نصوص أدبية

نصوص أدبية

أفتح نافذة القلب على رائحة الخبز المفقود.

الجوع يقف هناك،

على الرصيف،

يضحك

كأبلهٍ في جنازة.

أقول له:

أنت لست فكرة.

أنت أسنان تنهش الهواء،

وأصابع تبحث عن عظام الطير في القمامة.

لكنك تصمت،

مثلما تصمت الشجرة حين يصفعها الغبار.

*

أرى العصافير تتقيأ أجنحتها،

ترميها كرسائل غير مرسلة،

وتقف حافيةً في فناء غزة،

حيث الوقت يمشي على ركبتين

والماء يتلعثم في فمه.

الجوع ليس ظلاً،

هو جنديٌّ أعمى

يخيط الليل على العيون،

ويتركنا نضحك من الألم

كأننا نضحك من نكتةٍ قاسية

في وجهٍ غارق بالدموع.

*

أمدّ يدي.

كل ما ألمسه يتحول إلى رماد ساخن.

الأحجار نفسها تصرخ،

والشمس، تلك الأم الهاربة،

تضع رأسها في الفراغ،

تغني بصوت خافت

كأنها تسخر من موتٍ يتكرر كل ساعة.

*

في الشارع،

يرقص الغبار كعجوزٍ سكران،

يحمل على ظهره صرخات الصغار،

ويبيعها بأبخس الأثمان في سوق الليل.

الجوع

يصفّق بيدين من عظام،

يضحك حين يرى القدور فارغة،

كأنه مهرّج بائس

يسخر من أحلامنا التي تشبه خبزاً يابساً

ينكسر قبل أن نلمسه.

*

في غزة،

حتى البحر صار يتذمر،

ماؤه مرّ

كأنه شرب الدخان وأدمن طعم الحديد.

الأمواج تصرخ في وجهنا:

"هل أنتم أحياء،

أم مجرد ظلال تمشي بلا أصوات؟"

*

أضع أذني على الأرض،

أسمع نبض الجوع

كأنه طبلٌ قديم

يستدعي جيوشاً من الذكريات الميتة.

أسمع أيضاً ضحكة ساخرة

تأتي من بائع الخضار،

الذي صار يبيع الهواء،

يقول: "خذوا هذا النسيم، طازج من الحقول!!  "

ثم يضحك

حتى يسقط على الأرض

ويكاد يبكي.

*

الغروب حزين.

يلبس وجهاً بلون الصدأ،

ويمد ذراعيه ليغطي العراء،

لكنه يكتشف أن لا شيء يستحق الغطاء.

حتى الظل هرب،

تركنا مثل مقاعد مهجورة في ساحة مدرسة مدمرة.

*

وأنا ....

أنا أجلس في منتصف الليل

كأنني آخر سائح في مدينة أكلها الجوع،

أكتب رسالة فارغة

وأوقعها باسم كل جدارٍ تعلم الصبر،

ثم أضحك،

لأن الضحك آخر ما يمكن أن نهديه للحياة

حين تسرق كل شيء وتتركنا عراة.

*

أنا الجوع.

لا تظنوا أنني فكرةٌ عابرة،

أنا كائنٌ من لحم الظلال،

أتنفس من أفواهكم الفارغة،

وأحيا في الصمت الذي يسقط من العيون.

أتمدد مثل قطةٍ جائعة

على أرصفة غزة،

أشمّ بقايا الخبز،

ألحسُ الطين وأبتسم،

كأن الطين صار ولدي المدلل.

*

أطرق أبوابكم في الليل،

أدخل بلا استئذان،

أجلس بينكم

كضيفٍ يعرف أن حضوره أقوى من كل الصلوات.

أضحك حين يشتمني الأطفال،

أضحك لأنني أعرف

أن ضحكاتهم الصغيرة،

تحت وسائدهم،

تحولت إلى عظامٍ بيضاء تنتظر حليب الغيم.

*

هل رأيتم البحر؟

أنا من جعلته أزرقَ حزيناً،

أوهمته أن الملح دموع،

فصار يبتلع صرخاته ويختنق.

أنا من سرق الدفء من النار،

وتركتها تتلوى كأفعى عاجزة عن العضّ.

*

أنا لست عدوكم فقط،

أنا مرآةٌ صادقة،

أقول لكم:

هكذا أنتم بلا قمح،

بلا زيت،

بلا ماء.

هكذا أنتم... مجرد أصواتٍ تطرق جدار العالم

ولا يفتح لها أحد.

*

وأضحك.

لأن الضحك آخر ما تبقى لي

كي أبدو أقل وحشيةً

حين أرى قلوبكم تتحول إلى حجارة

لا تشبع أبداً.

*

في الليل،

تأتي الريح مثل بائعة هوى عجوز،

تغني للجوع أغنيةً بلا لحن،

وتوزع بردها على البيوت كأكياسٍ فارغة.

*

القمر،

ذلك الوجه الشاحب،

يضحك ببرود،

يمد لسانه من خلف الغيوم،

ويشير إلى غزة:

"أنتم عراة حتى من الضوء."

*

الأشجار تخلع أوراقها

كمن يلقي آخر أسراره في النهر،

تنحني،

تستجدي الظلّ،

وتبكي على جذورها التي لم تعد تجد ماءً ولا خبراً من الطيور.

*

السماء،

أمٌّ غاضبة،

تسكب نجومها على الأرض

كأنها زجاج مكسور،

ثم تصمت،

تصمت كمدينةٍ اختنقت بأدخنة القنابل.

*

حتى النار،

تآمرت مع الجوع،

صارت تبرد كأنها تخجل من دفء غائب.

وأنا،

أجلس تحت هذه السماء المعتمة،

أعدّ أصوات الأشياء

وأسمعها كلها تقول الكلمة ذاتها:

جوع،

جوع،

جوع.

*

أضحك.

لأن الضحك صار طريقتي الوحيدة

لأقول للعالم:

نحن ما زلنا هنا،

لكننا نأكل الهواء

ونتحدث إلى الرماد

كأنه آخر من بقي ليسمعنا.

*

في الفجر،

يمشي الضوء على عكازين من رماد،

يرتجف،

كأنه شيخٌ فقد ذاكرته في أزقة غزة.

أمدّ يدي نحوه،

فأرى أصابعي تتحول إلى طيورٍ محروقة

تسقط بلا صوت.

*

الجوع هناك،

يجلس على درجٍ مكسور،

يمضغ ضوء النهار

كما يمضغ عاشقٌ ماضيه،

ويراقب السماء

كمن ينتظر معجزة تتأخر عمداً.

*

العصافير صارت أرقاماً،

تعدّ أيام الحصار

بمنقارٍ مبلل بالبكاء،

والقطة التي في الزقاق

تلعق جرحها،

تلعقه كأنها تمحو اسمها القديم.

*

حتى الضحك،

ذلك الصعلوك الهارب،

يلتف حول عنقه حبل الصمت،

يختنق،

ثم يعود كصرخة مكتومة في حلوقنا.

*

أسمع الحجر يتكلم:

"لقد تعبتُ من حمل أقدامكم،

من دفن دموعكم في ثقوب صدري."

ثم يبتسم الحجر،

ابتسامة ساخرة،

كأنه يعرف

أن أحداً لن ينقذه من صمت الجوع.

*

أفتح فمي كي أصرخ،

لكن صرختي تخرج كريحٍ بلا اتجاه،

تتسلق الجدران،

وتسقط،

تسقط مثل ظلّ فقد جسده.

*

غزة الآن،

ليست مدينة،

بل صدرٌ هائل يعلو ويهبط

كأن العالم كله محشور في رئتيها.

*

الجوع يقف في المنتصف،

يحمل ساعةً بلا عقارب،

ويقول للوقت:

"أنت مجرد وهمٍ قديم،

أنا من يصنع الدقائق

بأنياب الفراغ."

*

أرى الأزقة تتلوى مثل أفاعٍ عمياء،

تبحث عن دمٍ جديد كي تبقى حيّة،

وأرى الأسطح تتحول إلى أذرع طويلة

تمدّ أصابعها إلى السماء،

تسأل عن المطر

كطفلٍ نسي اسمه.

*

حتى الظلال تتقاتل،

كل ظل يريد أن يسرق مكان الآخر،

كأن الضوء نفسه أصبح فكرة عنيفة.

*

الجوع الآن أسطورة:

ملكٌ أسود

يرتدي تاجاً من دخان،

يسير في المدينة

كما لو كان كاتب مصائر،

يضع توقيعه على البطون

ويتركها تغني أغنية العدم.

*

أنا لست سوى شاهدٍ يتأمل،

أضحك بمرارة،

لأن السخرية آخر ما يمكن أن يقاوم هذا الخراب،

وأكتب،

لأن الكتابة هي آخر الفتات

الذي نقتسمه مع الحياة

قبل أن تبتلعنا الأسطورة كلها.

***

مروان ياسين الدليمي

عِندَ مبنى البَريد تَوقّف حُلمي

لن تصل رسالتي

ستصادرها أنظمة الحواسيب

النائمة

وستطلب منّي المضيفة الحسناء

الاِنصراف إلى حين.

سأغادر المبنى وفي نفسي

شيء من حتى.

هكذا عشت الحالة مرة أخرى

رفستُ علبة حليب مُهملة على الرصيف

ولعنتُ نفسي، ثم لعنتُ الشيطان

وقلت لمتسولة عجوز في طريقي:

" رِزقُنا معا على الله يا أمّي "

النّظام " نائم " والحواسيب تتلكأ في وجهي

أرقام " الكود " قرصنها هاكرز من زمن الرّماد

2

عطفا على ما سبق

يجوز للمعلّم أن يرقص على السلاليم

المتحركة

ويقرأ ديوان مديح الظّل لبورخيس

ويمتعض حين " تشدُّ خناقه "

قصيدة " إسرائيل"1

3

أُحس أنني أحتاج لشهور من الصمت

حتّى ألتقط أنفاسي وأصلح ذات بَيْنِي

وأرتق جُبّة إفلاسي

دعوني أبوح لكم بسري

هم سرقوا حلمي

هم فتكوا بسنوات عمري

وأدرجوني رقما مشفرا في حواسيبهم

أشتهي أن أقَبل يد أمي

وأستعيد حبل مشيمتي

أشتهي أن ألثم جبين أبي

وأستنشق عبق طفولتي

4

عطفا على ما سبق

يجوز للمعلم أن يُزيح أقنعة

النّفاق

ويبرأ من وَهْمِ "التاريخ" والعروبة

وأساطير الأولين

ويفتح قلبه للحقيقة

وينتظر مرور ريح عاتية

يجوز للمعلم أن يقرأ قصيدة مديح الظل العالي

لدرويش2

ويحمل انكساره وحزنه بأريحية زائدة

ويُحدّث معارفه على كراسي المقاهي

عن النكبة، عن النكسة، عن الموت السريري

للنخوة.

يجوز للمُعلّم أن يلقي بكتب اللغة خلف

ظهره

ويعلن سقوطه بضربات الترجيح

5

وطني ..

هذا أنا صورة فتوغرافية

ورقم مشفر وقبعة بالية

وأسنان تعضُّ على لهيب المحنة

وأَقْدَامٍ قطعت مسافات بين محطات الضياع

وطني..

هذا أنا أعيش وحيدا نوبات جنوني

وخلفي تلهث سنوات عمري الشقية

تُنْبِئِني بأحداث تَلَاشت مِن الذَّاكرة

تُحدِّثني عن أَزمنة مُنفلتة

عن تَوارِيخ مُضْمَرَة في حياتي

عن مَحطات عَبرها قِطاري

تُنبئني أنّ ما تبقّى أقل ممّا مضى

وأن القسمة كانت دائما ضيزى

6

عند مبنى البريد تداهمني

موجة توتر، تجلس القرفصاء

وتمر عربة خيول صامتة

ترسم لي طريقاً نحو الفجر

بين رُبَى غزيرة الاِخضرار

وسماءٍ تمطر الأشواق.

وطني

هذا أنا صفحة باهتة في مكتب أرشيف

بارد.

هذا أنا رهينة في يد تجار اللعنات

يحجزون على أحلامي

ينتزعون حقي في الحياة

وطني

سأشرب نخب هزيمتي في حضرتك

وأمشي على أنين قلبي

بملامح حادّة تشهد أنني عابر سَبيل

أنهكته تراكمات مبنية للمجهول

وطني

غضون الزمن تحاصِر أحلامي البسيطة

ورذاذُ الحزن يُناكف ذاكرتي العليلة

شارد على أرصفة النسيان

أرسم بخطوي وسم انكساري

بهدوء صبي ساذج

بفزع حَدثٍ ثائر

بحكمة كهل سادرٍ

7

عطفا على ما سبق

يَجوز للمُعلم أن يرسم للفراغ

وجوها متداخلة.

ويستعير من تاريخ الشوق

قصصا مُتلاقحِة

يجوز للمعلم أن يسأل "شات جي بي تي"

عن "أمّ عامر" وعن مريم المجدلية

ويضع علامات استفهام تربك حساباته

يجوز للمعلم أن يستعيد زمن الحِبر والريشة

ويملي نصوصا من " قاع الخابية "

ثم يخطئ "عمدا" ليكتشف الصواب في ظنونه

8

عند مبنى البريد تكلمت الساعة الناطقة

وتهاوت أورق سنديانة عجوز

تنبئُ بخريف مبَكّر

بصمت قادم

بهشيم ذكريات مُرّة

بصفير زفرات حَرَّى

برقصة صامبا في كرنفال الجموح

بجماجم ناطقة في متحف الحياة

برؤوس قد أينعت وحان وقت قطافها

بأعوام الجوع وحروب الطواحين

***

محمد محضار

23يوليوز 2025

.................

1- قصيدة ضمن قصائد ديوان مديح الظل لبورخيس والذي صدر  بعد زيارته لإسرائيل

2- قصيدة مديح الظل العالي كتبها محمود درويش سنة 1983م بعد الهجمة الشرسة لإسرائيل على بيروت سنة 1982

 

قبل أن آوي إلى فراشي

فتحتُ النافذة

لأسترجع تفاصيل أيام بعيدة

فجأة

رأيتُ قمر الأمس، دنا وتدلّى

قلتُ أهلا..

ورحتُ أرحّب بهذا الزائر

فالزمن ليس شيئاً مجرداً

بقدر ما هو، مجموع الوقائع التي تشكّله

غير أنّ الزمن قد يفلتُ منّا

ولكنّي..وأنا بين..بين

تناهى إلى سمعي صوت أنين

قلتُ: ها هو أيقاع الأعوام

واستفقتُ وحدي

على تخوم ايام الصبا

واللحظات الهادئة الخجولة

بعيدا عن عجاف السنين

في طفولتي، كنتُ احبُّ المطر

أنظر إليه، بمحبّة وحميمية

أحدّق في السماء

أغيبُ في تأملاتي

على مخدة الخير

اتدبّر امري بطراوة ملامحي

أرى الغيوم

وقد أسبلت جفونها

لتلمّ شعاع حلم المطر

وتترك ضفافها، تفيض بحنان

لأرض الفقراء، والمساكين، ولكلّ الناس

قطرات.. قطرات

تتهادى تغسل- بمودّة - أوراق الشجر

وتبارك سعف النخيل

وتبلّل كل المساحات بخضرتها العاقلة

انها مواصفات للحياة، بلا ظلال قلق

انها لوحات، بحقول من ضوء، يلوّن أفق الزمان

تضمخت ْبعليل هواء أبي الخصيب

كنتُ أحسّ بسعادة، بشكل متوازن

بعيدا عن مرافئ القلق والغبار

كأنّني بحلم جميل

وللحلم رائحة البساتين، والشعر

ويمضي بي الوقت

في أرجوحة الأمل البعيد، القريب

كأنّي أضمّ الأرض، أشمّ عطرها بعد المطر

بل كأنّي مواويل العشب الأخضر

الذي ظهر بغتة

بعد أن أشرقت الشمس

وراحت تخترق جدران الغيوم

وتضيء قريتي بأشعتها الملونة

مرحّبة بالطيور لكي تستريح

بشرفات سماويّة جديدة

بجدائل من حبّ...

على افق من نجوم

وأنا بين شوق يحطّ هنا

وشوق يطير.. هناك..!

أمنح نفسي فهما ً جديدا، للخير والجمال

بعيداً عن ظمأ العشق

وسراب العاشقين

ومضت أقدامي تسير

وتسير

تطير مثل طيور المساء

تسافر بين بلاد أحلامها

على شجر البوح

تاركة قشرة الأيّام الخاليات

فهي قادرة على أنْ تضمّ إلى صدرها

ضفائر النخيل.. وأوراق السدر

لتحّقق الحبّ...

والسلام والهناء

وتأبى الخضوع، لغير الله تعالى

***

حامد عبد الصمد البصري

وإنّيْ إذا لقيتُ ربّي مُكبَّلا

بوزنِ الجبالِ والهضابِ ذُنوبا

*

وصمتُ ندامتِي برأسيْ مُجَلجِلا:

فلو أنّهُ يعيدُني فأَتوبا

*

وبعْضِي على بعْضِي يَشدُّ مُنكِّلا

وكلٌّ غدا بيْ للجحيمِ شَبُوبا

*

أمِنْ حُجّةٍ لي كي يقومَ معلِّلا

لمَن قلبُهُ بالشّركِ كان مَشُوْبا

*

وناصحُ دنيايَ يَمرُّ مُهلِّلا

ومنْ عبتُ بالأمسِ أقلُّ عُيوبا

*

وصاحبُ دنيايَ جِواريْ مُعذِّلا:

فلو كنتُ إذْ شمّلتَ رُحتُ جنُوبا

*

وميزانُ عدلٍ فيّ يصْحو مُقلقِلا

أتملأُ "دنيا" في القيامةِ كوبا؟

*

فيا تعسَ يومٍ عشتهُ مُتخيّلا

بأنّي نُصِرْتُ إذْ ملأتُ جيوبا

*

ويا شؤم حربٍ عدتُ منها مُكلَّلاً

بنصرٍ لقاءَه خسرتُ حُروبا

*

ولسْنٌ من النارِ تُمدُّ كأنّها

رؤوسُ شياطينٍ أبنّ نُيوبا

*

وأحمدُ ما انفكَّ لذِيْ العرشِ ساجِدا

وذو العرشِ ما انفكَّ لطهَ مُجيبا

*

وخوفٌ يداهمُ الرّجاءَ مُزلزلِا

أربّاً عبدْتَ أمْ عبَدْتَ رُبوبا؟

*

أقولُ وقد خذلْتُ يومِي بأمسِهِ

ونفسِي بظُلمِها وكنْتُ لعُوبا

*

إلهي مددْتَ من لدنكَ مودَّةً

فما كانَ إلّا أنْ مددْتُ ذُنوبا

*

وإنّي لراضٍ إنْ نجوتُ برحمةٍ

وراضٍ إذا بُتَّ العذابُ نصِيبا

***

أسامة محمد صالح زامل

الهاربون من الجحيم

يأتون من بعيد، لا يحملون متاعًا، بل حكايات مثقوبة. جراحًا تلفّها أكياس النايلون، وصورًا بالأبيض والأسود لأمهاتٍ ينتظرن عند بابٍ لم يعد موجودًا. يأتون من الخرائب، من الحقول التي أُحرقت فيها السنابل قبل أن تثمر، من المدارس التي صارت سجونًا، ومن السجون التي صارت أوطانًا مؤقتة. يأتون، والريح في وجوههم ليست نسيمًا، بل صفعة التاريخ. الطفل الذي يعبر الحدود، لا يسأل عن اسمه، ولا عن اللغة التي يجب أن يبكي بها. كل ما يريده أن يصل إلى مكانٍ يمكن فيه للدمعة أن تسقط دون أن تُعتقل.

تسألهم الشاشات:

ـ من أنتم؟

فيقولون:

نحن الأحياء الذين لم يعيشوا بعد، نحن الذين نكتب أسماءنا على الورق المقوّى ونعلّقه على صدورنا خشية أن نموت. بلا تعريف. نحن أبناء الأنهار التي اختنقت، وأحفاد المدن التي بكتنا، ثم طردتنا، نحن من يعرف أن الحب لا يحتاج إلى تأشيرة، لكن الخبز. يحتاج.

على القوارب المطاطية، جلس الحالمون مثل الأنبياء في العواصف، يتلون أدعية لم تُكتب بعد، ويؤمنون بأن الأرض، يوماً ما، ستكون أوسع من جواز السفر.

رأيتُ امرأةً تحمل رضيعها بين صدرها والموت، وتغني له كي ينام . والموج ينهش قدميها. رأيتُ رجلًا يبتسم وهو يغرق، لأنه أخيرًا. لم يعد يسمع صوت القذائف.

أيها العالم:

ضع حدودك في جيبك، وامحُ أسماء الدول من خرائطك، واسمع ـ فقط ـ صوت الإنسان حين يقول: أنا جائع. أنا خائف. أنا حي. فمن يعبر نحو الشمال، لا يطلب الجنة، بل يهرب من الجحيم.

***

بقلم: كريم عبد الله - بغداد - العراق

 

أصغي إلى سخونتها

في ترتيب شعرها

المخمور بالأبجديات

مثل مجنون ثمل بالتفاحات

هذا ثغرها يلف وجهك

المشتاق للحنين

دع صهيل خيولك

نائمة في الكلمات

لا توقض نبضها

المتعطش للطقوس

أصغي إلى غناء البلابل

تراها في تعب المتجولين

تلك اعينهم نكهة في البوح

وخلف ابتسامتم

عناقيد لوحات وحنين

حين يتركوا العمال

بصماتهم في الصباح

تجمعهم احلامهم في الحياة

بعناق طويل

هم لا يحبون الاكاذيب

ينتقلون بمعاولهم

من قرية إلى قرية

يمشي النهار

مع صبرهم

اغنيات في مناقير العصافير

***

باقر الموسوي

 

لم تكن المدينة كما هي الآن. قبل أن يُغلق الضوء، كانت الشرفات تضحك، والطرقات تحفظ أسماء المارّين، والأشجار تهتزّ لا بالريح وحدها، بل بأغاني النساء وهنّ ينشرن الغسيل في الصباح الباكر. وكان الأطفال يركضون حفاة في الممرات الطينية، يخطئون ثم يضحكون. لكن شيئًا ما تغيّر في الأعماق. لم يكن مفاجئًا، بل تراجعًا بطيئًا لكل ما هو حيّ. تسلّلت التعليمات ببرودٍ تدريجي : "قلّلوا من فتح النوافذ"، لأن الهواء قد يكون محمّلًا بالأحلام. ثم جاء همسات من أفواه الرُعب : "أِياكم أن تصغوا للريح ، فبعض الروائح تحمل ذاكرة لا يطيقها الواقع المرسوم." قاوم البعض، لكن الخوف طرق الأبواب، ودخل كالضيف الذي لا يُغادر، ثم استقرّ كقانون لا يُناقش.

انغلقت النوافذ واحدة تلو الأخرى. صار الكلام يُوزن، والضحك يُؤجّل، والغناء يُخبّأ في الحناجر. المروج هجرت الحياة، وتقلّص ظل الغابة شيئًا فشيئًا، حتى الورود فقدت رائحتها الأولى. أصبح الأطفال يولدون في صمت، ويكبرون في صمت، وحتى نسي الجميع كيف يبدو الصوت حين لا يُقص جناحه. ولكن مع هذا السكون المتراكم، كان شيءٌ ما يرتجف في العمق، نبض خافت تحت الركام، صرخة مخنوقة في عتمة الليل، لكنها ترفض الموت. كأن المدينة بكاملها كانت تنتظر زفرة لم يُسمح لها بالخروج.

في ليلة لم تُعلن عن نفسها، مرّت نسمة على المروج، أيقظت قامات السنابل، عبرت الغابة ، حاملة أنينها، ولمَت آثار الأقدام على الدروب، حتى وصلت المدينة. طرقت زجاج النوافذ المغلقة وهمست : "أنا خطاكم المبتورة."

في زقاق ضيّق، كانت عجوز تسرّح شعرها في العتمة، رفعت رأسها ببطء، وشعرت بالنسمة تلامس وجنتها. نظرت إلى السماء من خلال النافذة، وأخذت نفسًا عميقًا كمن يستنشق الحياة بعد انقطاع، ثم فتحت النافذة. تبعها رجل بتردد، ومدّ يده نحو النافذة كمن يفتح صدره لشيء نسي ملامحه. أرسل نظره يتسرّب إلى السهول البعيدة، وكأنه يبحث عن وطن لم يعشه.

وهكذا بدأ الأمر. من بيت إلى بيت، من شارع إلى آخر، ومن زقاق الى زقاق آخر. انفتحت النوافذ والشرفات، وتذكّر الناس فجأة أن الريح لا تخيف، بل توقظ.

دخلت الريح كأغنية مشبعة بما لا يُقال. حملت معها رائحة التراب المبلل، جعلت الأبواب ترتجف، والقلوب تتفتح. أعادت للعشب ضحكته، وللطير نداؤه، وللغابة حنينها القديم. وعندما فُتحت النافذة الأخيرة، ساد سكون، سكون مفعم بالتشوق، كأن المدينة بعد انقطاع طويل حبست أنفاسها لتصغي... لا لشخص، بل للأغاني التي جاءت من الأعالي، وأطلقت سراح الحضور المختبئ خلف أبواب الغياب، ليعود إلى المدينة، لكن هذه المرة، بنبض لا ينتهي.

***

د. مامند محمد قادر -  شاعر وقاص عراقي كوردي

 

في غمرة الصمت المختلق، جلست حنان على شاطئ البحر تتطلع إلى الأفق، حيث لحظة الغروب تزيل بقايا أضواء النهار. بدا البحر لها كمرآة مائلة، تنعكس فيها ظلال لم تُفكك بعد.

كانت تتأمل الغيم وهو يتبدد على أطراف السماء، وكأنّه ينسحب بهدوء تاركًا مساحةً للشعور كي يتكلم. في داخلها، كان الشوق ينسج وردة من الضباب، تتمايل في نسيج وردي كعالم غامض، تعانق أنامل القلب فتتلظى الرغبة المدفونة عميقًا.

ومن غابات الذكريات، تنتفض عاصفة مباغتة. كحلمٍ لا يطلب الإذن، يطفو فوق بارجة النهار وسط عاطفة هوجاء، تتدفق منها كلمات لم تبح بأسرارها بعد. كلمات ترتجف على حافة البوح، لكنها تخشى أن تُفسد صورةً رسمها الحبيب ذات يوم.

همست لنفسها دون أن يجرؤ صوتها على الخروج: 

"أنا لست ما تحسبه قلبك... لا زهرةٌ تنمو في ضوء عينيك، ولا دفءٌ ينتظرك كل مساء. أنا خواءٌ تعلّم كيف يبتسم، كي لا يُفضَح."

ثم سكت البحر، كأنّه أنصت. أغمضت عينيها، كمن يدفع الذاكرة إلى الهامش، قبل أن تنظر من جديد إلى الأفق: 

أما الآن، فسأدع النسيج الوردي يتمزق ببطء، ولن أخيطه مجددًا.

تنويه: هذه القصة تمثل مشهدًا مستقلًا من رواية قيد الإنجاز بعنوان "صرخة في صمت الحالم"، وتتناول لحظة اكتشاف داخلي تتقاطع فيها الهوية والبوح والصمت العاطفي.

***

بقلم: كفاح الزهاوي

عبد الكريم قاسم

ألزعيمُ ذو الصوت المرتجف

يُذكّرني ارتجافُهُ بالأعاصير التي تقتلع السقوف

على مدى أربعِ سنواتٍ من حُكمه

كانت أعاصيرُهُ تقتلع قلوبَ مؤيديه

لتلقي بها في الثلج

وتقتلع قلوبَ مناوئيه

لتلقي بها في النار

مرّتْ عقودٌ على خمود الأعاصير

لكن في 14 تموز من كلّ عام

يجتمعُ ذوو القلوبِ المُثلّجةِ بذوي القلوب المحترقة

فيفتحُ الفريقان أزرارَ قمصانهم

ليلمس كل منهم في صدر الآخر

أثرَ الثلج،

أو أثر النار

**

... بتاريخ 8 شباط من كلّ عام

يتوجه الزعيمُ بخطوات مسرعة إلى قاتليه في مبنى الإذاعة

ومن ورائه مؤرّخٌ عجوز

بَلغَ من العمر ثلاثة آلاف عام

يُهرول،

متعثّراً بلحيته الطويلة الفضيّة

وهو يصرخ: يا قاسم انتظرني

أرجوك لا تسرع

أنا لستُ من أصحاب القلوب المُثلّجة،

ولا من أصحاب القلوب المحترقة

لكني أريدُ أن أعرف من أية رَحِمٍ تولدُ الأعاصير؟

***

شعر: ليث الصندوق

 

إلى قارئ لا أعرفه

هل تجلس مثلي بين ثنايا الصفحات البيضاء، تتدفق روحك حبرا، ولا تعرف كيف تُوقف جريانه؟

هو الفراغ يناديني باسمي، أكتبُني لأهرب مني، لكنني كلما كتبتُ، انكمشتُ في الحروف أكثر، وصرتُ ظلاً لمجازٍ لم يُكمِل رحلته.

وكأن عصافير الصمت تطير من كفي لتحط فوق جسر الخيال، فأخفي ارتجافي بين السطور. وحين يطرق الشوق باب الهواء، أتطلع للسماء كي يهطلَ عليَّ مطرُ الرؤيا، لأرى ما لا يُرى...

يا قارئي الذي لا أعرف

يا من تمرُّ على نبضي كمن يعبر غيمةً لا تمطر، هل شعرتَ بثقل الكلمات حين تصير مرآةً لا تعكس سوى صخب الذكريات؟

أنا الآن؛ أقطف من الريح فاكهة وجودي المُرِّ، وأغتسلُ بماء الوجع مرات، لعل رسائلَ البحر تنثر الحنين في كف الشوق. لكنها لا تجد غير صدى لقصيدة تجمع حقائبها كل ليلة كي تستقبل ماء الحزن من كل الجهات.1682 najat

يا قارئي الذي لا أعرف

إني أتلاشى كلما جرحتني الأخبار حتى لم أعد أدري إلى أين يحملني كل هذا الصراخ...

فهل مرّت عليكَ خريطة ملفوفةٌ كالكفن؟ ، قرأتَ فيها عن وطن يتنقّلُ في الجنازات، وهل سمعتَ الضحكة وهي تُختَنق بينَ خوذةِ جنديٍّ، وصوتِ أمٍّ لا تعرفُ بأيّ لهجةٍ تنادي؟

نحن يا قارئي نتقنُ البكاء بلهجاتٍ شتّى، نبكي بصمتِ أصوات عربية كثيرة، ثم نمد كفنا في الخواء وكأننا ننتظر شيئا ما.

لقد صار لنا في كل مدينةٍ نكبة، وفي كلّ زقاقٍ مآذن بلا مؤذّن.

فيا قارئي الذي لا أعرف

هل رأيت مثلي طفلًا يحملُ حقيبةً أكبر من حلمه، يسألُ عن الطريقَ إلى مدرسةٍ هُدمتْ قبل أن يعرف الأبجدية، ويجرُّ وراءه ظلّ بيتٍ اندثر قبل أن يحفظ عنوانه، ويرسم بعمق في قلبه اسم أمّه كي لا يضيع في خيامِ الذاكرة؟

يا قارئي الذي لا أعرف

أنا لا أُحسنُ صياغة النهايات، أكتبُ فقط لأنفُضَ عن قلبي الغبار و أمضي، ولأسرّب الأمل من شقوق الكلام حين يعجزُ النهار عن تبرير عتماته.

وها أنا أرتق الفراغ بإبرة التساؤلات، فلا أجد غير ممرات معتمة تضع فوق كتفي شال استعاراتها.

فهل شعرتَ يومًا بأنك تهرول على حافة المعنى، مثلي. وكأن ناي جلال الدين تردِّدُ صداه ريح قديمة تمسك بأطراف ثوبك فتهرب منك إليك؟، وكأنك تصغي لصوت انكسار القلوب ونزيف اللغة.

فيصبح الورق أضيق من أن يصير أنشودة غجرية ترافقني بدهشتي الطفولية، كي أجدني بعد منتصف الليل، أستمع لكمنجات الألحان القديمة.. وأمشي فوق الطين، لعل أقدامي تشكل بداية جديدة لحلم قد يأتي.

***

نجاة الزباير

07/07/2025

 

مازلت مستندة على الجدار هادئة بلا صوت، خشبك الخيزران

 البنيّ المصقول اللّامع يحيطك بهالة من الفخامة لا تخفى عن عين مغرم بالتّفاصيل، عصا جميلة انت بلا شكّ تليقين بيد باشا وأبي ملكٌ..

هادئة تتّخذين مكانك قرب سريره لا بدّ انك تشعرين بخيبة مريرة يوم تحسّسك بيده الصّلبة وجرّب ان يتمشى متكئا عليك مزهوا بك.. ثم سرعان ما القاك بعيدا لم يحتج اليك وهو في الثمانين لطالما كان عنيدا ازاء الزمن.

يومها استرعيت انتباهي وانت مخبّأة وراء الخزانة بعيدا عن ايدي الاطفال العابثة قلت في نفسي: لو كان لك قلب مثلنا.. بم كنت ستشعرين؟..

هل ستحزنين لانه استغني عن خدماتك؟.. ام انك تفضلين ان يحتفظ بك في مكان يليق بقطعة فنية نادرة.. لا تقولي ان خيالاتك بلغت بك حدّ أن تكوني كما عصا موسى تشطر البحر الي نصفين..؟

اعترف اني اشفقت عليك يومها وتطاوست مزهوة بقرار ابي ان يخفيك وراء الخزانة ويجدّد العقد مع ساقيه نكاية في الزمن..

صاحبك فتك به الزهايمر وما خانته ساقاه لم يلتجئ اليك ايضا.بحذر يقوم بجولته الصباحية في ارجاء الحوش.. يتلمّس الجدران، الياسمينة شجرة الرمان حتى يصل آمنا الى مقعده الحجريّ مستأنسا بشيء من البصر وبعضا من بصيرة.

وها قد بحثت عنك اخيرا ايتها العصا الجميلة الوحيدة الكئيبة، كان يجب ان اخرجك الى النور.. صاحبك لم تخنه ساقاه ذلك اليوم، فلا يهزّك الغرور وتتعالي. لم تخنه ساقاه بل خذلته الذاكرة فنسي كيف يمشي.. وكان عليّ ان استعين بك، كنت انا ساقه الثّالثة وكنت انت ساقه الرّابعة.حين وضع يده المرتعشة عليك استقام ظهره، استعاد توازنه بخطًى وجلة مرتبكة مشى.. خطوة.. خطوتين ثم تركته انا اودعته ايّاك امانةً.. كان يردّد دائما وهو فى اوج عنفوانه.. لن اموت الا واقفا.. وكان علي ان لاانسى ولم انس

متّكئة انت الآن قرب فراشه الفارغ البارد متكئة على وجعي.. رحل هو وبقيت انت تحدّقين بي وانا احدّق في الفراغ ربما تقولين في سرّك.. "نحن الأشياء نودّع اصحابنا نرافقهم الى مثواهم الاخير ونعود لنوجع الأحياء.. "

***

حياة بن تمنصورت

 

أَنْ تكونَ تائهًا في أَبجديَّةِ الكوْنِ،

غيمةٌ رماديَّةٌ وحيدة

تتراقصُ دونَ تكلُّفٍ

تتوكَّأُ على مساءٍ باردٍ

يُنقذكَ مِنْ حُلمٍ فقد نشوته

هلْ أَضعتَ النَّهرَ؟

أَمْ كُلَّما مررتَ بجدبٍ، تَهذي؟

لستَ سعيدًا بما يكفي،

لستَ سالما

عندما لا يستطيعُ القلبُ

أن يحطّم كآبته

أن ينجو من غناءٍ مرٍّ

ولو جمعتَ الشَّرقَ والغربَ،

اليابسَ والأَخضرَ

لضحِكتَ مِنْ هذا السراب

لُجّة الغياب

لهذي الحقائب المفتوحة

مشهدٌ طالَ عمرا

تكدّس بالانظار

يعجزُ عنْ صدِّ دمعةٍ

كسَرَتْ بابَ الحُزنِ

صِرتَ في الحياةِ

أَلْفَ أَلْفِ حَرفٍ

رأيتَ العواصف بأسمائها ونحيبها

بكيتَ

وما من صدى يتساقطُ

يريني ملائكتي

التقيك .. في الضفّة الأخرى من ذاك العمرِ

عطشا

يعيدني إلى أوّل صباح أرويه.

***

زياد السامرائي

 

رَعَيْتُكَ غُصْنًا فِي رُبَى الْحُبِّ نَاهِضًا

وَرُحْتُ أُغَذِّيهِ الْحَنَانَ فَيَكْبُرُ

*

كَبُرْتَ كَمَا تَرْجُو الرِّجَالُ لِسَيْفِهَا

وَصُغْتَ جَبِينَ الْعِزِّ مَجْدًا يُبَشِّرُ

*

خَرَجْتَ كَبَدْرٍ فِي الدُّجَى تَحْمِلُ الضِّيَا

وَخَلْفَكَ أَحْلَامٌ تُضِيءُ وَتُزْهِرُ

*

وَكُنْتَ إِذَا نَادَى التُّرَابُ سَمِعْتَهُ

بِقَلْبٍ كَصَخْرٍ لَا يَلِينُ وَيُعْصَرُ

*

لَقَدْ عِشْتَ مِثْلَ اللَّيْثِ، تَرْفُضُ نَفْسُهُ

إِذَا مَا رَأَى الْأَعْدَاءَ تَطْغَى وَتَغْدِرُ

*

فَفِيكَ وُجُودُ الْحَقِّ قَامَ مُبَشِّراً

وَفِيكَ نُبُوءَاتُ الْأُبُوَّةِ تُثْمِرُ

*

فَلَوْلَاكَ مَا كُنَّا نُعَدُّ مِنَ الْوَرَى

وَلَا كَانَ فِينَا مَنْ يَرَى وَيُقَرِّرُ

*

فَمَا كَانَ فَقْدُ الْبَدْرِ فَقْدًا، وَإِنَّمَا

هُوَ الْفَجْرُ إِنْ جَاءَ الظَّلَامُ سَيُسْفِرُ

*

فَمِنْ نَفْحِ جُرْحٍ قَدْ تُفَتِّقُ وَرْدَةٌ

وَيَنْمُو رَبِيعٌ مِنْ دِمَاكَ وَيُزْهِرُ

*

وَقَدْ يَخْرُجُ الْمِسْكُ الدَّفِينُ مَتَى سَقَتْ

دِمَاؤُكَ تُرْبَ الْعِزِّ حَيْثُ تُفجَّرُ

*

وَكُلُّ انْطِفَاءٍ فِي جِرَاحِكَ غَائِرٌ

تَشُبُّ بِهِ النِّيرَانُ دَوْمًا وَتَسْعَرُ

*

وَكَمْ مِنْ صَبَاحٍ لَمْ يَجِئْ بخُيُوطِهِ

سِوَى طَيْف ظِلٍّ مِنْ ظِلَالِكَ يُخْبِرُ

*

وَأُمُّكَ تَبْكِي فِي الْخَفَاءِ كَأَنَّهَا

تَمُرُّ عَلَيْهَا الذِّكْرَيَاتُ وَتَعْبُرُ

*

تُقَبِّلُ تُرْبَ الْقَبْرِ شَوْقًا كَزَهْرَةٍ

تُصَلِّي عَلَى دِرْعِ الشَّهِيدِ وَتَذْكُرُ

*

جَلُودٌ وَفِي جُرْحِي نَزِيفُ مَعَازِفٍ

أُقَبِّلُ فِيكَ الصَّمْتَ، أَزْهُو وَأَفْخَرُ

*

تُحَدِّثُنِي الْأَيَّامُ أَنَّكَ نَجْمُهَا

فَأَبْكِي وَمِنْ دَمْعِي تَوَلَّدَ أَنْهُرُ

*

أَرَى فِيكَ مَعْنَى الْحَقِّ يَجْرِي كَجَدْوَلٍ

وَيَرْوِي ظِمَاءَ الصَّابِرِينَ وَيُنْصِرُ

*

تَرَكْتَ لَنَا حَدْبًا، وَهَمًّا، وَغَصَّةً

يُسَافِرُ فِيهَا كُلُّ حُرٍّ وَيُبْحِرُ

*

وَفِيكَ تَنَاهِيدُ الْبِلَادِ وَحِلْمُهَا

تَبُوحُ إِذَا عَيْنُ الْحَقِيقَةِ تُبْصِرُ

*

يَمُرُّ نَسِيمُ الصَّبْرِ فَوْقَ جِبِينِهِ

وَيَحْمِلُ ذِكْرَاكَ الَّذِي لا يُكَرَّرُ

*

وَمَا زَالَ فَوْقَ الرَّمْلِ خُطْوُكَ شَاهِدًا

يُقَبِّلُهُ التَّارِيخُ حِينَ يُسْطَّرُ

*

وَيَا قُبْلَةَ الدُّنْيَا عَلَى جُرْحِ بَاسِلٍ

تَنَامُ عَلَى أَكْفَانِهِ فتُعَطَّرُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

قاسية كلمات الوداع

اشدها عندما نقولها للوطن

ياللأسف يُلذع جراحنا

ملح السذاجات

والرصاص المتناسل

يجعل الكلام في

خريف الفم

يتكاثر مثل

جراد الاوبئة

متُّ عطشًا من

سواقيك يا وطني

من وجوه موشومةٍ

بالكذب مشوهة بالدم

سلطان يرتدي

تيجان الجهل

وجدلية العلم

تضيق حدوده الجغرافية

لحفيضته

لا يواكب القلم

ولا يعرف ملاحم العقل

هو حمار

يصول في (الطولات)

لا يصلح حتى

لجر العربات

ونقل الحمولات

له ذيل بطول فهمه

يطرد القراد عن موخرته

سمعه ثقيل جدًا كنباهته

لا يتلقف سوى (الديخ)

فصيح بعدد أمثالة

في (سوق الغزل)

يهلهل نهيقًا

وصوته مثل

ضجيج (السكراب)

ياله من سلطان عظيم

يبني خيالات من

(تنك عتيك)

في وهم خياله

انه حاكم حكيم

ينحر العالمين

نحو المحراب

وباسم الرب

يرتل ايات النحر

هكذا الطغاة

متشابهون في

اشكالهم فكلهم

خلقوا من ماء النفايات

يا وطني اراك

على صدري تتكئ

تذرف خيبات الظنون

بما فعله السجانون

واتوسد اسمك يا وطني

وارتمي بحطام الحاضر

لحروفك التي يجرحها السفاح

ومعناك يأبى الخنوع

وان كثرت اقدام الوقاح

***

باقر طه الموسوي

 

عِنْدَمَا أَشْرَقْتِ نُورًا وَبَهَاءْ

طَفْحَ اَلْقَلْبُ حُبُورًا وَانْتِشَاءْ

فَتَسَاءَلَتُ بِحُزْنٍ

أَيْنَ كُنْتِ ؟

لِمَ أَنْتِ،

قَدْ تَأَخَّرْتِ كَثِيرًا، فَخَسَرْتُ

وَخَسَرْتِ

سَنَوَاتٍ ذَهَبَتْ مِنَّا سُدَى

فَغَدًا اَلدَّرْبُ كَئِيبًا أَجَرَدَا

**

قَدْ تَخُونْ

هَذِهِ اَلْأَيَّامُ

قُلْتِ

أَوْ  تُخَانْ

لَمْ أَقُلْ شَيْئًا

فَقَدْ خَانَتْ لِسَانِي

اَلشَّفَتَانْ

وَغَزَتْ رُوحِي شُكُوكٌ وَظُنُوْنْ

بَعْدَ أَنْ كَانَ اِشْتِيَاقِي وَالْحَنَانْ

يَغْمُرَانْ

دَرْبِيَ اَلْمَمْلُوءَ حُبًّا وَأَمَانْ

**

غَامَتْ اَلدُّنْيَا، وَهَبَّتْ عَاصِفَةْ

اِخْتَلَطَ اَلْحَابِلُ بِالنَّابِلِ

فَاحْتَارَ اَلطَّرِيقْ

بِخُطَانَا اَلرَّاجِفَةْ

غَدَرَتْنَا الذاكرةْ

حِين جَاءَتْنَا طُيُورٌ  مَاكِرَةْ

هَاجَمَتْنَا

أَحْرَقَتْ أُرْيَاشِهَا بَيْنَ يَدَيْنَا

فَاخْتَفَيْنَا

دُونَ أَنْ نَذْكُرَ

مِنْ أَيْنَ بَدَأْنَا

لَا. . وَلَا  كَيْفَ اِنْتَهَيْنَا

***

شعر: خالد الحلّي

يا نداوةَ الضوء!

ماذا لو نحتنا صورتنا صلاةً

في ذاكرةِ القبيلة؟

طيب!

ماذا لو غسلنا المسافةَ رعشةً

وأسدَلنا المغادرةَ نهرًا

وقطّرنا خمرَنا من القُبَل

وتأوّهْنا غنجًا

وضحكْنا في وجهِ الجيران

تَناصًّا مع الرحيل؟

بوسعنا قتلُ أولئك الغارقين

في عصفِ المسرح

لتظلَّ النافذةُ بهيجةً

أين نحن الآن من خيالِ اللاهوت؟

أيتها البحرُ المدلَّل

لنحظَ بلمحةٍ مرتجَلةٍ تمزّقُنا

وأقبيةِ العفّة،

اللعنةُ على الطهر!

اللعنةُ لنا إن نافقنا

أو أُصِبْنا بعَطَبِ القبيلة

هذا سفرٌ خالقٌ

وفي جوهرِ الحب، أنتِ

أنا قادمٌ من صحوِ شفتيكِ

لعينًا... ملعونًا... لاعنًا

ألملِمُ شظايا رائحتكِ الباقية

فوقَ الملاءة

*

كلّما أستشعرُ لذّةً فيكِ

أمُرُّ وجودًا في مخيالِ العدم

تصوّري عشوائيّةَ المعنى

إنّها قيامتُنا المؤجّلة

أنصتي لهمسِ الأبد

أحفرُ في الزمنِ دروبًا

تقودني إليكِ اعتباطًا، بعيدًا

شحيحةٌ هي الأزمنةُ حين تتعلّقُ

القصيدةُ بكِ

أشرقَ وجهُكِ، حبيبتي

حين سألتِني عن جدوى المقدّس؟

عاجلًا كالبحرِ أخبرتُكِ

أن الرحيلَ عاهرٌ

وكلَمعَةِ الحقيقةِ حين لا تَبين

خرجتْ من وجنتيكِ

حقولُ القمح

ورفرفَ الزمنُ بطيفِكِ

لشاعريَّ منّي

لماذا ينحني الرِّيحُ لوجهِ الغياب؟

حان الزمنُ الغائب، أليس كذلك؟

يقهرني جدًا أن أكون نبيذًا منسيًا

يؤلمني أن تكوني وحدكِ في ظلامِ الغرفة

مع رجلٍ أطلقتْ عليه القبيلةُ زوجَكِ

وحدي الآن أرتعدُ من العشق

أتجرّعُ شهدكِ، حالِمًا بكِ

عروسًا للعُمرِ الآتي

***

حسين محمد خاطر

كاتب روائي وشاعر من السودان

في هذا العالم الذي تقيّأَ رمادهُ على وجهِ الصباح، تتكسّرُ المدنُ كما تتكسّرُ الفصولُ في دفترِ طفلٍ نازح. الأنهارُ هجرتْ مجاريها، والموسيقى أصبحتْ شهقةً مكتومةً في حلقِ البيوتِ المحترقة. لم يعد للسلامِ وجهٌ نعرفه، فهو يتنكرُ بأقنعةِ القادةِ، يُصافحُ الضحايا بيدٍ ملوّثةٍ بالرماد. كم قصيدةٍ انتحرتْ على رصيفِ مدينةٍ تُقصفُ كلَّ مساء، وكم طفلاً حَلِمَ بلعبةٍ، فاستفاقَ على صاروخٍ يسألُ عن اسمه! العالمُ يتأرجحُ على حبلِ الكارثة، يتقيأُ بياناتٍ رسمية، ويرشّ عطرَ الصمتِ فوقَ مقابرَ بلا أسماء. قلوبٌ مُعلّبة، ضمائرُ محفوظةٌ في ثلاجاتِ الدبلوماسية، وخطاباتٌ مملّحةٌ بحبرٍ لا يموتُ لكنه لا يقول. العدالةُ تجلسُ على رصيفِ الحياد، تعدُّ القتلى وتنسى أن تبكي. أكتبُ، لا لأُنقذَ العالم، بل لأشهَدَ أنني كنتُ هنا حين أصبحَ الخرابُ وطنًا، والصمتُ جنسيةً مؤقتة.

***

بقلم: كريم عبد الله - بغداد - العراق

الحشيش ضرورة

محمد عبدالوهاب، ذلك الفتى الشامخ، الذي لم يترنح تحت ثقل ذلك العبء الباذخ، توفي والده، وترك له رسالة كافية، شافية، لم يكن هو يحتاج إلى سواها، يوصيها فيها بأمه، وشقيقاته، ومحمد المنتصب القامة،  القوي الساعدين، حوى وجهه بيان كل شيء، فقد كان بارز الجبين، واسع العينين، أزج الحاجبين، أقنى الأنف، أسيل الخدين، ضليع الفم، رقيق الشفتين، ورونق وجهه هذا، وقسامة تقاطيعه، جعلته قبلة للعواطف والأهواء، والميول، فلم يخرج جماله مطلقاً، حتى بعد أن أزف على الستين،  خارج دائرة الوجدان، والعاطفة، عند الفتيات،  فالبنات في منطقته، كان يجمعهما رابط واحد، وهو محبته، والتدله في عشقه، ومحمد الذي قد عرف كل شيء، وأحاط بكل شيء، لم يكن يعنيه هيام الفتيات به، وسعيهن الدائب، لايقاعه في شباكهن، فلم يرضخ لامتزاج متصل، واختلاط دائم، يجمعه بهن، كان هاجسه هو، أن يتصدى لتلك الأزمات، من جميع وجوهها، لأجل ذلك، طوى صفحة النساء عن حياته، وصمد أمام مغريات كثيرة، يحتاج سردها لاستشهاد طويل، ومكث على هذا الحال، حتى نهض بمهمته على أكمل وجه، و استقرت كل واحدة من شقيقاته الثلاث في بيتها، واستأثرت بقلب زوجها، بعدها رضخ محمد، لنصيحة صديقه" عصام سراج"، الماركسي المتعجرف، الذي ألحّ عليه في أمر الزواج، فتزوج محمد من "حد الزين" المرأة التي كان لا يخفي اعجابه بها، وإكباره لها، لقد كان زواج محمد من حد الزين، موضع نقاشات حامية من علماء النفس، وأهل الفضول، في تلك الناحية، فما أن انتشر الخبر، وتسامع به الناس، حتى انتشرت معه حدة التفاوت، بين وسامة الزوج، ودمامة الزوجة، وبقيت حد الزين القبيحة، المشوهة، التي تتناغم فلسفتها المادية الجامحة، التي تجحد أطر الدين، مع إلحاد زوجها، على العهد الذي قطعته لمحمد، فلم تسعى أن تستحوذ على عقل زوجها، وتسيطر عليه، وتركته يتعثر في دقائق" الحشيش" وتفاصيله، ومهما يكن من أمر هذا "البنقو" الذي تبغض رائحته، فهي تنتظر مساهماته في عتمة كل ليلة، لرفع معنوياتها، وذلك عندما يحتويها زوجها "المسطول" بين ذراعيه، ويهمس في أذنها، بأنها أحلى إمرأة في الوجود.

فاتورة العرقي

بعد مقدمه من الخرطوم، عقد العزم، بأن يمضي مع بن عمه" فيصل" ثلاثة أيام، حتى يغذي عقله بمؤثرات دائمة، ونقاشات لا تنقطع وتيرتها، علها تكفل له أن يقلع عن الخمر،  ويوصد بابها إلى الأبد، بعد أن تعقدت ألوان حياته وضروبها،  ففيصل الذي بات لا يطمح إلى شيء، ولا يطمع في شيء، غير أن يجد المال الكافي، الذي يضمن له شراء قارورة "العرقي"، قد تم فصله من إدارة الشئون الهندسية، التي كان يعتلي فيها مكانة عالية، ومنصب مرموق، وهجرته زوجته، وإزورّت عنه خاصته، وتحاماه الناس، وقد ينبغي أن نعرف قبل ذلك، أن نديم فيصل، وصديقه الحميم، "إبراهيم" صاحب الصوت النحيل الضئيل، هو الذي نمأ "الفرع المعرفي الجديد"، الذي أضافه فيصل مؤخراً، إلى نكبات حياته، ولعل الشيء الذي لا ريب فيه، أن "كبد" فيصل الضاوي، الهزيل، لن يستطيع أن يصمد طويلاً،  وسيده يغرقه في"  كوكتيلات" الفودكا نهاراً، وأقداح" العرقي البلدي" الحامي ليلاً، حضر بن عمه إلى منزله،  وفيصل الذي لم يكن يدري أن غيبة "قريبه" عنه، طويلة كانت أو قصيرة، أحسّ بأن" عباس" يسعى لخلق "عوالم غضة" معه، وأنه شرع في تنفيذ برنامجه الاحترافي الدعوي، الذي يقتضي الأحاديث الطويلة المرسلة، والتوسع في المناظرات، والزج بالتراكيب الدينية، الرامية لتمرير رسائل كامنة، تخلق الخوف، والفزع، في دواخل فيصل، ولكن فيصل الذي أضحى لا يدري من يكون، ولا من أين جاء، أوضح لابن عمه عباس، أن قضايا الجنة والنار، باتت مستعصيه على فهمه، وأنه قد اجترح الكثير جداً من المعاصي والذنوب، ولكنه يثق تماماً، بأن فاتورة "العرقي" وحدها، هي التي سوف تقرب الشقة، بينه وبين "أبو جهل"  فرعون هذه الأمة، في قاع جهنم، بعد هذه القناعة الراسخة، اضطر عباس إلى المغادرة، ولم يعد طامحاً أو حريصاً، على هداية صاحبها.

الندامى

جلس "مرتضى" يشاهد المباراة الختامية، في نهائي الدوري السوداني، بين الهلال والمريخ، ولكن تفاصيل المباراة، لم تكن تسترعى اهتمامه، بصورة كاملة، فقد أخذ  في البداية، يستمع بأذن واحدة، وهو سعيد مغتبط، لأحاديث" مجدي الأنوك"، و"برير" العجلاتي، تلك الأحاديث، التي استشف مرتضى من رصد خلجاتها، بأن" الصهباء" التي يحتسيانها في لذة ونهم، قد استشرت في عقليهما، فكلامهما الغير متزن، ساقه إلى الطريق المعوج، منحاه العقلي، المنحى العقلي الغائب، الذي أوشك، أن يبلغ حافة العي، عند مجدي الأنوك، الذي بدأ في سرد قصة خيانة زوجته الفاتنة له، وهروبها مع عشيقها، ومرتضى الحائر الذي لا يدري ما هي" الدوافع" التي جعلت مجدي الأنوك، "يبتدع" هذه التراجيدية الحزينة، التي صاغها في ألفاظ معبرة، وأساليب بديعة، مهدت السبيل لانخراط "برير" في بكاء حار، زاعماً أنه لم يبكي مثل هذا البكاء، في وفاة والدته "ست النفر"، مرتضى حقاً يريد أن يحيط بعوامل هذا "الاختلاق"، ويتوسع في نتائجه، فمجدي الأنوك، لم يتزوج مطلقاً، ولم يعرف العالم له حبيبة، كما أن والدة برير، الحاجة ست النفر، ما زالت على قيد الحياة.

الصول خاطر

ليس في وسعنا أن نعرف كل أسباب الوقائع، التي دفعت الصول" خاطر" للسرقة، في عهد صباه، ولكننا نستطيع أن نجزم، بأن اليوم  الذي شارك فيه، في تلك الحملة الواسعة، لمحاربة الظواهر السالبة في الأسواق العامة، مع لفيف من الأجهزة الموكل إليها حماية الأمن، والحفاظ على النظام العام، يعد من أتعس أيام حياته، ولعل عقولنا التي تكتسب نوعاً من التقدير، تجاه المؤثرات المجتمعية القديمة، تحتم علينا أن نتعاطف مع حضرة الصول خاطر، ونذهب إلى أن عصره، كان عصر انحطاط، فليس إذن من الاغراق، والغرابة، أن يسرق خاطر اليافع، الذي لم يناهز الحلم حينها، حزمة من الذرة الرفيعة، التي تحتوي سيقانها على نسبة عالية من السكر، عشية كل يوم، وأن يسدل الله على عبده" خاطر" ستره، فلما أراد الله سبحانه وتعالى، أن يهتك حجب ستره، على عبده خاطر، الذي أدمن سرقة حزم" العنكوليب" من السوق المركزي للفاكهة والخضار، أرسله إلى الجهة التي ينام فيها الغفير  "المرضي" وسط لفائف هذه الحزم، و"خاطر" الذي شعر لوهلة، أنه أضخم أهل الأرض ثراء، وأوسعهم غنى، تشبث بكلتا يديه بحزمة "العنكوليب" الغليظة، ولم يكن يعلم المسكين أنها "ساق" الحارس "المرضي"، الذي انهال عليه بضربة قوية من عصاه، تركت شرخاً غائراً في وجهه، لم تطمس معالمه، تعاقب السنين، هذه الندبة القديمة، كانت هي الأداة التي جعلت" المرضي" يتعرف على حضرة الصول خاطر، الذي يعبث بفاكهته، وخاطر الذي كان يجهل "المرضي" تمام الجهل، سعى أن يصادر عناقيد العنب، وسبائط الموز الطازجة، التي كان يبيعها" المرضي" في الطريق العام المؤدي إلى سوق المدينة الكبير، لقد استأنف المرضي مشاركته، بصوته الجهور، في امتاع النفوس، واغناء العقول، مجتراً تفاصيل قصته، مع حضرة الصول خاطر، صاحب الماضي المخضب بالدنايا، هذه الأسباب المتحدة، تفضي دائماً إلى نتائج واحدة، وهي أن قبيلة التجار، تشارك دائماً مشاركة أصيلة، في "قدح" الأجهزة التي تكافح الظواهر الهدامة، وتضيف إليها من عندها.

جريمة شرف

لم يكن جنون عفاف، وعجزها عن أن تدافع عن نفسها، كفيلاً بأن يحد من جموح "الطاهر"، الذي كان يسعى وراء غاية واحدة، لم يتكهن بمستقبلها، لقد وضع الطاهر الذي يعمل حمّالاَ في السوق، حائلاً بينه وبين دينه، الذي يصده عن ارتكاب مثل هذا الفعل المشين، وانساق وراء هذه الحرارة، التي يختلف حظها من الجنوح والاعتدال، وحينما حظي بأوفر قسط من النقد، على فعلته الشنعاء تلك، لم يكن يتوسع في تقديم الأعذار، والمبررات، على اغتصابه لإمرأة مجنونة، ضعضع الخبل قوة عقلها، وجردها من كل أهلية، كان فقط يبتسم في هدوء، ويقول في تهكم:" دلوني على صاحب نفس معصومة من الزلل، فاتخذه شيخاً وهادياً لي، وعفاف التي احتفظت بكامل قدرتها الخفية، على العناية بولدها" منصور"، كانت دائماً تبحث له عن المكان الملائم لحياته، فتارة تتواجد في الأدغال المتشابكة، حتى تبعد عنه القيظ والحر، في الصيف، وتارة أخرى، تلوذ بالأبنية الخراسانية، حتى تصونه في الشتاء، من البرد والزمهرير، ولما شبّ منصور، وبلغ مبالغ الرجال، أوعز إليه تجار السوق، الذين كانوا يعتنون به هو وأمه، أن يتحرر من قبضة الذل والصغار، وألا يتواني في تأدية هذا الواجب، ويضع حداً لخصومتهم المستمرة مع الطاهر البغيض.

لم يكن مقتل الطاهر يحتاج إلى تعاليل أخرى، فالجميع كانوا يعلمون بأن منصور الذي يحسن معاملة أمه، ويكرمها، ويصبر على عتهها، هو الذي غرس نصل خنجره الحاد، في صدر الطاهر، وسلبه روحه، والشرطة التي وجدت أن اخضاع منصور أمراً شاقاً، اكتفت بتقييد القضية ضد مجهول، بعد أن شهد نفر من الناس، بأن منصور كان بمعيتهم، وقت وقوع الحادث.

***

د. الطيب النقر

الأربعاء 16/7/2025

أسام، مهندس عراقي، نشأ في بيتٍ تتقاطر من جدرانه رائحة المعرفة وتنضح زواياه بحب الحياة. بيتٌ تملأه موسيقى الرحابنة، وتتعطر صباحاته برائحة القهوة التي كانت والدته تصنعها بحنو. في كنف والدين، لا يملكان سوى تعليم متوسط ولكنهما ربيا اولادهما على الانفتاح، متشربين معنى الحرية لا كترفٍ أناني، بل كمسؤولية تتطلب وعيًا ونضجًا وسموًّا عن الأهواء العابرة.

حين ضاق الوطن بأحلامه، حملها أسام الى المنفى. كانت أوروبا هي الأرض التي رماه القدر في حضنها، وتحديدًا مدينة رمادية المناخ، باردة العاطفة، تئن من وطأة الصمت. هناك، التقى بـ إليزا، مهندسة معمارية كأنها جاءت من كتب الحداثة، بعينين عسليتين كغابات الشمال، وابتسامة فيها من الجرأة ما يغري ومن الثبات ما يطمئن. كانت مثلَه مغتربة، لكن غربتها صقلتها، فبدت متجذّرة في عالم الدقة والنظام، تسير بخطى مدروسة لا تعرف العشوائية.

جمعت بينهما الهندسة أولاً، ثم الموسيقى، ثم ليالٍ من الحديث المتواصل عن الخرائط المعلقة في القلب: عن الوطن الذي خلّفاه، والغربة التي وجدا فيها ملاذًا وعبئًا معًا. لم يكن حبًّا عابرًا، بل اتحادًا حقيقيًّا بين روحين تتلمّسان معنى الأمان في بعضهما.

جاءت الطفلة الأولى، ليلي، فكانت إشراقًة جديدة في حياتهما. لم يلبث هذا النور أن تضاعف بولادة التوأمين، نوح وآدم. بدا كل شيء في بدايته كقصيدة حب تكتبها الحياة بمداد النعمة، لكن سرعان ما انقلبت المشاهد إلى مزيجٍ يوميّ من الصراخ، والفوضى، والتعب الممتد على مدار الساعة.

استحال المنزل إلى ورشة حياة لا تهدأ، يعمل فيها الأبوان بصمت وجَلَد وكان له منها النصيب الاكبر: إطعام، تبديل حفاضات، تهدئة نوبات البكاء، تنظيم نوم الأطفال، إعداد وجبات، تنظيف لا ينتهي... ثم دوام عمل لا يرحم أمام شاشات لا تطفأ. ومع كل ذلك، لم يكن أسام وحده في الميدان، لكن شيئًا غريبًا كان يتآكل روحه، شيئًا لا يُرى ولا يُقال، إنما يُحسّ كغصة في القلب.

لم يكن التعب من الشراكة، بل من تآكل الذات تحت وطأة الأدوار المتعددة. بات يشعر أن كيانه يُضغط بين جدرانٍ غير مرئية: جدران الروتين، والمسؤوليات المتزاحمة، وفقدان اللغة الام التي تعبّر عنه دون حاجة إلى ترجمة. كل شيء صار مختلطًا: النهار بالليل، الزوج بالحاضن، العاشق بالمُجهد. حتى صوته الداخلي لم يعد يُسمع وسط ضجيج الواجبات.

إليزا، التي أحب فيها قوتها ووضوحها، بدأت تبدو له أشبه بمديرة مشروع أسري، تدير اليوم برتابة، لكنها تفقد شيئًا من العذوبة التي ألفها فيها. أو لعلّ روحه هو من صارت متعطشةً لما هو أكثر من الرتابة؛ لصوتٍ يشبه نغم طفولته، لنظرة تُشعره أنه ما زال يستحق الحب دون جدول مهام.

كان الحنين ينقر على قلبه كالمطر على زجاج نافذة قديمة: اشتياقٌ لأمه، لندائها الناعم، لدفء البيت البغدادي، وللرجولة الشرقية التي كانت تُحاط بالتبجيل لا بالتكليف. اشتاق للغته، لألفاظ لا تُفسَّر، ولوجوهٍ تفهمه من نظرة لا من قاموس.

ولعلّ أكثر ما كان يؤلمه هو تغيّر العلاقة الحميمة بينه وبين إليزا. لم تعد تهمس، لم تعد تتوق، كما لم يعد هو يبادر. صار جسده آلة تؤدي دورها، لا وقت للشوق، لا مكان للرغبة.

وحين تسلل إلى نفسه سؤال موجع في عزّ الليل وهو يهدئ أحد التوأمين: هل هذه ضريبة الحب؟ أم أنه مجرد انسحاق تحت عجلة الحياة الحديثة؟

ورغم كل شيء، حين تجلس ليلي في حضنه، وتلف ذراعيها الصغيرتين حول رقبته، وتهمس ببراءة:"بابا..."، يشعر بأن هذا التعب، رغم قسوته، ليس هزيمة، بل شكلٌ جديد من أشكال الحبّ... حبٌّ يصنعه التعب، ويحرسه الصبر، ويبرّره وجود من يُشبهه في عينيه.

ظلّ أسام، رغم انغماسه في تفاصيل العائلة ومتاهات العمل، يبحث عن نسمة صداقة ينتشل بها نفسه من هذا الغرق الهادئ. طرق أبوابًا كثيرة، وجالس وجوهًا مختلفة، لكنّه لم يجد في تلك العلاقات ما يستحق الرهان. كانت النفوس من حوله شاحبة، مترددة، أو عابرة كأرصفة لا تحفظ المارّين.

وكان له صديقٌ قديم، رافقه في محطات غريبة من العمر، تعرف إليه في اليمن قبل سنواتٍ طويلة، يوم كان الزمن أقل وطأة، وكان الحنين أخف وقعًا. كان يناديه مازحًا بـ"الأب الروحي"، لكنه في قرارة نفسه كان يرى فيه أكثر من ذلك: صوته البعيد الذي يهدأ إليه قلبه، ومرآته التي لا تجامله. كان حين يثقل صدره بالضيق، يرفع الهاتف ويجري ذلك الاتصال المنتظر، كمن يبحث عن ملاذ، أو لحظة دفء تُرمم تصدعات روحه. وكان ذاك الصديق يُنصت بصبر، يمتص الألم كإسفنجة حانية، ثم يحاول أن يسحب أسام برفق نحو الضوء، نحو ما هو أصلح له ولمن يحبهم.

ومع تعاقب السنوات، لم تتوقف دوّامة التحديات، بل تغيّر شكلها. كبر الأولاد، ولم تعد مشاكلهم تُحل بحفاضة نظيفة أو قصة قبل النوم. صارت الهواجس أوسع، والمخاوف أعمق، وحالة الطوارئ العاطفية في بيته لا تنتهي. دخلت ليلي سن المراهقة، وتحوّلت من تلك الطفلة الراقصة على الجليد إلى شابة تبحث عن ذاتها وسط صخب المشاعر واكتشاف العالم. أما نوح وآدم، فانشغلا بكرة القدم، وسعى أسام جاهدًا لتأمين الطريق أمامهم ليصنعوا لأنفسهم مستقبلًا مختلفًا.

كان قلبه ممتلئًا بالحب، لكن خوفه الشرقي، حذره الفطري، غيرته الصامتة، جعلته أكثر صرامة مع ابنته. كان يراها تتزين، تتألق، تخرج مع صديقاتها وتغيب عن عينه، فيتملّكه قلقٌ يتجاوز المنطق. يبدأ بنصيحة، ثم يتحول الكلام إلى ملاحظة، والملاحظة إلى توتر، حتى أصبح بينه وبينها جدار من النفور الصامت. هي لم تعد تطيق ملاحظاته، وهو لا يحتمل عنادها.

كان يشعر بذلك الصدع يتسع، لا بينها وبينه فقط، بل بينه وبين إليزا كذلك. رأى في عيني زوجته نظرة استفهام، وربما لومًا مكتومًا. لكنها، كعادتها، آثرت ألا تُضيف وقودًا على النار.

وفي إحدى مكالماته المعتادة مع صديقه، قال له بأسى:

– أنا لا أريد أن أخسر عائلتي.

جاءه الردّ هادئًا، حاسمًا:

– طبعًا لا تريد. لكن هل نسيت ما حدث قبل ثلاث سنوات؟ حين أبلغت إدارة المدرسة الشرطة ببلاغ عن احتمال تعنيف، فقط لأن أحد أبنائك عبّر عن خوفه منك بطريقة عفوية؟

– نعم، أتذكّر تمامًا.

– ولولا شهادة أولادك بأنك أب محبّ، لكنت خسرتهم جميعًا... إذن، أرجوك، حاول أن تضبط انفعالك. أحبهم واحترمهم. لا تجعل حبك يتحول إلى عبء، ولا حرصك إلى قيد.

– أنا لا أضيق بشقاوة الأولاد، بل أفرح بهم، وأضحك معهم، لكن... ليلي، عنيدة جدا. تريد كل شيء بطريقتها. تدفعني إلى الغضب دون أن تدري.

صمت الصديق لحظة، ثم قال بصوتٍ يملؤه الحنان:

– لا تنسَ أنها كانت مدللتك الأولى، ثم انشغلت بالتوأم عنها. قد تشعر بأنك تُفضل إخوتها عليها. وربما ترى أنك تتعامل معهم كرجال، وهي لا تزال تحت نظرتك، طفلة أنثى يجب أن تُضبط.

– لكن والدتها قريبة منها، صديقتها وأمانها.

– وأنت أيضًا، يجب أن تكون لها سندًا لا رقيبًا. لا تجعلها تخشى حضورك. يا أسام... انتبه قبل أن يأتي اليوم الذي تشتاق فيه إلى حضن ابنتك فلا تجد إلا ظهرًا مُعرضًا.

أغلق أسام الهاتف تلك الليلة، وقلبه يئنّ. لم يكن يحتاج إلى من يعنّفه، بل إلى من يذكّره بحقائق القلب. كان يعرف في قرارة نفسه أنه لا يُسيء، لكنه أدرك أن الحب، حين لا يُصاغ بلغة أبنائه، يُصبح وجعًا يُفسَّر ضدّ صاحبه.

ثم جاء ذلك الصباح... الصباح الذي ظلَّ أسام طويلاً يحاول الفرار من مجرد تخيله، كأن قلبه كان يعرف أن الألم لا يطرق الأبواب بلا موعد، بل يتسلل حين تظن أن كل شيء تحت السيطرة.

كان الفجر رماديًا، السماء مُلبدة بغيم ثقيل يشبه مزاجه في الأيام الأخيرة. استيقظ على صوت زوجته، مرتعشًا ومضطربًا، تناديه بقلق مكتوم: "أسام، ليلي في الحمّام... لا تردّ عليّ، والباب مغلق من الداخل!"

قفز كمن خرج لتوه من كابوس، تهاوى نحو الباب الصامت، طرقه بقوة، ناداها، توسّل، لكن لا جواب. لم ينتظر أكثر. بكفٍ مرتجفة وقلبٍ يشتعل، اقتلع الباب من مفصلاته كما تُقتلع الحقيقة من الإنكار. وهناك... على بلاط الحمّام البارد، كانت ليلي، طفلته التي كانت ترقص يومًا على الجليد، ممددة كغيمة منكفئة، ساكنة، ساكنة جدًا... والدم ينزف من معصمها النحيل كقصيدة نزفت معناها.

صرخ الأولاد، شهق الهواء، تجمّدت اللحظة في ذاكرته كصورة لن تغيب. ربطت إليزا معصمها بما وقعت عليه يدها، وحملها أسام بذراعين كادتا تنهاران من ثقل الذنب لا من ثقل الجسد. ركض بها إلى المستشفى كمن يركض لإنقاذ روحه، لا ابنته. بقيت ليلي في المستشفى أيامًا، بين فحوصات دقيقة ورقابة صارمة، وبين والدين مشوشين تتناوشهما الأسئلة والتأنيب والخوف.

ثم جاء التحقيق... تحقيق لا يرحم، أسئلة الشرطة كانت كأنها تقلب مواجع البيت علنًا، تسأل الأب عن قسوته، عن صراخه، عن ضغوطه، تسأل الأم عن غياب الحوار، وعن إشارات لم تُفهم، وصمتٍ كان يجب أن يُقرأ.

بكى أسام... بكى كما لم يفعل من قبل. بكى في أروقة المستشفى، في السيارة، في الحمام، أمام صديقه على الهاتف، وأمام نفسه في الليل. لم تكن دموعه مجرد ندم، بل كانت كأنها تطفئ حريقًا في داخله ظلّ مشتعلاً بصمت.

جلس ذات ليلة بجانب سريرها، بعد أن استعادت وعيها، لم يجرؤ على سؤالها: لماذا؟ لأنه كان يعرف الجواب، يعرفه منذ سنوات، لكنه تجاهله، أغرقه بالصراخ والنُصح والمواعظ، وغطّاه بخوفه من فقدها حتى كاد أن يفقدها فعلاً.

كان يدرك الآن، بعد أن اقترب من حافة المأساة، أن الحب لا يُقاس بكمّ ما نمنعه عن أبنائنا، بل بكمّ ما نمنحهم من مساحة ليروا أنفسهم من خلاله. أدرك أن اللغة التي تحدّث بها مع ليلي، وإن كانت بدافع الحب، لم تكن لغتها. كانت تراه سجّانًا يُلبسها قميص الغيرة باسم الحنان، وحارسًا يقيّدها باسم الحماية.

في تلك الليلة، كتب في دفتره:

"لم أكن أريد أن أخسر عائلتي، فكدت أن أخسرها فعلاً. بين ثقافتي الأم التي تعلّمت فيها أن الأب سلطان لا يُناقش، وثقافة هذا العالم الجديد الذي يعلّم أبناءنا أن الحب لا يُفرض.. ضعتُ... ضاعت لغتي، وضاع صوتي، وكنت على وشك أن أفقد كل شيء."

ثم كتب:

"لكنني الآن، سأبدأ من جديد. ليس من الماضي، بل من هنا... من يدٍ صغيرة ستتعافى، ومن قلبٍ سيغفر، ومن درسٍ لن أنساه ما حييت: أن تكون أبًا لا يعني أن تُحكم السيطرة، بل أن تمنح الأمان. أن تكون رجل العائلة لا يعني أن تُطاع، بل أن تُفهم، وأن تَفهم."

وها هو الآن، بعد أن رأى الموت يمر بقربه على هيئة دم يسيل من معصم ابنته، عاد إلى الحياة بشيءٍ من الحكمة... عاد إلى نفسه، لا كـ "أسام" المهندس فقط، بل كأبٍ يُجيد أخيرًا أن يصغي، لا ليُصحّح، بل ليحب.

***

سعاد الراعي

2025.07.16

(قصيدة لعراة العالم)

وها هي القمصان تترجّلُ من عرشِ الدولاب،

تفوحُ منها رائحةُ الوقتِ المُترَف،

والتأنّقِ البورجوازي،

وشيء من الغطرسةِ الفجة .

*

تُلقى كأنها طُعوم لاصطيادِ الزهو،

كأنّ الكفنَ حين يُهدى

يمنحُ حياة جديدة ،

مع انه لا يفعل.

*

روبا فيكيا...

أغنيةٌ مقلوبة،

حيثُ يُعاد تدويرُ الخطيئة،

لإلباسها لونًا قابلاً للغفرانِ ....

*

طفلَ الريح، يرفض إرتداء قميصًا قُدّ من استعلاء،

ولا يريد شكر أحد ،

لان الشكرُ للسجان يُطيلُ عمرَ القيد.

*

علم ، انه ،

ليس شماعةً لندمهم،

ولا واجهةَ عرضٍ لكرمهم المتصنع ،

فهو جسد يليقُ به الضوء،

لا ظلّ رداءٍ خلعوه على عجل،

كي لا يروا أنفسهم عراةً من الرحمة.

*

اللوحة للفنان العالمي فان خوخ

"قوة الهشاشة "

***

| مجيدة محمدي

إذا ما جاءَ شيطانُ القوافي

لكيْ يهديْكَ قافيةً ووزْنا

*

وأنهارًا من الدّمعِ وذكرىْ

ورتلًا من قواميسٍ ومعْنى

*

وصرْحًا من قواريرٍ ولجّا

وليلًا من أهازيجٍ ومغْنى

*

وأكوانًا من الوهمِ ومُلْكا

وأمتعةً وأشْرعةً وسُفْنا

*

وأقداحًا من النّورِ وثغْرا

وأطباقًا من السّحرِ وعيْنا

*

على وجهٍ سماويٍّ لأُنثى

ترىْ في عينِها يُمناكَ يُمنى

*

بجفنٍ يرسلُ الألوانَ شتّى

سبقْتَ الجنَّ لو ميَّزت لوْنا

*

عدا لونِ هوىً يستلُّ سهْما

من الرّمشِ لقوسٍ فاق جفْنا

*

عسى ألّا تغالبَهُ وإلّا

فإنّك بالهزيمةِ سوف تُمْنى

*

تصيبُ سهامُهُ الرّوحَ فتعرىْ

منَ الثّوبِ الّذي أعياك سَجْنا

*

يمُدُّ إليكَ قوسًا ثمّ نبْلا

لتصطادَ أتمّ القولِ حُسْنا

*

ليشربَ من معانيكَ ويغْشى

إذا أطلقتَهُ قلبًا وأُذْنا

*

وجُمهورًا من الأنْجامِ منْ عرْ

شِكَ المسْكوبِ من نورٍ تدَنَّى

*

لكيْ يُنسيكَ بالتهْليلِ دُنيا

إذا أسْمعتَهُ ممّا تسنَّى

*

وكم ليلاءَ فيها النّجمُ أغنَى

عن الإنسانِ أو منْ كانَ جِنَّا

*

عدا من كانَ منّا إذ تأسَّى

بمن بأبي فراتٍ قد تكنَّى

*

وقالَ اتْلُ عليهِمْ من قريضٍ

بهِ الحلْمُ من الأنفاسِ أدْنى

*

به الشّركُ أقلُّ الراي حشْدا

ودينُ اللهِ أعلَى الدّينِ شأْنا

*

وأرضُ العُربِ -خيرُ الأرضِ-أحنى

غدا الذئبُ بها للشّاةِ إبْنا

*

وذو علمٍ أتمُّ النّاسِ حظًّا

من الدُّنيا بهِ الأوطانُ تُبْنى

*

به لمّا يزلْ قيسُ يُغنِّي

على أبوابِ ليْلى كيْ تمُنّا

*

وهل للعشقِ في دُنياكَ معْنى

إذا قيسٌ بليلىْ ما تغنَّى؟

*

وأنذِرْ كافرًا بالشّعرِ فنّا

وبشِّرْ مُؤمنًا بالشّعرِ خِدْنا

*

وقلْ لهُما بأنّ البيتَ أبْقى

من الدّنيا الّتي حتمًا ستفْنى

*

فمنْ لانَ لنا قلبًا وغنّى

جعلنا صدرهُ للشّعر كِنّا

*

إذا ما قالَ بيتا نيلَ خُلْدا

فكانَ لهُ من النّسيانِ حِصْنا

*

ومن لمْ يستجِبْ وازدادَ عِنْدا

كفاهُ أنّهُ المطْرودُ مِنّا

*

وسلْ نجمًا حبيبًا ناءَ فجْرا

عن النّوءِ وما ألهاهُ عنّا

*

وسلْ نجمًا عن الجمعِ توانَى

عن الشرقِ لمَ الشّرقُ تأنَّى

*

ولُمْ فجرًا أمِلْنا أن يحنّا

فكان الليلُ إذْ طالَ أحنّا

*

فمنهُ لا تعُذْ باللهِ ظنّا

بأنّكَ تطردُ الملْعونَ لَعْنا

*

فيرحلُ عنكَ مُحتجًّا بأنّ

عليْها من يرى الإحسانَ دَيْنا

*

وتبكِيْ بعدَها وتئنُّ أنّا

لفقدِكَ صاحبًا عِشتَ تمنَّى

*

ومن بالوعدِ أوفىْ ما أخلّا

وأعطىْ يومَ ضنَّ الغيرُ ضنَّا

*

فلا مخلوقَ أوفىْ منهُ خلّا

ولا خلّاقَ أكثرَ منه عوْنا

*

ملاكٌ هُوْ، بأجنحةٍ وربِّي

فيا تعسَ الّذي سمّاهُ جِنَّا

***

أسامة محمد صالح زامل

في عَتَمةِ الدَّهرِ، حينَ الأرضُ شاخَتْ،

وحينَ الجُرحُ يُسقى بالمَلامِ،

خرجوا مِن بطنِ عَتمَتِهم،

كأفاعٍ سودِهِم حُكمُ الظلامِ.

يَرتَقونَ العَرشَ بالنابِ،

ويَسرقونَ العِزَّ من وَجهِ السُّهادِ،

ثَوبُهُم من وَحلِ كِسرى،

والمَناصِبُ فَوقَ أكتافِ العِبادِ

*

كذِبوا

حينَ قالوا: الأرضُ سَرخَتْ بالرُّعودِ،

والحَقلُ مِن غَيثٍ يُنادي،

والنخلُ ما زالَت جِباهُهُ سامِقاتٍ

في سِفوحِ الشمسِ والعِزِّ المُبيدِ

*

كذِبوا

حينَ غنَّوا في المآذِنِ،

حينَ صَاحُوا في الجِراحِ المُستَباحَةْ،

حينَ قالوا: نحنُ جُندُ طاهرون،

ونحنُ العادِلونَ،

ونحنُ كَفُّ المُخلِصِينَ،

ونحنُ للعَدلِ المُقَامِ

*

أينَ كنتم؟

حينَ شَاخَت أضلُعُ النهرِ اليتيم؟

حينَ جاعَ الطِفلُ،

,وأُغلق الفمُ  فِي المَساءِ المُغتَصَبْ؟

حينَ باعوا الأرضَ حَفنةَ مَعدِنٍ،

وحَفَروا صَدورَ الناسِ

بالنارِ الجَسُورِ،

وبِالكَلامِ المُلتَهِبْ؟

*

يا كِلابَ المترفين، يا جُندَ الرِّياحِ!

هَل سمِعتُم

كيفَ جَفَّ التِّبرُ في كَفِّ الحَصادِ؟

كيفَ ضَاعَ الصوتُ في صَمتِ العِبَادِ؟

كيفَ سَالت من شفاهِ القَهرِ،

آياتُ الفَنَاءِ المُستَبِدِّ؟

*

أينَ خَيلُ الفاتِحينَ؟

أينَ سَيفُ اللهِ؟ أينَ العادِلُونَ؟

كيفَ ضَاعَ النُّورُ في وجْهِ العُيُونِ؟

كيفَ ماتَ الحَقُّ،

وارتَفَعَ الدَّخَانُ إِلَى السَّماءِ

بِاسْمِ دِينِ العَارِ،

والمَجدِ العَتِيقِ المُنكَسِرْ؟

*

لَكِنَّهُم سيرحلُونَ…

كمَ يسقُطُ الوَهمُ إِذَا ضَجَّتْ شِفَاهُ الحَقِّ

فِي وَجهِ التُّرَابِ المُنْدَحِرْ

*

سيسقطونَ…

حينَ تَنهَضُ مِن رمادِ الذُّلِّ

أصواتُ الجياعِ،

وحينَ ينفَجِرُ النَّهارُ

بِسَيفِ فَجرٍ مُنتَظَرْ،

وحينَ يَرتَجفُ الطَّغاةُ

كَمَا تَرتَجِفُ العِصِيُّ

بِوَجهِ عاصِفَةِ المَدَرْ.

*

يا وَجهَ الظُّلْمِ المُقَنَّعِ بالنُّبوءَةِ،

يا رايةً بيضاءَ فوقَ سُيوفِ قَتلى،

يا تَمرَةً علقَى تُساقُ

إلى موائدِ العابِثينَ،

أينَ الأمانةُ في يَديكَ؟

أينَ المِسكُ، أينَ اللُّبَّ،

أينَ رَفِيفُ أجنِحَةِ العَدلِ العَتيقِ؟ أنتمُ اللَّيلُ، ونحنُ الصُّبحُ إنْ هبَّ الرَّبيعُ!

أنتمُ القَيدُ، ونحنُ النَّارُ

إنْ ضَجَّ الحَدِيدُ.

كُنتُمُ العَارَ الذي سَارَ، ومَشتّ

فَوقَ عِظامِ الأرضِ

*

أقدَامُ العبيد

كيفَ اشتَرى الطاووسُ عَرشًا مِن دماءِ الأبرياءِ؟

كيفَ صارَ اللُّصُّ وَلِيَّ الأمرِ

في أرضِ السُّيُوفِ المُنذَرينَ

إلى المَنايا كَالضِّياءِ؟

كيفَ تَركَضُ خَيلُهُم

فَوقَ العُروقِ المُنهَكَةْ؟

كيفَ جَفَّت في العيونِ

سُحُبُ الكَرامَةِ والتُّقَى؟

كيفَ ضَاعَت في المَدائِنِ

كُلُّ أجنِحَةِ الغُيُومِ الصامتة؟

*

أيُّها المَاضُونَ فَوقَ الجُثَّةِ المُنهَارَةِ

هَل تَظُنُّونَ النَّهَارَ

سَيَحني هامَهُ للظَّالِمِينَ؟

هَل تَظُنُّونَ الحَقيقةَ

سَوفَ تَغفُو في عُيونِ الغافِلِين؟

*

كَلَّا!

فالزَّمانُ لَهُ يَدانِ مِن جَحِيمٍ،

والتَّأرِيخُ سَيفٌ،

لا يُطِيقُ ظُلُومَةَ المُتَجَبِّرِينَ.

*

سَيَسقُطُونَ…

وَسَيَشتَعِلُ الفَجْرُ الذِي نامَت عَلَيهِ

بِأذرُعِ الجَمرِ الطَّوائِفُ،

سَيَسقُطُونَ

كَما يَسقُطُ من وجهِ الخَريفُ

فَوقَ غُصنٍ وَاهِنٍ،

وَتَرتَفِعُ الجِراحُ

إلى السَّماءِ المُتعَبَةْ.

*

يا أيُّها الوَطَنُ المُضَاعُ،

هَل سَتُشرِقُ؟

أَمْ تُبَاعُ مَرَّةً أُخرَى

إلى الجَيشِ المُقَنَّعِ؟

هَل سَتَرفَعُ وَجهَكَ الغَضَّ المُعَذَّبَ

نَحوَ رُوحِ العادِلِينَ؟

أَمْ تَظَلُّ بِلا دَمٍ

تَحفِي بِحَقدِ السَّارِقِينَ؟

كَلَّا! فَالأَرْضُ تَصْرُخُ… وَالحَقُّ يَزْحَفُ… وَالنُّورُ يَأتي مِن جَحِيمِ المُنتَظَرْ!

*

سَيَسقُطُونَ…

كما يَسقُطُ اللَّيلُ فِي حِجرِ الصَّباحِ،

كما يَنفَضُ الغَيمُ رَمَادَ العَاصِفَةِ،

كما يَنحَسِرُ المَدُّ عَن شَطآنِ الجِياعِ

ويَنكَسِرُ المَوجُ بِالكَفِّ العَارِيَةِ.

*

يا أيُّها الطُّغاةُ، يا أيُّهَا الأوجهُ البَاهِتَةُ،

يا رَاهِني النُّورِ بِدَينَارِ الظَّلامِ،

يا سارِقي سُفُنَ العَاصِفَةِ،

يا مَن بَاعُوا الدِّمَاءَ

لِتَشتَرُوا أوهَامَ العَرُوشِ المُرَصَّعَةِ

بِأَسنَانِ المَساكِينِ،

يا سَادَةَ الجُبنِ المُسَطَّحِ

فَوقَ صُدُورِ المَقَابِرِ.

*

مَاذَا أَورَثَكُمُ الذَّهبُ؟

مَاذَا أَغدَقَتْ سُرادِقُ المُلْكِ عَلَيكُمْ؟

سِوَى جِيفَةٍ يَنهَشُهَا اللَّيلُ،

وسَيفٍ كُسِرَ عَلَى صَخرَةِ الجَوعِ،

وكَأسٍ مَملُوءةٍ بِالزَّيفِ،

تُهرَاقُ فِي مَأدُبَةِ الدُّجَى.

*

يا سُوقَ النِّخَاسَةِ، يا أَصَابِعَ المَوتِ،

هَل رَأَيتُم كَيفَ يَشتَعِلُ الجَسدُ

فِي أَحشَاءِ الأَرَضِينَ؟

هَل شَمَمتُم رَائِحَةَ الرُّوحِ

وَهِيَ تُذْبَحُ عَلى مَذابِحِ المَعَابِدِ الكَاذِبَةِ؟

هَل أَدرَكتُم أَنَّ الكُرُوشَ

إِذَا غَرَسَت فِي جَوفِهَا الشَّوكَ،

تُصبِحُ مِقبَرَةً لِلظُّلْمِ

يَنبُتُ فَوقَهَا الغُصْنُ المُقدَّسُ؟

*

سَيَسقُطُونَ…

وَتَنبُتُ مِن نَصلِ الأَحزَانِ

أَجنِحَةٌ خَضرَاءُ،

وَيَشتَعِلُ الصَّخرُ نَشيدًا،

وَتُغسَلُ الجِدرَانُ مِن وَحْلِ العُبُودِيَّةِ،

وَتُشرِقُ فِي المَنازِلِ

أَعيُنُ الطِّفلِ المُنتَظِرْ.

*

هَل سَألتُم، أَيُّهَا المُتَوَّجُونَ بِأَوهَامِكُم،

لِمَاذَا تَتَشَقَّقُ الأَرضُ

حِينَ تُزْرَعُ فِيهَا خُطَاكُم؟

لِمَاذَا تَتَحَجَّرُ الأَعيُنُ

كُلَّمَا حَلَفْتُم بِالعَدْلِ؟

لِمَاذَا تَخرُسُ المَنَابِرُ

وَالرِّيحُ تَئِنُّ فِي أَرُوقَةِ القُصُورِ؟

*

كَلَّا!

إِنَّ الأَرْضَ لا تَنسَى دَمَ المَسلُوبِينَ،

وَإِنَّ الجُدرَانَ تُنبِتُ الآذَانَ،

وَإِنَّ النُّورَ يَشُقُّ

بُطُونَ الدَّجَلِ المُبَلَّلِ بِالرِّيَاءِ.

*

سَيَسقُطُونَ…

كَمَا يَسقُطُ الجَرحُ مِن سِيفِ القِصَاصِ،

كَمَا يَنشَقُّ السَّرَابُ عَن أَوجُهِ المَوتَى،

كَمَا تَخرُجُ العَاصِفَةُ

مِن أَنفَاسِ القَهْرِ وَالحَنِينِ.

*

فَمُدُّوا أَيدِيكُم إِلَى الشَّمسِ،

وَاغرِسُوا بِيَادِرَ القَمحِ فِي وَجهِ الرِّيحِ،

فَإِنَّ الغَدَ لَا يَنتَظِرُ

بَقَايَا أَوهَامِ اللُّصُوصِ،

وَإِنَّ المَدِينَةَ الَّتِي يَحلُمُ فِيهَا النَّاسُ

سَتُشرِقُ…

وَلَو مِن دَمَانَا!

*

سيسقطونَ…

كما يَسقُطُ الغَيمُ عن كَتفِ الغَابةِ المُجدِبَةْ،

كما يَنحَني الزَهرُ إذْ يَعبُرُ المَوتُ

فَوقَ الرُّبَى المُظلِمَةْ،

كما يَتَهاوَى السَّفينُ المُثَقَّبُ

فِي لُجَّةٍ مُظلِمَةْ!

*

سيسقطونَ…

ولو عَبَّدُوا الطُّرُقَ العَوجَ،

لو دَثَّرُوا حَزنَنَا بالكَلامِ،

ولو نَثَرُوا مِن دِمَانَا

رُخامَ القُصُورِ العَتِيقَةِ،

لو عَرشُوا سُطُوحَ الجَبَابِرِ

بِالذَّهَبِ المُنبَثِقْ!

*

يا خُيُولَ الهَوَانِ،

أما تَسمَعُونَ؟

أما تَسمَعُونَ؟

هَذِهِ الأرضُ تَشتَعِلُ الآنَ،

تَنطِقُ في جَوفِها نَارُ مَوتِ الجُدودِ،

وهَذِهِ السَّاحةُ الغَاضِبَةْ،

مِن كُحُولِ المَآذِنِ الزَّائِفَةْ،

مِن قُصُورِ المُلُوكِ العُراةِ،

مِن وُجُوهِ السِّفَاحِينَ،

مِن وَجْهِ هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي يَحتَسِي العَارَ

مِن كَأسِهِ المُظلِمَةْ!

*

هَذَا الرَّصِيفُ،

كَسِيرٌ كَأنَّهُ ظَهرُ جَوعَى،

يَنشُجُ فِي قَلبِهِ أَوجَاعَ أَمسِهِ،

وَهَذَا الدَّمُ النَّازِفُ الآنَ

فِي طُرُقَاتِ المَدِينَةِ

هُوَ الوَطَنُ المُستَبِيقْ!

*

أَيُّهَا النَّائمُونَ عَلَى حَافَّةِ الحُلُمِ المُنهَكِ،

أَيقِظُوا نَارَكُم،

أَيقِظُوا شَرَرَ الكَونِ،

لا تَرفَعُوا كَفَّكُم لِلسَّماءِ،

فَمَا بَاتَ يَسمَعُكُم غَيمُهَا،

بَل اضْرِبُوا الأرضَ

حَتَّى تَصِيحَ الكُرُومُ،

ويُورِقَ فِي جَذعِهَا الأَمَلُ المُنتَظَرْ.

*

هُمْ لِسَانُ الكَذِبْ،

وَنَحنُ الصَّدَى المُتَوَقِّدُ

فِي صَدرِ هَذَا المَدَى.

هُمْ بَنُو السُّرْقَةِ،

وَنَحنُ اللَّيَالِي التِي سَوفَ تُطلِقُ

مِن كَفِّهَا فَجرَها،

وتُصبِحُ شَمسًا

لِمُدنٍ ذَاتِ يَومٍ

سَتَنفَضُ عَن نَفسِهَا كُلَّ قَيدٍ،

وَتَحكِي الحَقِيقَةَ

بِالسَّيفِ،

لا بالكَلِمْ!

***

د. عصام البرام

 

هذا الغبار قادمٌ لا ريب فيه

تنقلنا الرياح في دروبه

كأننا الاغصان في عز الخريف

كأننا نشيخ من سبات

تلهو بنا العواصف التراب

تطل فينا كالعناقيد الغضب

هواجسٌ تَفيقُ سراً في سكون

بدون اذنٍ أو قناعة نستجيب

نحاول القيام من فقاعة

لأنها تنتظر الخروجْ

من قمقم الوداعة

لآننا في غرفة الرتابة

معلقين في الهواء

فيدلف السؤال من علياء

ومن بنودهِ بداية العقاب..

ننوح من زخم الوصايا

وتظهر الرسائل العسيرة من خباء

ومن ثنايا قهرنا

يجلس في الشقاء من سهاد

يقول ان الحزن فراشات الحقول

ينمو كما تنمو اليراعة

الحزنُ شفافٌ كأجنحة العصافير الفتية

يطير مقياساَ بلا مراقب أو حساب

يغفو على لحنٍ من الاشجار

أغصانها الصفصاف في الوداعة

تلاعب الريح ومن كل الجهات

لها ظلالٌ من شموس غائبة

تغسلها أمطار آذار الربيعية

وبالأغاني السرمدية

تغوص في الأعماق تزحف في الصوامع

والمشاعر والظنون

**

ها انها تصطف في قرار

وفي رواق القادمين

تطالب الخروج التام والأكيد

من قسوة العزلة والغياب

تخاطب الغريب في النهوض

داراً وداراً جاء في برد الشتاء

يدعو السكوت تيمماً

ويستجيب صاغراً في رجفة السكون

أواه يا أواه ينسج في الجنون

ليس لهُ خلاف من قديم

ودهشة الود النديم صارتْ براقعاً من الجحيم

يقول سراً لن يخاف

ويعلنُ المعنى من القول القطاف

"عندي من الصبر زحاف

طلبتُ مني ان أكون قاهراً

شخصت وقتاً حاسماً في لغة النهوض

فتحت باباً للصراصر والعناكب الصفراء

وقلت لي هذا هو السر السراب"

لكنني متقلب المجيء وفي الرواح

أكون وداً من خداع

سم مع العسل المضاف.

**

ماذا تريد من المنايا؟

هي النتائج من دماءٍ والضحايا

"والى الحساب من التراب الى يوم الحساب!!"

أتعاتب القهر استجابة من رضوخ

وتستفيق على صوت الضحايا

ماذا تريد من هذا البلاء؟

وما تريد من العباد؟

متاهة استجابة في الضياع

سوى التزحزح من رقود الخائبين

فأحذر سؤالاً من سؤال من ضباع

فهو المساعي والعقوق المستديم

والمكر في خلطٍ رفيع

أواه يا أواه يا فن الخداع

واحذر جواباً من جواب الانتفاع

واحذر من الاقناع في الغباء

فهو السقوط بلا ارتفاع

***

مصطفى محمد غريب

24 / 6 / 2025

 

لم آتِ مع الجيوش التي جثمت على الأرض؛ لم آتِ لأسرقها أو أقتل أهلها، لم آتِ لأغزوها بالخراب، بل جئت من أجلها، من أجلها وحدها. من أجل تلك العينين اللتين كانتا يومًا أرضًا لم أستطع العيش دونها. من أجل تلك اليدين اللتين كنت أمسكهما في الليل كأنهما زهور قُطفَت من حديقة حلمي. في الحروب لا أبحث عن النصر بل عن نبضات قلبي الضائع، عن تلك الحبيبة التي كانت، ثم اختفت كما تختفي الغيوم في السماء. لم آتِ لأسرق الأرض أو أُطيح بالملوك، بل جئت من أجل كلمة واحدة، من أجل صدى تلك الكلمة التي كانت ترفرف بين شفتيها، كالعصفور الهارب من الأسر:

"أنت".

أتعلمون ماذا يعني الحب بالنسبة لي؟ هو ألا أجد نفسي في قلب هذا الكون إلا عندها، فقط عندها. أن أضيع في كلماتها كما يضيع الموج في البحر أو كما يضيع الليل في ضوء النهار. أنا لم آتِ لأفتح خزائن الأرض، لم آتِ لأبني إمبراطورية من رمال الجشع، بل جئت لأبحث عن صوت قلبها الذي ضاع بين الحروب والدماء، بين الجراح التي لا تلتئم إلا بحضورها. لقد خُنتُ في أرضي، ولكن لم أخن حبي. لقد تركتُ الوطن خلفي، ولكنها كانت وطني. وها أنا ذا، أسير في طرقات مدنٍ لا تملك الأسماء، أبحث عنها، عن تلك التي أنارت حياتي وأطفأت جميع الحروب التي خاضتها الأرض. لقد جئتُ من أجلها، لأعيد قلبها إليّ، وأضمها في قلبي كما يضم الشاعر كلماته في قصيدته الأخيرة.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

 

ماجدة شاهين، الخريدة التي كان لديها من الجمال ما يكفي لأن تغتر، وتتعالى على نديداتها، شكّل عليها هذا الحسن سلطة ضاغطة، قوضت كل آمالها، بأن تعيش مثل رصيفاتها في الحي، فوالدها الذي استفاض أنينه، في أنحاء البيت عند زواجها، منعها من مواصلة تعليمها، في صباها الباكر، خوفاً عليها، وأرغمها على أن تظل حبيسة منزله المتهالك، هي وشقيقاتها الصغار، خشية أن تحمله عار الانكسار، كانت ماجدة آسرة، مبهرة، تطغى عليها دلائل الفتنة، من مسارب شتى، ونواطير الشباب، الذين كانوا يتهالكون على رؤيتها، لم يشاهدوا إلا تلك التصاوير القاتمة، الباهتة، التي تتراءى لهم من خلف نافذتها، لقد مثل يوم زواجها، نكبة بالغة في أفئدتهم التي أثخنتها الجراح، وتزوجها رجلٌ، كانت ثقافته، أوضح من أن تحتاج مخالفتها إلى دليل، ثقافة ذات نزعة انكفائية، متمحورة حول المادة، والورق المالي الصفيق، فأمست ماجدة، وجمالها، مجرد أداة، تغذي غريزة لا يصح تجاهلها، عند تلك الطبقات المترفة، ظلت ماجدة رهينة عند زوجها الديوث، الذي يعتز بالصلات، والوشائج، مع ذوي المناصب والنفوذ، وظلت خاضعة لخيال، وعواطف الأثرياء والموسرين، حتى انتشر في جسمها البض، وعودها الريان، تلك البقع الحمراء، التي تشير إلى ذلك المرض الخطير، وفي أصيل يوم شاحب، ماتت ماجدة، بعد أن طال انتظارها لقوى خفية، تخلصها مما كانت فيه، وبدأ زوجها إبراهيم عيسى، الذي حقق كل ما كان يرجوه من جمالها، رحلة البحث عن زوجة تشابهه في الخسة، والنذالة، والميول، والأهواء.

صريع الفحش

أمجد طه، الذي كانت حياته حافلة بكل ما يتصوره الذهن، من مظاهر التهتك، والفحش، والانحلال، ظلّ طوال حياته الجامعية، ممعناً في إعطاء معان جديدة، للحمية، والشرف، والنخوة، فهو يرى أن الفضيلة جريمة شنعاء، يجب اخضاعها لنظرة نقدية صارمة، تكفل لها أن تجرجر أذيال الخيبة، والعزلة، من حياة الناس، فالمجون الذي يدعي الناس الفرار منه، في المساجد والكنائس، هو في الحق عاطفة بشرية، تغمزنا بعيونها، وتأسرنا بشفاهها، وتخاطبنا بأفواهها، هو مطية سهلة، نجد فيها ما شئنا من نعيم، وما تقنا إليه من لذة، إذا استرجعنا معالم فردوسنا المفقود، واستقصينا عوالمه، ونزعاته الجامحة، التي تختبئ أطيافها بين اللحم والدم، الفردوس الذي يستحق منا أن نبعث معانيه، وصوره، في قالب جديد، ينأى عن الخرائط العقدية، والقيم الأخلاقية، فحياتنا تحتاج فعلاً، لأن تضطرب بغير نظام، وتسير على غير منهاج،  وهكذا ظلّ أمجد وفياً لأفكاره، رغم ما اتسمت به من التباس، وهزال، حتى وقف على أعتاب الشيخوخة، فطافت بمنطقته ضروب مروعة من القسوة، هيأت المناخ لأن تنقض عليه جماعة، من تلك الجماعات الدينية، التي تزهق أرواح الناس لأقل الريب والذنوب، فقطعت لسانه، ومثلت بجثته.

البريق العلمي

لم يستطيع أنور مالك، تقديم صياغة مقبولة، تقنع مشرفه في مرحلة الماجستير، بمكامن عبقرية أطروحته، التي وقف حيال فلسفتها، موقف الناقد البصير، لقد رفض أستاذه حججها، ومسوغاتها، وطلب منه في وضوح، وجلاء، أن يعيد بناء منظومتها التأويلية، ولكن مالك الطامح أن ينال هذه المرتبة في مدى قصير، عمد إلى ثرثرة فارغة، لا نهاية لها، ولا غاية، لم تفضي إلى محصلة، فاتخذ بعد تعنت أستاذه، في داره الواسعة الرحيبة، محراب، أسماه محراب الاستمالة والترغيب، جلب إليه كل نابغة حصيف، وعبقري متفرد، ألجئته رغبة ملحة، وروحاً هائمة بالغني والثراء، لأن يصوغ أطروحة محكمة، تختلف في تصوراتها، وتراكيبها، ومعانيها، عن تلك الرسالة الواهية، التي نسجتها أحرف مالك، وخطت له بعد الماجستير، أطروحة الدكتوراة، وحملته بعدها على أكتافها، حتى أوصلته إلى كرسي الوزارة، فأمسى مالك وزيراً للتعليم العالي في وطنه، فكان أول قرارا اتخذه، تنحية طائفة من الأساتذة عن وظائفهم، وأول من مرر يده البضة على مرسوم فصله، كان أستاذه الشريف، الذي لم يسقط اعتباره، وتتحاماه المؤسسات العلمية، فقد انهالت عليه العروض من الجامعات الخاصة، التي تعرف تماماً حدة ذهنه، وسعة علمه.

محامية الشيطان

فجر عثمان، تلك الفتاة الألمعية، التي امتلكت من وسائل التأثير والاقناع، أكثر من غيرها، تمكنت هذه المحامية، الوافرة الحسن، البارعة الجمال، الدائمة المرح، أن تسبك مرافعاتها الرنانة، وخطبها المترعة بالأدلة، والشواهد، حتى تبرئ ساحة كل متهم، لاذ بباها، وأن تقصيه بنباهتها، وفطنتها، من تلك المتعرجات، والشعاب المتداخلة، التي غمس فيها نفسه، وانفثل فيها، هي وحدها في ناحيتها، من تستطيع أن تنجي من اشتدت مصيبته، وعظمت بليته، وتدحض التهم عنه، هي صاحبة الحنكة، والقدرة على  تفنيد حجج الخصوم، والطعن عليها، لأن قيثارتها دائما ما كانت تعزف، على أوتار هشاشة القوانين الوضعية، وظنيتها، الأمر الذي جعلها تثير الدهشة، والاعجاب، في كل محكمة، شمخت فيها بقامتها، و فجر التي استفاضت شهرتها، وذاع صيتها، كانت لا تتكلف طريقة الأقدمين في مناقشاتها، ودفوعاتها، لقد أقلتها تلك السجالات، من خشونة العيش إلى لينه، ولكن هامتها، لم تتطاول شرف النزاهة، وهمتها، لم تتسامى إلى فخار الاستقامة، لقد كانت محامية فاسدة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، كانت مستشارة قانونية، صاحبة دخائل خربة،لا تعنيها في شيء استيفاء العدالة الناجزة، بقدر ما تعنيها لذة الانتصار، وأن تأتي إليها أتعابها، صحيحة، سليمة، كاملة، كانت فجر بشاعة مبطنة بالجمال، وظلت على هذا الوضع، تزيح عن طابع وظيفتها القداسة، وتنفث فيها النار، وتنشر الفزع والدمار، بتفانيها في الذود عن الجناة والطغاة، حتى قصم ظهرها، فيديو مخل، مع شاب وسيم ، كان يثابر على اقناعها، ويلح في ذلك الحاح معتوه، اليوم بان لها طموحه الجلي، الذي قضى على أسطورتها المعتمدة على ركائز المكر، والخبث، والشره، والدهاء، لقد تلاشت أسطورة فجر، التي لو بقيت على منعتها، لارتبنا في عدالة لا تحتاح إلى الكتب والأسفار، عدالة باقية، راكزة، تستأصل من أفئدتنا حب الدنيا، وترد عنا عوادي الزمن.

محنة الخياط

 أمينة الخياط، كانت خططها ومشاريعها الاقتصادية، وهي في مقتبل عقدها الثالث، تختلف كثيراً عن تصاميمها وهي في الخمسين، من حيث القوة، والكفاءة، والاتزان، فقد كانت خططها وهي في عنفوان شبابها، عبارة عن دراسات منظمة، تأخذ بعضها برقاب بعض، بحيث لا يسبق شيء منها على موضعه، ولا يتأخر عنه، لكنها الآن جل دراساتها، وخططها، لا تستقبلها جموع الشركات العالمية الرائدة، في رضى وقناعة، كما كانت تفعل من قبل، لقد أزرت بمسيرتها الصهباء، التي جعلت عقليتها الفذة، مشوشة أو غائبة، فالخياط التي أغواها شاب بقسامته، في احدى ضواحي نيويورك، وأغراها، وألصق بين أحشائها بضعة منه، ثم اختفى عن عالمها، كابدت هي الأمرين على تربيته، وزهدت في الاستقرار، الذي حتماً كان سيجني على طفلها الغض، ولكنها تركت باب مخدعها مفتوحاً على مصرعيه، يدخله كل من هب ودب، طالما هو ظاعناً لا يقيم، وابنها الذي ربته على خليط جامع من الأنساق العقائدية، تماهى مع اطار كلي متسق، يؤثر حطام الدنيا، ومتاع الحياة، على القيم والثوابت، لأجل ذلك اضطرب هو في حياته، وطفقت هي، تعدو وراءه، حتى لحقت به بعد عناء شديد، تعيش الآن الخياط حياة قاسية مضنية، تتنافى مع ماضيها كل المنافاة، حياة تقذي فيها عيناها تحت أعباء السهاد الطويل، ولا تنبذ الفصل بين المقدس والمادي، بل تجريها على نواميس وتأثير البيئة والثقافة، تلك المؤثرات التي يستسلم فيها المرء للأهواء المصطخبة، والميول الملتهبة، والعيش النائي عن الاتزان.

***

د. الطيب النقر

الجمعة 12/7/2025

في لحظة ما

لا تحتمل أي تفاصيل

لا تشبه أي فاصل زمني

لحظة تحولي إلى مفردات مفككة

أرجوك

لا تقترب مني في هذا التوقيت

أكون قيد التبعثر

لا تحاول لملمة الشظايا

حادة أجرح

منثورة في كل ركن

على السرير وقميص النوم المهمل

بجانب مرآتي

حول أقلام الحمرة وقوارير العطور

وفوق صندوقي الخشبي

الذي تواصل فيه أجزاء من ذاكرتي النمو

وفي الطريق الذي يقود إلى الشرفة

فتصطدم بالستائر الكسولة

إنه وقت القصيدة

تناول العشاء وحدك

فالمطبخ لا يليق بي

أنا نص متناثر

سأغلق الباب

وأدعو موزارت

لندخن جنون اللحظة

ليملأ كأسي الفارغة

أحتاج أن أدور وأدور

أن أخلق زوبعة من أحرف

وأفرد شالي الأحمر

وسط الغرفة

كي اساقط شعرًا

أتبلور نصًا مسحورًا

ثم

تنام أناي وتصحو على أوراقي قصيدة

***

أريج محمد

13/07/2025

 

أمُدُّ يديْ ولا فراشةٌ تنقُذُني منكِ، حتّى خلعتُ من الصدفةِ قميصَها؛ ومنحتُ الأتاواتِ للفراغِ الذي أرسُمكِ عليهِ، وأنا أحدِقُ بالنرجسِ الذي أظنُكِ فيه؛ مَنْ يدري قد أصحو ذاتَ يوم وأَجدُني أنتِ؛ فأنتِ المتاهةُ التي تقودُني اليكِ، وأنتِ حُفرتي التي سقطتُ فيها، ولا سُلّمٌ يقودنُي لأحضانكِ، ولا إشارةٌ تدُلُّ أسايَّ وتأخُذّ حَيرتي الى مثواها،

كمْ عليَّ أنْ أبتهجَ وكم عليّ أنْ أصرخَ بالفراغِ الذي يحدِثني عنكِ؟

لستِ الأ امرأةً مِن زَبَدٍ يذهبُ جفاءاً وأنظرُ أليهِ، يا شِباك تورتي كُلِّها وبدءَ خاتمتي؛

أشُّم رائحةَ أنوثتكِ في ثيابِ المآرةِ وأحجارِ الطريقِ؛ وأتربصُ بأسمكِ كلمّا أستلُّ من خاطري بقايا انوثتكِ وألصقُها على الزجاجْ ؛ فأنتِ ضياعي الذي قادنَي اليكِ؛ وأنتِ جائزتي التي ذهَبتْ للآخرين؛ كيفَ سقطتُ فيكِ وليْ جناحان من أظافرك المطليّة بالحنّاء ؟

كنتُ أحلّقُ على حقولِ صدركِ كلّما أشتهيكِ؛ وأصرخُ بالمفازاتِ الجبانةِ؛ أرى الفراغ َ يمتشقّ سيوفَه ويقاتلُ صفناتي التي تقودُني اليكِ؛ يا حُفرتي التي سقطتُ فيها؛ يا خواتمي التي بحثتُ عنها في الظلام؛ يا شريطَ سِنّيّ الذي أضعتُه ذاتَ منفى؛ وقادني اليكِ ذاتَ وهمْ؛

لعلّي ابدأ بكِ؟ يا رائحة تورتي التي تركتُها في خاطري ولجأتُ اليكِ، دحْرجتُ خيبتي في البراري وذهبتُ أنثرُ الأقحوانَ حول أسمكِ؛ وأصنعُ من الضباب أساوراً لمعصميك،

أستلقي على حروفِ أسمكِ كلّما شعرتُ بالوحشةِ؛ وكلُّما تأخذني الحيرةُ الى حيرتي بكِ، ها هو مزاجي يرتطمُ بالتفاصيل الصغيرة التي تقودنُي اليكِ، فأراكِ أنثى من عبثْ؛ تجتازُ النقاطَ والفواصلَ وتعبثُ برجولتي التي صنعتُها من طرازٍ أنيقْ، ها هو الفراغُ يتّسّعُ بعينيك وأنا أتحدرجُ بهما، كلّما ذكرتُكِ تحوّلتِ الأشياءُ الى هواجس مصلوبةٍ على الجدارِ الذي يفصلنُي عنكِ، وأنا أرتبُّ الضياعَ الذي يُوصلنُي اليكِ، وألتقطُ الأصدافَ وأرسُمكِ فيها؛

أيُّ عبثٍ قادني اليكِ؟ وساقني الى ممراتكِ الضيّقة، يا حُفرتي التي سقطتُ فيها، وتنوّري الذي أصطلي بجمره ، يا عشقي الذي ألوّح له في الملاءآت، وقمري الذي غلبَه النعاس،

دعيني أعُدّ لك وليمةً دسمةً من العِناق، كلّما أرتقي سلّمَ صدركِ وأملأُ جراري،

 وحيثما تطرقُ الريحُ بابي ألحتفُ بكِ، وأنظرُ للأبديّةِ وأصطلي بجمرتكِ، طالما انشدتُكِ شعراً على مسامعِ الفراشاتِ التي تصفقُ لك بأجنحتها، وراقصتُ طائرَ الكناري الذي يقودنُي صفيرُه الى خريفكِ الموحش، كلُّ ما بقي منكِ، تلك الإبتسامةُ الساخرة، وعودُ ثقابٍ واحد يوقد النارَ في قلبٍ يتقّدُ بحبٍّ أنزلقتْ ساقاه على أعتاب قلبكِ، تركتُه يلتفُّ بأنوثتكِ وصحوتُ من عبثي بكِ، يا آخرَ الأشياءِ التي تركتهُا هناك، قبل أنْ تنطفئَ الأبجورةُ ويبدأُ كلُّ شئ، عينُكِ التي تلتمعُ فيها بركةُ ضوء، وثوبُك الذي يغفو فيه قمرُ ملفّقُ، قمرٌ يخدعُ ذاكرتي التي ألِفتْ خُصلاتِ شعركِ الذي يخبئُّ تحت بُرقعهِ وقاحةً تُسِرُّ إليّ ما يُأنسُ وحشتي ويختصرُالطريقَ، ذاتُها عينُك التي كانت تُطِلُّ عليّ من نافذةٍ كأنّها طيورٌ نافقة، وما زلتُ أبدأُ بكِ كلمّا تنتهي الحكايا، وأنظرُ لعينيكِ اللتين تلتمعُ فيهما بركةُ ضوءٍ، وأُصدّقُ ما ينقلُه إليّ طائرُ الكناري الذي غادرَ نافذتي التي تهشّم زجاجُها من النقر، كان يشي لي عن أُنوثتكِ التي تكسَّرتْ بين أصابعي، وأنا أقيسمُ الفراغَ الذي يفصلُني عنكِ، قمري الذي تهشّمتْ نوافذُه سيحوّلُ ابتساماتكِ زُجاجاً من معدنٍ أنيق، ويعلّقكِ تعويذةً بقلبي، لا تدعي تجاعيدَ وجهكِ تمنَعكِ من الحبْ، من افتراش قلبي، فقط انظري بعينيّ لأغيّر الزمنَ وأكسر المرايا التي خَذلتْ جمالَك وأعيدُكِ إليّ، أُطلي وجهكِ بقصائدي، وأعلّقها تميمةً لحبّكِ، سأكتسحُ العالم بالقبلاتِ كلمّا تبتسمين إليّ، فليس أمامكِ من حلّ سواى، ستجدين جمالكِ عالقاً كتميمةٍ على شفتي، وانتِ تفترشينها كحقولٍ من كرز، وأهيّأ طيوري لأستقبالك، وأطلبُ منها أنْ تلتقط حاشيّة ثوبكِ بمناقيرها خشية الإتساخ، يتطّافر البلّورُ من أردان ثوبكِ وأنتِ تمسكين بي، كأنّكِ مصباحٌ في زجاجة، والزجاجة تكسّرت بنهرٍ ترك مجراه وتقرفصَ أمام بهائكِ، لم يعد يفصِلني عنكِ غيرُ العبث، يا عناقيدي المتدليّة في النهر الذي تقرفصَ أمام بهائكِ، غيرُ أنايَ التي تبعثّرت أمام خطواتكِ، وانتِ تمرّين بإهابٍ بابلٍ مُمرّد، على شُقوق يدي وهي تُلّوح اليكِ،

***

د. رسول عدنان / أمريكا

 

لِمَ التطاوسَ والتباهى؟

أتظل تُبهَرُ بالنجوم النائيات

وبالرحيل من التخوم..

إلى التخوم

وتظل تمشى دون أن تدرى..

إلى أي الجهات

إني إنتظرتك أن تعود

تمسح الغَبَش..

المعشش فى عيونك

وروحك الخضراء تلجمها..

إختناقات الذنونب على الدروب

فكيف تختصر الطريق..

إني سأبقى ها هنا..

وحدي إلملم ما تبقّى..

من هشيم

سبعون من عمرى مضت

ووجهك الطفلى..

يترع من أوانٍ فاِرغات

يامن بنيت بروج حلمك فى الهواءْ

وكان حلمك..

أنْ تظلّ بلا حلمٍ

لتحلم أنّ حلمًا..

قد يكحل العينين

فى يومِ لديك

وحَفَرتَ بِئراً في السماءْ

ورجَوتَ ان يأتي ..

من الصحراءِ ماءْ

وزرعت فى البحر..

الشقائق والزنابق

فى غفوة القمر الحزين

أراكَ تبحث عن شمسِ ..

تهلل للظهيرهْ

أدميت قلبى بالتصابى

وركضت تمسك أجنحة النوارس

وبقيت تسرح فى المدى

تيه المدى الممتد فى كل المدى

وأي منفى ..

لم يكن لك فيه من أثر حنون

وحذاءك المثقوب

يرسم خارطة اليباب

قد يحسدوك على الخواءْ

وانت تُعطى كُلما يُعطى..

ولا تأخد ما يُؤخد من دُنياك..

يا ابن الورد

عروة ليس لديه أوسمة وغار

أتعبتنى ..

جرجرتنى..

وأنا تبعت مُطاوعاً

ماكنت اعرف من قبل الرحيل

كم صرتُ أقرأ سفر الله .. والتكوين

كم أعطيت من عمرى اليك؟

كم أعطيتُ؟ .. كم اعطيت؟

مازلت أنتظر الجواب!!

***

د. هاشم عبود الموسوي

لا السيفُ أصدقُ أنباءً ولا الكتبُ

بلِ الدموعُ التي في الحربِ تنسكبُ

*

هذي فلسطينُ لا تحتاجُ من أحدٍ

مدَّ اليدينِ لها ولْيعجبِ العجبُ

*

لو تقتلونَ جميعَ الحالمينَ بها

لحاربَتْكم بها الأشجارُ والسُّحُبُ

*

إن تقطعوا الماءَ عنها صاحَ ظامئُها:

(إنَّ السماءَ تُرجَّى حينَ تُحتَجَبُ)

*

أو تحجُبوا الشمسَ فيها عن مشارقِها

فشمسُ قُبَّتِها يعمى بها الذهبُ

***

تُناديكَ هذي الأرضُ لبِّ نداءَها

وكن أنتَ منها ماءَها وسماءَها

*

يناديكَ زيتونٌ جريحٌ وتِينةٌ

مُجفَّفةٌ كي تستردَّ دماءَها

*

يناديكَ هذا البحرُ والبحرُ دمعةٌ

وميناؤُهُ عينٌ أماتُوا ضياءَها

*

يناديكَ أطفالٌ ولم يتكلَّمُوا

فبعضُ سكوتِ الناسِ يُمسي نداءَها

*

تناديكَ يافا والجليلُ وغزَّةٌ

فكنْ أنتَ منها ماءَها وسماءَها

***

أيا مَنْ واقفٌ عندَ الحيادِ

تخافُ على الحصادِ من الجرادِ

*

تقولُ الليلُ أبيضُ لو أرادوا

وتَنسِبُ ذا الصباحَ إلى السوادِ

*

ألَا أبشِرْ فإنّ غداً قريبٌ

لناظرِهِ وخيرُكَ للنفادِ

*

فليسَ بآمنٍ من كانَ خِلّاً

لذئبٍ أو حليفاً للفسادِ

*

وهذا الصمتُ عارٌ ثُمَّ عارٌ

غداً تلقى بهِ ربَّ العبادِ

***

ألا هبّي بصحنِكِ (أنجلينا)1

فإنَّ الناسَ قد خذلوا (جِنينا)2

*

وغزّةُ تستغيثُ فهل مجيبٌ

وعمَّ الصمتُ قوماً أرذلينا

*

وغزّةُ ليسَ أرضاً تهدِموها

ولا شعباً يُبادُ فيَستكينا

*

ولكن لوثةٌ في الروحِ دبَّتْ

وكابوسٌ يُطاردُكم سنينا

*

إذا بلغَ الفِطامَ لنا صبيٌّ

زفَفْناهُ شهيدَ الأكرَمِينا

***

نسِينا أيُّ عامٍ نحنُ فيهِ

فمن تِيهٍ سفائنُنا لتِيهِ

*

نفاخرُ أنَّ ماضينا عريقٌ

وحاضرُنا خرابٌ نزدريهِ

*

ونُعلنُ حربَنا ظنَّاً بأنَّا

سنسحَقُ كلَّ جبّارٍ سفيهِ

*

بصاروخٍ منَ الورقِ المُقوَّى

ورشّاشٍ من الماءِ الكريهِ

*

ونخطُبُ بالجموعِ: قد انتصرْنا

وحرَّرْنا الهوا من غاصبيهِ

***

بكى كثيراً إلى أن جفَّ مدمعُهُ

وليسَ من أحدٍ إلّاكَ يسمعُهُ

*

يدعوكُ ربّي دعاءَ العاجزينَ يداً

دعاءَ من طُحِنَتْ بالحزنِ أضلعُهُ

*

دعاءَ مَنْ طفلُهُ في القبرِ مُرتجِفٌ

وأمُّهُ معَهَ في اللحدِ تُرضعُهُ

*

دعاءَ مَنْ كانت الأطيارُ تُوقظُهُ

واليومَ طائرةٌ صارتْ تُروِّعُهُ

*

ألّا تذرْ أحداً منهم بموطنِنا

إلّا وكانَ بإذنِ اللهِ مصرعُهُ

***

عبد الله سرمد الجميل - شاعر وطبيب من العراق

................

1- أنجلينا جولي الممثلة وصاحبة المساعدات الإنسانية

2- جِنين: مدينةٌ فلسطينيةٌ

أنا اليوم

قررتُ أن أخونَ ذاكرتي،

أن أنسلَّ من جلدِ الحنينِ كأفعى عجوز،

تعبت من لسعِ نتوءات الأحراش،

ومن نُدوبِ الوقتِ على جسدِ الغيمة، الهاربة .

*

أنا اليوم،

أودعتُ مفاتيحي القديمة

في صدرِ صندوقٍ خشبيٍّ

تفوحُ منه رائحةُ النسيان المُمَلَّح،

وقلتُ، كفى!

*

ألتحقُ بسِربِ الغزاة،

أولئك المتمترسين على حافّةِ الفعل،

يَسِنّونَ رغبتهم كالسيوف،

يُطلّون من شقوقِ المعنى

ويزرعون في العواصفِ نشيد الماء،

*

لم أعد أرغبُ

أن أُطعمَ ذاكرتي من جسدي،

أن أُرضعها من حليبِ الرؤى اليابسة،

أن أُربّتَ على كتفِ الأمس

كلّما انطفأ الحاضرُ من حولي.

*

أنا اليوم،

كغصنِ زيتونٍ نبتَ في منفى،

لا يحنُّ للجذور،

ولا يطمئنُّ إلى الغصون.

*

تركتُ حكاياتي تمشي حافيةً

فوقَ شوكِ التأويل،

وانحنيتُ للريح،

كي أُخفي ملامحي عن القصائد

التي ما عادت تعرفني.

*

الغزاةُ،

هنا،

عند تخومِ الإرادة،

يرفعونَ الراياتٍ

ينشدونَ صوتا له شفاهُ البرق،

ويرقصونَ فوقَ جثثِ الحلم القديم.

*

وأنا،

بلا ذاكرةٍ،

بلا بكاءٍ،

بلا قصيدةٍ تذكرني،

خنتُ ذاكرتي...

لأبحث عن نافذةٍ

لا تطلُّ على جرحٍ

ولا تُغلقُ على قيد.

***

مجيدة محمدي

يـا لـهفة الـقلبِ هـذا البعدُ أشقاني

مـا عـدتُ أعـرفُ مـا حـالي وعنواني

*

حـتى الـذي في ليالي العمر يؤنسني

حادت به عن طريق النفس أشجاني

*

أظــنّ فــي بــؤرة الـعـينين مـسكنه

وفـي الـفؤاد لـهيب الـشوقِ أوهاني

*

يـا طـيبة الـروح كـيف الـدّرب فرّقنا

حـاشـا مـحـبّي مـعـاذ الله يـنـساني!

*

حــاشـاه لــيـس بـطـبعٍ فـيـه أعـرفـهُ

بـل بـحر عـشقٍ يناغي صدرَ شطآني

*

لا لا تـقـولـوا حــيـاةٌ عــنـكَ تـشـغلُهُ

إنّـــي الـحـيـاة لــهُ إن كــان يـهـواني

*

أرجــوه قـربـي لأُسـقى مـن نـضارتهِ

فـالـبـعدُ أرّقــنـي والـشـوقُ أظـمـاني

*

حُـرِمتُ فـي ضـجّة الأفـكارِ بـوصلتي

لـو عـقل لـقمانَ لـي أعـياهُ حرماني

***

صلاح بن راشد الغريبي

 

حَسناءُ كالبَدرِ

حينَ الاكتمالِ

في دربٍ تسيرُ

حين كانَ الجَنَانُ صَادياً

بها وَلِعاً يَهيمُ

*

من كُلِّ أَلوانِ المَلاحةِ نَالتْ

قَوسُ قزحٍ في الفَضَاءاتِ

اِختيالٌ

*

في هَدأةِ الِّليلِ

تَروي لِلهَوى كُلَّ الأسَاطيرِ

وفَيضُ الوَجدِ مِن صَبِّها

أنهَارٌ تَتَدَفَّقُ

فكيف يكونُ الصَّبْرُ لِظامئٍ

حين يَصيرُ على مَقرُبَةٍ

وذَاكَ اليَنبوعُ

إهراقاً يَسيلُ

*

كُلَّمَا في الحَديثِ تُسرِفُ

نيرَانُ الهَوى

في الصَّدرِ تلتَاعُ

فلا يعرفُ المرءُ

إنْ كانَ للبُركانِ

أنْ سَوفَ يَخمِدُ

أم لحرائقِ الجَّوى

إخباءٌ وإهمادٌ

*

من كُلِّ بَساتينِ الدُّنيا

بأطايبِ الثِمارِ تَظْفَرُ

والوردُ في الثغرِ مبسمٌ

وفي وجنتَيها

كُلُّ ألوانِ الزُّهورِ تَرقصُ

*

من أجلِ مُقلتَيها

شَياطينُ الشِّعْرِ تَسْهَرُ

ومن غيرِ خمرٍ

تُذهِبُ العَقلَ والُلبَّ

والسِّحرَ والوضاءةَ

من مُحياها ينسكبُ

*

عُرْشُ المَفاتنِ مِن غَيرِ تَسَاجُلٍ

لمُقلتَيها اِحتواءٌ

والحَصَافةُ في وجودِها

لفَقْرِ الحَالِ بَيانٌ

*

فكيفَ لِفؤادٍ حين يَهواها

عن الكونِ ألّا يَغيبَ

والرُّشْدُ في عُهودِها

في سَماحٍ

فإنْ حَضرتْ يكنْ

هو الغِيابُ

***

بقلمي: جورج عازار

القصيدة الأولى: "رسالة من الجبهة"

(عن حالة الحبيب وهو بعيد عن حبيبته)

أكتب إليكِ من عراءٍ يعجّ بالصمت، من خيمةٍ بالكاد تحميني من انكسارات الريح، كلّ شيء هنا يشبه الفقد، حتى اسمي الذي تنادينني به… نسيتُ صوته. وجهكِ يزورني خلسة، حين تغفو البنادق، ويصبح الحذر أقلّ ضجيجًا. أحنّ إلى طريقتكِ في ترتيب النهار، إلى فنجانكِ المسكونِ بالعطر، إلى دفءٍ كان يربت على قلبي من طرف أصابعكِ. أنا بخير، كما يقولون حين لا يريدون البكاء. لكنني حين أغفو… أنام في حضنِ صوتكِ.

***

القصيدة الثانية: "على حافة الانتظار"

(عن حالة الحبيبة وهي تنتظر عودة الحبيب)

كلُّ يومٍ أزرع صبرًا عند الباب، وأسقيه بنظراتي نحو المدى، فلا يكبر، ولا يذبل. المطر يسألني عنك، والريح تنقل إليّ أخبارًا مبتورة، أخبارًا ترتجف مثل قلبي. أعدُّ خطواتِ العابرين… علّ مشيتكَ تختبئ بينهم. أفتحُ الرسائل القديمة، فتمطر الدموعُ، ولا تجفّ الذكرى. أعيش على أطراف يقيني، كأنني بيتٌ نسي صاحبه أن يعود، فترك فيه رائحة صوته وارتبك في منتصف الطريق.

**

القصيدة الثالثة: "اللقاء"

(عن لحظة اللقاء بعد طول انتظار)

حين رأيتك، توقّف كلّ شيء. العصافير التي هجرت نافذتي عادت، والساعة التي توقّفت يوم رحيلك دقّت أخيرًا… على نبضك. لم نتكلّم، لكنّ الأيدي وجدت بعضها، كأنها لم تفترق أبدًا. كأنّ الحرب كانت قصة أخرى، ونحن كنا في الهامش ننتظر النهاية. أنا لم أعدّ السنين، لكنّ جسدك حفظني، كأنني سِرٌّ قديمٌ تحت جلدك، وكأنك طينتي التي نُفخت فيها الحياة عند أول نظرة.

**

القصيدة الرابعة: "قبر من الذكرى"

(عن حالة الفقد بعد غياب الحبيب في الحرب)

لم أودّعك، لأنك لم تقل وداعًا. غبتَ كما يغيب الضوء عن وجه البحر، صامتًا، كأنك لم تكن يومًا جزءًا من تنفّسي. كلّ شيءٍ تسرّب منك بقي هنا: الكرسي الخشبي الذي كنتَ تفضّله، قميصك المُعلّق دون رغبةٍ في الانحناء، الكتب التي تركت إشاراتٍ فيها ولم تُكملها. الحياة تواصلت… لكنّها كانت تمشي بعكازٍ مكسور. لم يخبرني أحدٌ كيف أتعامل مع الغياب، فصرت أفتح النوافذ علّك تعود، وأنام على وسادتك كأنّها الأرض التي دُفنت فيها.

**

القصيدة الخامسة: "لن أقول وداعًا"

(عن انتظار الحبيب رغم اليقين بموته)

قالوا: "لقد مات". قلت: "لكنه لم يودّعني بعد". أنا لا أعيش في الجنازات، ولا أحتفظ بالورود اليابسة، أنا امرأة ما زالت تُعدّ فناجين القهوة لاثنين، وتضع منشفةً ثانية في الحمّام. أعرف أنه لن يعود… لكنني أحتفظ بمكانه في الحكاية، تمامًا كما تحتفظ السماء بألوان الشروق حتى بعد غياب الشمس. لن أقول وداعًا، لأن الموت لا يُفصِل بين من تعانقت أرواحهم. سأبقى، وأنت ستبقى ما دامت ذاكرتي ترفض أن تنسى كيف كنتَ تبتسم… قبل أن تخرج من الباب الأخير.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد – العراق

ستقفين مذهولة بين تلك الأشجار

التي تشبهك تماما

حين اكتسح تشرين كل أوراقها

وتشبهين تلك اليمامة

بشدو الحانها الحزينة

حين سطا أبن آوى على أحد فراخها

وتشبهين جرف الفرات

حين تآكل تباعا

قتله حزنه على موجاته المفقودة

يقولون انك لا تملكين شجرة

في وطن تبكيه قصائدك

لكنهم لا يدرون اني أمتلك

كل أشجار الوطن

في تلك الغيمة

والتي وعدتني صادقة بغيث قريب

وبنظرات تلك الطفلة العليلة

وعتابها الموجع عن دوائها المفقود

تعاتبني لمَ لا تكتبين قصتي

للملأ

ربما ينساها الوطن مثل اليمامة

لكي لا يتبختر أبن أوى جديد

ولكي لا تصبح

شجرة عتيدة وسط صحراء قاحلة

تصفق بها الريح يمينا وشمالا

ولكي لا تنسى في دهاليز معتمة

تتبعثر أمانيها بين تلال مهجورة

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

قصائر (11)

سأبحَثُ عن أرضٍ أخرى

يا بلَدي

لا أسمَعُ فيها صَوتَ نُواحٍ

على الأحياء

2

محكومٌ بالمَوت

أنتَ ..

إن أوقدتَ شمعةً

لتبعثَ الرجاء

في وطَنٍ ..

يُقدّسُ الظَلام

3

كالبَحر

أغضبُ إن تمادتْ فوقيَ الريح

لكنّي لا أنساها

كالبَحر

إنْ ذهَبَتْ

4

كرامِقِ السرابْ

أستعذبُ أحلامَ اليَقَظة

لمْ يعُدْ عندي منَ الأيّام

ما يُغري..

لأَبتَغيها

5

أمقتُ الخريفَ في هذهِ البِلاد

يُرغمُني ..

أمشي على ألوانيَ الأثيرة

وبقايا ..

أرواحِ الشَجَر

6

أجلسُ كثيرا

خلفَ زجاج شُرفتي السَميك

أرمقُ امرأةً.. في شُرفةٍ أخرى

تنظرُ نحوي

لا ترى سوى انعكاسِ صورَتِها

ما أجملَ الوهم!

7

دِلّوني على عينٍ تُصيب

فثمّةَ ماردٌ في داخلي

ليسَ مثلي

يُخيفُهُ الحَسَد

8

كان جَميلاً

قبلَ أن يأكلَ مِلحَهُ النَمل

وطَني

9

يتيمُ هذا الزَمان

حتى الرُفوف

عَجَزتْ عن لمِّ شَملهِ ..

الكتاب

10

ليسَ النِسيانُ عادَتي

أبحَثُ عنهُ يائِساً

لأجعلَ يَومي

لا يُشبِهُ الأمس

11

لا تُظهِرُ الكامرا وجهي

كما أشاء

ظنَنتُ المُصوّرَ فاشلاً

حتى ..

أصدَقَتني المرآة

12

أحِبُّ الليل

يجعَلُ الظلامُ سَمعي..

حَصيناً

بلا خداعِ الضَوء

13

ألجأُ الى المرآة

في وحدتي

ألومُ الغريبَ الشاخصَ فيها

كجِذعٍ أجدَبْ

فيَسكُت

14

لم تُشحْ بصَرَها..

عني

تبحثُ في عينيّ الذاويتين

عن دولاراتٍ..

تائِهة

15

في ذُهول

ينظرونَ نَحوي

تحتَ ضِياءِ الحانةِ الأحمر

أنا الوحيد الذي أتلو على الخَمر

سيرةً بالية

**

عادل الحنظل

يزمجر الزمان الأعور

المأفون في وجهي

لا مكان للمسرحي

الذي يرفض السكون

ستائر المكائد تنزل

والفاتكون

فوق الجفون يرقصون

لا يروون حكاية

الأبطال، ولا كان يا مكان

جاء المعارض

من ذلك المكان

هل تبقى تافهًا

لتغير هذه الأوطان؟

هل تبقى ملعونًا بقصاص

أهل البطون

والذقون؟

قسموا خيرات الوطن

بضمائر الثعابين

لحد الاستجداء

صار المكر نظامًا

كونيًا للبقاء

كيف تحيا وفؤوس

الجزارين الطائشة

تقطع أنفاسك التي

تشهق بشفقة معذبة؟

كيف تحيا

من فوضى

العالم وخرابه؟

كيف تحيا

وأنت في هذا البلد

تطالب بحقك

فيرد الحكام؟

تود حقك؟

إذن مد ذراعك

إلى نجوم السماء

هي أقرب

لك من مناجاتك

((لدبش)

ابحث عن فسحة

النجاة

أنادي بصوت

لم يعد نفسه

تلوك أسناني

السوداء خشونته

لم يعد ناعمًا كما كان

هل هناك منفذ

من القمم التي

يتم فيها بيعّنا؟

هل هناك مكتشف

يجد تلك

العظام الهشة

مثل عظام

أحصنة الحروب الخاوية

ورؤوسها المثقوبة

بالرصاص العنيف؟

من ينفض

حيرتي عن كَتِفَيَّ

ويرمي ضياعي

في سراديب الضياع؟

ويحيطني بإيماءات

فوانيس الغروب

تائهًا في غابة الألم

يأخذني زمن رخيص

خطوة بعد خطوة

إلى أرض سكانها

لا يبحثون عن

مفاتيح لأصابعهم

يمضون باتجاهات

مفقودة

حيث لا سبيل

إلى أبواب الحب

أكتب (بما علّمني الدّم)

عن وطن يئن

تحت وطأة الظلم

عن حلم تلاشى

في رمال الصحراء

عن فطائس الطغاة

لمن

يهتفون بلا خجل

للخراب والدمار

لمن باع نفسه

كالقواد

لمن رمى

وطنه بالرصاص

لمن حفر قبرًا

بيده البغيضة للبلاد

أكتب عن صرخة

في وادٍ سحيق

صرخة لا تسمع

***

باقر طه الموسوي

 

لم يعرف أحد كيف بدأ الموكب. لم تُقرع طبول، ولم تومض في الأفق إشارة، ومع ذلك تحرّك الجميع كما لو أن نداءً صامتًا عبر صدورهم أوحى إليهم بشيء خفيّ، أو أيقظ فيهم حاجة نائمة.

كان الطريق باهتًا، بلا ملامح، كأن الأرض نفسها قد نسيت ملامحها الأولى. لم تكن السماء غائمة فحسب، بل كأنها تنقّب في ذاكرتهم عن ملامح قد طمستها السنوات. وجوههم كأنها ظلال، وخطواتهم متثاقلة، تحمل في أعماقها حكايات لم تجد يومًا من يصغي لها.

قادتهم ريح، كانت كنسمة هادئة، ولكن في رقتها عاصفة نائمة. كانت تمرّ بينهم بخفة، كذكرى قديمة، كخيط ضوء نجا من حلم لم يكتمل. حاملة معها رائحة أحلام انقطعت قبل نضجها، صدى ضحكات خبأها الخوف، أمنيات نائمة في قاع القلب.

كلما عبرت الريح أرضًا، تناثرت خلفها صور: طفلة تلاحق فراشة من نور وتذوب في العتمة، امرأة تحتضن وشاحًا كأن فيه بقايا دفء غائب، ظلّ إنسانٍ ينحني نحو الأرض، كأن نداءَ يتوغل إلى عمقها بلا كلمات.

لم تقل الريح شيئًا، لكنها طرقت أبوابًا نسيها الزمن. كل نسمةٍ منها كانت ككفٍ خفية تمرّ على الذاكرة، تُزيح عنها رماد الصمت، وتبعث فيها نبضًا خافتًا. لم تُرَ، لكنها كانت تزداد وضوحًا كمن يهمس للجميع: أنا هنا.. معكم.. منذ البداية. على طول الطريق، سُمعت ضحكة بعيدة تلامس الأذن، ورُصد صوت ينبُت من التراب كأنه نبتة أمل خجولة. مقعد خشبي صغير اهتز من تلقاء نفسه، كما لو أن أحدًا غادره منذ لحظات وترك دفء غيابه وراءه.

فوقهم، بدأت السماء تتلألأ. لم يكن ضوءًا، بل نبضًا خفيًا، كأن السماء بدأت تتذكّر نفسها.

بدأت العيون تلمع، والملامح تهدأ. بدا عليهم وكأنهم بدأوا يصدّقون بأن التحول ممكن.

ومع كل نسمة، كانت طبقات الغياب تذوب عن وجوههم. الاشتياق خفّ حمله، والحزن تحوّل شيئًا فشيئًا إلى هدوء ناضج، كما لو أن الريح صارت مرآة تعكس أرواحهم، لا أجسادهم.

كان في الهواء عبير المطر قبل أن يهطل، وفي التراب نبضٌ دافئ، وفي الأفق... خيط من نور، لا اسم له. لم يكن شروقًا صريحًا، ولا ذكرى واضحة، بل احتمال لحياة جديدة لم تبدأ بعد.

وعند تخوم الأرض التي لم يطأها النسيان، توقفت الريح كنغمة أخيرة في لحنٍ طال انتظاره. فتوقفوا معها. بعضهم تمدّد على الأرض، كأنما بلغ أخيرًا حضنًا لطالما انتظره، وبعضهم أغمض عينيه كمن يصغي لقلبه للمرة الأولى. وابتسم أحدهم، وقال بصوت يشبه الحنين، كأن شيئًا فيه عاد إلى الحياة:

"لعل الريح لم تكن تقودنا إلى مكان... بل كانت تعيدنا إلى أنفسنا."

ثم عمّ صمت مختلف، ليس خلوًا، بل انكشافًا. كأن الزمن انحنى لحظةً، لا لينظر إليهم كما كانوا، بل ليلمس ما صاروا إليه. وكأن الريح، بعدما سكنت، تركت في كلٍّ منهم ومضةً لا تُطفأ.

لم يبق في الأفق سوى خيط خافت. فانتظروا.. محدقين في درب، حيث تبدأ الألوان..

***

قصة قصيرة

مامند محمد قادر - شاعر وقاص عراقي كوردي

 

قصص قصيرة جداً

الغلول

يرفض قلبها الخلط بين إيمانها  بالمعنى الحقيقي للحب، وبين شغفها، ونزوعها الدائم للسيطرة على عقل زوجها، وتدميركل حادب ومهووس به، لأجل ذلك منحت نمط معاييرها الأخلاقية، التي نغلت بالعداء، وعاشت على الفرقة، سمة القسوة، والغدر، التي تسمعهما لماماً من أفواه الناس، حتى تخضع زوجها لإرادتها، وتكون كل  ثرواته الطائلة، وقصره المنيف، بما فيه من تحف منثورة، وصور منشورة، قاصراً عليها،  ولكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد أدمن زوجها عشق سكرتيرته الباسقة الممتدة، التي كانت تهدئ ثائرته عند غضبه من ضعفه، لقد خلعت عليها هذه السكرتيرة التي تنتمي لأسرة خاملة، لقب زوجة ثانية وجردتها من جميع أسلحتها.

البديل

لا سبيل للتعبير عن عاطفتها تلك، ولا تحديد موقع لها، لأنها تعرف جلياً أن الموروث الديني، يرفض بناء أي مضامين معرفية لها، وفي الحق أن هذا الموروث، يرجح كفة رذائل تلك العاطفة، على كفة فضائلها، عليها إذن أن تمضي صامتة ذاهلة، وتدقق في خبايا عاطفتها المتأججة تجاه "بعل" شقيقتها الناضرالوسيم، الذي منحته الرياضة والمسجد، جسماَ متيناً، وعقلاً سليماً، وخلقاً قويما، عليها إذن أن تكبح جماح مشاعرها الفياضة، وتوجهها إزاء شقيقه الأصغر، الذي يماثله في الوضاءة والحسن، والجمال، فبلورت سعيها في أفق "اغراء" في ليلة شاتية، تحملت شقيقتها وزوجها مؤونة دفعه، هي الآن بعيدة نائية عن محيطها، بعد أن طرأ على جسمها التغيير والتبديل، لقد تركها شقيق زوجها، طريدة الخوف والوجل، ولم تجني من "بديلها" الغرامي، غير الفضيحة، والخيبة، والاخفاق.

التراتب الاجتماعي

إن نمط التراتب الاجتماعي الموروث في بيئتها، يمنعها من الزواج، ذلك التراتب الذي تكفل نصوصه المشددة، صون المعايير الأسرية التي تراعي زواج الكبير أولاً، وهي على ضوء هذا التراتب اللعين، عليها أن تنتظر قرابة الربع قرن من الزمان، إذا لم يخذلها الصواب، حتى يحالف الحظ شقيقاتها "السبع" ليكملن نصف دينهن، وبأسلوب سائغ سهل، خال من الاستطراد، نزعم أنها لن تنفتح لها آفاقاً رحبة للتحرر والانعتاق،  إلا إذا بلغت حياض الردى، هي الآن في بواكير عقدها الثالث، ولا يستطيع فكرها، ودائرة وعيها، المتمحور حول نفسها ، هضم هذا التراتب أو استساغته، لأجل ذلك سارت في رحلة العصيان، تبطئ خطاها حيناً، وتسرع أحيانا، حتى دخلت كهفاً، ووجدت في احدى زوايا هذا الكهف، فتاها الممشوق القوام نائما، فاختلفا إلى مأذون قرية نائية فتزوجا، وأقاما في هذه القرية الفقيرة، المجدبة، ولأنها سريعة الألفة لكل جديد، فقد تناست أسرتها،  التي اعتبرتها عائقاَ يحول دون سعادتها، و انخرطت في حياتها الطريفة، بعد أن تنكرت لحقائق دهرها الغابر، حياتها التي خلت من عيشة عذبة، ومسكناً جذاب، أهدت فيها زوجها، صاحب اللون القاتم، والشعر الفاحم، والوجه المستدير، طفلاً اطرد عوده، واستطال، حتى إذا بلغ دائرة التكليف، هرب مع أرملة غنية "متصابية"، وتركهما لموردهم الناضب، وعوزهم الواسع الكبير.

الآثرة

ظل النقاش محتدماً بين الأخ وشقيقه، وأخذ الأخ الأكبر يكيل السباب لشقيقه، ويوبخه على سوء صنيعه، ويصفه بالآثرة والأنانية، وحينما تدخل بن عمهما لطي الخلاف، وفض النزاع، كان الشقيق الأكبر، يستعصم بالرفض، ويرى أن تركيبة المهادنة، والوفاق، لا تتفق مع كرامته، وإباء نفسه، لقد بذل بن عمهما، الذي وجد سفينته تمخر في بحر تلاطمت أمواجه، وزخرت أثباجه، مجهوداً مضنياً، حتى يحيلهما إلى مرحلة التصاف، والانسجام، وبعد أن تداعى التوتر، وشاعت في الحنايا السكينة، سألهما قريبهما عن كنه الخلاف، فأشار الشقيق الأكبر بسبابته تجاه شقيقه قائلاً: هذا الوغد يدرك تماماً شغفي، ببنت جارنا "الفاتنة اللعوب"، وحرصي على التقرب والتزلف إليها، حتى أخضعها لإرادتي، واستدرجها إلى مخدعي، لقد اختلى بها هذا السافل، وبات محرماُ عليّ مواقعتها!! هذا حقاً هو الشقاق الذي يحقق للشيطان رجاؤه.

الغرر

تلك هي الحقيقة التي انتبه إليها بعد فوات الأون، فحياته التي امتزجت بالسياسة في كل ضروبها، اتسمت بالكرب، والذلة، والهوان، لقد أمضى ردحاً طويلا من عمره، في غياهب السجون، يراقب حيطانها العالية الغبراء، ويقول لنفسه:" أن هنا، لأني صدعت بكلمة الحق، في وجه سلطان جائر، هو هنا في هذا المكان، الذي يصادر حريات الناس، لأنه كشف منشأ الأمراض وأسبابها، كشف أوصاب النفس الإنسانية، وعللها، الأسقام التي تعبث بالنفوس الضحلة، الصغيرة، وتجعلها تقدم على الظلم، والاعتساف، تلك الفئات، التي تحصر اجتهادها، في آليات، وامكانات، منظومتها الأمنية، النخب السمجة، التي تقتنع بأن حكمها يمتد، إلى أن ينتهي آخر الأمر، بما يسمى الموت، وبعد أن تفرغ هي من عناء الحياة، يتقلد في سياق الطموح، طاغية مثله أعنة الحكم، فيصاوله هو، ويناصبه العداء، وهكذا يتكرر العداء، ويتواتر العقاب، بيد أن هذا البائس، الذي لم ينبثق لديه "وعي" بتطوير عقيدته السياسية، عقيدته التي تموج بعواصف الافتراء الكاذب، لم يدرك أن نزعته النضالية تلك، كانت توري قدحها زوجته "الحانيه"، حتى تزجه في السجن، وتختلي هي بصديقه، وزميله، في الأهواء والميول، إنها فعلاً ماركسية عجفاء مأفونة.

***

د. الطيب النقر

الخميس 10/7/2025

سعيت أن أخفف من الوحدة التي تحاول أن تشدني إلى مستنقع عميق.. شيئا فشيئا كصرير قلم على شارع ورق متعرج تجرني إليها....

  سعيت أن أفك طلاسم هذا الشعور الموحش الذي يتسلق روحي كجيش مهزوم في ساحة المعركة...

 لا أريد أن أقلقك، ولكنني سألتك يوماً في رسالتي الشتوية عن المعنى الحقيقي للشعور الذي لا يمكن وصفه، أو إيجاد لغة  للتعرف عليه ...

 كيف يبدو هذا الشعور المزدوج كأنك في قارورة صغيرة معزولة تحاول أن تطلق شهيق الأنفس دون أن يشعر بك أحد، أو يلاحظ ارتعاش رمشك، أو جحوظ عينيك؟!

 إنني أتساءل هل هذا فعلاً شعور بالوحدة، أم أن صمتك في حين كنت أنتظر مرورك على رصيف الورق على حافة السطور الخاوية هو ما يجعلني أنزف ضجرا؟!

 من خلال التعمق في هكذا شعور يخلق منك شخصاً مختلفاً حتى عن نفسك يجعلك تطيل التفكير في ما هو حولك، و يجعلك متوحدا بذاتك.

 وأنا أحدثك الآن تنحدر مني تلك الكلمات التي كنت أكتبها سابقآ كأنها فقاعات عبثية تتطاير في الهواء، وما تلبث أن تنفجر وتتلاشى، وأقول ما هذا الذي كنت أكتبه؟ ما هذا الضجيج الذي كنت أحدثه في تمام الساعة السابعة صباحاً؟.

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان....

فناء في الأمام،

نراه زهوا وقبسا..

يقولون عنه:

فناء لنا هو ملكنا

نعيث باحشائه

رعبا وقهرا

ونحيله هباء

ثم نمسيه رمسا..

**

يقولون:

نحرقه ونحيل أشلاءه رمادا

كما لم يعد كائنا في الوجود

نحرق كل ما فيه

نحرق اسواره

نشعل النيران في ساحاته

ونجعل ارضه قاعا تميد

كل هذا،

لكي ننجو

وكن، تنجون من ماذا؟

وهذا هراء..

**

هسيس بلا  ضوء

يراقصه غناء

وشمس، يباغتها رياء

و درب، يحاصره وباء..

**

يقولون: نحرق الأرض

لنمنع عنا النار

ولا تدنو لنا

فليحترق من كان

كي نبقى ،

نحلب حولنا كالأبقار

حتى يجف

الضرع والزرع

نأكل كل ما فيهم

ونجيعهم نشربه نزفاً ..

من شرايين اليتامى

ونزفً فيهم لعنة الحمقى

اذا ما فاه منهم من يقامر..!!

***

د. جودت صالح

6 / 7 / 2025

في نصوص اليوم