نصوص أدبية
قصي الشيخ عسكر: حارة المرج

(الأم)
رواية قصيرة
***
اليوم يقطع الجراح رجل أمي اليسرى..... وستغادر البيت الى منزل آخر من طابق أرضيّ.
ربما أثرت فيها النكبة التي حدثت قبل عام أكثر منا نحن أفراد عائلتها فوصلت إلى هذه الحال..
أعرفها قوية لذلك ستواجه الوضع الجديد بشجاعة
لكني قبل الدخول في تفصيلات مثيرة عليّ قبل كل شيءأن أستميح القارئ عذرا حين يجدني أتحذ موقفا فيه الكثير من الانحياز لأمّي مهما كانت أخطاؤها لأنّني وعيت الحياة معها وحدها.
كان أبي طالبا يدرس هندسة البترول في جامعة نوتنغهام، وكانت أمّي عاملة في سوبر ماركت (ساينس بري) الكبير ذائع الصيت، وكان أبي يتردد على المحل نفسه القريب من سكنه..
لا أبرئ أمي
ولا أبرئ نفسي
وإن كان لي موقف من أبي
لقد جاء السيد (زاهر الجلود) الذي لا أحمل اسمه في هويتي البريطانية بل اخترت الاسم العائلي الذي ورثته عن أمّي. لا يهمّ أن أحمل هويتين. وأعدّ نفسي بريطانية، أبي سمّاني (ليلى) ارتاحت أمي للاسم. قال لها إن معناه ليل (نايت) .. اعتادت أن تدلّلني بكلمة (لولة) وارتحت بعد أن وعيت للاسم ولم أرغب في أن أغيّره باسم انكليزي، مع ذلك أعدّ أبي أحد الأسباب الكثيرة التي أدّت إلى قطع رجل أمي التي من يرها يظنّ أنّها تعيش في سعادة غامرة:
تسافر
تعمل..
تتعاطى الكحول.
تمارس الجنس
وتقدر أن تخفي همّها من دون أن يلحظ ذلك أحد على قسمات وجهها…
كان أبي يحدّثها عن الجنّة الموعودة، ولم تكن المناسبة لتحين
ليبيا البترول والخير
ليبيا جوهرة المملكة الرومانية القديمة
لا يتحدّث عن السياسة في بلده...
ولا عن القذافي وأقواله، ولا حادث قتل الشرطية أمام سفارة ليبيا أو حادثة لوكربي، ت. بل عن إمكانية أن يجد لها شغلا هناك... ممرّضة إذا كانت ترغب...
وفي أحد اللقاءات أهدى لها خاتما ضخما جلبه من ليبيا.
حكى لها عن الامتيازات التي وفّرتها الدولة له راتب فخم ومسكن، في ذلك الوقت كانت أمّي مطلقة ولها ولدان، أختلفت مع زوجها الأوّل وفضلت لشقيقيّ السكن مع أبيهما في إيرلندا.. هناك أحاديث ملوّنة عن الجنس والعلاقة مع الرجال كان لا بدّ أن تحدّثني عنها وأنا أخوض أوّل تجربة لي وإلا لكنت الآن في ليبيا وسط دوّامة من العنف والقلق.
الواقع الذي عليّ أن أقرّه أنّ لوثة من منطق الفكر اليساري كانت تخالط تفكير أمي في فترة شبابها. لا أدعي أنّها يسارية، لكنّها كانت تتعاطف مع الفوضويين وبعض المتحمسين والمغامرين الذين لايهمّهم أن يكسروا القوانين بلطف خفيّ ونعومة تجعلان الآخرين يتعاطفون معهم.
وقتها لم تفهم لِمَ خجل أبي من أن يصحبها معه وهي حامل بي إلى بلده فيعرفون أنّ (Aoife) كانت متزوجة قبله ولها ولدان من زوجها الأوّل.
لا أبالغ إذا قلت إن أمي جميلة لم تكن بحاجة إلى أن تلجأ إلى أبر البوتكس ونفخ الشَّفتين مثلما فعلت قبل أن يتقدّم بها العمر ويقطع الجرّاح رجلها اليمنى..
امرأة لا تستطيع أن تعيش من دون رجل.
وقد وجدت في أبي فحولة متناهية.
مهما يكن القلق الذي أعيشه الآن فهو أفضل من حالة أعيشها في دولة أخرى.
في قرية تدعى الطبول ساعة ونصف بالسيارة عن العصمة لدينا بستان زيتون ونزرع الخضار!
لكني لا أنكر أنه في بدء علاقته كان محروما من حرارة العاطفة والجنس، فقد ماتت أمّه أي جدتي وهو في السنة الأولى وتزوج والده من نفس العشيرة وبعد سنتين تزوج ثانية وجعل الإثنتين تعيشان في بيت واحد، ربما كان ذلك حافزا لوالدي الذي عاش بين زوجتي أب أن يجد في المدرسة حتّى، مع ذلك تبقى قضية الجنس تشكّل عقدة له.
عطش إلى الجنس
هكذا تروي أمّي بسخرية...
شاب محروم، لايقدر أن يتحدّث مع أيّة فتاة في الحارة والشارع والجامعة يأتي إلى بريطانيا فيبصر النساء في أوج حرّيتهن.. في الصف الملابس القصيرة.. والأجساد البيضاء.. الصداقات والقبلات في الشارع، في الوقت نفسه استلطف آنسة مثل أمي شقراء جميلة ذات شعر ناعمة ونظرة تشيع سرورا وبهجة..
سهلة
متسامحة
تحبّ النكتة أكثر منّي تكرع من زجاجة البيرة مباشرة وتغرق في الضحك، فأنتظرها تنهي ضحكتها:
- هل من شيء؟
ربما تبدو سهلة في التعامل مع الآخرين من غير عقد
حدّثتني في البداية عن أبي قالت إنّه كان يتردد على المحل الذي تعمل فيه، تعمّد أن يترصّدها وفي أحد الأيّام انتظرها إلى أن خرجت من السوبر ماركت فتبعها وقدّم لها نفسه..
طالب بعثة يدرس
التقى أبي أمي في الكافتيتريا أوّل مرّة.... بدا لطيفا معها
ودودا
وخجولا..
لم يكن خشنا غير حضاري كما عهدتْه عن الشرقيين من قبل.
أو ما تسمعه من عنف وجرائم متفرقة حدثت في بريطانيا لليبيا في أكثر من يد.
وتكرّرت دعوته لها في المقهى مرة أخرى. جلسا متقابلين ومد يده الناعمة إلى ظاهر يدها.. شعرت بحرارة يده على الرغم من أن الوقت كان في يناير، ورأت عرقا خفيفا يسيح من جبينه.
تردد... قال:
- هل لديك مانع أن نلتقي المرّة القادمة عندي في البيت.
- كما تحب.
يبدو أنها وثقت به ولا يريد أن يتعجّل. قالت له:
نحن الآن أصدقاء.. ماذا تعرف عني.
قال وهو يتحرر من تعثره :
- أنا ابن عائلة فلاحين حينما أنهي دراستي أجد لي مكانا في شركة النفط في العاصمة.
- منزلكم بعيد عن العاصمة.
تلك الخواطر جرت في ذهنها عن أبي يوم صارحتها وأنا في السنّة الدراسيّة التاسعة عن علاقتي بابن حارتنا الجامايكيّ الأصل (أبيتورو) .
أخبرتني أنّها قبلت دعوته على العشاء في بيته، طالعتها في الصالة صورة له أسفل صورة القذافي، هي تلك الليلة التي قدّم لها خاتما ذهبيا، ووعدها بخاتم آخر ينقش علبه اسمها.
- Aoife اسم رائع (قال ملاطفا وأردف) سأنقشه
تقول لم يسألني عن معناه في اليوم نفسه لكنه عرف أنّ الاسم إيرلندي ووعدها أن ينقش على الخاتم الجديد (Aoife) و (زاهر)
صراحتي مع أمّي حول صديقي الجديد ومحاولتي التخلص من عذريّتي جعلها تدخل في تفاصيل كثيرة عن أبي. أمور لم أكن أعرفها من قبل. كان بإمكانها أن تخفي عني اسم ابي ومن يكون. لا تنسبه لأحد. تمنحني اسمها العائليّ وحده. وجدته في أول لقاء ضمهما من غير مبالغة عرفت أنّه التجربة الأولى له مع المرأة. أوّل امرأة يضاجعها في أول لقاء ثلاث مرات، وفي المرّة الثالثة وضع رأسه على صدرها وأخذ ينشج طويلا طويلا..
اعترف لها أنّها هي الأولى
كان يصرخ
وجدته ملتهبا بشكل جنوني
لم يترك قطعة في جسدها لم يلمسها أويقبلها
وفي المرة الثالثة هدأ مثل طفل وديع
تقول إنّها أخطأت في قضيّة الحمل وحساب الحبوب. جرفتها أحاسيس أبي فظنّت أنّها يمكن أن تسافر معه، وعندما فوجئت بي في بطنها ارتأت أن تبحث عن الاستقرار وتهاجر.. تبحث، ولعلها الرغبة في الكشف. عن عالم جديد... الشرق نفسه مثير على الرغم من القتل والدمار.. معا حسب وصفها عنيفا جدا من غير قسوة ذلك العنف الذي تحبّه المرأة..
وقد شعرت أمي أنّه يتضايق إذا حدّثته عن ولديها نول و(جف) اللذين يعيشان بعيدا عنه في بلفاست، كان زوج أمي إيرلتديا من بلفاست. لم يتزوّجا وأخواي من معاشرة دامت خمس سنوات. كانت أمي وقتها في السابعة عشرة من عمرها حين عاشرت السيد (أوين) والد شقيقيّ، اعترفت لي أنّها خانته، مع رئيسها في العمل، مرة واحدة، نزوة طائشة مع بولندي مهاجر أعجبها، ولم تكرر المحاولة، أما أبي فقد التزمت معه، راعته مثل طفل وربما فكر بالزواج منها والهجرة إلى بلده، وهي متأكدة أنه كان سيفعل لولا أنها أم لولدين، وحين هاجر
هرب بخسة
حدث ذلك قبل أن يقطعوا رجل السيدة (Aoiefe) بأكثر من خمسة عشر عاما.
عاشت مع أبي وفق نظام المعاشرة ثلاث سنوات، ويبدو أنّها كما تدّعي أخطأت ذات يوم في حسابات حبوب منع الحمل، ولو أنّي أشكّ فيما تقول وهي في وعيها، فقد سكرت ذات ليلة، وادعت أنّ من حسن حظّها أنّها فكّرت أن تعلق بنطفة من أبي الذي شعرت معه في الفراش بأنوثتها أكثر من صديقها الذي هدر بكارتها وهي في السادسة عشرة _أي في نفس السنّ التي أحاول فيها أن أتحرّر منها- وأيضا من زوجها أبي ولديها، ذكّرتها في صبيحة اليوم التالي بما قالته بلمز واضح:
- أمّي أيتها الجميلة هل تعمدت ولادتي أم جئت كما لو كان هناك خطأ ما؟
فنظرت إليّ يلمزة ساخرة:
- وما الذي يفيدك هذا أو ذاك.
- كأنّي سمعتك تقولين أنّك تعمدت.
- انسي الأمر أفضل.
- طيب مادام الأمر كذلك الآن ليبيا تفور... مظاهرات هنا وهناك. إفرضي أنّ أبي جاء بطريقة ما إلى بريطانيا طالبا اللجوء هل تقبلينه؟
فعفطت قائلة:
- عندما تطير الخنازير، وأردفت ضاحكة: وددت أن أقابله لأسأله سؤالا واحدا: هل مازال الناس في قريته يسمون الفرج دبرا؟
- ماذا؟
- تبك حكاية طريفة في إحدى الليالي سكر كنا مسترخيين بعد أن مارسنا، شرب كثيرا من الويسكي وفجأة مدّ يده إلى ردفيّ فعصرهما وقال: تعرفين (أوفي) في قريتنا يسمون الكسّ طيزا؟ (Twat Ass)
ضحكت..
مع ذلك، أقول بصراحة، أتمنّى لو ألتقيه ولو يوما واحدا، ساعة واحدة، وربّما فكّرت أن أزور ليبيا فأسأل هناك عن السيد المهندس (زاهر الجلّود)، أتخيّل لقاءه..
أعانقه
أقبله
أرتمي في حضنه
كيف يأخذني
وإن كانت هناك رغبة تراودني لأن أن أبصق عليه..
وددت لو أمّي غالطت نفسها وأخفت عنّي الأمر.. لظننت أنّها حبلت بي من أيّ صديق التقته في المرقص أو أيّ مكان.. حالة طبيعية لزميلات لي في المدرسة وزملاء لا يعرفون آباءهم بل اعتادوا الوضع. لو سمتني باسمها، لكنها بدافع ما لا أعرف كنهه، أطلقت عليّ منذ يوم ولادتي اسم ليلى، وفهمت منها إنّها تعني بالعربية (ليلة) ولم تتجاهل اسم أبي الذي رافق لقبه اسمي (Lyla Zaher) أصدّق إلى حدٍّ ما أنّها أرادت أن تحتفظ بذكرى طيبة من أبي الذي وددت أن يكون هرب من ليبيا وجاء يطلب اللجوء.
قلت لأمي والعجب يتلاعب بذهني:
- سألتك عن ليلة العذراء الأولى مع رجل فحدّثني عن أبي أردت أن أعرف منك سرّ تلك الليلة مع الرجل الأوّل.
قالت بضحكة ساخرة:
- كم وددت أن يكون هو الرجل الأوّل في حياتي! (وواصلت) رأسا ومن دون مقدّمات قال لي أحبك.. I Love you فرددت عليه I like you ثمّ كانت أشبه بوخزة الدّبوس.. لا تخافي. ستكونين امرأة بعدها...
ووضعت أمامي علبة مانع الحمل، وراحت تشرح:
- حاذري أن تخطيئ، أكون سعيدة أن أصبح جدّة وحماة لكن لم يحن الوقت بعد.
راحت تشرح لي بصوت هادئ، وعيناي ترافقان علبة الحبوب، وتحذِّرني من الخدأ والنسيان.
2
لم يكن منزل صديقي الجامايكي (أبيتورو) ليبعد كثيرا عن منزلنا، كنت أحيانا أستيقظ قبله فأغادر إلى منزل والدتي بالبجاما. لقد مرّت ليلة شكّة الدبوس بكل ارتياح، وأصبحت سيدة تحلّصت من ذلك الشيءالزّائد الذي يذكّرها بأنّها مازالت صغيرة السنّ.
كنت قد أنهيت الصفّ التاسع ولم تكن لي رغبة في مواصلة الدراسة وفكّرت في العمل، فوجدت وظيفة بائعة في سوبر ماركت (ساينس بري) وسط المدينة، كان صديقي يعمل عند جدّته العجوز أمّ أمّه بتكليف من مكتب الرّعاية فلم يعدّ بحاجة إلى البحث عن عمل. كانت الجدة (مارتيشا) سيدة طيبة القلب عملت طوال حياتها في مصنع للملابس تُعنى بالأزار، أكثر من خمسة وثلاثين عاما، لطيفة معي وكثيرة الشكوى من قلّة ذوق الأقارب. ثلاث بنات عاقات لايزرنها إلا نادرا.. تستثني فقط ابنتها الكبرى أم صديقي (أبيتورو) كلهن ينتظرن موتها حتى يرثنها.. تثرثر.. تنسى وتعود تتحدّث عن حفيدها.
في الليلة الأولى استقبلتني بلطف..
وفي صباح اليوم التالي تركته نائما كان عليّ أن أصحو مبكرة فأعدّ نفسي للعمل، ذهبت إلى المطبخ وعملت الفطور، ثمّ انتبهت إلى سعالها. قصدت غرفتها.. فوجدت خيطا من المخاط ينزل على ثوبها، حشرجة تنبعث من صدرها. كانت تهذي.
- مازال نائما شأنه كلّ يوم.
- لا عليك سأذهب معك.
- أستطيع أن أمشي إلى الحمام.
راحت تلتمس طريقها، وهي تثرثر:إنّه يأخذ راتبا من الرعاية مقابل خدمتي وفي أغلب الأحيان يتكاسل.
وعدت من المطبخ بالفطور، فقدمت لها الشاي والمربى، فشكرتني، وهي تقول:
- أنت فتاة لطيفة عليّ ألّا أخفي عنك بعض الأمور.
- تستطيعين أن تطمئني إليّ
فقالت بصوت متهدّج:
آسفة حين أقول لك إنّي بدأت أشكّ أن حفيدي يدخّن الحشيش.
شككت كثيرا في كلامها.. فقد أخبرني أنّ جدّته تهذي أحيانا وتنسى، ويصعب عليها أن تميّز بعض أحفادها ولا تتذكّر أسماء معظمهم.. ولعلها تفتري من دون أن تقصد.. مرّ على علاقتنا أكثر من شهر، وتأكدت من أن (أبيتورو) طبيعي لا يسرح مثلما يسرح الحشاشون.. ولاينسى، أويهمل نفسه.
هكذا ظننت، فأكّدت لها:
- سأخبرك حين ألاحظ أيّ تصرّف غريب
قالت وهي تلوك اقطعة بسكويت:
- آمل ألا تتعودّي منه تلك العادة السيئة
- لا تقلقي
كأنها تتردّد في طلب ما:
- هل يُعقل لاهو ولا واحدة من بناتي تصحبني يوم الأحد إلى الكنيسة!
- أستطيع أن أرافقك! اطمئنّي.
نهضت، وتذكرت أني في البجاما، علي أن أمرّ ببيت أمي، وأغير ملابسي، لأذهب إلى السوبر ماركت، قلت:
سأترك كل شيءفي المطبخ، فالوقت يضايقني.
- لا عليك سينهض يتناول الفطور، ويغسل الصحون
كانت أمي قد استعدت للذهاب، وجدتها تأنقت كثيرا، بدت سعيدة جدا، . سألتني كيف سارت الأمور
فضحكت وقلت:
- كلّ شيءعلى مايرام.
لقد جرت حياتي مع صديقي هادئة إلى حدّ ما إذ اعتدت أن أذهب إلى بيتنا بعد أن أنتهي من دوامي في السوبر ماركت، أتناول الطعام، وأستريح قليلا ثمّ أتصل به فأكون عنده في بضع دقائق. أحيانا أصل البيت قبل أمي فأقوم بتسخين الطعام الذي تكون قد أعدّته منذ الليل.
وتوطّدت علاقتي أكثر بالسيدة (مارتيشا) التي ازدادت إعجابا بي حين وفيت لها بوعدي ء يوم الأحد، فذكّرتها بالكنيسة. قلت لها مادمت وعدتك فسأذهب معك هذا الأحد لكني لا أظمن لك الذهاب كل أسبوع. كانت تنظر إليّ وتبتسم ابتسامة شكر.
لا أنكر أنّي لم أذهب إلى الكنيسة منذ زمن بعيد. لا يهمني أن يكون الله موجودا أم لا.
لا أنكره أو أثبته
أعتز بجذور والدتي الإيرلندية. ولا أعرف عن الإسلام شيئا.
والدي مسلم عربي هناك دماء شرقيّة تجري في عروقي... بعض سمار أبي وبياض أمّي.... قبل سنوات كنت ألىتقط ألبوم العائلة. أتمعن في الصور التي تخص أبي وأمي.
صور كثيرة
بعضها ذات تاريخ
في البيت
في الشارع
في الغابة
حادثة الاضطرابات في ليبيا دفعتني إلى أن أذهب إلى الألبوم بعد أن كدت أنساه.
والدي طويل القامة ذو شعر جعد
نظرة ثاقبة
ملامح بدوية
قسمات خشنة مهابة
يده على كتف امّي
صورة أخرى تطوّق خصره
أمام السوبر ماركت الذي تعمل فيه
أشياء جميلة
أمّا عادة تصفّح الألبوم فقد تركتها منذ زمن.
أسأل نفسي:
ياترى لو اقترنا وصحبنا معه إلى ليبيا :هل أكون مسلمة
ربما ألبس الحجاب
ولا أشرب البيرة...
ربّما اقتنعت أمّي بدين أبي
كلّ شيءمحتمل
في بالي أن نتمشى إلى الكنيسة التي لا تبعد سوى بضع خطوات عن حارتنا من جهة المنتزه الكبير والتي كثيرا ما أسمع صوت جرسها في بيتنا عندما يجثم السكون خلال أيام الأحاد والأعياد.
أقدر أن أجعلها تستند إلى ذراعي غير أنّها انصرفت إلى الهاتف، وطلبت سيارة أجرة، وسمعتها تقول للسائق كنيسة (العهد) استدارت بنا السيارة عبر طرق (روبن) إلى خلف محطة (كوينز ولك) .. كنت البيضاء الوحيدة من بين الحاضرين فالجميع بما فيهم القس من مجموعة جزر الكاريبي...
لم يثر الأمر دهشتي ولا يضايقني لأن أسمع من يتخدّث الإنكليزيّة بلكنة واضحة بقدر ما شعرت وقتها بأنّي نغمة شاردة وسط سمفونيّة متناسقة !
كان رواد الكنيسة لطفاء معي
راحوا يبتسمون للسيدة (مارتيشا) ويلاطفونها. كانت أكبر الحاضرين سنا، وأظنّ أن الكنيسة هي المكان الوحيد الذي تتوقف فيه عن تذمّرها وشكواها فتتحرّر من هواجسها. قالت لي قبل أن نأتي سأذهب للصلاة وحدها ولا شيءآخر فلا يجب أن نطلب شيئا غير الرحمة في بيت الرب... في أثناء الحديث شرد ذهني عما يقوله القس، وبدت الساعات ثقيلة كئيبة، كيف نكون مع المسيح، ونتجرد من خطايانا، مازلت صغيرة يمكنني أن أقترف الخطايا ثمّ أتوب، التفت إليها فوجدتها ساهمة مع حديث القس وتترنّم شفتاها مع المنشدين، رحت أمسك بكتاب الصلاة وانشد مع الجميع....
مسيحية
مسلمة
ولدت من حالة عاشرة
أبي هرب
أغنيّ للمسيح
ولديّ أخوان من زواج شرعي.
بعض الخشوع راودني..
خشوع عابر
السيدة (مارتيشا) تقول للقس حين فرغ وتوقف عندها ملاطفا ونظراته تنتقل بيني وبينها:
- سأكون قريبا مع المسيح.. قريبا جدّا
وتلتفتُ إليّ:
- أنا من جيل الملكة
- طول العمر لك ولصاحبة الجلالة!
وخرجنا من الكنيسة لأصحبها إلى بيتنا حيث قضينا بضع ساعات. ارتاحت للحديث مع أمي، وكررت ذكرياتها عن عملها والقس (آديو) ي راعي الكنيسة الجامايكية. الحقّ قبل أن يصبح االحفيد (أبيتورو) صديقا لي كان بينها وأمي سلام عابر، وكأنها وجدت في اللقاء فرصة لتلمّ شتات فكرها والصور المتناثرة بذهنها. جاءت إلى هنا حسب روايتها وهي بعمر ستة سنوات، تفخر حينما تتحدث عن عمرها أنّها بعمر الملكة وتأمل أن تدعو جلالتها كبار السن ممن ولدوا في العام نفسه إلى حفلة خاصة، أمّا الأمر الذي يضايقها فهو أن الجميع تنكّروا لها، بناتها، أو أحفادها، كلهم ينتظرون موتها ليرثوها، بيتها ذو الأربع غرف سيكون في جيوبهم، ولو لم تدفع دار الرعاية راتبا ل (أبيتورو) لما قبل بخدمتها. هو طيب لكنه حرامي وحشاش.
جشع مثل أبيه
وطيب مثل أمّه..
راحت أمّي تنظر إليّ وتتساءل:
- كيف عرفت أنه حشاش؟
- ذات ليلة راودني أرق، لم أرغب أن أزعجه،، تحاملت على رجلي وخرجت إلى الحديقة، فشممت رائحة ما، مازلت أشكّ، فعدت بخلسة إلى عرفته.. (مسحت بقايا مخاط بظاهر يدها من على أنفها) وواصلت) وجدته نائما لكنّي بدأت أشكّ.
شككت بعض الشيءفي روايتها، فقلت :
- من المحتمل أن تكون الرائحة من بقايا سجارة لعابر مرّ قرب منزلك!
تناولنا شرائح من البورك، والصوصج الذي أعدته أمّي طازجا شأنها كل أحد، وغادرنا إلى منزلها، لم نجد (أبيتورو) في المنزل. اتصل بي يقول إنّه في المتنزه يمارس لعبة كرة السلة مع رفاقه. وفي الساعة الثامنة عاد، والعرق يتصبب منه. كان يبدو طبيعيا، متألّقا خفّة ونشاطا.. فدلف إلى الحمام، فازداد شكّي أن الجدّة تهذي، وتتخيّل أحداثا غير موجودة، اكنا نشاهد التلفار، ولم يكن هناك من شيءمثير سوى خبر عابر عن أحداث ليبيا. وبدء اشتراك التحالف في المعارك، واستأذنت الجدة تغادر إلى غرفتها...
وقد أقبلل إليّ بكل قوته..
سألني:كيف قضيتما وقتكما؟
- جدتك رائعة جلّ المصلين في الكنيسة يعرفونها القس نفسه يكن لنا احتراما خاصا.
- هي أكبر رواد الكنيسة عمرا.
قلت ببعض التأنيب أو العتاب:
- كان عليك أن تخصص لها بعض الأحاد أنت أو أمك ليصحبها أحدكما إلى الكنيسة.
- لا أحد فينا يرغب في ذلك هي الوحيدة التي تعنى بالدين والمسيح.
وضع يده على شعري، وغيّر الموضوع تماما، كان معي تلك الليلة في منتهى فحولته ورقّته، أخذني مرتين، شعرت أنه يلتهمني، ولا يرغب في أن يشبع منّي، ولم أدرك نفسي إذ غفوت بين يديه.
غفوت طويلا
ولم أشعر بنفسي تماما
حلمت أني معه في جدول، والطيور تلاحقنا.. بيد كلّ منّا سلّة فيهاحبوب ننثرها على الماء فتطلّ الأسماك برؤوسها تلتقط الحب، ومن فوق تهببط علينا طيور النورس، تمدّ مناقيرها إلى السّلّتين تنقر الحب، وعندما فرغت السلتان، وغادرتنا الطيور والأسماك ألقى (أبيتورو) المجداف بعيدا وقفز إلى الماء خلسة مني، فضحكت، وهمست: أنت تمزح، ومددت يدي إلى النهر اغترف منه لأروي عطشي.. فوجدت يدي ترتطم بعمود السرير. كان بعض جسدي خدرا..
فتحت عيني فلم أجده..
خمّنت أنّه في الحمّام وربّما ذهب إلى المطبخ يعالج عطشه، فنهضت من السرير، فلم يلح لي أي ضوء من زجاج الحمّام العلوي، أعرضت عن أن أشعل النور في الممر، أو نور المطبخ الذي تسللت إليه، كان هناك ظلام من جهة الشباّك المطلّ على الحديقة الخلفية، وجلّ النور الصادر عن عمود الكهرباء في المربع عند موقف السيارات ينير الساحة ويلقي ببعض الضوء الخافت على الزاوية اليمنى للحديقة الخلفية.
سمعت بعض الهمسات من المكان نفسه، فتحاشيت أن أفتح الشباك لئلا أثير الانتباه.
هو صوته...
همس يتداخل...
ولا مجال أمامي إلا أن أنتقل إلى غرفة الحمام، فأطلّ من أعلى لأبصر بعيني ماذا يجري هناك، أخذت معي الكرسي المعدني المدور، وضعته جنب الحائط، وارتقيته بحذر.
أصبح الأمر واضحا تماما
كان هناك شخص آخر مع صديقي وجمرة السجارة تلوح شاحبة وسط القتام الشاحب. ليست صدمة لي، ولا يعنيني، كأنّي لا أريد أن أعرف، فهبطت من الكرسي، وعدت إلى الغرفة، نسيت أني نهضت لأشرب الماء، فتجاهلت العطش قليلا، وتظاهرت بالنوم حتى سمعته يفتح الباب برفق، وينسل فيرقد جنبي.
3
أرى قلقا على وجه أمي
بعض الكآبة
حالة اعتدت عليها مرتين بالسنة.
كلّ ستة أشهر.
الحال التي أتحدث عنها تتعلق بحقن البوتكس، تلك التي تخفي التجاعيد تماما من على وجه تجعّد بفعل الزّمن، ثمّ تعود شابة من يرها يظنّ أنّها في العشرين من عمرها. تعيش مرحة طوال فترة ستة أشهر
نشطة
تدندن مع نفسها
تبتسم
تختار حسب مزاجها صديقا من أيّ مكان تدعوه إلى المنزل يبيت معها وبعض الليالي تذهب عنده، ربما تستمر علاقتها بأي صديق شهراً وإن طالت بضعة أشهر ثمّ تبحث عن آخر أو تترك المسألة للمصادفة، لا تخفي رأيها أن أجمل شيءفي الحياة هو الطعام والجنس، ولا علاقة لي بأصدقائها الذين عرفتهم سوى تحيات الصباح، كان أيّ منهم يأتي بعد العصر، أكون حينها قدمت من العمل والتزمت غرفتي، وإذا ما اضطررت للنزول إلى الصىالون فلا أبخل على ضيف أمّي بابتسامة لطيفة
ثمّ
مع مرور الأيام بنقلب الحال
فإذا ما بدأ مفعول البوتكس بالتلاشى وظهر الترهل والثنيات على جبينها اختفت الابتسامة وحلّ محلّ الفرح والمرح قتام هائل، ستة أشهر وأحيانا أقل.. قبلها تعود التجاعيد، وكنت ذهبت مرّة مع أمّي إلى عيادة الطبيب المختص، ورأيت المبلغ الذي تدفعه، والأبر التي تنغرز بوجهها..
في الجبين
أسفل العينين
بين الحاجبين
بعدها تضطجع على ظهرها أربع ساعات لئلا تنتشر سائل الحقنة على وجهها.
تعاني دقائق.
لتنعم بشباب نصف سنة إذ لا كآبة ولا حزن
تقاربني في السنّ
أراها رائعة جميلة تثير الرجال
ولعلها تحتاج بعض المال، فتتصل بأخي (نول) في بلفاست، لتستلف منه، كنت اسألها ماذا يعمل أخواى، فتجيبني إنّهما يمارسان التجارة الحرّة. وكنت قليلة الاتصال بهما. أكتفي بمكالمة والدتي وحديثها معهما مرة في الشهر وربّما كلّ شهرين.
خلال أيّة مكالمة أشعر أنّ أخي الأكبر (نول) هو الأقرب إليّ، لم أ ر زوج أمّي في حين لديّ إحساس فظيع أنَّ أخي) جفر) من دون مشاعر، يتجاهل ولا يزورنا إلّا نادرا، مرّة واحدة رأيته، فرحت به ثمّ أدركت خلال اليومين اللذين قضاهما معنا أنّه لا يطاق، يفكّر بنفسه، ويؤمن بقوته، ولا أبالغ إذا قلت إنّه يعدّ نفسه الأقوى، يمكن أن يغضب لأتفه الأسباب، انتقد أمّي على تبذيرها إذ عرف أنّها استلفت من أخي، قال عبارة لم أفهم معناها في ذلك الوقت :نحن نتعب من أجل النقود وأنت تنفقينها على تجميل وجهك.. هل تعاندين السنين. فانزوت في غرفتها وراحت تبكي.
لكن
لم أسكت
قلت بكلّ ثقة: إنّها تستلف من أخي (نول) ولا تطلب.
فردّ عليّ بغلظة:
- حين تشتغلين سلّفيها أنت أو اقترضي من ليبيا.. بترول... بتروك كثير.
قد يخلط غضبه وقسوته الظاهرة بمزحة وسخرية، لست ألومه ولا أحاول التودد له فأخي الأكبر أقرب إليّ منه، لا أريد أن أستبق الأحداث، فعليّ أن أجد تفسيرا لكلّ ما يجري حولي، وهناك أمور أكبر من قدراتي وعمري، تتطلّب منّي أن أواجهها، ذهبت أمي إلى الهاتف، واتصلت بأخي في بلفاست، طلبت منه أن يحوّل لها مبلغا على حسابها في البنك، ثمّ استغرقت في الضحك وهي تقول، لا تقلق، سأعود في العشرين وأجد صديقا جديدا.
اختفت مع ضحكتها كلّ علامات الكآبة من على وجهها، حالما ضمنت أنّها سترجع شابة بعد ساعات وعلى الرغم من أنّها تعود إلى سنّ قريبة من سنّي إلّا أنّها لا تختار صديقا في العشرين بل تختاره في عمرها الحقيقي..
تحارب الزمن
ولا شيء يدخلها في دوامة الكآبة سوى عودة التجاعيد إلى وجهها.
وعودتها مع صديق جديد.
تكره أن يتهدّل الجلد تحت شفتها السفلى.. ترى أن المرأة مع تجاعيد الشفتين تصبح بفم أفعى.. قلت مباشرة بعد أن أنهت مكالمتها:
- هل حجزت موعدا مع الطبيب؟
- نعم اليوم وكنت قلقة على النقود.
وبتردّد سألتها:
_أمّي قد أفكّر أن أترك (أبيتورو)
- التجربة الأولى نعم يمكنك ذلك، قد تكون أقصر فترة مع الصديق.. أنت حرّة.
قلت بسذاجة:
- عرفت أنه يتعاطى الحشيش.
اعترضت بطريقة أقرب للّوم:
- وماعليك منه؟ ذلك أمر يخصّه وحده!
يمكن أن تكون أمّي على حقّ، فهي مسألة تخصه وحده، وانصرفت إلى عملي، وحين عدت إلى البيت لم أجد أمّي، كانت عند طبيب التجميل تستقبل بوجهها الإبر. غدا إذا مشيت معها يظننا الناس أختين، وهناك هاجس يثير الخوف في نفسي. هل إذا كبرت أتصرّف تصرّف أمّي. أطلّ على وجهي في المرآة وأحلم عندئذ بثلاثين سنة إلى الأمام.. تتغيّر ملامح وجهي الطّفوليّ المدوّر، وتنتشر التجاعيد على جبيني، وترتخي شفتى السّفلى..
أكره أن أكون قبيحة
فأؤجل في هذه الساعة ما سوف يكون بعد ثلاثة عقود.
وأغادر المرآة
إلى المطبخ أسخّن طعام الغداء.
وما كدت أخطو حتّى سمعت جرس الهاتف الأرضيّ يرن.
كان على الطرف الآخر أخي (نويل):
- أمّي عند الطبيب ستصل متأخرة.
- أتصلت بها على هاتفها المحمول فوجدته مغلقا.
- هل هناك من شئ؟
- أمي تعرف أنّ أبي بدأ يخرفّ، لقد وصل إلى حالة لانقدر على تحملها، اليوم أكملت إجراءات إيداعه في دار الرعاية، وبدأت اصفّي عملي بعد يومين سنأتي لتسكن معكم.
- ألم تخبر والدتي من قبل.
- لديها مقدمات بالموضوع وسأتصل بها.
- أنا سعيدة جدا أنكم ستكونون معنا.
فهمت من حديث أخي الأكبر أنّ هناك أخبارا ومعلومات تجري بينها وبين أخويّ لا أعرفها. خصوصية العلاقة بين الثلاثة، ولعلها لا تخبر أخوي بخصوصيّتي معها، ماعرفته جعلني أبدو أكثر سعادة، فقدوم أخويّ يكسر حسب رأيي الرتابة التي نعاني منها نحن الاثنتين.
عادت أمّي بعد الساعة السادسة، ظهر جمالها وخفة روحها وأناقتها.. أنا نفسي أصبحت لا أتحمّل وجهها المترهّل كأنّني أنا التي بدأت أشيخ.
- هل اتصل بك أخي نويل؟
- نعم بعد غد ينتقلان للعيش معنا (وأكّدت) صفّى نويل عمله في بلفاست.
قلت بسذاجة:
- لم أعرف ماذا كان يعمل.
أجابت بلا مبالاة:
- ماذا غير العمل الحرّ
- قال لي إنّه وضع أباه في الملجأ.
هذه سنّة الحياة!
شيء ما يذكّرني بأبي الليبي
الحبّ والنفور
أحبّه بعلاقة الدم.. البايولوجي..
لا أكرهه.. محال سوى أنّي في بعض الحالات أنفر منه
كان يعرف أنّ أمّي حامل بي عندما هرب.
مع ذلك
في خضم الأحداث والحرب الأهليّة التي اشتعلت في ليبيا وددت ألّا يصيبه أيّ مكروه..
تمنيت أن يفرّ..
يهرب
يهرب فيأتي إلى بريطانيا كي ألتقيه.
أو أفترض أنّي بعد سنوات أستطيع السفر، فأسافر أسأل عنه.
لا ألوم أمّي كثيرا حين ذكرت الحقيقة فثبّتَتْ في شهادة ميلادي اسم أبي وإلّا لكنت مثل الآخرين الذين يولدون من علاقات عابرة فلا يعنون باسم آبائهم.
قلت بثقة:
- لو كان أبي معنا وكبر في السنّ لانصرفت لخدمته ولم أدعه يرحل.
فسخرت أمّي كأنّها لا تصدّق ما أقول:
- من يدري لعلّك تغيّرين رأيك!
5
بمجئ أخويّ تغيّر وضع البيت تماما...
دبّت فيّ الحركة والنشاط
والصّخب أيضا
ليس بيتنا وحده..
حارتنا اشتعلت حركة وصخبا والحارات القريبة منها.
هناك فوضى غير مريحة وبدأ الخوف يدبّ في نفسي. انكشفت أسرار كثيرة كانت أمّي حريصة على أن تخفيها عنّي.
لقد انقلب كلّ شيء رأسا على عقب فاكتشفت حقيقة أخويّ
(نول) الهادئ المسالم الجرئ، و (جف) العنيف الذي يتباهى بقوته، ويزهو بقبضته. كانا يحترفان تجارة توزيع الحشيش في بلفاست، ويتناوبان على الجنس.
ضحكة مقيتة
نكتة جافّة ميتة.
عندما يخرج (نول) من التوقيف، يدخل (جف) السجن بعده ببضعة أعوام. أستطيع أن أقول إنّ نول هو المحرّك، لا يحكم عليه بسبب شجار بل حين يضبط بالجرم جرم التوزيع...
لا أرغب في أن أفهم بعض الأسرار بشكل عشوائي، فأخيرا أدركت أنّ أمّي كانت تتسترّ عليهما حيث ظهر أنّ قضية رعاية الأب حجّة لدى أخويّ، فإذا ما كسدت التجارة هناك، أرسلا أبهما إلى دار الرعاية، وجاءا إلينا.
وسرعان ما تعرّفا عل معظم سكان الحارة، أخي (نول) أقام علاقة خفيفة مع ساكن البيت ذي الرقم 9 الرجل الثلاثيني (ليوم) الذي لا يكلّم أحدا إلّا أخته التي تزوره على فترات، وممرضة من قسم الرعاية، فعُرِفَ في الحارة أنّه مصاب بمتلازمة الصّمت، وكم دهشت حين خرجت من بيت الجدة (مارتيشا) في وقت مبكّر حين رأيته على بعد مسافة من بيتنا مع أخي (نول)
تهامسا على عجل
وافترقا
وتيقنت من شكوكي حين عدت من العمل، فوجدت أخي (جف) يقصد منزل (ليم) فيلتفت قبل أن يطرق الباب ثمّ يدسّ في يده شيئا ما، .
سألته بضيق:
- هل كلّمك (ليوم) الصامت.
- وما شأنك أنت.. لا تكوني فضوليّة.
قلت بدهشة مفرطة:
- إنّي أعرفه لا يكلّم أحدا. شخص مصاب بمرض الصمت) بجدٍّ ظاهر وحماس) mutism أتدرك معنى ذلك.
قلتها لأنّني أفهم مايعنيه الصمت الانتقائي في صعوبة التواصل، وإقامة علاقة مع الأشخاص المصابين به، فردّ عليّ ردّا قاسيا:
- لا تتدخّلي في شؤوني (وأضاف) fuck mutism
كنت أنام في غرفتي في الطابق العلوي جنب غرفة أمّي، وهناك غرفة ثالثة احتلها أخي (جيف) أما نول ففضل أن ينام في الصالون حيث الطابق الأرضي على الأريكة الطويلة، قبل مجيئهما لم أكن أشعر بضجّة أو صخب أثناء الليل. أمي تعود متعبة من العمل فترقد بسلام، ماعدا بعض الليالي التي تصحب صديقا إلى البيت، فاسمع من باب المصادفة همسة منها أو حركة، وقد تطلق آهة لا تقوى على كتمانها فأحدس أنّهما يمارسان الجنس فأغرق مع نفسي بضحك صامت...
في منتصف الليل سمعت زعقة عنيفة جعلتني أهبّ من فراشي مذعورة..
من يتخيّل أنّي أهبط إلى الصالون فأجد منظرا مذهلا أمامي:أخواي في أوج الصراع، وعلى وجه (جف) أثر لكمة تبين مثل ندبة زرقاء، يظلّ يلهث.. يولوح على وجهه انكسار وإحباط..
في عيني (نول) شرر يقدح.
وتوعّد بالعقاب
صمت
ولهات
ثمّ صرخ:
إذهب إلى فراشك وعند الصباح نتفاهم
مسكت (جف) من ذراعه لأرافقه إلى الطابق العلويّ، فأفلت من يدي وسبقني. وقال (نول) بنبرة حاول أن تكون هادئة لينة:
- إصعدي ونامي، لا تشغلي بالك.
واستوقفني على الدرجة الثانية:
متى تحين فترة استراحتك في العمل؟
قلت وأنا أتثاءب:
- الساعة الواحدة!
سيمرّ عليك (جف) غدا انتظريه خارج السوبر ماركت على الرّصيف.
ترى علام اختلفا.
منذ أن سكنا معنا و (نول) هو الآمر الناهي (جف) يصغي فيذعن ويطيع.... أحيانا يتململ، وفي بعض الحالات يتمرّد فيرفع صوته عاليا. ليس من شأني أن أتدخّل في عملهما.. ولا أظن أمّي حسب وجهة نظري البريئة إلى حدّ ما ضليعة معهما. هكذا كنت أظنّ، في الساعة الواحدة وقفت على الرصيف، فجاء (جف) يحمل كيسا. مغلقا. قال وهو يغادر على عجالة إنّه سيعود نهاية الدوام ليستردّه، راودني خوف وتلاعبت بي هواجس شتّى، خانتني شجاعتي، في أن أرفض ولم أجرؤ على أن أفتح الكيس. شككت أنّ فيه شيئا... فأسرعت إلى خزانتي الخاصة ودسست الكيس مع أشيائي الأخرى التي ألقيها في الصندوق قبل البدء بالعمل.
هو ثقل ما جثم على صدري
خوف أكثر مما هو تأنيب ضمير
قلق
شيء لا يوصف
وتنفست الصعداء حين دخل (نول) إلى المحل، ابتاع زجاجة بيرة، وغمز لي بعينيه غمزة نشوة وفرح. وجدته ينتظرني على الرصيف مع فتاة طويلة مدورة الوجه ذكية الملامح، ومعهما كلب ضخم ذو عينين شرستين وشدق غاضب. في صغري لم تستهوني الكلاب، اقتنيت سنجابا جميلا، بقي معنا عاما ثمّ قفز من شجرة التفاح في الحديقة الخلفيّة إلى السياج فالرصيف، وغادرنا ولم يعد، بعد ذلك عاشت في البيت قطة ذات فراء أبيض جميل، مسحت على رأس الكلب، وكانت صاحبته ترحّب بي بابتسامة عريضة:
- (أديلين) صديقتي (وأضاف) على فكرة سأقضي الليلة في الكريستيانيا، قبضت (أديلين) على الكيس وراح كلّ منهما في طريق مختلف، وعندما وصلت البيت وجدت أمي سبقتني. استقبلتني بنشوة كبيرة وابتسامة مشرقة عهدتها منها كلما حصلت على مكسب كبير.. كنتُ في غاية التعب، فدخلت المطبخ، وجاءت أمّي فأخذت قنينة بيرة من الثلاجة، وقصدت الصالة، أكلت على عجل، ولحقتها
راودني بعض الغضب مما جرى ليلة أمس واليوم، فالتقطت الرموت كنترول وتنقلت بين القنوات، لم أستقر على واحدة:
أخبار القصر الملكي
تقدم حزب العمال
أحراش شرق آسيا
مظاهرات ليبيا
عصابات أمريكا اللاتينية
أغلقت التلفاز، فقالت أمّي:
- shit
عاودني غضب وذهول:
- هل علمت بما حدث الليلة الماضية.
قالت بلا مبالاة:
- أخبرني نول عن الوضع.. أخوك (جف) طماع.. الآن _ماداما يسكنان معنا- فلتكن القسمة على ثلاثة.
- ماذا عنّي أنا لأستلم كيسا في أثناء عملي.
قالت بهدوء وثقة:
- ليكن.. أقسم لك أننا سنعيش عيشة الملوك.. نسكن قصورا فارهة ونحيا في المستقبل أفضل حياة مثل الكيس الذي تعنين يدر مبلغا لا يقل عن خمسين ألف باوند، لابأس لتكن الحصة على أربعة.
قلت باعتراض مشوب ببعض الرضا:
- ماذا عن المغامرة.
- يا صغيرتي الحياة كلّها مغامرة، لا أحد ينجو منها، أبوك تركك وهرب، وهو الآن يعيش وسط مغامرة.. كلنا نغامر من حيث لاندري.
ليس هو الذهول
ولا الصدمة
بل حديث أمّي عن المستقبل، عن الماضي، والحاضر، والمستقبل الناعم لوجرت الأمور كما أشتهي لكنا في ليبيا نعايش حربا نبصرها مِنْ على الشاشات مَنْ يدري... في كلامها شيءمن الحكمة أم التهوّر لينكشف لي بعدئذٍ عالم آخر جهلته تماما.. كانت أمّي تعرفه وتعيشه، لكنَّها أخفته عنّي.. لا أعرف كم معهما من نقود وأين يخفيانها أمّا أمّي فتقول إنّنا بعد أشهر أو على أقلّ تقدير سنة نصبح ملوكا.، ولا أعجب بعدما رأيت من أنّ أخي سيتخذ من بيت صديقته في الكريستيانيا _مملكة الحشيش في نوتنغهام- مقرا له وسيأتي إلى بيتنا على فترات، ليلفت أنظار البوليس إلى محلتنا حيث يظلّ ينشط في أماكن أخرى.
لقد سجلا أقامتهما معنا فلا أحد يعترض إذ هما في بيت أمّهما.. وقد صدقت هواجسي فحالما خرجت من بيتنا وجدت سيارة بوليس على بعد خطوات من الباب.. سائق ينتظر.. وفي الساحة التي تحيط بها حدائق البيوت الأماميّة، رجل بوليس يبحث في الحشائش عن شيءما ربّما قطعة أو قطع حشيش ألقاها (نول) بين الحشائش ليأتي فيما بعد زبائنه فيلتقطونها.
غادرت بيتنا إلى منزل صديقي وأنا في أشدّ الضيق.. أصدّق أم أكذّب.. مارست التهريب على الرغم منّي.. أردت أن أكون قريبة من أمّي أقرب من أخويّ إليها بحكم كوني الصغرى.. أنثى مثلها.. لأجد أنّ أخي نول يظلّ مثلها الأعلى، إذ حسب حلمها هو الذي يجلب السعادة لنا في المستقبل.
لم اشتم في بيت السيدة (مارتيشا) أيّة رائحة غريبة، كانت سعيدة بزيارتي وطلبت مني بلطف أن أصحبها مرّة أخرى إلى الكنيسة: تقول إنّ السيد المسيح يدعوها لتكون معها، وتلتفت إلى حفيدها:
- أنت تتعجلّ هو الذي يعرف متى يدعوني إليه هذه الليلة غدا.. بعد شهر أم سنوات، المهم ستستيقظ متأخرا ذات يوم فتجدني أنام نومتي الأبدية (كان صوتها يتهدج، وخيط مخابط يهبط على صدرها، فتناولت منديلا مسحت أنفها لتشكرني وتعود إلى الحديث) لكن يا صغيري حاذر إذا وجدتني أنام نومتي الأبديّة من أن تسرق النقود من خزانتي.
فنهضت، فصحبتها إلى غرفتها، وساعدتها على أن ترقد في فراشها، وعدت إلى الصالة، فوجدته يتابع التلفاز.. كأنّه مثلي ضجر من جميع القنوات، توقف عند محطة، لطيران يقصف موقفا، وهتف:
- يا للجحيم ليبيا ثانية!
فخامرني ضيق ما:
- أتعرف إنّ أبي هناك.
- ليبي؟
- للأسف لم أره تركني في بطن أمّي مع ذلك أخشى أن يتعرّض لسوء.
اقترب منّي وداعب شعري، وأطبق بشفتيه على شفتيّ. أغمضت عينيّ وطلبت منه أن نذهب إلى الفراش.
كنت أهرب إليه.
- خذني إلى الفراش.
مارسنا الحب. فعل مرّة
استرخيا فتحسس جسدي بيده
خدرت ثانية
واستعرض فحولته معي
بعدها عدنا للتحقيق في السقف. قلت:
- (أبي) (خاطبته بصيغة التدليل) هل خالتاك قاسيات إلى هذا الحدّ.
فضحك ضحكة خفيفة:
جدّتي تحلم.. تهلوس.. تظنّ نفسها ميتة وهي حيّة.. عندي خالة تعيش في ليدز، وأخرى عاشت في لندن وماتت قبل عامين، خلال عيد ميلادها كلّ عام تأتي خالتي من ليدز مع كل العائلة، وأولاد خالتي من لندن، نقيم لها حفلا رائعا.. لاتريد أن تقتنع، بل تظنّ نفسها ميتة وخالتي الميتة مازالت على قيد الحياة.
داعب حلمة ثديي براحته، فسألته:
- قل بصراحة هل تدخّن الحشيش؟
فابتسم:
- في هذه المسألة جدّتي لا تكذب.
بعد صمت.. رفع إبهامه عن حلمتي:
- بودي لو اشتريت الحشيش من أخيك (نويل)، ذلك أسهل لي.
ترددت:
تدخّن؟ أم. ؟
- لا بأس في أن أدخّن وأوزّع ليكن business أنا بحاجة إلى التقود.
- كلّ ما عليّ أن أخبر أخي.
وحين خرجت في الصباح، وقد تركت العجوز ترقد بسلام، فلم أرد أن أزعجها، وجدت أمي مازالت في البيت، كانت في أرقى أناقتها وخفتها، ورشاقتها
سعادة غير متناهية تتوزعها إبر البوتكس ونشاط أخي التجاري في الممنوع..
لاح لي أنّ تعجلها المستقبل يمنحها حيوية لاتطاق
قلت ببعض الزّهو:
- صديقي (أندرو) يرغب في أن يبتاع منّا
فابتسمت وعلقت حقيبتها على كتفها:
- ألم أقل لك.. أنا شخصيا لا أدعو صديقي إلى البيت لئلا تعرفه الشرطة سيوزّع معنا، وصديقك؟، سأخبر (نول) ثقي لن يهضمك حقّك! باي!
خرجت
ولا قلق يراودني
سوى أن يعيد أخي تجربة السوبر ماركت غير أنّي أقنعت نفسي أنّه محترف فلن يفعلها مرّة أخرى.
6
من مفارقة المصادفات أنّ السيدة التي تظنّ المسيح ينتظرها لم تمت...
مازالت في أنفاسها بقيّة تدفعها لأن تعيش أكثر..
صديقي حفيدها انجرف مع أخي في العمل، وكان (نول) يعجب بنشاطه وسرعته.. ويتضايق من أنّه يدخن في بعض الأحيان. وهي المرّة الأولى التي يقبل فيها أن يكون لديه عامل يدخن.. فلسفته أنّ الذي يبيع الحشيش يبتعد عن تعاطيه.. هو شغل... وظيفة مثل السياسة.. مهنه.. أمّا البيرة والويسكي وعالم الكحول فيمكن أن تكون - حسب رأيه - هي الهواية التي نهرب إليها كان (أيتورو) يمارس الجنس وهو صاح، فأراد أن يجرّب معي وهو في حالة غيبوبة.. هذه المرّة لم يذهب إلى الحديقة، لم يتسلّل. أغلق باب الغرفة وفتح النافذة، بدأ يسخّن القطعة الصغيرة الخضراء، ثمّ يلفّها، بورقة شفّافة:
- هكذا.. رائع حقّا عالم رائع.
راودتني رغبة فقلت باندفاع غير محسوب:
- دعني أجرّب.
فقال معترضا:
- أترغبين في أن يقتلني (نول) لقد حذّرني من أن أعرض عليك التدخين!
- هل صدقّت؟ إنّه مسالم لا يقتل بعوضة.
سحب نفسا ثانيا طويلا، فرأيت عينيه تزوغان نحو النافذة:
- إذن إسحبي نفسا...
وخطا إلى النور فأطفأه، وأخذ يحدّق جهة الشباك الذي كان نور مصباح الشارع يتسلل منه عبر الستارة..
- ستشعرين بجسمك خفيفا.
سعلت
تهدج نفسي
بعض الغثيان
وشيء من الاختناق
كتمت السعال، بيدي، وحاولت أن أخطو إلى المغسلة ثمّ تراجعت شعرت برجليّ تتنمّلان، دوار خفيف يلاحقني، عيناي تجولان في الغرفة.
العالم يقترب من يدي
ألمسه
أراه ناعما.
أجد أخي (نول) محقَّا في أن يشيع النعومة المتناهية في هذا العالم القبيح.. قد يتغير وضع الدنيا بنَفَسٍ عميق، فهل أستطيع زيارة أبين فأرى شكله كما هو؟
ليبيا
لبنان
ما الفرق.
لو دخّن العالم.. العالم كلّه رجالا ونساء في وقت واحد لو دخَّنوا بساعة واحدة لأصبحوا أصدقاء، لايكره. أحدهم الآخر...
لا يتقاتلون... لا يهربون
أهتف بهمس:
- (أبي) خذني! لا تتردّد..
في الصباح وجدت نفسي عارية بعد نوم عميق..
شعرت أنّ جسدي خفيف جدا
أخف من ريشة
أرق من النسيم
وأنّي في الليل كنت أسبح مثل الغيمة في السماء.
لقد نمت نوما هادئا
مريحا
لامثيل له
فهل أعاود التدخين من جديد
وقبل أن أخرج إلى بيتنا، انتبهت إلى أنّ صداقي استيقظ مع حركتي، فمسك يدي برفق، وقال:
_أرجوكِ لا تخبري (نول) سوف يطردني !
- لاتقلق أعدك!.
كان يمكن أن يمرّ اليوم في حارتنا - حارة كوز وي ميوز - بأمان، فليس هناك من يطلبه الموت سوى السيدة (مارتيشا) التي تنتظر المسيح يأتي إليها لكنّي حين عدت من العمل وجدت وضعا آخر، وقع بصري على سيارتي شرطة، وحاجر من شريط ذهنبي أمام بيت الرجل الصامت ذي الرقم 9..
بلاشكّ خمّنت شيئا ما
أأشدّ من معركة بين اثنين
السيدة أخت الرجل الصامت تستغرق في حديث من أحد الشّرطيين.
اتصلت بأمي، فأخبرتني أنّها ستبيت عند صديقها. رحت أصف لها مارأيت عن بعد، فلم تكثرث، كنت مجبرة هذه الليلة على أن أظلّ في بيتنا، فقد فضّل أخواي أن يبيتا خارج البيت، (نول) عند صديقته، و (جف) عرف سيدة في آرنولد، وبدأ يتردّد عليها.
كانا يعدّان البيت مركز عمل يأويان إليه أيّ وقت يشاءان.
لا أدري أن يضعا النقود
أو في أيّ مكان يخزنان البضاعة.
كدت أتصل بصديقي لأدعوه أن يقضي الليلة معي في البيت، وتراجعت
الوضع اختلف بعد أن اشتغل مع أخي
كنت أهمّ بخلع ملابسي حين رنّ جرس الباب، فدخل عليّ شرطيان، في نبرة الشرطي الضخم بعض الغلظة:
- فتشي البيت.
بدأت الشرطيّة الرقيقة التي قابلتني بابتسامة جادّة تلقي نظرتها على الممر والمطبخ ودخلت الحمام فتحت بعض الأدراج ثمّ صعدت الطابق العلوي. قال الشرطي الغليظ:
- السيد (ليم) انتحر هل تعلمين.
- متأسفة ماذا بعد؟
- قتل نفسه وقد وجدنا في بيته بعض الحشيش.
أجبت باستنكار:
- ماعلاقتي بالموضوع؟
- أين أخواك؟
- لاأدري بعض الأحيان لايأتيان ولا علم لي أين يبيتان.
قلت ذلك وأنا أعرف أنّي كاذبة، فأخي الأكبر يقضي الليل عند صديقته في كريستيانيا، و (جف) في آرنولد.
- آخر مرّة رأيتهما.
أجبت بنرفزة ظاهرة:
- لِمَ كلّ هذه الأسئلة وكيف يحقّ لكما أن تعبثا بالبيت.
جاءني صوت الشرطيّة الرّقيقة وهي تهبط من السلّم:
- من حقنا، لدينا ملف أخويك الذي وصل من بلفاست. إنّهما يمارسان توزيع الحشيش، توقّعي في أيّ وقت يمكن أن نأتي.
وأكد الشّرطي الشرس:
- لا حدود ولا وقت لزيارتنا!
لذت بالصّمت، وحالما خرجا، تنفست الصعداء... تهاويت على الكنبة، وضعت قدميّ على الطاولة، كما لو كنت أتحرر من جسدي، ومع لحظات الاسترخاء لم أشعر بنفسي، رحت أغطّ بنوم عميق، قبل أن أتصل بأمّي لأخبرها بزيارة الشرطيين لبيتنا.
7
لاشكّ أنّ الأحداث كانت تجري أسرع مما يتصوّرها أيٌ منّا.
إذ
أنّ الفرح الذي غمر أخي (جف) خرج عن المألوف
رأيت وجهه يتهلل
والسعادة لا تسعه
لم أستغرب فأخي (نول) خرج من السجن اليوم
كان قد تشاجر مع شخص ما في كريستيانيا، أمّا ما أعرفه عنه فأضنّه رجل مسالما ولعلّ عقوبات السجن التي طالته في إيرلندا كانت تخصّ مادّة الحشيش أمّا الشجار مع الآخرين فاحتمال بعيد...
كنّا أنا وأمّي نعدّ الأمر عاديا، ولا أحد في الحارة يلتفت إلى مشاكلنا مع الشرطة فكلّ يهتمّ بعمله.
أخي في التوقيف أسبوعا ثمّ خرج، وفي يوم خروجه شعرنا بالسعادة، وكان أخي (جف) أكثرنا حيوية ونشاطا. احتضن نول وهتف راقصا.. خرج أخي من السجن.. أووه نول..
مع ذلك يمكن أن يحدث مالم يكن في الحسبان
خلال فترة الأسبوع، والسجن لم أذهب إلى بيت صديقي، ولم تبت أمي عند عشيقها.. ق=فضّلنا أن نبقى في المنزل، وعندما عادت الحريّة لأخي..
انتهى خوفنا
وبدأت أمي تبيت عند صديقها الذي قالت لي عنه إنّه أصبح موزّعا ممتازا لا يلفت النظر، معظم زبائنه من الطلّاب الجامعيين الأجانب، ولم أكرّر تجربة الحشيش مع صديقي. في أوّل تجربة وجدت أعضائي تهرب منّي وهي ملتصقة بي.
ولم أطق الغثيان...
أفضّل البيرة..
أشرب قنّينة لا أكثر
أتركه يدخّن الحشيش وحده
ثمّ
نمارس
لكنّ سلوك (جفّ) العنيف غيّر كلّ شيءفي حياتنا.
نلك الليلة المشؤومة جاء نول إلى المنزل.. شيءآخر أشاع البهجة في نفسه.
سرور غير مبالغ فيه
للمرّة الأولى أراه يفرح لوضع لايخصّ التجارة.
قال إنّ صديقته حامل، وسوف يصبح بعد أشهر أبا، ارتحنا للخبر.. وباركناه.. تحدّث عن الصفقة الأخيرة، ووضع رزمة من النقود ذات العشرين باوند على المنضدة. قال لي وهو يربت على كتفي بحنوّ:
لك في الرزمة حصة أنت تحمّلت بعض المسؤوليّة.. الكيس ولا أنسى جهدك في جلب موزّع جديد.
سألت أمّي:مارأيك فيه؟
- ممتاز عنده الجامايكيون والأفارقة ولو لم يكن يعمل مع جدته..
قالت أمّي:
سآخذ المبلغ إلى خالك لكي يديره لنا.
كان خالي يعيش في (بول ويل) يملك مزرعة لتربية الدجاج، ليس من المعقول أن نضع النقود في البيت لئلا نترك أيّ مستمسك يديننا عند الشرطة أو تقع فريسة للصوص.، لقد سألت (نول) :
- هل يعرف خالي بمهنتك.
فضحك ساخرا:
- ما المانع ألّا يعرف خالك ليس شرطيّاً.
وسألتني أمّي:
- مارأيك؟أضع حصّتك وإن كانت قليلة عند أخي.
فقال أخي:
- أتركيها لها مادامت قليلة ولا أظنّها تحب العمل سأعتمد على (أديلين) !
ورفع هاتفه النقال، تحدّث مع (جف) ووضع الهاتف النقال على المنضدة بعصبيّة:
سيأتي الليلة.. يجب أن يأتي هذا العنيد.. هناك حسابات يجلب أن نصفّيها..
فكّرت حين رقدت في سريري قبل أن يغلبني النوم بعرض أخي، فاقتنعت إلى حدٍّ ما أنّي لا أصلح.. علاقتي ليست بالواسعة، وليس لديّ صديقات أو أصدقاء.
بصراحة:لا أجرؤ
شيءمن الخف
في بالي صديقي
أستطيع العمل معه من غير أن ألفت النظر..
كان يمكن أن تمرّ الليلة هائة مليئة بالأمان مع شغفي بالنقود، وفرحة أمّي باستثمارها في مزرعة خالي.. لقد غفوت على هاجس جميل ناعم هادئ دافئ. لم أعرف متى دخل أخي (جف) إلى البيت.. بين اليقضة والنّوم سمعت أصواتا وهذرا كثيرا
لغطا بصدر عن الطابق السّفليّ، ظننت أنّ أحد أخويّ يتحدّث مع أصدقائه.. أو صديقته، وتبنيتُ بعد لحظات أنّها أصوات خشنة، فعدت إلى الاسترخاء ثانية.
توهّمت أنّهم ثلاثة رجال..
وحين ازداد الصّخب
وعلت ضجّة أعقبتها صرخة مكبوتة..
حادّة
وخافتة في الوقت نفسه
هرولت إلى غرفة أمّي التي تثاءبت وهي تقول دعيني أنم هما دائما هكذا يتعاركان بعدها يصطلحان في النهار.
تركتها وهبطت الدرج حيث صالة الاستقبال، فوجدت المشهد الفظيع يتجسّد لناظريّ بكل معالم القسوة والعنف..
أخي (جف) يقف مذهولا على بعد خطوة من باب المطبخ
كان في عينيه شرر
حدة
وقسوة
لكنهما لاتخلوان من ندم مخفيّ
أخي (نول) يمسك بطنه التي انخرزت فيها سكين تقطيع اللحم !
يصرخ..
ينحني إلى الأرض
ثمّ يستلقي على بطنه
ويركل برجليه
صرخت... نتفت شعري عن لا وعي
وهرعت إلى الإسعاف، وفي اللحظة التي هبطت أمّي الدرج.. اجتاز (جف) الممرّ، واندفع مهرولا خارج البيت...
هل هرب لأنّه لا يريد ألّا تلتقي عيناه بعيني أمّي
أم
لم يعدْ يتحملّ مشهد عذاب أخيه؟
شُلَّت أمي لحظتها فلزمت الصّمت، ثمّ انهارت على الأرض، فتحركت عن غير وعي إلى الهاتف
كان كلّ شيء يوحي بكارثة جديدة
هرعنا مع أخي الجريح إلى المشفى الملكي..
بملابس النوم..
لم نكن بوعينا حقّا
وإذ أتكلّم عن نفسي أجدني لم أر ساعة الحادث، قطرات دم على الأرض لكنّي حين عدت بعدئذٍ رأيت الدم على الفرشة وعند عتبة المطبخ.. خيط يوحي بأن نول مشى والسكينة في بطنه.. من المطبخ إلى الصالة... أمّي أصبحت مثل البلهاء.. لا تعي أيّ شئ..
ولا عزاء لنا سوى أن ننتظر أمام غرفة العمليات..
أين كنت.
كأنّني أمام ملحمة أشاهدها في التلفاز...
خبر عن ليبيا أرى فيه مصرع أبي..
كنت أرغب في أن يأتي أخي ليعيش معنا.. ربما وجدت فيه بدلا عن أبي الذي افترضت أنّه قتل هناك في الحرب الأهليّة..
كان حنونا معي
رقيقا
ناعما..
مدهشا..
لكن....
في الساعة العاشرة...
وخلال دقائق.. عرفت الحارة قصّة الأخوين، وضعت الشرطة شريطا برتقاليّ اللون أمام بابنا غطى فسحة الحديقة الأماميّة ووقف شرطيّ عند الحاجر ينبه أيّا من المارة ألّا يقترب، وكان هناك من يقف ويسأل من الجيران والمارة بدافع الفضول...
زوبعة صامتة حولنا
جريمة مذهلة
طعن
وكان لابدّ للشرطة أن تستجوبنا..
بعد ساعات.. تغيّر كلّ شيء
مات أخي قبل الظهر!
وكان علينا أن نلبس الأسود ونستعدّ للجنازة
8
مرّ على مصرع (نول) أكثر من شهر..
حقّا انهارت أمّي في البداية
وسرعان ما تماسكت وتجاوزت الأزمة
ولم تعد تعير أهمية لشفتيها وتجعد وجهها. بل أعرضت تماما عن حقن الإبر.. والذي شجعها على التعايش مع الحالة الجديدة زيارة (أتيلين) لنا. أبت أن تتركنا وحدنا.. سعدت جدّا حين رأيت بطنها تكبر، وازدادت سعادتي بها حين وافقت على اقتراح أمّي لتتخلّى عن شقّتها وتسكن معنا.
وبقي علينا قبل كلّ شيء أن نفكّر بفكّ ارتباطات (نول) وعقوده الخاصّة مع الآخرين..
وافقنا بكلّ ارتياح على أن نعمل معا. أحيانا أنضمّ للسيدتين المتحمستين.. فبغير هذه الوسيلة لن نستطيع الإفلات من قبضة الآخرين.
قالت (أتيلين) تصفية الحسابات تحتاج إلى شهرين، نوزّع للزبائن وننهي التزامات نول عندئذٍ ننجو ونرتاح.
وأبدت أمّي حماسا شديدا:
لا بأس سأكون معك.
سألت: أريد أن أعرف دوري؟
ردت أمّي بحدّة: أنت لا أتركي الأمر لنا
راحت السيدتان تعملان بنشاط دؤوب. تخرجان إلى الشارع، تتحدثان بالهاتف مع جهات لا أعرفها
تغيبان عن البيت طويلا
تستغلان عطلتي السبت والأحد:
تتصلان من أماكن لاتثير الشبهات:
من أمام الكنيسة
داخل مركز نوتنغهام
تستغلان ازدحام السيرك فتتواعدان مع الآخرين
أو
داخل صالة السينما والتزلّج على الجليد
وإن اضطرتا
ففي المكتبة العامّة
من دون أن تثيرا الشّبهات... تجاوزتا الخلافات بينهما وبين الزبائن والمصدّرين وإذ مرّ الوقت بسلام، وخرجتا من دائرة (نول) الخطرة تنفستا الصعداء.
وخرجت أمّي بمال لا أصفه بالقليل
وابتعدت الشرطة عن مراقبتنا..
وعلى الرّغم من كلّ ماسبق
فقد انهارت امّي بعد النجاح الكبير الذي حققته.. فلم تلتفت لنفسها.. شكّت من تعب في قدميها وبرودة في أطرافها، في بعض الليالي كانت تهبّ من نومها تشكو من تشنج في قدمها اليمنى.. ألم يدوم دقائق تتجاوزه بكزّة على أسنانها.
تفسّر كل مرض بالتعب والإرهاق
تتطلّع فيّ طويلا وتطمئنني.
تلقي بسؤالها المفاجئ:
- الا تذهبين عند صديقك؟
أسكت لحظة:
- أبدا لا. لم يتصل أصبحنا بنظره ونظر الجيران مشبوهين!
- طظ.
لم تجرؤ على زيارة أخي خشية من أن تثير الشبهات، وكانت تردد ماذا ينتظر.... جريمة قتل، وتهريب ممنوعات، لا أستغرب قطّ فقدشعر جف بالمهانة والاضطهاد، فرغب في التمرّد على أخيه، فاستغلّ أكثر من شخص سذاجته، حرضوه بعد أن صوّروا له (نول) غولا مخيفا يروم التهامهم، ليغرروا به فتخلّصوا من الأخوين.
وشيئا فشيئا تجرّدت أمّي من موقفها الصارم، وخضعت لعاطفتها، فغامرت بزيارة أخي وعادت من السّجن منهارة، في ذلك المساء وجدتُ التجاعيد غزت وجهها كأنّي أنظر إلى امراة في الثمانين من عمرها، حاولت أن أداعبها:
- لينته الحزن يا أمي، ستىحلّ قريبا أعياد الميلاد ورأس السنة، هل ندعو خالي وأسرته ليحتفلا معنا أم نذهب إلى مزرعته. ؟
لزمت الصمت وظلّت تتطلّع بوجهي. رأيت ملامح التعب والصفرة على وجهها، فاستدركت:
يجب أن أصحبك إلى الطبيب فأعيدك إلى سنّ الثلاثين!
فجأة
صرخت
وتهاوت.. كانت تمسك برجلها اليمنى..
وتصرخ
تكزّ على أسنانها..
تتمرّغ على الأرض
أمر لم أحسب حسابه..
وضع جديد يفرض نفسه عليّ
كانت تعاني منذ الحادث، أجدها هادئة فأظنّها تجاوزت الأزمة عانت خلال فترة الشهرين ولم يبدُ عليها أيّ عارض للمرض حتّى ظنّت نفسها استراحت من مخلّفات الماضي فإذا بها تسقط فجأة فاقدة الوعي من الألم، ولا حلّ أمامها إلّا أن تعيش بساق واحد.
كنت أعيش في بيتنا وحدي مدّة بقائها في المشفى، هجرت صديقي الذي خشي أن يُزجّ به بعد حادث القتل، كنت أسلي نفسي بمشاهدة التلفاز.. اتعمّد متابعة أخبار ليبيا والحرب الأهليّة ولا يهمّني أن يكون القذافي قُتِلَ قبل أن يقطع الجراح قدم أمي أو بعدها مباشرة.
بل
ما يهمّني هو رأس أبي الذي كان يخجل من أن يصحب أمّي معه إلى بلده كونها أم لولدين من غيره..
يخجل..
وهاهما الأخوان في ورطة القبر والسجن.
مع ذلك
أودّ ألا يحدث له مكروه. ربّما ألتقيه في يوم ما..
والآن
بعد كلّ ماسلف
لم يعد بيتنا يصلح للعيش. سوف نغادره لنعيش في بيت من طابق واحد.. ولا خيار أمامي سوى أن أترك عملي وأتفرّغ لأدفع كرسي أمّي وأعتني بها فالعيش في بيت أكبر وأكثر رفاهية مثلما كنا نفكّر من قبل أصبح لا جدوى منه.
***
د. قصي الشيخ عسكر
...........................
* انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة اليوم 27\4\2025