نصوص أدبية

نصوص أدبية

والوقت حالة

على أهبة الأرقام،

من شدة ضحكاتنا

يمارسنا الحزن،

نختبئ خلف أشكال

لا تعكس الحقيقي

وفعل الدهشة منا للصدى،

"نحن" لا تنبغي لنا نحن

ظل للآخر نمشي

قد تسعفنا الأقنعة

لكننا لا نشبهنا فينا

لأن الخصوصية صفة نادرة

وحرية قيدها اكتسابي

*

عاطلون عن الهوية

والمرايا عطب سيكولوجي

بين المؤقت

وما لا نبدو عليه،

نحن ما اقترفت الميديا

كائنات يوم سريع،

يطارده الوقت

أبد ليل،

مخلفات تكنولوجيا رقمية

تبحث عن نجمها

يأتي الرمز الاصطناعي

يصرخ الفراغ ذاك عَرَّابي

*

عاطلون عن الحب

ربما يتسنى لنا

برعشة على عجل،

في غرف فنادق،

سيارات،

مراحيض حانات

شوارع مظلمة،

تحت صخب مراقص،

شقق مأجورة،

سينما،

وخلفيات حدائق،

على حد التعبير الفرنسي

وبين عري وانفصام

نقدم الولاء لبنات الهوى

ثم نحدث عن الله،

"الأرصدة شهواتهن

ومفاتنهن اغترابي"

*

عاطلون عن السماء

ندين بعقيدة المقايضة

والرأسمال نبي عهد جديد

إذ قال الإنسان الأخير

أنا من أنا ؟

أنا الأشياء الغامضة بداخلي

شهوة العبث للمزيد

وجودي ضروري

وضرورتي غيابي

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: بكائية تمثال الحرية

 

بحسبِ السونارِ الذي أظهرَ أنَّ زوجتهُ حاملٌ بولدٍ، يبدو كأنهُ كبيرُ الحجمِ، على خلافِ أوزانِ الأطفالِ حديثي الولادةِ. قرّرَ الأبُ تسميةَ ابنهِ القادم (غالب) وظلَّ ينتظرُ خروجَ (الغالب) ودلّلَ زوجتهُ، لأنها ستنجبُ ابنَهما البكرَ ذكراً .

يومُ الولادةِ في المستشفى تجمَّعَ الأبُ وذووه من والدةٍ، وأخوةٍ وأخواتٍ بانتظارِ خروجِ ابن أخيهم الكبير إلى الدنيا، كان مخاضاً عسيراً على الرغمِ من أنّ الولادةَ طبيعية .

سَمعوا صرخةَ الوليدِ فهلّلوا فرحاً، ولكنّهم وَجِموا قليلاً حين علموا باستمرارِ الطّلقِ عند الأمِّ الفتية، فأعقبَ هذا الطلقَ الغريبَ صراخٌ آخر، إنّهُ الولدُ التوأمُ. على الرغمِ من ذهولِ الأب، فقد أطلقَ سريعاً تسميةَ (مغلوب) على التوأمِ، كنوعٍ من التناغمِ الغريبِ من وجهةِ نظرِ بعضِ أخوته، وامتعضتْ بعضُ الأخوات من التسميةِ (لماذا مغلوب!).

لم يقتنعنَ أن يكونَ أحدُ ولدي أخيهنَّ الكبيرِ مغلوباً، فَهمَ، أب التوأم، ما يدورُ في خُلدهن، قالَ لهن بسرعةٍ حاسماً الأمر:- هي الدنيا كلّها، هكذا، غالبٌ ومغلوبٌ- ومن ثمِّ أضافَ بعد صمتٍ قصير- هي أسماءٌ لا أكثرُ ولا أقل.

ما نطقهُ بعفويةٍ بأنَّها مجرَّدُ أسماء، أخذَ ينجلي مداهُ، بعد أن نما التوأمانِ، وزادَ حراكُهما ولعبهُما.

الأمُّ اللصيقةُ بهما ليلَ نهار، عكسُ الأبِ المنهمكِ في عملهِ صباحاً، ومع أصدقائهِ وسهراتهمْ مساءً، أخذتْ تلحظُ أنًّ (مغلوب) بدأتْ تظهرُ بدانتهُ، على عكسِ أخيه (غالب) الذي أصابهُ هزال، على الرغمِ من أنَّ أمّهما تغذّيهما بالحليبِ من ثدييها، وبكمياتِ الرضاعةِ نفسها، لكنَّ (مغلوب) يزعقُ بالبكاء، إن ألقمتْ أمّهما الصابرة ثديها فمَ (غالب) أولاً، ولا يكفُّ عن الصُّراخِ إلى أن تضعَ (غالب) أرضاً، وتشرعُ برضاعةِ (مغلوب). لكنَّ من غرائبِ (غالب)، إنهُ يسكتُ ولا يبكي، إلاّ حينَ تطولُ فترةُ رضاعةِ (مغلوب)، وعلى وتيرةِ هذه المشاكساتِ الطفوليةِ في بادئِ حياتهما، بانتْ بدانةُ (مغلوب)، الذي بدأ يؤذي أخاهُ (غالب)، في أثناءِ لعبهِما، يخمشُ ألعابهُ، بل يخطفُ حتّى الحلوى، حتى وإن وزّعتِ الأمُّ الألعابَ والحلوى عليهما بالتساوي، ما شكّلَ هاجساً مقلقاً لدى الأم، وقرّرتْ أن تصارحَ به زوجَها، ولكنَّهُ يعودُ منتصف الليل إلى البيت دائخاً من تناولِ (النارجيلة) والمنافسةِ الشديدةِ مع الأصدقاءِ في لعبتي الطاولي والدومينو، فضلاً عن نقاشاتهم في جميعِ الأمور، فلذلك كانت تؤجلُ مفاتحتهُ بحيرتها، التي تكمنُ في أنَّ سلوكيات(مغلوب)، عكسَ اسمه تماماً. وبدأتْ ملامحُ العنفِ تنمو عنده، على عكسِ (غالب) الذي يبدو مسالماً، فحين يستولي (مغلوب) على حاجياته، كلُّ ما يفعلهُ (غالب) البكاء، ومن ثمَّ يصمتُ بعدَ ترضيتهِ بأبسط لعبةٍ، يستولي (مغلوب)عليها أيضاً.

حينَ كبرا، كانتْ ملامحهما متشابهةً: الشعرُ الأسودُ، والبشرةُ الحنطيةُ، الطولُ متساوٍ، ما عدا أنَّ (مغلوب) استمرّ في اكتسابِ ضخامةِ بدنه، بينما (غالب) رشيقُ القوام.

بدأتِ اللعبةُ تكبرُ على أعلى مستوياتِ ثنائيةٍ أزليَّة، بحسبِ المأثورِ الشعبي، الدنيا غالبٌ ومغلوبٌ، مأثورٌ انطبقَ عليهما، مثلما ينطبقُ الحافرُ على الحافر، فالأولُ (غالب) حين شبَّ، سلكَ مسارَ الاستقامةِ، والاجتهادَ في التحصيل العلمي، وعدمَ التعاملِ مع الآخرينَ بالتغالب .

على عكسِ أخيهِ (مغلوب)، يسري في دمائهِ التغالبُ مع أخيه، وأهلهِ والمحيطينَ به، بل كانَ عكسَ سلوكِ أخيهِ في كلِّ شيءٍ، فلم ينلْ تحصيلاً علمياً، وسارَ في طريق الأعمالِ الخاصّةِ، التي يُمارسُ فيها النصبَ والاحتيال، من أجلِ تحصيلِ المالِ وتقويةِ النفوذِ بأيةِ وسيلةٍ كانتْ.

كانَ (غالب) يمتازُ بطيبةٍ عاليةٍ، جعلتِ الآخرينَ يستغلونهُ، مثلاً حينَ بنى داراً، بما ادَّخرَ من نقودٍ، نصبَ عليه المقاولُ، الذي بكلامهِ المعسولِ، بنى له بيتاً من مرمرٍ، ليس بالأفعال، بل بالأقوالِ والوعودِ الكاذبة، فسحبَ مدّخراتهِ، ولم يتمْ إنجازُ أكثرِ من 50 بالمئة من بناء البيت، فما كانَ منهُ، إلاّ أن أقامَ دعوىً عليه، تترنَّحُ بين المحاكمِ مدةً ليستْ بالقصيرة. أمّا في مجالِ عملهِ الوظيفي، حيثُ إخلاصُ (غالب) ليسَ لهُ مثيل، هناكَ من يوقعُ بهِ من قبل الموظّفينَ المشبوهينَ، الذين يريدونَ سحبهِ إلى جادّةِ الانحراف، فهو خرّيجُ كليةِ الإدارةِ والاقتصاد، وعُيِّنَ في قسمِ حسابات إحدى الدوائر .

كان (غالب) مهموماً جداً حتى أنَّ أباهُ سألهُ عما بهِ، فقالَ له: - يا أبي، إنَّ ابنكَ (مغلوب) شوَّه سمعةَ عائلتِنا، بأعمالهِ المنحرفةِ، فتؤذيني بسببِ كوننا توأمين- متفلسفاً- الأمرُ بالمقلوبِ تماماً، كما هو مسارُ الحياة، منذُ قتلَ قابيلُ

أخاه هابيل. وأكمل القول، بصيغة من التأمل الشعري، بحسب ما تيسّر له من قراءاتٍ، تنزع إلى الولع بالشعر والشعراء، وبحسب سلوكيّته المستقيمة التي ترفض ظلم الإنسان لأخيه الإنسان- نحن في حومةٍ، نرفع على صهوات جيادنا رايات التغالب.

توقّف الأب أمام عبارة ابنه الأخيرة، ومن ثمَّ تلهّف إلى سؤاله- وما الحلُّ يا بُني؟

- اقترحَ عليه (غالب)- أنشرْ إعلاناً في صحيفتين محليتين، بتغيير اسمينا، ليصبحَ اسمي (مغلوب) بدلاً من (غالب)، كي يتطابقَ الاسمُ مع إيقاعِ حياتي. وأخي يتبدلُ اسمهُ من (مغلوب) إلى (غالب)، وهو صيّادُ التغالبِ في كلِّ شيء.

ردَّ والدهُ: - فكرةٌ رائعةٌ يا بني ..

تمَّ نشرُ الإعلانُ باسم مديريةِ الجنسية في المدينة، متضمناً فقرةً.. بأنَّهُ على من يعترضُ على هذا التغييرِ في الأسماء التقدمِ إلى هذه المديرية .

في اليوم التالي لنشرِ الإعلانِ، تجمعَ أشخاصٌ عديدونَ، في تلك المديرية، منهم منْ يعترضُ على تغيير اسمِ (مغلوب) إلى (غالب)، وهوياتُ هؤلاء هم ممّن أكلَ (مغلوب) حقوقهمْ، وفي حال تغيير اسمهِ، تصبحُ ملفاتِ

القضايا المُقدمَّة ضدهُ غيرَ ذات جدوى، أو تدخلُ في تعقيدٍ طويل. أمّا من كانَ (غالب) ضحيَّتهم فكانوا فرحينَ، لأنهُ ستُعلَّقُ كلُّ ملفاتِهم .

داخ الأب والضابطُ المختصُّ بهذهِ المشكلةِ العويصةِ، لكنَّ الأخير قرّر تأجيلُ البتِّ بتغييرِ الأسماءِ حتّى يقتصَّ ضحايا (مغلوبُ) منهُ، كما يقتصُّ (غالب) من ضحاياه. لكنَّ الاقتصاصَ طالَ أجلهُ، وسيطول ويطول، بحسب نفوذِ المظنون (مغلوب)، وبحسب علاقات مظنوني (غالب). وبات والدهما يُكنّى (أبو لا غالب ولا مغلوب).

***

قصة قصيرة

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

سـتٌ وسـبعونَ لا هانوا ولا نَكصوا1

ومِنْ لظاها لأجيالٍ مَضتْ قِصصُ

*

سـتٌ وسـبعونَ والباغي بهِ ظَـمَأٌ

الى الـدمـاءِ وفي أقـوالهِ خَـرصُ2

*

سـتٌ وسـبعونَ والباغي يُعددُها

وفي محافلهِ بالفخرِ قـد رقـصوا

*

سـتٌ وسـبعونَ أزرارٌ تُزررُها

وأربعًا بَقـيتْ في حِلمها قَـمَصوا3

*

سـتٌ وسـبعونَ في أجوائها سرحتْ

طـيرُ الـبُغاةِ وفي أفـعالِهِمْ نَـبَـصوا4

*

فـهلّلوا واسـتـبدوا في جـرائمهم

أبناءُ صُهيونَ مُـذْ واتـتْهُمُ الـفُـرَصُ

*

وأنّ شـعبًا بحالِ الضيمِ مُرتهنٌ

ماذا سـيفعلُ هـذا كلُّ ما خَـلصوا

*

وغَـرّهُمْ أنّـهُمْ حَـمّوا بـسطوتِهِمْ

روحَ الجهادِ لشـعبٍ جَـبّهُ القفصُ

*

وإنّ ذِكْـرَ فِلـسطينٍ غـدا خَـبَرًا

فالضَمُ نهجٌ ولا حقٌ ولا حِصصُ

*

وكيف يقـدِرُ مَـغلوبٌ بلا سَـندٍ

من بعدِ ما نَكل الاعوانُ أو كَرِصوا5

*

حتّى أتى القدرُ المقدورُ يحمِلُهُ

طُـوفانُ غـزّةَ في تـيّارهِ قُـفِـصوا6

*

طُوفانُ غـزّةَ قـد أوهى عزيمتهمْ

فـآلَ ما خططوا وهـمًا بـه دَلَـصوا7

*

وجَـزَّ ناصيةِ الـباغيْ ومَـرّغها

عمى البصيرةِ أرداهمْ، به عُـقِصوا8

*

ما كان يخطرُ هذا في خواطرهمْ

مِنْ حيثُ مأمَنهُ القَـنّاصُ يُـقـتـنصُ

*

والمُـستحـيلُ غـدا ويْـلاً يُـكابدُهُ

ابناءُ صُهـيونَ مِنْ وجعائهمْ قُرِصوا

*

لا يوم آخر بعد اليومِ يـعقِـبُهُ

والله يُـحْكِـمُ أمـرًا فيه قـد بَعَصوا9

***

الدنمارك / كوبنهاجن

الثلاثاء في 30/ تموز/ 2024

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

......................

1- نكصوا: تراجعوا   

2- الخَـرصُ: الكذب الشديد  

3- قمصوا: أي تحركوا بنشاط

4- نبصوا: أي تحذلقوا    

5- كرصوا: أي دُقّـوا وجُمِعوا

6 قُـفِصوا: أي صاروا في القفص 

7 دَلَـصوا: زلـقوا 

8عُـقِصوا: أي التوى والتبس 

9 بَعَصوا : اضطربوا.   

سأمنحه بعضًا من الودِ إن أتى

وأمسكُ كفيّهِ وأنسى الذي فعلْ

*

فقد جالَ فينا الدهرُ جولة َعارفٍ

فأخمدَ أحلاما تراءتْ لنا شُعلْ

*

وأيقظَ فينا الحانياتِ التي مضتْ

وأنكرَ  منها ما تسامى إلى أجلْ

*

وكنتُ اذا ما الأمر جاوزَ مسمعي

أقولُ لنفسي ذلكَ الصوتُ مفتعلْ

*

لعلي بهذا الفعلِ أبقىي الذي

أردنا سنينا أن راهُ وقد أطلْ

*

وتُعجبني منهُ التفاتةٌ جؤذرٍ

اطاحت بكلِ المغرياتِ من المقل ْ

*

سأتركُ همي بين َكفيّه ِمرغمًا

وارنو إليهِ بعد ما زانَ واكتملْ

*

وما لي بهذا الفعلِ زهوٌ وغبطةٌ

سوى ما تسامى من يديهِ وقد خجلْ!

***

د. عبد الهادي الشاوي

 

منذ شهور، إنتقل جارنا المزعج الى قير وبئس المصير، وحل بدله رجل أشقر محمرّ، يبني منذ شهور بيته الفخم، متحديا قِدم بيوتنا التي تشبه أحلامنا المتواضعة.

أغدق الجار الجديد على أولاد الحي الحلوى، وعلى كبارها الخراف المذبوحة، أضاء شارعنا المظلم بمصابيح كبيرة، بدل تلك التي كسرها أولادنا وهم يخطئون التهديف على الحمامات، فصار جيبه الدافئ عربون محبة للرائح والغادي.

أما انا، فقد كنت أسترق السمع لدبيب نملهم، أحصيت كل قطعة أثاث دخلت بيتهم، حتى أنني أعرف ستائر غرفة النوم وألوان ثيابهم الشتوية والصيفية، ساعدتني شرفة الدار– برج مراقبتي- في تعزيز معلوماتي المهمة عن الشراشف المنشورة على حبال غسيل كل الجيران، وأعرف محتويات كل كيس خضار لأي رجل عاد في الظهيرة الى بيته،  شاكرة أكياس هذا الزمن النصف شفافة لأنها تعزز شغفي ولا تتعبني في التكهن.

لن أذهب في الشهور الاخيرة الى أبعد من رصد الجار الجديد، فغنيّ الحي ـ لا فقيره ـ يغويني، زوج أشقر وامرأته الحسناء، لا أطفال لهم، وأرجوحة قد يكون القمر نسج فضتها، تلتمع في حديقة غناء، عنادا لحديقة خربة مجدبة يحويها بيتي.

لي أن أراقب الغزالة الجبلية التي حطت على حين غرة قربي، تتبضع من الرجل المخبول ذاته، غير أنها لا تتذمر من دكانه العفن، وتظّل تطلق كلمات كالسكر، كي يملأ صندوق سيارتها بخير ما نزلت به فاكهة الموسم، تاركة خلفها جيوش العطر تمزق أكفان رائحة النساء المزدحمات بتولِّـه، مراقبات بصمت مثلي بين مغتاظة ومندهشة.

لماذا تذكرنا بأن علينا أن نعيد علاقتنا بالمرآة وبالألوان، وبحسن إخراج الكلمات من أفواه ما اعتادت غير الأكل وإطلاق الشتائم؟

أمواج بحري المتطفل لا تكف عن التلاطم عندما ياتي المساء وأصعد سطح داري، لأمد النظر الى باحة منزلهم، يأتي لأذني صوت أنين رجل في الاربعين كان اسمه (رشيد)، علمت انه شقيق الرجل الأشقر، بدين مثل فيل هندي، يبكي عند الغروب أمه، مُلقيا لعناته عليهم لأنهم قتلوها غرقا طمعا في الإرث، كان أولادي يرمونه بالحجارة ويفرون ضاحكين، غير أنه لا يكترث بأي شيء عدا مخاطبة روح ما بحزن يغرس المسامير في قلبي المكلوم كلما سمعته.

كان يأكل بشراهة كل ما تقدمه الحسناء الجبلية، أما علاقته بأخيه، فكانت كصراع ذئبين على أرنب في الغابة.

بعد شهور بنى الأشقر لأخيه المأزوم غرفة في أقصى الحديقة، وأثثها بأشياء وضيعة، كان يرمي له طعام الكلب تاركا إياه يغص بفضلاته، حتى أن اولادي بدؤوا يرمون له من سطح الدار، الخبز وأنصاف الفاكهة، بدل الحجارة!

نسيت غيرتي من حليِّ الجارة ولون شعرها وأسماء عطورها، صار شاغلي الثروة المغموسة بالدم وآلام الرجل البدين، كان عزائي أن الله لعن الأشقر بحرمانه من الذرية!

تركت برج مراقبتي للريح، يلاحقني تأنيب ضميري، فأنا ما رأيت رشيد قرب أفران الصمون دافعا الأرغفة في فمه بشراهة حتى شعرت برغبة لآخذه بين أحضاني، او تخيلت نفسي أحمّمه بالصابون أو غسل ثيابه، واحترت ماذا أعدّ له من طعام فهو لا يجيب على أحد ولا يردد غير:

-" وينك يمه جوعان، راح أموت من الجوع يا يمه تعالي ".

ذات ليلة ماطرة، حلمتُ بامرأة جميلة مبللة تقول لي:

-" أوصيك بولدي رشيد خيرا، فهو يحب البطاطا المقلية.

***

سمرقند الجابري/ العراق

.....................

* من مجموعتي القصصية (علب كبريت)

قيدت أحلامي

وانحدرت بهدوء نحو سروة الأمل

رتبت أوراق اعتمادي

وأعلنت عن ثورة "قرنفل" تخصّني

ثم مددت خيوط تاريخ ميلادي

ونسجت فكرة رئيسية

ورديفة لها فرعية

ثم كتبت على جدران المدينة

رسائل مشفّرة ووصايا لسعاة البريد

والحمام الزاجل والفراش الهائم

ارتديت جبة التُّقاة

وسعيت بين أطلال الذكرى

ومرابع العشيرة

سألت عن صناجة القبيلة

وساداتها

سألت عن العمائر والأفخاذ والبطون

وعن سَرابٍ ناقة البسوس

*

دلّونِي على طريق طويل

بمسالك شائكة ومنعرجات ملتوية

مسّني عبير الدهشة

شهقت مرة بل مرتين

ومشيت واثق الخطى

أعانق شرارة الشوق

مشيت سَادر البال

أداهن مرارة الخوف

أدركت المرج والغذير

سمعت رغاء البعير

وحوافر خيل تصلصل

وأنين الناي يبث ذبذبات الانتشاء في الشرايين

تلوت دعاء السفر

صافحت بنات الدّهر

وسألتهن عن القوم

وعن نوق النعمان بن المنذر

وعن عنترة العبسي

وعن أيام الله كيف تمضي؟

وعن تلاحق التواريخ وتداخل الأحداث

في ذهني

وعن تناسل الشماريخ  وتدافع الأوصاب

في ذاتي

ردّت عليّ الرّيح نافخة في الصّور

وأومض البرق ناثرا فلذات النور

وقال رجل جاء من أقصى المدينة:

" من هنا مرّتَ، قوافل كثيرة تجْتَرُّ أوهام الحقيقة

تركتْ خلفها أثراً وبقايا حياة، وقصائد غزل و حماسة

وحديث مشاعر وعاطفة ومعالم حروب طاحنة وأشلاء قتلى

وركام يأس ودموع ثكلى وحقولا جرداء حزينة."

2

تتعثر خطايَ

ينقلبُ إليّ البصر خاسئا وهو حَسير

أنادي: «إلهي، اكشف عَنِّي غَشاوة التيه"

تُحَرّك ريح الصَّبا في قلبي جدوة الصِّبا

امتطي صهوة غمامة  عذراء

أسترد إحساسي بالعنفوان

تولدُ في كَفِّي أكمام ورد بعبير الربيع

أطلب الصفح من قبرات المساء

وأعلن توبتي في حضرة غجرية سمراء

أغسل ندمي بأمطار آذار

وأفتح صندوق العجائب

تقفز إلى أسماعي أنغام قيثارة حزينة

ينفجر ينبوع الشوق أمواجا ثائرة

أعود أدراجي إلى أحضان الأطلس

باشا يقابلني توبقال

باسمة تعانقني غابات الأرز

وعند أقدام المحيط تُغَنِّي موجة بكر

للحب

للصبايا الحالمات بفارس الأحلام

لأنسام عابرة للقارات

لخُطى نِسوة يطلقن زغاريدَ مصادقا عليها

لابتسامات أطفالٍ يبنون قصورا من الرمل

3

أمتطي صهوة البراق

أعانق الرباب

أطل على حدائق التفاحات الذهبية

عند المتوسط هرقل يبتسم

وقد شق سيفه البوغاز

أنين الاصفرار يلوح في عيني أنتايوس

وهو يحتسي كأسَ الهزيمة

قد مرغ هرقل أنفته بالتراب

وسرق  منه طِنْجة

أتنفس بحرية ، أعب هواء البحرين

هنا يلتقيان بينهما وِدٌّ وعِشَرَهْ

وحديث شجي عن سحر الضفة الأخرى

عن طارق الذي كتب تاريخا ومضى

عن أزمنة تضج بصراخ العبث

عن تجاذب مثير للجدل بين الشمس والقمر

***

محمد محضار

27 يوليوز 2024

 

قصّتان قصيرتان جدا

الخاتم والرماد

في بداية علاقتهما لم يسألها لكي لا تسئ فهمه عن الخاتم الغريب في يدها..كان من الذهب بشذرة ذات سواد، في بعض الأحيان يمسك يدها ويطبع على راحتها قبلة ولا ينسى أن يمرر شفتيه على الخاتم، وفي أحد الأيّام، بعد أن تعلقت به سألها:خاتم جميل يثير استغرابي، لم أر من قبل شذرة تحيط بسواد.

فابتسمت بمرارة، أو بشئ من الأسف:

حين توفيت أمي، ذهب أغلب رمادها إلى المقبرة، وأخذت خالتي بعضا منه لتضعه في شباك غرفتهاوطلبت بعضا يسيرا منه، وذهبت إلى صائغ محترف سألته أن يصوغ لي شذرة على الرماد

كان جوابا أخرسه، فقد عجز عن أن يقول شيئا فقط تحسّس شفتيه!

**

رائحة ما

خلال الحرب العراقية الإيرانية، عملت، شأني شأن أيّ من العمال العرب، في إحدى الشركات الفرنسية في تعبيد أحد الطرق الحيوية، وكان على السيارة التي تقلنا إلى ماكن العمل أن تمرّ بمكز تفوح منه أحيانا رائحة كريهة تشبه رائحة الشواء، عرفت فيما بعد أنّه مركز يجمع فيه الجيش جثث الشهداء قبل أن يرسلها إلى أهاليهم.

ذات يوم ارتفعت فيه الحرارة إلى درجة الخمسين، كنا نعمل على بعد كيلومتر واحد من مقر الجثث، سمعت الفرنسي المراقب يقول بلسان ثقيل:

- جو لا يتحمله إلا الحيوان

حينها

هبت نسمة هواء نثرت معها رائحة الموتى، فمال علي وسألني:

هل هناك كلب ميت قريب منّا

فبعث سؤاله فيّ الخوف والنفور، فهززت رأسي، وقلت مترددا:

لا أدري ربّما

***

د. قصي الشيخ عسكر

Vous êtes riche professeur, vous avez l'enfant et l'homme mûr en vous, les fruits de votre croissance que vous avez su préserver, comme quoi l'homme peut faire des miracles

(Isabelle Bernarf)

***

** تلك الحية

المتمددة على ضفة صدري

في انتظار فرائس

تسقط من أصابعك المرفرفة

ماذا لو تقطعين ذيلها بضحكة مجلجلة؟

*

تلك الفراشة

التي فرت من شقوق مخيلتي

من فرو حواسي..

إلتهمها نهداك الجائعان.

*

من الحكمة

أن أهبط إلى قاع روحك

بمنطاد ..

محملا بفواكه نادرة.

وأوسمة ملاك لطرد الكوابيس..

*

يدك مصيدة

الغياب منحدرات كثيفة..

سأقتني قاربا سريعا من غواص .

*

الليل ذئب

يعوي فوق السطوح الهرمة..

أنا منهمك في جنازة ..

المعزون مسلحون ببنادق صيد

عائدون من غارة

يقودها فراغ ملثم..

نهاري فقير جدا

مات متأثرا برصاصة قناص .

*

غالبا ما أربت على ريش حمامة مطوقة..

جلبتها من مقاطعة النوم الوسيعة..

عادة ما أطلقها في الليل

لتقصي أسرار حبيباتي

في مرتفعات الهواجس .

*

سأتعبك جدا أيها الموت

لأن جذوري ضاربة في الأشياء..

لأن لي سبعين ألف روح

وأجسادا لا تحصى من الكلمات..

وبيتي يحرسه قمران ونيزك .

*

أخفي في رأسي

مراكب وجنودا

لغزوة مرجأة..

لتمجيد قتلى  يناير..

لشن مظاهرة في قلب الكلمات..

أخفي في سفح شراييني مجنونا..

لا أوقظه إلا ليلا..

ليمارس لعبته الأثيرة

بدلا مني .

***

فتحي مهذب - تونس

 

شالٌ من العشقِ يبثُ سلاماً

يَلفُّني إليكَ رُويداً رُويدا

يُجنُّ قلبُ السَّماءِ

ويشتعلُ القمرُ في حضنِ غَيمة

تتراقصُ حباتُ التُّوتِ

على أكتافِ جلناّرِيَ

يَبرِقُ ثَغرُ اللَّيل

في مهبِ الرِّيح تزهرُ الوُرَيقاتُ

ولوالب لا نِهايةَ لها

يا بَقائِي.. يا فَنائِي

مِن ِشَراييني سَأنسجُ لك الحرير

أرويك من قطرِ الماءِ ونسيم الصَّباح

زهرةُ كريستال ممهورةً بِلَمسِ الفَرَاش

أرسُمُها لِشفتيكَ

أُخبِّئُ ضَفيرتِي بينَ جَفنَيك

وأشياءً وهَبْتُها إليك

أهديكَ وطناً يُشبِهُني

وبعضاً من يقيني

لا تُفسِّرْ رَوحِي

فهيَ تُفسِّرُ كلَّ شَيء.. كلَّ شيء

موسومةً بِصَبرٍ لا يَشقُّه حَجرُ المَاس

ثورةُ وردٍ

مملكةٌ محصَّنةٌ بِطوقِ النُّجوم

لا تَمَّلك لا تَزول..

اللَّيلة مَولدُ السَّلوى مِنَ الفَرح

***

سلوى فرح - كندا

 

تَلاحى ما تَوطننا فحِرْنا

بنفسٍ لا توادِعُنا فتُهْنا

*

تَموّجَ طيفُها فسَطتْ وجارتْ

وعِشنا في تقلّبها كإنّا

*

مَساراتٌ إلى العلياءِ رامَتْ

ومنها كلّ سَيئةٍ عَلتْنا

*

كفاجرَةٍ وتَقواها خضيلٌ

إذا رَغِبَتْ أقالتْ ما أرَدْنا

*

مُحَجّبةٌ بأقنعةٍ كِذابٍ

لتوهِمُنا بأنّ الحَقّ فينا

*

تؤمّرنا وتَدفعنا لإثمٍ

وتَنهرُنا إذا شاءَتْ نُهانا

*

وما رَضِيَتْ وإنْ أبْدَتْ رِضاها

فما وُجِدَتْ لدَرْءِ الشرِّ عنّا

*

وما هَبطتْ ولكنْ إحْتوَتْنا

تُخادِعُنا وتُجْبرُنا فنعْنى

*

وما عُرِفَتْ ولا خَلقٌ وَعاها

كوَحشٍ في دياجيرٍ تَدانى

*

تُسوِّغُ جُرمَها حينَ اقترافٍ

وتَدْعونا لإدْمانٍ ضَمانا

*

إذا مَلكتْ سلوكاً إسْتشاطتْ

وأغْرَتْ كلّ مَنْ يأبى اسْتِكانا

*

وما ثبتَتْ على حالٍ خُطاها

تُقلبنا وقد ضاعَتْ مُنانا

*

تُساقِطُ هِمّةً والهمُ يَسري

ويُثقلنا بأوْجاعٍ عَيانا

*

تسطّحَ وعْيُها والغيبُ أدْرى

بأمْواجٍ تُرافدُ مُنْطوانا

*

ألا نَطقتْ بدسْتورِ افْتراسٍ

مِنَ الغابِ الذي منهُ انْطلقنا؟

*

فخالفْ مُشتهى نفسٍ تعدّتْ

وحاذِرْ أنْ تُبادلَها الأمانا

*

فهلْ ظهرت بَواعِثها وفاقتْ

وما رَكنتْ وأبْهجَتِ الكيانا

*

مأيّنةٌ وجَوهرُها ترابٌ

فلا تَعجبْ إذا جاءتْ مُشينا

*

تَسيَّدَ أمْرُها والعقلُ بُهْتٌ

يُبرّرُ فِعْلةً تَرْعى هَوانا

*

سلوكُ الخلقِ مَجبولٌ بنهجٍ

لنفسٍ ما بطيِّبةٍ ترانا

*

بمَنطِقها خرابٌ وانْسجارٌ

سيَحْرقنا ويمْحَقُ مُبْتغانا

*

أ مِنْ طينٍ بأبْدانٍ تَجَلّتْ

لتنشرَ في مَرابعنا أذانا؟

*

أتتْ سَكرى بأوْهامِ امْتلاكٍ

لمَخلوقٍ يُعانِقها زَمانا

*

وأشْرَتْ حينَ صَولتها وجارتْ

وأفنتْ ما بحَوْزتنا امْتهانا

*

تُهاجمُنا بشيْطانٍ رَجيمٍ

يُخادعنا بما ملكتْ يَدانا

*

ومِنْ بَدنٍ على بَدنٍ أغارتْ

وما أبْقتْ لنا فيها مَكانا

*

وحوشُ الغابِ ما بَرِحتْ نفوسا

مُشنّأةٌ تبعثرُ محْتوانا

*

وكمْ عَجزتْ رسالٌ ضَبْطَ نفسٍ

ولا أحدٌ إذا حَقّتْ هَدانا

*

دماءٌ في تَدفقها انْتصارٌ

كما شاءتْ بها نحنُ احْتربنا

*

مُقبّحةٌ مُبهرجةٌ وتَسْعى

كذا النفسُ التي فيها اخْتَبأنا

***

د. صادق السامرائي

19\2\2023

 

لولاها

لأطبقت

ولصرت أبحث

عنها أنفاسي

...

...

...

فمرحى لحروف

كانت نعم المواسي لها

*

حرف يربت على كتفها

وآخر يكفكف دمعها

وحين يشتد حصارها

نراه يحلّق في سماء خيباتها

بساط ريح

تنسجه حروف بيضاء

اتقنت دور المسعف

لحالات

وإن بدت مستعصيه

*

بعيون مغرورقة

وفم مشدوه

وبذهن شارد

تحاول أن تشهق

لكن

أنّى لها

وقد احتبست

فضاءاتها

آه أنفاسي المستباحة

***

ابتسام الحاج زكي/العراق

 

في كلِّ اتجاهٍ ترقُبٌ

في كل التفاتةٍ أُهبةٌ للتجلي

في كل وتر شاعر

القطاراتُ تسري في جسدي

في المحطات ينزلُ ويركبُ الكثيرون

دون أن يصلوا

أين ستبحثُ عن نفسكَ في المسرح؟

الضحيةُ غائبةٌ

الجاني تبخَّرَ..

الشاهدُ الوحيدُ كان نائماً

والسنجابُ في الشجرةِ المقابلةِ، كان نائماً

الأدلةُ في الشرفةِ لا تشي بشيءٍ

والمحققونَ أعلنوا مبكراً براءةَ القمرِ المستديرِ

للخروجِ من هذا الملفِ الشائكِ بموتٍ طفيفٍ

رَدِّد أيَّ أغنيةٍ

ازرع وردة للضحية

لا تصفق للجاني

ولا توقظ الشاهد

الأدلة ستشي بالقمر يوماً

أزرع وردة أخرى للضحية

ولا تنسَ أن تضعَ جوزةً للسنجاب

***

فارس مطر

نيرونُ في أنفِهِ

رائحةُ شِواءٍ

وفي عينَيهِ براكينُ وهاويةٌ

على قبرِهِ سَيفٌ

وعُودُ ثِقابٍ

والذِّئبُ النَّبيلُ

في عَقلِهِ لَوثةٌ

وعلى أكتافِهِ نُسورٌ جُوَّعٌ

وجماجمُ

ونجومٌ عطشى

أرادَ يَومَاً

أنْ يُطوِّعَ دُودَ الأرضِ

فصارَ هو الوليمةَ

عقاربُ في البَسيطةِ

تَسعى وتَلدَغُ

وعَقارِبُ الزَّمنِ

تقفُ لَحظاتِ صَمتٍ

لعلَّها تَنسى

(بول بوت) مَعذِرةً

أتحوَّلَ خَمرُ الخِمِّيرِ

إلى جِعةٍ

أم ما زال مِن الدِّماءِ بقيةٌ؟

بين (تيموجينَ) و(جنكيزَ) قاهرِ الكونِ

بِضعةُ مَلايينَ مِن الرُّؤوسِ

صارتْ إهراماتٍ تصرخُ

(نيسابورُ) خاويةٌ

لا أحدَ يبكي ولا أحدَ ينوحُ

(هولاكو)، أما زِلتَ تَجهلُ العَدَّ؟

كم رأساً صارُوا في بغدادَ؟

ولِمَ في دجلةَ زُرقةُ الحِبرِ

بالدَّمِ تمتزِجُ؟

مِن تحتِ أظافرِهِم

تنبتُ النَّوائِبُ

وفي قاعاتِ استقبالاتِهِم الرَّسميةِ

يضحكُ المَكرُ

وفي عيونِ المَوتى

تنبتُ شَتلاتُ رَيحانٍ

والتَّوابيتُ تُورقُ

أغصاناً وسلالِمَ مِن رياحٍ

ونجوماً لا تعرفُ خُموداً

وناراً مِن غيرِ رَمادٍ

ملكُ المَوتِ: سلاماً

بالأمسِ ماتتْ الشَّمسُ

وعلى النُّورِ قرَأنا الفاتِحةَ

عَفوَكَ، ملكَ المَوتِ

ما استطعْنا الانتظارَ فبادرْنا بالتَّحيةِ

وأنجزْنا على عجَلٍ

كُلَّ ما أُوكِلَ، وما لم يُوكَلْ إلينا

ولَبِسنا منذُ دُهورٍ

أطماعَنا مِن غيرِ خجَلِ

ورسمْنا بأيديْنا

تضاريسَ الفاجعةِ

على مَن نقرأُ سَلامَنا؟

على أصواتٍ بَكماءَ في التَّوابيتِ

أم على آذانٍ بها صَمَمٌ؟

ما عادتْ صُروفُ الدَّهرِ ولا النائباتُ تَعنيْها

مآثرُ في القُبورِ تَغفو

والمثالبُ مَكرُماتٌ

والذِّئابُ تعيثُ في الأغنامِ

والقومُ، يا سيِّدي

"لَهُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ يُبْصِرُونَ.

لَهُمْ آذَانٌ وَلاَ يَسْمَعُونَ"

***

جورج عازار - ستوكهولم السويد

 

الدوران في الحلقة

المفرغة

لا يجدي نفعا

ولا يفتح لنا طريقا

سالكا نحو

السعادة

فايامنا تمر تمر

مليئة بالحزن

بالشوك وبالعوسج

بالنار بالرماد

وبالغبار

واحيانا حيرة رمادية

تتلبس قلوبنا

واحينا اخرى

قلق شوكي اسود

فماذا ماذا جنينا

من الدوران

في حلقات العمر

الفارغة

غير الياس الحزن

وفقدان الامل

وغير انزلاقاتنا

صوب هوة

مظلمة سحيقة

اذن فلنتمتع بشموس

ايامنا الغير مستقرة

وبالمساحات

الخضراء

في حدائق ومروج

احزاننا ميممين

صوب حقول ومروج

احلامنا الخضراء

مغنين للشفق ا لازرق

للبرق للريح وللشجر .

***

سالم الياس مدالو

 

يَدوسُنا الخوفُ

ونَنتَظرُ

الوقوفَ على أعتابِ

الشَّهيقِ والزفيرِ

نلفُّ أيدينا

على خصرِ الحياةِ

لنُراقصها

نجلسُ على نافذةِ العمرِ

لتحديدِ مسارِ الطَّريقِ

ننتظرُ طرداً بريديّاً

على هيئةِ قصيدةٍ

قد تصلنا

كوجبةٍ معلَّبةٍ فاسدةٍ

من شاعرةٍ

أغواها الشّعرُ

ولم تغويهِ

أو شاعرٍ

يمسحُ بحروفهِ البلاطَ

لينامَ تحتَ جناحِ النّسرِ

وشاعرٍ

يتسكَّعُ على أرصفةٍ ليليةٍ

من أجلِ قصيدةٍ

من المشاعرِ المتقاطعةِ

وقد يجفُّ الحبرُ بضربةِ شمسٍ

في صحراءِ المعنى

الكلّ يسبحُ ضدَّ التيارِ

ومعهُ

إذا اقتضتِ المصلحةُ

وما زلنا ننتظرُ

حروفاً ناصعةً

على محطّاتِ الشّعرِ والنّثرِ

تشي بشاعرٍ

لا يغرقُ بنقطةِ حبر

***

سلام البهية السماوي

 

Immigration

مع ترجمة الدكتور يوسف حنا - فلسطين.

***

كلما أممنا البحر

هاربين من جحيم البغايا والصيارفة..

من خدع المهرجين ورماد المعنى.

هاجمتنا قافلة الدموع والنوستالجيا.

رفقا يا عمنا إسرافيل

الريح

تضرب قاربنا بعصاها الغليظة

مثل خادمة مقوسة الظهر

تلسع جباهنا بنبرتها الرجيمة

خذها بعيدا في سيارتك الليموزين

لتذرنا نتطوح في عرض البحر

تربكنا نواقيس المياه

رقصة التابوت في الأفق

زعانف السمك مناديل عزاء.

يا عمنا إسرافيل

يا ملك الرياح البراقماتي

فقدنا مصابيحنا في قاع النص

ومن صلصال أيامنا اللزجة

صنعنا جرارا

ثم ملأناها بالعرق والدموع

وكلما مر ملاك من هنا

آملين حملها إلى الله

طاردته كلاب سلوقية.

الخفافيش وبومة الحظ العمياء.

السحرة بأسمال مرقعة

وعيون أفاعي المامبا.

إنتظرناك طويلا يا عمنا إسرافيل

لتحملنا في سيارتك الفاخرة

إلى الفردوس الموعود.

لا استوى المعنى على سوقه

ولا انكشفت مستدقات السجف.

***

بقلم فتحي مهذب تونس

................................

Immigration

By Fathi Muhadub / Tunisia

From Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

Whenever we lead the way to the sea

Escaping from the hell of prostitutes and bankers,

From clowns’ deceptions and ashes of meaning,

The convoy of tears and nostalgia attacked us.

Mercy us, Uncle Israfil (1)

The wind

Hits our boat with her big baton

Like an arched back maid

Who stings our foreheads with her accursed tone

Take it away in your limousine

To carry us away wandering at sea

Water bells confuse us

Coffin dance on the horizon

Fish fins condolence wipes.

Oh, Uncle Israfil

Oh, pragmatic king of winds

We lost our lamps at the bottom of the text

And from the clay of our sticky days

We made jars

Then we filled it with sweat and tears

And whenever an angel passes by,

Hoping to carry it to God,

Greyhounds had just chased him,

Bats and blind luck owl,

Witches in patchwork rags

And the mamba snakes' eyes.

We have been waiting for you for a long time, Uncle Israfil

To carry us in your luxury car

to the promised paradise.

Either the meaning was not straightened up in its context

Nor the mysterious subtleties were not exposed.

***

..............................

1Israfil: is one of the four Islamic archangels, who blows into the horn to signal and to announce the Day of Resurrection (the Day of Judgment).

عَدُوُّ الإنسانية!

تُفٍّ على ذاكَ الأوْرَهْ

الحَدَث العَوْرَةْ

التافِهُ حتى أَبِيهِ

الأَحْنَى جُفْرةْ!

*

تُفٍّ ..على ذاك الوَزَغ ِ

أمير العَضْ !

الضالُّ...

عديمُ الجدوى...

عدو الإنسانيةْ !

اللاهِثُ

خَلْف نِعال (البيت ِالأبغضْ)

باسم ِالوَهْمِ الأعرضْ

والشَّــــــــــرْ..عيةْ!

***

لها..لها!

قَوَّادُ آل الزِّفْتِ

والطاغوتِ

والإجرامْ

ليس لها مقامْ !

*

لَهَا..لها

مطابخٌ

مسالخٌ

مشائخٌ ..حَاخَامْ !

حبائلٌ

معاولٌ

كمائنٌ..أقزامْ!

دوافعٌ

مَدَافعٌ

مخازنٌ..ألغامْ!

*

لها..لها

دراجةٌ ناريةٌ

بوابةٌ خلفيةٌ

علاقةٌ نَفْعِيَّةٌ

تَربِطها

بـــ(الحَزْمِ).. و(الحِزَامْ) !

*

جماعةٌ آسِنَةٌ

قد أَعرَقَتْ مَأْسَنَةً...

صهينةً...

بادية الخفاءِ للعَوَامْ!

هل تَرْعَوي عن غَيِّهِا

وتَنْشد السلامْ؟!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي – اليمن

إِذَا الــنِّيَّاتُ مَــا كَــانَتْ سَلِيمَةْ

بِــعُمْقِ الــنَّفْسِ رَاسِخَةً مُقِيمَةْ

*

وَحَــرَّكَهَا  رَغَــائِبُ عَارِمَاتٌ

بِــنَفْسٍ فِــي طَــبِيعَتِهَا لَــئِيمَةْ

*

فَــتَسْعَى خَــلْفَ حَــاجَتِهَا بِجِدٍّ

وَلَــمْ تَــلْجُمْ مَــطَامِعَهَا شَكِيمَةْ

*

تُــغَيِّرُ لَــوْنَهَا كَــالْغُولِ دَوْمًــا

وَقَدْ تَرْضَى الْمَهَانَةَ وَالشَّتِيمَةْ

*

فَــتُبْدِي  الوِدَّ وَالْأَشْدَاقُ جَذْلَى

وَفِــي  الْأَعْــمَاقِ أَحْقَادٌ قَدِيمَةْ

*

وَرُغْــمَ الــشُّحِّ مَوْرُوثٌ لدَيها

لِــكُلِّ صَــغِيرَةٍ جَــعَلَتْ وَلِيمَةْ

*

لِــتُــوَهِمَ أَنَّــهَا تَــسْعَى لِــخَيْرٍ

وَأَنَّ طِــبَــاعَهَا حَــقًّا كَــرِيمَةْ

*

إِذَا انْــقَطَعَ الــرَّجَاءُ بِنَيْلِ نَفْعٍ

لِــسَابِقِ عَــهْدِهَا عَادَتْ حَلِيمَةْ

*

فَــمَنْ يَــسْلُكْ طَرِيقًا فِيهِ رَيْبٌ

عَــوَاقِبُهُ وَإِنْ سَــلِمَتْ وَخِيمَةْ

*

خِدَاعُ النَّاسِ لَا يَعْنِي انْتِصَارًا

طَــرِيقٌ فِــي بِــدَايَتِهِ الْهَزِيمَةُ

**

عــبد الناصر عــليوي العبيدي

ملاحظة: هذه قصيدةٌ منزوعَةُ الوَزنِ، فَحُكّامٌ مُنقَلِبونَ مُتَقَلِّبونَ لا وَزنَ لَهُم. لا يَستَحقّونَ وَزنًا في القَصيدة.

***

أحذِيَةْ... أحذِيَةْ

أنا الزَّعيمُ العَربيُّ ماسحُ أحذِيَةْ

أنا الزَّعيمُ ماسحُ أحذِيَةْ

أمسَحُ أحذِيَةَ الغَرْبِ بالمجّانْ

بِعِقالي...

بِأطرافِ عَباءَتي البَيضاءْ

أمسَحُ للغَربِ الأحذِيَةْ

أنا المصبوغُ وَجهي بِأقذَرِ الألوانْ

أصبغُ كُلَّ الأحذِيَةْ

بِالكازِ أمسَحُ.. بِالبِنزينْ

بِالدّولارِ

فِئَةِ العشرةِ وَالخَمسينْ

أمسَحُ أحذِيَةْ....

بِثَدْيِ امرأةٍ مُرضِعٍ

بِعُمرِ الصِّغارِ.. أمسَحُ أحذِيَةْ

بِسَجّادَةِ صلاةِ الفَجرِ

بِجُلودِ نِسائِنا السَّمراواتِ

أمسَحُ أحذِيَةْ

بِسَيفِيَ المسلولِ ذُلًّا

بِعَلَمٍ يُرفرِفُ خِزيًا في بُحورِ النَّقصِ

أمسحُ أحذِيَةْ.

يا زُعَماءَ الغَربِ

يا أسيادي!.. يا أسيادي!

هاتوا النَّعلَ أُقَبِّلُهُ!

هاتوا كُلَّ الأحذِيَةْ!

فَلِساني مَشقوقٌ مَمدودْ

يَكفي كُلَّ الأحذِيَةْ.

*

أحذِيَةْ.. أحذِيَةْ...

هُنا في قَصرِي الـمَلَكِيِّ

أمسحُ أحذِيَةْ

ورُموشُ عَيني أغرِزُها عَلى الحدودِ

تَمنَعُ العَرَبيَّ المقهورَ دَوْسِ بلادِي

لكنْ بِلَحيَتي المصبوغَةِ بالحِنَّاءْ

أمسحُ أحذِيَةْ

*

اِصطَفّوا مِثلي يا أولادي

قولوا بَعدي:

"يا أسيادي.. يا أسيادي

يا حُكّامَ الغَربِ

بِماءِ وُضوئي

بِنَخيلٍ أورَثَهُ أجدادي

أمسَحُ أحذِيَةَ القُوّادِ"

*

قد قَرَّرْنا

في مَجلِسِ الشّورى النَّتِنْ

هذي السِّياسَةَ للوَطَنْ

بِالمجّانِ.. بِالمجّانِ...

نَمسَحُ كُلَّ الأحذِيَةْ

نَلعَقُ عَنها أيَّ غُبارٍ..

أيَّ دَمارٍ..

أيَّ سَرابٍ..

أيَّ عَفَنْ..

***

د. نسيم عاطف الأسدي - فلسطين

 

كانت الأزقة الضيقة، والمتعرجة في ضواحي العاصمة الصاخبة، تفتقر إلى مجاري الصرف الصحي، ومنظمة لتصريف المياه. ما إن هطلت الأمطار الغزيرة، والمتواصلة في منطقتنا، حتى أصبحت الشوارع الفرعية المزدحمة مستنقعات موحلة؛ جعلت من السير على الأقدام أمرًا مستحيلًا، وتعذر المرور فيها، ولكن الأمر كان مختلفًا تمامًا مع أستاذ فاضل مدرس الجغرافيا، عندما كنت أدرس في المرحلة الثالثة المتوسطة.

كان أستاذ فاضل رجلًا نحيلًا كعصا الخيزران، يمشي بخطوات ثقيلة. شعره الأسود الكثيف كان دائمًا مصفف بعناية، ويبرق في الضوء. ملامح وجهه القاسية، برز في وسطه أنف طويل، وعينان سوداوان تنظران بحدة إلى ما حوله. كان يتحدث بصوت خافت، وواثق، ولا يحب الجدال، والنقاش مع طلابه.

كان هذا المشهد من أغرب ما رأيت في حياتي، عندما دخل الدرس بأناقة تامة دون أن تتسخ ملابسه، حتى حذاؤه كان نظيفًا للغاية، مع أن شارعهم كان غارقّا بالماء والطين. انتابنا دَهشُ من هول ما رأينا، ورحنا نتساءل: فيمَا لو جاء إلى المدرسة محلقًا. فهو لم يملك أجنحة، ومنزله يقع في نهاية الزقاق.

وبطبيعة الحال، لم تكن هذه العملية سهلة؛ لأن البحيرة كانت ساكنة، واستغرق اختراقها وقتًا طويلاً، وهو لم يكن رياضيًا، بل نحيفًا نوعًا ما، ورقبته بارزة مثل الديك الرومي، ووجهه مملوءًا بالتجاعيد، والأخاديد، حتى بدا للناظر أكبر سنًا بكثير من جيله.

كان أستاذ فاضل في منتصف الثلاثينيات من عمره، عَزبُ. وصفه الطلاب ب«التلميذ المُوَاظِب»؛ لأنه كان يعتمد فقط على ما يجده في الكتاب المدرسي، ويحفظ المادة كاملة، ولا يبتكر، أو يختصر شيئًا؛ فمفرداته كانت محدودة؛ بسبب افتقاره إلى ثقافة عامة، وذوق قراءة الكتب الأدبية. لم يكن بميسور أستاذ فاضل تبسيط المادة بأسلوب جذاب، وعبارات متناغمة تحفز الطلاب، وتدخلهم في أجواء الدرس. كان يغفل عن التطوير الذاتي والإبداع، في جعل درس الجغرافيا درسًا مفيدًا وممتعًا، وليس موضوعًا جافًا، ورتيبًا ينفر الطلاب منه.

ونظرًا لعدم وجود مدارس كافية لاستيعاب تدفق الطلاب، قررت الوزارة تنظيم نظام يساعد في حل الأزمة: تضمن هذا النظام، تقسيم ساعات العمل الدراسي إلى مرحلتين. مرحلة صباحية: تبدأ من الثامنة إلى الثانية عشرة، ومرحلة بعد الظهر: تبدأ من الثانية عشرة إلى السادسة عشرة.

تبادلت المجموعتان الدَّوام الصباحي، وبعد الظهر خلال الأسبوع. كان الدَّوام بعد الظهر مملًا للجميع، بما في ذلك المدرسين، ولا سيما في الساعات المتأخرة.

كان عمار طالبًا مشاكسًا في شعبتنا، ويميل إلى استفزاز الآخرين بطرائق خبيثة. في أحد الأيام، وبالتحديد يوم الخميس بعد الظهر، صادف فصل الجغرافيا أن يكون الدرس الأخير في ذلك اليوم، وبدا على ملامح استاذ فاضل التعب والإرهاق بعد عمل طويل في الصفوف الأخرى.

بعد القيام والقعود، التقط استاذ فاضل التباشير، وكتب بخط عريض على السَّبُّورَة "المناخ وتأثيرات غابات الأمازون". خلال شروعه في تقديم المادة، أخذ عمار يتصرف بطريقة مقرفة، ومثيرة للاشمئزاز عندما بدأ عمار بفتح كتاب الجغرافيا، ويبحث فيه، ويدقق في كل كلمة وحرف، ويقارن كلمات الكتاب بالكلمات التي تخرج من فم الأستاذ فاضل.

بمجرد أن انتهى من شرحه، ضحك عمار، وقال له بكل وقاحة:

ـ أستاذ، لم أجد خطأً واحدًا في درس اليوم، حتى في حروف الجر، قلت علّك تخطأ في كلمة "في" وتقرأها على أنها "على"، لكنك لم تفعل.

فأجاب أستاذ فاضل والغضب على محياه:

ـ كيف تريدني أن أشرح الدرس؟ هل أختلق الكلمات من نفسي مثلًا؟ هل تريد مني أن أغير من جغرافية العالم؟

قال عمار بخبث:

ـ قلت: بدلًا من تحضير المادة في البيت، نستطيع قراءته في الصف من الكتاب.

قال أستاذ فاضل:

ـ دعنا نرى في الدرس التالي، إلى أي مدى يمكنك شرح الموضوع بطريقتك الخاصة يا عبقري؟

بعد أن حصلت على فرصة لتقديم مادة الدرس، وجدت نفسي أمام جميع الطلاب. شرحت المادة بنفس طريقة الأستاذ فاضل؛ لأنني كنت مقتدرًا أن ألقى المحاضرة عن ظهر قلب. أثنى الأستاذ فاضل عليَّ بسخاء أمام الصفّ كلّه، ربما نكاية بعمار.

قال عمار ساخرًا:

ـ خوش استنساخ.

بعد انتهاء الدرس خرج استاذ فاضل، وعلامات التشنج كانت واضحةً على ملامحه، في حين عمار تملكه شعور الزهو، ولم تغادر تلك الابتسامة المتهكمة من على شفتيه العريضتين، وظهور أسنانه الأمامية.

قلت له:

ـ عمار، كيف تتكلم مع مدرسك بهذه الطريقة؟

قال وهو يرفع يده، ويمدها نحوي:

ـ دروح أنت هَمْ دراخ مثله.

وفي الدرس القادم، دخل استاذ فاضل إلى الفصل، وكان مزاجه متعكرًا، ووجهه جامدًا، وخاليًا من أي تعبير لطيف، مع أنّه كان أنيقًا كالعادة ببدلته الرصاصية، وقميصه الأزرق، وحذائه الأسود، وربطة عنقه المخططة بخطوط بيضاء. بعد أن كتب عنوان الدرسِ على السَّبُّورَةِ، طلب استاذ فاضل من عمار أن ينهض من مكانه ويتقدم إلى السبورة، ويشرح درس اليوم، ولكن عمار لم يكن مستعدًا للدرس، أو ربما لم يكن يتوقع ذلك أن يكون فريسةً شهية للأستاذ فاضل.

قال:

ـ أستاذ، أنا لم أستعد لدرس اليوم.

غضب الأستاذ فاضل وقد تغضن وجهه وقال:

ـ هل إمكاناتك الهابطة تقتصر فقط على الاستهانة بمدرسك يا فاشل؟

وبعد ان نطق استاذ فاضل كلمة فاشل بنبرة مملوءة بالحقد، دفع بكلتا اليدين عمار معبرًا عن غضبه، إلى زاوية الغرفة القريبة من الباب الذي كان موصدًا، وصرخ به صرخة طويلة مزلزلة، بثَّ في نفسه الرعب، أخذ يوجه إليه اللكمات، والركلات، والشرر يقدح من عينيه، وشرارة الحَنَق تتطاير كانشطار شظايا الصاروخ، تصب على عمار كصعقات الرعد.

بينما كان عمار يخفي رأسه بين ذراعيه، صرخ بأعلى ما في جوفه من صوت، مخترقًا  حناجر الحاضرين؛ بسبب الألم الذي أحاط بجسده. لم يتوقف أستاذ فاضل عن ضربه؛ فاختل توازن عمار عندما ارتطم رأسه بالحائط، وخرَّ على الأرض. كنت أنظر إلى استاذ فاضل، وكأنه في مبارزة فعلية، ولم يندم على فعلته قيد شعرة، بل قال مؤشرًا بسبابته:

ـ روح وين مَتريد تشتكي، روح اشتكي. هاي گدامك وزارة التربية، انعل ابو اللي يفزعلك.

ثم صرخ به:

ـ روح انجطل في مكانك يا حيوان.

نهض عمار، وقصد مقعده الذي كان خلف مقعدي. ظل صامتًا حتى انتهى الدرس. الغريب في الأمر أن أستاذ فاضل لم يترك على وجه وجسد عمار أي أثر لكدمات أو جروح، على الرغم من كل هذا الضرب المبرح؛ فالشيء الوحيد الذي كان بارزًا هو: إن  وجهه فقط كان شاحبًا ومتوترًا، وهذا  ليس من قوة اللكمات؛ وإنما من الفزع، والذعر.

قلت له بعد انتهاء الدرس ساخرًا:

ـ أعتقد أن أستاذ فاضل كان يتمرن بشكل جيد خلال أيام الأسبوع، في اختيار اللكمات بعبقرية؛ لأنه كان بارعًا جدًا في توجيه الضربات إليك بطريقة محترفة، بحيث لم يترك وراءه أي دليل، لإدانته، لا زرقة، ولا تورم.

إذا قارنا هذا الضرب القاسي، على الرغْم من إفراطه، وهو أمر غير مقبول من مربي فاضل؛ لأنه أسلوب وحشي وغير إنساني، إلا أن درجة عنفه لا تضاهي قساوة الأجهزة الأمنية البعثية، وخاصةً في دهاليز قصر النهاية التي هُدِّمَت بعد قيام الجبهة الوطنية في بدايات السبعينيات، وسُميت البناية باسم قصر النهاية؛ بسبب بشاعة التعذيب الجسدي فيه حتى الموت. كان القصر تحت إشراف مجرم العصر ناظم كزار الذي قتله صدام شخصيًا - يقال - "إن صدام القى به في حوض مملوءًا بالتيزاب، حتى ذاب عن بكرة أبيه، بعد محاولة انقلابية فاشلة قادها ناظم كزار". اقتيد الشيوعيين من قبل أزلام النظام، إلى غياهب هذه الأقبية المظلمة.

انتاب عمار شعور النفور، والاحتقار من الأستاذ فاضل، بعد أن ضربه بطريقة قاسية أمام زملائه، وفي نفس الوقت، كان أستاذ فاضل يتجاهله، ويتجنب النظر إليه، وكأنما لم يحدث شيء.

ساور عمار الشكوك حول سلوك أستاذ فاضل تجاهه الذي اعتقد أنه كمين نصبه له، لذلك احتاط عمار الحذر كي لا يفاجئه في غفلة منه ويسأله عن الدرس. كان عمار في أتمّ الاستعداد ـ اقدر اقول ـ إلى أقصى درجة، بحيث كان يبذل جهدًا إضافيًا في تحضير المادة، ويحفظ كل شيء بالحرف.

***

كفاح الزهاوي

..................

* مقطع من روايتي القادمة منعطف الرحلة في الزمن الصعب

والدي ليسَ كسائرِ البَشر، أوحىٰ إليّ أن أقرأ، كالأنبياء، فابتدأَ كلُّ شيء، بعده.

**

2

عندما كثرَتْ أخطائي، وجدتُني مُضطرّاً أن أُعيدَ الحِساب، ولمَا لم أجدْ ما أقوّمُهُ، ابتدأتُ من جَديد، بالأخطاءِ ذاتها.

**

3

استطاعَ كتمانَ علاقاتِهِ المُنحرِفة، بجدارة، ولما ثقُلَ حِملُها، قرّرَ التوبةَ، فانفضَح.

**

4

كانَ دائما في الأمام، لم يقُلْ ذلك، عرَفتُ هذا، من توالي الطعنِ، في ظهرِه.

**

5

أنا أفكرّ، أنا أكتُب، أنا أُحبّ، أنا ...، إذن أنا موجود، لماذا نحنُ في الوجود؟ أصلاً.

**

6

تابَ، أبدلَ الكأسَ بالعِمامَة، لا أدري، في أي جانبٍ، تكمُنُ الذُنوب.

**

7

رمَتْ ورَقةً بين قدَمَيْ، عُنوانُها، لعلّها مُخطئة، أجهَلُ جُغرافيا النساء.

**

8

انتصَرتُ في الحَرب، على نفسي، بخَسائرَ فادِحة، أدركُ أني سأبحَثُ عن تعويض، لاحقاً.

**

9

لم أدركْ جَدّي، لم أعرفْه، رحَلَ قبلَ أن أفطَن، ورغمَ ذلك، أكيلُ لهُ المديحَ، دائماً.

**

10

تعوّدَتِ الابتسسام، تلكَ ايماءةٌ بلا مشاعِر، كلَ ما تتمّنىٰ، أن تنجَلي المعرَكة، بالكثيرِ من الغَنائم، على جَسدٍ بلا حياة.

**

11

نظَرَ إليّ بغَيْظ، كانَ في عَينَيهِ شيئٌ مُخيف، أردتُ أن أغادر، نظرتُ حولي، لا أحَد.

**

12

قفزتُ على الحَبل، لابدّ أن أصِلَ الى الطرفِ الآخَر، بحَذر، لا يحكمُ خُطواتي قانونُ الجاذبية، بل قانونُ الهِجرة.

**

13

أينَ اختَفَتْ أوراقُ التوت، سُؤالٌ بريء.

**

14

أسمَعَها أجملَ الشِعْر، أعذبَ الكلام، طافَ بها الدُنيا، كانَ فمُها الهدَف، ولم يُفتَحْ.

**

15

السنينُ التي عبَرَتني، كثيرة، كسَرتُها، أعدتُ بناءَها، لأصنعَ منها قَفَصاً، لا يسعُ غيري.

**

عادل الحنظل

هيا انتشِ، فرحاً ولم تكُ جاهما

فلقد رأيتكَ منذ دهرٍ باسما

*

ماذا دهاك وفي فؤادك طفلة

غجريةٌ تلهو وترقص كُلَّما

*

غنى الجمال تألقت حركاتها

أنّى كبرتَ تربّعتك مواسما

*

كم قد عشقت من النساء نواظرا

وكم اكتشفت من العناق عوالما

*

قد كنت في جيد النساء تميمة

حقّاً وكنَّ على شقاك تمائما

*

الآن غرّبك الزمان وسافرت

فيك الدروب تقاسمتكَ تقاسُما

*

يا أيّها المُدمى الغريب أما ترى

موت الخطى والنادبات هَوائِما

*

أين الحبيب وأينَ أينَ أوانه

فقد استبدَّ به البعاد  مُسالِما

***

شعر/ شلال عنوز

بأحضان كفي وليد جروح من صلبِ زمنٍ تعرى عن جذوةِ ترابه مخاضَ عقوق، أنسلَ روح توهج من دمع الشجر بعناء هنيهة لأشلاء العصور، فارتد لقيط ضوء بعتمة النسب كهرمان قلائد؟..، ربما انسلخَ من أحشاء طحلبية الشجن خديج كهرب ؟، فانزلق مواربا لأنين جذوره منذ ألف عام من لوعة تجاهل، وحينما فتَنتّهُ بداهة ريح تناثر فتنة عنبر من وريد صنوبريِّ العروق بجواهر وديعة معتقة براتنج الوجع، يا لسحر لمعانهِ التليد الموشى بتبرٍ روحيِّ المعشر، متسربلا أنفاس مسبحتي حين سدوله الأشقر بين برازخ يدي، خرزة ..خرزة، بتلابيب توق متغرغرة التيمم، حتى تهادى مع نيازك مشاعري ثمالة عاشق أبكمه غزلان تهجد أيكة الحواس، فتوسد راحة بالي بريق صمت ونيف من صدى ندوب الأماكن، تحتضنها توأم لهفتي  مرساة روح بغواية فرائض،فكم من شروخ للطبيعة ترممها أمومة الزمن براءة تعرية، وكم من ركامات زمنٍ يُضمدها نزق الطبيعة بعناق بعض من ذاكرة احجار كريمة .

***

إنعام كمونة

أيتها المضيئةُ

مثلُ سنبلةٍ ناضجةٍ

الغافيةُ

على ذراعِ نهرٍ

لقد حان وقتُ اقتطافِكِ

متى تمدين يدَ الوصلِ

اتشظى حبًّا

للحظةٍ

هاربةٍ من يدِ المستحيلِ

لقد داهمتني الآلامُ

وصفعتني

يدُ الزمنِ

وأنتِ

تُعيدينَ

أسطوانتَكِ

وأنا مجبولٌ على الانتظارِ

هلا فتحتِ لي بابَكِ

المواربَ

فثمةٌ شوقٌ غاضبٌ

يتسللُ من حيثُ

تتهادى الأنهارُ

فارفعي الحُجُبْ

وامسحي بيديكِ

ما يلوحُ على جبهتي من تعبْ

فأنا مازالتُ ذلك الولد الشقي

الذي يموتُ انتظارا

لخطواتِ امرأةٍ

تنير عوالمي

ثمُّ تغيبُ بانتظارِ

عامٍ جديدٍ

ايتها المرأةُ التي

لا تعرفُ سبيلًا إلّا للقلبِ

***

د. جاسم الخالدي

 

إلى منذر عبد الحر وغنائه السري

ميمٌ …

نونٌ …

ذالٌ …

راءْ …

" سِرّياً سيكونُ الغناءْ "

والبوحُ والنزفُ والبكاءْ

وهكذا يا صاحبي

هكذا يا " مُنذر عبد الحُرْ " .

هكذا أَبدأُ النشيدَ

وهذا النشيجَ

الذي كانَ مختزناً

في القلبِ

والنفْسِ والذاكرةْ .

هكذا أَبدأُ …

انشودتي الهادرةْ

يا شاسعَ الرؤيا

وناصعَ الروحِ

وحافظَ الأَسرارْ

والرؤيةِ الآسرةْ

*

ياطاهرَ الرحْمِ

وشاعرَ الحُلْمِ

وفاتحَ الأبواب

ومُشْرِعَ النوافذ

على فضاءِ الأملْ

كنتَ وتبقى ناصعاً

واليماماتُ الأَليفةْ

والفراشاتُ الشفيفةْ

في قلبِكَ الحنونْ

وحضنكَ الدفيء

وفوقَ رأسِكَ الفضّيِ

هيَ تهدلُ …

وهيَ تنزفُ …

وفي المدى نافرةْ .

*

ويا " مُنذرعبد الحُرِّ ".

يا مَنْ جُبِلْتَ

من ماءِ (شطِّ العربْ)

وطينِهِ (الحرّي)

وقلبِهِ النقيِّ

لا يعرفُ الكَذِبْ،

ولا المياهَ الماكرةْ .

*

ويا أَيُّها الطائرُ والشاعر

الذي لا يشبهُ إلا نفسَهُ وشِعرَهُ وحياتَهُ

التي عاشَها وتنفَّسَها ؛

حُرّاً ، أَصيلاً ، صادقاً،

وهوَ لايخلعُ صاحبَهُ ،

مثلما يفعلُ

(صعاليكُ الخارجِ)

المُلوّثو السِيرةِ

والنوايا والنصوصِ

والرؤوسِ الكافرةْ .

*

و"مُنذرُ عبد الُحر".

نهرٌ من الطفولةِ

وعُمْرٌ من الرجولةِ

وسادنُ الصحائفِ

والقصائدِ والأماسي والحكاياتِ والكؤوسِ

والطرائفِ والذكرياتِ

والأَغاني والدموعْ الطاهرةْ .

*

و ابنُ " الحُرِّ "،

طفلُ "البصرةِ "

والقلوبِ النقيَّةِ

وفتى الفكرةِ

والوجوهِ البهيَّةِ

وعاشقُ بساتينِ

" أَبي الخصيبْ "

ونخيلِ " الزبيرِ "

وسمائهِ المُتلألئةِ ؛

بنجومِ الليالي

وتواريخِ الجنوبِ

وأسرارِ الصبايا

و " الغناءِ السرّي "

والزرقةِ الساحرةْ .

*

ويا " مُنذر عبد الحُرِّ " ،

الذي قَدْ أَنجبتْكَ

أُمُّكَ " البَصْرِيَّةُ "

ذاتَ يومٍ صيفيِّ

ليسَ كمثلِ الأَيامْ

فكنتَ الحرَّ والشِعرَ

ونهرَ المحبَّةِ

وضوءَ العشقِ

وموّالَ الحزنِ

ومعزفَ " إسرافيلْ "

ومُنذرَ " كَلكَامشَ "

أَنْ لا يفقدَ عشبتَهُ

أَو إكسيرَ شبابِهِ

في رحلتِهِ الخاسرةْ

وأَنْ يُحاذرَ الوحوشَ

والسُمومَ

والأَفاعي الغادرة

*

فيا "منذر عبد الحُرْ" ،

سلاماً لكَ ،

يومَ ولِدتَ

ويومَ عشْتَ

في البلادِ الجريحةْ

والفنادقِ العجيبةْ

والباصاتِ الليليّة العتيقةْ

والغرفِ التي لا تكتمُ

اوجاعَ البكاءَ المُرْ

ولا الهواجسَ

ولا الوساوسَ

ولا الأَنينَ ولا الحنينَ

ولا أَيَّ مصيرٍ أَو سِرْ

فسلاماً يا " مُنذر عبد الحرْ"

سلاماً عليكَ

وعلى روحِكَ الجنوبيةِ الشاعرةْ

***

سعد جاسم - كندا

2024-5-15

 

طيورٌ قادها طيرٌ أثيمُ

لعاديةٍ فأضْحَتْ لا تريمُ

*

قوادِمَها توارتْ كالخوافي

فدامَتْ في مَذلتها تَهيمُ

*

عَصافيرٌ تعالتْ في فضاءٍ

وفي عَليائها لا تَستقيمُ

*

تَناحَرتِ النفوسُ بمُشتَهاها

فأوْجَعها المُصاحِبُ والغَريمُ

*

بها العلياءُ تقتتلُ الضحايا

لأطماعٍ يؤجّجها الخَصيمُ

*

فما هدأتْ ولا يوماً تآخَتْ

وقائدُها إذا حَقتْ لئيمُ

*

بفردٍ إنْ أرادتْ مُبْتغاها

تولاها وإن رفضتْ ذميمُ

*

نفوسُ الخلقِ مِنْ تُربٍ وماءٍ

وإنّ الطينَ متّهَمٌ سَقيمُ

*

وألبابٌ يُعَطّلها ضَلالٌ

ويَجْعلها بغابرةٍ تقيمُ

*

وكرسيٌّ على الأقوامِ يَطغى

يُبلدها وإنْ شاءَتْ يَضيمُ

*

تواصَتْ مِنْ نواكبها بغدرٍ

وإنّ الشعبَ مِن رُعُبٍ سَجيمُ

*

تشظتْ أمّة التوحيدِ حتى

تنامى في مَواطنها الأليمُ

*

بأفكارٍ من الأغرابِ جاءتْ

يُعضّدها المفكّرُ والعليمُ

*

فهلْ غنِمَتْ أعادينا عُقولا

يطبّعها التخاذلُ والجَحيمُ

*

ألا تبّْت يدا المَرعوب تبا

أرانا في مَواجعنا نقيمُ

*

سِلاحاً ما صنعنا فانتهينا

كأتباعٍ يوجّهنا العقيمُ

*

ألا عِشنا بأندلسٍ كبارا

وشعشعَ فكرنا فنأى الهزيمُ

*

أباة العزّ يا أسسَ المَعالي

تعالوا نحوَ واثبةٍ تُديمُ

*

تراثٌ في خزائنهمْ أسيرٌ

وجَمعٌ في مَحافلنا كظيمُ

*

تداهِمنا الرزايا والمَنايا

نوازلها يرافقها الوخيمُ

*

فما عَرفتْ جموعٌ ما أرامَت

كأنّ وجيعَها منها النعيمُ

*

وأسفرتِ الخطايا عن وحوشٍ

تحاوطنا ومنّا المُستريمُ

*

خياناتٌ بها الآفاقُ ضجّتْ

وأعوانٌ لقاضيةٍ تضيمُ

*

مفاهيمٌ من الخذلانِ تُسقى

تفرّق أمةً فطغى الزعيمُ

*

هي الأوطانُ لا تخضعْ لغزوٍ

إذا رُزقتْ رجالا لا تهيمُ

*

تماسكتِ الشعوبُ بإعْتصامٍ

وما انفردتْ بها قومٌ تسيمُ

*

إلينا آية التوحيدِ جاءت

لترشدنا ويحدونا الحليمُ

*

تحدّى أيّها المَكنونُ فيها

وجاهدْ أنتَ مُنتَصِرٌ عَظيمُ

***

د. صادق السامرائي

24\\2\2024

 

ما ان اغلق مزلاج الباب حتى وجد نفسه في الخارج،  والعالم امامه يزدحم بالحركة التي تبدو احياناً تعيش على إيقاع متناغم، واحياناً تسود فيه العشوائية .. كما يزدحم بكتل آدمية تتحرك وحركتها تشكل عوالم بعضها معروف في الشكل ومألوف بكل تفاصيله عدا دواخلها المبهمة، فضلاً عن الرؤوس التي يعتليها شعر كثيف وتتقدمها عيون ترصد الحركات وتكتفي بنظرات لا احد يعرف مغزاها وأفواه تثرثر وتقهقه وبعضها يبدو لا يعرف غير الصمت والشك .. هذه الامرأة ربما تكون مومساً، وربما يكون هذا الرجل مخبولاً وذاك متصابياً أو نزقا، فيما تتوزع العقول في الرؤوس بين صغير العقل وبين لا شأن له بعقله ويستعيض بغرائزه التي تدله على حاجاته ..

هو ذا المشهد الذي توزع امامه في تلك الأمسية وهو يغادر شقته المطلة على نهر الدانوب، ذلك النهر الأزلي الذي يتسلل عبر مرتفعات (كالمبيرغ) وسفوح غاباتها الرائعه.

لم يستطع تحديد وجهته، نحو المدينة الصغيرة المسكونة بالسكارى أم نحو النهر؟ سحبته قدماه صوب النهر لكي يحصل على شيئ من الهدوء .. وحين بلغ حافة الغابة حيث المنحدر، اطل على جرف النهر وكان صيادان يعتمران قبعتين ويلبسان بنطالين اعتاد صيادوا الاسماك ارتدائها .

قرر الجلوس بالقرب من احدهما على صخرة بعد ان أدى لهما التحية .. وبكل احترام حياه الصيادان برفع قبعتيهما .

انتظر، حتى اصطاد احدهما سمكة، وبعد أن انتزع الصنارة من فمها سال الدم قانياً .. عندها اخرج الصياد مقياساً فقاس السمكة ثم أعادها إلى الماء .

قال له بفضول، لماذا اعدتها الى الماء؟

اجابه الصياد بإبتسامة عريضة .. من أي بلاد انت ايها السيد؟

انا من العراق،

نعم، بلاد ما بين النهرين، وحضارات بابل وأكد وأشور وسومر.

أجيبك على سؤالك، لدينا قانون يحذر صيد السمك الصغير إذا كان طوله خمسة عشر سنتمترا ويجب ارجاع السمكة الى الماء .

فرد عليه، ولكن لا احد يراك، وتستطبع ان تأخذها معك الى البيت.!!

ابتسم الصياد وزميله، وقال هكذا نحن نطبق القوانين .. وتسائل، هل في بلادك شيئ من هذا؟

سكت، واخذ يعبث بتراب الأرض .

ولم يكرر الصياد السؤال .!!    

***

قصة قصيرة جداً ....

د. جودت صالح

ضفة نهر الدانوب - فيينا

2/ 7/2014

** قلبي مليء بحمام نافق يا كارا..

منذ هروبك من حديقة رأسي.

متخفية بزي راهب بوذي.

يتبعك جواد أشقر

يحمل تابوت طفولتي المقتولة

بمرض النسيان.

يتبعك خيميائيون بصناديق الفضة.

ذكريات مسنة معلولة بعمى الألوان.

إوزة السنة الأولى من قيامة اللاوعي.

ياكارا

أنا ضرير ومضطهد.

أقذف النار من أصقاع حنجرتي.

يلاحقني فرعون على جواد مقطوع الرأس.

كل جنازة تعبر طريق كتفي المتلعثمتين.

كل ناع يدق نواقيسه في صومعة رأسي.

المعزون يتسلقون قامتي

بشراهة مفرطة.

كارا يا كارا

الجسر مليء بالقتلة واللصوص.

التنين الهائل يترصدني في الباص.

لا بيت لي لا أصدقاء لا سماء.

قتلوا كل ملائكتي في زقاق مظلم.

إعتقلوا سبعين مترا من فرحي اليومي.

إختلسوا إنجيلي في كنيسة النهار.

كارا

يا ذات العينين المشبعتين بالخضرة والسلام.

يا صديقتي الأبدية.

الرسولة وملكة الينابيع العذبة.

إنتشليني من الرماد وصرير عجلات الهواجس.

من غيوم القناصة ودبابير العميان.

***

فتحي مهذب - تونس

 

بحُرقةٍ بكت عَقداً

واختارت أشجارُها العُقمَ

والجبلُ صامتٌ

كأنَّهُ ما كان بالأمسِ

مَرتعاً للمُتعةِ وفُرجةً للنَّاظرين

وللنسائمِ هو الحَاجِبُ والجِفْنُ

شاربُ الغِرِّ

ينمو فوق جِلدٍ مُتَغَضِّنٍ

والأجِنَّةُ تأبى الخروجَ

فما عادت تُغريها المجازِفاتُ

المطرُ ينزفُ دَماً

وسنابلُ الحقلِ صارت غَماماً

مِن جَوى

يبِسَ النَّارنجُ فوق أغصانِ أمِّهِ

والعطرُ غادرَ

زُهورَ الاقحوانِ المُحترقةَ

عَشتار تُغتصبُ والدُّموعُ هُطولٌ

وأهريمان يُعيثُ في الأرضِ فساداً

وهو يَعظُ

صَمتَ تَوَهُّج النَّارِ

وبقيت رائحةُ الشِّواءِ

في فَضاءاتِ البِلادِ تَجولُ

تزدحمُ الدُّروبُ

والعيونُ قَفرٌ

والروضُ ساحات مَقابرٍ

طنينٌ يَسكنُ الرُّوحَ

والدَّمعُ مِلحٌ

ونُسورٌ حولَ الوليمةِ تَحومُ

أوراقٌ تَرقصُ

وصورٌ من عهودٍ تليدةٍ تندثِرُ

أحاديثُ الهَمسِ فَزَعٌ

والذِّكرى أصنامٌ

والبيتُ يفتقدُ المفاتيحَ

والشوارِعُ هَلعٌ

وساهراتُ السَّماءِ مُعتَماتٌ

لا تفتحْ تِلك النَّافذةَ

كي لا يَفِرَّ منها العَصفورُ

فيغدرُ به الصَيَّادُ

أخجلُ أن تَرى يدي مُمتدَّةُ

فَتَظِنُّ أنَّ العالمَ يحتضرُ

أنا بخيرٍ

وما عادَ يختبرُني الألمُ

وما عادَ الجوعُ يفتكُ بعِظامي

ولا الوَسْواسُ بوجداني ينخُرُ

أنا بخيرٍ

لا أشكو سَقماً

ولا يعتريني اِعتلالٌ

ولا تكتمُ أنفاسي رائِحةُ الجِيَفِ

لا بردٌ يَطالُ مفاصِلي

ولا وهجُ تموزَ

يَصلي سِحنةَ وجهي

أنا بِخيرٍ

لا عوزاً أشكو

ولا رغيفاً ساخناً أبتغي

ولا في كُسوةٍ أطمعُ

فالكُتَّانُ يلفُّني بإحكامٍ

ويسترُ عَورةَ هذا العَالَمِ

***

جورج عازار

ستوكهولم ـ السويد

 

عصافير المرج المضيء

امست مهمومة وحزينة

واجنحتها قد كبلتها

مناقير العقبان الشواهين

الحدات والبزاة

وقلوبها ادمتها

العناكب الثعالب

بنات اوى والجراد

لكن فراشات وغزلان

الافق المضيء

رسمت على مرايا قلوبها

بهاء البرق والريح والمطر

وغنت قرب تلال

عمرها الحزين

اغان للبهجة البيضاء

للبنفسج للخصب وللشجر .

***

سالم الياس مدالو

 

نهاية الحرب ما عاد الجنود المكدودون بحاجة لرصف الاطلاقات وتلقيم متاريس المدافع. صمت دوي الرصاص أيضا، واختفى أزيز أسراب الطائرات والتماعها خلف الغمام.

عند شرفة تطل على ساحة الاحتفالات الكبرى، راح القائد يتبختر بغترته البيضاء وعقاله الأسود وعباءته الموشاة بالذهب. يلوك ابتسامته الحيوية لتبدو وكأنها لبطل هوليودي. رفع يديه ولوح بحركة تفخيم يريد بها إمساك الغيم لشعوره الفياض بالنصر. أصابعه الغليظة تطيل متعتها وهي تخرم الفضاء ببطء شديد.

 صورة بإطار منمنم وبحجم كبير تتدلى تحت سقف المنصة، يقبل فيها القائد رؤوس الأطفال مثل قديس، ويبارك لهم مستقبلهم، ويمسح على رؤوس المقعدين، ويمنح جنوده الأوسمة لشجاعتهم في القتل. بات المؤمن الفاضل ترتل له الأناشيد وتصدح له ألحان شعبية. هكذا بدا بعد أن خمد أوار الحرب واستسلم الخصوم.

 لم يكن يعنيه دون ساعة نصره، مشهد رعيتة وهم يتجمهرون تحت قدميه مثل أنعام ملونة تتمايل رقصا. أنشدوا له بعد أن تزاحموا حشودا دون نهايات. طوقت الجموع الحافات السفلى للشرفة. أرتال نساء متلفعات بالسواد ورجال بكامل أناقتهم وشباب ارتدوا تشيرتات رياضية فاقعة الألوان وشابات يزهين بفساتين فضفاضة.

احدهم بدأ قبل الجميع، مارثون السباق، أجتاز الساحة وحيدا، داس بقدميه الحافيتين العشب الندي، وكان بسرعته الفائقة مثل أطلاقة مسدس صهر حديدها  للتو، وصقل بعناية. أراد الوصول حيث يقف القائد، لكن رجال أشداء منعوه. هرولت بعده جموع، أطلقت سيقانها للريح، لتحضر مشهد قيامة نصر القائد، المنتصب مثل تمثال مهيب عند الشرفة المكرسة لوحدانيته.منتصبا كان تحت رايات ترفرف عاليا معلنة له المجد والمسرة وعلى الناس الخضوع.

تسمرت بأعوامها الستين مثل شجرة خاوية، أحست بألم حاد يضغط على رقبتها، وما عادت تستطيع اللحاق بالحشود.ثقل تنفسها وازداد لهاثها وارتخت قدماها،  ترنحت واستدارت نصف دورة ثم هوت. كان العشب نديا لامس خدها الأيسر فاستطابت برودته. ولأنها اعتادت طيلة حياتها معالجة الأمور دون عون الآخرين، ولأن حياتها انفرطت فباتت تخلو من أهمية، لذا لا تود وهي تتوسد العشب، أن يرثى لحالها أحد، فأغلقت فمها تماما.ولكن عينيها بقيتا تطوفان بعيدا حيث يقف المنتصر عند منصة الاحتفال.

ــ ما الذي حدث يا أمي؟

- لا شيء ياولدي فقط أردت الوصول حيث يقف المنتصر ولكني تعثرت.

ــ ولكنك تبدين متعبة.

ــ نعم ولكن علي الوصول إليه.

- انه يقف بعيدا.ولن يشاهدك فهو في ذروة نشوة انتصاره.

ــ أعرف هذا ولكن المهم أن أصل إليه.

ــ  وما نفع وصولك حيث يقف؟

ــ أردت فقط أن يحقق أمنيتي في يوم نصره، أن يعيد لي ولدي الوحيد الذي ذهب للحرب قبل ثلاثة أعوام دون أن أعرف عنه شيئا.

.........................

كان هناك

كان غارقا في تيه وضياع يطبقان على روحه  طيلة يومه، حبيسهما دون فكاك. مازالت تتواتر بذاكرته المعطوبة لحظة من مساء أمس، حين لكزه أحدهم في خاصرته ونبهه عن ورود اسمه الذي تردد على لسان الحارس ذي الشارب الكث والعيون الجرذية الناطة . تسلسله في قائمة الأسرى المفرج عنهم، كان السابع عشر. نهض متباطئا وتلفت يمينا ثم شمالا بربكة وحذر، فربما يكون هناك أسير آخر بين هؤلاء يحمل ذات الاسم، فقد تكرر تعذيبه لمرات عديدة، مذ وطئت قدماه هذه الأرض الغريبة أسيرا. 

تشابه أسماء، هكذا أخبروه ، في كل مرة يستدعونه للتحقيق، وكرروا ذلك بخبث . بعدها وربما قبلها بكثير، ماعاد يملك اليقين بحدوث هذا، ولا الاعتقاد بما حمله من أسم، ربما كان له ذلك، ولكنه كف عن البحث في باقي متعلقات حياته، لذا ما عادت التسميات بذات شأن.

ضربة موجعة خبطت رأسه تقلصت معها عيناه، فهرول بخفة ورأس مطأطئا، ليحشر جسده المتهالك عند أول كرسي جلدي في السيارة الذاهبة خارج المعسكر نحو مطار المدينة.

 تسلق سلم الطائرة بقفزات عجولة وجلس عند أقرب مقعد جوار النافذة. مد بصره وبعيون ذابلة فزعة حاول عبر النافذة لملمة ألوان البنايات المرصوفة عند الطرف البعيد. حملق بشرود وبلادة في الفضاء الواسع المغبر الممتد خلف مجموعة الطائرات الجاثمة عند المدرج القريب، ثم أدار نظره نحو السماء الملبدة بالغيوم.

تابع غيمات نحاسية كانت تلامس جناح الطائرة في تلك الزرقة السماوية الباذخة المساحة، وضوء احمر يومض بذبذبات رتيبة عند الطرف المدبب لجناح الطائرة وهي تحلق عاليا. ود لو استطاع القفز والإمساك بكوة ذلك المصباح ليتدلى جسده ويتهادى سابحا في الفضاء الشاسع، يتقاذفه الهواء بخفة مثل ريشة، يحرر صدره من أزرار القميص ويصرخ بأقصى ما تطلقه حنجرته.

ساعة هبوط الطائرة كانت قدماه عند المغادرة وبخطوات قصيرة ثقيلة، مذعورتان  تتلمسان السلم بتثاقل وحذر. أهمل أصوات كانت تحثه للإسراع بالحركة والانتظام بالسير مع باقي رفاقه في المجموعة.

تأبط منشفة تدلت منها خيوط وكلح لونها بمرور سنوات التنقل بين أقفاص الأسر. سار وئيدا بتثاقل نحو باب سيارة النقل. شعر بشيء من رهبة وخوف، فرغب بالعودة حيث مقعده داخل الطائرة،بل الرجوع إلى هناك، عند الغرف ثقيلة الهواء شحيحة الضوء، يتردد بين جدرانها صراخ وأوجاع الأسرى،ويخيم الخوف في فضائها من المجهول حين إطلالة فجر.

 ستة أعوام من رعب وتعذيب وأمراض، قضاها يتنقل مثل بهيمة بين سجن وأخر، من قفص لأخر.  ما عادت ذاكرته تستحضر ولو نتفًا مما عافه هنا أو هناك، فجميع الأشياء اقتلعت ملامحها من عقله، ولم يعد لها ما ينفع للبقاء، وبات يشعر برعب ثقيل يتلبسه كلما أجبر على الانتقال لمكان جديد.فما كانت تنتظره غير جولات تعذيب وكومة شتائم.

ساروا بهم نحو بناية مرمية بإهمال حيث الطرف القصي للمطار. رصف مع الآخرين أمام ضابط كان يلهج بترحاب مبتسر وابتسامة مغتصبة، تخرج من بين شفاه متيبسة.  سأله عن أسمه، فردد ما قيل له وحفظه  لكثرة ماسمعه في الأسر،رجب مناهي مكَوطر، وتوقف. ثم لفه صمت ثقيل، رغم سماعه إلحاح الضابط وبصوت أجش غاضب، طالبًا منه إكمال باقي المعلومات. الاسم كاملا، التولد، أسم الأم، العشيرة، هل راسلت أهلك أثناء الأسر، كيف كانت أوضاعكم هناك.

ركز نظره بوجه الضابط ببلادة وضحك، لحظة كان رأسه فيها يتسكع في تيهه البعيد، فاستدار وطالع وجوه باقي المجموعة، وكأنه يحثهم للإجابة بدلا عنه. أعاد الضابط بابتسامة شاحبة وبعجالة تكرار أسئلته. هز رأسه بتثاقل وتمتم بصوت خافت مرددا دون يقين، رجب مناهي مكوطر وضحك ولوح بيده في الهواء.

دمدم الضابط بشتائم مكتومة ثم اطرق رأسه نحو الأرض، وراح يلتقط أنفاسه بصعوبة، وصدر عنه لهاث مسموع. سحب الورقة التي أمامه وطالع بعض سطورها، ثم التفت صوب الباقين، وبوجه شاحب صارم طلب منهم،  إن كانوا يعرفون شيئا عن هذا الجندي .

ــ انصتوا جيدا، هل بينكم من لديه معلومة عن صاحبكم هذا، فليس له في هذه الأوراق غير الاسم . 

ــ كان قد جيء به من أقفاص الأسر في الشمال القصي من تلك البلاد، لا نعرف عنه سوى اسمه، عاش بيننا صامتا طيلة الوقت، لا يشاطرنا غير فترات الطعام و أعمال السخرة. هذا كل ما عرفنا عنه.

 ***

فرات المحسن

 

كان (بسّام) يحلمُ كثيراً، ساعةَ ينامُ تفتحُ مملكةُ الحلمٍ أبوابَها لهُ. عالمٌ كاملٌ من حيواتٍ وأمكنةٍ وأحداثٍ، حتى وإن عادَ لعالمهِ الواقعي، لدقائقِ معدوداتٍ أو أكثر، فإنّهُ حينَ يغفو ثانيةً، تتفتحُ تلكَ الأبواب، لكنَّ حجّابَ تلك المملكةِ بأمرٍ من واليهمِ الكبير، يشترطونَ عليهِ، ألاّ يسردَ ما رأى، في اليوم التالي، على خاصّتهِ من أهلٍ وأصدقاء، لأنَّ ذلك يعدّونهُ إفشاءً لأسرارِهم، وهو بمثابةِ خيانة، لأنَّهم منحوهُ امتيازاً في السياحةِ في أرجاءِ المملكةِ، طيلةَ فترةِ منامه. خيانةٌ جزاؤُها طردٌ أبديٌّ من المملكة.

ذاتَ مرةٍ غلبَ الفضولُ والتفاؤلُ (بسّام) في أن يسردَ لعائلته أهمَّ ما رأى في الليلةِ السابقة، رأى شخصيةً مهمةً، وفسّرَ من سَمِع تفاصيلَ الحلمِ على أنَّ ذلك بشرىً لحدوثِ تغييرٍ في حياتهِ نحو الأفضل. كانَ في تصوِّرهِ أنَّ حجّابَ مملكةِ الحلمِ لن يعلموا بهذا الإفشاء، زدْ على ذلك.. إنه لم يُفشِ كلَّ تفاصيلِ سياحاتهِ في المملكة.

ظلَّ (بسّام) ينتظرُ حدوثَ ما هو أفضل، ولم يحدثْ، قفزَ إلى بالهِ بأنَّ ذلك يعدو إلى أنَّهُ أفشى سراً كبيراً، فقد كانَ يعدُّ ذلكَ اللقاءَ بتلك الشخصيةِ المهمةِ تاجَ أحلامهِ.

لم يعدْ يحلمُ، هذا هو الجزاءُ الجحيمي، الذي حُكمَ  بأن يتعفَّن فيهِ، فضلاً  عن تلك العقوبةِ الشيطانيةِ في ألاّ ينامَ أبداً.

وإزاء الإفلاتِ من عقوبةٍ سوداءِ كتلك، جرّبَ كلُّ ما يمكنُ  أن يعيدَهُ إلى النومِ، الذي أصبحَ فردوساً مفقوداً في حالتهِ الصَّحراويةِ تلك .

جرّبَ (بسّام) حبوبَ المنوِّمِ والمسكِّراتِ، ولم ينمْ، جرّبَ أن يُنهكَ جسدهُ في النهارِ، بالمشيِ لمسافاتٍ طويلةٍ، والعملِ المستمرِ منَ الصباحِ إلى غايةِ المساءِ، ولم ينمْ.

غيّرَ  مكانَ نومه، فبدلاً من الفراشِ الوثيرِ افترشَ الأرضِ، ولم ينمْ، سافرَ إلى العاصمةِ بغداد لبضعةِ أيامٍ، كإجراءٍ لتغيير المكانِ والأجواءِ، لعلّهُ يستطيعُ النومَ في الفندقِ الذي اعتاد المبيتَ فيهِ، ولم ينمْ، ومن ثَمَّ أسرعَ إلى تبديلِ الفندقِ بآخر أحدثِ وأفخمِ من سابقهِ، بفندقٍ ذاتَ حمسِ نجوم، من تلك التي أصبحتْ تعجُّ بها بغداد، أيضاً لم ينمْ.

جرّبَ ليلةً أخرى في ذلك الفندقِ، كانَ قد أُعلنَ فيه عن حفلٍ فنيٍّ يحييهِ مطربونُ ومطربات، الدخولُ فيه ببطاقةِ تذاكرٍ غاليةِ الثمن. حفلٌ استمرَّ حتى الصباح، مؤملاً نفسهُ، بأنّهُ سيقضي نهارهُ متمتعاً برقادٍ عميق، بعدَ أن أدخلَ البهجةَ في نفسهِ، ونسيَ مملكةَ الأحلامِ، في تلكَ الليلةِ ثَمِلَ وصفَّقَ وغنّى  ورقصَ، كتحدٍّ داخليٍّ لاستحالةِ النوم، ولكنَّ النومَ لمْ يطرقْ أبوابَ عينيه، كي ينعمَ عليهِ بإغفاءةٍ وردية.  راجعَ أطباءَ نفسيينَ في سفرتهِ، فكانَ كلُّ ما شخَّصوهُ كانَ قد جرَّبهُ  .

حارَ في أمرهِ أهلهُ وزملاؤهُ في العمل. أصبح شاحباً هزيلاً منهوكَ القوى نتيجةَ الأرقِ الذي حَسِبَ بأنَّهُ  سيكونُ أبدياً.

كتبَ (بسّام) رسالةً بخطٍ واضحٍ إلى والي مملكةِ الحلمِ، يطلبُ منهُ إلغاءَ عقوبةِ عدمِ النومِ، لم يردهُ أيُّ جواب. ظلَّ يقرأُ عن الأحلامِ وتفاسيرِها عند محمد ابن سيرين وعبد الغني النابلسي وابن شاهين، لعلَّه يجدُ منفذاً إلى كسرِ طوقِ الأرقِ المضروبِ عليهِ، ذلكَ لم يُجدِ أيضاً.

محتجّاً على حالتهِ البائسةِ تلك، قرَّرَ (بسّام) تعليقَ بقيةِ طقوسهِ اليوميةِ، مبتدئاً بالإضرابِ عن الطعامِ، لكي يصلَ بجسدهِ إلى حالةِ الهلاكِ والقنوطِ الرُّوحي. ذلك الإضراب أتى نفعهُ، حينَ دخلَ غيبوبةً أقلقتْ كلَّ المحيطينَ به، الذين لم يصدّقوا روايتهُ عن طردهِ من مملكةِ الأحلامِ والحكمِ عليهِ بعدمِ النومِ مدى الحياة .

الغيبوبةُ فتحتْ له باباً على تلكَ المملكةِ الغامضةِ، فرأى (بسّام) تلكَ الشخصيةَ المواربةَ، التي سبَّبتْ لهُ كلَّ ذلك، بعدَ الإفشاءِ عن رؤيتِها في تلكَ الليلةِ الحافلةِ بالألغازِ والنذرِ السود، هذهُ المرَّةُ كانتْ تضيءُ ثوانيَ ومن ثَمَّ تَغيبُ أخرى في حُلُمٍ متقطّع. قالتْ له برسالةٍ برقيةٍ” سيتبدلُ ما أنتَ عليه». حين غامتْ، استيقظَ فجراً بعد نومٍ يسيرٍ متقطعٍ، قالتْ له زوجتهُ مستبشرةً:- مبارك، عادَ لك النوم، ماذا رأيتَ-  لم يجبْ خوفاً من عقوبةِ الإفشاء.

ولكنَّهُ قالَ لنفسهِ في عزلته عن الجميع:” أتعرفينَ بأنَّ الشخصيةَ المهمةَ هي نفسها عاهلُ مملكةِ الحلم؟».

في الليلةِ التاليةِ، عادَ له الأرقُ حتى الصّباح، فتعجَّب بألمٍ وانكسارٍ لا يُحدُّ، بعد أن ردّد عبارةً تشبه  قول يوليوس قيصر لصديقه بروتس، الذي اشترك في مؤامرة قتله في مسرحية (يوليوس قيصر) لشكسبير،  فقد لفظ (بسّام) همساً "حتى أنتِ يا نفسي!".

***

قصة قصيرة

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

وَصْلَة الحُمَّى التي

تعاهَدَكُمْ بها

بَعُوض الحكومةِ المُنْفَلِتْ

من مجاريها الخيرية !

الطافحة _حُباً في الناس _

في ممرات الشوارع العامة

والأسواق... !

مازال يتباهى

بنقص الخدمات الصحية

وانعدام التوعية...

وحضور الدواء المُهَرَّب

الباهض المضاعفات

والموت المحقق !

*

صار مفهوم الطب الحديث

أن الطبيب الحاذق

هو الذي

يُفَاقِمْ التِهابات مَرْضَاه

ويُجَرّعهم

مرارة البحث عن العلاج المعدوم

المتوفر _فقط_في :

صيدلية (الذبحِ من القَفَا ) !

جوار متاهة الغريب

بحوالي خمس جولات إلا رُبْع

عند بداية

شـــارع السبع دَوْخَات

أمام مســـلخ أطباء بلاظمير !

*

...وقبل أن تفيض روحه بلحظاتٍ

أوصانا المواطن

المدعو :مغلوب على أَمْرِه

قائلاً :

( جَيْبَك طَبيبَك) !

واغمضَ شفتيهِ

مُبْتَسِماً

بِحِنِيِّةْ !

*

اطمَئِنُّوا

إنهُ بأمانٍ

في حِفظِ المشفى ورعايته !

إنهُ لازال قيد الإنعاش :

(مَيِّتَاً) !

ينعم بصحةٍ جيدةٍ

وحُرية !

*

في عيادة الدكتورة (لَدْغَة)

تم تشخيص حالة (المواطن تعبان) كالتالي :

التهــاب حاااااااااد

في جيوب الكوت الداخلية

يحتاج إلى

تَدَخُّل (الصندوق) سريعاً !

وفي مستوصف (المفترسين) التخصصي

تم تشخيص حالته بــ :

سِمْنَة مُفرِطة لاتحتمل التأخير

تحتاج إلى شفط (جُيُوبِهِ)

قبل التخدير  !

وفي مستشفى (النّْهْشِ) الحديث

تم تشخيصه بــ :

مواطن منتهي الصلاحية !

وفي الخــــــارج

تم تشخيص حالته

باختصار :

سليم ومُعافا

خالٍ من الأمراض تماماً

فقط :

المواطن

طَفْرَاااااااااااااااااانْ  !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي _اليمن

17/7/2024

 (إنني أمضي لكي أبرهن على روحي)

روبرت براوننغ

***

إذا مررتَ بشيءٍ جميل،

تَمهّلْ الخطى ولا تستعجلْ

تأملْ،

فالأشياء الجميلة كالعمرِ تذهبُ، كالليل وكالنهار.

تتأمّل الجمال، وتنشر الروحَ ضياءً.

سافر بعيداً في فضاءات السرور

هكذا،

تسمعُ الفجرَ في لحنِ العصافير

يشدو القلب في الأنفاس والجواهر.

الجمالُ مركباً للصمت مركباً للعشب.

إذا مررت بشيء ، أرفعْه عالياً

تمهّل،

الحصى عالياً

تمهّلْ

الأصدقاء، همُ الأوقات، همُ السيل والأسباب.

الجمال، شجرة النور، ونور الشجرة

المياه أملاً ، سلاماً،

ووجداناً.

تأمّلْ:

في وجدانِك أيهّا السور، وفي الولع أيتها الجدران.

يحملُ السفحُ إلى الجبلِ جناحاً

يحمله مشياً.

الجمال، صمت في حضرةِ السماءِ ووقت للمساء

حيث النجوم، جواهر في أيدينا،

النجوم أعناقنا.

تحتنا، يجري البحرُ، والأمواجُ جيئة وذهاباً.

تأمّلْ

اللحظةُ فكرةٌ، والساعاتُ جيلٌ من الأطفال.

هو،

لحنٌ عذبُ ما نمرُّ به،

جمالٌ هو، ذلك الذي  يستوعبُ البحرَ والقواربَ والمياه

بسمةٌ ترسمُ الدربَ والقنوات.

هي الشروق، يشرقُ في الأنامل

وهو الغروب، لا يودّع النهار.

أخضر هو النهار، خضراء هي النوافذ والنظرات.

الأفق،

هل ترى فيه البهاء ؟ هل ترى التضاريس والخلق؟

نورٌ، يرتحلُ في العِظام، ويجعلها مصباحاً.

إذا مررت بي،

تمهلْ، أيّها الحصى، أيّها الجبل السائر، أيتها المروج

أيتها المراعي

لا يدوم سوى الدائمِ في السؤال، سوى التحيات،

سواك أيّها الجمال ، يا أيّها الشروع في التوازن.

***

نوال الوزاني

وهذا الظلام

يطوقني

يدحرجني

ويخط في ثنايا الروح

ألف سؤال

ويعصف بالنوافذ الممزقة

ريحا من حروب البربر الهمجية

أتنفس أسئلتي دفعة واحدة

تختنق الأجوبة

ويخبو في مقلتي

طيف لطفل يبحث عن أسمه بين السنين

وهذي المرايا كئيبة كهويتي

كلافتة في درب موصود

كصيحة في فراغ بارد

نقطع أوصال الصبر

أنا وحيرتي الأبدية

تحتكرني عناويني الممسوخة عبثا

وترافقني في صمتي

تزف لي بلايا العالم ومصائب الٱخرين

وهذا المسجون القابع في زوايا الروح

يدندن أغنية

تنعى شيئا لا يشبه (الاشياء)...

وتزف كوابيس اليقظة خبرا من الشهر القادم

أن الشهر أسير وأن العمر قصير

تنعانا مبتورين

متراصين

في خندق منتن

نسخر من أمسنا ومن يومنا السكير

من غدنا الذي أعلن أنه عاقر

كقبرة لا تملك ساقين

لا تملك جناحين

ترف بهما طلبا للخلاص

كحكاية جدتي المكرورة أسعى أن أتجدد

تموت جدتي

ثم يموت زماني

وأدحرج من عيني جثة ذئب جائع

كي ألقى زمنا أصفر

زمنا أحمر

زمنا يبحث عن نفسه

فيجدني إلها خشبيا

مفقوع العين ومجدوع الأنف

فيكفر بي

وأكفر بكل الكتب (الأرضية)

***

أيمن الناصح

يصرخ جابر مذعورا خائفا كل ليلة دون ان يعرف الآخرون سببا لذلك حتى أمه التي باتت تواسيه وهي تقرأ أدعيتها واضعة يدها فوق جبينه.. وحين تسأله.. أين حبيبتك الأثيرة وما أخبارها.. ؟؟.. يصاب بصدمة تهز روحه ويبدو كلامه بلا جدوى فيمرر أصابعه فوق رأسها ليمسد شعرها طالبا منها التوقف عن أسألتها.. ليعود لصمته كعادته..

اتفق جابر مع مجموعة من اصدقاءه ممن يبحثون عن مأوى مثله ان يبنوا بيوتا لهم فوق أرض تابعة للدولة.. (تجاوز) كما يسمونها ويقينا ان الدولة ستكون رحيمة بهم مثل الأب الذي يتعرى كي يغطي ابنائه فلا ضير ان ابتنوا بيوتا في غاية البساطة فوق أراضيها وهي الأم الرؤوم.. وليتعاون الشباب فيما بينهم لبنائها..

رغم صعوبة معاناتهم وشظف عيشهم كانوا يبتسمون للحياة راضين بكل تفاصيلها.. وقد نصحهم رجل طاعن بالسن قائلا: أجزم ان البلدية ستقوم بإزالتها في يوم ما لكنهم حافظوا على تفاؤل نفوسهم وسعوا بكل عزيمة وارادة نحو هدفهم.. انها رهان القدر ومعركة الحياة الشرسة برأيهم.. أما جابر فهذا نموذج مختلف من شباب شريحة المتجاوزين كما اتفقنا على تسميتهم.. أو لنسميهم المتعبين..

جابر.. كان من النوع المعتد بنفسه.. شاب أسمر فارع القامة ذو الشعر المجعد حليق اللحية يمتلك قوة وارادة كبيرتين ولم يستسلم لليأس أبدا بل ويزداد مرحه كلما اكتمل بناء احد الدور يرافقه صوت المذياع خلال عملية البناء يمقت نشرات الاخبار بينما يطربه صوت حسين نعمة وأغنيته الشهيرة (يا حريمة).. يعرف كل اصدقاءه قصة حبيبته النازحة.. لكن لا يتجرأ احدهم ان يسأله عنها..

كانت تشغل الجزء الأكبر من حلمه ويشعر بحنين طاغ حين يتذكرها لا تغيب صورتها عن مخيلته.. ويتذكر ضحكتها وتعانق روحيهما عند أول لقاء..

قديما سكن قومها عند مشارف مدينتهم حين حطوا رحالهم وأمتعتهم ودقوا أوتاد خيامهم نازحين من مناطق سكناهم التي اشتعلت فيها نيران حرب لا يعلم عواقبها الا الله سبحانه.. عندها بارك اهل المدينة جيرتهم بل وقاموا بمساعدتهم ومساندتهم وقدموا لهم بعضا مما يحتاجونه..

كان جابر شديد التعلق بهذه الصبية النازحة.. لا يعرف عنها شيئا سوى نظرة عينيها ولهفتها حين تلقاه.. تتباطؤ خطاها عند اللقاء لعلها تفوز بكلمة تنعش قلبها كان جابر مصدر سعادتها فنمت بروحها أحلام كثيرة وغدا لكل شيء معنى حتى لتساقط حبات المطر..

تحاول ان تخبر أهلها.. ولكن كيف تلغي تقاليد صحراء ينوح حاديها في الحل والترحال.. وخوفا من رفضهم

سرح خيالها لذكريات ماضيها.. فمنذ أعوام قرر أهلها وبتعمد قاس.. ان يعلنوا اصرارهم بطرد كل من يتقدم لخطبتها فهي ( راعية دارهم )..

ولكن.. هل يمكنها ان تضع قلبها بكهف وتتركه.. ؟؟

انها لحظات تورق الأسى.. ولكن ربما تفاجئها السعادة ذات يوم..

وكان لا يمر يوم الا ويقصد جابر تلك الربوع التي تقطنها الحبيبة رغم العادات والتقاليد ورغم حر القيظ وسطوة عيون المتطفلين..

عرفه أهل القرية انه مغرم بملاحقة الغيد وكان عظيم الاهتمام برأيهن.. وجمال الحياة بنظره يرتبط ارتباطا وثيقا برضاهن عنه.. لكنها غير النساء الاخريات.. انها حبيبته التي أضرمت نيران قلبه مذ التقيا لأول مرة فكان كطفل يحاول ان يتقن عزف معنى الحياة..

الحياة تطرق أبواب سعادته.. والنوارس ترشقه برذاذ المياه

انتظرها هناك بعيدا عن عيون الآخرين لكنها حاولت ان تهرب منه غنجا.. تجرأ فأزاح نقاب خجله ليمسك بطرف يدها المرتجفة وهو يقول : لن أدعك تهربين مني هذه المرة..

فهل ترضين بي زوجا ان تقدمت لك خاطبا..

الشمس توشك على الغروب وكانت تهم بالعودة باتجاه خيام قومها أجابته والابتسامة الخجلة لا تفارق وجهها..

نعم أرضى بك زوجا ايها المجنون..

أحدثه عنك كلما لاح القمر في عنان السماء ونام الناس وعم الهدوء أحدثه عن أحلامي وعن يوم مولدي هنا في دياركم التي عشقتها وأرى فيها كل شيء جميل..

ولكني أتساءل أصحيح ما تقوله عنك بعض النسوة.. ؟؟

يقلن : انك كنت تطارد الغيد..

وماذا تقولين أنت.. لا يهمني سوى رأيك

اني أرى ما لا يراه الاخرون.. أرى في عينيك الصدق ومستقبلنا القادم..

وأقول : انك ناسك يتعذب بأوجاعه.. !!!

مع بزوغ الفجر تفاجأ حي المتجاوزين كأن الأرض تهتز تحت أقدامهم وسمعوا قرقعة ( التركترات ).. وأصوات غير مفهومة وزمجرة ( الحفارة ) ذات الخرطوم الممتد الذي يستخدمونه لهدم الدور.. بعد عدة أشهر من انتقالهم فيها

خرج جابر مندهشا لا يعرف كيف يتصرف فوجد تجمع سكان الحي يتوسلون بهم لمنحهم مدة كافية.. شاط غضبه فلم يتمالك نفسه الا وهو يرفع صخرة كبيرة مهددا اياهم بتحطيم معداتهم فقلده كل سكان الحي رجالا ونساء.. وبذلك تمكنوا من طردهم..

يتنازع بداخله احساسان أحدهما انه شديد التعلق بهذه المرأة والثاني انه يخاف من أسرتها وعالمهم المجهول بالنسبة له.. لكن عليه مساعدتها على الاقل.. ربما يذوي شبابها ويشيخ كما غيرها من نساء أسرتها.. كما اخبرته..

.. لكن أهلي.. ( تقول فتاته ).. أجابها بثقة عالية..

لن أدخر أي وسيلة لإقناعهم.. ابتسمت بغنج واضح وهي تحدثه عن مشاعرها وأمانيها وعن تلك الايام التي تنتظرهم

قرأ آيات صدقها بنبرات صوتها وارتعاشه..

أخذت النسوة يسألنه عن حبيبته الجديدة

لكنه هذه المرة لن يجيب عن سؤال بشأنها..

فمن أجلها تعلم كيف يخفي أسراره..

فانطلق يجري بين حقول الحشائش ولأول مرة في حياته يشعر بانسجام وثيق بينه وبين النخيل والأشجار.. ولأول مرة يسمع كلاما صادقا من امرأة بشأن مشاعرها تجاهه..

هناك صوت خفي بداخله يقول له.. انها تحبك كان يشعر بضربات قلبه وتعرق جسده.. وشعوره الى كأس من ماء

ينفلت خياله وهو يحلم ببيت صغير يجمعهما..

.. فيهمس مع ذاته.. يا للسعادة التي سننعم بها ونحن نراقب أطفالنا يلعبون.. هكذا.. فأخذ يقفز كأنه يطير في الهواء..

يجلس بين الاشجار بجانب مجرى النهر.. هادئا مفكرا بما سيفعله من اجلها.. يفرك بين راحتيه قطعا من خبز ثم يرمي بفتاتها لسمكات صغيرة كانت تغازله.. وإذ يسمع ضجيجا وصراخا ومجموعة من الرجال يتجهون نحوه.. فصاح أحدهم امسكوه قبل ان ينهزم منكم.. انتصب واقفا دون ان يشعر بلحظة من خوف..

صاح الثاني.. هذا الذي شجعهم وعرقل عمل رجال البلدية بهدم الدور..

ولسوء حظه انه متهم.. متهم بجريرة لا يعرف كيف يعتبرها القانون ذنبا ويحاسب شريحة الفقراء.. وربما تطاول فقابل المسؤولين طالبا ان يمنحونهم قطع أراض بديلة قبل هدم دورهم.. لذا قدموا شكوى ضده

ضاعت حروفه وبحت حنجرته.. وبين كل شهيق وزفير يحس بالاختناق والضجر وهو ينتزع ذراعيه من قبضة احدهم.. لا يدعونه يتكلم.. وبين التحقيق وعدمه ضاع الفتى.. في توقيفهم..

في بناية رطبة كئيبة جلس القرفصاء واضعا رأسه بين يديه تتوالى صرخاته بين الجدران.. دون ان يسمعه احد.. لست مذنبا صدقوني..

نعم نسوه بين تلك الجدران الكئيبة.. ولا يدري كم مضى عليه من الزمن.. شهور كثيرة أو أشهر قليلة وربما عام.. لا يدري.. !!!

وبعد ان تقيأته دهاليز السجن.. وقف مشدوها أمام باب السجن الحديدي ذي المزاليج العديدة.. يبدو سقيما مشوش الافكار.. اما عذابه الادهى هو شعوره.. بعدم عدالة الحياة في هذه البقعة..

لكن تبقى المرأة النازحة هي حقيقته الوحيدة والتي لم تغب عن باله ولن تكتمل فرحته قبل ان يقصد ديارها..

وفي غمرة شوقه كان يسابق الريح ليعيد شرارة حبهما الضائعة.. وكان يتمنى رؤيتها مجددا..

لكنه بقي طريح الفراش وأسير الذكريات.. وكلما ترتفع حرارة جسده تزداد شدة هذيانه.. فيلعن الحرب ويلعن الفقر.. ويلعن الأحجار المتناثرة وبقايا مخلفات قومها الذين رحلوا..

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

 

إلى روح محمود درويش أينما رفرفت

***

تعبت من المشي يا أمي

تعبت من النزوح

تعبت من الصراخ

والجوع والقهر

كرهت أصوات القصف

والدمار والقتل والخراب

وحصار ذوي القربى يا أمي

كحصار التتار للعراق

أشد مضاضة على النفس

وأشد إيلاما من حصار العدو

ما ذنبي أمي

إن ولدت فلسطينيا

عاشقا لحرية وطني

ولتراب قريتي وبلدي؟

فلماذا يقصفون بيوتنا

ويكسرون أغصان أشجارنا

ويحرقون كالتتر أحلامنا؟

ما ذنبي أمي

إن كنت عاشقا لليمام

ولأغصان الزيتون

وللحمام

*

لتشردني القنابل

على حدود الغرباء؟

ما ذنبي أمي

إن حملني اليم خفيفا شفيفا

من النيل للفرات

لكي أكون حجة على قومي؟

دليني أمي على صباي

وأزهاري

وحقلي

وطفولتي

لأسترجع ذاكرتي وأحلامي

وشرفة بيتنا المطلة على البحر

وازرعي في روحي

إن مت تحت القصف

غصن زيتون

وبياض زهر التفاح

لعل الحمام يحط عليه مرة اخرى

لعل الفراش يعود إليه تارة أخرى

واذكريني أمي كلما زرت بلدتنا

وبيتنا وأهلنا وأشجارنا

وبلغي سلامي وحنيني

لأقراني وهم يلعبون تحت القصف

ذكريهم أمي بشغبي

وجنوني بالنوارس

وعشقي للشعر

وشغفي بسماء غزة

وزرقة البحر

***

عبد الرزاق اسطيطو

إهداء: «إلى طيور القلب الْمُعَذَّبَة بإحساسها، لا تَنامي.. وَجُودي..»

***

الشخصيات: شاعران.

الزمن: زمن الإحساس.

المكان: ساحة الرغبة.

***

[على ظهر قارب مهترئ لا يَعمَل.. صوت الأمواج مِن بعيد يَقطع بين الفينة والأخرى عَزفا شَجِيّاً على آلة الكمان.. على مَقْرُبةٍ شعلةُ نارٍ بجانب خيمة متآكِلة.. إضاءة زرقاء بنفسجية مُوحية بآخِر الليل..]

- الشاعر 1: [بنبرة صوت حالمة] الليل.. الليل وما أدراك! ألا تَرى معي أن الليل يَمدّ لنا بساطه لِنَبني جسرَ تَواصُلٍ يَربطنا بمُدُن القلب النائمة؟!

- الشاعر 2: [متحسِّرا] يُشْقِيني هذا الليل الحالِف أنْ يَجلدنا بِذَيْل رغباته المستعصية.. ويُدْمِي عينيَّ وقلبي أنْ أنثرَ حبّاتِ ضَوْءِ روحي في بساتين الرغبة لألتقط الشوك والصبار..

- الشاعر 1: [يدلك قدمَيْه] قدماي الحافيتان ما عادتا تَجِدان شيئا يُشَجِّع عل أن أَقْطَعَ شارعَ الليل هذا..

- الشاعر 2: [بعد شُرود] فلسفةُ الليل تُمْلِي عليكَ أن تُمَجِّدَ الظلامَ إن أنتَ شِئْتَ شيئا مِن الضوء..

- الشاعر 1: شياطين الظلام تَكفر بالحرية..

- الشاعر 2: والحرية عقيدة مَنْ لَفَحَتْهُ قضبان الصمت في جزيرة القلب التي يَسقط فيها رأسُ مَنْ أغراه البَوْحُ..

- الشاعر 1: أَوليسَ البوحُ لغةَ مَنْ خانته اللغات؟!

- الشاعر 2: البوحُ سِرّ، واللغةُ حِجاب..

- الشاعر 1: [بِنَفاد صبر] ما أَطْوَلَ حَبْلَ الليل هذا؟ [تنهيدة] أَيُعَلِّقُنا أَمْ نُعَلِّقُه؟!

- الشاعر 2: قُلْ إنَّنا نَحلبه ويَحلبنا هُوَ..

- الشاعر 1: حليب الحرية أَطْهَرُ مِن حليب الصمت الذي يُسَمِّمُ رَأْسَ ثَوْرِ الزمن..

- الشاعر 2: [يَستمر مطأطئا رأسَه باحثا عن ضالته بين الأوراق] أُوووه!

- الشاعر 1: [مُتَثَائبا] أَينكَ يا أنتَ؟ [مستلقِيا مُغْمَضَ العينين يَتَحَسَّسُه] أَمَازِلْتَ تَنْبُضُ؟!

- الشاعر 2: [يَفرك عينَيْه] أَنْبُض.. نَعَم، أَنْبُض كدلفين حائر يَمخر عباب بحرٍ لم يَكُنْ يَوما جَنَّتَه ألفُضْلَى، وأَتَّخِذُ مِن تَأَوُّهاتِي دِرْعاً يَقِيني غَدْرَ البحر والمحار والفُلك..

- الشاعر 1: [يَثِبُ واقفا، ثم يُمَدِّدُ ذِراعيه] البحر! قلتَ لي..!

- الشاعر 2: البحر سفينة العاشقين، وأنا اتَّخَذْتُ لقلبي صومعةً في البحر..

- الشاعر 1: أَهَذا البحر الذي أَعْرِفُه أم هو البحر الساكن!

- الشاعر 2: إنها هي.. [بنظرات هائمة] وحدها هي حورية البحر تَمدُّني بما يَكفي مِن الهواء لِأُسْمِعَها إيقاعَ لَهْفَتِي وَأَسْمَعَها..

- الشاعر 1: [بنظرة ماكرة] حورية؟! قُلْتَ لي..!

- الشاعر 2: ح ور ي ة..

- الشاعر 1: نَعم، نَعم، قُلْتَ لي حورية!.. فَمِنْ أيّ جَنَّةٍ مفقودة سَقَطَتْ حوريتُكَ هذه؟!

- الشاعر 2: حورية وَحْدها جَنَّة..

- الشاعر 1: [مستنكرا بلؤم] قُلْتَ لي..!

- الشاعر 2: حورية.. [بنبرة رجاء] في حضورها تَنطفئ النجوم، والشمس، لِتُشْرِقَ هِيَ..

- الشاعر 1: اها؟ [مُكَذِّباً عينَيْه] لا تَقُلْ إنك أَحْبَبْتَها؟!

- الشاعر 2: أَحْبَبْتُها؟! [تنهيدة] كَلِمة كهَذِه لَنْ تُنْصِفَ إحساسَ قلبي بها..

- الشاعر 1: [يَلْتَمِس شيئا مِن الماء في قِنِّينَة بلاستيكية قبل أَنْ يُلْقي بها فارغة] أهكذا يُلْقي الرَّجُل بنفسه في بئرٍ ما لها قرار؟! [يَمْسَح على بطنه بشكل دائري] أم تراهُ يُغَنِّي على لَيْلاه [يَنفض يديه ويَبحث في جيبه]، ويَقول [يتناول حَبَّةً يتيمة مِن بُذور عَبّاد الشمس ]: «سَقَطْتُ سَهْواً» [يَلفظ القشور]؟!

- الشاعر 2: شيء [يَرسم بيدَيْه دائرة] شيء أَكْبَر مِن أن تُفْصِحَ عنه الكلمات.. شيء لم نَتَعَلَّمْه في مدارس الحياة تلك التي نَضبَ فيها ماءُ الحياة.. شيء لم نَلْمَسْهُ بين طَيّات الكُتُب إلاَّ حروفا مُبَعْثَرَة تَبحث لرحلة إبحارها عن مَرافِئ لا تَقْوَى الكلمات على الوقوف عندها.. شيء.. [يُحْدِثُ زفيرا بعُمق] أقول لكَ: [يَضع كَفَّه على قلبه ويتحَسَّسُه بحرارة] سَلْ فؤادي يُحدِّثْكَ عنها..

- الشاعر 1: [مَذهولا] واااااااه! وَقَعْتَ في فِخاخ المعنى!

- الشاعر 2: [بنظرة دافئة] المرأةُ أَعْمَقُ معنى نَبحث عنه.. إنها المعنى الخَفِيّ الذي يَزجّ بنا في بحر الكلمات ويَجعل قلوبَنا الطرِية تَتَقَلَّبُ شَيّاً على نار الخَلق والإبداع..

- الشاعر1: الإبداااااااع!

- الشاعر 2: والإبداع أن نُنْصِتَ بِحُبّ إلى جَوْقَة عصافير القَلب.. أَلَمْ أَقُلْ لكَ إنه الإبداع؟!

- الشاعر 1: اللعنة! هل قُلتُ الإبداع؟!

- الشاعر 2: الإبداااااااع! [هائما] دَعْنِي أُحَدِّثك عن روحها الآسرة لتَكتشف أينَ يَكمن الوجه الآخَر للإبداع.. روحها، حيثما تُراوِدْكَ روحها تُعَلِّمْكَ فنونَ الغواية وتَكشفْ لك سطرا آخَر مِن كِتاب المعاني وبيتا آخَر مِن قصيدة طويلة تُبدعها أنتَ على مهل بيتا بيتا كلما لَقَّنَتْكَ هي سِرّاً مِن أسرارها..

- الشاعر 1: لِتكن قصيدتك مُعَلَّقَةً إذَن..

- الشاعر 2: معها هي [مبتسما ببراءة] تُرَوِّضُ خيالَك على الخَلق وأنامِلَك على الإبداع..

- الشاعر 1: الإبداااااااع! [بنظرة شَغَف] أَبْشِرْ أيُّها الشاعر العَتيد، فنَحْنُ في زمن الإبداع بامتياز، وأنا لكَ قَرين..

- الشاعر 2: قَرين [متسائلا]؟! نَعَم، قَرين..

- الشاعر 1: هل تُصَدِّق [مُقْتَرِبا منه باهتمام]؟!

- الشاعر 2: [بنظرات عاشقة حالمة] أُصَدِّق أنَّها مِرْآةٌ لي، وأنا لَها ظِلّ، تَقْرَأُ هي في ألواحي ما أَكْتُبه بِحِبْر المعنى، وأُعَبِّدُ طريقَ نَصٍّ لم تَكُنْه هي إلا هامشاً مُكَرَّراً..

- الشاعر 1: [فاغِرا فاه] قريني يااا أنتَ، أرى أن المرأة القابعة خَلْفَ أسوارِ ماضيك تَدْفَعُكَ إلى الخَلق والإبداع بِحَماس مَن يَحترق تحتَ أقدام لحظةِ إلهامٍ.. بَيْنَما.. [شاردا بِذِهنه]!

- الشاعر 2: بينما [مُحَفِّزاً إياه على أن يُتابِعَ]؟!

- الشاعر 1: بينما يَدفعني أنا إلى ذلك رغيفٌ عَصِيّ.. رغيفٌ أراني أَرْكُض وراءه مِن رصيف إلى رصيف، ومِن محطة إلى أخرى، دون أن أَعْرِفَ لِسَفَري أَوْ لي نهايةً [يَفرك شَعْرَ رأسه بتَثَاقُل]..

- الشاعر 2: صدِّقْ أنَّ فَتاتي تُنْسِيني كُلَّ رغيف..

- الشاعر 1: وصَدِّقْ أنَّ رغيفي يُلْهِيني عن كُلِّ فَتاة..

- الشاعر 2: [مُعْتَرِفاً كَقِدِّيس] في عَيْنَيْها تَنْدَلِع ثورةُ البحار والمحيطات على كوكب الليل..

- الشاعر 1: [يَنزل بركبتَيْه أرضا] في استدارته ما يُعِيدُني إلى وَضْعِ جَنِينٍ لا يَشتهي أكثر مِن أن يَطول امتدادُ حَبْلِه السّرّي بِمَشِيمَة أُمِّه..

- الشاعر 2: تُهَيِّجُني روحُها، فأَسْتَجِيب لرغبتي في إلباسها قميصا آخَر مِن نَسْجِ الحروف والكلمات..

- الشاعر 1: بَيْنَما [شهيق] تُهَيِّجُني رائحةُ كسرةٍ عَصِيّة عن وِصال الكَفّ، فأستجيبُ لرغبتي الشَّقِيّة في لَفِّها بِوَرقٍ تَفرشه لها حروفي التَّوَّاقة إلى عِناق ما يُخْمِدُ الأشواق..

- الشاعر 2: صَيَّرَنِي مُبْدِعاً هذا البحثُ الْمُضْني عن وِصال فَتاتي..

- الشاعر 1: صَيَّرَني مُبْدِعاً هذا البحثُ الْمُضْني عن وِصال رغيفي..

[نهاية].

***

بقلم: د. سعاد درير

أنطفأ ضوء المصباح .. فأشعل عود ثقاب ولكنه سرعان ما أنطفأ عندها حل الظلام الدامس ..  ترك يده تسترخي على مسند الكرسي الهزاز وغير جلسته متكئاً على طرف الكرسي يقراء نصا طويلا، فشعر بنوع من التعب وحين نظر الى يده  تحت خاصرته وجدها أشبه بكائن غريب عنه لا يحس بها، كائن في نهايته أصابع تنتهي بأظافر.. اعتقد بأن هذا الكائن مجرد قطعة  خامدة من اللحم تحسسها، فوجدها باردة وأيقن بأنها لا تمت له بصله وردد مع نفسه: كائن غريب مكسو بالشعر وله اظافر، ربما هي وحش نائم ولا أحد يعرف متى يستيقظ .. شعر بقشعريرة تسري في جسده المتعب حين تخيل ان هذا الوحش إذا ما أسيقظ ماذا سيفعل؟ ، ربما سينقض عليه ويلتهم جسده قطعة قطعة . إلا أنه أستدرك، بأنه سيقاوم ولن يدع هذا الكائن يؤذيه ، وعاد يهمس في ذهنه ماذا لو هاجمه خلسة تحت جنح الظلام عندما يكون نائماً؟ عند ذاك لا يستطيع فعل أي شيء سوى أن يقرر بتر هذا الوحش والتخلص منه .. وعاد يفكر من جديد لماذا لا يعقد معه صفقة صداقة حين يستيقظ ويتركه لحاله مجرد قطعة باردة من اللحم مكسوة بالشعر وفي نهايتها أصابع مملوءة بالأظافر تتحرك كما تشاء، ربما تكون ودودة وقد تتمرد، لا يهم ذلك ما دامت غير مؤذية . ولكنها حين تغضب قد تهاجم فتجرح وتخدش كأنها نمر متوحش .. أعتقد بأن قطعة اللحم هذه قد أصابها شيء من الإغماء ولا تستطيع أن تتحرك وبدت شاحبة لا تقوى على الحركة، لقد تمكن منها الخدر تماماً ولم تعد لديها القدرة على الحركة .. وحين اعتدل في جلسته واستفاق بدأت الحركة تدب في قطعة اللحم ولم تعد باردة وأيقن بأنها باتت جزءاً منه وحين أمرها بأن تمسك القلم أستجابت تخط ما يريده دون أن تعارض أو تتذمر أو تتكاسل إنها باتت مطيعة لا تأخذ أوامرها من أحد غيره.!!

***

قصة قصيرة

د. جودت صالح

6/ 7 / 2924

سيقول هذا الرجل إذا دُعِيَ للشهادة،.. إلا إذا عنّ له أن يتراجع فيها لإقتناعه أنها قضية تافهة، أو لغوران فجئي للمعين الذي تغرف منه شجاعته للشهادة وقول الحق.. أن حصان المولدي، الذي أوقفه صاحبه عند الناصية في الصباح وولج إلى المقهى،  لم يسقط على الأرض من فرط الإنهاك، ولا بفعل سكتة قلبية داهمته على حين غرة.. ولا بفعل أي عارض مرضي أصابه،  فهو حصان نشيط وقوي، وليس في سجله وقائع سقوط مشابه لسقوطه هذا..  كان سقوطا غريبا مدهشا احتار في تعليله كل من مر من هناك وشاهد الحصان ممددا على الأرض والعربة المشدودة إليه متقوضة فوق ظهره، دون أن يفلح المولدي في فكه عنها إلا بعد لأي.

مرت برهة وهو لا يكاد يصدق عينيه.. كان قد أنهى تراتيل التملق الصباحي المعتادة لصديقه وغادر محله عائدا إلى حيث ترك الحصان والعربة عند الناصية.. وصاحبه يلاحقه من مسافة بهز رأسه مؤكدا على كل ما قاله.. هاله أن يرى الحصان على غير الصورة التي اعتادها منه؛ ساكنا مطيعا مطأطأ الرأس منتظرا عودته بذلة.. لا يتحرك إطلاقا ولا يغير وضع وقوف العربة التي شُدَّت إليه.. وذلك ما يطمئن المولدي دائما، الذي لا يخشى أبدا حركة غير محسوبة من حصانه الوديع قد يتسبب بها في اصطدام مع سيارة أو شخص مار لو تحرك وحده عندما ينزل عنه ويتركه.

هذا الصباح بدا الحصان قلقا يحرك ٍرأسه يمينا ويسارا لأن المولدي نسي أن يضع عند طرفي عينيه تلك القطعة من القماش التي ستمنعه من رؤية ما حوله، وتجنبه ذعرا غير مبرر.. المولدي لم يرغير حصانه ساقطا على الأرض.. والعربة باركة فوقه.. أدهشه ذلك فعلا. لكن لم تعتوره الخشية من شيء خطير أصاب الحصان ولا داخله شك في قدرته على الوقوف مجددا أو إجباره على ذلك إذا عاند.. وقدّر أن الأمر كله يعود إلى نزوة غلبت على الحيوان فقرر أن يبرك ويتحكك، رغم غرابة ذلك منه لو حصل وبعده عن طباعه المطيعة وعوائده المستقيمة التي ألفها منه المولدي. يلوّح تلويحا خفيفا بالسوط فينطلق الحصان بالعربة مع الريح. ويشد المولدي اللجام فيفهم الحصان المطلوب منه حسب قوة الشد. إذا جذب المولدي اللجام جذبة خفيفة خفف الحصان من سرعته. وإذا شده بعنف تجمد الحصان في مكانه في الحال، ولازم وضع التحجر كأن ساقاه غاصتا فجأة في الأرض، وغدا لا شيء ينبيء بوجود حياة فيه غير عرفه الذي كانت تحركه الريح ونشات صغيرة من ذيله يذود بها عنه الذباب، حتى لو غاب عنه المولدي دهرا.

لكن لم يمر دهر قبل أن يرى ذلك الرجل، الذي سيكون شاهدا على الحادثة، سيارة "باسات" ضخمة قادمة من الإتجاه المقابل، يقودها مراهق يكاد يكون طفلا، نحيلا فارغ الوجه ممتقع السحنة.. شاهده يتوقف على مقربة منه. يطلق زمارته ويمسك هاتفا فاخرا، يتكلم و ينتظر قليلا.. يخرج صديقه المراهق الآخر من باب منزل قريب.. ممسكا هو الآخر بهاتفه.. يفتح له باب السيارة. فيلجها فخورا مزهوا. ثم يستدير استدارة عنيفة في استعراض لمواهبه في القيادة،.. وفي استدارته تلك يصك الحصان على جبينه تماما. ضرب جانب السيارة وجه الحصان، دمغه دمغة لم يحسب أنها كانت ضربة مميتة.. حتى الحصان لم يصدق للوهلة الأولى ما حصل له، تلقى الضربة في رأسه.. وللحظات تلت ذلك حافظ على ثبات وقفته و استقامة عنقه.. فلم يتمايل ولم يهتز ولم يترنح، بل رفع رأسه أكثر مما اعتاد أن يفعل. وفي عينيه سرى احمرار، ثم مشت رجفة في جسده وسقط على جانبه على الأرض.

لم يحرك رأسه وهو ساقط بعدها أبدا. تجمع حشد من الناس حوله في محاولة منهم لإنهاضه.. بالركل والشد والرفس بالقدمين، لكنه لم يتجاوب مع أحد ولم يأت بأي حركة تدل على أنه مازال حيا.. سقط ميتا في الحال، حتى قبل أن يستوعب ما حدث له أو يدير رأسه متعقبا بعينيه أثر ضاربه. الآن على المولدي أن يتخلى عن لامبالاته ويفهم أي كارثة حلت به وبمورد رزقه.. ماذا حدث للحصان ليسقط هكذا؟ ضربته سيارة باسات عرضيا في رأسه ومضت في طريقها لامبالية.

قال ذلك للمولدي.. عندما كان لا يزال متحمسا للإدلاء بشهادته بإخلاص ودون خوف.. فالتفت نحوه محنقا: وعرفتها باسات تحديدا ؟؟ لم ليست رينو أو كيا أو سيتروين.. فهي تملأ الشوارع. وبصق بصقة طويلة وغليظة على الطريق.

ظل الحصان ممددا في موضعه. والمولدي لا يصدق ما تراه عيناه، أن حصانه الغالي لن ينهض مرة أخرى أبدا. يمدّ يده ويشدّه من رأسه كأنه يحتضنه.. يشد أذنيه محاولا إيلامه ودفعه لرد الفعل، فتغوص أصابعه في الجانب الأيمن من جمجمة الحصان المهشمة. تحسس المولدي الأنسجة الممزقة والعظام المهشمة تحت الجلد الذي ظل متماسكا، ثم صرخ بذعر:

-  الحصان ضُرب في رأسه....

-  هل قلت باسات؟

تذكر أن المرهق الثاني الذي امتطى السيارة جاره. وأنه إذا أصر على شهادته فعليه أن يقول أي باسات يقصد، فيورطه ويتلقى الإتهام بالخيانة والجحود.. وعداوة ذلك الجار.. وخسارة آشياء كثيرة.

لهذا بدا عليه التردد.. ومال للعودة في شهادته. حتى المولدي  المتضرر الرئيسي، لم يبد عليه تشبثا كبير بما قاله..وغلبت على سؤاله السخرية

-  لا أذكر.. ولست متأكدا.

-  ومن سيحاسب سيارة على أنها ضربت حيوانا؟

لقد مات الحصان يا مولدي.. ارتفع صوت من الحشد الذي كلّ من محاولة انهاض الحصان ويأس أخيرا من إعادته للوقوف.. لنحمد الله أن الضربة جاءت في حيوان ولم تحيء في إنسان..

-  إنها حافلة النقل العمومي.. لا شيء غير الحافلة قد يصيب الحصان بضربة مميتة.. فهي تحتاج إلى دورة كبيرة. قال صديق المولدي الذي كان يجالسه قبل قليل في المقهى.

نظر المولدي حوله مفجوعا.. ودارت في رأسه كلمة الباسات مثل اللسعة.. لصديقه الذي اعتاد أن يتملقه كلما جالسه في المقهى سيارة باسات فعلا.. ويعرف أن من يقودها هو ابنه المراهق فارغ الوجه ممتقع السحنة. لكن هل من أجل حصان؟ بهيمة بكماء غبية، يتعين عليه خوض معركة وخسارة صداقة تعني له الكثير.. وقليل من ذلك الكثير هو حلمه أنه قد يكون هو بدوره يوما صاحب باسات. ويلقي بظلال سخيفة من الشك على إخلاصه؟ سيكون مريحا أن نصدق أن الحافلة هي التي صدمت الحصان وهشمت رأسه.. من سيحاسب الحافلة؟

الحافلة لا يمكن محاسبتها... والباسات خارج نطاق السؤال. والمولدي يدور والحقد يفريه والجبن يقعده، بعد أن تأكد ان حصانه مات ولن ينهض ثانية، باحثا عن فاعل يتهمه بقتل حصانه ويفرغ فيه غلّ حقده، دون أن تنكشف عورة جبنه.

ووجد الفاعل سريعا.. بمعية صديقه الذي لا يعسر عليه أبدا معرفة السبب وإيجاد فاعل.. ذلك الرجل القميء الذي يدور النهار بأكمله بشاحنته الشبيهة بحطام صديء " ايسوزو 37 "..  يجمع نشارة الخشب من النجارين ليبيعها لأصحاب المداجن. ولا فرامل لشاحنته، ذلك القميء عندما يقود شاحنته كانت مهمته العسيرة هي الـتأكد أن الطريق أمامه خالي من البشر على الدوام، فذلك كان السبيل الوحيد ليتجنب دهس أحدهم وقتله. صحيح هو لم يسبق له أن صدم إنسانا، رغم أن حالة شاحنته تؤكد أنها تقريبا تسير دوما بلا فرامل.. لكن لن يعسر عليه، ولا كان سيبالي لو ضرب حصانا، أو نطح كلبا أو أردى قطة.

لم يكن أحد من الحشد الذين تجمعوا حول الحصان الميت يعبأ بميتة كلب أو قطة أو حصان. ما جمعهم كان الإثارة وحسب، تكدسوا أمام المقهى أولا، والمقهى يقدم القهوة ولا يسمح بالجلوس. وهم كانو يبحثون عن أي شيء ليملئوا به الوقت، فوفر موت الحصان بتلك الصورة الدراماتيكية ما يريدونه من إثارة. وبما أن الـتأثر بموت أي من هذه الكائنات لا ينبغي أن يعادل أبدا الـتأثر بموت كائن بشري، وهو ما لم يحدث في الواقعة التي أقصها.. كما أن الموضع الذي سقط فيه الحصان لم يكن مكانا يكثر فيه المرور ويعرقل بقاءه فيه حركة السير. شرع الجمع بالإنفضاض تاركين الحصان ملقى حيث هو، وخيط من الدم يسيل من أنفه وعيناه تخضوضران وتصطبغان بلون طحلبي مخيف

توارى الشاهد الجبان الذي أنكر أي دور للباسات في المأساة. وأشبع المولدي صاحب الشاحنة الإيسيزي 37 ضربا وركلا، مؤكدا أن شاحنته " الايسوزو 37" هي التي قتلت حصانه.. لأنها كانت تسير بلا فرامل. ذلك دليل الإدانة البين. وما ينبغي الشاحنة بلا فرامل إلا أن تضرب أحدهم، وصاحب الشاحنة يصرخ وأسنانه مخضبة بالدم، جراء ما تلقاه من المولدي من لكمات:

-  وكيف أوقفتها إذن ؟ إذا كانت بلا فرامل.. عندما رأيت حصانك مرميا على الأرض؟

-  يا للمحتال.. صرخ البورجوازي صاحب الباسات.. تقتل الميت وتبكي عليه، مازال معك حساب.

ولم يحتج أحد لكبير ذكاء ليعرف أن الرجل القميء ليس فقط بلا فرامل.. بل يدور بشاحنة ليس لها شهادة تأمين.

لقد كشفوا ذلك سريعا...

- إنه يدور بشاحنة ليس لها شهادة تأمين.. صرخ الشاهد محرضا عليه..

ماذا سيربح المولدي؟ وهل التأمين من الحوادث يشمل حادثة قتل حصان أيضا؟

-  إذا رفعت به قضية.. قال الرجل لصديقه المولدي، فلن تربح تعويضا.. لكن هو سيسجن ويدفع غرامة.. لقاء امتلاكه شاحنة بلا تأمين...

-  الغرامة لي ؟ لحصان جديد؟

-  لا.. بل عقابا له لعدم امتلاكه تأمينا.. للإدعاء العام. وذلك لا يعنيك في شيء..

-  إذن كل المال سيذهب للحاكم.. صرّ المولدي من تحت أسنانه.

-  لا يعنيني في شيء ؟ والحصان مات.

- كيف سأعمل؟

-  إنها بفرامل.. أقسم لكم أنها بفرامل.. أعول الرجل صاحب شاحنة نشارة الخشب، والشرطي يجره من قميصه..

ولم يبك أحد على ذلك الرجل، غير المولدي الذي سيجبر عنوة على ذلك البكاء، لمعرفته أن سهمه طاش بعيدا، لكن دون أن تطفر من عينيه دموع..

***

الكاتب : عادل الحامدي

القيروان - تونس

في نصوص اليوم