ بأيدٍ عاريةٍ،

ونصنعُ من العتمةِ أفقًا...

لا نبكي الخطوات المسلوبة، كثيرا .

لأنها عبدت لنا جسر العبورِ.

*

في الطرقاتِ شواهدَ منسيّة،

حجارةً تُنادي بأسرارِ من مرُّوا قبلَنا،

وأشجارًا تعانقُ السماءَ تقولُ:

"اصعدوا، وإن كان السقوطُ محتومًا."

*

نغفو على أجنحة الأسئلةِ،

ونستيقظُ على وسادة الإحباط،

في عمقِ القلبِ شعلةٌ لا تنطفئ.

حُلمُ، جنديُّ أخيرُ ،

يُحاربُ من أجلِ بقائنا أحياء ...

*

في نهايةِ كلِّ معركةٍ،

نتأمّلُ جُثثَ أحلامِنا وندفنُها في ركنٍ خفيّ،

نعلمُ أنّها ستنهضُ في صورةٍ أخرى.

هكذا هي الحياة،

دوائرُ تتشابكُ، وموجاتٌ لا تهدأ،

تحملُنا حينًا، وتُسقطُنا أحيانًا،

لكنّنا، رغمَ كلِّ شيءٍ،

نظلُّ نحيا لنفهمَ المعنى ...

***

مجيدة محمدي - تونس

 

سعى جلال أن يصل إلى جسم عواطف الريان فلم يجد إليه سبيلا، رغم أنه روادها عليه عشرات المرات، ولكنها كانت تتمنع عليه، رغم أنها عاهرة، تعبد اللذة وتهيم بها، وغانية ممعنة في السفه والمجون، ولكنها الآن تسعى أن تكتفي من عشرات الرجال الذين لا يوجد من بينهم جميعاً من يملأ شعاب قلبها بالإعجاب، برجل واحد ينهض بكل ما تحتاج إليه، لقد أزمعت عواطف الموظفة بدار الرعاية الاجتماعية، أن تنصرف عن مغامراتها التي انخرطت فيها بعد أن أخفقت في زيجتها الأولى، لقد تزوجت عواطف زواجا تقليدياً من بن عمها "محسن"، زواجاً مجدباً من كل عاطفة، وخالياً من كل فتون، وفي الحق أنها كانت لا تحس بأي ميل تجاه محسن هذا، وقد صارحته في وقاحة محضة، أنها لا تكن له أي ذرة من الشعور، وأنها تعشق "الدخري"  الرقيب بالمدفعية، لأن الدخري هذا يُحسن كل ما يجهله محسن بن عمها، ولأن له لساناً تعود أن يهضب بالكلام  وهي تنصت، لسان ذرب يستطيع أن يدني كل فتاة منه،  وصدر واسع له قدرة فائقة على الاحتواء، لقد كان صدر الدخري يتسق بناؤه، وتتفق أجزاؤه مع ما تحتاجه عواطف من براكين وأعاصير، لهذا السبب ولغيره من الأسباب، خالفت علاقتها بالدخري العرف أشد المخالفة، فقد وجدت يوماً نفسها بعد أن تاهت مع طيوف الهوى والمرح والاختلاج، ما يجعلها كئيبة ملتاعة، على أن العلاقات لم تنقطع بينها وبين الدخري، بل قاد لأن تمضي في هذا الاختلاط العنيف إلى غير حد، خاصة بعد أن انتفت عنه ضروب الألم والمعاناة التي كانت تجدها.

والأيام التي لا تسير على وتيرة واحدة، أرغمت عواطف على أن تبحث عن "النبيل الحادب" الذي يخمد هذه الأصوات الخافتة التي تتناولها بالغمز والطعن، بعد أن انتهت مسيرة الدخري إلى أدغال الجنوب، لقد سار الدخري متئد الخطى في نظام واطراد، مع كتيبته التي يتبع إليها، إلى ذلك الصقع الحافل بالأهوال والمحن، غاب شبح الدخري الحبيب والعشيق الذي تمنته زوجاً لها، ولم تمضي ثلاثة أشهر حتى ظهر ما ينبغي أن يظهر، فقد دلّ هذا البطن المنتفخ للناس على ما وراءه من حقائق ناصعة، وتبدل الحال بعد هذا العار الذي ألحقته عواطف بأسرتها، فلا هي تطمع في بهرجة، ولا والدها يطمح إلى مهر كبير عاتي، بل احتمل المشقة والعناء حتى يقنع محسن بن أخيه بأن يرضى بأمر لا يرضاه الناس في يسر وسهولة، وقد همّ محسن أن يرد معتذراً إلى عمه، ولكنه تذكر رفض عواطف له، وزهدها فيه، وسخريتها منه، فوافق أن يستر على ابنه عمه، و حتى لا تمض هذه الأسرة الغضاضة، ويهون بهم الناس أشد التهوين، انتقلت إلى بيت بعيد إلى أقصى غايات البعد من تلك الحارة التي كانت تختصم وتحتكم في قصة بنتها.

ومحسن الذي كان متواضع في كل شيء، متواضع في فهمه ودرايته، وفي مظهره وهيئته، وفي رجولته وفحولته، أظهر الرضا والاذعان للحاجة "الرضية" والدة عواطف التي أخضعت ابنتها لسلسة من النكبات، أفضت هذه النكبات لاجهاض جنينها، واستئصال رحمها، وعواطف التي اتصل بسمعها، وانتهى إلى عقلها، ما يصك الأسماع، ويوهي العقول، أمست تستقبل أيامها، بالوجه العابس، والنفس الملتاعة، والصدر الضيق، والغيظ الحانق على الدخري الذي أهداها كل هذا البؤس الذي تحفل به حياتها الآن، لم يدور في ذهنها قط أن قصتها التي ملأت عقول الناس بالعظات والعبر، يمكن أن تنتهي بها إلى أن تحرمها من الأمومة التي لا سبيل إليها بعد الآن، لقد كان من العسير على عواطف المشرئبة للأمومة منذ أن استدار جسدها، واكتملت أنوثتها، أن تطرد هذه الأخيلة والصور، والعواطف المختلطة، التي كانت تثيرها في نفسها حقيقة عدم مقدرتها على الانجاب، ولم يكن عجزها عن الولادة هو المأساة الوحيدة في حياتها، فزوجها محسن الذي لم يجد تسلية تلهيه، وترضيه، سوى أن يهوي بالسوط على ظهرها في كل غداة وعتمة، كان يعنفها ويضربها ويسرف في ضربها، حتى أوشك أن ينهي تلك العيدان الباسقة التي كانت تعج بها  شجرة "النيم" القائمة في منزلهم المتهالك الذي استأجره بمبلغ زهيد، وهو في ضربه إياها يجد التشجيع من والدها الناقم والساخط عليها، والدها الذي أوشك أن يجهز عليها بالسيف لولا توسلات زوجته" الرضية"، والرجاء يعمل في النفوس، ويغريها، ويبعث فيها الحركة بالصفح والتجاوز.

 لقد كانت حياة عواطف مع زوجها جحيماً لا يطاق، فقد كان لا يتحدث معها إلا حينما تدعوه الضرورة الماسة إلى الحديث، ولا يقربها إلا بعد مجاهدة وعنف، وكان أكثر ما يهجم عليه، ويمضي فيه، هو جريرتها التي ارتكبتها مع الدخري عشيقها الذي فضلته عليه، لقد أمسى محسن زوجها خصماً مخيفا عنيفا، وباتت تفكر جادة كيف تفر من حياته الحافلة بالعذاب، لقد كان لا يفعل شيئاً غير أن يغض منها، ويهون بها، ويترك آثار كفه الجاف على خدها، لقد كان محسن يعطيها أكثر ما يستطيع أن يعطيها من عصبيته ومزاجه الحاد، لقد عجز حقاً أن يتغاضى عن علاقتها السابقة بالدخري، فذكراها  تجدد سخطه، وتدفعه لأن يأخذ على نفسه عهداً بالإجادة في تعذيبها والتنكيل بها، و"عواطف" حتى تنجو من كل هذه الخطوب، عرضت على زوجها الفارك لها، بريق المادة التي أغرته بها، ورغبته فيها، حتى رضخ، واشترطت عليه أنها لن تدفع له كل ما كان يستودعه عندها الدخري من أجل الاقتران بها، إلا حين يسافر معها إلى مقر عملها الجديد في مدينة من مدن السودان الواقعة على ضفاف النيل في أقصى الشمال، فهي تعلم جلياً أن والدها سيقف حجرة عثرة في طريقها، وأنه سيمنعها عن العمل، وعن الخروج من المنزل، وسيجاهد جهاداً واصباً من أجل أن يكرهها على البقاء في غرفتها الضيقة اكراها.

وفي صباح يوم مشرق، امتطت هي ومحسن القطار المتجه إلى الشمال، وغادرت العاصمة الحافلة بضروب الجشع، وفنون النفاق، وهناك في تلك المدينة الهادئة الوادعة، استلمت وظيفتها الجديدة، واستمتعت بالنغم العذب، واللحن البهيج، بعد أن أوصدت باب معاناتها إلى الأبد، وحتى تريح نفسها، وتفرغ بالها، من عنت حياتها السابقة، أخذت تشجع نفسها على الإقدام، ولكن الأمر أعسر من هذا كله وأشد حرجا، فمن ذا الذي يوافق أن يتزوج من إمرأة لن يكون لها حظ من انجاب، من هو الذي يستطيع أن يهمل حقه حتى يموت، وبعد أن فرضت هذه الحقيقة التي لا تستطيع لها تغييراً ولا تبديلا، قناعاتها على ذهنها المكدود، أضحت وتيرة نزواتها  تضطرم ولا تخبو، أمسى شيطانها هو الذي يقود ذمامها، ويجعلها تعصى خالقها بالذنب المستمر الطويل، صارت عواطف تتردد على شقق كل من تعرفهم، بل تمضي الليل حتى مع من لم تعرفهم، أو تسمع من حديثهم شيئا، يكفي أن تقف في ناصية من نواصي الطرق الحالكة، فيأتي أحدهم بسيارته الفارهة لتصير فريسته التي لا يرفق بها، أو يعطف عليها، أو يحسن الرأي فيها، بعد أن يسدل الستار على قصته معها.

وعواطف التي أمست هدفاً للشريحة المترفة من سُكان تلك المدينة، فهم يطمعون فيها، ويطمحون إليها، لم تنكر شيئاً من علاقاتها المتعددة بأصحاب الشركات والأرصدة، فمزاجها يُعنى بتلك الطائفة التي منحتها الأقدار وجاهة المظهر، وفراهة المركب، ورفاهية العيش، ولم يسبق لها أن صدت ثرياً منهم سعى أن يستدرجها إلى مخدعه، عدا جلال، ذلك الثري الفائق الثراء، الذي يسعى دوما وراء كل امرأة حسناء مكتظة الجسم، وهي لا تدري على وجه التحديد لماذا تذود سعيه وتهالكه عليها بالفتور والاهمال، قد يكون مأخذها عليه، أنه طلبها في وضوح وسفور، ولم يكن من أصحاب اللباقة والظرف والكياسة في كيفية عرض الطلب، كما أن وجهه الشاحب، وأنفاسه التي تفوح منها رائحة الخمر، جعلها ترفض عرضه وتتمسك بالرفض، ولكن جلال كان مصمماً على أن ينال ما يبتغيه منها، فكان يتراءى لها في معظم الأماكن التي تتردد هي عليها، وحدث وأن حضر إليها في مقر عملها، ولكنها استخفت عنه، وبعد أن ضيق عليها الخناق قالت له بعد أن انتظرته أمام مقر شركته: "أنها أغرقت نفسها في هذا التفكير الذي جعلها تبغض حياتها تلك، وأن تسعى جادة في الزواج من رجل يلتمس لها داراً جديدة، ويأخذها بضروب الدعة والراحة، وينسيها كل تلك الأهوال التي ألمت بها". فوافق جلال دون أن يأخذ نفسه بالروية والتفكير، ولكن موافقته تلك كانت مقرونة بشرط، والشرط يتمثل في أن تستقيل من وظيفتها تلك، وأن تترك هذه المدينة التي سيشقوا فيها بألم الذكرى، ومرارة المعرفة، وفداحة التهكم.

وبعد أيام وجدت عواطف نفسها في الخرطوم مجدداً، ولكن في شقة واسعة جميلة، بهذه الشقة فتاة صغيرة بريئة، لم تكمل أعوامها الخمس، فتاة تثير في نفس كل من رأها الإعجاب والدهش، هذه الفتاة هي حفيدة زوجها جلال، الذي أضحى يستمتع معها بلذة التغاضي، وحلاوة الغفلة، و نعيم التجاوز، فجلال ضاق بهذه الوحدة التي أيقن أنها ستفنيه، وتبرم من حياته الجامحة التي أوشك أن يقنط من أن تترك له قلباً طاهراً، وضميراً حي، لقد كان الملياردير جلال يريد فعلاً أن يعتزل هذه الحياة الخاوية الحافلة بالضجر، والضيق، والفراغ، رغم ما يشوبها من لذة.

 جلال يؤثر عواطف الآن بهذا الحب، لأنه التمس الصدق في حديثها، ولأنها أظهرت له السمة الدالة على الحياة المتزنة الخالية من أوضار الانحراف، ولأنها ترعى بنت ابنه الوحيد الذي غاب رسمه عن الوجود، ولده الذي لقى حتفه هو وزوجته في حادث مروري قبل عدة أعوام، عواطف إذن استرقت قلب جلال بعاطفتها الملتهبة، وحسها القوي، ومشاعرها المتدفقة، وبحدبها وحنيتها ورعايتها" لرؤي" حفيدته الجميلة.

***

د. الطيب النقر

 

أمنيتي

عامٌ كقلبكِ

وأيامٌ كابتسامتِك

وبعدَها

فليعلنوا دفني،

بين رمشيكِ

أو شفتيكِ

أو

قطرةِ ندًى

أو

أو

قطرة تتخمرُ

من الذكرى

بين يديكِ.

***

كريم شنشل

 

الإهداء إلى: إميل سيوران

***

ابتعدي عني

أنا هناك،

لأحب زهور الموتى

والسفر في الأساطير

كأي كائن حزين،

أقرأ دوري عن صمت

لأن المشهد لا يشبهك

وأنت هنا،

حوار بين قناعين،

جسد يعلوه جسد

ومرآة تعكس المسرحية

*

لا تسيئي فهمي

لأني لا أحبك

أخبرتك آخر فصل

أن الخريف لا يغادرني

يحين فيّ كل حين،

من يحمله عني

وكل وجه ترتدين،

له صفة رمادية

*

أكلما حاورت عزلتي

ينتابني أنا الكئيب،

متى أحتمل الاندهاش

من المألوف؟

وما المغزى من الفوضى؟

قد تعتاد صخرة

على جمودها

أما الحركة،

فرفض المعنى للاعتيادية

*

يأسي معي

أنفض خطاه

يطارد خطاي،

والليل بدخلي قديم

قبل ميلاد الجريمة

يناديني من جوف ليلي

متى تكف أيها السوداوي؟

عن محاصرة الأشياء

وتستريح من عقدة

وضوح يديك

وتلقي عنك الهوية

*

وكباقي السطحي

تمارس الفراغ

بكل ما أتيت من اليومي

تتباهى،

تحاول الصوري،

تقلد،

ترتدي قناعا،

تخون،

لا تحب سواك،

تمشي وقاحة،

تشاهد التلفاز،

تصفق للمادي،

تبيعك لمن،

تظن أنك،

تتابع أخبار النجوم،

تستهلك التفاهة،

تعتاد الآخرين فيك،

تضحك بأعلى صخبك،

وتلغي الخصوصية

رويدا رويدا

بجرعات ودية

***

فؤاد ناجيمي

توقّف قُبالة مرآته الحبيبة في غرفته الوحيدة منذ رحلت والدته قبل ثلاثة أعوام.. لم يقف مثل تلك الوقفة. لمع في ذهنه موعده بعد حوالي الساعة مع معللته بالوصل الفني والانتيمي، سوّى شعره على طريقة محبوبه الابدي الفنان الأمريكي.. العالمي الفيس برسلي، أرسل ابتسامة تعمّد أن يجعلها اقرب ما يمكن من ابتسامة محبوبه الخالد ذاك. صدح بصوته العربي ولكنته الإنجليزية بمقطع من أغنية حّبّ اشتهر هو أيضًا بها أيام العزّ عندما كان يعتلي المنصات ويبهر السيدات والبنات. صوته ما زال قويًا بل قد يكون في مستوى صوت الفيس، ولماذا لا يكون كذلك. ألم يسمع كلمات الاعجاب به وبصوته الرنّان خلال فترة نافت على العقد ونصف العقد.. وما زالت ماثلة في ذهنه كلّ يوم وكلّ ساعة. رغم أنه توقّف عن الغناء منذ نحو الثلاثة عقود.. لأسباب لا يحبّ أن يذكرها.. لكثرة ما اشتملت عليه من عازفين حساد أرادوا عرقلة مسيرته الصاروخية.. فانفضّوا من حوله. تاركين إياه وحيدًا يعيش على ذكرى أيام مضت. وأفراح لمعت كباقي الوشم في ظاهر اليد. صحيح أنه تحدى الجميع وصمد فترة من الزمن بعد انفضاض أولئك عنه غيظًا وحسدًا ونكاية.. هو الفنان الخلّاب الجميل الذي ادخل الاغنية الأجنبية إلى بلدته المقدّسة.. فأطرب من لا تطرب وأشجى من ليس بها شجى!! كانت تلك السنوات وأيامها العذاب هي الاجمل في حياته.. ورغم أنه قضى كلّ تلك السنين يحيا وحيدًا إلى جانب والدته المحبة (رحمها الله)، فان الامل لم يغادره يومًا وخالجه في أنه سيعود وسوف يتابع رحلته الصاروخية في دنيا الفن والغناء العالمي.

ابتعد عن مرآته.. حبيبته الأبدية المعلّقة في صدر غرفته، سار بخطوات وئيدة ميّزته هو العازب الابدي ورفعت أسهمه في عالم الجميلات الفاتنات، في أيام العزّ خاصة. لمعت في خياله صورة تلك الأجنبية الزائرة العاملة الجديدة في مدينة البشارة، فدنا من باب خزانته العتيقة. تناول قميصًا تعمّد أن يكون واسعًا فضفاضًا ليظهر جمالياته هو الفنان المُغنّي على لياقته البدنية بانتظار الجولة الثانية من جولات خوضه بحيرة الفن الهادئة سطحًا الموّارة بالصخب والعنف عمقًا.. طولًا وعرضًا. ثم مدّ يده بتؤدة باحثًا عن بنطلونه المزركش على طريقة فناني هذه الايام. "مؤكد أن هذا البنطلون سيسحر تلك التي سيلتقي بها بعد قليل في المركز الإنجليزي الثقافي في المدينة. بحث وبحث وبحث.. لم يجد بنطلونه. مؤكد أن صديقه تلميذه المعجب به الفنان الهاوي السائر على طريقه قد غافله وأخذه. ربّما رغبة وتأملًا. لقد رأى دائمًا في ذلك الشاب استمرارًا له، لهذا لم تستول عليه فكرة السرقة بقدر ما نبقت في ذهنه فكرة المحبّة. أضف إلى هذا اعتقاده الجازم أن ذلك الشاب ينتمي إلى الجيل الجديد. وأنه يختلف عنه.. في وقاحته وصلافته وقلة خجله.. في أن يفعل كلّ شيء من أجل الوصول الى المنصّات العربية والعالمية دون خشية أن يخسر شيئًا. ليته كان واحدًا من هؤلاء ليته كان فنانًا بلا تاريخ لتنازل قليلًا عن عناده ولحاول اللحاق بالركب لكن على طريقته الخاصة.. طريق القيم العالية والمبادئ السامية.. وليس طريق التسرّع والجنون.

تمعّن في الساعة الكبيرة القديمة المُثبتة قُبالة مرآته الوفية المخلصة، كان الوقت يجري كأنما هو موجة تلحق موجة في رغبة منها لان تطالها. "الوقت يمضي بسرعة"، قال لنفسه، وتابع:" أنا يجب أن أرتدي أي بنطلون آخر.. لا يمكن أن أفوّت موعد لقائي.. بوابة مستقبلي ووجودي، السكرتيرة الجديدة للمعهد الإنجليزي. لقد ألتقى بتلك السكرتيرة في احتفال أقامه أصدقاء له في البلدة اليهودية المجاورة، وهو ما زال يتذكّر، وهل ينسى؟، لحظة اعتلى منصة الغناء، بعد أن دعاه صديق له لتقديم وصلة من الاغاني الامريكية.. كانت تلك من أجمل اللحظات، فقد تمعّن في وجوه الحاضرين.. الحاضرات تحديدًا.. وصدح بصوته القوي رغم التقاعد القسري طوال الأيام والسنين الماضية.. لقد لفت اهتمام تلك المرأة انتباهه. لهذا ما إن ترجّل عن المنصة. حتى صب اهتمامه كله على تلك المعجبة الإنجليزية في مدينة البشارة ..متجاهلًا ارتقاء الفنان الشاب مرافقه المنصة مثل فارس عهد النوادي واسرارها. وراح يصدح بصوته الشبابي. لقد كان عليه أن يصبّ جُماع اهتمامه على تلك السكرتيرة الجديدة للمركز الثقافي الإنجليزي في البلد. أما ضحكتها فقد أوحت له أن الأبواب المغلقة قد فتحت أمامه، فنًا وغرامًا، وزاد انفتاح الأبواب الموصدة أكثر فأكثر عندما اقترحت عليه زيارتها الموعودة.

أرسل الفيس العربي نظراته الصقرية نحو الساعة ذاتها.. "الوقت يمضي بسرعة"، قال وأضاف" عليّ أن أكون دقيقًا في الموعد فالإنجليز لا سيّما في بلاد العرب وبين ظهراني أبنائهم يقيّمون الانسان، خاصة الفنان وفق التزامه بالمواعيد.

وجرى باتجاه المركز.

بعد كدّ وتعب توقّف قُبالة مبنى المركز الإنجليزي. أزال العرق من على وجهه.. سوّى ملابسه. "القميص في عالم والبنطلون في عالم". قال لنفسه. وفكر لحظة في العودة وتأجيل الموعد. إلا أن رغبته المعمرة دفعته لأن يمضي باتجاه مدخل المركز. الصوت المنبعث من غرفة السكرتيرة دفعه للتوقف والاقتراب من باب غرفتها ليرى من شق الباب الموارب تلميذه النجيب.. وقد ارتدى بنطلونه ذاته.. واضعًا رجلًا على رجل ومتحدّثًا بثقة لا حدود لها.. فكر إزاء تلك الكارثة الجديدة ماذا بإمكانه أن يفعل.. يدخل إلى غرفة السكرتيرة ليعلمها درسًا بالعربية مفاده أنه لا يجوز دعوة فنانين في وقت واحد؟.. أم ينتظر تلميذه العاق لينتزع من على نصفه الأسفل بنطلونه العزيز الغالي.. بعد أن استمع إلى صوت تلميذه الشاب يغني داخل الغرفة بقوة.. جرأة وشجاعة.. كان لا بدّ له من العودة من حيث أتي.. حالمًا بانتظار فرصة قادمة.

***

قصة: ناجي ظاهر

"معظم حياتنا مصادفات، ترتبط بأحداث لا علم لنا بوقائعها، وإن كُنّا نسعى لِتدبّر أَمرها بترتيب سياقاتها، هي الحَياة هكذا فَهْمها عَصِي على المرء مهما ادّعى القدرة على حل شفرتها وتفكيك مخرجاتها، وأنا طيلة سنوات عمري الماضية عشت فصولا متربطة ألهتُ وراء وَهْمِ الإحَاطة بِشَواردها وأَلجِمَتها، لكنني فجأة وفي لحظة سَهْو غريبة وجدتني أزيغُ عن جادة الصواب وأفقد البوصلة، فبعد أن كنت " رأسا" صرت "قدمين".

أنا علال بن مثقال المفوض القضائي الذي كان يطرق أبواب الناس حاملا لهم استدعاءات المحاكم، وأُوافِيهم  برسائل التَّبليغ والإشهار، ويتهافت المتنازعون على طلب خدماته، أفقد على حين غرَّة هذه الصفة، وأنقلب إلى مشبوه متورط في قضية تَزوير مُلفّقة انتهت بي إلى العزل، بعد الصَّدمة جاءت الصَّحوة، وإذا بِي دون مورد عيْش، وقَلبتْ لي الأيام ظَهر المجن، وانفضّ من حولي المتهافتون، وطلبت عَقيلتي الطَّلاق وهي غير نَادمة، وعندما ناقشتها في الأمر صَمَّتِ الأذان، فكأنها الحَجر الصَّلد، لا جواب ولا تجاوب، إلا  الخذلان وخيبة الأمل، قتلتني بدم بارد ولم تَرْع عشرة ولا تذكّرت ما فات بيننا من محبّة ومودة، فارقتها وآلتْ إليها حضانة ابنتينا، ومضيت إلى حال سبيلي أبحث عن مخرجات لوضعي المتأزم علّني أعثر على ما يعيد لنفسي نقاء  وبساطة الأمس ويضمن لي فرصا جيدة تُجنبني براثن الانهيار"

كانت الظروف أقوى من علال بن مثقال، ولم ترحم ضعفه، واضطرته للنزول درجة ثم درجات، وحتى يستطيع أن يضمن لنفسه سيرورة مأمونة، رضِي بالعمل حارس أمنٍ خاص لضيعة واحد من علية القوم، معروف بأنه رجل أعمال وسياسة، استقل بمسكن ملاصق لمدخل الضيعة يحرس بابها، ويراقب الداخلين والخارجين، ويقدم يوميا تقريرا سرّيا لمُسيِّر الضَّيعة وهو كهل ضخم الجثة يتعامل بصرامة وحزم مع كل المشتغلين تحت إمرته   ، ولا يتردد في معاقبة كل من يخرج عن السطر من منظوره، كان شعاره الدائم:" شوف واسكت، واللي تكلم يرعف"، كان على علال القبول بهذا الوضع والرضى بهذا المستجدّ، فهو صامت يرى ويسمع ولا يتدخل في أمر، البندقية الخماسية على ظهره وحزام الذخيرة يُمنْطِقُ وسطه، وهو أشبه بمقاتل يذرع المكان يحفظ الأمن و يحمي الدِيَّار، وينفذ التَّعليمات الصَّادرة إليه من مشغليه الذين أطعموه من جوع وأمنوه من خوف في زمن تنكر فيه له الجميع.

" الانتقال من وضع إلى أخر يفرض القبول بِسياقاته والتعامل بمرونة مع مخْرجَاته، أنا اليوم حارسٌ ملازم للضيعة، لا أغادر المكان إلا لماما لقضاء بعض الأغراض الشخصية بالتجمع السَّكني القريب من الضيعة الذي يَضُم مقر القِيّادة والمستوصف الصحي ومؤسسات تعليمية، وبنايات إدارية أخرى و بعض المقاهي والمحلات التِّجارية ومَحطَّة التَّزود بالبِنزين، وأيضا مجموعات سكنية، هناك كنت أجلس في مقهى مجاور لمحطة سيارات الأجرة التي كانت تُقِلُّ بعض الموظفين والمستخدمين الذين يتنقلون بشكل يومي للمدينة، وكذلك أهالي المنطقة الذين يقصدون المدينة لقضاء بعض الأغراض، جلوسي في المقهى كان أشبه بطقس مقدس، أشرب فنجان قهوة وأدخن سيجارة أو أكثر ، وأعيش متعة الذِّكرى دون قيد أو شرط، أشاهد بعض الفيديوهات التي تؤرخ للحظات صفو وفرح صحبة أسرتي، فتدمع عينيّ، ويشتدّ ألم الفراق ووقع التَّنائي على فؤادي، فأحس بكل هموم الدنّيا تُسَيِّجني وتمنعني من الفعل أو ردِّه، فلا أجد مناصا من الهروب إلى الإمام، فأبتاع لتراً من النبيذ الأحمر وأقْفِل راجعا إلى الضيعة لأقتل ذلك الوعي الشّقيّ الذي يحرك داخلي الرغبة في فعل أي شيء يغير واقعي المرّ".

في ليلة باردة من ليالي شهر دجنبر، سمع علال وهو خلف باب الضيعة الضخم صوت منبه سيارة، أسرع يفتح الباب فاندفعت ثلاث سيارات فاخرة إلى داخل الضيعة، اتصل بسرعة عن طريق جهاز الطولكي وُلْكِي بالكهل الضخم يخبره بوصول السيارات الثلاث، ثم أسرع يغلق الباب، ويجلس أمَام باب البيت الذي يعيش به، وهو يدندن بلحن شعبِيٍّ، ويَصُب لِنفسه كأسَ نبيذٍ تلو الأخر ويَشْرب بانتشاء لا حدود له حتى وأن كان ممزوجا بِمَرارة دفينة، وشعور بالغبن، قطعاً عَمله الحَالي لا يزيد هذا الشعور بالغبن إلّا تفشيا وتمددا وسيطرة على أعصابه المنفلتة. تَبّاً للأيام ! ناموسها جائِر ومَبْنِي على غِيّاب الاِنْصاف لأَمْثاله مِمن ضَاعَت مِنهم البَوْصلة وَفَقدوا الاِتجاه، هناك على مسافة يَسيرة مِنه دَاخل البِناية الضخمة التي تنتصب شامخة وسط الضَّيعة، عالمٌ أخر غَيْر عالمهِ

وبَشَرٌ من طينة أخرى يمارسون طقوسا ليلية غريبة، حَدَّثَهُ الكهل الضخم عن بعض فصولها، وأخبره أنهم يدمنون على استهلاك

" الغبرة" و يقدمون على المحارم دون وازع ولا تعفف. " لا تغرنّك ربطات العنق والبِدل الأنيقة، ولا الفساتين المثيرة، فهم مجرد أنجاس أنذال، ونحن معهم هنا فقط من أجل لقمة العيش".

 تهادى إلى أسماعه صَوت الموسيقى الشعبية الرَّاقصة القادمة من البناية الضخمة، حركت "سواكنهُ" وأيقظت شُجونه فتمايل مع اِيقاعاتها وهو يرقص بفرح طفل، له عالمه ولهم عالمهم، هم غارقون في مجونهم وجنونهم، وهو غارق في حيرته و لوعته،

هُوَ وهُمْ على طرفي نقيض، لكن رغم ذلك فهم يتقاسمون معه المكان ويشاركونه الزَّمن، وعليه أن يتقبل الوضع كما هو دون مُهاوَدة.

"  أُحِسّني ذاتا مُتشظية بِلا هوية، أُحِسُّني روحا تائِهة تَبحث عن الحقيقة دُون جدوى ،الغُبن يَأتيني في صور شتى ، يَقتل في وَهَج التَّفكير ، ويدفع بي إلى آتون الغُربة ،أنا لست أنا ، والزمن أجبرني على الهبوط درجات ،ليس مهما كيف ؟ لكنه الواقع المُرُّ يُبَدّدُ كُلّ الأحلام ،-إن كَان يَحق لأمثالي أن يَحْلُموا- ويضعني في سِيَّاقَات مُضْطربة لِقصّة ركيكة كُتبت بِقَلمٍ ناشز.

 من كتب هذه القصة؟ وكيف نسج خُيوطها ، ورسْم مَساراتها؟  ثُمّ أجْبرني على تَقمص شَخْصيتها الرئِيسية ، وأسند لي دون رغبة منّي دَوْرَ الرّاوي ،وفرض عَليّ التَّماهي التام في ممارسة الدَّوْرَين ، دور الفِعْلِ ودور الحَكْي ،وتلك بحق المُعادلة الصَّعبة الَّتِي يصعب تَحقيقها دُون مُعاناة وآلَام ، في ظِلّ الإكراهات الحياتية التي تعترض الأحداث والوقائع وتطورها .هل من المفروض أن أُرغَم على سِلْبِيَّةٍ في الحَكي والموقف، وأُمارسَ على نفسي درجات قُصوى من جَلد الذَّات ؟؟ هل من العَدل الخُضُوع لِنَزوات المجهولِ ورغبات جماعة ضَالَّة تَتَسلَّى بِهموم أمثالي ممن هُم بالنِّسبة لأفرادها مُجرد بيادق على رُقعة الشَّطرنج مُسخَّرين للدفاع الرؤوس الكبيرة؟ لَست أَدري فَأنا  مُجرد شخصية مُقيّدة بأحداث معينة ، في زمن معين ، ومكان مُحدد قد يَضِيق وقد يتسع ،وليس أمامي إلا الرقص على الحبال، والتدحرج من قمم الجبال إلى سفوحها، بحثا عن حقيقة لا توجد إلا في عوالم الافتراض."

تَوقَّفت الموسيقى الشَّعبية فجأة، وحَلَّتْ مَحلَّها مُوسيقى غربية ذات أنغام رومانسية، أعادته سَنَوَاتٍ إلى الخلف، تَذَكَّر أنه اِستمع إليها من قبلُ، ربما في مرحلة المراهقة أو بداية الشباب، المهم أنها تنتمي للزَّمن الماضي، قَدَحَ زِنَادَ الفِكر ردحا من الوقت، فعادت إلى ذهنه ذِكرى استماعه لهذه الموسيقى خلال سبعينيات القرن المنصرم، عند حضوره عرض فيلم التَّانْغُو الأَخير فِي باريس

 الذي أخرجه برناردو بِرتُولُوتْشِي، وتَبَوَّءَ بُطُولته مَارلُون برَانْدُو،  ومَاريَّا شَنَايْدر، يَتَذكّر أَنّه بحث عن صاحب الموسيقى خلال تلك الفترة فعرف أن اسمه غاتُو بَارْبِييري الأرجنتيني الجنسية.

أنغام الموسيقى ذكرته أيضا بالمشاهد الإيروتيكية لبراندو وشنايدر والتي تسبَّبت له في  تهيج جنسي دفعه للاستمناء بالمرافق الصحية لقاعة السينما لتصريف ذلك الشبق الذي داهمه.

"موسيقى التانغو الأخير في باريس تشهد أن الكثير من سنوات عمري قد انفلتت في غفلة منّي، دون أن أعيشها بالشكل الذي يُرضي ذائقتي ويحقق لي متعة الحياة."

تجاوز الذِّكرى، وهو يتحسس بندقيته، لامستْ يَداه قطرات النّدى الناتجة عن الضباب الكثيف الذي كان يُوشِّح عتمة الليل، الموسيقى لاتزال تُبدّد السّكون المخيم على المكان، لكنها سرعان ما اقْترنت بصراخ قويّ وعويل زادتْ حِدّته فجأة وأصبح مسموعا بدرجة غَطَّت على الموسيقى، اِلتفت نحو مصدر الصّوت الصاخب، فُوجئ بسيدة شَابّة تَشي مَلامُحها بأنها أجنبيّة وهي عَاريّة تماما، كانت تبدو مَرعوبة وخَائفة، أزال معطفه وأسرع يُغطيها، ثم أدخلها بيته، كانت ترتجف وتبكي بمرارة، سألها عن سبب خوفها، ترددت لحظة ، ثم قالت بعد أن استجمعت أنفاسها: " لقد اغتصبوني بوحشية، وضربوا خطيبي حتى أغمِيّ عليه، إنهم وحوش وليسوا بشرا، هم مدمنون ومرضى نفسانيون، لم أكن أظن أن حضوري لهذا الحفل سينقلب لمأساة".

طمأنها، وطلب منها المُكوث بالبَيت حتى يُخلِّص خطيبها من بين أيديهم، خرج حاملا بندقيته في وضعية استعداد وتربص، وجد الكهل صاحب الجسم الضخم واقفا أمام باب بيته، خاطبة بصوت حازم:

-ماذا تريد؟؟

-سيد الضيعة يريد الفتاة الأجنبية 

-الفتاة في وضعية حرجة وخطيبها مغمى عليه، علينا الاتصال برجال الدرك

-هذا ليس من اختصاصنا نحن مجرد مستخدمين، وعلينا احترام قواعد اللعبة وعدم الخروج عن السطر.

-يا صديقي أنا خسرت عملي و أسرتي وكرامتي لكنني لن أخسر مروءتي وأتخلى عن انسان يحتاج للمساعدة.

لوّح ببندقيته في وجه الكهل، فتراجع هذا الأخير، تجاوزه متجها نحو البناية الضخمة.

"هذا ليس زمننا، لكنه زمنهم يكتبون فصوله بدمنا، ويطالبوننا بالصمت، بالسكوت عن حقارتهم، عن وضاعتهم"

سار واثق الخُطى باتجاه المبنى، صوتُ الموسيقى يرتفع كلما تقدم، كان يجتهد في تهدئة نفسه، ويكرر لها أنّه على حق، ومواجهة الظلم فرض عين عليه، ولا يمكن أن يتساهل مع هؤلاء الأوغاد،

واصل السير حتى اقتحم باب البناية الضخم، وجد نفسه في سرداب طويل مضاء بمصابيح النيون، سمع لغطا قويا يتناهى من داخل الصالة الفسيحة التي يُفضي إليها السرداب، تحسّسَ زناد البندقية، ثم اندفع إلى داخل الصالة، كان يجلسون في أوضاع مختلفة على الأرائك المصطفة في أوضاع متباينة وأمامهم موائد من خشب الزان، تصطف عليها قنينات الخمور وأوني المكسرات والزيتون المخلوط بالهرِيسة والخيار المُخلل، كان خطيب الأجنبية ملقى على ظهره فوق إحدى السجادات وهو في حالة إغماء، تقدم بهدوء نحوهم وخاطبهم بصوت غاضب قائلا:

-ظاهركم طيبة ومروءة وباطنكم كذب ونفاق، ما أنتم إلا جماعة ضالة ماجنة، وتأديبكم فرض عين شرعا وقانونا.

صفق مالك الضيعة واستقام واقفا وملامح وجهه تشي بغضب وقال بصوت حاد:

-يبدو أنك نسيت نفسك أيها الجرذ المطرود، لا تنس أننا أطعمناك من جوع وأويناك من خوف، في وقت تنكّر لك فيه كل من حولك

-أنا علال بن مثقال لن أتنكر لمبادئي ولن أخسر مروءتي لمجرد حصولي على وظيفة حارس لمجونكم وضلالكم

-ما هي مطالبك؟

-لا مطالب لي سوى طلب رجال الدرك ونقل خطيب الشابة الأجنبية للمشفى

زادت حدة غضب صاحب الضيعة، وناصره في هذا الأمر جماعته المفروض أنهم من صفوة المجتمع، وحمي وطيس احتجاجهم على علال، كانوا من الجنسين ذكورا وإناثا، وبينهم جنس ثالث "اختلت موازينه"، صرخوا في وجهه، قالوا له بأنه " مجرد حشرة" وأن وجوده كَعَدَمه، وأنهم أسياد وهو عبد " مشرّط لحناك"، لم يحفل علال باحتجاجاتهم ولا صراخهم، ولوح ببندقيته صوبهم وهو يشفع حركته بصيحات استهجان على ردّ فعلهم، ثم اقترب بشكل مفاجئ من مالك الضيعة ووضع فوهة البندقية على عنقه، وطالبه بإخراج هاتفه النقال والاتصال بالدرك وسرد الأحداث دون زيادة أو نقصان، تردد المالك لكنه في أخر الأمر رضخ لطلب علال.

جاء رجال الدرك والاسعاف، وقدمت الأجنبية شهادتها، وتم إسعاف خطيبها، واقتيد الحاضرون إلى مخفر الدرك وسلم علال نفسه ولديه قناعة بأنه قطع مع مرحلة الخنوع، ودخل مرحلة الخروج من دائرة الجبناء والسّكوت على ظلم الطغاة والمتجبرين.

" لعل القادم يكون أحسن، في زمنٍ تَعودنا فيه بشكل روتيني على الأسوأ، أنا سعيد لأنني كسرت حاجز الخوف واستطعت أن أفعل شيئا يرضي الله والناس عني، رغم ما ينتظرني من متاعب قانونية واجتماعية، المهم الآن بالنسبة لي هو خُروجي من قضية الضيعة بأقل الأضرار، أما ما ينتظرني فيما بعدُ فهو تحصيل حاصل لأن -مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم-"

***

قصة قصيرة                         

محمد محضار

 23دجنبر 2024م 

  

لستُ فردا

فأنا أجمعِ بعضًا

من حكاياتِ الليالي

أنصتُ للماضينَ

أرخي السمعَ للآتين من حلمٍ

فسيح

اختفى ما شئتُ فيها

بين أصناف من الهم ِ الدخيل

هي عندي مسرحٌ

أدخلهُ في كل يومٍ

حاملًا منظاري الواهنَ

في عزمٍ أصيل

مرةً  يسطادني الضوءُ

فأهرب

أنا في تلك المتاهات

غريب

ربما أكذبُ

أحيانًا على من في الطريق

ربما أخدع ُنفسي

اتستريح

لستُ وحدي

عالمي : ورقٌ هشٌ

وأصواتٌ دخيلة

ومساراتٌ

وأوديةٌ

كان منها واديا سموه "عبقر"

كل ما قالوه عن أرضي

رغم النكبات

تاريخٌ من العشقِ جميل

لست ُوحدي

فأنا منهم شتاتٌ

بل أنا منهم وريقاتٌ بريح!!!

***

عبد الهادي الشاوي

 

إلى ذلك السَّجين الَّذي خرجَ عارياً من الذَّاكرة.

وإلى تلك الأمُّ الَّتي بكت وحيدَها إلى أنْ جَفَّف الدَّمعُ نورَ عينَيها.

***

كُلُّ الوجوهِ الَّتي أحبَبْتُها

تناثَرتْ من جَيبِ ذاكرتي

على مَفارقِ النِّسيانِ

وكُلُّ أسرارِ المَطرِ

تاهت في بَيداءِ الظَّمأِ

كم دَمعةً ذَرفتْ أُمي؟

وكم من الخَيباتِ

صار عُمرُ ولدي؟

وهل ما تزالُ رائحةُ الياسمينِ

تفوحُ من أخاديدِ

وجهِ أبي المُغضَّنِ

ومن كَفَّيهِ السمراوينِ؟

ذاكِرتي هَشيمٌ

وجسدي بقيةٌ من َبقايا

أوقَدوا النَّار في داخلي

عَلَّها تُنيرُ دُهمةَ الَّليلِ

في حنايا ذاتي

يفترِشُ الهَلعُ مُهجَتي

فأستكينُ لِترانيمِ السِّياطِ

حَطَمُوا كُلَّ الأقفاصِ

ونَبشُوا كُلَّ الأعشاشِ

وأنا ما زلتُ واقفاً هناك

أنتظرُ عودةَ أسرابِ اليَمامِ

فاغرَ الفَمِ

في لُجَجِ الدَّهشةِ

أبكي من غيرِ بُكاءٍ

وأرتَشِفُ الدَّمعَ بأَكُفٍ جَرداءَ

عبثاً أُلَملِمُ مُزَقَ التَّاريخِ

تَخونُني الكلماتُ والدُّنيا

وأنا أسيرُ الحِكايةِ

بَلى أنا هو

ذاكَ الَّذي كُنتُم تَعرِفُونَهُ

وما عادَ يَعرِفُكُم

أنا هو ذاك الَّذي بالأمسِ

كنتُ بينَكُم

واليومَ رُوحي فحسبُ

هي الَّتي تُدرِكُكُم

ظمأُ الذِّكرياتِ وجعٌ

يُبدِّدُ مَراسِم العُمرِ

قاحلةً صارت أنفاسي

ويائسةً تبحثُ أشجاري

عن جذرٍ عتيقٍ

عن نبعِ الضَّيعةِ

عن دَغلِ الغابةِ

عن سماءٍ غيرِ حالكةٍ

عن صليبٍ بهِ أرتقي

سَلالِمَ الحُزنِ

صرختي بَكماءُ

وكلماتي ضَبابٌ

وعينايَ من غيرِ بريقٍ

أنا هُنا، لا تَرحلوا

أنا هُنا

في الأعلى، في الأسفلِ

لا فرقَ في الجِهاتِ

أنا هُنا

عِندَ خاصِرةِ الرِّيحِ

عِندَ رأسِ الجَّبلِ

حيثُ تَبكي هُناكَ في كُلِّ يومٍ

أشجارُ البيلسانِ

وتنتحِبُ فوق قبرِ هابيلَ

شَقائِقُ النُّعمانِ

***

جورج عازار - ستوكهولم السويد

تعوّد ناصر ان يختلس النظرات الى بيت جاره يوميا من باب الفضول، ربما يحمل في قلبه نوعا من الحسد لجاره.. الذي تزوج حديثا من امرأة حسناء ويتساءل كيف اقتنعت به وهو لا يمتلك عملا سوى زراعة ارضه وحراثتها وبيع ما يجنيه منها ويعيش بقوت يومه.

لكنه سمع من خلال تهامس نساء القرية ان هذه الحسناء قد عاشت قصة حب مع جاره قبل زواجهما فيهمس مع نفسه يا للحظ السيء لم أجد امرأة تحبني. يسحب نفسا عميقا ويتذكرها تلك المرأة التي أحبها صادقا أيام الجامعة لكنها رفضته كونه من سكان الريف ولا ينسى جملتها. كيف تعيش أبنة المدينة في قرية نائية.

 اذن كيف تتعايش هذه الحسناء مع أمه السليطة اللسان وأخته المقعدة. وبمرور الزمن غدا هذا التلصّص كأنه جزء من حياته أنه لم يحصل على فرصة للتعيين ولا يمتلك خبرة لزراعة أرضه وبالأخص بعد وفاة أبيه.

مع ان قريتهم نائية لكنها تمتلك كل أسباب الحياة الهادئة والجميلة وفيها أصنافا متنوعة من النخيل والأشجار والزهور بأجمل ما حباها الله من خضرة ومياه عذبة تجري في سواقي صغيرة تحيط القرية من كل جوانبها.

لكنه تربى في المدينة في بيت عمه لإكمال دراسته وهذا ما جعله يعيش في حالة مضطربة بعد تخرجه.

عاد ليراقب بيت جاره وكان يتمنى ان يسمع أخبارهم من هنا وهناك. الا انه لا يحظى بما يشبع فضوله،

 هناك البعض من الشباب يحمل ازدواجية الثقافة والتصرف وكأنه يعود لأيام صباه. يفكر ويتصرف بما لا يؤمن به وناصر من هذا النوع إذ تدفعه أسباب البطالة لتلك الحالة المتأرجحة بين الوعي واللاوعي. وبين المزحة والجد.

 ولكن احدى قريباته قد نقلت كلامه للمرأة الحسناء زوج جاره وحدثتها عن الحسد الذي يسكن قلبه تجاه زوجها وعن كل تساؤلاته واندهاشه لرضاها بهذا المزارع البسيط. وانه دائم المراقبة لهم ولأخبارهم، فأخذت تراقبه هي الأخرى لتجد ان أرضه ملاصقة لأرض زوجها.

 لذلك فهما يتعاقبان بعدد ساعات السقي. ساعتان فقط لكل فرد في القرية وهكذا يتم التقسيم وبالتساوي.

 وفي أحد الايام يتفاجأ ناصر ان زرعه بدأ يميل لونه لصفرة باهتة وبعضها ذبل وأماته العطش. كيف حدث ذلك وهو قد استأجر عاملا ليعتني بهذه الأرض التي ورثها عن أجداده. ومع تركه لها لسنين طوال الا أنه يرتبط بها روحيا ويحاول ان يداريها مثلما تداري الأم أبناءها لذلك أصابه الهم والحزن بهذه الكارثة التي آلمت به.

 وحين تحقق من العامل تأكد انه يسقيها يوميا وحسب دورهم الذي يصادف في منتصف الليل. ولا يوجد أحد هناك في تلك الساعة، فمن يا ترى يسرق منهم حصتهم بعد عودة العامل الى داره في منتصف الليل.؟؟

ازداد الأمر سوء لمزرعته مما اضطره ان يتخفى في منتصف الليل لمعرفة من يسرق منه الساعتين المخصصة لأرضه وقد سمع ان جاره زوج الحسناء قد تعرض لكسر بساقه وهذا يعني انه لا يتمكن من الخروج ليلا.. فمن هو السارق يا ترى.؟؟

يخفي وجهه خلف لثامه ويختبئ خلف الأشجار العملاقة ويراقب الوضع بدقة بعد ان أتمّ العامل مهمته ثم غادر المكان.

 ينتظر لفترة من الزمن وهو جالس تحت ظل شجرة ولكن لم يظهر أي انسان في الأفق. لكنه أصر على البقاء مدة أطول وخصوصا ان الجو كان معتدلا والجلوس في منتصف الحشائش يثير نوعا من المشاعر الرائقة لدى الانسان ولأول مرة يجرب التمتع بهذا الوقت مع الطبيعة وبهذا الجمال الإلهي الذي منح روحه نوعا من الرضا والدهشة والراحة في فصل الربيع.

قريبا من آذان الفجر يتفاجأ وهو يرى خيال رجل من بعيد يظهر بالأفق وبدأ يقترب من مكان تفرع الساقية حاملا فوق كتفه (المسحاة) وهي الة لفتح مجرى الماء وما زال ناصر يختبئ بمكانه مستعينا بأغصان الشجرة العملاقة لكنه متوثب ليكشف عن لثام هذا الرجل. وقد استشاط غيضا وشعر بحرارة تصعد لرأسه. مدّ يده نحو خنجره لكنه تراجع عن هذه الفكرة وان عليه ان يستخدمه في حالة نزاعه وعدم تمكنه من لوي ذراع خصمه. ولكن عليه الان ان يعرفه أولا. ثم يباغته بضربات متلاحقة.

فتقدم الرجل الملثم نحو الساقية واخذ يزيح الطين بتجاه الفتحة المقابلة لأرض ناصر ليقطع عنها الماء ثم يقوم بفتح مجرى الساقية نحو مزرعة الفلاح زوج المرأة الحسناء.

تفاجأ ناصر وتساءل مع نفسه من هذا الرجل يا ترى. ثم ان زوج الحسناء يعيش مع امه المسنة وزوجه الحضرية واخته المقعدة فقط. ولكن من هذا الرجل.؟؟

انهى الرجل الملثم عمله ورفع مسحاته فوق كتفه وهم بالعودة. الا ان ناصر باغته مسرعا فمسكه من يده قائلا له من أنت بحق السماء؟ أخبرني حالا.

وكيف تسمح لنفسك ان تسرق حصتي وتجعلها في أرض غيري...تكلم من أنت...؟؟ والا سأقتلك حالا.

 التزم الملثم بالصمت ولم يهتم لما سمعه من كلامه فعدل لثامه وسحب مسحاته ليجعل منها عصا يتكأ عليها وسار بطريقه مجددا كأنه لم يسمع شيئا.

 بادره ناصر بحركة سريعة وسحب لثامه. فأصبح وجهه بمواجهة المصباح الكهربائي الذي أعده ناصر لهذا الغرض

فكانت المفاجأة التي لم تكن يتوقعها ناصر. قابله وجه الحسناء المدور مثل دورة القمر عند اكتماله وعينان واسعتان لم تخف بل صوبت نظراتهما محدقة بوجهه انها زوج المزارع المكسورة ساقه وهي الحضرية الحسناء التي يحسده عليها.

تصلبت قامة ناصر بمكانها دون حراك وتقرن لسانه داخل فمه وحين ابتعدت عنه شيعها بنظراته المندهشة.

ثم همس مع نفسه: كم هي الحياة دافئة مع امرأة محبة

والمرأة في رداء الحب أجمل.

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

أنا عداء الشتاءات الطويلة

عداء مع الشموس والأقمار

عداء في الثلوج والبروق

بدأت من خط الليل الصافي

ليل حزيران

يغطي شوارع البياع

شوارع بغداد

بدأت من وعد بحضن النخلة

وأقسمت لها برب العباد

أنا عداء المنافي الطويلة

كم من الأحذية تقطعت

وكم من الظلال عبرت

وكم من الرمال

والشواطئ والنساء والحانات والعيون

كم من محطات نمت على كراسيها

بين الهموم بين الغيوم

كم من مفارق الطرق

واشارات المرور

أنا عداء تلك الخسارات الطويلة

ماذا أنتظر أبعدُ من ذلك

على ظهر أحدب

يدعى وطن

***

رضا كريم

 

بين الحشود والحروب، وُلد أخيل*،

قمرٌ يشق الظلمات، وغيمةٌ تحمل صخب الآلهة.

بين ذراعي والدته،

غُطس جسده، ليتحدى الزمن،

لكن الكعب، ذاك الجزء الصغير، نجا من الغمر،

ليصبح لعنةً، سرًا يختبئ بين الضلوع.

*

يا أخيل، أيها المحارب الذي لا يُقهر،

ألا تعلم أن الكمال لعنة؟

وأن النقطة الوحيدة التي لم تلمسها الآلهة،

ستكون بوابتك إلى الفناء؟

*

ذلك الموضع الضئيل،

أصبح نافذةً للهزيمة،

ثغرةً في جدار لا يُهدم.

*

في الميدان، كنت عاصفة،

تطارد العمالقة وتقتلها،

لكن في كل خطوة، كان الكعب يناديك:

"أنا هنا، ضعفك المدفون، نهايتك المؤجلة".

*

يا أخيل، ألم تشعر بثقل القدر؟

أنك تحمل في جسدك المعجزة واللعنة معًا؟

بين كل ضربات السيوف، وكل هتافات النصر،

كان هناك سهم ينتظرك،

سهمٌ صنعه الزمن، وشدّه الوهن،

ليقع في ذلك الموضع الوحيد،

الذي لم يباركه النهر.

*

في لحظة السقوط، يا ابن الأساطير،

لم يكن السهم الذي قتلك،

بل الكعب الذي خانك،

ذلك الجزء الذي تجاهلته،

الذي ظننته بلا شأن ...

***

مجيدة محمدي – تونس

..........................

* أسطورة أخيل الذي لم ينقع كعبه كباقي جسده في نهر الخلود .

 

عندما يأتي المساء حاملا عباءة ليله الأسود.. أجدني ألوذ في الركن البعيد خوفا أن يراني مبتسما وقد ألزم نفسه بوعد أن لا يراني كذلك فيسقيني مر الوهم المتشظي ذكريات منسية...

من شدة خوفي تهمس نفسي قائلة:

- هكذا هي الوحدة فعندما تكتب أصابع الحقيقة مر وهم ما تعيش وقتها تدرك ان الوهم الذي عشت هو الشهد المر للحقيقة الواهمة ..

- فأجيبها دون وعي، تنصحيني بالعفة وترغب اللذات نفسكِ هلا كففت هوس وسوستك وأبعدت مرايا وجوه ماجنة تطوف الكعبة الجديدة.

- ها انت تعيد نفس حديث الدعاة الذين لا يكلون منه ولا يملون لكني اوصيك بأن تجعلني نظارتك السوداء حتى نتطارح الغرام دون أن يرانا أحد، فعتمة زجاجها كفيل بأن يكون مثل إمرأة تحمل ميزان العدالة ما رأيك؟؟؟

- ألم أقل لكِ بأنك مهووسة بحقارة الاولين الذي رافقوا شياطين الرايات الحمر، يهتفون بتقارع كؤوس وفتح بوابات لحم محرم..

- لا تقلدني وسام الحرام وكأنك ناسك متعبد فها انا لا زلت ألملم اعقاب سجائرك التي بعثرتها وأنت تمسك بخاصرة زجاجة الخمر التي أغار منها حينما تتخيلني عاهرة تتمناها، أما الكأس آه كم تمنيت أن أكون بدلا عنه كي أتخلص من مرارة فمك، صدقني فطالما سألني ظلي عن نصفِ الثاني ونصف يسألني عن بقية ظلي ونسيا الإثنان أنهما بعض من كل، هيا إمحو كل خطوطك المستقيمة، إنه زمن الخطوط المتعرجة، إعكف على ان تنسق حياتك وفق زائر الليل فهو الكفيل بك بعد ان تستقبله بإهزوجة الوحدة التي يحب... سايره في مشقة ما يريد، تسكع معه أرصفة هامشية، كن له ظلا لكن دون خيال يصوره، اركب اذيال خطايا بساط العذاب كأنك تفترش احواض مستنقع آسن... حتى يدعوك لأن تكون ممن يحلمون بالحياة على أنها سفينة انقاذ، ربانها متوفي ونفسه التي كانت ترافقه ضاربة دف مثقوب... اما ايامه فراقصات ليل همهن ان يردن حوض النسيان فيغرقن مع انفسهن في وحل الرذيلة بعنوان بنات ليل..

- يبدو انك قد استطعمت حلاوة مرارة الكلام فرحت تصيغ عبارات حلوة المذاق يستطعم من يقرأها الحلاوة منها، فيسوق نفسه الى المذبح ليصلي بخشوع ثم يدخل غرفة الاعتراف ومن مثله المحراب كل يستغفر ربه بطريقته التي وجد نفسه عليها... فحياتنا واعمالنا هي موروث مركب يعزى الى منعطفات غابرة في حقب أباح القدر التداول بها كأنها بذور تنثر في ارض جرداء... همي يا هذا ان لا يراني زائر الليل لاني لا ارغب ان يشهد على ما آلت إليه نفسي التي عمدتها في لحظة ضعف وهي تتعبد الخالق في غير عنوان... الخوف يا هذا من تقلبات ازمان في وقت القدر له اليد الطولى في نقض العهود ونكران الاحقية فما سيأتي، سيكون اشد من زوار الليل، إن ما سيأتي تحمله غرابيب سود تُبطن غير ما تُظهر كما اعتادت الغربان غير انها ماهرة في حفر القبور اي قبور، المهم ان تعمل على قتل الحياة بمعزل عن الانسانية في وقت اطاح القدر بآلاف من القيم عربون لما هو قادم من اهازيج يتداولها من يطوف الكعبة كأهازيج الجاهلية بدف ورِق.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

 

كان الوقت ليلا، والظلام مخيم على القرية. والسكون لف طرقاتها بردائه المشوب بشيء من الخوف والحزن. اقترب حمودي من امه بينما كانت تحلب بقرتهم الوحيدة باناملها الوادعة قائلا: اماه لماذا لبست ام يوسف السواد؟.

 التفتت نحو ابنها حمودي من دون ان تتوقف عن الحلب. لحظة واحدة كانت اناملها تنزلق على ضرع البقرة بسرعة عجيبة. قائلة:

ما لك وام يوسف يا صغيري؟ اذهب وانجز ما لديك من واجباتك المدرسية، ظل حمودي ساهما لبعض الوقت ومن ثم استدار نصف استدارة باتجاه كوخهم الطيني افترش الارض متنصتا الى صياح ديكة تناهت ال سمعه. لكن غلبه النعاس فغط في نوم عميق.

2 -

مرت الايام الاسابيع والشهور وتعاقبت الفصول، وطيور السنونو بنت اعشاشها في سقوف بيوت الاغنياء وام يوسف تقول: يوسف يوسف ابني يوسف كانت تقولها والدموع تنهمر من ماقي عينيها كانها المطر. سال حمودي ام يوسف وهو عائد من المدرسة ذات مرة لماذا تلبسين يا خالتي ام يوسف السواد؟ اجابت قتلوا قتلوا ابني يوسف لا لشيء سوى انه كان يعشق الطيور والزهور ويعشق دجلة والفرات. فهرع حمودي الى امه مسرعا ليقول لامه اماه اتدرين لماذا لبست ام يوسف السواد؟

اجابت ام حمودي اعرف اعرف يا بني كل شيء وكفى .

 3-

 اطلق حمودي صفيرا محببا الى نفسه وشرع ينثر حبات الشعير لطيور الحمام التي كانت تهدل خلف كوخهم الطيني وطفق يسالها احقا كان يوسف يحبك ايتها الطيور؟

كانت جميعها تحدق بعيني حمودي بصمت وكانت تنطلق من عيونها الاف النجوم واصوات متلاحقة وكأنها تقول نعم نعم كان يحبنا .

4 –

وفي الليل اوى حمودي الى فراشه وعند الصباح ارتدى ثيابه تابط كتبه ومضى حزينا كهرٍ، مقرورٍ، الى المدرسة .

***

سالم الياس مدالو

 

عـديـدُكَ فـي الـخـلــيــقــةِ لا يُـعَـدُّ

جَـمَعـتَ الـمـكـرُمـاتِ وأنـتَ فـردُ

*

وحُـزتَ الحُســنَـيَـيـن: وصِيُّ طـه

ولِــلأطـهــارِ أنــتَ: أبٌ وجَـــدُّ..

*

فَـمَـنْ ـ إلآكَ ـ بـيـنَ الـخـلـقِ شَـقَّـتْ

جِـدارًا كــعــبــةٌ لــيــقــومَ مــهـــدُ ؟

*

فـلـسـتُ بــمـادحٍ شــمــســًا بـقـولـي

تـفـيـضُ سـنىً فـطـبـعُ الشـمسِ رَفـدُ

*

فـلا عَــجَــبٌ إذا صَـلَّـتْ حـروفـي

وقـلـبـي فـيـكَ قـبـلَ الـثـغـرِ يـشـدو

*

فـمـا شَـرفـي بـشـعـري لـيـسَ فـيـهِ

الـى مَــعــنـاكَ يــا مـولايَ قـصــدُ !

*

فـأنـتَ الـشـمـسُ لكـنْ لا غــروبٌ

وأنــتَ الـحَــدُّ.. لـكـنْ: لا تُـحَــدُّ

*

ولـيـسَ سـواكَ يـومَ الـحـربِ يُـرجـى

ولــيـسَ ســوى حـســامِـكَ لا يُــرَدُّ

*

وأنـتَ فـتـى الحـنـيـفِ الـلـيـسَ يُـعـلى

ومُــورِدُ عــزمِــهِ إنْ عــزَّ وِردُ..

*

وأنــتَ بَــرودُهُ إنْ شَـــبَّ جــمـــرٌ

وأنــتَ لـهـــيـــبُــهُ إنْ ضــجَّ بَــردُ

*

وعِــيــدُكَ وحــدَهُ لِــلـظـلــمِ وَعــدٌ

وعــهــدُكَ وحـدَهُ لـلـعــدلِ عــهــدُ

*

وأنـتَ مـن الــنـجــومِ تــمـامُ بــدرٍ

فـهـلْ مـجـدٌ كـمـا مُـجِّـدتَ مـجـدُ ؟

*

وُلِـدتَ مُـطَـهَّــرًا فـي خـيـرِ بَـيـتٍ

وخَـيـرُ الـخَـلـقِ مـنـهُ عـلـيـكَ بُـردُ

*

فـمَـنْ ـ إلآكَ ـ مُـبـغِـضُــهُ كـفـورٌ

وعُـقـبـى عـاشِـقـيـكَ جـنـىً وخُـلـدُ

*

كـفـاكَ مـن الـشـجـاعـةِ أنـتَ مـنـهـا

كمـا " حـاءُ " إذا مـا خُـطَّ " حَـمـدُ "

*

كـسيـحُ الـخـطـوِ غـيـرُكَ خـوفَ حَـتفٍ

وأنـتَ كـمـا ســيـولُ الـسـفـحِ تـعـدوُ

*

وأنـتَ عـلى الـضعـيـفِ الـرِّفـقُ صِـرفـًا

وأنــتَ ـ عـلـى شــدائِــدِهــا ـ الأشَـــدُّ

***

أبـا الـحـسَــنـيــنِ: شــكـوى فـأطِـمِـيٍّ

تــســاوى عـــنــدَهُ عـــرشٌ ولَــحْــدُ

*

ولـيْ عـذري إذا عـجـزتْ حـروفـي

وألْـجَـأنـي الى " الضِّــلِّـيـلِ " قـصـدُ :(1)

*

و" لـيـلٍ " طـالَ حـتـى قـلـتُ: دهـرٌ

وصـبــحٍ غـابَ حـتـى قــلــتُ: وأدُ

*

أعـاديــنــا لـهــم مِــنّــا عـلــيـــنــا:

يَــدٌ تـســطـو وأخـرى تــســـتَــبِــدُّ

*

أبـالِـسَـةٌ ـ وإنْ صـلّـوا وصـامـوا ـ

وحَـفَّ بِـرَكـبِـهـمْ حَــرسٌ وجـنــدُ

*

فـهـمْ فـي الـقـولِ " حمزةُ أو حُسينٌ " (2)

وهـم فـي الـفِـعـلِ " حرملـةٌ وهـنـدُ "

*

مَـشـيـنـاهـا ومـا كُـتِـبَـتْ عـلـيـنـا (3)

خُـطـىً ما زانـهـا فـي الـمـشيِ رُشــدُ

*

ومـا دالــتْ بــنــا الــدنــيــا ولــكــنْ

رَبــابِـــنـــةٌ تـــزوغُ ولا نــردُّ.. !

*

لــهــمْ بـيـن الـدُّجـى والـنـورِ سَــدٌّ

وبـيـنَ صـحـونِـنـا والــزادِ سَــــدُّ

*

إذا تـشـكو الـسـقـامَ الـصَّعـبَ روحٌ

فـلـيـسَ بـنـافِـعٍ في الــبُــرءِ جِـلـدُ

*

ولـيـسَ بِـمُـحـرقٍ شمـسًـا لـهـيـبٌ

ولـيـس بِـمـوهِـنِ الأُقـمـارِ سُـهـدُ

*

ولـيـسَ بـسَـيِّـدٍ مـن ســاسَ قـومًـا

إذا لِـلأجــنــبـيِّ الــوغــدِ عــبــدُ

*

فـكـلُّ تـبـاعـدٍ فـي الـلـهِ قــربٌ

وكـلُّ تـقـاربٍ فـي الـجـاهِ بُــعْــدُ

*

تـهَـشَّـمَـتِ الـنـفوسُ فـلا نـفـيـسٌ

ودكَّ صـروحَـنـا شـــتــتٌ وكَــيــدُ

*

وكم من " مُلجِـمٍ " أخفـى حسـامًـا (4)

يـسـيـرُ بـهِ الـى الأبــرارِ حــقــدُ

*

فـمـنـذ شُـجِـجْـتَ رأسًـا والـبلايـا

عـلى أيـامِــنــا بـالــرُزءِ تــعــدو

*

تـعـطَّـلـتِ الـكـرامـةُ واسـتـجـارتْ

عـروبـتُـنـا.. وشــلَّ الـعـزمَ قَــيــدُ

*

فـمـا نـفـعُ الـكـتـائِــبِ دون حـزمٍ

يـســيـرُ بـهـا غـداةَ يـحـيـنُ جِــدُّ

*

تـأسَّـدتِ الأرانـبُ حـولَ أهـلـي

بـغـزّةَ واكـتـفـتْ بـالـشـجـبِ أزدُ

*

تـصـهـيـنـتِ الـعروبـةُ واسـتـجـارتْ

مـن الـســبـيِ الــمُــذِلِ مـهـا ودَعـدُ

*

فـلا ذُبـيـانُ ذبَّــتْ عـن حِــمـاهــا

ولا قـامــتْ الى بــيــروتَ نــجــدُ

*

ولا سَــلَّ الـنـخيـلُ الـسَّـعـفَ رُمـحًـا

ولا مـن بــعــدِ جَـزرِ الــنّــيــلِ مَــدُّ

*

" تـقـاطَـرَتِ الـذئـابُ عـلـى خـراشٍ " (5)

فـمـا يـدري خـراشٌ مَـنْ يــصــدُّ

*

فـيـا جَــبــلَ الـشـهـامــةِ ذا زمـانٌ

رثـى فـيـهِ خـنـوعَ الـسـيـفِ غـمـدُ

*

أبـا الـحـسـنـيـنِ مـا جـاعـتْ جـمـوعٌ

لــو الـحـادي بـمـا أوصَـيـتَ يـحـدو

*

إذا جـاعَ الـرغـيـفُ فـأنـتَ قـمـحٌ

وإنْ عـطِـشَ الـنـمـيـرُ فـأنـتَ وِردُ

*

أتـيـتُـكَ ســيـدي شــيـخًـا عـلـيـلاً

يــغــذُّ بــهِ الـى مَــثـواكَ جـهــدُ

*

فـكـنْ يـومَ الـوُرودِ شـفـيـعَ صَـبٍّ

بـهِ لــلــقـائِــكَ الــقــدسـيِّ وَجــدُ

***

يحيى السماوي

.......................

* "كُتِبت القصيدة إثر زيارة سيدي ومولاي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وتشرّفت بإلقائها يوم الخميس الماضي في افتتاحية مهرجان ملتقى عالم الشعر بدورته الخامسة في النجف الأشرف"

(1): إشارة الى بيت امرئ القيس:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

(2) حرملة هو الملعون حرملة بن كاهل، قاتل طفل الحسين " ع " ع " عبد الله الرضيع. وهند هي الملعونة هند بنت عتبة التي مثّلت بجثة حمزة بن عبد المطلب " رض " وأكلت كبده.

(3) تحوير لبيت أبي العلاء المعري:

مشيناها خطىً كتبت علينا

ومن كتبتْ عليه خطىً مشاها

(4) ملجم: المقصود به الملعون عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

(5) تحوير للبيت المنسوب للحارث بن مُصرّف:

تقاطرتِ الظباء على خراشٍ

فما يدري خراش ما يصيد

 

على السُحبِ الهائمة في فضاءِ لا ينتهي، تتمايلُ قطراتُ المطرِ كرقصةِ الأرواح، تنهمرُ بلحنٍ من سماءٍ لم تُرسَم بعد، تُولَدُ وتَفنَى في لحظةٍ واحدة. كلُّ قطرةٍ قصةٌ عشق ابديّ ، وموسيقى تكتبُ نفسها على زجاجِ النوافذِ، عناقٌ بينَ الأرضِ والسماءِ، في تعاويذ شفافةٍ من ماءٍ لا يُرى. تحتَ ظلالِ الغيومِ، ينبضُ الكونُ برعشةِ النشوءِ، ويُزهرُ في كلِّ قطرةٍ وعودٌ بحياةٍ جديدةٍ، أملٌ يتجددُ مع كلِّ صوتِ سقوطٍ لطيف. في عالمِ الأحلامِ، يُرسَمُ المطرُ بألوانٍ لا تُحدُّ، ويمتزجُ الحُزنُ بالفرحِ، في لوحةٍ تسكنُ العينَ والقلبَ.

المطر

عندما تنثر السماء قطراتها وتعزف الأرض أنغام الحياة تتراقص الأرواح في مطر لا ينتهي وتنعم القلوب بنعيم الابتهاج يا مطر الروح، يا نبع النقاء تعالَ واشفِ القلوب المتعطشة واسقِ بساتين الأحلام الظمأى وأزهِر في النفوس جمال النور في كل قطرة من عطائك سر الحياة وفي انسيابك أسرار الحب الإلهي فأنت رحمة السماء المنثورة تحتضن الأرض بفيض الحنان في حضرة المطر، تتوحد الأرواح ويذوب في نبضاتنا صدى السماء فنحن، في تلك اللحظات المقدسة قطراتٌ تسبح في بحر الوجود .

مطر

يا مطر العشق، في سمائنا تمطر تسكن القلوب بنغماتك وترقص الزهور تغسل أرواحنا بأسرارك الوضاءة وتروي في أعماقنا شوق السنين تساقط قطراتك كلمسات حبيب تهدهد الأحلام في حضن الليل وتنسج من حكاياك قصائد الحب في همس نسيمك يزهر الورد ويطيب يا مطر، يا سفير الوله والحنين تروي عطشنا بلغة العشاق الصامتة ونغماتك تكتب في قلوبنا حروف الأمل تفيض بالمشاعر، وتبعث فينا الحياة يا سحر اللحظات في عينيك تهامس وفي كل قطرة تهمس بسر الحب القديم وتنير الدروب بأشواقك الدافئة فنعيش فيك قصائد لا تنتهي .

***

 بقلم: كريم عبد الله - بغداد / العراق

..........................

* قصيدة (المطر) قصيدة سردية تعبيرية كُتبت بطريقة لغة المرايا والنصّ الفسيفسائي . إنّ لغة المرايا والنصّ الفسيفسائي تحقق لنا تجلّيا كبيرا للفكرة والمعنى، وترسّخ هذا المعنى لدى المتلقي هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ تعدد صور الفكرة داخل النسيج الشعري يحقق لنا الحركة فيه. هنا تناولنا موضوع (المطر) بطريقة تجريدية , وصوفية , وعاطفية . فاذا نظرنا الى هذه القصيدة بأكملها فسنجد أن نسيجها الشعري وكأنّه قطعة فسيفسائية .

إلى قارئ لا أعرفه

كثرت أحداث الحياة، فهل جلست مع قلبك تسأله عنك؟

أم سرقتْك الأيام ووضعتكَ في حقيبة جلدية تُطل منها مثل عازف على مزمار سحري لكي تقولَ: أنا هنا.

وحين ترتدي قميصَ الليل كي ينام قلبُك ليرتاح منك، ينزعه عنه بقوة، ويصيح:يا للهفة العاشقين..!

وبعدها تستسلمُ للهدوء الذي يصافحك.. كي تجد نفسك في منفاكَ وحيدا، تعدُّ أصابعك الخضراء كي تعزف مع لوركا، لحنا سماويا وحدها الروح تسمعه وتبكي.

هل أنت يا قارئي الذي لا أعرف...

رفرفتَ بجناحين من غبار ووقفت على أوجاعك تصرخ:

ـ لا شيء عندي غير غفوة فوق سرير الحلم، كلما استيقظتُ منها تساءلتُ:

من يوقف هواجس القلب، وينشر فوق حبْلِ أمانيه بعض كلمات تضفي عليه سكونا يحتاج إليه؟

وهل ركضت مثلي في أوصال الشتاء، بكل عنفوانك وتميزك، وحملتَ كمنجات الحياة معك، لأن طريق الانتظار طويل؟

لتقول مع المتنبي : واحر قلباه ممن قلبه شبم....

اليوم مددتُ يدي للشمس، رغبتُ في إطمار الخريف والشتاء وكل الفصول التي ولدتْها الجبال الشاهقات.

كان مبتسما مثل ربيع ولده الشغف، لمحتُ في يده خاتما يحمل سحرا آسيويا، سألته عنه، ورغم الخمر المنساب من شفتي الجواب، شيء ما تسلل من دم القصيدة وبكى وجعا.

 786 najat

فيا قارئي الذي لا أعرف...

لا تلتفت لبكاء الريح في نهر دمك، فمن يدري؟.. قد يزهر ما كان ذابلا في ساحاتك، لترى التفاصيل الصغيرة قد غدتْ حديقة صدق، ولا تفتحْ أمامك غير كتاب الحب، وبعدها أنا..وأنت...

سنمضي نحو رواية لا تنتهي فصولها، ليس مهما إن احتوت بعض جنون فان غوغ، أو الحزن الأزرق لبيكاسو. أو هواجس مضاءة بعشبة كلكاميش.

حتى وإن فشل القلب في استرجاع رحلته الغجرية التي سكنت في مرايا الغموض، وعطر الجمال، ابتسم للحياة...

***

نجاة الزباير - المغرب

 

الوقتُ يمرُّ ثقيلاً وكأنهُ غضبٌ يجثو على إحساسٍ ربيعيٍ مفعمٍ بالحياة، صوتُ التلفازِ وحدهُ يتعالى مخترقاً سكونَ الصمت.

كنتُ جالساً على كرسيٍ صغيرٍ واجماً أُقلّبُ الورقةَ بين يديّ، أتأمّلها وكأني أبحثُ في بياضها عن هدفٍ مفقود. والدي يجلسُ على أريكتهِ يُتابعُ ضجيجَ التلفازِ الذي ينهشُ أفكاري ويبعثرها، وفجأةً إنطلقَ صوتي عالياً حاداً: - أبي، ماذا أرسمُ على هذه اللوحةِ البيضاء ؟.

أجابني وبدونِ تردد: - زيتونة.

خيّمَ السكونُ ثانيةً، تملكتني الحيرةُ، تلوتُ التعاويذَ، إنسدلَ عليَّ المساء، وفي قمةِ الهاجسِ المكبوتِ ناداني القمر، استطلتُ، إستطلتُ أكثر، عانقتهُ وطبعتُ على جبينهِ قُبلة، وبُحتُ له بأنني شغوفٌ برسمِ اللوحاتِ وطليها بألوانٍ زاهيةٍ أختارها لأتفاخرَ بها أمامَ أصدقائي قبل والدي، بخجلٍ تمتمَ في أُذني " أحبك ".

فكم كنتُ أتمنى لو أني أستطيعُ أن أطويَ الكون َ في صفحاتِ دفترٍ صغير، أو لوحةٍ واحدة، ولأنني كنتُ أعيشُ هذه الأمنية صدّقتها، لذا كنتُ أتعللُّ دائماً بقلّةِ الوقتِ وعدمِ توفّرِ الألوانِ التي أحتاجها.

" زيتونة "، لم أستوعب جواب والدي، بل زادَ من حيرتي، ماتت على شفاهيَ التساؤلات، وفي صحوةٍ جريئةٍ عدتُ ثانيةً متسائلاً وبصوتٍ عالٍ وبلا مقدمات: - أأرسمُ ثمرةَ الزيتون، أم شجرةَ زيتونٍ كاملة ؟.

ولأن والدي كان يتوقع سؤالي هذا، لذا جاءَ جوابهُ سريعاً وبدونِ أيةِ التفاتةٍ إليَّ:

- بل شجرةُ زيتونٍ كاملة يا صلاح، وإذا شئتَ فأشجار عديدة منه.

ضحكتُ في سري، تمتمتُ في قلبي " إن والدي يريدني أن أنقشَ له على هذهِ اللوحةِ بستاناً كبيراً من أشجارِ الزيتون".

لم يكُ قد تجاوزَ الأربعين عاما، لكن صورةُ وجههِ تُوحي بأنّه أكبرُ من ذلك بكثير، فالناظرُ إليهِ أولُ ما تواجهه جبهتهُ المحفورةُ بأخاديدِ الزمنِ، فيظنّه أنه إبن الستين. يقرأ الهمومَ من خلالها وكأنها جبالٌ راسيات، الشيبُ ينتشرُ في كلِ مكانٍ من رأسهِ، لونهُ الأسمر، عيناهُ الجريئتانِ، تجاعيدُ شعرهِ، كلها تُمثّلُ ملامحَ الأرض، لا تستطيع ولا بأي شكلٍ من الأشكال أن تُخفي هُويتها.

بدا شارداً، أسندَ ظهرهُ إلى الوراء، تأمّل الجدران التي تعانقها الرطوبةُ وبإصرار، أخذَ يرحلُ من مكانٍ إلى مكان، يطوفُ كلّ بساتينِ الزيتونِ مارّاً ببياراتِ الليمون والبرتقال، كان صغيراً عندما كان يحلو له اللعبَ بين أشجارِ الزيتون، لونها هادئ، ظلالها ممدودةٌ، كُلَ شيءٍ جميلٌ فيها، كيفَ لا وهي التي أقسم اللهُ بها في كتابهِ الكريم.

أيقظتهُ أصواتٌ منبعثةٌ من التلفاز، نظرَ عالياً، أطبقَ أصابعَ يديهِ بقوة، شمخت أمامَ ناظريه زيتونةٌ شابةٌ ألقتْ بثوبها الأخضر على زجاجِ النافذةِ فالتحمت أغصانُ الزيتونِ مع صورةِ المسجدِ الأقصى التي تحتلُّ وسط الجدار، ورسمت معها صورةَ الهويةِ الغائبة.

في يومٍ ما، وعندما كانَ بعمري الآن، كان يوم ذاكَ في قريتهِ الجميلة، يُداعبُ الأرضَ ويلهو بأغصانِ الزيتون التي كان يقتلعها. كان يحلو له أن يعدو مع صغار الحي، حاملاً أغصان الزيتونِ الصغيرة في يديهِ يُخيفهم بها، فيتوارى البعضُ منهم أمامَ ناظريهِ، ليختبىء في البساتين ِ الواسعةِ التي تحتضنهُ ويتوارى بينَ أشجارها، وحينما يتوارى تحت الأشجار يُفكّرُ في فكِ الحصار، فلا يجد أمامه إلاّ الأغصان، ولمّا يهمُّ بتكسيرها تُهاجمهُ أصابعٌ رسمَ عليها الزمنُ بصماتِ التحدي، تلوي أُذنيه عقاباً صارماً " أيها الشقي نهيتكَ كثيراً عن...." قبلَ أن يُكمل كان يطلق العنانَ لساقيهِ للريحِ بعيداً عن جدّهِ. يجلس العجوز على صخرةٍ كبيرةٍ وهو يضربُ كفّاً بكف: - يا له من شقي، لولاه لما تكسّرت أغصانٌ كثيرة. فيأتيهِ الإحتجاجُ من بعيد: - لستُ وحدي، إن عصاماً يعدو خلفي حاملاً الأغصان أيضاً، رغم أنه أكبرُ مني سنّاً وبخمس سنوات.

يتمتمُ العجوز بأسى: - كلهم مشاكسون، لا يفكرون إلاّ باللعب، آه، ستصقلهم الأيام.

وفاطمة، تسللت إبتسامةٌ خفيّةٌ إلى شفتيهِ أشعرتهُ بأن الشمسَ لا تنام، مدّ بصرهُ عَبرَ النافذةِ إلى الأفق، ترقّبَ نجمةً علّهُ يراها هناك، ربيعها ينسلُّ من خلفِ الزمانِ، يخضرّ ريحاناً وقلباً لا يغفو، ومضت صورة فاطمة ذات العينين الواسعتين، بجدائلها الطويلة التي تتدلى كزهور الياسمين. قفزت إلى مخيلتهِ أيامٌ غاصّةٌ بالذكريات، أحسّ بتسرعٍ في نبضات قلبهِ، سافر بعيداً " فاطمة كانت تخشى كل الأولادِ حتّى أنا " ضحكَ، بانت أسنانهِ المتآكلة، هزّهُ فرحٌ طفولي " وكانت تخشى أيضاً أن يهاجموا ضفائرها بالأغصان ".

في ليلةٍ شديدة البرودة، كثيفةِ الظلام، أفلَ نجمُ فاطمة، لقد هجرت الحيَ بصمتٍ رهيب، وبدونِ كلمةِ وداع، وبقيَ الناس زمناً طويلاً يتحدثون عن النبأ العظيم، والدُ فاطمة أُستشهدَ وهو يحتضنُ الأرض. رسمَ بدمهِ أجملَ صورةَ عشقٍ لكلِ ذرة تراب، فبقيت صورته في القلوب. وبقيت قصة إبنة الشهيد حديث الحي، وأطفالِ الحي، والرُضّعِ والأجنةِ في الأرحام أمداً طويلاً، آه، الموتُ إمّا أن يحدثَ قبل الموت أو لا يحدثَ أبداً حتّى بالموت.

أخذَ شهيقاً طويلاً، ملأ رئتيهِ بهواءٍ فاتر، هزّ رأسهُ، أغمضَ عينيه، بحث عنها في كل مكان، وعندما داهمهُ الزحام أعياهُ أن الوجوه ليست هي، " الأقربونَ أولى بالمعروف، لقد زوّجوها لإبن عمها ".

لطالما آوى إلى البساتين التي كانت عندهُ بمثابةِ جنّةِ المأوى، وكانت كدارِ السلام التي يقرأ تحت ظلالها " ألم نشرح لكَ صدرك "، يتسامرُ مع رفاقه، يقيمون أعراسهم تحتَ أغصانها المترامية، حيثُ تُضاءُ الأشجارُ بالمصابيحِ الملونةِ الجميلة. كم كان يحلو لهُ أن يكتبَ ذكرياتهِ على سيقانها، يُداعبُ الأرضَ بأغصانها المتدلية ليُسجّلَ عليها أجملَ نشيدٍ للحرية.

أمّا أنا فلقد كنتُ أرسمُ الأشجار واحدةً إلى جانبِ الأخرى، ومن ثُمّ أُلبسها سُندساً بهيّاً بالألوانِ التي أصبّها عليها، نظرتُ إلى والدي الذي كان شارداً بمحطاتهِ التي يسافر معها، فرأيتُ أن أقطعَ عليهِ شرودهُ هذا، ففاجأتهُ بصوتٍ عالٍ وعلى غير انتظار:

- والدي، هل أزرعُ إلى جانبِ الأشجار شيئاً من الأزهار أو الورود ؟.

صمتَ والدي يفكّر، وبعد لحظاتٍ خانقة، أجابني بصوتٍ هادىٍ متهدج:

- دعها هكذا يا صلاح، هُوية شعبٍ معذّب.

أجبتهُ وعلى الفور:

- إذاً ما دامت هذه هي رغبتك فدعني أرسمُ حولها سياجاً من حديد.

إنتفضَ كعصفورٍ جريحٍ، لوّحَ بكلتا يديه، تملّكتهُ حالةُ صراخ: - لا....لا. تلاشت لاءاتهِ، تابعَ بصوتٍ هادىءٍ تعب:

- لا ترسم هذا السياج يا ولدي.

داهمتني حالةٌ من العجبِ، فلماذا أتى الجوابُ حاداً هذه المرّة، هززتُ رأسي بغنجٍ، إلتفتُ إلى والدي، وبهدوءٍ وبرودٍ طفولي قلت:

- إذاً البستان سيعبث بهٍ الأشرار ويحيلونه خراباً.

قبل أن يُجيبني، مسح على وجههِ مراتٍ بيديه، تعوّذَ بالله، صلّى على النبي، أحنى رأسه قليلاً إلى الأمامِ وقال:

- الأشرار، الورمُ الخبيث، نعم لا بد أن تحميهِ منهم، لكنهم دخلوه، وقطّعوا أشجارهِ، وكثيرون هم اللذين صمتوا، فعجيبٌ يا ولدي أن نرى الجمعَ ينفضُّ قبل أن تنفضَّ الصلاة، وأعجبُ منه أن نرى أناملهم تمتدُ خِلسةً لتمسحَ أثرَ السجودِ من فوقِ الجباه.

قام من مكانه، أخذ يزرعُ الغرفةَ جيئةً وذهاباً، تمتمَ:

- بل يجب عليكَ أن تحميهِ يا بُني.

دنا مني، مسحَ على شعري، حملَ اللوحةَ، قرّبها من عينيه، وقبل أن تزوغَ عيناهُ أكثر، قلتُ على عجلٍ:

- هل أرسمُ سياجاً حجرياً ؟.

بهدوءٍ وثقةٍ أجابني:

- لا... لا...، أيقنتُ الآن أن السياجَ ضروريٌ ولا بُدَّ منه، نعم أرسمهُ ياصلاح، وليكن سياجاً بشرياً، أرسم هنا فاطمة بضفائرها الحلوة، هناكَ أبوها، وهنا خالك وبجانبه عمك، وفي هذه الناحية جَدُّكَ، لا تنسى عقالهُ وجلبابهُ، أرسمه باسماً، إنساناً شامخاً يعانقُ الأشجار، يبتسم لها وللشمسِ وللحياة، أرسمه كشجرةِ سنديانٍ منتصبة تزرعُ الأملَ في نفوسِ القادمينَ على الدرب.

وضعَ اللوحةَ على الأرض، رسم بإصبعهِ دائرةً حولَ الأشجارِ، رسم عليها أُناساً يعرفون كيفَ يشتمُّ الإنسانُ رائحةَ الترابِ فيدمعُ لها.

قلتُ وبهدوءٍ خجول:

- ولكن اللوحة هكذا لن تنتهي بسرعة يا والدي.

أجابني وكله ثقة:

- لكنها ستكون عظيمة، وإذا جفَّ الحبرُ لديك، خُذ نبضي لترسم من جديد. بباطنِ كفّهِ داعبَ خدّي، ربتَ على كتفي، خرجَ إلى الفناءِ الخارجي للدار حيثُ توجد شجرةُ زيتونٍ فتيّة، أخذَ يمسحُ الغبارَ عن أوراقها الصغيرة، يشمّها وكأنها ريحانةٌ من رياحين الجنّةِ.

لقد كانت في حديقتهِ القديمة شُجيرةٌ مثلها، عمرها بعمرِ فاطمة، وكانت تكبرُ معها، كان يوماً أسودَ قاسياً حفرَ أخاديدهُ في أعماقِ قلبهِ الجريح حينما أجبروهم على هجرِ بساتينِ الزيتون، لقد كان المنظرُ رهيباً. وقف رجالُ وأطفالُ الحي ينظرون بأسى إلى الأشجار التي زُرعت بعُصارةِ الإنسان وهي تتهاوى من عليائها لتعانق التراب، بعد أن تهدّمت البيوت واندثرت الصورُ والذكريات. في البدء كان بيتُ فاطمة التي تمنّت يوماً أن ترتدي فستانَ أجملَ عروسٍ شرقية، تغار منها شجرة الدر، وتحقد عليها بلقيس، وتكرهها ياسمينة السندباد، وتشيحُ عنها بوجهها سندريلا.

تذكّر أبا فاطمة، وشهداء آخرين، فكان كلما سقط شهيدٌ هناك كان يشعرُ بأنَ أباهُ يُستشهدُ من جديد. لقد هوت الأشجار، غابت أوراقها في التاريخ ليسجّلَ الضياع، وامتزجت الدموعُ مع بقايا الأوراقِ في التراب، وعُجِنت جميعها بالهدف، لن ينسى ذلكَ اليوم، إنه محفورٌ في صفحاتِ الزمن، وتعلّم من وقتها أن يكون صلباً ليُعيدَ الأشجار إلى كل مكانٍ أُقتلعت منه، فكانت الحجارة أنيساً له في فاجعته، فتبعتهُ الزيتونة كظلّهِ ورافقتهُ كأنفاسهِ، فكانَ يسمع تأوّه أغصانها، ويوخز أُذنيهِ نشيجَ التراب الباكي تدوسهُ الغربانُ والثعالب والكلاب التي لا تُجيدُ حتّى النباح. وتطفو الطحالب والمستنقعات، تنتشرُ، تتوسّع، تضع بصماتها على كلِ شبرٍ من الرمالِ المتراميةِ الأطراف، ثُقلُ الفاجعةِ يطحنُ أمانيه، يُحيلها رماداً، يُصهرهُ مع لهيبِ الشمسِ، يُصليهِ بالضارياتِ من العذاب.

إستيقظت في قلبه ذكرياتٌ دامعة، ذكرياتُ الأحبةِ الذين سقطوا أمثالَ أبي فاطمة، وقاسم، وسلمى، وعز الدين والعباسِ وجعفر وعدنان، الذين حملوا التراب مع الدماء، خانتهُ دموعهُ، التهمت أحاسيسهُ، فسقطت قطراتها على أوراقِ الزيتونِ كالندى، حدّقَ في دمعةٍ إستقرت على ورقةِ زيتونٍ ولم تسقط، سافرَ في أبعادها، فتراءت لهُ نداءاتٌ خرساءُ، مآتمٌ، ومن ثُمّ أعراسٌ جماعيةٌ تُبشّر ببدايةِ الغيث.

عندما عاد والدي كنتُ قد أنهيتُ لوحتي، وقفَ بجانبي يتأملها، زاغت عيناه، غدرت به دمعةٌ سقطت من زاويةِ عينهِ اليسرى، حمل اللوحةَ وعلّقها على الحائطِ بجانب صورةِ المسجد الأقصى، طرتُ فرحاً، عانقتُ والدي بجنون، صرختُ بعنفٍ صادقَ المشاعر:

- أبتي، متى سأرسمُ سياجاً بشرياً لمساحةٍ أكبر ؟. فكر طويلاً قبل أن يُجيبني قائلاً:

- تمهّل يا ولدي، غداً تنجلي الغيوم، ويتردد في سمائنا الصافية صدى رسالة هارون الرشيد الموجهة إلى نكفور " من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نكفور كلب الروم، الجواب فيما ترى لا ما تقرأ " ولكن أخشى ياولدي أن تكون الرسالة هذه المرة معكوسة الأطراف.

شَهقتُ، تعالت شهقتي، أحدثت صدىً لم أسمعهُ من قبل، حدّقتُ كغيرِ عادتي في وجهِ والدي، غضِبتُ، صرختُ بعنفٍ، بكيتُ بحرقةٍ، تشنّجت أطرافي، ذهبتُ في غيبوبةٍ دامعة، حدّقت عيناي وشَخصَتْ في السياجِ البشري، فتراءى لي أطفالٌ يولدونَ وفي يُمناهم غِراسٌ تُروى بالدم.

***

بقلم: د. أنور ساطع أصفري

في نصوص اليوم