نصوص أدبية

نصوص أدبية

في بقايا مساءْ

جلستْ غيمة

فوق درب الرياحْ

شربتْ جرعة ً

من الوهم

دارت على نفسها

مرة.. مرّتينْ

فارقتها السكينة ...

غاب الهدوء

وكلّ المسافات، ريّانة بالجراحْ

نظرتْ

– لن أعيد التفاصيل ...

لن يترك الحزن مجلسهُ

كيف أمضي لوحدي...وأينْ

فجأة

في ثنايا التردّد والانحناءْ

ضجّ فيها البكاءْ.....!

2-

غيمة

فرّقتْ بعضها

مثلما تشتهي أنْ تكونْ

لتلامس مهجتها

صفحات الغصونْ

ولها شمس.. تبتكر الصبح

بين سرب غيومٍ من الذكرياتْ

3-

في الصباحْ

غيمةٌ

فزّ فيها المطرْ

نزلتْ

قطرة...

قطراتْ

حلّ فيها الثمرْ

رفعتْ يدها

شكرتْ ربّها

فلقد طاب منها الأثرْ

4-

غيمة

تابعتْ نفسها

في الفضاء

غير أنّ الرياحْ

عاكستها كثيراً

فطارتْ بريشاتها

تحمل الجرح والكبرياءْ

5-

غيمة

لونها الياسمينْ

تملك الشوق للراحلينْ

مرّت الآن في بيتنا

سكبتْ دمعها

في حنينْ

فتهادى

علينا البكاءْ ....!

6-

غيمة

ليس فيها مطرْ

حرّكتها الرياحْ

يمينا.. يسارا

على جمرات المسافة

في قلقٍ

جرجرتْ بعضها

بين أجنحة الطير حاملةً

ألف سرّ يسير إلى أمسهِ

بين غور الترائب غير مباحْ

– أيّ دربٍ سأعبر وحدي-

سألتْ نفسها

ومضتْ تمنح الأفق أسئلةً

دونما ضجّةٍ أو أثرْ....!

7-

غيمة

ظهرتْ فجأة

في السماءْ

فاستدارتْ لها الشمس

في بهجةٍ ... وصفاءْ

- لمَ أنتِ هنا.. يتها الغيمة الطائره..؟

- ههنا جئتُ يا شمسنا

كي نكون معا

في السماوات

نغنّي على مهلٍ

تتوهّج أرواحنا

في دروب المسرّاتِ

أجنحةً... ذهباً

فضةً نادره

ونداء

بها تتألق أنفسنا الشاعره..!

8-

غيمة

وجهها أبيضُ

قلبها أبيضُ

طأطأتْ رأسها

بهدوءٍ على حافة الصمتِ

قد لملمتْ نفسها

كلّ آفاقها تستريح

وتصغي مع الريح

لكلّ التسابيح

فوق شفاه القمرْ

فجأة

صعدتْ روحها

سلّماً

باركتها النجوم

وقالتْ لها:

مرحباً

يا وسائد حلمي الذي يستفيقْ

بين هذا الطريق

وذاك الطريقْ

مرحباً بالندى

المتألق فوق غصون الشجرْ

مرحباً

بك ترتفع الأرضُ

يكبر كلّ البشرْ...!

9-

غيمة

وجهها الرعدُ

والبرقُ

والدهشة المستفيقة بالعاصفه

مرّت الآن في دربنا

تركتْ زمناً

يستريح على ضفة خائفه

-10

غيمة

تبسط الشمس

بوّابة لدخول الأغنية

تمنح الأفقَ

أجنحة الفجر والعافية...!

وتقول إلى الناس:

أهلا بكم

تتهادى النجوم اليكم

وكلّ الثمار لكم دانية ..!

***

شعر: حامد عبد الصمد البصري

الاربعاء لا شيء لازلت عالقة في محطة سطورك؛ وحديثك الذي أعيد قراءة تلك الكلمات كلمة كلمة حتى شعرت بأنني أطفوا على بقعة من ظلال وظل ......

  ظاهرياً كل شيء هادئ وفي داخلي موجة بكاء في ساحة فراغ تتمدد حتى أخمص السطر ....

  أحاول أن أقف على أطراف حديث يقلب حقيقة غيابك إلى أضغاث أحلام....

إلى الجانب الآخر من فرح؛ وعلى رصيف مشتل زهر وضوء ....

 هل كنت تتصور أن يكون لهذا الشتاء جنائز تسير تحت وطأة مطر ودمع؟! .....

 وهل كنت تتصور إن وقع غيابك كوقع العواصف الرعدية حين تجلد نوافذ الورق دون صراخ؟!.....

 لم أتصور أن يأتي اليوم الذي أزرعك على حقل سطر؛ وأنت الذي قلت لي يوماً سوف أجالس حروف كتاباتك حرفاً حرفاً حتى نصل إلى الضفة الأخرى من ذاك التل الأبيض المتوسط ....

  كنت أنتظرك بعد أربعة سطور إلا فجراً.. أردت أن أخذك من ذاك المستنقع الذي أطاح بحلمك... أردت أن اخبرك بأن الأبجدية التي كتبتها يوماً سوف تعيدنا إلى طريق معبدة بالضوء والحلم والدهشة ...

  هل وصلك صوتي وأنا أحدثك عن تلك البقعة من العالم التي غسلت بماء ودم ؟! ....

***

مريم الشكيلية - سلطنة عمان....

 

لوحة فوق الجدار

ابيضًا كان الجدار

وشعاع يهرق الضوء بهاء من خلال النافذة

ونسيم شفه وجد الهبوب

فتثنى مرحًا تحمله

لوعة رقص.. فاستدار

حينها مست ذراعاه بعفو معصميها

نزلت خجلى من اللوحة جذلى

ضرجتها فتنة وارتج صمت

حينما طاش عليها الامر

اختالت طروبا

وتأنت بابتسام محض لحظة..

بأناة..

هي قد مدت ذراعيها اليه

ـ أيدس الرقص ما بين يديّ وسيسأل؟

ابتهالًا: راقصيني

لم يهفهف حولها الا هنيهه

ما احتضنها!

ما اعتصرها!

حينما مست ذراعيه يديها

ومضى يلتاث في الصالة وقتا

منذ.. لا تدري ولكن!

وتلاشى..

.....

.....

دهشة غصت من الضحك

أكاليل الستارة

حينما حركها الريح

وغادر

***

طارق الحلفي

أسير وحدي، راكبًا جوّالتي،

أقطع الطريق نحو الأرض المفتوحة،

حيث النخلُ يحرسُ الفقراء،

وحيث المجانين يحادثون الله دون وسيط.

هناك، في أطراف المدينة،

في البقعة التي يسمّونها "الشبانات"*

أذهبُ لأتأمل،

أفرش نظري على خضرةٍ لم تمسسها يدُ الإسفلت،

أسحبُ نفسًا من سيجارتي،

ثم ألتفتُ،

فإذا بالأطفال يركضون في العراء،

يلعبون كما كنا نفعل ذات زمن،

وحينها…

يسرقني التفكير.

*

ما الذي تغيّر؟

الألعابُ ذاتُها،

لكنَّ اللاعبين يتبدّلون،

كبرنا…

ثم كبرت الحياةُ علينا،

ثم لعبت بنا كما لو كنا دمى،

ثم رحل بعضنا إلى وادي السلام*

والباقون ينتظرون دورهم في قائمةٍ طويلةٍ بلا ترتيب.

*

أتذكّر جدتي،

المرأة التي حرمتها الأقدار من أن تكون أمًّا لأكثر من واحد،

فوهبتها الحربُ لقبَ أمّ الشهيد،

وجلستْ تطرقُ ساقيها بأسى،

تنشدُ مرثيةً جنوبيّةً بصوتٍ موجوع:

"من يومها گلبي ولا طاب"

"ومليت أناطر دگة الباب"

"ثاري الهوا والباب چذاب"

"ردّ النه مو غادين عطاب!"*

*

أتأملها وهي تكرّر الأبيات ذاتها كل ليلة،

كأنها تحاول أن تستعيد صوت ابنها من ظلمة القبر.

*

وأنا؟

أضع يدي على وجنتي،

وأغرق في أسئلتي التي لا تنتهي:

*

ماذا لو منحت المقابرُ يومًا إجازةً للموتى؟

لو عادوا إلينا كما يعود العاملُ بعد نهاية الدوام؟

كيف سيكون شكلُ اللقاء؟

هل سيفزع الأحياء أم يحتضنون الغائبين؟

هل ستبكي الجدّاتُ بفرحٍ أم بخوفٍ من وداعٍ آخر؟

*

ماذا لو تحوّل صراخُ يوم القيامة إلى معزوفة؟

هل سيظلّ الحساب رهيبًا أم يصبح الكون حفلةً أبدية؟

*

ماذا لو قَبِل اللهُ توبةَ إبليس؟

هل ستنهار خطط العذاب؟

هل ستُطوى جهنّمُ كما تطوى الصحفُ بعد انتهاء الأخبار؟

*

ماذا لو وضعوا قنبلة غازٍ مسيلٍ للدموع في يد مَلَك الموت؟

هل سيرجعها كما فعل "أبو علاوي الحلاق"؟

يردّها عليهم ضاحكًا، قائلًا: "خذوها،..

لا حاجة لي بها، الموت يكفيكم!"

*

ماذا لو استبدل الموت الظاهر بالحياة الظاهرة؟

لو لم نرَ القبور، بل رأينا أهلها يتجوّلون بيننا؟

*

ماذا لو لم يكن اللون الأحمر موجودًا؟

هل سيبقى للحبّ عيد؟

أيّ لونٍ سنختار له؟

أم سننسى الحبَّ كما نسي العالم الرحمة؟

*

ماذا لو…

ماذا لو…

ماذا لو…

*

أشعل سيجارة أخرى،

أنفث الأسئلة مع الدخان،

وأعود من "الشبانات"،

كما جئت…

وحيدًا، ممتلئًا بأشياء لن تحصل أبدًا.

***

حيدر كرّار عدنان

.....................

 * الشبانات: منطقة مجاورة لمنطقة الشاعر في كربلاء، يقطنها أناس بسطاء، يعيشون في ظروف متواضعة، تملأ شوارعَها ضحكاتُ الأطفال وهم يلهون ببراءة، وتنبض بالحياة، وسط بساتينها الغنّاء، التي تضفي عليها سحراً خاصّاً.

* وادي السلام: مقبرة مدينة النجف، أكبر مقبرة في العالم

* يذكر الشاعرُ جدته التي أعدمَ النظامُ الفاشيُّ السابق إبنَها، فظلَّتْ تحنُّ اليه حتى يوم رحيلها.

رواية قصيرة

1- رصاصة وماء

أمّا عنّي أنا فأقول بكلّ جرأة ها إنّي أعود من دون خوف

نعم

بعد ربع قرنٍ عدت إلى مكاني الأوّل…

فقد تغيّر شكلي الآن

 تماما.. أصبحت شخصا آخر.

ظهري لم يتقوّس مثلما بدا على أبي مبكرا.. كانت أمي تقول أرفع رأسك دائما ولا تنحنِ. تضايقت في البدء، مع ذلك تجنّبت عيبا خلْقيا بفضل تلك النصيحة. أمّا وجهي فلم يعد كما هو، هناك تجاعيد، وبعض التشوه. من حسن حظّي أنّي كنت أميل برأسي بعيدا عن شلالِ ماء النار الذي أكل بعض خدّي الأيمن. فأضاف مع الزمن تغييرا على وجهي لا يستبينه أحد من الأحياء الذين عاصروني قبل هربي البعيد.

أمّا اسمي فلا يهم.. معي وثائق أخرى، واسم آخر اخترته عن قصد، لينس الناس اسم (جلال الحيّ) لأنّني سبقت الزمن، واسمي الماضي. كنت أعيش بطريقة ذكيّة: حي مع نفسي، وميت بنظر الآخرين. كان لابد من أن يتحوّل - إذا رجع الزمن ثانية - (ميلاد سلامة) إلى (جلال الحيّ) منذ أن فكرت بالعودة إلى البلد من جديد.

ومثلما تغيّرت بسرعة مذهلة، وجدت كل شيء تغير أمامي.

البلد هو وليس بهو.

حاضر وغائب

هناك بعض المعالم بدت مشوشة مثل صورة قديمة.

حسب مفهومي السابق كان المشهد يتداخل في عينيّ بشكل فظيع.. هناك جمال وقبح في الوقت نفسه

نخل اختفى وسدر حل مكانه.

بيوت متواضعة.. عمارات ارتفعت مكانها.

الأمور تسير بالتوازي والأهم عندي ألا أحد يعرفني على الأقل الآن.

اخترقت شوارع جديدة، مناطق ضيقة، مناطق أعرفها على الرّغم من تغيير رهيب لم آلفه من قبل. بضعة أيام مرّت حتّى تأكّدت ألّا أحد يعرفني.. فقد أطلقت لحيتي قبل العودة ببضعة أشهر. أغادر الفندق إلى الشارع، ألف الحارات، أطالع الآخرين بلمحات قصيرة.

المكان ذو القصب الذي قـتلت به، زرته..

وقد خُيِّلَ إليّ أن الكثير من المظاهر شاخت

ومن بينها النهر نفسه.

كنت يوم جرفني الماء جريحا في التاسعة عشرة من عمري، والآن شارفت على منتصف العقد الخامس. يالها من رحلة طويلة أجبرت عليها، ويثير دهشتي العشرات الذين أراهم يهرعون إلى زوارق

المهرّبين ليغادروا ولم يجبرهم أحد مثلي على الهرب...

على النقيض من هؤلاء الهاربين سجلت عودتي الجديدة.

حارتنا القديمة لم يطرأ عليها أيّ تغيير كثير، استوقفت طفلا واجهني عند المنعطف القريب من بيتنا:

- قل لي لو سمحت أتعرف بيت السيد (جليل الحيّ)

أشار الصبيّ إلى بيتنا القديم، وقال:

- ذاك هو البيت يسكنه ابنه (كنان)

أخذتني دهشة مفاجأة.. دهشة أشبه بالصفعة إذ لا أعرف لي أخا اسمه (كنان):

- أليس أخوه (توفيق) معه.

أجاب الصبي بعدم اهتمام:

- سيدلك عليه (كنان).

خطوت كمن راودته جرعة خمر. أظنّ أنني أترنّح. نحو بيتنا القديم. لا أرغب أن يشمت بي أحد، ولا أعرف حين تواريت أنّ لي أخا اسمه (كنان) وقد ظنوني مت وجرفني التيار إلى الخليج فلم تبق لي الكواسج والحيتان من أثر، وقتها كانت أمي في سنّ الخمسين، فكيف أصبح لي أخ....

الحقّ على أبي هو الذي تفرّد بأسمائنا ما عدا أختي زاهية التي اختارت اسمها أمّي موفق.. جلال. أنمار... توفيق سوى أني أكاد أترنح، وتنتشلني فكرة تقول أنّ عليّ أن أحسب حساب المفاجآت..

 وقفت أمام الباب مترددا، وضغطت على زرّ الجرس بيد مرتعشة، فانفرج مصراع الباب وأطلّ عليّ بعد لحظات صبيّ في السادسة عشرة من عمره، هو أخي الذي عرفته قبل قليل ولا يعرفني، فيه من أبي شبه كبير وبعض وسامة أخي (توفيق) وطول أخي الشبيه بي (أنمار الحي).

قتلوا منا واحدا

قتلنا اثنين، فقتلوا منا

ثم منهم ثالث ومنا رابع، وآخر فاستهدفوني في سلسلة الدم.

هناك شخص آخر يسير جنبي هو أخ لا أعرفه.

كنت أسير بجنب النهر، المد عال والتيار جارف، هزني صوت رصاصة وقعت في كتفي، فرميت نفسي في الماء.. لحظتها غطست وجرفني التيار.. اختفيت بين القصب الكثّ.. لم أشعر بالألم إلا بعد دقائق، بقيت أتشبّث بالقصب، وسمعت أحدهم يقول:

- هذه آثار دم على الجرف

ورد الآخر:

إن لم يظهر في أهله، سيكون التيار جرف جثته، وتناهشتها الكواسج.

كنت أنصت بين القصب إلى الذين قتلوني، وقد راودتني شجاعة ألا أعود، لم يبق من عائلتنا إلا أخي (توفيق) الأكبر مني بسنتين، شقيق آخر لي ظهر فجأة.، فمن أين جاء أخي هذا الذي لا يعرفني!

وصلنا إلى منزل فخم، تشرئب من سياجه نخلة وشجرة سدر وثمة تلقي ملكة الليل بأغصانها على قوس الباب، ضغط (كنان)على زر الجرس وحالما انفرج الباب عن صبي في السادسة من عمره، دلف أخي المفترض هو والصبي إلى الداخل وهو يقول لحظة من فضلك، ثم خرج وهو يخاطب أخي:

- ضيفك

 وتركنا وحدنا.

ربع قرن كاملة بيني وبينه...

سنوات تشير إليها شعرات شابت، وتجاعيد في الوجه. وربما بعض تقوّس في الظهر ورثه عن أبي: كيف أبدأ؟

- هل عرفتني؟

حصر ذاكرته إلى البعيد حاول العبور إلى الزمن بلحظات:

- الصوت ليس غريبا عنّي!

فقطعت عليه حيرته، فهمست:

- تماسك أنا أخوك. أنا (جلال)

معجزة ما فب عينية. ريبة.. بين مصدّق ومكذّب، فيستغرب من ميت حي وميت يعود للحياة بعد أن أصبح رميما.. عانقني بحرارة والدموع تكاد تقفز من عينيه:

- غير معقول

- فهمست ثانية وأنا أمسح على رأسه:

- معقول ولا تنس أن تحفظ السر أنا صديق قديم.

2 - أنمار أخي

كأنّما كان كل شيء يعيد نفسه بصيغة أخرى.

أما الذي كان، فلا أنكر على الأقل، مع نفسي أنّي كنت السبب فيه.

أعترف

أنها عبثيتي وحبي لنفسي الذي فطرت عليه.

عنادي

واعتدادي بنفسي

أم

بعض النرجسيّة؟

كان أخي (أنمار) الذي يصغرني بسنة، هو ضحيّة شبهه بي. شاب متزن قليل الكلام، يتعفف عن كثير من الأمور. في اليوم المشؤوم رصدوني، - أعني آلم الفارس، من حقّهم... رصدوني أنا من هتك عرضهم، كما خطر لهم، ونكث بهم، نصبوا لي كمينا ومن سوء حظّه أنّه كان يوم في المكان نفسه...

أنا هو

الناس أنفسهم أخذتهم الدّهشة...

أمي

أبي

إخوتي...

هذا (أنمار)صاحب المكارم الذي يقسم الناس برأسه.. يحلفون به.. يرتكب إثما... يقولون تحت السواهي دواهي، وقد سكتّ..

بلعت ريقي عدة مرات والتزمت الصمت.

أخي (توفيق) ران عليه الجزع والتأثر أكثر منا، واختمرت في رؤوس الجميع فكرة الثأر. قال أبي:

- لا عزاء إلا أن ندرك بثأرنا

واستشاط أخي الأكبر (رائد):

- لا أظنّ (أنمارا) يفعل ذلك أنا متأكّد من أنّها قضيّة مفبركة، ليغطّوا بها على خطيئة ابنتهم.

واندفع أخي (صافي):

- كان الأولى بهم أن يواجهوننا بالحقيقة لنحلّ المسألة من دون فضيحة!

بقيت ساكنا. الحق كنت متأثرا إلى أبعد حد. الذي شكّوا فيه هو الشبيه بي على المّرغم مني أننا نحن الإثنين لسنا بتوأم.. أمّي نفسها يختلط عليها وجهانا فتنادي كلّا منّا باسم الآخر. لم يتبيّنوا ملامحه... هو أنا. حينذاك أنقذني الظلام وشاحنة استدارت عند الفلكة القديمة. تشبّثت بها من الخلف وأنا ألهث. انتهاك... إثم.. جريمة.. شرف.. وكانت هناك لي لقاءات لكن لم يكن هناك اقتراف خطيئة وذنب.. كان أهل الضحيّة يشكّون بأخي، فصرخت بأبي وإخوتي:

- إنّه حقي... حقي أنا (أنمار) ولد بعدي وهو شبيهي أنا آخذ بثأره.

مع كلمتي تلك جرى شلال دم بين عائلتنا نحن آل (الحيّ) وعائلة آل (الفارس)، أخفيت سلاحي تحت ثيابي، وقصدت سوق العطارين الضيق القديم حيث العطور وليف الاستحمام وروائح الصابون المحليّ. هناك (نديم) ابن الحاج (عواد الفارس).. في غفلة مع زبون، ومن حسن حظّي أني بعد لحظات أبصرت أخاه يزيح ستارة الباب الخلفيّ فيقف عند الميزان. تراقص السرور في عيني، لابدّ من أن أمارس القتل.. عصفوران بحجر واحد هل أخذتهما العزّة بالإثم، فباشرا العمل، ولعل وجود أخيه حدث مصادفة. حثثت الخطى، وبسرعة البرق. مثل الذئب، انثنيت، وصرخت. أطلقت عليهما النار ثمّ انسللت بخفة الغزال..

لم ترتجف يدي

أحب الغناء

الطرب

الرقص

مع ذلك أثبت أنّ صدري مثل الحديد يمكن في لحظة ما أن يتخلى عن كلّ معالم النعومة ورهافة الحسّ.

اثنان بواحد

وحاول ضابط الشرطة أن يستنطق عدوّنا. استدعوا الرجال وبعض النساء، فأنكروا...

وفي الليلة ذاتها مشيت مرفوع الرأس، وذهبت شأني كلما أحسست بالنشوة إلى دارة (رودينا أبي لمعة) فعثرت على مطلبي. سكرت والتهمت الشاورما، وتمايلت مع رقصات بنات الريف، ثمّ ضاجعت بتحفّظٍ ابنة (رودينا أبي لمعة) (راجحة)ذات الأعوام الستة عشر.

كانت تثيرني أكثر من غيرها بنهديها المنتصبين وبطنها الضامر.

تكون بين يدي ولا أقرب عذريّتها. كانت تثيرني بشامتها الناصعة السواد على كتفها الأيمن، ووحمة بنية ترتسم أسفل سرّتها..

ويبدو أن الحيوية عادت إلي مرة أخرى، فغيّرت، ذهبت مع إحدى المحترفات ودفعت مبلغا مضاعفا، فغفوت في بيت (رودينا) ولم أستفق إلا قبيل الظهر.

هل أدوّن سيرة الدم الكبرى قبل حدوثها بل قبل أن أصبح في عداد الأموات!

3 - الهالة على وجهي

- الآن سأنادي على الطعام فلعلك جائع وبيتي بيتك أنت ضيف بالإسم فقط.

- أكلت في الفندق.. اسمي الجديد (ميلاد سالان) جواز سفر الدولة التي انتميت لها، قبل ثلاث ليالي نزلت في فندق (الأمل) وتجولت بوجهي الذي غطته السنين وتشويه في خدي اليمين.

هما جواز سفري الأصلي

تعويذة المرور.

لم يصبر أخي، وقاطع:

- لكن حقيقة ما الأمر.

- سأشرح لك فيما بعد قصة الهالة.. نزلت إلى الشارع فأيقنت أن لم يعرفني أحد، وهنا حين وصلت تعمدت أن أسأل طفلا عن بيتنا القديم تجنبا للمفاجأة، فاكتشفت أنّ لي أخا جديدا!

فقال مبتسما بمرارة:

تلك قصة النهاية للمأساة ولعلها أطرف قصّة.. بعد أن فقدنا اثنين من عائلتنا عزّ على أبي أن يفرِّط بي.. وأبوا أن يفرّطوا بمن بقي لهم فجرت الوساطة بيننا.. (خفض صوته، ثم سكت، فسمعنا طرقة على الباب، فنادى بصوت عال) أدخلي...

هزّني المشهد حقّا..

رشاقة

خفة

مشية باتزان...

هي

(فجر الفارس)، والسنين التي طبعت على وجهها مسحة حزن وكبرياء، كنت في طريقي إلى أن ألهو بها من دون أن أقترف إثماً ولا جُرما.. في الثامنة عشرة من عمرها، والآن تجاوزت العقد الرابع لكن جمالها مازال يتطاول على السّنبن. كنت أقول لها أنت حقا فجر... وأكثر من بدر.. كانت تظنني صافي النيّة. أحبّتني.. مع ذلك لهوت قليلا.. قبلتها وهصرت يدها.. جعلتها تضع رأسها على كتفي... قالت:

- هل تحبني؟

- نعم

أدرك أن في كلامي صدقا وكذبا.. لعلّ الكذب أكثر.. قد أكون أحببتها.. لكنّ طبيعتي جبلت على حبّ اللهو، لا أقبل أيّ قيد.. لا أنكر أنّ في علاقتي معها مسحة من الحبّ، وحين لمحني أحد أشقائها في الظلمة التبس عليهم الأمر.. فكان المطلوب شخصا آخر:

- زوجت (فجر الفارس)

لم يكذب نظري ولم تشطّ النظرة الأولى منّي نظرت إليها وخفضت بصري، لا أظنني زغت واستدرت قدر استطاعتي إليها بخدّي المشوّه:

- أهلا وسهلا. تشرفنا

- أهلا بك أخي العزيز.

يبدو أنّ ملامحي غابت في السنين، فخفيت عنها، وضعت صينية الشاي على المنضدة واستدارت من دون أن تنظر إليّ، فاستوقفها قبل أن تصل إلى الباب الذي يفضي إلى داخل البيت:

- أمّ (إياد) أيتها العزيزة، (ميلاد سالان) صديق قديم كان معي في الجندية، كان أحدنا يفدي روحه للآخر، وقد ترك بلدته ليعمل هنا أمرته نعم أمرته أن يترك الفندق لأن له بيتا هنا وسيبقى معنا إلى أن يعمل ويجد بيتا.

سبقتني:

- على العين والرأس

اعترضت، أحاول أن يكون كلامي معها قصيرا لئلا تستفزّها نبرة كلامي، فتعود إلى سنوات خلت:

- يا صديقي لا أريد أن أثقل عليك.

- والتفت إلى زوجته:

- أووه لا عليك منه.

فهمست في أذنه حالما اختفت:

- يبدو أنّك لا تعاملها كأنّها صفقة من الصفقات.

فابتسم عن انشراح:

العشرة تخلق الحبّ، أختنا عندهم حسب صفقة وهي مرتاحة مع زوجها ولها منه أولاد وبنات.

أحاول أن أقنع نفسي:

- لكن أريد أن أفهم إذا لمم يكن سؤالي يحرجك ذا، وكيف تزوّجت حبيبة أخيك المرحوم.

فقال بلهجة مرّة

- واقع لا بدّ منه. اشترطوا للصلح أن يتزوّجوا أختنا (نبيلة) وأتزوج أنا(فجر) ثمّ أصبحت العائلتان مثل السمن على العسل، وحين ماتت أمي بعد سنتين كمدا على أولادها، صاهرهم أبي فجاء أخونا الذي أوصلك إليّ ولنا أيضا أخت أصغر منه اسمها (سها).

فارتشفت بعض الشاي، وتأملت قليلا:

- يعني يسكنان مع أمهما في بيتنا.

- بالضبط.

فهززت رأسي كأني في غيبوبة:

سمعتك تناديها بكنيتها؟

فردّ كأنّ خجلا ما يراوده:

- (إياد) ابني الأكبر، يعمل ضابط شرطة على الحدود وقد ينتقل إلى محافظة ما، ولعلني أرتّب أمره بوساطات فيبقى في البلد قريبا منّا.

- كلّ عقدة تحلّ بالمال.. لا تحمل همّا.

- وعندي أيضا (درّية) أمّ الدرّ على اسم أمّنا تدرس الطبّ في العاصمة في سنتها الأخيرة.

- ماشاء الله ربّ زد وبارك. حديثك جعلني أشتاق لرؤيتهما.

ومدّ يده إلى كأس الشاي، فتردّد كأنّه يبحث عن شئ أو يتحرج في البوح عما يفكّر به، وكان عليّ أن أستدرجه لأعرف ما الذي يشغله فأُنْصتُ وأسْتمعُ أكثر مما أتكلّم فقد بدت المدينة والناس بشكل آخر لا يبعث فيّ الخوف. حين طال الصمت بضع ثوان:

- ماذا؟ هل من شيء؟ قل أنا أخوك الشقيق.

- الحقيقة لا أعرف. ظنّك الجميع ميتا. مقتولا.. فجرى تقسيم الميراث على وفق الحال الجديدة. (كنان) وأخته لهما البيت، ولي البستان الكبير، لست محتاجا، وأعطي من وارد البستان الأهل وأدعم سها وكنان، إنّما هي وصيّة أبي جاءت مع الشرع ولا بدّ من أن التزمها، (كنت شغوفا على ألّا أقاطعه، فالتقط أنفاسه وواصل) سآخذك غدا إلى محل الكهربائيات الذي أملكه، لكنّ ظهورك قلب الموازين!

- قل ماذا تفكر به بالضبط.

- قضية الميراث وحصتك فيه، لا أقدر أن أواجههم بظهورك، لكنّي لن أبخسك حقّك وسأتّحمل تعويضك وحدي....

بلا مبالاة:

- هذه قضيّة لا تعنيني فلدي المال الكثير وأنوي إقامة مشاريع في المدينة. فهل هناك من شئ آخر؟

- أخشى أن تظهر باسمك الحقيقي، فيهتزّ الماضي كلّه.. فتثور صدور الآباء... الأبناء.. الجيل الجديد.. سريع الانفعال... يتصوروننا خدعناهم وأخفيناك. الجميع يظنك ميتا فيدخل (آل الفارس) و(ىل الحي) في دم جديد...

فقاطعته متفائلا:

- وهذا أيضا لك ولن أسقطه من حسابي بل سأعمل به سترى وتسمع في الأيام القادمة عن الوجيه المعروف (ميلاد سالان)

فزوى ما بين حاجبيه:

من أنت؟

- (ميلاد سالان) لا تعجب يا عزيزي والدنا لم يرتّب أسماءنا حسب الحروف الأبجدية ولا على أي أساس.. أسماء عشوائيّة لا ترابط بينها، أمّا (ميلاد سالان) فاسمٌ يناسب التجارة ورجال الأعمال الكبار.. ثمّ تسهل كتابته باللغة اللاتينيّة فهل اقتنعت؟

4 - يُنسى ولا يُنسى

.. أوصلني أخي بسيارته إلى الفندق قبيل منتصف الليل، وظنّ أنّه يجدني في الصباح قد حزمت حقائبي حسي اتفاقي معه، وانتظرته.

لكني أجريت بعض التعديلات..

أثبت وغيّرت

محوت.

كتبت قدرا جديدا لي.

كنت مضطجعا على السرير في الغرفة، أراهن أثر السنين.. الربع قرن والتشوّه الذي طرأ على خدي. في إحدى معاركي.

هل تكتشف(فجر) شخصيتي حين أعيش عندها في البيت؟

كان أخي متسرعا في عرضه..

إنّي الآن أحمد الساعة التي عانق فيها ماء النار خدّي..

قبل أن أجمع ثروتي الهائلة.. اشتغلت في عدة أعمال.. قد يراها مجتمعنا وضيعة.. كناس.. حمال.. عملت علاقات مشبوهة ومارست التهافت على اللهو. هوايتي المفضّلة.. تجارة الممنوعات.. الحشيش، تزوير العملات.. فتحت بارا وصالة قمار.. إنّه اللهو الذي مارسته في بلدي من قبل…

 هوايتي

لا أدافع عن نفسي

منذ صغري أحبّ الفرفشة والعبث والغناء

هواية

مثلما هناك هواية الشعر والملاكمة والنحت

أصبحت ثريّا من واردات المرقص وتجارة الممنوعات، وكذلك الجنس. لست سخيفا لأعترف أنّ التشويه في وجهي الذي أخفى شخصيتي حدث بسبب شجار. قد لا ألوم نفسي، فما نجده في بلد عيبا يكون عملا غير مشين في بلد آخر.

 عندئذ أدركت وبكل رجاحة عقل أنّ عليّ أن أقف عند حدودي، فهذا البلد الغريب منحني كيانا: جنسية... اوراقا ثبوتية، ولغة أخرى، يمكن أن تعزز رغبتي في الانتقام.

لم يوقف رغبتي في الانتقام أنّي وجدت الأعداء أصبحوا إخوة..

بل

ازددت تصميما

لقد قتلوا أخي الشبيه بي

نصفي الآخر الذي يراه أبي وأخوتي وأمي النصف الحلو

الدعة..

البساطة

الهدوء

التدين

العفاف

فهل أسكت عن ثأري

ذلك زادني إصرارا على أن أمارس طريقتي الخاصّة...

في الساعة العاشرة صباحا زارني أخي، ارتسمت الدهشة على وجهه:

- أين حقيبتك؟ هيا لا تتكاسل.

- إسمع يا أبا (إياد) لقد غيّرت خطتي.

- معقول؟

- عليّ أن أحسب ألف حساب للأمر بقائي عندك فترة طويلة يكشف سري لزوجتك من زلّة لسان أحدنا أو تنصت على حديث..

قال بارتياح:

- إذا كان الأمر كذلك فلك ما تشاء.

- أظنّك أنت أيضا مهتم في الحفاظ على السرّ.

- طبعا. هل تذهب معي الآن إلى المعرض؟

وفي الطريق طلبت من أخي أن يعرج على مكان آخر في ذهني، فمالت بنا السيارة إلى حيث أقصد. وبدت لعينيّ المشاهد غائبة حاضرة في الوقت نفسه، تغيير فظيع كأنّ المدينة تنمو وترتفع إلى السماء أكثر.. طلبت منه أن يوقف السيارة، فترجلنا ونظرت إلى الجرف.

المكان نفسه..

بعض الملامح تغيرت

وأخرى لا أظنّ الزمن مهما تسارع لا يطالها

نظرت من الجرف، وحزمة البردي الكثيفة التي انحسر عنها الماء، لمست من حيث لا أدري كتفي:

- الآن جزر

- ليس الجزر وحده هناك جفاف وأصبح المجرى حتّى في أقوى مدّ لا يصل الجرف.

فقهقهت منتقما:

- هنا اغتالوني ومن حسن حظّي أنّ المدّ ليلتها كان يعانق الساحل. كنت عائدا من مجلس لهو في بيت (راجحة)، فجأة أصابتني رصاصة في كتفي، فقفزت في الماء والرصاص يتلاحق وقطرات من دمي على الجرف.

فوضع يده على كتفي:

- انس الماضي

فقلت له كأنّي أخرج من كابوس:

- هناك أشياء تنسى وقضايا لا تنسى

 عدنا إلى السيارة ثانية، وسط صمت مطبق ثمّ وصلنا بعد دقائق إلى معرضه. كان يدلّ على أبهة، والعاملون فيه مثل خلية نحل، ولفت نظري زبائن يخرجون أو يدخلون. كان المعرض الفخم صورة لمدينة صغيرة.. فتح باب المكتب وقال:

نجلس هنا بعيدا عن الضجّة، لقد قدمت الساعة التاسعة فتحت المعرض، ثمّ قصدت الفندق، وطلب من عامل فتجاني قهوة:

- دعنا ننعم بالقهوة ونفكر ماذا تقترح علي من عذر لعدم حضورك اتعلّل به أمام(فجر)؟

- اختلق أيّ سبب قل لها جاءتني مكالمة ضرورية فسافرت على أمل أن أعود بعد بضعة أيام.

فابتسم وهو يرتشف القهوة:

- عذر مقبول حقّا.

تابعت بخار فنجاني، فسألته قبل أن أرفعه إلى شفتيّ.

- قل لي هل تحبها؟

فصمت لحظة، وقال:

- إنّها طيبة القلب. البارحة سألتني قالت يمكن يكون صديقك بحاجة إلى مال!

فاستفزّني قوله:

- لم أسألك عن طيبة قلبها أمنا كانت طيبة القلب، الطيبة موجودة في طبيعة البشر لكني أسألك عن الحب؟

علا وجهه بعض القتام:

- لا تنس أنّها كانت ضمن صفقة... صفقة سلام أنهت الحرب.. أمّا الحب فقد خلقته العشرة، ولا أبالغ أن أقول إنها تعبدني!

فصمت، وصمت، وانتبه إلى السكون، قبل أن ينطق، دخل عامل وزبون يسألانه عن سلعة ما، فغادر وعاد بعد دقائق، أغلق الباب خلفه، وقال:

- معذرة قد تكون في شكّ ما أوحاه إليك الماضي، وهذا من حقّك، وحقّ أخينا المغدور، لكني تساءلت بعد زواجي، لأفترض أنّها تزوجت رجلا أحبته قبل الزواج ثمّ مات، ألا يحقّ لها أن تخوض تجربة زواج أخرى.. الأحياء يا أخي أولى.

فهززت رأسي بين مقتنع وشاك شأني في نظرتي للحياة:

- معك حقّ هناك ماض يمكن أن ننساه. إلّا بعض الماضي مثلي أنا هناك أشياء لا أقدر على أن أهجرها.

- أعرف.. الفرفشة!

استدرجته:

- يا أخي أين هي الفرفشة. منذ أن دخلت البلد لم أجد إلا لحى، وعمائم، ونساء يغطين شعورهن، أين أيام زمان، أين الغناء والطرب و (رودينا أبي لمعة) صحيح قل لي هل مازالت حيّة.

فضحك ونقر بقلم على ورقة مقوى بين يديه على المنضدة

- الله لا يعيد أيامها الفاجرة. ماتت وشبعت موتا، ومع قدوم الجماعة أصحاب اللحى كما تقول، هجرت ابنتها (راجحة أبي لمعة) المهنة، وفتحت معمل خياطة لملابس النساء، في مركز المدينة، مركز (الستارة)، وهناك همس في أنّه أكثر من ذلك.

5 - خال ووحمة

العالم يتغير

وهناك أشياء تظلّ في النفس، وخارجنا لا تتبدّل وتلك قضيّة لا تتعلّق بالنسيان.

معالم اللهو لا تشيب

الغناء يظل كما هو على مر العصور لا أحد يهجره

والخمرة هي هي.

وقد وقعت على بغيتي أخيرا.. (راجحة أبي لمعة) بغيتي، يا ترى هل تغيّرت.. كانت تمارس الجنس معي ومع آخرين، وهي عذراء. مع ذلك أحسّ أنّها تمنحني مالا تمنح الآخرين أو إذا جزّأت اللذة أظنّني أكسب حصّة أكبر مما تمنحه للآخرين.. وأجدها تنزعج حين أمارس مع غيرها. هناك أسماء في ذهني.. أسماء عاهرات جميلات بعضهن جئن من بلدان بعيدة..

هربا أم رحلة.. لا يهمّني معرفة السبب. سأختار حشدا منهنّ.. أكون حلقة الوصل بين الوحشة والفرح..، وانتشلني أخي الي عاد من إطلالته على محله الواسع:

- قل لي هل تحبّ أن نتغدى هنا في مكتبي اليوم؟ سأطلب كبابا الأكلة التي تفضَلها.

- لا... أرغب في أن أرى المدينة.. والأفضل أن تتغدّى مع زوجتك.

- نحن إخوة لا تشعر بالإحراج يمكن أن نذهب إلى المسجد القريب نصلي الظهر ثمّ نعود إلى هنا نطلب طعاما أو نتغدّى في أيّ مطعم.

فابتسمت مذهولا:

- عهدتك لا تصلي منذ متى بدأت؟

- بعد مصرعكم وبقائي وحدي لقد وجدت الحياة لا تساوي شيئا، حفنة تراب وحفرة وأسأل الله لك الهداية.

فنهضت ومازالت الابتسامة ترتسم على وجعي:

- سأذهب إلى المدينة

- هل أقلك إلى هناك؟

- لا حاجة إبق في عملك سأستقلّ سيّارة أجرة.

كان هدفي معرض (الستارة)، النافذة الجديدة التي انفتحت لي بصورة أخرى، ودفعتني إلى أن أتشبّث بفكرتي القديمة أكثر وأكثر. كم كنت أتعب في الجث عن وسيلة أخرى لو لم أجد (راجحة أبي لمعة) وقفت السيارة أمام المحل، فترجلت:

لحظات

بصري يلاحق العنوان: خياطة الستارة: لوحة أعلى المدخل عريضة، ونماذج لملابس نسائيّة محتشمة في العارضتين الزجاجيتين اللتين تحيطان بمدخل يفضي إلى باب محكم الإغلاق.

ثمّ

ضغطت على زرّ الحرس فانفرج الباب بعد دقائق، فأطلت عاملة في الثلاثين من عمرها ف، يغطي شال شفاف بعض شعرها:

- إنّي أسأل عن السيدة راجحة أبي لمعة صاحبة المعمل.

- ستأتي بعد ساعة.

- حسنا سأرجع من الضروري أن أجدها من أجل صفقة. قولي لها معرفة قديمة رجل الأعمال (ميلاد سالان).

كان عليّ أن أدع ذهنها يفكّر... من هو (ميلاد سالان)، أروم أن أستنزف خواطرها قبل أن أقابلها، الحظ يدعوني مرة أخرى.. سينشغل ذهنها بالماضي تبحث في صفحاته ولا تجدني، فالذين مرّوا بها كثر.. وجميع الأسماء متشابهة.. الواقع والخيال، أمّا أنا فما عليّ إلا أن أثبت لها. أنّي صاحب مشروع يعيد الماضي بصيغة أخرى... لا أظنّها تنكرني أو ترفض فلدي منها شارتان من الماضي البعيد أفاجئها بهما فتطمئن إليّ.

أقلتني سيارة أجرة إلى فندق الأمل السياحي، منحت موظف الاستقبال بعض النقود، وسحبت من الودائع حقيبة السمسنايت:

- قد تزورني خبيرة بالمساج المساء..

فهزّ رأسه مسرورا.. صعدت لجناحي، وأخرجت عقدا ثمينا، من الحقيبة، أعدت إغلاقها بالرقم السرّي، وضعت العقد الذّهبي في جيبي، وجلست أتأمّل.

أمارس الوقت

لم تبدأ عملية اللي بعد

ابتسمت ساخرا

رفعت سماعة الهاتف.. طلبت سيارة أجرة، وهبطت إلى صالة الاستقبال، أودعت الحقيبة، ودخلت السيارة..

كيف فاتني الأمر.. تفكيري في حفظ هويتي جعلني أهمل الأرقام كأنّها تفضحني، نسيت أن أصحب معي رقم هاتف أخي في العمل، والبيت، ومعمل (راجحة أبي لمعة).. التفتّ إلى أنّ خطتي المحكمة أوحت لي أن أستعيد الأرقام إذ تأكّدت الآن أنّي استفقت من زمن الفراغ الذي امتدّ إلى ربع قرن ودفعتني فيه الهواجس إلى أن أحذر الناس والحيوان وكلّ شيء.

خرجت من سيارة الأجرة، هذه المرّة وجدت الباب مفتوحا. وقفت في الممر، وسمعت أصوات مكائن الخياطة تأتي من الأعلى.. واجهتني عاملة بملابس زرقاء، وشال بنيّ يغلّف شعرها فسبقتها:

- السيدة راجحة موجودة؟

فدلفت في غرفة على جانب الممرّ الأيمن ثمّ خرجت، تصعد الدرج، وهي تقول:

- تفضّل

حالما دخلت، التقط بصري من ظلال الممرّ ضوء المصباح، فتراءت لي سيدة في الأربعين من عمرها، يغطي شعرها حجاب كثيف،

كدت لا أعرفها

وأكاد أعرفها

ربع قرن

مازالت تحتفظ بمسحة من الجمال، عدد الأيام والسنين لم يمحوا كلّ جمالها، وفي أيّة لحظة كانت تتأوّه بين يدي كأنّها عذراء

تتأوّه

تصرخ

تشدّ بيديها ورجليها

مع ذلك فقد كانت ساخنة دافئة، فهل أجادت التمثيل إلى حدّ غير معقول

مددت يدي مصافحا:

صباح الخير ست راجحة أنا (ميلاد سنان) هل تذكرينني؟

فتغيرت سحنة وجهها:

- (ميلاد سنان)؟ صوتك ليس غريبا عليّ

- دعك من صوتي. أنا من رواد مجلس والدتك.. لا أعاتبك يكفيك ربع قرن لتنسيني..

فازدادت دهشتها:

- أووه إنّه عهد بعيد.

- لا أبالغ أنّي كنت أفكر بك أكثر من الأخريات.. رحم الله والدتك.. ولكي تطمئنّي. (مددت يدي إلى جيبي، ورفعت العقد إليها) هذه هديتي المتواضعة.

فانبهرت، وقالت: هذا كثير..

- أبدا أبدا شيء يسير وسترين المزيد منه.

قالت ومازلت الدهشة مرتسمة على وجهها:

حقّا أولاد الأصول لا ينسون الزاد والملح.

فتحت درج مكتبها، ووضعت العقد بخفة، وضغطت على زرر اسفل المصباح، فدخلت الفتاة التي قابلتها أوّل مرّة:

- ماذا تحب أن تشرب.

- أي شيء فطلبت قدحي شاي، ولكي أزيدها ثقة وأتعجلها في أن تطمئن لي:

- تعرفين أنّي كنت معجبا بشيئين لم أرهما عند غيرك: الخال في أعلى كتفك اليمين، والوحمة الدائرة وسط أسفل سرّتك.

فأطرقت تداري خجلها:

- كان ذلك أيّام زمان. لقد كبرت ووجدنا عملا آخر...

- لكنك مازلت حلوة.

- أشكرك

طرقت العاملة الباب، وضعت قدحي الشاي، وأغلقت الباب خلفها:

- اسمعي راجحة، لديّ مشروع مهمّ.. مشروع تجاري كبير، هل تتعاونين معي، هل لديك الوقت.

فضحكت ضحكة مليئة بالثقة، وقالت:

- أنا وقتي ملكي...

- حسنا.. يمكن أن تأتي إلى فندق الأمل.. حاولي أن تجدي جناحا في الطايق الثالث، أسكن في الجناح السابع وأظنّ الثامن والسادس غير مشغولين بأيّ نزيل يمكن أن تحجزي أيّا منهما أو أي جناح آخر.

- أيّ وقت؟ الساعة الخامسة؟

- حسنا ليكن ذلك، ولا تنسي سيكون مشروعا ضخما في البلد ولك الحق في أن تجرِّبي ولن تخسري شيئا.

نهضت أشدّ على يدها.. طبعت قبلة على هامتها.. لابدّ لي من أن أعيد الماضي بصيغته الأولى حسب نمط جديد.. حين جاء هؤلاء من باب المصادفة سادوا البلد وتحكّموا بشؤونه.. جعلوا الدنيا بقالب واحد.. الحياة لا تسير بالحزن وحده ولا بالشرف من دون خيانة أو الخير من دون شرّ أريد أن أبعث النقيض من جديد:

أعترف:

الانتقام يحرّكني

لكن

هناك مشروع يضيف إلى الحياة التي يعيشها الناس بلون واحد نمطا آخر...

يدفعها إلى أن تكون حلوة أكثر.

أخي توفيق يئست منه منذ أن رأيته ارتبط بوشائج قربى مع آل الفارس. أعرضت أن أبثّه ما في نفسي. أصبح لعدوه أخا وصديقا وصهرا. برأيه الصراع انتهى، وأنا أبحث عن شبيهي بين القتلى.، ولا يعلم أخي توفيق أنّه دلّني على (راجحة) بحسن نيّة.

خرجت من محل الستارة وذهبت ماشيا إلى معرض أخي، فأخبرني العمال أنّه في البيت، التقطت بطاقة تحمل عنوان المحلّ، والهاتف، ورجعت بسيارة أجرة إلى الفندق، كنت أشعر براحة، وخدر...

هي البداية

إلى هذه اللحظة الأمور تسير على ما يرام

ارتميت على السرير، وسرعان ما غبت في نوم عميق.. كأنّ الراحة التامة دفعتني إلى أن أغيب عن الوعي.. فأثق بالنوم أكثر من ثقتي باليقظة نفسها. شخصت أمامي أوّل فتاة التقيتها بعد هربي.. أيّام الفقر والستة الأشهر الأولى.. السكن القديم البارد.. والمطعم الدافئ حيث المطبخ وغسل الصحون؛ وإذ مشى الزمن يسبقني تارة وأسبقه تكدست النقود أمامي في صالة القمار، وحين اشتعلت الحرب وسط أوروبا وتفتت بعض الدول آويت كثيرا من الهاربات. اشتغلن عندي راقصات وبائعات هوى، لست بخيلا أحيانا أتبرع لكنيسة ما.. أو مسجدا ما بمبلغ يلفت النظر.. قد أنسى الذكريات الحلوة أما المرة فتبقى عالقة في الذهن. تشاجرت. أقسى ما حدث لي أنّ أحد الخاسرين في القمار ظلّ يصرخ بوجهي... يتهمني أنني سبب إفلاسه.. فقد بثروته وبيته.. كانت قطرات ماء النار ترتسم على خدي..

فصرخت

هجت

كاد وجهي يضيع لولا أن انقض من خلفه بعض الحراس فشلّوا حركته، ولم يخرجني من عنف الحلم إلا صرير الهاتف جنب رأسي، فرفعت السماعة ليأتيني صوت أخي:

- أخبروني في المكتب أنك أخذت رقم الهاتف. ألله كم أذهلتني المفاجأة فنسيته..!

- كانوا رائعين كتبوا لي أيضا رقم البيت.

- أنا أخبرتهم. أنك أكثر من أخ وعليهم أن ينفذوا أي أمر..

- شكرا لك.

- لكن قل ما لصوتك؟

- كنت نائما وربما حلمت حلما مزعجا..

- آسف لإزعاجك.. أريد أن أخبرك أن (إياد) سيأتي الجمعة، وتكون معنا (دريّة) ألا تحب أن تراهما؟

بكل سرور.

جلست على حافة السرير، تكاسلت أن أنهض إلى الحمام.. ولم تدم جلستي طويلا.. صوت الهاتف من جديد، وموظّف الاستعلامات يقول إنها الغرفة السادسة..، فهرعت إلى الحمام. أغسل عن وجهي آثار النوم.. وبعد دقائق نقرت الباب ودلفت..

تبدو بصورة أخرى

كأنها استلفت أو سرقت.. بضعة أيّام من الماضي البعيد... بدت كما رأيتها من قبل

من دون غطاء رأس

ولا شيب يلوح على رأسها

- عيني باردة عليك. إنك في العشرين.

- إنّك تبالغ؟

- ليتني أعرف المبالغة!

كانت في السادسة عشرة من عمرها، رغبت فيها فقالت لي أمّها، إنّي أثق بك.. تصرف في كلّ شيء ماعدا بكارتها، تصورّت الأمر مذهلا، رهيبا، ومضحكا حتّى في الماخور يضعون في الحسبان البكارة، فلا أحد يعير أهمية لحبوب الحمل، وعمليات الترقيع، أما حين تزوجت راجحة من ثري فقد انتهى الأمر وانتهى حديث البكارة بعد وفاته... الزيجة الأولى.. سبقتها مداعباتي... ولمساتي. قرأت الخال على الكتف الأيمن والوحمة عند الفخذ. سواد ناصع، ولون بنّي فاتح. ولساني يترقرق عليهما.

جلست على الأريكة القريبة من البالكون، قالت بشوق:

- ماذا عندك؟

- الحديث عن الشغل في المشروع الجديد اتركيه على مائدة العشاء. أمّا الآن فلي معك حديث آخر..

تقدمت منها، وجلست على حافة الأريكة، تسللت يدي إلى كتفها الأيمن، وبخفة انتقلت إلى فخذها، علامتان أزالتا الشكّ منها، ومسكت يديها. نهضنا معا:

كيف تروّض امرأة اتخذت الحبّ حرفة؟

قالت: ظننتك ترغب في إحدى العاملات عندي!

بدأت تتعرى.. وخلعت ملابسي.. مازال في جسدها رونق.. هناك ترهّل أربعون عاما تكفي.. شفاه وأيد كثيرة مرّت ولم تترك عليه من أثر إلا القليل..

أصبحنا عاريين

نظرت بوجهي وتمعنت في الرقعة المحروقة

العلامة التي تخفيني

- صوتك ليس غريبا عني.

لا تحاولي أن تتذكري

- مهما كثر الرجال في حياة المرأة فهناك رجل يجب ألا تنساه

- يكفي أن صوتي يلامس إحساسك!

احتضن أحدنا الآخر...

ورحنا في عالم ثان

لا أدري إن كانت تمثل أم أنها تتأوّه عن يقين...

لحظات ساخنة

أو

كما خيل إليّ

والحق إنّها تأوّهت،

نسيت نفسي كأنّي ألمس امرأة للمرة الأولى، ولم أنس الخال ولا الوحمة...

- هل أعجبتك

ماذا أقول: جربت كثيرا، في الغربة أوّل صديقة لي.. لم أرتح معها.. هناك الحب والصداقة، ولم أرتح قطّ إلا مع هذا الصنف.. جميع من عاشرت لهنّ طعم آخر فكدت أنسى هدفي فأخرج بعض المال ألقيه على سرّتها فتذكّرت أنّي يجب أن أجعلها مديرة مشروع. موظفة عندي.. المسؤولة الأولى عندي.. يمكن أن تقبل الهدايا.. لا أجرا عن لذّة جسد عابرة...

لتكن صديقتي.

أمينة السرّ

العقل المنفّذ

- هل يضايقك أحد في عملك؟

فضحكت عن شماتة بالمجهول:

- في البدء ظننتك جامع ضرائب أو من هؤلاء أصحاب اللحى أو مبعوثا من جماعة ما تبتزّني.... فحسبت حسابي، لاتؤاخذني لكنني ازددت ثقة بك، فلم تكن ملتحيا ولا صاحب رقعة في الجبهة، وقدمت لي ذهبا ثمّ ازددت يقينا حين ذكرت لي خال الكتف ووحمة الفخذ.

- أيعرفون بعض الخصوصيات؟

فأطلقت زفرة خافتة:

- يعرفون أن المحلّ لا يعتمد على الخياطة فحسب.. بعض العاملات.. أنت تعرف الماضي.. يغضون النظر مقابل أن أدفع لهم نصف الإيراد.. لا يهمهم سوى المال.

- قصدك أجواء محافظة في الظاهر.. في الملبس وشكل الوجوه والجباه..

- هذا الواقع

انفتح لي رواق آخر

كوة واسعة أستطيع النفاذ منها. أصبحت أملك من هذه اللحظة أحد شرايين البلد.. مشاريع سياحة.. مولات.. فنادق.. صالات قمار.. ومدن ترفيهية تديرها نساء...

- هنا الأجواء حميمية ليكن حديثنا في المطعم.. معظم الصفقات تعقد بين الكبار على مائدة العشاء..

وقد فهمت قصدي، فلملمت ثيابها، ونهضت إلى الحمام، وعادت بأناقتها، فطبعت قبلة على خدها:

سأنزل قبلك أحجز لنا مائدة في زاوية بعيدة..

- كما ترى.

هبطت فقادني موظف الاستعلامات، إلى زاوية هادئة، شفافة اللون، يطلّ على عمقها حوض واسع لأسماك حمراء وصفراء وبيضاء تتراقص بخفة، شغلت بالنظر إليها تارة والتلصص على الموائد الأخرى المتباعدة التي احتلتها عوائل، ورواد منهمكون بالحديث ومضغ الطعام. وما بين انشغالي بالتطلع في السمك الراقص والموائد الأخرى أبصرتها تهبط الدرجات إلى الصالة، فنهضت أحييها كأنّي أقابلها للمرّة الأولى، كانت تلبس فستانا أزرق فاتح الزرقة، وترخي على رأسها شالا عنّابي اللون، فمددت إليها يدي:

- لا أريد أن أضيع وقتك، لقد عدت إلى البلد بعد ربع قرن من الغربة.. لا أخفي عنك لديّ مال كثير سأحوّل بعضا منه إلى المصارف هنا.. أبني مشاريع، مولات.. ملاهي.... مؤسسات استيراد وتصدير.

فقالت بحماس مفرط:

- حسنا تفعل المشاريع الاستثماريّة هي الناجحة فماذا في ذهنك.

- مشروع تجاري سوق وسينما، وصالات للهو وأنت تعرفين ما يعني اللهو، كلمة مطاطة تعني الكثير ولا أنسى أن أبني جنب المجمع مسجدا للصلاة مادام الجوّ يميل إلى الدين.

- هذا عمل مذهل.

- أفكّر في مدينة سياحيّة، أمّا عن معملك فسأوسعه وأستورد مكائن حديثة. لا تقلقي.. اعتبري كلّ شيء هديّة لك.

فساورها بعض الشكّ:

- لماذا هل كنت تحبني قبل أن تسافر.

فهززت كتفي:

- يمكن..

اعترضت شبه مطمئنة:

- هل نسقت مع إحدى المجموعات؟ لا بدّ من أن تدفع لهم، أنا أعطي مجموعة متنفذة لها سطوة في الدولة عشرة بالمائة من أرباح المعمل مقابل سكوتهم عمّا يدور في السرّ وحمايتهم!

- لا بأس لكلّ حادث حديث.

صمتنا حين قدم النادل، وضع طبقي السمك، والسلطة، أمامنا، وجاء نادل آخر بالعصير، فرفعت عينيها عن بركة الأسماك الملونة، حالما انصرفا:

- الآن أصبحت الصورة واضحة: أنت تحتاج إلى أرض تقيم عليها المدينة السياحيّة، وأرض تقيم عليها المسجد، وأخرى للمول، المجموعة التي تبيع الأرض غيرها التي توفر الحماية للمدينة والمول.

تأمّلت في كلامها، كانت تمضغ الطعام بتأن كأنّها تفكّر مثلي فيما يمكن أن يكون.. عالم مثاليّ يمكن أن يتحقّق في الواقع.. قلت مطمئنا:

- متى ترتأين أبدأ؟

- من غد إذا أحببت.

- ليكن عزيزتي، وغدا أبدأ اتصالاتي في الخارج لأحول مبالغ للداخل!

6 - حضور وغياب

 ثلاثة أيّام لم أمرّ على مكتب أخي، كنت أنسق مع المصارف، حسبت حساب ذوي النفوذ فصحبت راجحة معي في كلّ خطوة كأنّي أوحي لها أنّ مصيرها ارتبط بي. خبرت أخي ألّا يقلق، أكّدت أنّي في زيارة للعاصمة، ولقاء مسؤولين ثقال الوزن، وفي اليوم الثالث تعمدت أن أهاتف البيت. بعد التاسعة بقليل، أعرف أنّه موعد انصراف (توفيق) إلى شغله.:

- آلو...

- أنا ميلاد سالان..

- مرحبا بك سيد (ميلاد) (توفيق)في الشغل يمكنك أن تتصل هناك.

وضعت السماعة، لأدخل في نشوة لا أدرك مغزاها، ترى لم تعمدتُ الوقت ولم اتصلتُ بها؟ هل هو مجرد الحنين إلى الماضي الذي أحاول أن أعيده بأشكال وصيغ أخرى، أبرئ نفس من الخيانة هذه المرّة، كنت أبحث عن الراحة، يا ترى لو مرّت علاقتنا بسلام... لو ساومونا أهلها بدل العنف فتزوّجتها، هل أستطيع أن أحبّها؟ شيء ما يشدّني لشخصين فقط أخي (توفيق) و(فجر)أنسى أنّ لي أخا وأختا. أشعر أني أعير العالم اهتماما إلّا لتوفيق وزوجته.. إحساس يجعبني أشعر بالراحة ولا يخفف من غضبي، وقد ازددت حماسا لأنفّذ ما في ذهني حين وجدت (راجحة) تقف معي... ربما أحببتها فوجدت في (فجر) صورتها الأخرى.. رفعت سماعة الهاتف وطلبت المحل:

- ألو أنا (ميلاد)عدت إلى الفندق قبل دقائق.

- حسنا سأمرّ عليك لك عندي خبر.

- طيب أنا في الصالة بانتظارك!

خمنت شيئا ما يروم قوله.. تطلعت في فنجان القهوة طويلا. كنت على بعد هذه المرة عن حوض الأسماك أقرب إلى الباب الخارجي، وربما أوهمت نفسي أنّي أسمع لحنا حتّى رأيته يطلّ، فتوجّهنا إلى سيارته:

- كدتَ برفضك السكن عندنا تسبب في عتاب (فجر) لي.. قالت عنك هو صديقك الذي أنقذ حياتك خلال الحرب فكيف تتركه يسكن في فندق؟

- مهما يكن فالتحفّظ أولى.

- لك ما تشاء

- أهذا هو الخبر الذي وددت أن تفاجأني به؟

- ما رأيك لو دعوتُ الجمعة أخانا وأختنا لتعرفهما عن قرب هما من لحمنا ودمنا.

لم يفاجئني طلبه، فاعترضت:

- بصراحة لحد هذه اللحظة لا أشعر نحوهما بعاطفة.. حاولت... حاولت كثيرا.. أرجوك دع الزمن بسرعته وجبروته ومفاجآته.. هو كفيل ليجعلنا نلتقي أو نفترق.. نحب.. أليس كذلك.

- وماذا عن نبيلة؟

سؤال أشبه بمفاجأة أتوقّعها:

نبيلة نعم آمل أن ألتقيها يوما ما.

- مثلما تحبّ.

فجأة غيّرت الحديث:

- قل لي أتدفع شيئا ما لمجموعة عن محلك وشغلك.

- أراك تعرف كلّ السرائر.

- محل استيراد وتصدير لأدوات كهربائيّة وألكترونية.. خمسة بالمائة.

فضحكت ساخرا:

خمسة بالمائة؟

- نعم وإن لم أفعل يحرقون المحل.. يخطفون.. أو...

وواصلت سخريتي:

- إذن كم عليّ أن أدفع؟

- لم أفهمك؟

- سأشتري أرضا لبناء جامع. وأخرى لسوق تجاري. وثالثة أبني عليها مدينة سياحية.

كل ما كان من عمل في مدن الاغتراب أنسخه هنا.. صورة طبق الأصل.. التسميات مختلفة..، ولعلّه أحسّ ببعض التناقض:

- أعهدك صاحب هوى تحب الغناء والطرب والسكر فما علاقتك بالجامع هل تفكّر بالصلاة؟

فقلت بشيء من الضيق:

- ما المانع أن نجمع الآخرة والدنيا.

- آسف على تطفلي.

ونهضت وأنا أمدّ إليه يدي مودعا:

- عليّ أن أذهب... إنّ هناك أراضي تنتظرني.

 قصدت معمل (الستارة). كانت (راجحة) قد رتبت الوضع تماما، حين وصلت وجدت في مكتبها رجلا في الثلاثين من عمره، طويل القامة، نحيف الوجه يرتدي بدلة رصاصية، وقميصا أبيض من دون ربطة عنق. يحاول أن يبدو أنيقا ومتواضعا في الوقت نفسه، لكن وجهه لا يخلو من حدّة أو يتأرجح بين الصرامة والحدّة، وحالما صافحته، راحت راجحة تقول:

- ألم أقل لك يا سيد نصير، هؤلاء الذين يعيشون في الخارج مواعيدهم مضبوطة لا تنقص أو تزيد.

- (ميلاد سالان) من رجال الأعمال.

- (نصير الفاضل)

- أهلا بك.

لزمت راجحة الصمت، فسألني:

- سمعت أنك ترغب في شراء أراضي هنا في البلد.

وجدتها (راجحة) فرصة للتدخّل:

- أرض تُبنى عليها مدينة سياحيّة، وأرض لبناء مول، وأخرى يُقام عليها مسجد.

فتمعن لحظة في كلامي، وأشكّ في أنّه سمع التفاصيل من (راجحة) غير أنّه اعتاد أن يمارس أسلوبه البطئ في ترويض الآخرين:

- ستأتي معي لترى أيّة أرض تناسبك، وترافقني في نقل الملك باسمك سيكون الأمر سهلا مادمت تحمل جواز سفر أجنبيا، أما التفصيلات الأخرى فستخبرك بها السيدة راجحة!

لقد اختصر لقائي به مسافة طويلة، وأزاح لي عن أسرار، فبانت لي أراض كثيرة، اخترت ثلاثة منها، كان يعبّر عن صوت جماعة متنفّذة وضعت يدها على الأرض، فما إن يشأ أحد أن يبتاع قطعة إلا وعرف من يقصد. ولم أكن لأبالي إذا دفعت على الورق مبلغا للحكومة، ومثله لممثل الجماعة

أنا الذي أعرف كلّ شيء

ومعي الصديقة القديمة (راجحة) التي لا تخفى عليها خافية...

ستعود إليّ نقودي بطريقة آخرى، سيجد الفقير ملجأ عندي والعاطل عملا... فهل لا أغفر لنفسي أنّي جئت لأحقق انتقاما أو ثأرا صبرت عليه ربع قرن ولا أراه يخلو أيضا من نزعة خير.

7 - لقاء

يوم الجمعة قد يكون يوما استثنائيا.

لو خيّرت لتحاشيت اللقاء، وهناك الفضول يدفعني... أخشى حقا أن تكشف سري (فجر) من صوتي وبقايا وجهي القديم. بعض تأنيب الضمير يراودني حين أتساءل هل من المعقول أن يؤدي عبثي القديم إلى نتائج رهيبة. مذبحة، نساء يدخلن في صفقة مثل الجواري. وتزوير في وقائع تمس أخي شبيهي الذي كان بريئا من كلّ ماجرى.

(فجر) زوجة أخي التي اشتهيتها ذات يوم، لو طالت العلاقة بيننا، لجرى بيني وبينها ماجرى لي مع (راجحة) يوم كانت عذراء... كنت أضحك بصوت إذ ذكّرتها بالوحمة والخال ونحن عاريان في الفراش ليلة الفندق، فقالت إن أمّها كانت تراقبنا من ثقب سريّ لتقتحم الغرفة حالما ترى خطورة على بكارتها.

راقبت الجميع

إذن أنا لست استثناء

طز في التعري والجنس، فالسكر تلك الأيام يجعلك لا تبالي حين تكون مع امرأة، بنت قحبة عذراء، ولأكن صريحا مع نفسي ومع الآخرين الشغلة التي اشتغلتها أمّها مارستها في الخارج حتّى أصبحت ثريّا.

- النقيب (إياد) ابني (والتفت إليّ) صديقي العزيز (ميلاد)...

- أهلا (والتفتُّ إليه) ما شاء الله يشبهك.

في ذهني هل يعرف إياد نقيب الشرطة أنّ أمّة صفقة؟

- أما (درّيّة) فتشبه أمّها.

قال أخي، فعقبت مبتسما:

- سنّة الخلق الأبناء على آبائهم والبنات على أمهاتهم.

لم يستفز إلى هذه اللحظة وجهي نظرات النقيب، لست قبيحا، لكن التشوّه نفسه يمكن أن يثير الدهشة والخوف في نفوس الآخرين، والفضول عند رجل الأمن:

- لقد حدّثني أبي عن علاقتكم الحميمة وكيف أنقذت حياته.

قاطعت:

- نعم نعم عندما كنا في خدمة الاحتياط (التفتُّ إلى أخي) لا داعي لأن تذكر ذلك.

فتصنع التمثيل مقاطعا:

- الحادث جعلنا أكثر من أخوة.

أظنّ أن روح الفضول استفزت الضابط:

- يبدو أن الحادث ترك جروحا في جسدك. وارتفع صوت الأذان من جامع قريب، فقال أخي:

- البيت بيتك سأذهب للصلاة في الغرفة المجاورة معك (إياد) أو تحب أن تصلي.

- لا يا عم أتركني مع ضابط الشرطة أفضل.

فخرج وعاود الضابط فضوله:

- أعتقد أن ما فعلته من عمل فذّ دفعك للرحيل بعد أن وجدت أن الدولة لم تعطك حقّك.

قد أسوّغ لنفسي الكذب:

- كانت فكرة الرحيل تراودني قبل إصابتي بسنوات.

سمعت وقع خطوات خفيفة اهتزت لها أذناي، ولم يكن القادم سوى (درّيّة). كيف تجرفني المبالغة إذا تخيلت أن بها شبها كبيرا من أمّها.. الطول ذاته، المشية....

.... ودخلت

لم يكن خيالي خائبا، استدارة الوجه، الأنف، الحنك، البسمة البريئة سوى أنّها أكثر امتلاء من أمّها، ابتسمت فبان بياض أسنانها من دون أن يثير وجهي المشوّه علامة دهشة على وجهها فانتبهت أنّها تدرس الطب، وقد عاصرت تلك الظواهر.. مدّت يدها تصافحني:

- أهلا بك عمّي.

وقال أخوها:

- هذا هو عمّنا صديق أبي الذي ضحى من أجله بنفسه، وتعرّض للنار.

جلست على أريكة تقابلني، وقالت بنغمة رزينة:

- الوفاء قليل في هذا الزمن.

يخفق قلبي. أشعر بوحشة بخلو الصالة من (فجر) وحدي حيث لا شبيه لي، وشبيهتا تقابلني:

- الحمد لله الذي رأيتكم والدكم أخي..

وقالت:

- نعم الصداقة شيء عظيم.

- وقال (إياد) المثل يقول ربّ أخ لك لم تلده أمّك. (عاد إلى طبيعة الاستنطاق التي يتحلى بها رجال البوليس):

- هل تنوي أن تقيم معنا أم تعود لبلاد الاغتراب؟.

- نعم جئت لأستقرّ وأنا بصدد بناء مشاريع.

فقالت بكل براءة:

- مادام الأمر كذلك. أنت صديق أبي الروح بالروح. ولك فضل عليه فلم لا تسكن معنا؟.

- طيبة رقيقة القلب، يأتي كلامها عفويا، جريئة بحدود:

- أنا حلفت ألّا أضايق أيّ صديق في السكن ثمّ إنّي لا أرتاح إلّا إذا سكنت وحدي.

فابتسمت، وعاد الضابط للحديث:

مادمت تنوي الإقامة هنا... هل تروم العمل في التجارة تؤسس لمشروع... ؟

- لديّ عدّة مشاريع بدأت خطوتي الأولى.. مدينة سياحية.. مول ومسجد جنبه.. وقد أفكّر...

- بماذا تفكّر؟

أطلّ الأب، وهو يبتسم:

- بالمشاريع الجديدة قبّل الله!

- منّا ومنكم.

نهضت(درّيّة):

- عن إذنكم أساعد أمّي

وقبل أن تغادر قلت بثقة وصدق:

إسمعي وليكن عليّ شاهدا أبوك وأخوك سأبني لك مشفى حالما تتخرجين من الكلية!

- أشكر كرمك.

توفيق:

- شكرا لك لكن عملك يبقى ناقصا بغير صلاة وصوم؟

- بالتأكيد حين أبلغ الستين أتوب والله غفور رحيم..

ضحك أخي:

- من يضمن عمره!

وضحك الضابط قائلا:

- المهم سلامة النيّة!

ورجع الضابط إلى الحديث الذي كاد يضيع منه بدخول الأبّ:

- المهم أن تحذر وأن تجد من يسندك من جماعات النفوذ، ولا تخضع للتزوير، والنصب، وإذا احتجت لشيء استشرني فلديّ الخبرة في التعامل مع هؤلاء.

أبدى الأب انزعاجه بشكل خفيّ:

- لا تخش على عمك (ميلاد) فقد سافر إلى العاصمة ورتّب الأوضاع هناك.

فقهقهتُ ضاحكا:

- كل شيء تمام سيكون على الورق يماثله في التداول غير المعلن.

ودخلت من الباب الجانبي (درّيّة) تعلن عن اكتمال المائدة، فوقع بصري على التي خفق قلبي لها ذات يوم. قبل أن يقع على أصناف الطعام، كانت تقف عند طرف المائدة، توسعنا بابتسامتها الواسعة، ولا أظنّها تعرفني. لا أشكّ، وأقدّر أنّ أخي لم يسرّها.. سنوات من الغربة والدم تفصلني عنها، قالت:

- بالهناء والشفاء هنيئا مريئا

ومن دون إرادة اندفعت:

- ألا تتغدين معنا!

- عذرا أنا صائمة

وأردفت بديلتها أو شبيهتها بصوت هادئ:

أمي تصوم كلّ اثنين وأربعاء وجمعة، وشهر شعبان!

- يابختها

قلت عبارتي مجاملا، وتشاغلت عن أفكاري القديمة أو لهوت بالطعام، وودت لو حلّت فكرة المشفى في ذهني قبل أن أقابل (درّيّة) التي رأيتها أصبحت طبيبة قبل الأوان.!

8 - اعتراض

بدأ المسجد يرتفع بقبته الخضراء

هو الأول وقبل كلّ عمل..

مسجد الحاج (ميلاد سالان)

وشخصت مدينة اللهو، ووُضِعَ الأساس للمركز التجاري... رحت أتعاقد مع راقصات ومغنيات من أوروبا ودول عربية. كانت هناك ظواهر كثيرة وتعاملات يحظر على أبناء البلد ممارستها فاستفدت من امتيازاتي الأجنبية.

كنت ملكا

في الوقت نفسه، كلّ يوم أُعلِنُ في الصحف عن طلب عمالة.. راجحة أخذت تدير أعمالي، كنت مزهوا بعملي والثروة التي جعلتني أقيم علاقات مع كبار السياسيين..

راقصات أجنبيات

ملعب لسباق الخيل

كنت أستفيد من خبرة راجحة

وكان هناك القانون الذي يمنح امتيازات للأجانب ويحرم منها أهل البلد

وبدأت أحقق بعض ثأري....

الجانب الآخر من الوجه الخفي

يسمونه الوجه المظلم

معظم آل (الفارس) اشتغلوا في مشاريعي السياحيّة، مارسوا عملهم برضى وقناعة لا يشوبها أيّ شكّ... أما من وقف في طريقي وجعلني أخرج عن طريقتي الناعمة التي تحقّق ثأري من دون أن أسفكَ قطرة دم واحدة فهو أخي...

كلّ شيء وضعت له أكثر من خطّة إلا اندفاعه الغريب..

خلال الخطوة الأولى لنجاح مشاريعي، زارني في جناحي الخاص بالفندق. كان ممتعضا، وقاسيا، فاجأني بأسلوب جاف إلى حدّ ما:

- ما الذي يجري إنّه فعل مقزز.

- أهدأ.. أجلس وكلمني بهدوء. انقلب غضبه إلى كآبة وحزن:

- الجامع عمل خير، الأسواق، لكن راقصات أجنبيات، وفندق سياحي تمارس فيه الدعارة، خمور، وصالات قمار..

- ما لمانع؟ ولم أنت متذمّر وهائج، أنا حرّ (حاولت أن أحرف الحديث) هل تشرب شيئا.

مازالت نبرة حادة وسحابة غضب تتراوح على قسماته:

- لست طفلا أمامك حتّى تميّع الموضوع.

- يا أخي. يا عزيزي، وجدت البلد يعيش نمطا واحدا، حياة جادة كئيبة، لا انفعال فيها غير الحزن والبكاء.. كنّا وأنت جنبمي في مناسبات البكاء ونضخك طول العام.. فهل من العدل أن نبكي ونحزن طويلا؟

فهزّ رأسه بمرارة:

- هذا أيضا لا يعنيني

كاد صبري ينفد:

- ما الذي يعنيك إذن؟

- أنت تعرف جيدا قصدي.. كلّ أبناء آل (الفارس) وبناتهم تقريبا تقدموا لوظائف عندك.

- هل أنت زعلان لهذا السبب؟ أليسوا يتقاضون حسب العقود الموثقة أعلى الرواتب.

فضحك ساخرا، وعاد إلى نبرته الجادة:

- نعم في مدينة الملاهي، وصالات القمار.. قوادون وقحاب. قلها بصراحة.. هل هذه طريقة انتقامك؟

هززت كتفي وأجبت ببرود:

- تذكّرْ أم نسيت... ألم يقتلوا أخي وأخيك أم تراه شبيهي ولا يشبهك؟ أنت أخذت ثأرك لأخيك بطريقتك الخاصة وبقيت على جمر أطلبهم بثأري حين ظنوا أنهم قتلوني وبثأر شبيهي.

فازداد حدّة أقرب إلى الصراخ:

- بهذه الوساخة؟ تجعل من أخوال أولادنا وخالاتهم.. قوادين وقوادات وقحابا وتنسى أن لك أخا غير شقيق جذوره من آل (الفارس) وأختا تزوّجت منهم. سيصبح صهرك مدمن قمار وأبناء أختك وضيعين ستجعلنا كلّنا منغمسين في القذارة.

- عليك أن تدرك أن العالم يتغيّر ربع قرن مرّ وقد تغيّرت مع الزمن قواعد كانت تحكمنا قبل ربع قرن. حين تفهم ذلك ستعذرني.

رأيته ينقلب إلى وحش كاسر. ذئب طعين.. قوّة هائلة جبارة تجمعت في لحظة واحدة، رأيته يصكّ على أسنانه، وينفجر صارخا:

- إن لم توقف المهزلة فسأكشف السرّ.. سأعلن من أنت، ستكون واضحا للجميع.

أجبت بكل برود:

- عندئذ ستعود الحرب من جديد حين يعرف أعداؤنا القدامى أنّي مازلت حيا وقد أخذوا بنصف ثارهم قد يقتلونك أو يذهب ابنك ضحية.

وقد عاد إلى بعض هدوئه:

- ليكن الدم.. هذا أفضل من أن يفقد الجميع شرفهم.

وخرج

خرج مطأطأ الرأس ينظر إلى الأرض بين الحزن واليأس.. راودني بعض الخوف.. حتّى إنّي خشيت أن يسابق الوقت فيكشف سرّي ليفسد كلّ شيء.. معه حقّ ومعي أيضا..

لا ألومه ولا ألوم نفسي

هو ضحية انتقم لنفسه

ليس هدفي الثأر لجريمة قتل غير أن أعدائي قتلوني ولم يقتلوني. جعلوني معذبا. أعيش باسم آخر.. ووجه آخر...

انتظرت دقائق ثمّ رفعت سماعة الهاتف، وطلبت نمرة أخي:

تغيّرت لهجتي تماما:

- مازلت غاضبا منّي؟

بنغمة حزينة غير منكسرة:

- كنت مجبرا على مواجهتك.

اضطررت للتهدئة:

- معك حق لقد فكّرت بالموضوع جيدا.. لابدّ من أن أراك حتّى نسعى للأفضل

على الرغم من الحزن والجفاف لمست مسحة فرح خفيٍّ في صوته:

- أنا بانتظارك أيَّة وقت تشاء.

- سأتصل بك خلال بضعةِ أيّام.

حالما انتهت المكالمة، طلبت سيارة أجرة، وقصدت معمل (الستارة) وفي بالي فكرة ما لا أقدر على أن أرجع عنها قطّ.

9 - انتقام

- أريد فيلا شبه منعزلة لا تلفت النظر

- هل نويت أن تترك الفندق.

- ليس الآن..

دخلت رئيسة العمال تطلب بعض التجهيزات من المخزن، فصمت حتّى ناولتها المفتاح، وخرجت، فتساءلت:

- ما بك يخيل إليّ أنّ موضوعا يكدّر مزاجك.

- أريد فلا باسم شخص آخر.. هل ممكن؟

فضحكت وقالت:

- شخص له ألف اسم وألف وثيقة تجده البوم هنا وغدا في بلد آخر، سأدبّر طلبك خلال يوم وسندفع للشبح مبلغا يرضيه.

بعد يومين، وجدت مفتاح فلا ضخمة في أطراف المدينة، يمكن أن أقول عنها منعزلة لا تلفت الانتباه. وقد التقيت أخي خلال هذه الأيام في مكتبه كلّ صباح. طمأنته إلى أني تغيرت، تغيرت تماما إذ أدركت أنّه لا يتزحزح قيد شعرة عن المضي في إعلان حقيقتي. لا يهمه أن تدخل الأجيال الجديدة في حرب أكثر عنفا بدلا عن أن يصبحوا قوادين وعاهرات.

خلال الأيام الثلاثة السالفة، عزمت بعد أن وصلت إلى حدّ من اليأس، أنا والسرّ، الحبّ والجنون اللذيذ أم الحرب المسعورة التي ستحرق كلّ شيء.

هل أدعه ينبش الماضي؟

قلت له:

- أترغب أن ترى الفيلا التي أجرتها؟ أعجبتني ولعلني أجد واحدة تشبهها أشتريها.

- هل هجرت الفندق؟

- الليلة أخر ليلة لي فيه. هل تأتي معي؟

- سترى.

رحت أشير إليه، فأدلّه على الطريق. إلى الأمام...

خذ يمين الطريق

الاستدارة القادمة

هناك عند النقاط على اليسار

أشرت إليه أن يقف، ركن السيارة أمام البوابة، وقال:

- مكان هادئ وكل المكان يسكنها ذوو المكانة العالية.

اجتزنا البوّابة، وعبرنا الممر الذي تحيطه من الجانبين أشجار النخل والسدر وبنات ورد ذهبية تنتشر عند حافتيه ثمّ صعدنا الدرجات إلى الباب، فأدرت المفتاح...

أدرت المفتاح وبسطت يدي

- بيت فخم ممتاز

لا أدع الوقت يدركني.

هي رحلة طويلة عمرها ربع قرن.

وسامها وشارتها نقود هائلة لا تحصى وعلامة قبيحة مقزّزة على خدّي الايسر

دلف، فتبعته، سبّابتي تضغط على الزر، فيشع نور ساطع من ثريا دائريّة تتدلى من السقف وسط الصالة، ومع لفحة النور الساطعة، قبل أن يلتفت امتدت يدي إلى جيبي الداخلي، وهوت مثل البرق بخنجر على عنقه.

طعنة

ثانية

وأكثر

فتلوى

وكتم صرخة

خلت أنها على خفوتها جعلت الجدران تترنح والضوء يرتجف..

ثمّ تهاوي على الأرض المفروشة بسجادة رمانية اللون والدم يسيح من رقبته

- قتلتني.. قتل.. ق...

تحاشيت الفزع

ما رسمته في ذهني لن يضيع... قد أفقد توازني في لحظات... المشروع الذي في ذهني.. الانتقام الناعم... تحولت عن الجثّة إلى المطبخ.. شطفت الخنجر.. طردت الدم عنه بصنبور الماء، غسلت يدي تماما..

ومسحت الأثر

وقتها لم أشعر بالحزن وتأنيب الضمير التمست توازني بكلّ الصبر.. عدم المبالاة.. الحلم بالسلم واللعب واللهو. واجتناب حرب ثانية مهولة. والثمن رقبة..

لم أخرج من البوابة.. خرجت من المطبخ، عبرت المستطيل الضيق الذي تزينه شجرة عنق الدنيا، فتسللت من الباب الخلفي

لم ألتفت

سرت باتجاه طريق ضيق بقود في النهاية إلى نهر راكد تتكدّس على جوانبه نباتات القصب. كنت قد استطلعت المكان قبل يوم.. قضيت ساعة أو أكثر، وحين ارتسمت الفسحة بين القصب أمامي، التفت

التفت ثانية

وهبطت الجرف

انسلت لحركتي المفاجأة ضفدعة إلى عمق الماء الساكن، وكشف عصفور عن مكانه غير أنّه بقي يرفرف بجناحيه ولم يطر، انحيت على الماء.. أرمي الخنجر، وتراجعت ثانية إلى الطريق.

سرت إلى نهاية النهر حيث الطريق العام...

عندئذ

زاغ بصري بين السيارات

ربما غامت الدنيا بعينيّ

ربما رأيت غيوما

ألم يكن أمامي سوى هذا الحلّ؟

لكنّي

فجأة

وجدت نفسي أمام راجحة

في مكتبها

أغلقت الباب مذعورا وارتميت بين يديها

رحت أبكي

- ما بك يا (جلال)

إنها تنطق اسمي

تعرفني

شلتني المفاجأة

شلت دموعي ولساني:

- كيف؟ ماذا قلت؟

- لا تخف. اهدأ

- كنت مجبرا مثل شخص اضطر ليقطع يده لسلامة جسده.

التقطت أنفاسي، فتهاويت على الكرسي أمامها:

- دنيا عجيبة ظننته وحده يعرف السرّ فأنا وحدي بحت له به.

لا أخفي عنك أنّي شككت منذ أول لقاء لنا إذ لمحت لي عن شامة الكتف والوحمة أسفل سرّتي. كنت الوحيد من الذين لقيتهم يمسح وجهه وشفتيه بهما.. وعندما التقينا بغرفتك في الفندق رجعت إلى عادتك، فأيقنت أنّك هو ولا أحد سواك.

- ماذا تظنين سيحدث.

- لا شيء.. لا شيء.. اطمئن.. الذي أجر المنزل مجرد اسم.. مجهول المكان... سجلوه على الورق بصورة وهو في الحقيقة بصورة أخرى. لا مكان له...

- لكنّ ي اقترفت ذنبا.

- فعلت ذلك لتمنع حربا. أنت رسول السلام قتلت أخاك لتنقذ الآخرين من حرب لا نهاية لها.

فتحت ذراعيها، وضمّتني إلى صدرها رحت أنشج مثل طفل صغير كسر لعبته التي يحبها فراح ينشج..

ينشج..

وهي تشدّني إليها...

***

قصي الشيخ عسكر

انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة في

17\2\2025

نوتنغهام المملكة المتّحدة

عندَ المساءِ،

تَصْهَلُ أَفراسُ الليلِ،

تُغْريني بطَيْفِكِ المُلْتَحِفِ بالأسرارِ،

يَعُدُّ بأَصابِعِ الدَّهْشَةِ أَسْرابَ القَطا،

التي حَطَّتْ بينَ يديكِ.

*

يا أَنتِ،

أَيَّتُها المُسافِرَةُ نحوَ المُسْتَحيلِ،

أَبْحِري مَتَى شِئْتِ،

فَعَواصِفُ الشَّوقِ ما زالَتْ بَعِيدَةً.

تَشَبَّثي بمَوْجَةٍ هارِبَةٍ،

ثُمَّ تَعَلَّقي بأَسْتارِ هَزيمَتي.

*

تَعالي،

نَتَهَجَّأُ كالأَطْفالِ حُروفَ الهِجاءِ،

ونَرْسُمُ ذَوائِبَ للشَّمْسِ

على جَناحِ فَراشَةٍ تائِهَةٍ.

*

يا أَنتِ،

يا عُصْفورَةً أَتْعَبَها النَّدَى،

فَاشْتاقَتْ لِدِفْءِ غَيْمَةٍ وَحيدَةٍ عابِرَةٍ.

سَأَلْتُكِ مِرارًا أَنْ تُحْسِني الجَوابَ،

وأنْ تُلْجِمي دَلالَكِ

الذي أَضْنَى قَوايَ المُتَهالِكَةَ.

*

وحينَ لِقاءٍ…

نَوارِسُ تَصرخ مِنْ حَوْلِنا،

دُونَ أَنْ تُفْصِحَ النِّداءَ،

تَخُطُّ بمَناقِيرِها على كُثْبانِ الرَّمْلِ:

*

“أُحِبُّكَ سَيِّدي…”

“أَعْشَقُ صَمْتَكَ”

“الذي اقْتَرَبَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَقْرَبَ”

“مِنْ سَماواتِ العِشْقِ!”

*

وأنا،

أُحاوِلُ أَنْ أَجْمَعَ بَقايا وَجَعي،

وقَصائِدي…

لأَسيرَ بينَ حُطامِ المَرايا،

على صَهْوَةِ فَرَسٍ جامِحَةٍ

***

جواد المدني

 

(هذه القصيدة تتحدث عن زعيم عربي

لم يولد بعد ولكنه حتماً سيأتي...)

***

باهي سواكَ بما اسْتَطَعْتَ

من التقدمِ

في ميادينِ السلامْ

*

واحْذَرْ .. وخُذْ منها العِبَرْ

وكن خلاصاً للبشرْ

وكن كنخلةٍ إذا...

ترمي بأطيبِ الثمرْ

*

أبدًا فَلَسْتَ بِـ(مُزْمِنٍ)

حتى تَسِيحُ ...

وتَسْتَجِمُّ ...

وتستبيحُ يَـدَ الحَمَامْ!

أو سَوْط جلَّادٍ

يُفَتِّشُ فى ظهورِنا عن رُخامْ!

أو مِنْ دماء الشعبِ

يَشْرَبُ نَخْبَكَ الميمون

ازلام النظامْ!

*

باهي .. وباهي

ما اسْتَطَعْتَ تقدماً

فالأرض أجمعها

تُجِلُّكَ باحْـــتِرامْ

لا تَضْحَك الأيامُ عند سواكَ

إلا إنْ رَأَتْكَ بلا مقامٍ

او مقامٍ

أو مقامْ!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

ألجدران التي بنيتموها في أعماقكم

لن تصبح بيوتاً

حتى لو توسلتم إليها بأكوامٍ من القبلات

ولو افترضتم أن عصا الساحر ستحوّلها بيوتاً

فهي لن تُؤجّرَ

أو تُباعَ

فليس من أحد

يستطيب السكن غطساً في المستنقع الآسن

يتنفّس الفِتن

ويقتات على النفاق

**

مهما بنيتم في أعماقكم من الجدران

مهما أعليتموها

متخذين من أعماركم بديلاً عن الملاط والحجارة

فستبقى عاجزة عن النطق

حتى لو مُنحتْ أساساتها ألسِنةً

وتكلمتْ مع الغيوم العابرة بلغة البلابل

وحتى لو نَمَتْ للجدران كروشُ ولحى

وأنها تكاثرت

وأصبح لها أبناءٌ وزوجات

فأنها ستبقى معزولة بلا جيران

ما دام يتصاعد منها

ما تنفثونه من دخان الحقد

**

لا تصغوا لنواهي المحبِطين

واصلوا بناء الجدران في أعماقكم

أطعموها المزيد من العتمة والخوف

لتكبُرَ وتطالبَكم بنصف الميراث

علّموها الشّراهة على شِبَعٍ

ففي غدٍ تصبحَ ضواريَ وتفترسكم

لكن مهما أعليتم جدرانكم

وزيّنتموها بنشارة أسنانكم المتطاحنة

فتزيين القبور عبثاً يُحيي الموتى

***

شعر / ليث الصندوق

لا تستهويني العناوين العريضة،

ولا الجمل المصقولة بطلاء لامع،

ولا الأجوبة المغلقة كعلب السردين،

*

لا تستهويني الكلمات التي تقف في طوابير الانتظار بأرقام معدنية،

ولا الحكايات التي تُباع في عبوات جاهزة، مع تعليمات الاستخدام المرفقة.

*

لا تستهويني الوجوه المختومة بختم القبول،

ولا العيون التي تشبه واجهات العرض،

ولا الضحكات المعلّبة بتاريخ انتهاء الصلاحية.

*

لا تستهويني المدن التي تخنقني بلطافتها الصناعية،

والشوارع التي تعيد نفسها كأشرطة التسجيل،

ولا الأزمنة التي تدور في دوائر مفرغة،

كساعة فقدت عقلها.

*

بل تستهويني الفوضى التي تنبت بين بلاط الأرصفة،

والحكايات المشردة التي لا تجد من يرويها،

والأحلام التي لا تخضع لمقص الرقيب،

تستهويني العيون التي تنسى نفسها مفتوحة،

والشفاه التي تخطئ في نطق المجاملة،

والقلوب التي ترفض أن تخفق بإيقاع التعليمات.

*

تستهويني الأبواب التي لم تُطرق بعد،

والرسائل التي لم تُفتح،

والأغاني التي لم تجد بعد من يفهمها،

*

تستهويني الأيدي التي لا تسارع إلى العنف،

لكنها تشعل أصابعها للحلم.

*

تستهويني الأشياء التي لا تحمل "باركودًا"،

ولا تدخل في حسابات السوق،

*

تستهويني الحرية،

بكل تجاعيدها، بكل عيوبها،

بكل فوضاها الجميلة....

***

مجيدة محمدي

 

بكت الريح

لكنها تكذب

نعم تكذب دائما

حين تصفق بابي

أنهض مذعورة

مَنْ الطارق..؟؟

اسمع صوتها هازئة

الموتى لا يعودون

**

المرآة

وجهه في المرآة يطالعني

كلما أمشط شعري

وفي كأس الماء أراه

وعلى صفحة كتابي

لكن قطارات الرحلة مسرعة

تكاد تلتهم الطريق

وما عاد للعمر فسحة الانتظار

**

هذيان

شحت الريح

وانكسرت المجاذيف

وتاهت أشرعتي

قالوا ان بوح المرأة طيش

فلا تعود صبية

كما يعود القمر هلالا

لكنها تغدو نجمة منسية

تغفو بين سطور الحكايات

ولا تداعب جفنيها الأماني

ولا تغريها حروف قصيدة

**

تتمنى

ان يوقد شموعه من اجلها

وان ينثر في ضفافها

ملامح قصائده

روحها ظمأى

غادرها الفرح

لكن الصدق غاية لا تدرك

ربما حكاياته لا تعنيها

**

أو ربما لامرأة أخرى

وربما قصائده

كذبة من أكاذيب

نيسان

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

 

إلّاها

خاتمتي

يعفّرها نزق

لأقدام بربرية

تهرول

وتهرول

لئلا تفلت من نزقها

خاتمتي

المؤبّنة والمدى

سرادقها

**

إياك أن تعوّلي

عليها

خاتمة يخلعون عليها

وصفا ابتدعوه

ليواروا

نتن أنفاسهم المهرولة

ومضمخها

خاتمتي المغدورة

**

تتلفت بجهاتها الأربع

بحثا عنها

خاتمتي المؤبَنة

والمدى سرادقها

***

إبتسام الحاج زكي

 

تأمل الشاب السيجارة بين يديه وهو يجلس وحيدا على مقعده المتأرجح فوق صفيحة معدنية باردة في ركن من أحد شوارع المدينة العتيقة، حيث تختلط ألوان الأزقة برائحة البخور المبعثرة وعبق الماضي وتمتزج رائحة الدخان بشذى الحنين، هناك، على طاولة صغيرة متواضعة بين جنبات سوقٍ قديم، احتفظ بكنزه الثمين، علبة سجائر بدا أنها تحمل في طياتها أسرار الذكريات وآثار الوعد الذي لا يموت، كان يبدو كمن يحتضن بين يديه عبق الذكريات وآثار وعود لم تخل من الشجن، فقد كانت سيجارته، التي لم يسحب منها نفسا قط، رمزا لعهد منقوش في قلبه، عهد سُطّر على ورق الزمن بحروف مشوشة، نُقشت بدقة على غلافها من قبل أنامل رقيقة سطرت اسمها الذي لا يُمحى.

كانت السيجارة تروي قصة عهد قُطِع حينما وعدها بألا يُشعلها يوما، وكأن نار اللهب قد تكون قادرة على تبديد طيف حُبّ رقيق، فلم يكن إشعالها خيارا أو عادة، بل كانت وصية نابعة من روح عاشقة تحثّه على حفظ ذاك الوعد، فحينما لمست الفتاة تلك السيجارة، شعر بدفء لمستها الحانية، كأنما كانت تعيد إليه نبض أيام مضت، أيام ملأتها الأماني والوعود التي رُويت على شفتيها، كانت قد خطت تلك الحروف حينما خطفت السيجارة من بين شفتيه بلمسة رقيقة، لتكتب عليها حروف اسمها وتُلزمه بأن لا يُشعلها أو يشعل غيرها، وكأنما بذلك تُخلِّد ذكرى لقاء واحد جمع بين قلبيهما رغم كل شيء، فكان يمسُّ سطح علبة السجائر بأصابعه المتهورة وكأنه يحاول استحضار أنفاس تلك الليالي الحالمة التي جمعت بينهما، فيما تتراقص حروف اسمها في ذهنه كأنها أوتار هادئة تعزف لحن الوفاء، لم يكن من عادته الإقدام على إشعال السيجارة، فكلما وقع بصره عليها، تسللت إليه ذكريات عابرة، ضحكاتها الخجولة، همساتها الناعمة، ووعدها العابر بعدم المساس بنيران الذكرى، وهكذا كان يقضي ساعاته في حفظ هذا السر الثمين، محافظا على العهد الذي قطعه لها في تلك اللحظات الخافتة، وعلى السيجارة التي لم تستعر نيرانها قط، معيدا إياها إلى علبتها الوحيدة التي احتوتها منذ يومها الأول، ليضعها أمامه على الطاولة الصغيرة، تلك الطاولة التي تكتظ بأنواع كثيرة من السجائر، وكأنها مكتبة فريدة لحكايات الضياع والذكريات الغابرة، في كل علبة قصة، وفي كل سيجارة رمز لحظة، لكن تلك السيجارة كانت الأقرب إلى قلبه، لأنها تحمل بين طياتها سرّ حب لم يُكتمل، وسرّ وعد كان معلقا بين أنفاس الزمن.

كانت جلسته على المقعد المعدني المتأرجح تتخللها لحظاتٌ من التأمل العميق، لتختلط الأحلام مع واقع قاسٍ، وهو يراقب بعينيه المتعبة امتداد أيادي الزبائن نحو تلك العلب الصغيرة، كأنهم يبحثون عن شيء ما يخفف عنهم وطأة الحياة اليومية، كانت أنامله ترتعش قليلا مع كل حركة يقترب فيها أحدهم من علبة السيجارة، تلك العلبة التي لم تحتوِ سواها، وكأنها قطعة أثرية نادرة تتحدى الزمن، كان الزبائن يحدقون نحو تلك العلبة بتلهف، وكلٌ منهم يدفع ثمن سجائره حاملا في قلبه رغبة عابرة، فقد كان عمله اليومي يتمثل في بيع السجائر، وجمع مبلغ زهيد من النقود، عمل بسيط أصبح ملاذه بعدما يئس من الحصول على وظيفة أفضل في عالم صار فيه الحلم نادرا كما الندى في الصحراء، ومع ذلك، لم يكن قلبه يخلو من متعة مراقبة الوجوه العابرة بين ضجيج الشارع المزدحم كأمواج بحر هائج، ليرتقي ببصره بين حين وآخر حيث شباك صغير في واجهة بناية ذات طابقين تقف على الجانب الآخر من الطريق، كان بمثابة نافذة على عالم آخر، عالم من الأحلام والآمال، فكان ينتظر أن تطل الفتاة بوجهها من ذلك الشباك لتبتسم له بابتسامة عابرة، أو تلوح بيدها بإشارة خافتة تحمل في طياتها وداعا لهموم اليوم الثقيل، وتُنسه تعب النهار.

لكن الانتظار طال، وتأخر الشباك عن موعد فتحه المعتاد، حتى بدت الدقائق تمر وكأنها ساعات، وبدأ الضجر يتسلل إلى قلبه بخفة، وبينما كان يتجول بعينيه بين تفاصيل الشارع، توقفت سيارة فاخرة بلون لامع بجانب الرصيف الذي كان يحتضن خطوات المارة، ليخرج منها رجل أربعيني، يحمل على وجهه ملامح الرفاهية والأناقة، بدا الرجل وكأنه جزء من لوحة فنية، يدور حول سيارته متلفتا يمينا ويسارا، كما لو كان ينتظر بشغف قدوم شخص ما.. في تلك اللحظة، ارتفعت نبضات قلبه، إذ رأى من خلف ذلك الشباك المألوف لمحة بدت كأنها تحكي قصة عشق من عوالم بعيدة، كان وجهها يلوح له من عوالم الأحلام، كما لو أن القدر قد خط لها عودة مفاجئة.. لكن المفاجآت لا تأتي دائما كما تُتوقّع، فسرعان ما تبخرت تلك البهجة، ففي تلك اللحظة العابرة التي كاد قلبه يرقص فرحا على وقع ظهورها، أغلق الشباك بهدوء غامض دون أن تترك له مجالا للنظر نحوها، لم يستوعب ذلك على الفور، فقد اندمجت حيرته مع تشتت أفكاره، حتى بدأ قلبه يشكّل من الحنين جدارا من الألم، وهو يرى تلك اللحظة تختفي كأنها حلم منسي.

لم تدم تلك الحيرة طويلا، ففي لحظة لاحقة، رآها تخرج من باب البناية مرتدية أفخر ملابسها، وهي تخطو بخطى واثقة لعبور الشارع المزدحم، اندفع قلبه سريعا من مكانه، حتى لم يعد قادرا على مقاومة الرغبة في الاقتراب والتحدث إليها ليفهم أسرار تلك النظرات البعيدة، فنهض من مكانه متوجها نحو باب البناية الذي طالما كان مدخله إلى عالم الذكريات، وقبل أن ينطلق نحوها وهو يحمل بين يديه أمل اللقاء الذي طالما حلم به، اندفعت مشاعر الغيرة والحنين معا، حين أمسك بيد أحد الزبائن قبل أن يمدها نحو علبة السجائر خاصته، وتحدث إليه بنبرة صارمة، وبصوت لا يكاد يخفي حدة مشاعره، قال: "إنها لي... اختر أي نوع آخر، إلا هذه العلبة".

كانت كلماته قطرة من أمطار الصدق، تركت الزبون مذهولا، فقام بسحب علبة سجائر أخرى ودفع ثمنها وغادر مسرعا دون أن يدرك عمق مشاعره المتراكمة.

استولى عليه شعور لم يستطع كبحه سوى الرغبة الشديدة في الاقتراب منها والتحدث إليها، ليفهم أسرار تلك النظرات البعيدة، ليسأل عن سبب اللامبالاة التي خطّت ملامحها حينما ابتعدت عن الشباك.. فبدأ يتحرك بخطواتٍ ثابتة نحو منتصف الشارع، وبينما كان يقطع المسافة بينه وبينها، أحس بأن الزمن توقف في تلك اللحظة، إذ مرت بجانبه دون أن تعيره أي اهتمام، غير آبة بوجوده وكأنه كان ظلا لا يُرى، وكأنما كانت تُحاك له رسالة صامتة تخبئ في طياتها وداعا لماضٍ لم يعد له أثر، لم يمض وقت طويل حتى تبلورت مشاعر الغضب في قلبه، غضب سطرته خيبات أمل طويلة، غضب ارتسم على وجهه حينما شاهدها تتسلل بخفة نحو السيارة الفاخرة يتبعها ذلك الرجل الأربعيني الذي بدت خطواته متوترة لينطلق بها وسط زحام الشارع المرصوف بالبشر والمركبات.

بدأت أبواق السيارات تعلو من حوله، كأنها تعبر عن حالة من الفوضى التي تسببت بها لقاءات العشاق في مدينة لا ترحم الأحلام، تداخلت همسات السائقين مع ضجيج الشوارع المتلاطم، وفجأة، سمع صوت أحد سائقي السيارات يصرخ فيه، صوت يأمره بالتحرك من وسط الشارع، فأجبره هذا الصوت على العودة إلى مكانه، حيث جلس منهكا، يرمي بثقله على صفيحة معدنية باردة، وكأنما يهدف إلى التخفيف من وطأة مشاعره، محاولا التركيز في أفكاره المبعثرة لإيجاد تفسير منطقي لتصرفها المفاجئ، لكن محاولاته للتركيز كانت تتلاشى مع كل ثانية تمر حيث لم يجد في ذاكرتِه ما يُبرر تلك اللامبالاة التي بسطت جناحيها على قلبه، ولم يجد سوى فراشات الوعود التي تلاشت مع زحام الحياة.

وبينما كان يقلب بين ذكرياته، تسللت إلى ذهنه صورة العلبة التي كانت تحوي سيجارته الثمينة، في لحظة من الجنون، رفع علبته بوميض من العزيمة والحنق وكأنه يحاول تحطيم القيود التي تكبل ذاك الوعد، عازما على تهشيم السيجارة التي لم يُشعلها قط، لكن ما إن فتح العلبة حتى شعر بأن ما كان يعتزم فعله قد انزاح عن طريق القدر حيث وجدها فارغة، لقد اختفت تلك السيجارة، ليجن جنونه ويبدأ البحث عنها بقلق متوهج بين العلب الباقية التي كانت مصطفة أمامه، يبحث عن تلك القطعة التي كانت تمثل له أكثر من مجرد سيجارة، فقد كانت رمزا للوعد الذي لم يُنس، وللحُب الذي طالما استقر في أركان قلبه، ينقب عن أثرها كما يبحث الفارس عن نجمة تهديه في ليل حالك، لكن محاولاته باءت بالفشل، حتى اجتاحه اليأس وكأنما استسلم لواقع لم يعد يحتمل شيئا منه، في تلك اللحظة، غاب عن ذهنه كل ما يحيط به، الزبائن والضوضاء والأبواق، فجلس هناك، مستريحا على مقعده، غير مبالٍ بمن يمرّ من حوله، مستغرقا في بحر من التأملات العميقة والأسئلة التي لا تجد لها جوابا في زوايا قلبه المكسور.

مرت الساعات ببطء مُرهق، وبدأ الناس يتسابقون عائدين إلى بيوتهم، وتحولت حركة الشارع إلى سباقٍ هادئ بين المارة، حيث تحول زحام السيارات إلى مشهد كأنّه رقصة هادئة لظلال الليل، كانت سلاحف الشارع في أعين البعض تتحول إلى غزلان رشيقة، تجوب دروب الحلم مع مغيب الشمس، حتى وإن كانت تلك اللحظات تبعث على التأمل في مدى هشاشة الأحلام التي تذوب في خضم الزمن، وبدأ الليل يهبط ببطء على المدينة، والأفق يتحول من ألوان الفجر الباهتة إلى ظلال من الظلام تخيم عليها هالة من السكون الخافت، ليتحول النهار إلى ممر مظلم، ومع حلول المغيب خفَّ زحام الشارع وتراجع ضجيج السيارات حتى باتت السكينة تلف المكان، لم يكن معتادا على هذا الهدوء المتسلل، فقد اعتاد على ضجيج المدينة وصخبها الذي كان يعيد له ذكريات الأيام الخوالي، وبدأ يستسلم للصمت جالسا على مقعده، مستغرقا في تأملات عميقة حول فقدان شيء لا يُقدر بثمن.. وفيما كان منهمكا في تفكيره العميق، بدا أن الليل قد أرخى ستاره على المدينة، فاستقر السكون على الأرصفة وتلاشى ضجيج النهار، ليتسلل إلى أذنيه صوت ضحكات خافتة، كأنها نغمٌ مألوف يصافح قلبه بذكريات عذبة، كان صوت ضحكاتها المسموعة من بعيد يرنّ في أذنيه كأنّه همس من الماضي، توقفت السيارة الفاخرة في نفس المكان الذي رآها فيه، وانكسرت حركة الزحام للحظة معدودة، حينما نزلت الفتاة من السيارة بخطوات مسرعة، مرتدية أجمل ما يليق بأميرات الأحلام، وتحاول عبور الشارع الذي بدا وكأنه يحرس أسرار الذكريات، لم يستطع أن يقاوم دافع قلبه، فنهض متحركا نحوها دون تردد، لكن القدر كان له رأيٌ آخر، فقد مرت بجانبه دون أن تعيره أدنى اهتمام، غير مكترثة بوجوده، كأن حياتها قد تجاوزت كل ما كان يربطها بتلك الوعود القديمة، هذا التجاهل جعل غضبه يتصاعد مثل نار مشتعلة في أعماق قلبه، فجأة، تحول كل ما كان يحمله من شوق إلى موجة من الإحباط العارم وهو يراقبها تختفي بين جدران البناية التي احتضنت أسرارها.

لم يمض وقت طويل حتى ظهر الرجل الأربعيني الذي رافقها في تلك اللحظات، متوجها نحوه بخطى واثقة وابتسامة هادئة مفعمة بالطمأنينة لا تحمل في طياتها سوى ملامح التفاهم والعزاء، وكأنه يحمل بين يديه رسالة ما تزال تحمل أصداء اللقاءات القديمة، مدَّ يده من جيبه وأخرج بعض النقود، مرددا بصوت خافت، لكنه كان واضحا في معانيه: "لم تكن موجودا حين أخذت سيجارة من سجائرك وأشعلتها... تفضل، هذا ثمنها".. كانت تلك الكلمات كالسهم الذي اخترق قلبه، محطمة كل آماله بأن تعود له تلك اللحظات التي حملت بين طياتها وعدا لا ينكسر.. تأمّل الشاب في تلك اليد الممدودة، يدٌ تحمل بين ثناياها بريق الوداع والاعتذار، وكأنها تعيد إليه شيئا فقده منذ زمن بعيد، وقف للحظة، مأسورا بين سحر اللحظة ومرارة الواقع، حيث أدرك أن الحياة بكل ما تحمل من مفارقات وأحداث غير متوقعة، لا تزال تكتب فصولها بقلم لا يعرف الرحمة، ليردّد بنبرة مختلطة بين الحسرات واللامبالاة: "يا لبخس الثمن"..

وبينما كان الليل يحتضن المدينة بنجومه الخافتة وكان الهواء يحمل رائحة المطر الوشيكة، وقف بجانب مقعده المعدني، يرنو إلى السماء حيث بقيت صورة السيجارة الغائبة تتردد في ذهنه كأنها لغزٌ لم يحل بعد، وكأنما يبحث عن إجابات لأسئلة لا تزال تُثقل كاهله، لم يكن يبحث عن مبرر لتصرفات الآخرين، بل كان يبحث عن نفسه في مرآة الزمان، عن ذاك الجزء الذي ظل متمسكا بالوعود رغم أن العالم حوله قد أصبح يهدمها قطعة قطعة، ليدرك أخيرا أن لكل شيء في هذه الحياة معنى، حتى وإن بدا صغيرا أو ضئيلا كما هو ثمن السيجارة التي فقدها.

***

جليل إبراهيم المندلاوي

سهــــران بتُّ وقــــد دنا الفجـــرُ

فإذا شكوتُ إليـــكَ لِـــي عــــذرُ

*

أنــا مثلُ موجــــكَ في تقلّبــــــهِ

قَلِـــقٌ فحــالي المدُّ والجـــــزرُ

*

مــــا للنوارسِ أقبلتْ زُمـــــــرا ً

لمّــــا التجأتُ إليكَ ما الأمـــــرُ

*

هـــلْ عــنْ بثينــــةَ َ عندهـا خبـرٌ

هـذي النوارسُ أيّـهـــا البحْــــرُ

*

فتّشـــتُ عنهــا فـــي مواطنهــا

فـــي البيْــدِ لا أثـرٌ ولا ذكْــرُ(1)

*

ومضيــتُ أبحــــثُ دونمـــا كـلـل ٍ

سيّـــان عندي السهْـلُ والوعـــرُ

*

وخُطــــايَ مِــنْ وادٍ إلى جبــــلٍ

تقتـــــادني ويضلّنــــي الفكــرُ

*

فـإذا أنــــــا في القفْــرِ ملتحِـــفٌ

وجْــهَ السمـا ووسادتي الصخْرُ(2)

*

والبـــدرُ مِن فوقـــي أراقبُــــــهُ

وأودُّ لــــوْ يتكلّــــمُ البـــــدْرُ

*

فلطــالمــا فاضــــتْ مشاعـــرنا

بطلوعِــهِ فشـــدا بها الشعـــرُ

*

وكرمشــةِ العيــــن انقضى زمـنٌ

وأتــــى زمــانٌ آخــرٌ مُــــرُّ

*

فمرضـــتُ أسبوعيـــنِ بعدهمــا

قـد نمــتُ نومـــا ً طولـهُ دهــرُ

*

كمنـــامِ أهــل الكهــفِ ، مثلهــمُ

لـمْ أدرِ حيـنَ أفقــتُ ما العصــرُ

*

وكأنَّ مـا قد عشـــتُ من عُمُــري

حُلـــمٌ مضـــى لمّـا بدا الفجْـــرُ

*

أبصرتُ دنيـا ً غيـرَ مــــا ألفــتْ

عينـــي كمـــا لو مسّني سحْــرُ

*

كانـــتْ بلادا ً لســـتُ أعرفـــها

مـِنْ قبــلُ مـا عنــدي بها خُبْــرُ

*

هــيَ لمْ تكُـنْ وطني الحجــاز ولا

شــيءٌ يدلـلُ أنّــــها مصـرُ (3)

*

بالحزْمِ قـــدْ عُرفــــتْ مليكتُهـــا

في الناسِ لا يُعْصــى لهـا أمــرُ

*

فذهبـتُ ألتمـسُ اللقــــاءَ بهــــا

قــالوا ستأذنُ إنْ مضــى شهْــرُ

*

الشهْـــرُ مــرَّ ونلتُ أمنيتـــــي

تـمَّ اللقــاءُ وضمّنــــا القصْـرُ

*

أبصـرتُ فيـها صــورة ً نطقــتْ

لبثينـــــة ٍ فانتابنــي الذعْـــرُ

*

فجميــــعُ ما فيهـــــا يُطــابقها

الوجْــــهُ والعينــانِ والشعْـــرُ

*

نظــرتْ إلــيّ فخلــتُ نظـــرتهـا

نفَـذَتْ إلى ما يضمـرً الصـــدْرُ

*

وســرتْ بجسمــي رعْشـة ٌ عَجَبا ً

وكـأنَّ فيــهِ قــد سرى القــرّ(4)

*

فهتفتُ إنّـــي يا بثينــــةُ مَــــنْ

قاسـى هـواكِ ومسّــهُ الضُــرُّ

*

ضحكــتْ وردّتْ وهْــيَ ساخــرةٌ

ماتـتْ بثينــــة ُ أيّـها الغِــرُّ(5)

*

فسقطـــتُ مغشيّـــا ً علـيَّ كمــنْ

صرعتــهُ أوّلَ شــربه ِ الخمــرُ

*

وإذا بصـــوتٍ راحَ يوقظنـــــي

انهـضْ فعنـدي يُعـرفُ الســرُّ

*

مـَلـك ٌ بثينــــة ُفي الســـماءِ ثوى

لا لـــمْ تمُـتْ مــا ضمّها قبْـــرُ

*

هـــيَ زهْـــرةٌ علــويّـة ٌ وجِدتْ

مِـنْ قبــل أنْ يتفتّـــح َ الزهْــرُ

*

هـيَ في الزهـــورِ جميعها عبــق ٌ

فـي كلّ منديـــل ٍ لهــا عطـــرُ

*

لكنّ  صوتــــا ً جــاء َ مُعترضـا ً

مِـنْ داخلــي ..... ما هكذا الأمــرُ

*

هــــيَ طينـة ٌ للأرضِ مرجعـهـا

أحببتهــا فسمـــا بهــا الفكـــرُ

*

أغـــراكَ شئٌ غيــر صـــورتها

فهـيَ البراءةُ زانــــها الطهــرُ

*

فاصـــدحْ بشعركَ يــا جميـلُ فمـا

فـي الكون ِ إلّا الحـــبُّ والشعْـرُ

*

الحـــبُّ خمـــر ٌ غيـرُ خمـــرتنـا

الحـــبُّ دنيــا ً كلّــها سُـكْــــرُ

***

جميل حسين السـاعدي

......................

(1) البيد: جمع بيداء وهي الفلاة أو الصحراء

(2) القَفْــر: الخــلاء من الأرض لا ماء فيه ولا ناس ولا كلأ

(3) الحجاز هي موطن الشاعــــــر جميل بن معمر وبثينة، أما مصر فهي المحطة الأخيرة في ترحاله، بعد أن توعده عامل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وهناك مرض بسبب فراقه لبثينة وتوفي

(4) القــرّ: البرد

(5) الغِـرّ: الذي خُدِعَ فانخدع

 

ها أنا ذا...

رعشةُ غَيثٍ شاردةٌ

أُداعبُ رفيفَ أَحلامكَ...

إيماءَةٌ مُبَلَّلةٌ بالنَّدى

أُهامسُ رموشكَ

نَشوةُ شوق ٍ تدحرجتْ

على درجِ الكاميليا

لتوقِظ نغمَ الذكرياتِ

اسْتَيقظْ يا حارسَ الشَّمس

إنَّهُ كرنفالُ الوطن..

إنهُ عُرسُ الحرِّيَّة

تَسَلَّقْ إلى هِضابِ فردوسي

وراقصْني

على أَوتارِ الشَّمس

تَنَفسْ من رئَتيّ

اِنْهلْ من ماءِ أَسراري

واختَبِئْ بين جَفنَيّ

كي لا يلمحُكَ اليَأسُ...

يأسرني طيفُكَ يا اِبنَ المُلَّوح

خُذ روحي ملجَأ ً

لاِنكِساراتِكَ...

وعمري فانوساً سحريًّا

لتَنهيداتكَ

واستَنِدْ إلى دفئِي

سأُدوِّنُكَ في وجدانِ نَخيلي

عِشْقاً أَبديًّا

وأُهدي إليكَ أُنشودةَ النَّصرِ

ضَلَّ الياسمينُ

فاختبأَ في أَنْفاسكَ

وَتاهَ اللُؤلؤُ في أَعْماقِكَ..

آهٍ .. آهٍ...

صمتُ عينيكَ تاريخِي

أَنْا عصفورتُكَ الدَّمشقِيَّةُ

ليس لي مأوىً

خارجَ مقلَتَيكَ

أَنا   جوريَّتُكَ اَلاِسْتثنائيَّة

ليس لي ندىً إلاَّ من شفَتَيكَ..

لأَجْل آهاتكَ أَنا مُعجَمُ حَنينٍ

لأَجْلِ خَفق ِ قَلبِك

أَنْا مَملَكةُ أنوثَةٍ..

لأنَّك مُعَتَّقٌ

بِنبيذِ الأُسطورةِ

أَنت ملحَمَتي

لأنَّكَ تَمْخُرُ عُبابَ البَحرِ

بأَجنحَة النوارس

أَنْا "ماريا" الحُلم

ولأنَّكَ تَنحَرُ اَلرِّيحَ أَنتَ فارِسي..

لأَنَّكَ قُربانُ المحبةِ أَنْتَ وَطَني..

ولأنَّكَ حبيبي أنا أَحيـا

***

سلوى فرح - كندا

 

اِسْقِني…ورَنَتْ اِسْقِنِي

طَفَحَ السّيلُ لَمّا سَقَا

*

صَبَّ فَيضًا على ظمإ

فَاِرتوَى الزّرعُ وائْتلَـقَا

*

والْبَـسَاتِــينُ اِزّيَّـنَـتْ

حُسنُها لاحَ إسْـتَـبْـرَقَـا

*

ضَمَّها ضمَّةً هَــزَّهَا

قَـدُّها مَائسٌ مِـنْ نَـقَـا

*

وَرْدُها فَتح واِنتَشَى

غُصنُها بَـعْـدمَـا أوْرَقَـا

*

مِثلُهُا شَهْدةٌ رَشَحَتْ

قَطرَةً…قَطـرَةً…شَبَقا

***

سوف عبيد - تونس

 

مٍنْ شقٍ خيوط الشمس

يأتي الصوت هفيفاً

فياضاً بالهمس..

وعند هبوط الليل

كانت (إنانا)*

شامخة في ظل شجيرة توت

كان الحس رهيفاً

حين انضمت

أصابع (إيفيدي) آلهة الحب

وأصابع بابليو نحو المجد

هروباً من وكر الصخب..

فبان الوحش خلف شجيرة توت

سقطت إنانا أرضاً

(فخر) الدم فوق العشب

وسالت بضع قطرات

مست عصبتها

بنقيع الدم

لم يدرك بابليو ان السقطة عابرة

لكنه، أيقن أن الوحش

لم يترك (أيفيدي) عشيقته تهرب

خلف سحابات الرعب..

وخلف الاشجار

فأغرز نصلاً

في جوفه

ومات من الحزن

عادت (إينانا) والدم يُقطْرُ منها

ليموتا معاً فوق العشب..!!

***

د. جودت صالح

2/ شباط 2025

....................................

* اسطورة بابلية في العشق تسبق مجنون ليلي بعقود غائرة في القدم .

 

(ثقوب في الذاكرة)

تركَ الخريفُ نُدوبَهُ وشحوبَهُ

أوشامَ شاهِدةٍ على

هَرَمِ اللُبابَةِ ماسخاً

أبهى الخلائقِ مومِياءَ بلا بريقْ

*

خَرَفٌ تَسوّسَ كعبةَ الألبابِ فانْهدمتْ

على حِكَمٍ بخاتمةِ السنينِ كما تهدّمَ

سورُ منزِلِهِ العتيقْ

*

وخُرافةٌ حصدتْ غضارةَ آخِرِ

الأسماء والأشكال في وجدانهِ كحصادِ أوراقِ النهى وضمورِها

أقصى نهاياتِ الطريقْ

*

صمتت بذاكرةِ الوَقورِ عنادِلٌ

فكأنها ما غرّدتْ دهراً ولا

عزفت لنا لحْناً سماويّاً رقيق

*

رحلت بعيداً كلّ أطيارِ الحمى

عن لُبّهِ فتصيّرتْ

تلكَ الديارُ بلاقعاً

أو غابةً جرداءَ هَشّمها حريقْ

*

وبها شجيرات الحياة تجرّدتْ

بأواخرِ المشوار عن ورقِ الحِجا

ومياسمُ الفصلِ الأخير تيبّست

مذ غاض في أنساغِها ذاك الرحيقْ

*

وأخالها من غيهبِ الظلماتِ قد مُدّتْ يَدٌ

حذفتْ رسومَ العالمين ملامِحاً

وتناثرتْ ما بينَ أوراقِ الخريفِ كما الدقيقْ

*

وَبِلَمْسةٍ عَدَميّةٍ مَسَحَ الغروبُ

جبينَ حافظةِ العجوزِ فأصبحتْ

كالشاشةِ البيضاء لا أثَرٌ بها

لحوافرِ الأعوام والماضي العريقْ

*

هَرَمٌ هَوى وتهاوتِ الأحجارُ

هازئةً بِألواحِ التجاربِ والحِكَمْ

*

وتناثرتْ في يوْمِ ريحٍ عاصِفٍ

مابينَ أعتابِ الكُهولةِ والهَرَمْ

*

وَبياضُ ذاكرةِ المشيبِ وَشيْبهِ

كدفاترٍ أوراقها البيضاء لم يمْسسْ

بكارَتَها قلمْ

*

شَبَحٌ تسلّلَ ماحياً آثارَها

فإذا بِعالَمِهِ هباءٌ مطلقٌ

وإذا بماضيه وحاضره سديمٌ أو عدم

*

فبدايةُ النفقِ الرهيبِ حرائقٌ برمادها

رشقت مرايا الروحِ بعدَ الذاكرةْ

*

وتصدعت قارورة الأزمان وانفجرت

رذاذاً في غيومٍ عابرةْ

*

ومناجِمٌ حملت كنوزَ الذكرياتِ كما

جبالٌ من عُصاراتِ النُهى

نضبت دناناً او جراراً ضامرةْ

*

كمصيرِ أعلى الراسياتِ قُبيلَ صُورِ الآخرة

*

جلستْ حفيدتُهُ جوارَ شغافهِ

فتحتْ ذراعيها ترومُ عناقَهُ

فتجمّدتْ إذ لم تجدْ

خفّاقهُ الحاني الشفيقْ

*

بدموعها راحتْ تودّعُ راحلاً

ومهاجراً لكهوفِ واديهِ السحيقْ

*

غرقت بأنهارِ الدموعِ وأجهشتْ

بسؤالها عن ضاعنٍ غرقت قوافله

بكثبان الرمال

*

وبدا العبورُ الى ضفافِ غيابهِ

حُلُماً بعيداً بل مُحالْ

*

فزعت وفي أعماقها هتف السؤال

أنّى لَكَ الرُجعى معافى للديارْ؟

ومتى الرجوعُ إلى حمانا دُلّني؟

فأتى الصدى

هيهات يذكركِ الغريقْ

هيهاتَ يعرفكِ الغريقْ

فلقد مضى في لُجّةِ الصمتِ العميقْ

***

د. مصطفى علي

 

تَعَوَّدَ الصَّبْرُ أنْ يَحْتَلَّ كُلَّ دُرُوبِ القَلْبِ،

وحينَ يَعْجِزُ عن فَكِّ طَلاسِمِ انْتِظَارِهِ،

يَهْرَعُ صَوْبَ مَغَارَةِ الرُّوحِ،

يُلِحُّ عَلَيْهَا

أنْ تَسْتَقْبِلَ حُلْمَهُ الغَائِبَ

وَسْطَ زِحَامِ الأُمْنِيَاتِ…

*

جَاءَتْهُ مُرْتَدِيَةً وِشَاحَ الخَوْفِ،

تَمْتَطِي صَهْوَةَ الصَّمْتِ،

تُخْفِي أَسْرَارَهَا في قَارُورَةٍ،

تَنْثُرُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ قَطَرَاتٍ مِنْ شَوْقٍ،

وَعِشْقٍ لَمْ يَنْضُجْ بَعْدُ…

*

يَخْفِقُ قَلْبُهُ المُكَبَّلُ بِجَبَرُوتِ الصَّبْرِ،

فَتُضِيءُ بِاللَّوْعَةِ وَاحَةً لِلْعُمْرِ،

أَشْعَلَتْهَا الذِّكْرَيَاتُ..

*

يَتَأَمَّلُهَا، فَإِذَا هِيَ مُبْحِرَةٌ

بَيْنَ أَمْوَاجِ الأَزْمِنَةِ النُّحَاسِيَّةِ

وَمَرَافِئِ الأَلَمِ،

يَرْجُوهَا أنْ تَرْسُوَ،

وَتَهْدِمَ جِدَارَ الوَهْمِ،

وَتُغَنِّي وَسْطَ حَارَاتِ الخَوْفِ

أُغْنِيَةً مِنَ الزَّمَنِ الغابرِ،

لِيَسْقِيَهَا مِنْ عَيْنَيْهِ كَأْسًا،

مَزَاجُهَا شَوْقٌ وَانْتِظَارٌ…

*

لَكِنَّهَا تَأْبَى إِلَّا أنْ تُحْرِقَ

أَحْلَامًا عُجِنَتْ بِاللَّوْعَةِ،

فَتَرْحَلُ،

تَارِكَةً خَلْفَهَا غَابَاتِ الفَرَحِ مُقْفِرَةً…

*

يَعُودُ القَلْبُ وَحِيدًا،

يَرْتَشِفُ رَحِيقَ الانْتِظَارِ المُرِّ،

وَيَغْفُو فِي زَاوِيَةٍ لِلرُّوحِ،

يَعُدُّ بِأَصَابِعِ الخَيْبَةِ

حَرَائِقَ

أَشْعَلَتْ خَرِيفَ العُمْرِ…

يَتَبَخَّرُ النَّدَى عَلَى رَاحَتَيْهِ،

وَيَتَلَاشَى قَوْسُ قُزَحَ من فَوْقَ فَنَارٍ .!!

***

جواد المدني

(إلى أخي الدكتور قصيّ الشيخ عسكر)

أطرقْ

ذاكرة الأيّامْ

أفتحْ دنيا الأصداء

في أرضٍ يزرعها النسيانْ

أمنحْ صوتك سرّ البستانْ ....!

بين الغربة –أدري-

قد ضاعتْ كلّ الأحلامْ

2-

لا تنسَ من مرّوا

يوماً في بالكْ

دعْ كلّ وجوه الأحبابْ

في عاطفة القلبِ

على صفحات خيالكْ

.....................!

3-

لا تسألْ عنْ ظلّكْ

عشْ وحدك

مدّ يديك إلى نخلكْ

كي تأكل أثمارا

وترى أشجارا

تنمو من زمنٍ في عقلكْ

4-

المسمارْ

لا دخل له

في هذي الأيّام

فالجدران

عليها لوحات

ترسمها الأحلامْ

في كلّ نهار

والليل يمرّ

على فمه ألف حريقْ

في هذا الدرب.. وذاك الدرب

بدون رفيقْ...!

5-

الذكرى

ما عادت عندي

غير بكاءْ

يسكبُ في عينيّ

دموعاً لا حدّ لها

ورمالاً من وسط الصحراءْ

وعواصف تمنحني الإعياءْ

أتساءل وحدي

هل أحلمُ..؟

مثل الناس

هل...؟

عبر خطى الأيّامْ

يلتمع النجمُ

أنامْ......؟

***

حامد عبد الصمد البصري

- نصوص قصيرة -

الليل مازال

صديقي

يمنح ضوء

نجومه

لقلبي

2 -

في الممر المؤدي

الى النفق المظلم

عانقتني غزالة

فاوقدنا معا

شموع الحرية

3 -

في طريقي الى

هالة القمر

قالت لي قبرة

الى اين انت ذاهب

قلت لها الى مدارات

النور الشافي

4 -

عند عتبة داره

راى ظلا

يركض خلفه

فاطلق من مسدسه

رصاصة فارداه

قتيلا

5 -

اه كم هي صعبة

معرفة الحقيقة

حين كل شيء يبين

الا ان القابضون

عل سوط

فشلهم

لا يفقهون

6 -

في ربيع العمر

الفراشة ابتسمت

لزهرة قلبي

وزهرة قلبي

ابتسمت

لهالة القمر

7 -

الليل يعانق النهار

والنهار يعانق الليل

وقلبي يخبيء شمسه

في نبضاته

ويمضي

8 -

لا لا تذرف دموعك

على زهرة ذابلة

فالنحلات المجدات

سيحتضن

رحيقها

9 -

عزف على

ناي روحه

لحنا فشرعت

العنادل تحط

على مرج قلبه

اسرابا .

***

سالم الياس مدالو

 

مدخل

يلح علي شعور غريب

ما بين اكتبي عن الحب

أو ارقصي على وتر بردك

بفنجان قهوة

**

المشهد الأول

هذا الفنجان وهذه الورقة

ألمح حديثك يترقرق

في المسافة ما بين الرشفة والحرف

يُعلِم الحب للوقت الكامن في جوف الشوق

ينهمر كنهر ضيع سيرته

في شعر امرأة سمراء

وبات يروج لفكر متطرف

ألا يتجدد إلا في إيماءة عينيها

ألا ينمو موجه إلا ليغازل منها الخصر

فتنتحر الضفة

ويموت شراع المركب

**

المشهد الثاني

في شهر العشاق

وباقات الورد تنادي

والمقهى في الناصية

يسرب لونا أحمر

يسرب أغنية تلو الأخرى

يفتح بوابات النور لمؤانسة الليل

فالليل حبيب أول

حبيب عالق

ينتظر تحت عمود النور

والمقعد خال

والظل مخاتل

والنسمة ترقد في كف حبيبة

والشمعة مصلوبة

والورقة بيضاء

ونحن

نتهجى العتمة

آه آه

ونختم كل رسائلنا

بسؤال حائر

حتى متى

وكيف وأين

ونلوذ بأجوبة محجوبة

فالحب لغة هوجاء

لا ترتاح؛ تظل

ترتب أفواج الحيرة

نعود ونذهب

وجيوبنا فارغة

إلا من برد

يراقص دفء الفنجان

في قلب قصيدة

**

المشهد الأخير

لا يمكن إلا أن تقرأنا الأيام

يقينٌ نحن

بلا شك يرتاد الأسطر

ويؤسس لبعاد فادح

صلاة في ناصية البوح

وتسابيح تسري منا تعود لنا

كل الأعوام مسارح دهشة

واسمي واسمك

قوافل ورد

تسافر في كل الدنيا

تحكي عن الحب

***

أريج محمد

 

رمضان الأسود عليكم

كان بيتنا قريباً من حّمام السوق الكبير بمائتي خطوة لا أكثر. أبي عامل الصيانة في مرآب "الأمانة"، مغرم بالذهاب إليه كل يوم، ويسعد بمرافقتي له، لذة العنقود، مثلما يسميني. رغم كل الإغراءات التي يقدمها لي، كنت أتهيب المكان ويتعبني مجرد التفكير فيه. جدرانه العتيقة، ظلمة الممر الضيق، الأنابيب القديمة المنداة، الأرض الكلسية الصفراء، البخار الذي يغطي ملامح المكان، قطرات الماء المتساقطة برتابة من جوف القبة، الرجال العراة وصدى الأحاديث، كأنها صادرة عن جبّ عميق.

كان يوماً شتائياً حين خرجنا من الحمام. ولكون جسدي الصغير ما زال يحمل دفء الحمّام، شعرت بالضيق من الملابس الثقيلة التي دثرني بها أبي. وددت التخلص منها، ولكن أبي كان يسحبني بعجالة للوصول إلى البيت.

عند المنعطف نادوا على أبي باسمه وبصوت حاد كأنه قادم من جوف قبّة الحمّام، توقفنا. ثلاثة رجال ينتظرون في العتمة. التزم أبي الصمت ثم مد يديه ورفعني ضاماً جسدي إلى صدره. شعرت بارتعاش جسده عندما تحركوا نحونا. توقفوا على بعد خطوات، كانوا بملابس غير معتنى بها، يحملون بنادق مصوبة نحونا. بادرنا صاحب النظارة الطبية السميكة.

ـ حمّام العافية.. دع الصبي يذهب إلى البيت.

تشبثت يداي برقبته، ولكني شعرت أن يديه تحاولان إعادتي إلى الأرض بصعوبة. طالعت بفزع وجهه المتحجر. نظرت عميقا في عينيه الكلسيتين. قبـلني ولم ينبس بكلمة، فوجدت جسدي ينسل من بين يديه، فدفعني من كتفي ففهمت.

هرولت خائفاً أتـلفت.. أجهشت أمي بنحيب رافقها لليال طوال دون عودة لأبي، بعد أيام جهزت أمي حقيبة وضعت فيها ملابسا وطعاماً، وغادرت الدار بعد أن أوصت أختنا حوراء  بي وبأخي الصغير وائل. لم يطل غياب أمي، وحين عادت بعد يومين، بكت بحرقة مع نسوة من أقاربنا، وكانت تلهج طيلة الوقت بعبارة واحدة، رمضان الأسود عليكم. لم أكن لأفهم كنه عبارتها تلك، ولكن بعد حين عرفت أن لا عودة لأبي.

***

فرات المحسن

اطرق

لكن

لا تؤذي المسمار ولا تجرح الحائط

2

انس

فالذكرى شرك

3

إنس

إذا تذكّرت ستجرح الزمان

4

امش في الشمس

بلا ظلٍّ إن تقدر

أو

تزجر ظلك ان يتبعك

5

هل تجعل خوفك واحة شعر خضراء

عندئذٍ لا تقربْ باقي الألوان

6

في كفك خطّ لا يقرؤه أحد غيرك

7

حين يرمى بك في قفص الأسد

لا تنظر في عينيه

8

ثق بالغربان إذا نعبت

بالشّر سيأتيك وتأتي

فالناس إذا وعدت

بالخير فلن يأتوك ويأتي

***

د. قصي الشيخ عسكر

 

أنا لا أجيد ترتيب الفوضى،

تلك التي تلتف حولي كوشاحٍ من ضبابٍ ثقيل،

تلك التي تهمس في أذني: "ابقَي هنا، لا تتحركي"

*

أنا لا أجيد الفرار،

أقدامي مسمّرة في أرضٍ لم اخترها،

خطواتي ثقيلة كأنها تحمل أزمنةً لم أعشها بعد.

*

أنا لا أجيد التفسير،

لماذا تنمو الأشجار نحو الضوء،

لكنني أنحني نحو العتمة؟

لماذا أبحث عن وجهٍ لم أره،

وأسمع صوتًا لم يتكلم؟

*

أنا لا أجيد الإجابة،

لكنني مهووسٌة بالأسئلة،

تلك التي تهدم الجدران،

وتجعل الهواء أضيق من اللاشيء.

*

أنا لا أجيد التواصل،

لكني أجيد الانتظار عند العتبات،

أجيد رسم الوجوه التي لم أعرفها،

أجيد الكتابة عن الذين لم يأتوا بعد،

وعن الذين مرّوا كريحٍ في ليلةٍ صيفية،

تركت رائحتها في ملابسي،

ثم اختفت.

*

أنا لا أجيد الموت،

لكني أجيد توديعه كل ليلة،

أترك له كوب قهوتي نصف الفارغ،

وأكتب له رسالةً لا تصل،

أقول له: "لست جاهزًة بعد، عد لاحقًا."

لكنه، مثلي، لا يجيد الإصغاء.

*

أنا لا أجيد أن أكون شخصًا واحدًا،

كل صباح أفتح صندوقًا جديدًا،

وأجد وجوهًا ليست لي،

وأسماءً لم أخترها،

وأصواتًا تتحدث لغاتٍ لا أفهمها.

*

أنا لا أجيد أن أكون ثابتًة،

أغيّر ملامحي كما يغيّر البحر مده،

أكون قمرًا ناقصًا حين يكتمل العالم،

وأكون شمسًا محترقة حين يبحثون عن الظل.

*

أنا لا أجيد التصالح مع الوقت،

يمشي أمامي، وأمشي في دائرته،

يمسك يدي كطفلٍ مشاغب،

ثم يتركني في منتصف الطريق،

يضحك، ويقول: "إلى أين كنت تظنين أنك ذاهبة؟"

*

أنا لا أجيد النهاية،

كل جملة أكتبها تلد أخرى،

كل طريق أسلكه يتشعب،

كل حلمٍ أعيشه يفتح أبوابًا أخرى،

لكنني، رغم كل شيء،

أجيد الاستمرار....

***

مجيدة محمدي - تونس

 

الوقت ليلٌ، يتبخر من حولي الوجود

أتلمّسني. واتفقد المصير هنيهة

أغادر الغرفة الظلماء: واحاور الزمن الغاضب.

وأتفحص كيف يبدو النجم والسماء

انها سماويةٌ صافية

والبردُ يقرص الجلدَ الناعم والغليظ

*

أتمشّى وحدي أسمع صوت خطواتي

لا شيءَ سوى الذاكرة، آلامها المرةُ

جموحها ولغتها الهزيلةُ

كيف تعاد كل هذه العبارات مرةً أخرى في الذاكرة المحطمة تارةً

والخائرة في قواها تارة أخرى

*

أتفحص السماء مرة أخرى

لا، ليستْ سماويةً

هي الآن لحن يترجمه الخيال

هي لوحةٌ هي سلاحٌ وعَمى

هي ليستْ سماويةً الآن

*

اتمشّى وحدي، ليس سوى البردُ

الطير تحتضنه جناحيه

الفراشات في الشجر المبللِ غافيةٌ

وأطلال الحب على حالها،

هي الأطلال على حالها

حولها الذبولُ حولها الموتُ والغياب

*

أتوجّس وحدي في الطرقات

وفي أنفاسي، البردُ

أتابع الخطوات

.يا ولهي وحزني كيف بتُّ لا أسمعُ إلاّ الخطوات وهي تئنُ معي

وأنا أئن معها كلانا يوقظ الآخر والليلُ يوقظنا أن كدنا ننامْ

*

يا ايها الزمن القديم، الباهتُ

هل تسمع، تلك الخطوات، الوحدةُ وهذا البرد فينا...

أيهذا الزمن القريب، ربما البعيد

هل تسمع كيف يرجف العاشق حين يُخذلْ

حين يُترك بابه مكسورا

حين ينام وحيدا في العراء

في الجو المشحون بالمطر الغزير

ايها الحب اتسمع هذا النداء

هذا التمزّق والتوجّع في مهدِ الشتاء؟

***

كمال انمار

 

... عند هذا قال نَاهِقْ:

أيها الشيخ المُنافقْ

*

هاكَ خُذْ عني نهيقي

للمغاربِ.. والمَشَارِقْ

*

وتَحَلَّى بنهيقي

ربما تَلْمَسُ فَارِقْ

*

إنَّ فَنِّي لأَصِيلٌ

وأصيلُ الفَنِ سَابِقْ

*

لا يُعَابُ الفن أصلاً

مِنْ غُلاةٍ... ودَوَانِقْ

*

تحت نَعْلي وفِدَاها

كل آلاتِ العَوائقْ

*

مِنْ زعاماتِ انْشِقَاقٍ

وعِقالاتِ المشانِقْ

*

وشياطينٍ تَجَلَّتْ

هَيْئَةً في ثوبِ مَارِقْ!

*

ما أَصَبْتُمْ قَيْدَ عِلْمٍ

وأَغَثْتُم كل عَالِقْ!

*

بل أَبَحْتُمْ للأعادي

سَابقاتٍ ولواحق!

*

وصَنَعْتُمْ للزَّعَا

مَاتِ عُروشا ونَمَارق!

*

وكوؤسَاً كاسياتٍ

ومَلَاهٍ... وفَنَادِقٰ!

*

ما اسْتَحَقَّيْتُمْ رضَانا

كي تفوزوا ونُعَانِقْ!

*

سَدَّدَ اللهُ عَليكُمْ

بأبابيلٍ صَواعِقْ

*

مِثٰلَكُمْ شَذُّوا ولاذوا

بانْبِطَاحَاتٍ سَوابِقْ!

*

يافَظِيْلتكُمْ ويا..يا

سادس الخَمْسِ الفَواسِقْ!

***

محمد ثابت السَّمَيْعي - اليمن

 

ـــــ شِباك ــــــ

أسماكٌ

تلتهم أسماكْ

والجميع

في الشّباكْ

ــــــ سباق ــــــ

الشّابُ أَسرعُ في خَطوه

الشّيخُ

يعرفُ الطريق

ـــــــ قاب قوسين ــــــ

يا نارُ

كوني بردًا وسَلاما

فالفَراشُ قابَ قوسين منكِ

أو أدنَى

ــــــــ اللّوزة ــــــــ

رفقًا بهِ

يا لوزةَ القلبِ

قَشّريهِ

ولا تُلقي بالنّواةِ

ــــ العقد الفريد ــــ

أنتِ دُرّةٌ

قال

وأنتَ…قالت

عِقدُها الفريد

ـــــــ اِحتراق ــــــ

لا عزاءَ للشّجرةِ

عند الاِلْتهابْ

فَمِن خَشبها

عُودُ الثّقابِ

ـــــــــــــ اِنتظار ـــــــــــــ

مِن حينٍ إلي آخر

ينظرُ في ساعته

يُحرّك السُّكّر

بين حِينٍ وحَانْ

حتّى ذابت المِلعقة

! في الفِنجان

ـــــــ عاشقان ـــــــ

أروعُ عاشقيْن

سيجارةٌ تحترقُ من أجل حَبيبٍ

يمُوت هو أيضا من أجلها

! مع كلّ نَفَس

ــــــــ أبجدية ـــــــ

شفتاها أبجديّة

سيظل أبكمَ

طول العُمر

ما لم يَنطقْ بهما

ــــــــ أجندا ـــــــ

وحيدٌ

وحيدةٌ

ضربَا موعدًا

ليوم الإثنين

ــــ سماء ــــــ

تُونسُ ـ بغداد

على القَدمين

ـ ذَهابًا وإيّابًا ـ

مُضيّفةُ الطّائرة

ــــــ شارع الرّشيد ــــــ

على صُندوق ماسِح الأحذية

وبالخط الدّيواني

ـ تمامُ الأناقة لمَعانُ الحِذاء ـ

ـــــــ أمواج ــــــ

تقول الموجةُ لصخرة السّفح

عند كلّ مدّ وجزر

ـ مهلًا ... مهلًا

ستذُوبين ذرّةً....ذرّةً

في حلاوةِ المِلح

ــــــــ فَصَاحَةٌ ـــــــ

أَبْكَمُ وبَكْمَاءْ

جَلَسَا

نظر إِلَيْهَا...نظرتْ إلَيْهِ

تَلَعْثَمَا... هَمْهَمَا

ثُمَّ أَفْصَحَا... مَا أَفْصَحَا

فِي قُبْلَةٍ عَصْمَاءْ

ـــــــ مسافات ــــــ

من يَقترب منكَ

شِبرًا

اِقتربْ منهُ

مِترًا

يبتعد عنك مِترا

اِبتعدْ عنه

عُمرًا

ــــــ كبرياء ــــــــ

الوردةُ البهيّةُ الشَذيّةُ

في غٌصنها العَالِي

ذِي الخُيَلاءْ

إن لمْ تَستطعْ إليها صُعُودًا

اِنزلْ إليها

مِنْ سَماءْ

ــــــ إكرامية ــــــــ

منذ أربعين عامًا

أزيدُ ـ إكراميةً ـ حَلّاقي

لم يشفعْ لي مُشطُهُ

كلّ مرّة

يزيدُ شَعري

بياضًا

ــــــ حنان ـــــــ

فَتحتْ رَبْطةَ عُنقهِ

أزرارَ القميص

ورباطَ الحِذاء

كطفل وأُمْ

ثُمّ

لَبِستهُ

مِنَ الرّأس

إلى القَدمْ

ــــــ اِنحناء ــــــــ

...نعمْ

قد تراني أنحني

يا صديقِي

فقط

كي أرفعَ حَجرًا

من طريقِي

ـــــــــ إعجاز ــــــــ

معادلة مستحيلة

: أعجزتْ حتّى أنشتاين

ـ كيف لا يشتكي الرّاعي

ولا يجوع الذئب؟

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

 

هناك..

عندَ شواطئِ نهرَيْكَ..

ما بينَ رُكامِ الطّينِ، وتضاريسِ يدي..

أشمُّ رائحةَ أُمّي..

*

هناك..

أخفيتُ صَحائفَ تأريخي،

ومأساةَ غَدِي..

فصولٌ كتبتُها على قُصاصةٍ..

سَلَختُها من جَبِينِ أمجادي..

عنوانُها انتماءٌ إلى “مجدِ عروبتي”.

يُقالُ إنّها من بقايا عرشِ “كِسْرى”،

حُمِلَتْ على ظهورِ “الجاموسِ”،

كما يرويها أبناءُ عُمومتي..

*

رفاقُ دَرْبٍ.. تجمّلوا بالخيبةِ..

ونَسُوا حُلْمَ الوطنِ المُكَبَّلِ بالصّبرِ..

أقوامٌ.. أعاروا الهيبةَ “للسّلَفِ الصّالحِ”،

وأيادٍ تُشْهِرُ بوجهي قَميصَ “عثمانَ”،

عُلَبٌ مَحْشُوَّةٌ بالحِقْدِ، وَأَنِينَ المَظْلُومِينَ..

وبقايا أَصابعَ، ونُحُورٍ، جُمِعَتْ من كَرْنِفالاتِ القَتْلِ..!

قَدَرٌ.. قُيِّدَ بسلاسِلِ القَهْرِ، وظُلْمِ ذَوِي القُرْبَى..

*

مَدَدْتُ يَدِي أَغْتَرِفُ مِنَ الحُلْمِ المَمْنُوعِ..

فَعاجَلَنِي صُراخٌ يَخْنُقُ فَرَحِي..

قِفْ يا غَريبًا عن هذِهِ الأَرضِ..!

مَمْنُوعٌ أَنْ تَشْرَبَ أَوْ تَغْتَسِلَ مِنْ نَهْرَيْنَا..!

*

مَهْلًا بَنُو عُمُومَتِي..!

لا تَتَعَجَّلُوا قَتْلِي، فَأَنَا المَفْجُوعُ..!

فَهُنَالِكَ، لَيْسَ بَعِيدًا..

مَضَارِبُ قَوْمِي..

جِئْتُ أُعَمِّدُ صَبْرِي مِنْ نَهْرِ الفُرَاتِ..

ومِنْ دِجْلَةَ أَرْتَوِي..

فَهَلْ لِي غُرْفَةٌ مِنْ حُلْمٍ..؟

أَرْوِي بِهَا عَطَشَ المَنَافِي،

وَأُطَرِّي قَلْبًا بَاتَ أَسِيرَ المَنَايَا،

يَئِنُّ مِنْ سَقَمٍ تَشَرَّبَ فِيهِ، وَمِنْ أَلَمٍ..

*

سَقَطَتْ قَطَرَاتُ المَاءِ مِنْ فَمِي..

هَارِبَةً مِنْ بَدَوِيٍّ..

يَهْوَى الرَّدْحَ مِنْ وَرَاءِ الصَّحْرَاءِ..

يَغْرِسُ سَيْفَهُ فِي نَحْرِي..

وَيَعْرَبِدُ:

“مَا لَمْ تُغَنِّ لِلْفِتْنَةِ نَشِيدًا..

يُطْرِبُ أُمَرَاءَ القَتْلِ مِنْ زَنَادِقَةٍ وَعُتَاةٍ..”

“وَتُثْبِتُ أَنَّكَ تُتْقِنُ فَنَّ الذَّبْحِ..”

“وَتَتَبَرَّأُ مِنْ دَنَسٍ..

جَاءَ مِنْ بِلَادِ الهِنْدِ، وَفَارِسَ بَعْدَ الفَتْحِ..!”

“أَوْ تُقَدِّمَ رَأْسَكَ قُرْبَانًا لِلنَّهْرِ..!”

*

فَكَّرْتُ مَلِيًّا، وَحَاوَرْتُ رُوحِي..

فَأَشَارَتْ أَنْ أَتَشَبَّثَ بِأَغْصَانِ الحُلْمِ..

وَأُحَلِّقَ بَعِيدًا نَحْوَ الشَّمْسِ..

***

جواد المدني

 

منذ نعومة اظفاري نشأت صداقة وطيدة بيني وبين الصحف، فلا أنام في سريري أو يغمض لي جفن الا وبين يدي صحيفة اطالعها، وقد أدمنت مبكرا رائحة اوراقها كأنها رائحة خبز تنور حار وقت الغروب، وقد كان أخي مهدي مولع باقتناء مختلف الصحف اليومية في التسعينيات ومنه تعلمت هذه العادة، وفي احدى المرات وقد كنت على اعتاب المرحلة الثانوية، نزلت ماشيا كعادتي من بيتنا في حي الاسكان باتجاه مركز مدينة الرمادي لأحصل على حصتي من الصحف من المكتبة التي تقبع في ناصية شارع السينما العتيد، فهذه الناصية التي تمثل مركز السوق ولها مكانتها الأثيرة عند الناس، حيث لم يكن في المدينة سوى شارعين او ثلاثة لا اكثر، وقفت أمام الصحف كعادتي متأملا عناوينها، لأقرأ كل ما تقع عليه عيناي، وقبل أن أدفع لصاحب المكتبة ثمن الصحف سمعت صوتا خافتا بالكاد سمعته (اعرف حظك وشوف بختك من خطوط ايدك)، تتبعت مصدر الصوت، فاذا عجوز مسنة تسند ظهرها الى جدار المكتبة الخلفي تعرض خدماتها بقراءة الطالع مقابل ثمن زهيد.

لم استطع مقاومة رغبتي في خوض التجربة، وبلا وعي تقربت منها بدافع الفضول، وبدون تردد  أخرجت من جيبي المائة فلس والتي لا املك غيرها، وبالطبع كان مصدرها اليومي اخي مهدي وهو القارئ النهم، الذي علمني حب الادب والكتابة، فقد كان مثقفا واعيا، وكاتبا خطيرا، وبسرعة اخرجت المائة فلس من جيبي ووضعتها في يد العرافة التي  اخذت كف يدي اليمنى وبسطتها بين يديها الذابلتين، و راحت تمعن النظر في خطوط يدي المتعرجة، وبعد ان سحبت نفسا عميقا قالت (أنت محظوظ  يا ولد، فطالعك يبشر بالكثير، أرى في يدكِ قلما، ودنانير كثيرة، وأرى نساء جميلات تدور في فلكك)، وهنا اعترتني غبطة لا اعرف سببها، وتابعت كلامها (أراك تقف في حقول خضراء واسعة، ومن حولك تمرح قطعان من الخيول والغزلان) ثم صمتت برهة، واكملت (حينما تكبر عليك ان تخبرني بصدق نبوءتي)، ووعدتها أن افعل. 

قفلت راجعا دون ان احصل على ضالتي من الصحف، وتحججت (لمهدي) الذي كان ينتظرني مع الصحف، وتحججت له بأن السيارة التي تأتي بالصحف من العاصمة بغداد قد تأخرت عن موعدها، ولم اخبره الحقيقة، وأحسست بتأنيب الضمير، وبدلا من الصحف تحصلت على نبوءة العرافة الغريبة والتي تتزاحم فيها مفردات غريبة، قلم، ونساء، وفلوس، وخيول، وكأنني أقف امام لوحة سريالية!!.

مرت السنوات مسرعة، ولكنها لم تستطع محو تلك النبوءة من ذاكرتي، فقد بقي صوت تلك العرافة يرن في أذني، وكلما وقعت عيني على خطوط كفي تذكرت كل حرف قالته.

واليوم وبعد انقضاء ما يربو على الثلاثين عاما وجدت قدماي تجراني لشارع السينما ذاته، وراحت عيناي تلتهم كل شبر في المكان بنظرات خاطفة، غير أنني لم اجد اثرا لمكتبة الصحف تلك التي كانت من ابرز معالم السوق، غيران الشارع وناصيته بقيت كما هي تحكي تأريخ مدينة مرت بمنعطفات كبيرة وخطيرة، حينما شهدت الرمادي معاركا طاحنة ضد قوات الاحتلال الامريكي وانتهت بسقوطها بيد (داعش) بعد ان حاصرها التنظيم لسنة ونصف فتعرضت لدمار كبير، فلم يسلم بيت او شارع فيها الا وأصابه شيء من الدمار، ولكنها عادت من جديد واستعادت عافيتها  رغم كل ما مرت به من مآس ومحن.

وقفت متأملا في المكان وتسمرت قدماي فوق ارض الناصية، مستذكرا كل كلمة قالتها لي العرافة، ولكم تمنيت أن اجدها لأخبرها ان كل ما جاء في نبوءتها قد تحقق وصار واقعا باستثناء توقعها فيما يخص الخيول والغزلان والنساء، اذ لما كبرت وجدت نفسي محاطا بقطيع من الأغنام والصخول، فأينما أولي وجهي فثمة نعاج وسخلات وخرفان اجدها بوجهي، غير أن الاكثر ايلاما والأشد حزنا بعد كل هذه السنين أن (أخي مهدي) لم يعد ينتظرني كعادته حينما أعود له بالصحف!!.

***

د. محمد علي شاحوذ

 

هل خدع الضوءُ الطفلَ الذي كنته؟!

فانجذب نحو النهر الهادئ،

حيث ارتجت المياهُ تحت وقع خطواته الخفيفة؟

هل كان صدى الريح صيحةً مفاجئة؟

والنخلة أمست (طنطلًا)!*

أم ظنَّ السحابة وحشاً يطارده،

ألقى بنفسه في أحضان أمه،

يتنفس كعصفورٍ خائفٍ.

همستْ له بكلماتٍ كالندى.

مسحتْ دموعه بيدينٍ تشققتا من عمرٍ طويل.

رفعَتْ ثوبه الصغير،

فانهمرَ الماءُ كأنه نهرٌ صغيرٌ**

يدعوه إلى اللعب؛

ويذكره بأن الطفولةَ لم تغب بعد!

***

**

طارق الحلفي

.......................

* طنطل هو شخصيَّة خُرافيَّة ضاربة في التراث الشعبي العراقي

** في طفولتنا، بعد خوف، كانت امي تطلب منا ان نتبول، كي نهدأ.

قصيـــدةٌ أنتِ ما أحلى معانيـها

بالحبِّ والسحرِ قدْ شعّتْ قوافيـها

*

حكايةٌ أنتِ في نبضي مسافرةٌ

لمْ ألقَ بَعْدُ الذي يُصغي فاحكيــها

*

وخمرتي أنتِ لا ما كنْتُ أشربُهُ

لمّـا حضرتِ أراقَ الخمْرَ ساقيها

*

والأنْسُ أُنْسُكِ لا ما كانَ يؤنسني

وفرحتي بكِ لا شئٌ يُضاهيـها

*

لُقياكِ حقْلُ ورودٍ، روضةٌ عَبقتْ

بالعطْر ِ تُسكرُ أنفاسي أقاحيها

*

وأنتِ أجملُ أحلامي وأمنيتي

منْ بعدمــا طلّقَتْ نفسي أمانيها

***

عوّذت ُ مملكتي من كلِّ فاتنـةٍ

أصونها من غواياتٍ وأحميهـا

*

وحينَ أطللْتِ منْ أسوارِ مملكتي

سلّمْتـها لكِ طوعا ً بالذي فيها

*

لمّــا حضرْتِ وجدتُ النفْسَ حائرة ً

أمام َ سـاحرة ٍ تدري مراميـها

*

السحْـرُ يسكن ُ عينيها ومشْيتها

ومنْ أناملـها يجري ومِنْ فِيها

*

سافرتُ مُنْذ ُ زمــان ٍ غيرَ مكترثٍ

أطوي المسافات ِ بحثا ً عنْ مغانيها

*

وليْسَ في الرحْل ِمِنْ زاد ٍ سوى أمل ٍ

بأنني ذات َ يوم ٍ قَدْ أُ ُلا قيها

*

سامرْتُها في أحاسيسي وأخيلتي

وكُنْت ُ في جُلِّ أحلامي أناجيها

*

أنْت ِ التي كُنْتُ أهواها وأعشقــها

عرفْتُـك ِ الآن َ يا مَنْ لا أسميـها

***

رِفْقـا بروحي فقد قاسيت ُ في سَفري

رحْماك ِ كُثْرٌ جراحي لا تمسّيها

*

ضلَّت مسالكها في البحْرِ أشرعتـــي

فأصبحتْ سُفنـــي تنعى موانيها

*

قدْ كسَّــر َ الموجُ يا حسناء أشرعتي

وليس َ غيْرُك ِ يا حسْنــاء ُ يُحييها

*

في معْبد ِ الحب ِّ قد أعددتُ مبخرتي

وعفْت ُ تقديس َ أصنام ٍ لبانيها

*

روحي إلى الحبّ ـ حبّ الروح ـ ظامئةُ

لا الجاه ُ، لا المالُ، لا الألقابُ ترويها

*

وإنّني شاعـــــر ٌ رَقّت ْ مشاعِــــرُهُ

فراح َ خوفا ً مِن َ الإيذاء ِ يُخفيها

*

مشاعـــــــري هي َ أطفالي أدلّلهــــا

ومثل كل ِّ أب ٍ دوما ً أُ داريـهـا

*

أبثـُّهــا لك ِ يا حسناء ُ صادقــــــــة

كوني لها الأم َّ في لُطـف ٍ تناغيها

*

ولو تمكَّنت ُ صغْت ُ النجْـــم َ مبتكـرا ً

قلادة ً لك ِ يا حسْنــأء ُ أهديهــــــا

***

جميل حسين الساعدي

لم تعد القصيدة سلّماً

ولا جسرًا يعبر بنا إلى جرح المعنى

صارت الكلمات أثقل من أن تطير

وأضعف من أن تداوي هذا الألم

2.

كم كنّا مهووسين بالقصيدة!

نفتّش عن أنفسنا بين سطورها

نفرح كالأطفال حين تلامس أعيننا

قصائد مسطورة على الورق الأصفر

تمرّها الأيدي كأنها كنزٌ عتيق

كنا نحملها،

كأنها أسرارنا

كأنها شهادات ميلادنا

3.

لكن الكلمات خانتنا

صارت عاجزة عن التصريح

عن الصراخ بما نريد

كلما أردنا أن نقول:

"هذه كلماتنا"

شيءٌ ما يخرسنا

ربما لأن القصيدة

لم تعد قادرة على مواكبة هذا العالم

أو لأننا، نحن

لم نعد نعرف كيف نكتب

نحاول أن نلصق الكلمات

لكنها تتساقط

5.

ومع ذلك

نحن لا نكفّ عن المحاول.

نبحث عن قصيدةٍ

تكون أكبر من خيباتنا

قصيدةٍ تشبهنا

قصيدةٍ تعيدنا إلينا

حتى لو لم نجدها

حتى لو صرنا غرباء

يبقى الشعر فينا

كجرحٍ لا يندمل

وكحنينٍ لا ينتهي.

***

د. جاسم الخالدي

هنالك سماء سوداء

تحت السماء الزرقاء

تمطر حجارة

لم تجرحني

لكن صدی ألمها في روحي

وأنت جالس بجنبي

لا تفعل شيئا.

ماذا عن الفرسان البرية؟

يركضون بلا مبالاة

والخيول يتركن آثار الحَوافِر في رأسي

لا تسيل الدماء

لكني أشعر بعمق الثقب

في ذهني

وأنت جالس

لكنك لا تری شيئا.

مخلوق مركب

نصفه إنسان ونصفه تنين

يريد أن يلتهمني

أمسك بيدي نابه الأملس

لئلا أسقط

في عمق حفرة مظلمة

كبئر يوسف،

امتلأت حنجرتي صراخاً

وأنت جالس بجواري

ولم تسمعني.

ثم أهرول

بمحاذاة الخيام

سرعان ما ترتفع ألسنة اللهب

واحدا تلو الآخر

أسمع الصياح

ولم أرَ أحدا هناك

مع هروبي

تصبح آثار الاقدام حفرا

تخسف بها الارض سحيقا

لم تمد يدك الي

لتنقذني

وأنت شغوف بالغناء لنفسك...

أستيقظ فجأة

لأری أقنعة مزركشة

تحت كل واحدة منها

أكتشف الوجوه الحقيقية

اذ يقولوا لي:

الحلم والحقيقة هما نفس الشيء.

***

سوران محمد

 

لم أقلْ شيئًا،

لكنَّكِ سمعتِ النبضَ

في جدارِ المسافةِ البعيدة،

رأيتِ كلماتي

تتسلّقُ الهواءَ

وتلتفُّ حولَ عنقِ الصمتِ

كضوءٍ يختبئُ

في جفونِ الغيب.

لم أرسلْ شيئًا،

لكنَّكِ قرأتِ الرسالةَ

في رعشةِ الموجِ

على شرفةِ الحلم،

فُتِحَت النوافذُ بلا يدٍ،

وغنّتْ جدرانُ الغرفةِ

أغنيةً قديمة

لم يُسجّلها أحد.

حين أُغلِقُ عيني،

تمرينَ كعصفورٍ

في نفقِ الرؤيا،

حين تتنهدينَ،

يشهقُ الهواءُ في رئتي،

وحين تسقطُ نجمةٌ،

أعرفُ أنَّكِ ابتسمتِ

في مكانٍ لا أراه.

منذُ قرونٍ،

ونحنُ نكتبُ

على صفحةِ الماء،

نحفرُ وجوهَنا

في الريحِ،

نصنعُ مرآةً

من وهمٍ شفيف،

كلما نظرنا فيها،

وجدنا الآخر.

***

كريمة بن مسعود - تونس

 

عد يا غراب لموطنك

من ذا إلينــا هــرولك؟

*

كان الهدوء يســودنا

والعندليب هنا سـلك

*

حتى أتيت مزاحمــا

حـظٌّ هنـالك أوصـلك

*

سودت وجه حديقتي

أضحى غديري منهلك

*

حطمت عش حمامتي

أصبحت فينا كـ(الشلك)

*

كم طال غيهب دهرنا

هل كان ينقصنا الحلك؟

*

ماذا لديك سوى النعيق

صميت آذان الفـــــلك

*

صعب تجاورها الطيور

فالسلم ليس يروق لك

*

عجبا لمن قالوا الذكاء

بيـن البـريــة أكمــــلك

*

أغـراب واري ســوأتك

أتظـن ربــك أرســــلك؟

*

(قابيل) لا أحدا ســواه

في عينــه تبــــدو مـلك

***

نجيب القرن - اليمن

في زاوية معتمة من مقهى منعزل، مختبئ في زقاق بعيد عن ضجيج المدينة ولهاثها، جلس يحتسي قهوته الباردة، كانت عيناه غارقتين في صفحات الجريدة التي بين يديه، لكنه لم يقرأها كما يقرأ كتابا، بل تأملها وكأنها نافذة تطل على عالم يكتنفه الوحشية والظلام، تحدّق عينيه في الفراغ، في الهوة السحيقة التي صنعها العالم، فقد حملت الجريدة بين سطورها واقع صعب، واقع مرهق ترسم ملامحه على صفحة أولى تناثرت فيها العناوين وكأنها تئن تحت وطأة الدماء، إذ برزت فيها أخبار عن معارك دامية في أفريقيا، مذابح تهزّ آسيا، حرب طاحنة في أوروبا، جثث تتكدس فوق جثث، وكوارث تتوالى وأوبئة تتكاثر على وجه الأرض، كأن الجحيم قد قرر أن يطفو إلى السطح، ويلقي حممه على بشر لا حول لهم ولا قوة، بل وكأن الأرض ضاقت بأهلها فباتت تخاطبهم بصوت قاس وهي تلفظهم واحدا تلو الآخر.

ارتجفت يده التي تمسك بالصحيفة، واهتز قلبه المثقل بالخيبات والآلام، تنهد بعمق، كأنما يحاول أن يلفظ جزءا من هذا الحزن العالق في صدره منذ زمن بعيد، ثم أدار الصفحة هربا من بحر الدم المسفوح الذي اجتاحها، ليجد نفسه فجأة أمام مشهد آخر يدفعه إلى ضحكة ساخرة، فقد ارتسمت أمام عينيه ابتسامة مزيفة لعارضة أزياء، تلتها صورة أخرى لنجمة سينمائية تستعرض فيلمها الجديد، كانت الصور زاخرة بالبهاء والزيف في آن واحد، كأنما تعلن بأن المذابح التي اختلطت بعنف مع صفحات الجريدة قد تلاشت عند حواشيها وانتهت بمجرد قلب الصفحة، وكأن الدماء المسفوحة لا تستحق أكثر من بضعة أسطر عابرة قبل أن يحين موعد الاستراحة الإعلانية، بل وكأن الصحيفة ذاتها كانت تحاول مواساة قرائها بعد صدمة الخبر الأول، أن تلمس جراحهم بصور مصقولة وزيف معلب، وكأن العالم الذي يغرق في المآسي قرَّر أن ينهيها حين تقلب الصفحة وتنسى الأحزان.

تأمل صفحات الجريدة مجددا حتى اندلعت في نفسه نوبة ضحك كتمها بين رشفات قهوته الباردة، في تلك اللحظة، عاد إلى ذهنه مشهد تلو الآخر من الأماكن التي عمل بها، تلك التي كان يظن في ظاهرها أنها حامل الحقيقة، لكنها في الواقع أدوات صمَّمت لتصوغ الواقع وفق أهواء أصحاب النفوذ، وفي صمت عميق، صرخ في أعماق روحه ساخطا: "هذه هي الجريدة حين تقع في أيدي المتواطئين، حين تتحول إلى سيف يضرب أو درع يحمي، لا إلى مرآة تعكس الحقيقة"، أدرك حينها أن الصحف لم تعد تسعى إلى كشف الواقع، بل أصبحت تعيد تشكيل الرأي لتصنع وهما يخدم الطغاة، تخدع، تُضلل، وتُخرج المجازر من العناوين العريضة لتخفيها في زوايا الصفحات المهملة، ثم تزين المشهد بصورة امرأة جميلة، كأن الزيف قادر على حجب رائحة الموت.

وبينما كان يجلس في زوايا ذلك المقهى المنعزل، رفع رأسه متأملا الوجوه من حوله، حتى وقع بصره على طاولة مجاورة حيث جلس صديق قديم له، كانت ملامح هذا الصديق تتداخل مع صور مضطربة من ذاكرته، تذكارا لشخص كان يوما رمزا للصداقات المتوترة، رمزا لتلك الوجوه التي تخفي وراءها الكثير من النفاق.. تناثر رذاذ القهوة من شفتيه بعد أن عجز عن كبح ضحكته المكبوتة، ففي خضم ذكرياته المتداخلة، لم يتجلَّ له سوى ذلك الشخص الذي كان يذكره بتلك العاهرة التي تتوب مع إشراقة كل صباح لتعود سريعا إلى أحضان الرذيلة مع حلول المساء بفعل سحر الفسق.. لم يعد يتذكر بوضوح عدد المرات التي اختلف فيها مع هذا الصديق، إذ كانت الاختلافات كثيرة حتى لم يعد يفرق بين آخر لقاء جمعهما، هل كان على وفاق أم كان طيف خلاف لا ينتهي؟

كان صديقه يشبه تماما الصحيفة التي بين يديه، وجه تزيّنه أقنعة متعددة، شخص يختبئ وراء زيف معبأ بالجهل، وضيع يحمل في داخله عقدة نقص أزلية، يمقت من يذكره بحقيقته، فيحاول طعنه وتشويهه وجذبه إلى مستنقعه القذر، وحين يفشل في ذلك، يتحول إلى ممثل بائس يتقمص دور الضحية، يعزف على أوتار العاطفة، ويستجدي التعاطف من كل من حوله، لكن مهما طال العرض، ستأتي لحظة الانكسار، كما في كل مسرحية، فلابدّ أن يأتي اليوم الذي تنكشف فيه كل خبايا الزيف وتسقط الأقنعة، ليتجلّى للجميع كم كان وضيعا.

كان هذا الصديق القديم يتحدث بحماس مفرط عن استثمار جديد سيجني منه أرباحا خيالية، وكأن العالم بأسره انحنى ليبارك طموحه، بدا منتشيا بنجاحه المحتمل، لكنه في الوقت ذاته كان يحمل وراء كلامه سُمّا قاتلا، إذ من يعرفه حق المعرفة كان يعلم أنه لم يكن يوماً صادقا، لقد كان بارعا في لعبة الوجوه، يتلون كما الحرباء ويرتدي قناع التاجر الناجح أمام الناس، بينما كان في الحقيقة مجرد سمسار للمآسي، يستثمر في انهيار الآخرين ليحصد الأرباح من خسائرهم، ثم يمضي في حياته كأن شيئا لم يكن.

وفي لحظة من لحظات الهدوء المتخلّلة بين زحام الأصوات في المقهى، ترك ما تبقى من فنجان قهوته ونهض متثاقلا، واقترب من طاولة هذا الصديق ببطء وحذر كما لو كان يحذر من لمس جرح لم يندمل بعد، وبصوت مثقل بالمرارة، وبإشارة باردة إلى الجريدة، همس قائلا: "ألا تتابع الأخبار؟ العالم يحترق." كانت كلماته تترنم بصدى الألم واليأس، فيما كانت نبرة صوته الباردة تكشف عن سخرية عميقة لا تعرف الرحمة.

لم يكن ردُّ فعل الصديق إلا بمجاملة عابرة، حيث ابتسم ببرود، وأخذ الصحيفة وكأنما يقتات من صفحاتها، تصفحها بلا اكتراث، ثم قال بنبرة خالية من الانفعال: "أخبار الأمس تُنسى اليوم، وأخبار اليوم ستُمحى غدا... المال وحده هو الذي لا يُنسى." ثم تابع ببرودٍ، وأضاف: "ولكن أخبرني، هل تعرفني حقّا؟".. تلك الكلمة الأخيرة كانت كالسهم الذي يخترق كل ثغرة في قلبه، لتثير فيه موجة من الغثيان والارتباك.

شعر بالغثيان، نظر إلى صديقه كما لو كان يراه لأول مرة، وبدأ يتساءل كيف لم يكن قد لاحظ ذلك الوجه الحقيقي من قبل؟ كيف كان من الممكن أن يخدع بكل هذه الأقنعة التي ارتداها؟ أدرك حينها أن القناع الذي طالما اعتقد أنه صلب لم يكن سوى قشرة هشة، وأن ملامحه الحقيقية، المتأصلة في أعماق روحه، كانت دائما موجودة خلف تلك الواجهة المزيفة، لكنه لم يكن مستعدا لرؤية تلك الحقيقة المريرة التي اجتاحت وعيه كالعاصفة التي لا مفر منها.

تردد للحظة، تلك اللحظة التي بدا فيها الوقت وكأنه متوقف في فضاء من السكون، ثم نهض فجأة تاركا وراءه كل ما كان يرمز إلى الزيف، تاركا فنجان القهوة الباردة، تاركا الصحيفة، تاركا كل تلك الذكريات الملتفة حوله، ومضى بخطى ثابتة، تذكره بأن الأقنعة ستسقط دائما، مهما طال العرض، مهما حاول الإنسان إخفاء حقيقته خلف زينة الأكاذيب، ومع كل خطوة خطاها خارج المقهى، بدأت الأصوات المحيطة به تتلاشى تدريجيا حتى أصبحت همسات باهتة، بينما أخذت الليلة تلفّه بستارها العميق، كان الهواء البارد يحتضنه كحارس أمين، ينقله من عالم المظاهر الكاذبة إلى عالم يَعِد بالصدق والشفافية، عالم لا مكان فيه للزيف أو الخداع، عالم يحفزه على ألا يكون يوما أسيرا للأكاذيب، وأن يسعى جاهدا للكشف عن الوجوه الحقيقية، مهما كانت مريرة، أدرك حينها أن ما يدور في هذا العالم ليس سوى مسرحية ضخمة يلعب فيها الجميع أدوارهم المقررة، وأن يوم الانهيار قادم لا محالة، حين ستسقط الأقنعة وتنكشف الوجوه كما هي دون زينة أو زخرفة، فكل الأكاذيب لن تبقى سوى ذكرى باهتة في سجل الزمن.

وبينما واصل السير في شوارع المدينة التي بدت فجأة أقل ضوضاء وأكثر صدقا في ضوء القمر الباهت، استشعر كأن الليل يحكي له قصة قديمة عن أولئك الذين انغمسوا في زيفهم حتى نسوا حقيقة الوجود، كل زاوية وكل ظل كانا يشيران إلى أن ما وراء هذه الواجهات الزائفة يكمن عالم من الحقيقة النابعة من أعماق الإنسان، وفي قلبه يقين بأن الحقيقة، مهما حاول العالم إخفاؤها خلف أقنعة التظاهر، ستظل دائما مطروحة في أعماق الوجدان تنتظر أن تُكتشف.. في تلك اللحظات، شعر بأن روحه تستنهضها قوة جديدة تدفعه إلى رفض التعايش مع الأكاذيب والابتعاد عن تلك الوجوه المزيفة التي تسرق الضوء من الحقيقة، فقد أدرك أن الانفصال عن تلك الحياة التي تُكرّس الزيف والدهاء قد يكون الطريق الوحيد للوصول إلى ذواتهم الحقيقية، إلى ذلك السلام الداخلي الذي ينشده كل إنسان في أعماق قلبه، وهكذا، ومع كل خطوة خطاها في شوارع المدينة الهادئة، شعر بأنه كلما ابتعد عن عالم الوجوه المزيفة، كلما اقترب من عالم يحمل في طياته الأمان والصدق.

وفي نهاية تلك الليلة الطويلة التي بدأها في زقاق مظلم، وبينما كان صخب المدينة يتلاشى خلفه، ظلّت كلمات الصحيفة تتردد في ذهنه كمرثية حزينة: "الأقنعة ستسقط دائما، مهما طال العرض.".. ورغم كل الألم والمرارة، حمل في قلبه بصيص أمل، أملٌ بأن يوما ما ستنكشف الحقيقة بكل ما فيها من عظمة وضعف، وأن يُفتح باب جديد للحياة على أسس من الصدق والشفافية، وهكذا، تبعثرت الأفكار في ذهنه، ومع ازدياد الضبابية حول معالم الطريق، زاد إصراره على السير نحو النور، ساعيا إلى أن يجد في تلك الحقيقة المرة مرسى يقيه من أمواج الزيف التي تلتهم كل من اقترب منها، ومع بزوغ فجر جديد تكسوه أشعة الصباح الهادئة، أدرك أنه لم يعد بإمكانه العودة إلى الوراء، فقد كانت تلك الليلة بمثابة رحلة انتفاضة ضد الأكاذيب والواجهات المزيفة، رحلة نحو الذات الحقيقية، رحلة تعلم فيها أن المال والسطحية لا يبقيان أثرا سوى الذكريات الباهتة، وهكذا، وبينما بدأ العالم يستيقظ من سباته، حمل معه الوعد الذي نُسِج في جوف الليلة، وعدٌ بأن يكشف الزمن عن كل شيء، وأن الحقيقة مهما طال انتظارها، ستأتي في موعدها لتضيء دروب الأرواح المنسية.. وفي تلك اللحظة، كانت الأفكار تتلاحم في ذهنه، فتحدثت معه بصوت داخلي متمرد: "هذه هي الحقيقة التي لا تستطيع المظاهر تزييفها، هذا ما قرأته في الجريدة أيضا."

***

جليل إبراهيم المندلاوي

في لحظة إشراق، استيقظت روحها، لتختلس وقتًا لها من مشاغل الأمومة اليومية، رغبة في استعادة وهج موهبتها الدفينة. كانت الخياطة نغمة قديمة تعزفها أناملها منذ نعومة أظفارها، والآن حان وقت عودتها للرقص على أوتارها. بخيوط من حرير الأحلام وإبرة مغموسة في عطر الطموح، فكرت في خياطة فستان يليق بليلة التخرج المرتقبة.

في أروقة الذاكرة، تتراقص خيوط الماضي، حيث نسجت أنامل الطفولة براعة الخياطة. كانت جارتهم بوابة سحرية إلى عالم يفيض بالجمال والإبداع، حيث كانت تحول الاقمشة الملونة إلى قصائد حية ترتديها الأجساد. كانت عيناها تلتهمان كل حركة وغرزة من انامل جارتها الخياطة، لتثبّت داخل روحها جذور هذا الفن الجميل. وها هي اليوم تستعيد نداوة تلك اللحظات الثمينة.

في لحظة إلهام سامية، انبثق الشغف من أعماق روحها كنبع صافٍ. بعين ثاقبة وقلب خفاق، انتقت قطعة قماش متواضعة الثمن، لكنها غنية بالوعود. كانت ألوانها أشبه بألحان فرح تعزفها أصابع الربيع على أوتار الحياة، ونقوشها حكايات صامتة تروي قصص البساطة المتوهجة بوهج الأناقة.

حين غفا طفلها، مستسلماً لأحلام الطفولة البريئة، جلست في محرابها المتواضع، غرفتها الصغيرة، محولةً ساعات الفراغ إلى ملحمة إبداعية تتحدى الملل وتعانق الشغف. بين يديها، تحولت الإبرة إلى عصا سحرية، والخيط إلى شعاع من نور يرسم على القماش أحلاماً وآمالاً. انكبت متلهفة على تجسيد إرادتها، مستخدمة ولعها كوقود لرحلة الابتكار رغم مواردها البسيطة ومحدودية ظروفها. كانت هذه اللحظة ليست مجرد بداية لصنع ثوب، بل هي ولادة جديدة لذاتها التائهة، التي كادت تذوب تحت أعباء الأيام، وتأكيد لقدرة الروح على الازدهار حتى في أكثر الظروف عناءً.

بدأت تخيط بخطى وئيدة، وكأنها ترمم نسيج حياتها الممزق. كل غرزة كانت وشماً تحاكي غربتها الصامتة، ووحدتها الثقيلة. بأصابعها، كانت تنسج أحلاماً جديدة لمستقبلٍ ضلّ مجهولًا.

وحين اكتمل الفستان، بدا كأنه لوحة نسجتها أنامل الحلم، تفيض رقةً وجمالاً، تحمل في طياتها نبض الروح ودفء الذكريات.

عندما ارتدته لأول مرة، شعرت وكأنها تعيد اكتشاف ذاتها التي كادت تتلاشى في زحمة المسؤوليات. كان الفستان أكثر من مجرد قطعة قماش، بل هو عمل فني، يعكس بساطتها الممزوجة بحكاية تُروى بلا كلمات، وشهادة على قدرتها بتحويل الخيوط البسيطة إلى تفاصيل نابضة بالحياة، كأنها شهادة على رحلتها العميقة من الوحدة إلى الإبداع، ومن الإرهاق إلى البهجة، ومن عتمة العزلة إلى انعتاق الروح، فكل غرزةٍ فيه كانت نبضاً يعبر عن شغفها، وكل طيّة نسجتها بيدها تؤكد عزيمتها التي لم تدعها تخضع لليأس، بل قاومته بنبض الحلم وإصرار الروح. فهو لم يكن مجرد مظهر خارجي، بل كان انعكاسًا لجمال داخلي وأمل متجدد يرفض أن ينطفئ.

حينما سارت في أروقة الأكاديمية تدفع عربة طفلها، كانت كأنها قصيدة تتجسد أمام الأعين، يتراقص حولها عبق الإبداع وسحر الأناقة. خطواتها هادئة، لكنها تروي قصة نسجتها بخيوط الإصرار والصبر.

كل من رآها بالفستان شعر وكأنه أمام لوحة فنية تتحدث عن خفاياها. عيون الحاضرين كانت تلاحقها بدهشة وإعجاب، وكأنها نجمة في سماء تزداد بريقًا كلما تقدمت. وبين كل تلك النظرات، بدت عينا إحدى الأستاذات، تتألقان بشعورٍ صادق من الانبهار، وتساءلت بلهفة يشوبها الإعجاب: "من صمم هذا الفستان الجميل؟"

وبابتسامة تحمل مزيجًا من التواضع والاعتزاز بعملها، وبصوت هادئ تنساب منه نبرة فخرٍ خجول: اجابت: "لقد صنعته بيدي."

رفعت الأستاذة حاجبيها وسألت مستفسرة: "ودون ماكينة خياطة؟"

أومأت برأسها، قائلة بثقةٍ: "أجل... غرزةً إثر غرزة."

تأملته بإمعان وكأنها تحاول فك شيفرة الإبداع المنغرزة بين ثناياه، ثم سألتها بنبرة يتخللها رجاء خفي: "هل يمكنك أن تخيطي لي مثله؟"

ابتسمت مرة أخرى، مختارة أن تجيبها بعملها، طلبت منها أن تنتظر بضع دقائق. كانت تلك اللحظات تحمل في طياتها أكثر مما يبدو على السطح. لم تكن مجرد دقائق عابرة، بل كانت امتدادًا من الغرز التي خاطتها بحب لرحلة طويلة من العزيمة والكفاح، ومع ذلك، لم تر في طلب الأستاذة مجرد فرصة لإظهار موهبتها أو تحقيق مكسب مادي، لقد كان شيئًا أعمق من ذلك بكثير.

حين عادت قدمت الفستان هدية، وعلى ثغرها ابتسامة تحكي عن قلب طيب ونفس كريمة. وهي تعلم انها قد تخلت عن ثوبها لحفل التخرج.

***

سعاد الراعي

في يوم ربيعي دافئ، كانت إيناس، السيدة الجميلة ذات الابتسامة الساحرة، مستغرقة في عالمها الخاص، تجلس في مكتبها الواسع المليء بالأوراق، تمارس طقوسها اليومية المعتادة في حل الكلمات المتقاطعة.

 كانت تكتب بضع كلماتٍ لا ترتبط ببعضها تضعها جانبا لتجرب بها حل الكلمات المتقاطعة، التي كانت بالنسبة لها، ملاذاً للخروج من روتين الحياة اليومية، تستمتع بكل لحظة تمر عليها، وتعيش في عالمها الخاص.

بينما كانت إيناس غارقةً في عوالم كلماتها المتقاطعة، لاحظها زميلها الوسيم، الذي ظل معجباً بها بصمت لفترة طويلة، يتأمل جمالها وينتظر الفرصة السانحة للانقضاض عليها كذئب جائع.

وجد في تلك اللحظة فرصةً ذهبيةً للتقرب منها، وكأنه وجد ضالته المنشودة. اقترب بخطى واثقة، وقلبٍ مليء بالإعجاب، وقال بجرأةٍ وثقة: "ما هذا الإبداع الذي أراه أمام عيني؟ كلماتك تحمل بعداً رابعاً يجعلني أغرق في بحرٍ من الجمال الأدبي، وكأنني أسبح في سماءٍ من الإلهام! أنت شاعرةٌ مدهشة، لا مثيل لك في هذا العالم."

ابتسمت إيناس ابتسامةً خجولة، وهي تشعر بشعورٍ لم تعتد عليه من قبل، شعورٌ بالتقدير والاهتمام. فعدّلت من جلستها، ونثرت شعرها الحريري الطويل على كتفيها، وكأنها أميرةٌ تتحضر لرقصة باليه.

قالت بتواضعٍ وثقةٍ يفوح منها رائحة إحساسٍ مرهف: "لقد بدأت الكتابة منذ زمنٍ بعيد، في سنٍ مبكرة، عندما كنت أبحث عن وسيلةٍ للتعبير عن ذاتي ومشاعري. لكنني لا أحب أن أكون تحت الأضواء،

 فأنا أكتب من أجل نفسي، ومن أجل المتعة الشخصية. أكتب ما يجول في خاطري، دون الاهتمام بالشهرة أو الانتشار."

رد عليها زميلها بحماسٍ وإعجاب: "لا يجب أن تحتكري هذا الجمال الأدبي لنفسك، فكلماتك تستحق أن يراها العالم، وأن يقرأها الجميع.

غدًا، أحضري إحدى قصائدك الرائعة لنشرها في الجريدة،

 لدي صديق هناك، وهو صحفي موهوب، يستطيع مساعدتنا في نشر إبداعك. أنا متأكدٌ أنه سيقدّر موهبتك، وسيساعدك على الوصول إلى جمهورٍ أوسع."

أمضت إيناس ليلتها وهي تكتب ما تظنه شعرا حتى وقت متأخر من الليل.

في اليوم التالي، حملت إيناس بعضاً من كتاباتها، تلك الخربشات التي كانت تظن أنها غير مترابطة، لكنها كانت تحمل في طياتها مشاعرها وأحاسيسها. قدمتها لزميلها بإحساسٍ مرهف، وكأنها تقدم كنزاً ثميناً. وبعد أن تأملها بإعجابٍ شديد، طار بها إلى صديقه الصحفي، الذي رحب بها بحرارة، وأبدى إعجابه الشديد بقصائدها.

وفي اليوم الذي تلاه، فوجئت إيناس برؤية قصيدتها منشورةً على صفحات الجريدة، وكأنها حلمٌ تحول إلى حقيقة.

 أخذت مشاعر الفخر والغرور تتملكها، لكنها في نفس الوقت شعرت بالمسؤولية تجاه موهبتها. أدركت أن كلماتها أصبحت لها تأثيراً على الآخرين، وأنها أصبحت مسؤولةً عن إيصال رسالةٍ ما من خلال كتاباتها.

استمرت إيناس في الكتابة، وأصبحت قصائدها تملأ صفحات الجرائد والمجلات، وتنتشر بين الناس. تواصلت مع قريبتها، المذيعة الشهيرة والمحبوبة، وطلبت منها ترتيب مقابلةٍ تلفزيونيةٍ للحديث عن تجربتها الشعرية، وعن كيفية اكتشاف موهبتها، وعن رسالتها من خلال كتاباتها.

ظهرت إيناس على شاشة التلفاز، في برنامجٍ أدبيٍ شهير، وتحدثت بثقةٍ وحماسٍ عن إنجازاتها الأدبية، وعن حبها للشعر والأدب.

بدأ النقاد في إفراد صفحاتهم لتحليل قصائدها، التي لم تكن تفهم أبعادها بالكامل في البداية، لكنها مع الوقت أصبحت تدرك عمق معانيها. كانت تجيب عن الأسئلة بذكاءٍ ولباقة، وتستشهد بآراء النقاد، وتحاول أن تبدو بمظهر المتعمقة في الأدب، والمتمكنة من أدواتها الشعرية. مع أنها حقيقة لا تعرف ماذا تكتب.

مع مرور السنوات، تحولت إيناس إلى رمزٍ من رموز الأدب الحديث في الوطن العربي، وانتشرت دواوينها لتملأ رفوف المكتبات.  كانت تصدر دواوينها سنوياً، وتحظى بشهرةٍ واسعة، ويتحدث عنها النقاد. لكن في أعماق نفسها تقول هل أنا اضحك على الناس أم أضحك على نفسي أم الناس تضحك علي؟

سؤال لطالما أرق إيناس ولم تجد له جواب!

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

سكاكين

كنا نثلم السكاكين من دون أن نرميها في البحر

لتغور في الاعماق البعيدة

فنصبح في مأمن منها

كانت أشد إيلاما وهي تذبحنا

2

الموت

عاتبنا الموت فقال

أنا صديق الجميع أزور أيّا أشاء

في أي وقت اشاء

لا يزعجني

الا هؤلاء المنتحرون

الذين يتعجلون لقائي

3

جلْد

الوردة تجلدنا بالعطر

بالنور الشمس

بالأمطار الغيم

كلٌّ يرجمنا حسب هواه

هل أصبحنا منفيين إلى هذا الحد؟

4

لأنّ الطلل يأسف على شذاه القديم

لا يتشبّث بالرمال

***

من شعر اللمحة

قصي الشيخ عسكر

شاعرٌ مغتربٌ وحزين

يتمشّى الآنَ في شارعٍ أَجنبيٍّ

شاسعٍ ومصطخبٍ بالانوثةِ والحُبِّ والجمال

وهوَ يشبهُ " شارعَ الموكبِ " .

الذي كانَ " يَتَشَرْعَنُ " باذخاً وساحراً

في قلبِ بابل القديمة

التي كانتْ فردوسَ العالمِ

وجنَّتهُ السامقةَ حتّى أَعالي المُطلقِ

وغيومِ رهامِ الخِصْبِ

وسماءِ الرَبِّ والحقيقةِ،

التي لايعرفُ حقيقتَها،

غيرُ اللهِ ونحنُ الحكماء

والعارفينَ والخائفينَ والطامعينَ

والشعراءُ والمجانينَ والحمقى .

ولهذا يبكي الشاعرُ

على شوارعَ مدينتهِ المنسيةِ

في الخرائطِ، وفضاءاتِ الـ ...

" GPS "

و" يَثْغَبُ " على بلادهِ التي خرَّبَها

(اليانكيونَ) والخونةُ عَمْداً

ونكايةً بنورِ الحضاراتِ

و سِفْرِ " سومر " وآثارِها المهيبِة

والشاخصةِ منذُ سبعةِ آلافِ سنةٍ اسطورية

و " جنائنِ نبوخذِ نصَّرْ "

و أُنثاهُ الغريبةِ الديارِ والأطوارْ

وملحمةِ " السبي البابلي " .

و " ومسلَّةِ حمورابي ".

العادلةِ الدساتيرِ

ونورِ القوانينِ

وأَحلامِ " جلجامشَ".

بالخلودِ والخلاصِ

و " بوابةِ عشتارَ"،

وغرامياتِها المشتعلةِ

عشقاً ورغباتٍ

وغواياتٍ حُمْرٍ وجَهَنَّمية

وصحائفِ الخلقِ الاولى

وأَسفارِ التوراةِ

ووعودِ الميعادِ المزعومْ

في رؤوسِ الـ " بلفوريينِ "

وأَوهامِ سيدهِم السيئةِ

الصِيتِ والسمعةِ والأَسرارْ

ولذا فإنَّهم خبأوا ثاراتِهم

وضغائنِهم منذُ مهزلةِ السبي

حتى " سقوطِ بغدادَ " الأَوَّلْ

ومنْ ثمَّ سقوطِ صنمِ خادمِهم

وعميلِهم وعبدِهم الخائنِ

لكلِّ شيءٍ،

بدءاً من نفسهِ الشوهاءْ

وأحلامِهِ الحمقاء

ونواياهُ السوداءْ

حتى مزابلَ ومستنقعاتِ

شوارعِنا المنكوبة

وبلادِنا المركوبة

كأَيِّةِ فرسٍ مُعتلّة

وكأَيّةِ مُستوطنةٍ

مُحتَلَّةٍ ومُظْلِمةٍ ومظلومةْ

وشوارعُها لا تَشبهُ

هذا الشارعَ

الذي يمشي بهِ الآنَ

شاعرٌ عراقيٌّ مغتربٌ

ووحيدٌ وحزينٌ

اكثرُ من نبيٍّ مطرودٍ

إلى أرضٍ لاعودة منْها

ولَيْسَ لهُ فيها أَيُّ وطنٍ

ولا قبرٍ ولا شاهدةٍ

من طينٍ أَو رخامٍ

ولا حتى من هواءٍ فاسدْ

وهذا الشاعرُ

وأَعْني النبيَّ المطرودَ

هو أَنا ...

وربَّما هو شبيهي

أَو إنَّهُ ظلّي المُمتدُّ

من " ميزوبوتاميا "،

حتى منافي اللهِ

والوهمِ والثلوجِ

والقيامةِ الأَخيرةْ

***

سعد جاسم

 

في نصوص اليوم