نصوص أدبية

نصوص أدبية

لاتَـقلْ للنـاسِ إنِّي صـرْتُ شاعرْ

فـي بـحـورِ الشعـرِ سباحٌ وماهـرْ

*

يـنسجُ الـحـرفَ كــفرسانِ الـهوا

يخطفُ الأضواءَ مثلَ النجمِ باهرْ

*

بــهـلــوانٌ لايـُـجـارى مــطـلـقـاً

سـاحـرٌ قـد يـَقْلـبُ المنديلَ طـائرْ

*

إنَّــمـا الـشـعرُ شـعــورٌ صــادقٌ

يبعث الاحساس في عمق الضمائرْ

*

يـجعل الـحـرف سـلاحــا فـاتـكا

نـاصراً لـلحق مـثل الـسيف باتـرْ

*

لـم يـكنْ مـحضُ خـيالٍ يــرتجى

أو شـعورٍ فـي ثـنايا الـفكرِ خائـرْ

*

بـل نـزيفٌ مـن شـرايين الجـوى

و جُـمـوحٌ عـارمٌ كـالسيلِ هــادرْ

*

أو كـماالأعصارُ يـجـتـاحُ المدى

نـاشطاً مـثلَ هـبوبِ الـريحِ ثـائـرْ

*

يـستمدُّ الحـبرَ مـن جـرحِ الأسى

لـيصوغَ الآهَ لـحناً فـي الـحناجرْ

*

هـلْ لنـا نكـتبُ شعـراً في الهـوى

وأمــانـينـا تـلاشتْ فـي الـمـقابـرْ

*

فـالعيـونُ الخضرُ ماتـتْ خِـلسةً

والـرزايا شـيّبتْ سـودَ الـضفائرْ

*

لــم تــعدْ أعـشاشُـنا فــي مـأمـنٍ

فـغـدونا مثـلَ عـصفورٍ مـهاجرْ

*

وئـِــدتْ أحـلامَـنا فــي مَـهـدِها

والأســى يـجـثمُ  فـيـنا  لا يـغـادرْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

حرارة

ما أدركَ ذاك الفارس

إن خيول الشوق

إنطلقتْ صوب إخضراره

وتلك الغابات الصامتة

أيقظها صهيل يُشبه اللهفة ..

2

ذوبان

في يدهِ أمنية

مُتشبثٌ في تحقيقها

حد الثمالة ..

يتسيّد الملح ولائم عشقه

حتى ذابتْ في أسرار كفهِ هوية أنثى ..

3

هبوب

ساكنٌ

في تفاصيل صغيرة

يمسحُ من قصته

ملامح حبٍ قديم

حتى صار البياض

ثوب عرس

فبحث عن قلمه الصغير ..

4

إعصار

روتينيُّ الهوى

يعشق تعاقب الليل والنهار

أعادَ للذاكرة

ثوب القبل ..

وأنجرف وحدهُ مع سيل الأشواق ..

5

صقيع

نسائم شوق ربيعية

باغتتْ شروده

فأستفاق بذاكرة جديدة ..

ومن مسرح اللذة

أنهمرتْ أنثاه ..

حتى أظلَّ المشهد ..

6

إنهمار

كنازلٍ من السماء

حاملاً غيوم

ما إعتصرها عاشق

لتظلَّ  دون هطول

سر من أسرار الكون ..

***

إنهاء الياس سيفو

ازاهير الوقت

الناضج

في طريقها الى

النضوج

والقطا

والعصافير

واطيار اليمام

المعذبة

بالانتظار

وقرب ينبوع

الامل الاخضر

تغزل الهداهد

الحزينة من

جمال ريشها

نايات وقياثرا

تعزف على اوتارها

لحن الازاهير

الناضجة

ولحن قوس

قزح الفرح

واحصنة الشفق

الازرق في

مدارات الامل

الاخضر والحكمة

الخضراء

تصهل تصهل

صهيلها المضيء

عاكسة على

زجاجات مراياها

حزن ا لهداهد

القطا والعصافير

وحزن الشجر .

***

سالم الياس مدالو

القصيدة تأخذ بيدنا

إلى الحلم

ولا تشرح لنا كيف يعمل.

*

في البدء

ليت حلم الطفل.. طفلٌ.

في البدء

ماذا أُسمّي التيهَ الذي لا يُسمّى؟

الضياع أمٌّ لمن لا أمَّ له.

في البدء

كيف أقنع ظبي الينابيع

أننا إخوة في الماء، والدم ما بيننا مشترك

(وليس دمك ودمي سوى عصارة أعدت منذ الأزل غذاء لشجرة السماء).

*

أيتها الأحلام التي لن تجيء إليّ

ولن أذهب إليها أبدًا

يا أحلام العالم التي أُنجزَت

ولم أتجرّأ حتى على تخيّلها

مرةً، مرةً وحيدة

على كتفي ذراعُكِ تمتدُ.

*

أيها الكَرب الذي لا يُطاق

أأنا ورمٌ في دماغ هذا الكوكب؟

*

آهٍ يا أنا...

يا أقدم موقدٍ أُضرمت به النار

هذه الغابة ليست فردوسًا

يمكن أن تنالها بنعم نعم، لا لا

الحق الحق أقول لك

ارحل.. إن وددت الرحيل

لن يكترث لأمرك رَبٌّ

سواء ذهبت مع الرّيح

أم بقيت مع كومة اللاشيء.

وإن كنت ستذرف الدّموع

لإجلِ وداعٍ كهذا

لا تمسح دموعك بهذا المنديل

ففي المنديل عيونٌ أخرى

تبكي...

***

ضرغام عباس

القسم الثاني، الفصل (3) من رواية:

غابات الإسمنت

***

قضيت أسبوعا في منزل مديحة.. حياة رائعة؛ لكنها كانت تتذمر بعض الأحيان.. غير راضية عن نفسها، تعدّ ما تقوم به من عمل طعنة في ظهر زوجها المغدور.. وليس أمامي من حلّ سوى أن أصبّرها، فلا حلّ آخر ينتظرني أو ينتظرها، على أقلّ تقدير في المرحلة الراهنة، إلى أن تقتنع أن لا حلّ أمامها سوى قبولها بما هي عليه، ولو كان بيد النقيب ابتسام حلّ آخر يخرجها من السجن لما اختارت لها هذا الطريق.

علينا أن نقبل الحياة الجديدة، هذا هو قدرنا المكتوب ولا فرار منه.. إنها تثق بي كما تثق بنفسها، بدوري أروح أصبّرها وأخفّف عنها..

صحبتني ذات يوم إلى أطراف المدينة، بداية الصحراء، لم نتوغل في الرمال كثيرا، خشية أن نتعرض لحادث ما .. أوقفت السيارة وراحت تتأمّل.

تأملتْ طويلًا ولم أقاطعها.

ثم التفتت إلي وراحت تنشج.

سألتها:

ـ هل كان يأتي معك إلى هنا؟

ـ إنّه مكاننا المفضل حيث الفضاء الواسع، كان يريد أن يقول لي إنّه يحبني مثل الفضاء بلا حدود؛ لكنه لا يقولها بل يجلبني إلى هنا ليدعني أكتشف بنفسي.

يا صديقتي عندما تعشق المرأة رجلًا محددًا، رجلا تجعله سندها وحبيبها وخيمتها وبوصلتها، بصوتهِ وحده يهدأ أوار روحها، وفجأة تفقده لتعيش مخذولة خائبة.. فإنها

تشعر بشيء ما يتكسّر داخلها، ثم تتكسر أمامها مرايا الحياة، مرايا الحبّ، مرايا الثقة بالآخر، ومرايا الفرح.

لهذا لا بدّ من اختيار الرجل الصحيح، الرجل الذي يتفرّغ ليسأل، وليس الذي يسأل عندما يتفرّغ.

الرجل الذي يهتمّ قبل أن يحب، وليس الذي يحب ولا يعير أهمية لتفاصيل وجودكِ.

الرجل الذي يشعر بحاجتكِ إليه، حزنكِ وفرحكِ دون أن تُلمّحي بذلك، وليس الرجل الذي تستجدين منه المشاعر.

الرجل الذي يضع وجودكِ في رأس القائمة، وليس في طرفها.

الرجل الذي يجعلكِ تضحكين، وليس الذي يبكيك بقصد أو من دون قصد.

الرجل الذي يفتخر بكِ، وليس الذي يخبئكِ وكأنكِ "عار" أو "نهيبة".

الرجل الذي يشعركِ بقيمتكِ، وأنكِ نعمة في حياته.

الرجل الشجاع، وهذه تحتها ألف خطّ!

الرجل الذي يلجأ إليك ويعدّكِ أمّه وأخته وحبيبته وزوجته وعالمه.

الرجل الذي يطمئنكِ بأنكِ لستِ وحيدة، وأنه معكِ، متمسّك بكِ مهما حصل.

الرجل الذي يعصر روحه، ليغسل تعبكِ عندما تلمّحين له بتعبكِ.

الرجل الذي لن يخونكِ.

اختيار شريككِ بالحياة مهمّة صعبة.

أردتُ أن أطالعها بأفكاري، فخشيت أن أجرح صمتها أو أثير دموعها.

أدركت أنها امرأة تتظاهر بالنسيان، وأن الزمن مهما طال لن ينسيها الجرح الكبير الذي أصابها، مع ذلك حمدت الله على أننا.. أنا وهي أصبحنا تحت رعاية السيدة النقيب التي أصبحت لي كلّ شيء.

نهاية الأسبوع اتصلت بي ابتسام.

قالت لي مديحة: لعلها وجدتْ لكِ عملًا؟

ـ أتوقّع ذلك ياصديقتي.

ـ أرجو لك التوفيق من كل قلبي.

لقد راودتني في الطريق إلى حبيبتي ابتسام هواجس عدّة؛

لكنها احتمالات جميلة.. فها هو أسبوع مرّ ولم تتصل بي.. لعلها اشتاقت إلي، وما دمت ضيفة عند مديحة، فإنها تتحفّظ أن تدعوني لأبيت عندها ليلا، أما خلال النهار فيمكن أن تفكّر مديحة أنها دعتني لأنظّف لها الشِّقّة، أو أنها استدعتني لعمل ..

مهما تكن علاقتي بصديقتي مديحة قويّة، فإن علاقتي العاطفية بحبيبتي ابتسام لا بدّ أن تكون قيد السرّ، علاقة يجب ألا يجرحها سمع الآخرين وهمساتهم، مثل دم الإنسان حالما يخرج إلى النور والهواء يفسد، قوي ورقيق لا يحتمل أي إطلالة، أعرف أن صديقتي رفيقة السجن تعمل مثلي لمصلحة الشرطة؛ لكن أن تعرف عني أبعد من ذلك، فهو شأن آخر يُحسب له ألف حساب.

وصلت إلى بيت ابتسام، وقد وجدتها تنتظرني على أحرّ من الجمر..

لهفة واسعة وتنهيدة طويلة؛ ضمتني إلى صدرها بقوة، وعضّتْ مرات أرنبة أنفي عضّات خفيفة:

ـ أكثر من أسبوع أليس كذلك؟

ـ وهل تعتقدين أنه سهل عليّ؟

فأدّيت التحية:

ـ نعم سيدتي النقيب ابتسام.

فداعبت شفتيّ بإصبعيها:

ـ سُكّر، كلمة ابتسام من فمكِ.. قولي ابتسام فقط!

كنّا في الفراش نغيب عن الوعي، تتعانق روحانا ويرتعش جسدانا، تمسح خدّها بدمعي؛ لكنها لا تستطيع أن تكبح من الفرح والنشوة دموعها.

كلّ مرّة نصبح عالمًا قائمًا بذاته.. كونًا ملتهب المشاعر، أنا بين يديها وهي تركع تحت قدمي تقبّلني وتهمس أحبكِ.

لا أعرف عالما سواها، أشعر أني النور الذي يشّع من مشكاة قلبها، والعطر المترشح من زهرة ليلها، وأني حكاية شهرزاد التي لم تبح بها حتى اللحظة.. ليس لأن الفجر حلّ والديك صاح كما يقال؛ لكن لأن الخوف في عينيها لاح، أشعر أنني الحب بمعناه الذي أريده، حب خارج إطار العتمة والقضبان.

وفي لحظة صفاء ونحن نحدّق بسقف الغرفة قالت:

ـ ليست بشرى واحدة بل هما اثنتان.

ـ خيرا يا وجه السعد؟

ـ اسمعي؛ الشقة التي بجانب شقتي فرغت، وقد أخبرت المالك ألا يؤجرها لأحد لأنني أريدها لقريبتي التي هي أنتِ.

أخذتُ يدها ورحت أمسحها بشفتي وأغيب في شهيق ناعم طويل.

ـ يعني جارتك؟!

ـ يعني أننا لن نفترق أبدًا.

ـ والبشرى الثانية؟

ـ تخص عملك، ما زلت أسعى بها وسوف أحقق الأمر.. والتفتتْ نحو خدي تقبلّه: الحلاّقة بدأت تصفّي عملها في المحل، سأشتريه وتكونين أنت شريكتي ومديرته، هل توافقين؟

ـ هل يعقل أن أقول لا؟ وأردفت: لقد لاحظت بعض التغيير في المحل، هل لاحظتِ التسريحة؟

ـ رائعة وبإمكانك أن تعملي أحسن منها.

ـ آمل ذلك.

ـ سنضيف إليه، ونرّتبه.. وربما اشتري البناية بأكملها.

رجعت ذلك المساء إلى بيت مديحة، فلم أرد أن أثير شبهاتها بمبيتي في بيت السيدة النقيب.. الوضع الآن مختلف، وعلاقة الحب بيننا يجب أن تظلّ سرّية، حيث رحت أنتظر الانتقال إلى الشقة الجديدة والعمل الجديد بفارغ الصبر.

جلستُ على حافّة السرير في غرفتي المؤقتة عند صديقتي مديحة، وبين الرغبة في استقبال الغد بكل ما فيه، والرهبة من أناي التي تركتها تتلاشى مع بضع رصاصات، وعينين جاحظتين، وبركة دم، انتابتني صحوة متأخرة جدًا؛

ثمة من يبني وسط أكوام الحزن، ويطلق من الرماد عنقاء أيامه.. وثمة من يرمي نفسه وسط كومة جمر ليصير رمادًا.. أيهما أنا؟

هل بنيتُ ذاتي بتقويم صحيح من جديد؟

أشكُّ في ذلك..

لكن في ذات الوقت، أشعرُ أني سموتُ بنفسي نحو الصفاء التام، الصفاء من شوائب ورواسب ثقيلة، وزائدة لا نفع فيها سوى التأخر عن مواكبة الحياة وعيشها.

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

1- طيبة

كلما جلس على حافة النهر

ومدّ كفه المباركة المخشوشنة

في مجرى الماء المترقرق

في فصل الصيف الساخن

تحوّل النهر

إلى سماء نديّة ...

تتناثر أضواؤها

قطرات ياسمين

ومطراً مملوءً بالخير

والحبّ

و الأشواق

للناس.. للطائر المسافر...

وتطرق بابه الطفولة

خلف جدران وحدته

وهي تمضي

بالصبر

لمستقبل

الازدهار

تمضي ..

بشوق يطير

برؤية...

طليقة

ليزدهر الحظّ

أندى من حكايات المطر

ويكون دائما

على قيد الحياة

أريجاً

في محطات الأحبّة والفقراء ..!

**

2 - طقس

يومه ملئ بالحيويّة

صلاته ..

صلاة الجمعة،

التي لم يعزب عنها

أبداً.. أبدا...

على الرغم من المسافات البعيدة

فكأنّه في جرم سماويّ اخر

بين نخيل .. ورمان واشجار البمبر

"الجامع رائحة نبويّة "

هكذا كان يردد ..

وهو يستعد للخروج من البيت

حيث كان يقصد بسرور، وبهجة

جامع السيّد عباس جمال الدين

في البصرة الفيحاء

في منطقة (السيمر) التي رآها ...

وسمعها

وعرف كل أزقتها

حتى صارت بعض أنفاسه

لأن بيتاً من بيوت الله (هنا)

نعم كان هنا يصلي

صلاته،

تفتح للقلوب الكبيرة بابا ..

بابا ...بابا

هي تراتيل،

من اشتدتْ محبته لله،

وأنس بقربه

وقطع من الدنيا حاجته

**

3- بصيرة

يغيم الطريق

وأنا أنحني على الورقة

أ تـ...راجـ...ــــع

قليــلا.. قليـلا

أراك يا أبي

تضع الحبوب، في وسط كفك

اضطرب

- لا تخف، يا ولدي -

أتأمل وجهك،بودٍّ عميق

فأراه ...في جهاده الحيّ

يغرس في أفئدتنا أشجار الأيمان

ومحبّة نبيّنا الكريم (ص)

وآله الميامين ..

الأطهار عليهم السلام.. قبساً.. قبساً

(جرس ساعة الحائط، يدقّ... يدقّ)

وتمرُّ أمامي الأشياء

أراك واضحاً..

كالقمر اليقظان

وأراك، أراك

كما رأيتَ الطريق

بعيدا ..

بعيدا من الاغترار

بزخارف الأيام

فقد كنت – حقّاً –

تمتلك إقامة الشكر

على كلّ حال

..وحال

وأنت تشقّ

تشقّ

أغوار السنين

الطويلة المضنية

في الخريف الأصفر

المحدودب المتجعّد

تنحت من الصخور

جبهتك العالية

لكي لا يهجر الحفيف الغصون

كنتَ تمشي في الطريق الصاعدة

تقتلع الأشواك منها

بالأصابع البريئة

وترشّ الزهر في الأزقة القاحلة

فتحييها ...

بقلب يخفق.. وعرق ينبض

فأينعت في الرمال

دموع ذرفتها

ترانيم الشقيقات

وصداح العذارى

وأغنيات الأمهّات

وأناشيد الزوجات

فكان حقّاً لك العطاء

أنتَ الوفاء

تحدّثنا :

وفي صوتك تهدّج

ونرنو اليك

وفي العينين بريق ألم

وفي القلب جرح طاهر

وفي الخاطر عهد إلى الإنماء

وأن "تعمل لدنياك

كأنّك تعيش أبداً

وتعمل لآخرتك

كآنّك تموت غدا "

ليس هذا القول

بعيدا عنك

يا سيّدي يا أبي

يا أحبّ الناس

(يجب أن أكرر

آلاف المرات

- يا أحبّ الناس - )

حان الوقت يا أبي

لأقول مرة أخرى

ليس هذا القول بعيداً عنك

فقد كنت َ تردده كثيراً

وتقول:

هذا القول جميل حقاً

يتألق فيه الزمن

في جوار المعرفة الطليقة

وتكبر عافية الانسان

بحنين إلى دنيا صافية الأديم

براّقة الأنجم

عاطرة النسيم

لا جدال في ذلك

لأنّ هذا الكلام من القرآن الناطق عليّ

سيّد البلغاء

والفصاحة

وسلطة الحق، واليقين

عليه السلام، الذهب المصفّى

**

4- انتظار

رياح المحبة

تسقط..

كلّ المسافات...

..وتهدِّم كل الجدران

آه، وعلى الرغم

من التشنج في رقبتي

رحلتْ روحي متلفتة

إلى الوراء

لتحقق الرؤية.. الصالحة

فرأيتك يا أبي

وأنا أتعثّر بالضوء ,

في منعطفات الزمان...

نعم يا سيّدي الجليل

رأيتك

متجها هناك

إلى منزل الذكريات

أنا مثلك، يا والدي

أحبّ مسقط الرأس

أحبّ بيتنا

في قرية الحمزة

وأنتَ الذي علّمتنا المحبة

والمروءة ..

وحقيقة المصابيح التي تشعّ

في حياتنا الشاسعة

"كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأوّل منزلِ "

كنتَ دائما تردد هذا البيت الجميل

كم كنت تحفظ شعراً، ايها الحكيم ....!

سلاماّ عليك ...

على النخل ...

وعلى منزل الذ كريا ت

***

حامد عبد الصمد البصري

ربّما تستطيعون أن تبنوا ناطحات سحاب

ربّما تستطيعون أن تنزلوا إلى أعماق البحار

ربّما تستطيعون أن تحيلوا الصحراء حديقةً زاهرة

ربّما تستطيعون أن تصعدوا إلى المريخ

لكنكم لا تستطيعون أن تتسلقوا دمعةَ يتيم

ولا هضيمة ثكلى

ولا حزن أرملة

لهذا..

دعونا نحن

نصنع شيئاً للأجيال

لم تقدروا أنتم عليه

و ابقوا مترنحين

في حانات الخمر والبارات

نحن وحدنا

الذين نبني مستقبل الوعي

وأنتم تدخنون النركيلات

و تزفرون الخيبات

المبتلة بخيالاتكم المضلّلة

والمنتشية بالإنتظارات الزائفة

سيمر عليكم قرن من الزمان

لكنكم لم تحققوا السعادة

ولم تجعلوا الحرية

حقب و حقب تمرُّ

وأنتم قابعون على دكّة الخمّارين

تجدّدون قناني الويسكي

والشمبانية

وعلب البير

ما بين دخان حشيشتكم

تتوزّع الخيبات

ويذبل الأمل

وتزداد الكوارث و العلل

فابدأوا البيريسترويكا

مرة أخرى

كي ترتاح العقول

وتصحو!

***

رعد الدخيلي

ما إن إقترب منهما حتى أقدم رياض وعن عمدٍ على رفع وتيرة صوته، في حركة متعمدة، هدفَ من خلالها على ما يبدو جذب إنتباه أحد المارة والتحدث معه في أمر ما فكان له ما أراد. فبشكل مفاجئ ورغم عدم معرفته الجيدة به وعلى النحو الذي يسمح له بالتوسع والتمادي في الكلامء، طلب من الشخص الذي صادف مروره، ومن دون مقدمات، مساعدته من أجل أن يجد له بنت الحلال وبأسرع وقت ممكن،شريطة أن تكون أرملة ولم تبلغ بعد الخمسين من العمر، ويفضل أن يكون لها من اﻷبناء ذكورا فقط، غير انه لم يتلقَ الإستجابة الكافية والمرضية.

رياض لم يكتفِ بهذا القدر من الإجابة لتجده منتقلا الى موضوع آخر لا يقل طرافة ومباغتة ومن دون مقدمات، ليسأل ذات الشخص عن كمال عاكف، مُقدم برنامج ركن الهواة المعروف، والذي كان يُبث من على شاشة التفزيون العراقي في فترة الستينات المنصرمة، وإذا ما كان حقا قد وافاه اﻷجل ليلة البارحة أم هي مجرد مزحة. كاد الرجل أن تفلت منه ضحكة مجلجلة الاّ انه كتم عليها بقوة وليواصل طريقه.

أمّا رياض فقد عاد ثانية الى جو التفاوض الذي كان يجريه قبل قليل مع أحد اﻷشخاص، لكي يبيع له حزمة من أشرطة مطاطية، تستعمل خصيصا لصيد الطيور، وكأن شيئا لم يكن، إذ لم تبدو عليه أية ردات فعل أزاء الرجل المستطرق. ومن الجدير بالذكر، فإن في حديث الطرفين(البائع والمشتري) ما ينطوي على الكثير من اللقطات والحوارات التي لا تفرض على مَنْ يترصدها من الإشارة اليها فحسب بل والتوقف عندها والإستمتاع بسماعها وذلك لغرابتها، وﻷنها أيضا تكشف عن طبيعة شخصيتيهما ومدى عفويتهما. فعلى سبيل المثال فإن رياض أوشك وبشكل مفاجئ على الإنسحاب من إتمام (الصفقة) وذلك قبيل وضع اللمسات اﻷخيرة، أو لنقل على وجه ألدقة تظاهره بذلك، من أجل ممارسة المزيد من الضغط على المشتري على ما يبدو.

الأدهى من ذلك وأثناء سيرورة التعامل بينهما، والأخذ والرد وكيفية الوصول الى السعر المناسب الذي سيرضي ويستقر عنده الطرفان، بل ليرضى عنه رياض أولاً وأخيراً، فإنه ولكي يمرر (صفقته)، فقد راح يُقسم وبكل ما يؤمن به من مقدسات، وبأرواح الأحياء قبل الأموات، بأنه قد تساهل كثيراً في السعر الذي اقترحه، مبديا إستعداده التام لبيع أشرطته وبأي سعر كان، حتى لو تطلب الأمر وجاء على حساب نسبة الربح التي كان قد وضعها لنفسه. بل راح أبعد من ذلك حين أعلن عن رغبته في تحمّل جزء من الخسارة، وذلك نزولاً عند رغبة الشخص المقابل، الذي يستحق كما يقول رياض كل الخير، لحسن أخلاقه وتصرفه معه.

ما يمكن أن نخلص اليه وكما بدا واضحاً من طريقته وأسلوبه في الكلام، ومن خلال بعض المؤشرات الأخرى ذات الصلة، أكدت وباﻷدلة القاطعة بأنَّ رياض مفاوض ذكي ومن الطراز الأول، ويتمتع بخبرة واسعة في هذا المجال. وأثبت كذلك قدرة عالية على المناورة وفي كيفية التعامل مع الآخر والوصول به الى ما يبتغيه، وبالسعر الذي يناسبه والذي كان قد حدده سلفاً ووضعه في باله وناور عليه، حتى وإن اعتقد الطرف الآخر أو سيظن بأنه توفق ونجح في عملية الشراء هذه، وان رياض سيخرج منها خاسرا، أو على الأقل لم يستطع الحصول على ما كان قد خطط ووضع له من سعرٍ.

العجيب في الأمر، إن رياض وطيلة عقود عمره الأربعة أو ما يزيد عليها ببضع سنين، لم يُشاهد ولا لمرة واحدة وفي كل حياته وهو مرتديا بنطالاً الاّ في ذلك اليوم، مما سبب له الكثير من الإزعاج والإرباك، في وقفته وفي حركته. لذلك راح يداري حرجه بمختلف الطرق، فمرة يشد من قوة ضغط الحزام الذي يحيط بخصره لتثبيت بنطاله الذي بدا واسعاً عليه وبما لا يدع مجالاً للشك، ومرة يرخيه من دون سبب مقنع أو مبرر، وفي اخرى تجده ممسكاً به بيديه الإثنتين ومن الجانبين خشية انسداله أو هكذا يبدو لمن يراقبه.

وبعد مرور قرابة الساعة من المفاوضات الماراثونية والمفصلة، وصلا أخيراً الى اللحظات الأخيرة والحاسمة من اتمام الصفقة والى المشهد اﻷخير منه، فقد أخرج الطرف الثاني من جيبه مبلغاً معيناً من المال، كانا وعلى ما يبدو قد اتفقا واستقرا عليه وبالتراضي، مع حرصهما الشديد وفي تلك اللحظة بالذات أن لا يراهما أحدا، أو بالأحرى أن لا يُرى مقدار المبلغ الذي سَيُدفَعْ، دون أن نعرف سبباً لذلك أو نجد له تفسيراً، لعله شأن خاص وأظنه كذلك فليس هناك وعلى أكثر تقدير من احتمال آخر.

بالمقابل فقد أعطى رياض الأشرطة المتفق عليها الى صاحب العلاقة ولكن بعد أن أفرغها من الكيس ليحتفظ به لنفسه وللصفقات القادمة. عند هذه اللحظة اُثيرَ إشكال جديد لم يكن بالحسبان ولم يأتِ على بال أحد، إذ راح المشتري متسائلا، أن كيف له إقتناء أشرطة الصيد المطاطية بدون القاعدة التي ستركب عليها وتثبتها لتصبح كاملة، جاهزة للإستعمال؟.

وبسبب من هذا الإعتراض الغير متوقع، فقد اُعيدت المفاوضات بينهما الى المربع الأول، وراحا يكرران من جديد ما كانا قد فرغا منه قبل قليل. بين شد وجذب اقتنع رياض كما يبدو بإعتراض صاحبه ومن غير ان يفصح عن ذلك، كي لا يظهر بمظهر الضعيف وتُسجَّل ضده احدى النقاط، فراح وعلى طريقته وبالإعتماد على خبرته، يُعيد التفاوض مرة اخرى ومن غير ملل أو كلل، مع بعض الإشارات التي كانت تصدر منه بين حين وآخر، والتي ستعطي للطرف الثاني إيحاءاً بتسامحه وتساهله في السعر، وذلك ليزيد من طمأنته ونيل رضاه، واضعاً في حسابه ونصب عينيه القادم من (الصفقات).

وتعزيزا للثقة فقد أودعَ أشرطة الصيد عند المشتري المفترض ومن غير أن يحاسبه عليها حتى إتمام عملية البيع مئة في المئة. لذا ولكي ينهي الموضوع ويحسمه بسرعة، إستأذن من صاحبه ليغيب عنه بضعة دقائق، ريثما يذهب الى كَراج أبيه، الواقع بالقرب من مكان وقوفهما، والذي كان رياض قد اتخذ من أحد زواياه المهملة، وبعد أن أجرى عليها بعض التحويرات والتغييرات، لتكون بمثابة مخزناً احتياطياً،سيحفظ فيه مقتنياته ومتعلقاته الشخصية كعُدة عمله و(تجارته)، وليستفيد منه ويستعين به عند الحالات الطارئة كالتي تجري معه اﻵن.

لم تستغرق فترة غيابه أكثر من عشرة دقائق حتى عاد رياض بحلة جديدة، مسترخياً هذه المرة، واثقاً من مشيته، يدوس الأرض بل يدكّها دكّا وبقدمين مستقرين ثابتين، بعدما أبدل بنطاله الذي لا أظنه سيعود اليه مرة أخرى، مرتدياً هذه المرة دشداشته العتيدة، والتي يتماهى لونها والى حد كبير ولون المكان حيث يقفان عنده مع اختلاف بسيط، ومن دون أن يشد وسطه بذلك الحزام الذي أزعج خصره بل كل جسده حتى دقائق خلت، والذي استمر معه قرابة الساعة. وَمَن يعرف رياض عن قرب فسيخرج بإنطباع مفاده بأن دشداشته هي الأخرى تأبى مفارقته تحت مختلف الظروف، بل حتى أصبحت ملازمة له وتشكل جزء من هويته، رغم تبدل الأزمنة وتغيرات العصر، وانقلاب أنظمة وتبدل أشكال حكم، وما رافق كل ذلك من تحولات في الذوق العام.

وعلى ذكر الدشداشة أو الجلابية كما يُصر على تسميها أخوتنا المصريين،  فله منها وعلى حد قوله وبفخر سبعة، يوزعها على مدار الأسبوع، سيرتديها تباعاً وبواقع واحدة كل يوم. أمّا موعد إستحمامه فقد اختار يوم اﻷثنين، ليأتي متزامنا مع عطلة الحلاقين، وفي ذلك حكمة لم يفصح عنها، حيث يتوجه الى حمامه الخاص والذي يقع بجانب غرفته العتيدة، والتي تشكل جزءاً كما سبق القول من كَراج أبيه، بعد أن أجرى عليه بعض التعديلات الضرورية ليكون استعماله حكراً عليه. يلي ذلك ارتداءه لإحدى دشداشاته النظيفة، والتي سيكون قد هيئها وعلَّقهاسلفاً على مسمار، قوي وثابت وبحجم ملفت للنظر هو اﻵخر، ليلبسها ليوم واحد فقط وهكذا دواليك.

مدَّ رياض يده اليمنى الى جيب دشداشته الطويل جداً والذي ربما سيصل أو سيجتاز ركبته، ليُخرج منه آلة صيد الطيور، البدائية الصنع، الشائعة آنذاك وأظنها لا زالت حتى يومنا هذا، حيث سيمنحها مجاناٍ، كهِبة الى المشتري وسط فرحة عارمة لا يمكن وصفها. وللعلم فهو أشهر من عُرف بصناعتها بين أبناء المدينة، وإن سألتم عنها فهي عبارة عن خشبتين رفيعتين، بطولين وسمكين متساويين تقريباً، قد يعادل قطر الواحدة منها سبابة اليد، جرى إعدادهاسلفا لتكون جاهزة للإستعمال، بعد إدخال بعض التحسينات والتعديلات عليها، كبردِها وتشذيبها من الزوائد ليصبح ملمسها ناعماً قدر المستطاع.

بالمناسبة فإن رياض نفسه، لم يسبق له أن جَرَّبَ هواية الصيد في حياته ولا لمرة واحدة رغم بيعه لتلك الآلة وتخصصه بها وتفننه في صناعتها: ألم يكن من الأجمل أن تتركوا الطيور تُحلّق عالياً بدل أن تصطادوها وتسقط كما الذبيحة  على الأرض؟.صحيح ان الجملة الأخيرة كان ينبغي أن نسمعها من صائدي الطيور انفسهم، غير انها صدرت منه ولا تستكثروا على الرجل ما قاله، فقلبه أرقُّ من ورق الورد، وأكثر رحمة وشفقة وزهد من جمهرة كبيرة ممن يدعي النُسكَ والتعبٌدْ.

وقبيل مغادرة المشتري وهو حامل معه آلة الصيد تلك بأشرطتها بعد إتمام الصفقة بنجاح، فاجئه رياض بأن دعاه وبشكل لم يكن يتوقعه الى وجبة غذاء مجاناً بل وعلى حسابه الخاص. أمّا لماذا وما هي المناسبة فالعلم عند صاحب الدعوة، ولكن يُمكننا وعلى ضوء تجارب سابقة تفسير الأمر على النحو التالي: إذا ما شعر  رياض بالرضا عن الطرف الثاني الذي كان يفاوضه أثناء عملية البيع والشراء، ولامسته ولو نسمة خفيفية خاطفة من الراحة، فسيفتح له قلبه قبل باب جوده وكرمه.

لذا وأزاء هذا العرض السخي والغير متوقع والمقدم من رياض ومن دون أي مقابل يُذكر، سيجد المشتري أن لا خيار أمامه سوى الإستجابة الفورية وبحماس لتلك الدعوة الكريمة، حتى من غير أن يسأل أو يسائل نفسه عن أسبابها ومبرراتها وخلفياتها، خاصة وإن الجوع قد ضربه وإستنزف جُل طاقته، فضلا عن أنَّ جيبه قد اُفرغَ تماماً ولم يبق معه ولا حتى فلساً واحداً، بعدما دفع كل ما بحوزته لقاء تلك اﻷشرطة وآلة الصيد المرفقة معها، والتي ستظمن له وكما يأمل ويفترض صيداً ثميناً.

أمّا إذا وصله إحساس مغاير، يشير الى أنَّ المشتري من الصنف الثقيل والمزعج (هذا طبعا بحسب رؤوية وتقدير رياض)، فَسَيُلزم نفسه ويعاهدها على التحمل والصبر والمطاولة، إستعدادا لخوض شكل آخر من أشكال التفاوض والتي سيشدد فيها من شروطه، وصولا الى تحقيق هدفه والمتمثل بإجبار الطرف الثاني على الخضوع والقبول بأي مبلغ يضعه ومن دون مساومة تُذكر، ومن دون دعوته أيضا حتى على قدح ماء فارغ.

وبعد مضي قرابة النصف ساعة من الوقت، قضاها بصحبة المشتري في مطعم الشباب لصاحبه طيب الذكر والثرى، جوري، فها هو أمامك من جديد رياض أبو القماچي، بشحمه ولحمه وإمتلاء جسده. ولولا إنحناءة ظهره بسبب ضخامته لكان من المؤكد أن يوصف بصاحب الطول الفارع، ولراح يباهي ويجاري بل ينافس خيرة شباب المدينة في هذا الجانب،

وما دمنا نتحدث عن رياض فلا بأس من المضي الى نقطة أبعد قليلاً لنقول: إذا حدث التباس ما وأشْكِلَ عليك الأمر في تحديد هوية من يكون ذلك الشخص أو صَعُب وصفه لِمَنْ يسأل عنه، أو أردت التعريف به وتمييزه عن الآخرين، فما عليك الاّ أن التنبيه الى سبابة وإبهام الرجل الذي تعنيه، فهما وفي أكثر اﻷحيان ممدودتان الى قاع فمه، لتجده منهمكا وعلى عادته في البحث بين

أسنانه عن بقايا لحم أو أي صنف آخر من الطعام، يعتقد بأنه قد تسلل واستقر في مكان ما بين قواطعه أو غيرها من أضراسه، فقل عند ذاك وبكامل الثقة واليقين انه رياض أبو القماچي وليس من أحد سواه. فالرجل سوف لن يهدأ له بال إن لم يُخرج من فمه كل ماهو عالق فيه، وستجده على مدار الساعة في رحلة من البحث المضني والشاق، والتي ستنتهي بكل تأكيد بالفشل الذريع، حيث سيتعذر عليه العثور على أي شيء يُذكر بين أسنانه، رغم ما بذله من جُهدٍ ووقت.

وللمزيد من التعريف به، فشخصيته بسيطة سهلة، يشبه الماء العذب في جريانه. فطري، عفوي في سلوكه وتصرفاته وفي أحاديثه. مكشوف للآخرين وليس فيه من سرٍ  يخفيه. وجهه ضحوك، ذو وجنتين مليئتين بالخير والبركة والطيبة. سمح، لا يعرف المداهنة ولا ألاعيب الكبار رغم تجاوزه مرحلة الشباب بما لا يقل عن العقدين من السنين.

واسع الرحمة على روحك الطاهرة يا رياض، ونم قرير العين في أبديتك، أيها الطفل الوديع، الكبير في أصلك.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

................

* مُقتطع من نص روائي، سيُنشَرْ قريباً.

ــــــــ السّلحفاة ــــــــــ

ألا يَا سابقَ الرّيــح

رُويدًا...أين مَنْ فاتُوا

*

هُنا مَرُّوا بلا ذِكرى

وتَسبُقُ السُّــلحْــفَاةُ

ـــــــــ محكمة ـــــــــ

بحُكمكِ في الحُبِّ راضِ

بِصكٍّ على بَيـــاضِ

*

أَجِيري !ومنكِ إليــــــكِ

كعدلٍ وظلمٍ لقاضِ

ــــــ وثَغرٍ ــــــــ

وثـَغـرٍ تَبسّم زَهـرًا

شَقائقَ حُمْرٍ وفُــلَّــهْ

*

فَأغْرَى بِشَهْدِ اللّآلِي

ونَادَى لِرشْفٍ بِقُبلَهْ

ـــــــ شتاء ــــــ

كَانَ يَوْمًا زَمْهَرِيرًا فِيهِ ثَلْجُ

اِلْتَقَيْنا فَاِصْطَلَيْنَا ذَاكَ وَهْـــجُ

*

شَوقُنا جَمْرٌ فَكنّا نَـتَـلَظَّى

فِي بِحَارٍ عَذْبَةٍ وَاَلْعِشْقُ مَوْجُ

***

سُوف عبيد

في صُبْحٍ،

يبحثُ عَنْ حُلْمٍ سرقتهُ الرّيحْ

هبَّ من النومِ،

بلا قدمينِ،

كسيرَ الرّوحِ، جريحْ

بأنينٍ مختنقٍ كانَ يصيحْ

أينَ مضتْ بالحُلْمِ الرّيحْ؟

**

ما كانَ يرى شُبّاكاً

في غرفتِهِ، أو بابْ

لا يدري كيفَ،

اِبتعدَتْ عنهُ نوافِذُهُ

واِبتعدَتْ عنهُ الأبوابْ

ما عادَ يرى فوقَ الجدرانْ

إلا أشباحاً غامضةً

تبكي، أو تضْحَكُ

تصرخُ أو تركضُ

وتغيبُ تماماً في بعضِ الأحيانْ

فاجأهُ

صوتٌ، مُرْتَعِشٌ،

لا يعرفُهُ:

لا تيأسْ، سيعودُ لهذي الغرفةِ بابْ

ويعودُ لها شبّاكْ

لكِنْ إسألْ نَفْسَكَ

كَيْفَ يكونُ بوسعِكَ

أنْ تنجو من زَحْفِكَ

فوق الأشواكْ ؟

كَيْفَ ترى قدّامكَ

حقلَ ورودٍ، لا حقلَ شِراكْ؟

**

غابَ الصّوتُ سريعاً

غابَ،

وما خلّفَ أصداءْ

ما خلّفَ إلاّ

حُزْناً متّقِداً، ودُموعَ شَقاءْ

***

شعر: خالد الحلّي

ملبورن - أستراليا

مُهْدَاةٌ إِلَى الشاعرة اللبنانية ديانا أبو حمزة الشامي

***

اَلْخَيْزَرَانُ يَبُوحُ مِنْ شَهْدِ الْفَمِ

وَيَزُفُّ لَأْلَاءً لِقِمَّةِ أَنْجُمِ

*

مَا اللِّينُ فِي طَبْعِ الْخَرِيدَةِ ضَعْفُهَا

لَكِنَّهُ نُورٌ بِأَحْلَى مِعْصَمِ

*

لَيْسَ انْكِسَاراً بَلْ مَطِيَّةُ أَحْرُفٍ

تَغْزُو قُلُوبَ الْمُعْدَمِينَ كَبَلْسَمِ

*

اَللِّينُ ذَاكَ الصَّبْرُ يَفْرِشُ رِيشَهُ

لِصِغَارِهِ بِحَنَانِهِ لِلْأَقْزَمِ

*

فِي قَلْبِهَا الْأَلْمَاسُ حُجَّةُ شَاعِر

هَامَ الْغَدَاةِ بِعْطْرِهَا كَالْكَلْسَمِ

*

فَإِذَا بِهَا غَضَّتْ لِطَرْفٍ أَشْقَرٍ

مُتَغَنِّجٍ بِدَلَالِ رَائِقَةِ الدَّمِ

*

وَتَمَايَلَتْ أَمْوَاجُهَا فِي بَسْمَةٍ

تُحْيِي الْمَوَاتَ بِلَحْنِهَا الْمُتَرَنِّمِ

***

شعر: د. محسن عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

الإهداء: إلى كل معلم ومتعلم وللطلبة المقبلين

على امتحان شهادة البكالوريا.

***

طريق العلم يهدي للرشاد

ونور العلم ماح للسواد

**

فهيّا للعلا نرقى بعلم

ونحو المجد سيروا باجتهاد

**

فما نيل المعالي بالتمني

فسدد رمية نحو المراد

**

وكن بالعلم سباقا شغوفا

وكن تبرا يشع من المداد

**

فخير الناس من كان عليما

وشرّالخلق ذاجهل معاد

**

فيا نشء الجزائر كن رجاء

وكن بالعلم مشكاة البلاد

**

وحقق مبتغى رجل عظيم

أماط الجهل عن روح العباد(1)

**

وكن بالعلم مصباحا منيرا

وكن برّا بذا الشعب الجواد

**

عزائي في جهول قد تمادى

بنشر الجهل أو نشر الفساد

**

فهل قالوا عن الأعمى بصير

بصير القوم ذا علم وهادي

**

فكن يا نشْء ذا علم بصير

تقيَّ النفس من صفو الوداد

***

شعر: تواتيت نصرالدين / الجزائر

................... 

(1) اشارة للشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله

2 /5ـ أنثى تعيد للنهر الجريان

حين دخلت عليه مكتبه كان يرد على بعض تدخلات الأعضاء في أحد المنتديات.. تبادلا التحية بعناق وقبل؛ طلب منها دقيقتين يتمم فيهما ردوده.. بعد هنيهة كان يحسها تدقق في وجهه بنظر.. قالت وبسمة تضيء وجهها:

ـ تغيرت ياسعد !!..

قفل حاسوبه واعتذر ثم قال لها:

ـ الزمن يمرحلنا فيتغير فينا كل شيء..

لم تغادر البسمة وجهها.. بسمة تذكره بأختها ضحى.. بنفس الغمازة على الخد ونفس العيون الكحلية توهمك عند تبسمها انها غافية من سكر.

قالت:

ـ من يتصور أن سعدا يصير كاتبا بلغة الضاد؟

ضحك ثم قال:

ولماذا يظل سعد مستلبا في وطنه يتحدث ويكتب بلغة أجنبية؟.. حبذا لو كانت حروف تيفيناغ بالعربية او الاعجمية لتعلمتها وبها تكلمت وكتبت، هي جذورنا في أعماقنا راسخة تظل تستغيث بنداء.. رغم دعوات التعصب ومحاولات إلغاء الآخر.. أليس التعصب هو ما قتل لغات وحكم على أخرى بالموات؟..

أمالت براسها الى اليسار ثم قالت:

ـ العادة ولغة الدراسة..

ـ وعلينا ان نتخلص منهما الى إرادة حتى لانموت في غربة داخل الوطن..

مدت يدها، وضعتها فوق يده وقالت: ألا تحس بوجودي؟

ضحك استغرابا وقال:

كيف لا أحسك؟.. فانت سلمي.. أخت المرحومة زوجتي، تفجرت لها أنوثة طاغية، وماعادت صبية تتقافز كفراشة في براءة الطفولة.. أتتني عاشقة وفاجأتني بحضور..

ضحكت و في عفوية تحرك منها الصدر كأنها تريد ابراز صدقها مع نفسها:

ـ ألا تغريك أنوثة سلمى بقبلة غير ماكانت تناله منك في طفولتها؟ فاليك قد أتيت طوعا أحمل حبا هدية...

زفر من ذكرى غزت مخه.. حركت شريط الماضي في خياله..

قال: سلمى دوما في خيالي طفلة صغيرة.. وهي وسم من ماض لازال يحفر في ذاتي بأثر بليغ.. ما لمستك مرة الا انبعثت ضحى أمامي بنظرة عتاب..

ارتمت عليه وطوقته بذراعيها.. ثم قالت:

ـ جرب، فسلمى هي التي بين يديك وليس غيرها، خبرة من كتب ومجلات لكنها امرأة بكامل أنوثتها، بها قد تستعيد ماضيك، تجدده في حاضر ربما يكون أحسن، أمتع وألذ .. أشتهيك ياسعد!!. لن تجد غيري تحبك كما أحببتك.. ولن تجد غيري أما لعايدة كما عايدة تتمنى وانت لها تريد.. هل تقلقك صراحتي؟ لا أظن فأنا اعرفك..

يدرك أنها صارت أنثى شهية، لكن صورتها الطفولية هي ما يهيمن عليه، قبل خدها ثم همس في أذنها:

ياطفلتي!!.. احذري قد تدخل علينا الكاتبة...

ادركت انه أراد التخلص من عناقها.. توارت، ردت شعرها الطويل الى الخلف ثم قالت بعد تنهيدة صبر وهي تدرك أن هيامه بأختها من الصعب أن تمسحه السنوات بسرعة، فالرجل الذي افقده موت زوجته النطق واشل حركته لولا عناية مركزة وعلاجات قوية لن يبترد له أوار الا بعشق اقوى يغير له مجرى ويعيد الى نفسه الأمن والأمان..

ـ أصرت الحاجة أن أتعشى عندكم وربما قد أقضي الليل كذلك، فاحذر ان تتهرب مني كما تهربت أول أمس.. لنا كلام كثير يلزم ان نطرحه للنقاش..

قبل يدها حتى يبعد عنها فكرة التهرب، وبخفة دون ان تراه ضغط الجرس على كاتبته.. حين دخلت الكاتبة قدم لها ملفات اليوم وقد غمز سلمى باشارة، انه كان على حق حين خاف دخول الكاتبة عليهما..

ركزت النظر في كاتبته تتفحصها، تابعها يقرأ هواجسها:

مليحة، مهتمة بهندامها، لكن نظراتها صارمة.. لا.. لن أخاف عليه منها..

غيورة.. ذاك ما أوحته له نظرتها، من أعماقه نبع صوت ضحى أختها وقد قالت له ذات صباح وهي تطوقه بعناق:

لن اشك فيك ياسعد ابدا.. لاني أعرف من أنا عندك، ولن تجد أنثى تقدم لك ما اقدمه لك برضى وبكل التوق الذي يتمناه رجل.. أحبك ياسعد.. وادرك أنك على خلق..

قصدت سلمى كنبة أمام مكتبه وارتخت عليها..

كان يحس قلقها.. تتابع كل حركة يقوم بها، وكأنها تقشر سلوكاته لتعرف حقيقته نحوها، تمنت لو يترك كل شيء و يستفسرها عن ماض من حياتها ثم يخصها بزقات ولمسات.. وكلمات مما تعشق أي أنثى..

كانت تتمنى لو يعتصرها بقبل تنسيها لثمات الطفولة منه على خدها فيحرك كل شهقة مكبوثة تخبره حبها له وظمأ الشوق اليه ..

وهو يجمع اشياءه من فوق مكتبه قالت:

سعد هل تذكر حلما كنت قد رايته وأنا صغيرة؟

حاول أن يستعيد ذكرى ما قالت.. لم يفلح.. او ربما تظاهر بذلك.. باشارة من راسه أبلغها نسيانه.قالت:

ـ ألا تذكر يوما ونحن على مائدة الإفطار قالت لك ضحى يرحمها الله:

كيف تفسر حلم امرأة ترى نفسها تسلم مفتاح بيتها الى أختها هدية؟

يومها أنت قلت لضحى ضاحكا ووجهك من وجهها اقرب:

ـ المفتاح دليل علم ومال.. الشهادة عندك، والمال من مهنتك.. فماذا تريدين أكثر؟

قالت:

لست انا من رأى الحلم.. سلمى يا سعد..

قالتها بغصة أحسستها في حلقها وهي تتكلم..

قلتَ لها وقد استدرت نحوي: ستكون عالمة ودخلها كبير، ستكبر ويخطفها زوج فتنسانا ويصير كل شيء له..

ضحكنا وقد قطبت في وجهك وأنا أردد:

ـ الله يسترني من لص يسرقني.. يومها لم تكن غير زوج أختي، أخي الكبير الذي أقدره وأعزه وافتخر وانا انزل من سيارته بباب مدرستي..

وتذكر الحلم.. تذكره بكل تفاصيله.. يومها قالت له ضحى حين عادت من عملها مساء وبعض التعب يبدو عليها من وطء الحمل:

أخاف أن أموت قبل الوضع...يا سعد.. !

ضمها الى صدره بشدة وقال: اعوذ بالله مالذي أوحى لك بذلك؟

قالت: إحساس انتابني حين حكت لي سلمى ما راته في حلمها..

ـ قبل يدها وقال: لا اخال حلما رأته طفلة قد يحرك سواكنك بخوف !!..

في غرفة نومهما كانا تلك الليلة كعروسين ليلة الدخلة.. فر النوم من عيونهما وحضرت المتعة واستغرقهما شوق رهيب كأنهما في لقائهما الأول..

وهما في الحمام قبل الفجر ضمته ضحى بقوة ماعهدها ابدا، سالها:

ــ مابك حبيبتي؟

اغرورقت عيناها بالدموع وقالت وهي تزداد به التصاقا:

أحبك ياسعد وحبك طاغ على نفسي، أقوى من قلبي، متى ينتهي الوضع فاعود لحبيبي ريشة تداعبه بلا ثقل؟

لعق بلسانه دمعة علقت بخدها ثم قال:

ـ قريبا.. شهران وتخف حبيبتي...

وهما يجففان جسمهما قالت:

ـ سلمى تراك مثلها الأعلى ياسعد..

رد وقد ساعدها على تجفيف ظهرها ثم شرع يلثمه:

ـ وأنا أرى فيها طفولتك كيف كنت تتحركين وتبدين رايك بشجاعة وجرأة، وتصرين على ألا يبزك تلميذ أو تلميذة في المدرسة، هي شبهك في كل شيء..

تذكر يوما كانت واسرتها مدعوين في بيتهم، وقفت ضحى على مائدة العشاء وخاطبت والده بجرأة نادرة:

ـ ساستسمحكم عن صراحتي وصدقي مع نفسي..

عمي امد لك يدي طالبة يد سعد منك..

رد والده ضاحكا: اللهم أطعمنا حلالا، كم سيكون مهر سعد؟

رقرقت دموع في عينيها وقالت:

عمري وحبي ووفاء اعاهد ربي عليه..

في سريرهما كان تلك الليلة يتسمع أنفاسها متقطعة وبين فترة وأخرى تصدر منها تنهيدة اقلقته عليها.. كان يرفع يدها التي تنام دوما قلب يده ويقبلها..

فجأة أعادته سلمى اليها: سبحان الله اين سرحت؟

تنهد بعمق وقال:

في أيام ما ظننتها تفنى بسرعة، وتندرس في رمشة عين..

اقتربت منه وضعت قبلة على خده وقالت:

ـ اقدر مشاعرك، ومن أجل هذا الإحساس أحببتك، وأيقنت أني نصفك الضائع وحدي قادرة على تعويضه.. نلتقي ليلا ونتحدث..

ثم خرجت من مكتبه تخلف عطرها يحيي ذكرياته بوجيب في الصدر قوي ويبقي اثرها حضورا في مكتبه.. أنثى أقبلت في إصرار لتعيد للنهر الجريان..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

لمْ أُضِـعْ عمـراً ولكـنَّ الضَّيــاعْ

ذاب في العُمـر فكان المُستَطـاعْ

أنْ أرى الدُّنـيـا بـلا أيِّ قِــنـــاعْ

ولذا أبحرتُ نأياً بشراعٍ وشُعاعْ

*

English

I lost no time but the loss

melted into the age, so was the possibility

to see the world without any mask.

Hence, I sailed afar with sail and beam.

*

Deutsch

Ich verschwendete keine Zeit, aber der Verlust

Schmolz im Alter, also war die Möglichkeit,

die Welt ohne Maske zu sehen,

Daher segelte ich fern mit Segel und

Strahl.

***

2

كلّ مـا قد ذُقتُ من حُلـوٍ ومـرٍّ هــو فاتْ

إنّـنـي أنعَــم فيـه بجـمـيــل الذكـــريـاتْ

فلماذا أنـا أسعى جاهــداً كسْبَ الفُـتـاتْ؟

ولديَّ الآن مـا يكفي إلى يـوم الممـاتْ!

7 حزيران (يونيو) 2023

*

English

All the sweet and bitter I've tasted have passed.

I enjoy the beautiful memories of it.

So why am I striving so hard to get some morsels?

And what I am left with, will last my mortality!

*

Deutsch

Alle Süße und Bittere, die ich geschmeckt habe, sind vorbei.

Ich genieße davon die schönen Erinnerungen.

Warum bemühe ich mich also so sehr, ein paar Bissen zu bekommen?

Und was mir bleibt, wird meine Sterblichkeit überdauern!

يا قلبُ إنْ أفْنَيْتَ عُمْرَك ساهِرا

في حُبِّ ليلى راغِباً سَهْرانا

*

ليلى تَنامُ إذا أَطَلَّ مَسَاؤها

وتَبِيتَ لَيْلَكَ حَالِماً وَلْهانا

*

وأنا رِكابُكَ لِلْمَدائنِ كُلِّها

تَطْوِي بنا في عِشْقِها أوْطَانا

*

فارْحَمْ فإنِّي كم هَرَمْتُ وَلَيْتَها

مَالَتْ فَتَرْوِي عاشِقاً ظَمْآنا

*

في حُبِّ ليلى كُلُّ قَلْبٍ في الهوَى

طَيْرٌ يُهادِي وَهْمَهُ أَلْحَانا

*

في حُبَّ ليلى النَّارُ تَأْكُلُ بَعْضَها

وَلَطَالَمَا قد أَنْجَبَتْ دُخَّانا

*

ونَنَامُ في هَمٍّ وهَمُّ هُمُومِنا

إرْضَاءُ ليلى والأَسَى أَرْضَانا

*

نَصْحُو على حُلْمٍ وَيُمْسِي داءَنا

ويَصِيرُ فى أَسْحارِنا إدْمَانا

*

ليلى فإنِّي قد رَضِيتُ فِراقَنا

إنَّي بَذَلْتُ الحُبَّ في أَحْزانا

*

ليلى رَجَوْتُكِ تَرْحَلِينَ فإنَّنِي

أَنْفَقْتُ عُمْري وَاهِماً فَكَفانا

*

لَيْلاه يا دُنْيا أَضَعْتِ طَرِيقَنا

باللهِ إنِّي قد طَوَيْتُ خُطَانا

*

الحَمْدُ للهِ الَّذِي نَشَرَ الْهُدَى

نُوراً وَنُورُ اللهِ قد وَافَانا

***

محمد محمد علي جنيدي

لم تكن قاعة الالعاب الرياضية حكرا على النساء البدينات او الشابات اللواتي يطمحن الى الحصول على جسد رشيق وقوام ممشوق، بل لمن اصابتهم الوحدة او الالم المفاصل والامراض المزمنة ايضا، اما انا فقد كان سبب وجودي هنا لكي ارمم ما أكله الدهر مني رغم أنى لم ابلغ الخمسين من العمر بعد، واطرد اليأس الذي بات يتمكن مني. استقبلتني المدربة بابتسامة ودودة ووعدتني اني ساجد في هذه القاعة فارقا كبيرا على مستوى تحسن صحتي، ويبدو انها كانت تستقبل اي مشتركة جديدة بهذا الشكل.

المشتركات كن يتقاطرن الواحدة تلو الاخرى، احداهن وهي فتاة في العشرين من عمرها رغم انها كانت تتمتع بحيوية ونشاط كبيرين الا ان وزنها كان كبيرا وكان عليها ان تقلل من كتلة الشحوم هذه بالرياضة لان ستتزوج بعد شهر وعليها الاستعداد للزفاف، المرأة الأخرى ذات الشعر الاحمر تتفاخر بانها خلعت زوجها وانفصلت عنه، بعد ان اكتشفت خيانته لها مع اعز صديقاتها.  سماعة هاتفها النقال لا تفارق اذنها، وكما يظن الجميع هنا فأنها كانت تتحدث مع رجل تعرفه او لعلها تقيم معه علاقة وثيقة ربما لأنها تريد ان تثأر من زوجها السابق، المدربة كثيرا ما كانت ترمقها بنظرة حادة حين يرتفع صوت ضحكاتها  المريبة وتقول لها بلهجة آمرة: انه مكان للعلاج والتمرين وليس مقهى، كان صخب اصواتهن احيانا يعلو فوق صوت الموسيقى التي تصاحبنا اثناء التمرين.

الوحيدة التي لا يسمع صوتها هي المرأة التي شارف عمرها على الستين عاما والتي حرصت دوما على ان لا تظهر خصلات شعرها الأبيض. كانت عيناها الغائرتين وجسدها الهزيل يصفان مدى ضعف قدرتها البدنية وأصبحت محط تندر بعض الفتيات الصغيرات اللواتي كن يتهامسن ويضحكن بصوت منخفض حين تمارس التمارين معنا، حتى انهن كن يتندرون بالقول بأنها أقدم من النهر في هذه المدينة.

تساءلت في سري وفكرت في امرها طويلا، اليس من المفترض بتلك المرأة ان تكون بين اولادها واحفادها الان لكي تحظي برعايتهم وحبهم.

وكما يبدو من هيئتها أنها امرأة لطيفة. حاولت التقرب والتودد اليها واساعدها بعض الاحيان مما مهد لي الجلوس بقربها وتبادل الحديث معها وفي احدى المرات سألتها على استحياء: هل تعانين من امراض المفاصل. فأجابتني: لا الحمد لله انا لاأعاني سوى من السكري، اذن، لم أنت هنا؟

قالت إنها الوحدة. انا اعاني من الوحدة، لدي ولد وبنت، ولكنهما تركوني وحيدة في المنزل بعد ان توفى والدهم ولا يأتون لزيارتي الا حين يأتون لأخذ المال مني. لدي دار مؤجرة تركها لي زوجي والاولاد يأتون لكي يأخذوا نصف ايجارها وبعدها تنقطع اخبارهما حتى عندما اتصل بهما يكونان مشغولين حتما، كانت لي حياة جميلة حين كنت بعمرك، سافرت بلدان كثيرة بصحبه زوجي وولدي ولبست أفخر الثياب. فجأة سادتها سكينه مفعمة بالكآبة، ولمحت حياة جديدة ترتسم على وجهها الحزين وكأنها استيقظت ثم أطرقت قائلة: أصبح المنزل مسرحا للفراغ والاحزان، الليل له مخاوفه وهواجسه، والمنزل له وحشة القبور. وانا كما ترين الان قد تقدم بي العمر وبحاجة لم يهتم بي، لدي ايضا مشاعري، سوف ابوح لك بسر اخفيه عن الناس، ربما لأننا قريبات في العمر وبإمكانك ان تفهميني، في إحدى المرات استأجرت سيارة اجرة، كان صاحب السيارة انيقا ودودا ويضع عطرا فرنسيا، تحدث بطريقة لبقة ومؤدبة وجميلة وساعدني بحمل بعض الاغراض من السوبر ماركت الذي كنت قد قصدته بعد ان طلبت منه ذلك واتفقت معه على ان يقوم بإيصالي الى القاعة كل يوم، في الحقيقة كنت اريد سببا يجمعني به مرة اخرى، هو في بداية الأربعينيات ولم يتزوج لحد الان وعندما سالته قال انه يعيل عائلته ولم يعد يشعر بالعمر وهو يمضي سريعا، توثقت علاقتنا سريعا، بإمكان أي شخص ان يثق به، حنون، ودود وصادق، فيه صفات اكثر من ذلك تجعل أي امرأة تنجذب اليه وانا ما زلت امرأة، لدي مشاعر امرأة ناضجة ووحيدة .مضى على علاقتي به ثلاثة اشهر ازداد تعلقي به وازددت تعلقا به وقبل شهر تقريبا فاجأني بانه يود ان يتزوجني ان يرتبط بي الى الابد، لم احتمل ذلك وبكيت، بقيت ابكي لمدة تقارب النصف ساعة واحتضنني وشعرت بالدفء، قلت له انني لا استطيع الكلام وبكيت مرة اخرى في المنزل الفارغ والبارد، مزقت ملابسي، كنت اصرخ ثم سكت لئلا يسمعني الجيران، هل تتخيلين الامر؟ في الشهر الثالث اعتدت على سماع صوته طوال الليل يوميا، يوميا كنا نتحدث في مختلف المواضيع وكنت اشبهه وكان يشبهني، اصبحت اعشقه وهو يتحدث او يتنفس او يدخن، اصبحت اكره غيابه، واتصل به في كل وقت، قلت له لا عليك انا اعطيك ما تكسبه في كل يوم مقابل ان نكون سوية ورفض، يجلب لي كل يوم وردة حمراء، قررت وبشجاعة ان أدعوه الى الغداء في المنزل ولكنه رفض قال انا اخاف عليك من كلام الناس، كان يكبر في عيني كل يوم، حدثته عن اولادي وعن قراري بالتحدث إليهم بشأن طلبه الزواج مني، ربما يفهمون الامر وشجعني على ذلك واتصلت بهم،في الحقيقة كنت مندهشة ومشدودة الى حديثها بشكل غريب، طلبت منها بعد ان صمتت لكي تجيب على هاتفها النقال ان تستمر بالحديث، قالت لعلي صدعت راسك بمشاكلي فقلت لها لا عليك وماذا حصل بعد هذا ؟ قالت اتصلت بهما وقلت لهما ان عليكما الحضور لأمر مهم وحضرا بالفعل، كنت خائفة من ردة فعلهما حقا ولكني قررت المسير بالأمر الى اخرته، قلت لهم بعد ان أنهينا الغداء إن هنا رجلا يريد الزواج بي، وتخيلي الصدمة والوجوم على وجهيهما، نظر أحدهما الى الآخر ثم قال ابني ومن يكون هذا الرجل واين تعرف عليك ثم كيف لك ان تفكري بالزواج وانت بهذا العمر، وحاولت البنت ان تكون أقل انفعالا من اخيها وقالت نحن مقصرون معك ياامي ولكن هذا ليس سببا لكي تفكري بالزواج، فكري بنا ترى ماذا سأقول لزوجي وعائلته وماذا سيقول اخي لزوجته، فكري بنا ياامي قبل ان تفكري بنفسك، بقيت صامته انظر الى وجوههم ثم قلت لهم لقد اتخذت قراري وسواء قبلتم أم لم تقبلوا فالقرار لي، غادروا المنزل لكن ابني قال لي ليس لك بالتأكيد بل لنا وسترين ما سنقوم بفعله

بالأمس ذهبنا الى محل أحد الصاغة واشترى لي خاتما من الذهب وسنذهب الى المحكمة لكي نعقد قراننا ثم سياتي لكي يعيش معي في البيت.

في اليوم التالي لم تحضر الى القاعة و انتظرتها طويلا وتشاغلت بأداء التمارين ولكني كنت أفكر في تلك المرأة التي قررت ان تعيش حياتها مع من تحب؟ مضت عدة ايام و الفراغ الذي تركته لا يمكن ملئوه، لكن ما حصل في اليوم السابع لغيابها والذي سمعناه من المدربة جعلنا نحزن كثيرا، ادعى اولادها انها مجنونة وطلبوا من المحكمة إيداعها في مستشفى الأمراض العقلية للتأكد من سلامة قواها العقلية والحجر على أموالها ونصب ابنها وصيا عليها، وتم الامر كما خطط الاولاد لذلك ولكن الغريب بالموضوع ان صاحب سيارة الاجرة لم يتركها لحظة واحدة ومازال واقفا امام باب المستشفى وهو يقول اقسم بالله انها زوجتي، ليس الامر كما يقولون خذوا كل شيء واتركوها لي وحدي.

***

نضال البدري / العراق

عند باب المجمع التجاري أراهما يقتربان مني، تفلت ابنتهما يدها من يد والدها، تجري نحوي، أتلقفها مثل طائر حبيب، أحتضنها كم أنا أحبها، الصغيرة كبرت، احتضنها بين يدي أقترب منها، يتوجه إلي والدها، أبي ادخل معنا إلى المجمّع، يشير إليها في حضني إنها تحبك، منذ فترة لم تزرنا، لهذا هي تسأل عنك دائمًا، تريد أن تراك، ادخل معنا ريثما تشبع منك فيما بعد تنصرف، أقول لابني أنا مشغول يا ولدي، لدي الكثير من الكتابات التي تنتظر، سأعود إلى معتزلي، هناك أنا يجب أن أكون، سأزوركم فيما بعد، أما الآن لا استطيع، القصة لا تنتظر وعلي أن اكتبها قبل أن تطير شوختها من راسي.

تداعب الصغيرة في حضني شاربي، جدّي أنا أحبّك، أريد أن آتي معك، الصغيرة الشقية تحلّ المشكلة، لكن إلى أين تأتي معي؟ أنا في معتزلي هناك، حيث الغرفة الموحشة، الكلمات المهوّمة في الفضاء، الجنون الهارب، الفضاء الموحش اللامتناهي، ماذا أفعل، يقرأ ابني الحيرة في عينيّ، أبي خذها مشوارًا قصيرًا، وأعدها بعده، هي ستملّ بسرعة، لكن كيف أعيدها يا ولدي؟ يشير ابني إلى فتحة في سياج ضـُرب حول المجمّع حتى لا يتمكن أحد من الهرب، في حال وجود ” غرض مشكوك في أمره” أو عملية تفجيرية، من هذه الفُتحة يمكنك إدخالها والدخول معها أيضًا.

يبتسم ابني وزوجته، يمضيان، تتعلّق الصغيرة برقبتي، أين أنت يا جدي؟ اشتقت إليك، أبتسم لها، أنا هنا، أفكر في أن أشرح لها عن معتزلي، أن أقول لها إن جدّك بات شيخًا كبيرًا، يجري وراء أحلامه في الكتابة، أتراجع في اللحظة الأخيرة، تلحّ الصغيرة طالبة إجابة، لا أجد أمامي من مفرّ سوى أن أقدّم لها ما أرادت، سأكتب قصة لك. تبتسم الصغيرة، تكتب قصة لي، اروها لي.. اروها الآن، أحب أن استمع إلى القصص، لا أحبّ القصص التي يحكيها لي أبي وأمي، هم يرددونها دائمًا، أريد أن استمع إلى قصة جديدة منك. أبي قال لي إنك تكتب القصص، إحك لي قصة.

أرسل نظرة إليها، كم أحب هذه الشقيّة الصغيرة، تركتها قبل فترة وانصرفت إلى معتزلي، وها أنذا أعود بعد فترة لتملأ عالمي بالكلام، لم أكن أتصور أن يفلت لسانها بكلّ هذا الكلام بهذه السرعة، والدها، ابني، لم ينطق بكلمة إلا بعد أن بات أكبر منها الآن بسنة أو سنتين، ما زلت أتذكر كيف نطق بكلمته الأولى، كان ذلك حين وضعت فمي على أذنه وهمست فيها قائلًا، كم أحبك، فما كان منه إلا أن احتضنني، وأنا أحبّك يا أبي، من يومها زال حاجز الخجل وانطلق لسانه يقول أحلى الكلام، أما هذه الشقيّة ابنته الصغيرة، فها هي تطلب مني أن أحكي لها قصة، لا خوف ولا وجل، ما أفتح هذا الجيل.

أنطلق مبتعدًا عن المجمّع التجاري، تسألني الصغيرة في حضني، إلى أين أنا متوجّه؟ تمسك بياقتي، أريد أن أعود، أريد أمي وأبي. أفهم أن المشهد انتهى، الآن لا بدّ لي من أن أعيدها.

أبواب المجمّع مغلقة، تصدّني عنها، يعترضني حارس، أنت لا تستطيع أن تدخل، أسأله ماذا حصل، يرسل نظرة حاقدة نحوي، اقرأ فيها كلامًا أسود، أشعر به يقول لي تفعلون فعلتكم وتتساءلون؟.

أنزل الصغيرة على الأرض، لعلّه يراها، نحن أيضًا يوجد لدينا صغار، نخشى عليهم من نسمة الهواء، يبرم بوزه أكثر، يبدو أنه لم يفهم الرسالة.

أبتعد عنه، أنظر إلى عدد من الرجال يحملون صغارهم في أحضانهم، ربّما كانوا مثلي، أتذكر الفتحة التي تحدث عنها ابني، الفتحة في السياج، أرفع الصغيرة، أدلّيها بصعوبة منها، ما إن تلامس قدما الصغيرة الأرض حتى تطير منطلقة إلى الداخل كأنما هي فهمت الرسالة، بدون أن تركض قد لا تدخل وقد لا ترى والديها، ما إن أحاول أن ادخل وراءها، حتى يقترب منّي مجنّد وقف هناك رافعًا سلاحه، عُدّ وإلا.. أفهم الرسالة، بسرعة أفهمها، لست بحاجة إلى تكراره لها، نحن نفهم عليهم بسرعة، أما هم لا يفهمون علينا، سبعون عامًا ونيّفًا مضت ونحن نحاول أن نوصل إليهم الرسالة، وهم لا يسمعون، أما هم لا يحتاجون إلا إلى نظرة تقطر سُمًّا، حتى نفهم عليهم، نفهم رسالتهم الملأى دمًا وحقدًا.

أرتدُّ إلى الوراء، حالة من العجز تستولي علي، ما الذي حصل، أشعر بحاجة، إلى فهم ما حصل، أركن راسي إلى جدار قريب من هناك من المجمّع، أحاول أن استعيد ما حصل، شريط سينمائي ذو صور متلاحقة يمر من قُبالة عيني، أتوصّل في النهاية إلى النتيجة المُرعبة، ما أدراني أن ابني وزوجته في الداخل؟ ومِن أين لي أن أعرف أن الصغيرة وصلت إليهما؟ ألا يمكن أن تتوه هناك وأن يأتي مَن يقضي على الابتسامة الجميلة الحالمة برواية القصص الجديدة؟ ما أتعسني إذا حصل هذا، أشعر بنشاف في فمي، هل نحن على أبواب فترة قاسية جديدة؟ هل أنا أعيش الآن لحظة ستُضحي فاصلة في تاريخي الشخصي؟ هل سأؤرخ بها لنفسي قائلًا قبل حادثة المجمّع وبعدها؟

حالة من الخدر تجتاح أطرافي، ابني في خطر .. زوجته في خطر.. محبوبتي الصغيرة التي كبرت.. في خطر، أية لحظة هذه؟ ولماذا قُيّض لي أن أعيش في هذه البلاد المنكوبة بالسُخط، لماذا لم أولد في بلاد أخرى بعيدة تتقافز الطيور على أفنانها، وتطلق أغاريدها؟ لماذا ولدت هنا في هذه البلاد، حيث تصمت اللحظات، وتتوقّف الطيور عن التغريد، وتكفهرّ السماء؟ وماذا سأقول لابني ولزوجته، إذا ما خرجا، الآن بعد ساعة أو ساعتين، بعد يوم أو يومين ثلاثة؟ بل ماذا سأقول لنفسي؟ سأقول إنني كنت غبيًا وتصرفت برعونة كاتب يريد أن يكتب قصة؟ ما أتفه ما سأقوله، أمام دمعة والد ووالدة وجد ما زال يحلم بان يصبح كاتبًا يشار إليه بالبنان.

أسترخي.. أسترخي .. أسترخي، حالة من الاسترخاء تستولي علي، أهي لحظة النهاية تقترب؟ ربّما، آه لو لم أمرّ مِن هنا من قرب هذا المجمّع اللعين، آه لو بقيت هناك في معتزلي البدويّ المشرّد، بعيدًا عن هذا المُعترك المدنيّ المتأورب.

اللحظات تمرّ ثقيلة عسيرة. تمر كأنما هي لا تُريد أن تمرّ وأنا وحيد أمام كتل الاسمنت والبطون، لا أرى إلا حزني الصحراوي يطلّ على هناك ترافقه أرض رملية لا حدود لتعاستها، كم أود لو أن اللحظة ما كانت، لو أنني بقيت هناك في عالمي الموحش أركض وراء قصة هاربة أكتبها، الآن اكتملت دائرة الألم، الآن أشعر أنني بتّ نخلة وحيدة في صحراء العرب.

ماذا بإمكاني أن أفعل والمُجمّع مُغلق وعلى أبوابه جنود لا تعرف نظـّاراتـُهم الرحمة؟ ماذا بإمكاني وأنا أواجه لحظةً مصيريةً قد أفقد فيها سُعُفي وشمسي؟ مستقبلي وأيامي القادمات؟ أترك الأمور تجري كما هي وكما يشاء لها الجنود والحرّاس؟ نعم لأتركها، ثم من أنا الآن في هذه اللحظة خاصة، حتى أملي إرادتي على كلّ هذا الفضاء، بجنوده المدجّجين بالسلاح وحراسه؟ لاستسلم إلى اللحظة ولأدع الوقت يقدّم الإجابة، أنا لا أستطيع أن أقدّم أية إجابة، ما كتبته مِن قصص خـُلـّب ٍ الآن، لن ينفعني إلا في أمر واحد، هو كيف أتعامل مع لحظة قاسية .. لا تقلّ فيها فظاظة نظرة الجندي عن قُدرة عن التوماهوك.

نعم لأرخي راسي إلى كتلة اسمنت أخرى، ما إن أفعل ما إن أرخي راسي، حتى تطلّ صورة صغيرتي، من سمائي.. جدّي؟ لماذا تركتني وحيدة هنا بين أعداء لا يرحمون؟ أإلى هذا الحدّ أغرتك القصة فجريت وراءها. تهمي من عيني دمعة، لا أعرف ماذا يمكنني أن أقول لها. لا أعرف سوى أن أنتظر فمن يعرف فقد يأتيني غدًا بالأخبار من لم أزود.

أغمض عينيّ.. لا أريد أن أرى هكذا عالمًا.. ليعش هذا العالم جحيمَه، وليدع لي فُسحة من الحلم.. أفتح عينيّ.. لا أرى سوى الجنود والحرّاس.. أحاول أن أهتف بهم.. أن أقول لهم دعوني أدخل إلى المُجمّع.. دعوني أكون مع أحبائي هناك، إلا أن لساني يخونني.. أغمض عيني.. افتحهما .. كم هو مُرعب هذا المكان.

***

قصة: ناجي ظاهر

من مجموعتي القصصية " بلاد الرعب".

ونصوصٌ أخرى

***

عيناهُ قصيدتا رملٍ وماء

تساقطْ...

تساقط فوق صحراء عمري

كالمطرِ وأكثر،

حتى ترتوي أغصاني

وعناقيدي تُزهر،

تساقطْ كالحلم

كفراشة تتبع الضوءَ

كفكرة

أو قطعة سكّر

تساقطْ فوق ملامحي

نبيذًا معتقا

فمواسم الخصب لا تتكرر

تساقطْ...

تساقط كالمطرِ وأكثر،

فأنتَ النور

وعيناكَ قصيدتا

رمل وماء

وأنا ظلُ خريطة

في دفتر

-2-

طلاسم السعد

أنا الآن أهزُّ الحزن

بشمالي

فيتساقط كل الدمع

وأهزّ مهد حبيبي

بيميني

فينبتُ كل الزهر

أنا الآن أجمل,

أشبه ملائكة الله.

وأقوى,

أشبه قلوب الفرسان.

أنا الآن متماسكة

مثل بلورات الثلج التي تتنزل فوق يباب الحقول

فتجري جداول الزلال والعسل

أنا الآن نائية قرب سدرة الكون

أتلّمس " جذع النخلة"

تلّوح لي أصابع " مريم"

فأغدو شَبعى

تُناديني عيون " هاجر"

فترتوي روحي ضياء

أهرول صوب الحلم

يصعد بي إلى بلاد سومر

تقودني طلاسم مسمار سعدٍ قادم

أنا الآن ألمعُ في وجودي

من جديد

-3-

متشابهان في المنافي

أنتَ تحلم بامرأة لذيذة

وأنا أحلم برجلٍ عاشق.

أنت تحلم بعندليب

يبلل صباحاتكَ بألحانه

وأنا أحلم بصوتك

لتتدفأ به صباحاتي المتجمّدة

متشابهان جدًا

نحنُ

في المنافي.

-4-

ندى العنبر

إن احتسيتَ كأس خمرٍ،

أو كأس حبي

بكليهما ستسكرْ،

فذاك الخمرُ من

تمر شفاهي

وهذا الحبُّ

سقتهُ البلابلُ

ندى العنبر

-5-

قدَّ الشوق قميص سكوني

عانقتُكَ فاستقامَ الضوءُ في ليلي

وقَدَّ الشوقُ قميصَ سكوني

أيُّ فجرٍ سيتسلّلُ لنافذتي

وأنا غارقةٌ في نهرِ عطرِك؟

أيُّ صوتٍ سيوقظُ سربَ الأحلامِ

وجنوني يرقُدُ فوقَ طيف صدرِكَ؟

أيُّ مرايا ستمدُّ يدَها

لتلامسَ شغافَ شفاهي

وملامحُكَ ترتديني؟

أيُّ مكانٍ سيتّسعُ لأمنياتي

وأنتَ اختزلت جميعها

بحكمةِ المسافةِ؟

وأنتَ الفائضُ بغيثِ الأزمنةِ

وأنتَ المنسكِبُ بلذّةِ الصبرِ

في قهوتي

وأنتَ الفوضى المنتظمةُ فوقَ

سطرِ حكايتي

وأنتَ الحبُّ الذي جاء

بعدَ مشاغبةِ الأحزانِ

وأنتَ الندى الذي بلّلَ

عافيةَ الأجنحةِ

عانقتُكَ فاستقامَ النورُ في صبحي

وبدّدَ ضبابَ الأيامِ.

***

ذكرى لعيبي

عــيـنـاكِ نــهــرٌ والـجـفونُ ضـفـافٌ

وأنـــا الـمـتـيّمُ والـهـوى أصـنـافُ

**

يـغفو البنفسجُ في كوى أحداقِها

وعـلى الضّفافِ يعرّشُ الصفصافُ

**

وأنـا المحاصرُ من عساكرِ رمشِها

أنّـــى اتـجـهـتُ تـردّنـي الأطـيــافُ

**

كيف الهروبُ وليس ليْ مِنْ مخرجٍ

فـــي كـــل زاويـــة بــهـا سـيّـاف

**

ابـحـرت فــي عـيـنيك دون درايـةٍ

كـيـف الـعـبورُ وخـانني الـمجدافُ

**

فـتتيـهُ فـي عُـرضِ المياهِ مراكبي

ضـاقـتْ بــي الأعماق والأطـرافُ

**

وتـسـير خـلـفي ذكـريـاتي عـنوةً

أودى بـــهـا الـتـجــوالُ والـتـطــوافُ

**

قــد هـدّنـي الإبـحـار دون نـتـيجةٍ

خـارتْ قـوايَ وكلّـت الأكـتـافُ

**

ووقـفـت فــوقَ الــماءِ أنــدبُ خيبتي

فـمـتـى يـجــيء الـعدلُ والإنــصافُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

وجدتها لعبة.

حقا إنها لعبة مثل شريط سينمائي تختلط فيه كل مظاهر الطبيعة. هناك في هذا الشريط أشجار بصور دمى آدمية وبنو آدم بشكل قطط ونمور وكلاب.

العالم يتداخل بلوحة واحدة.

والناظر للأرض من الفضاء يجدها كتلة مدورة لا خدوش فيها.

ولكي أدرك ذلك فعلي أن أعود إلى ذاكرتي القديمة فأعيد ترتيب علاقاتي مع الكائنات الحية من قطط وكلاب وطيور.

لا علاقة لي بالعصافير قط. اللمحة التي برقت من الذاكرة البعيدة ترى أن الأولاد الأكبر مني سنّا يرون أن العصافير لا تذبح. رأيتهم ينتزعون رؤوسها يشوونها. أكلت منها نعم.

لا أتذكّر طعمها الآن.

أمّا الأولاد المشاكسون فكانوا ينصبون الكمائن للعصافير، يؤذونها بالحجارة والأفخاج. يأكلونها والبلابل يسجنونها. لم أكن منهم قط

هذه الهواية الشرسة لا تعجبني.

أيّة محكمة وضعني فيها السيد مارتن. عليّ أن أعيد صياغة العالم والطبيعة من جديد من خلال ذاكرة قديمة لم تهرأ ولم تندثر بعد. أما الكلاب فما زلت أحتفظ من أحدها بأثر في جسدي.

ذات يوم أحس أبي بالحاجة إلى كلب في مزرعتنا بنهر جاسم. تلك الأيام كان اللصوص يداهمون البساتين والبيوت، وقد وعيت على آثار خنادق صغيرة تحيط البيت يندس فيها حالما يخيم الظلام بعض الرجال ومعهم بنادقهم، لقد مات خلال تلك الأيام كلبنا الطيب الأليف الذي يتبعني مثل ظلي، صديقي (أنمار) أرمي له سمكة اصطادها بالسنارة، فيكاد يطير فرحا، وآخذ من أمي رغيفا حالما تتم الخبز في التنور ألقيه له فيهز ذيله ويلتهمه بشغف.

أحسّ أنه يبتسم لي ويضحك

منتهى الخيال... في سن الطفولة قبل الدخول إلى المدرسة تظن الحيوانات تضحك وتتحدث، وأصبت بخيبة أمل في الثالث الابتدائي حين سمعت المعلم يقول الحيوانات لا تتكلم بل هي أصوات وإشارات.

كنا على الرغم من الخنادق بحاجة إلى كلب، فذهب أبي ذات يوم مبكرا إلى جهة البر وعاد معه كلب ضخم ولد من تزاوج كلبة وذئب.

فرخ الذئب، هكذا أطلق البيت الكبير عليه قبل أن يجدوا له اسما. أمن من في الدار من شر اللصوص وناموا مرتاحين، عليّ أن أنسى صديقي القديم وآنس للكلب الجديد. عند الغروب رميت نحوه خبزة من خبز التنور فالتهمها. وفي ضحى اليوم التالي وجدته نائما أمام عتبة الباب. كان صديقي الذي سبقه يرقد وقت الضحى وسط باحة البيت. فأغتنمها فرصة أذهب وأجلس فجأة أمام وجهه وأداعب جبينه براحة يدي، فيرفع رأسه إليّ لنبدأ اللعب.

الدور نفسه أديته مع الكلب الجديد. فرخ الذئب

حرصت على ألا اوقظه

جلست بخفة ثم امتدت يدي إلى جبينه

غير أن المشهد انقلب رأسا على عقب..

كدت أفقد عيني

انتفض وهو ينبح نباحا حادا

قرأت غضبه في وجهه وأنيابه

فصرخت

وفقدت وعيي وفتحت عيني لأجد أهل بيتنا الكبير يحيطونني

أنا في حضن أمي التي راحت تعول وتصرخ

خالتي تبكي

البيت القلعة كله يتحرك

زوجة خالي تهرع إلى النخلة وتأتي بليف تلف به زندي الممزق وخدي. كانت أنياب الكلب الذئب تترك جرحين كبيرين في زندي وخدي.. الندبة التي في خدي الأيسر، لو كانت العضة في رقبتي لمت. ولو كانت في عيني لعميت.. هكذا يقولون.. وما علينا إلا نذبح أضحية شكرا لله على دفع الشرّ، ولم أر الكلب فيما بعد، فقد ألهاني فك الخروف الضحية الذي عملت منه مسدسا أطارد به الأعداء، لقد أخبرتني أمي أن والدي سلم الكلب إلى أحد الفلاحين وأمره أن يعيده إلى البرية التي جلبه منها ثم سمعت أن الفلاح ربطه إلى نخلة في بستانه بحبل متين حتى حضر والدي فأطلق عليه رصاصة من بندقيته (الشوزن)

لكن ماعساني أن أقول للسيد مارتن.. أبي الذي يحبني لم يرغب أن يترك الكلب الذي آذاني حيا؟

أراد أن يردّ على الكلب الذي آذاني بنفسه، كان أهلي قلقين علي من أن يكون فرخ الذئب مصابا فتشملني عدوى الكلب، مأساة مرت بها عائلة جيراننا الذين مات ابنهم من عضة كلب، الهاجس دفع أبي ليأخذني إلى العشار فيعرضني على أشهر أطباء البصرة، وبعد فحوص ودعوات اطمأن أهلي وأعرضوا تماما عن فكرة فرخ الذئب، مع ذلك لم يخل بيتنا تماما من كلب، هناك الماشية والذئاب واللصوص، كل هواجس الليالي المخيفة يطردها النباح وهل هناك بيت في نهر جاسم يخلو من كلب كما يقول أبي؟ وقد أراحنا يوم جاء بكلبين أليفين أخوين من بيت أخته في (الشلهة) كلبان أبيضان جميلان أليفان أصبحا صديقي، سميت أحدهما (محبوب) و(مزهر) ولا عيب فيهما سوى أنهما ينبحان طول الليل لأقل حركة. تقول أمي لننم رغدا فقد تعودنا على نباحهما في الليل فهما يسمعان دبيب النمل!

لكن

مادمت وعيت الطفولة وماحدث لي يكاد يلقي بظلاله على الحاضر وهناك لعبة جميلة أراها تبادلا في المواقع ويراها جاري مارتن تناسخا فهل أعترف له أني كنت سببا في قتل كلبه قبل خمسين عاما؟

الدليل على ذراعي أما الأثر في خدي فيكاد لايبين الآن. ندبة تشبه حبة بغداد.

هكذا يظنها الرائي.

أدرت رقم الهاتف فجاءني صوته الوقور الودود؟ هل وجدت ضالتك؟

هناك أمر ما يمكن أن نتحدث فيه إذا كان لديك وقت.

لا بأس كلي آذان صاغية

رحت أحدثه عن الكلب فرخ الذئب. اسهب في الوصف وأجعله يتداخل بين الطبيعة وأشجار النخيل واللصوص ونباح الكلاب في الليل على الأقل أجعله يتوافق مع عملية التداخل التي لا أؤمن بها لكنني أرتاح لمجرياتها التي يؤمن بها الآخرون. أجد أنّ كلّ الأفكار صحيحة، وأنه يمكن لأيّ فرد أن يرسم العالم حسب ريشته الخاصّة.

أ ليس هذا هو المشهد الذي أقصده بخصوص الكلب

قبل أن أعترض واصل:

أنت نفسك ضحيّة وربما بعد طول عمر تصبح في جسد آخر فتلاحق كلبا آنذاك.

أضحك في سري لو كان التحول بيدي لاخترت أن أكون فيلا، لا آكل الجيف والموتى ولا أولغ بالدماء مثل النمور والأسود في الوقت نفسه أقوى حيوان .. لا يفترسني أحد.. أفكر بالغزال رقيق لا يأكل القاذورات لكنه ضعيف عرضة لأنياب كل قويّ، ولو كوفئت في حياتي هذه لحياة تالية أرقى لرحت أختار جسد ملك. ملك يطيعني الجميع ففي حيواتي السابقة مايدفعني لأكون الأرقى في حياة جديدة..

قلت معترضا:

افرض أن أبي لم يرسل فرخ الذئب الذي تسمونه الألماني إلى البرية بل قتله لأنني فعلا سمعت رأيا آخر يؤكد فعل القتل.

مادمت لم تمارس فعل القتل فلا يوجه إليك عالم التناسخ أي اتهام.

انتقل ذهني إلى حوادث لاحقة:

لا أذكر أن لي صراعا آخر مع أي كلب ماعدا حوادث عابرة زجرة أو رمية حجر وأصعبها يوم رأيت كلبا في الحارة يركض خلف أخي فرميته بحجر ويوما طاردني كلب في الزقاق المجاور لزقاقنا فاندفعت داخل بيت وجدت بابه مفتوحا وكادت سقطتي تكون على صاحبة الدار التي كانت تطبخ في المدخل خلف الباب مباشرة

كلها حوادث عابرة.

هذا كل شئ

ماذا عن البشر. الناس العاديين.

أخذتني دهشة بعيدة فجاءني صوته:

ربما تشاجرت مع إنسان.. طعنته.. ضربك بعنف.. سببت له ضررا ما أي ضرر بليغ

لم أبادر أحدا بأي أذى عن عمد

تذكر.

سأحاول أن أتذكر

عندما تتذكر سندخل في تفاصيل أخرى.

حسنا إلى لقاء.

***

د. قصي الشيخ عسكر

هذا الكائنُ،

الذي يقفُ أَمامَكم الآنَ

هوَ  أَنا

{سعد جاسم}

وأَعني

{سـعـدائـيـل البـابـلي}

ولدتْني أُميَّ السومرية

على ضفافِ الفرات

إِذْ فاجأَها الطلقُ

عندما كانتْ تُجالسُ النهرَ الكريمَ

لتغسلَ الثيابَ والأوجاعَ

الأَحلامَ والصحونْ

بورقِ السدرِ والتينِ والزيتونِ

والبوحِ والتُرابْ

وكانَ أَبي السيّدُ الهاشميُّ الأخضرُ الروح والعيونْ

دائماً يتذكّرُ تلكَ الواقعةَ الغرائبية

ويحكي بشغفٍ أَبويٍّ ساخنٍ

عن يومها المحفورِ في ذاكرتِهِ

وقَدْ جاءَهُ الـ "سعد"

فأَعطاني هذا الاسمَ بيقينِ الماءِ

وأنا بدوري جئتُ إليهِ

بالنورِ والفرحِ الربّاني

لأنني شبيهَهُ الوحيد

بخضرةِ عينيَّ وبساطتي وزهدي

وعشقي للحبِّ والجمالِ والنساءِ

وفي...

حداثتي الروحية والشاعرية

أًصبحتُ نَحّاتَ النصوص

وصيّادَ غزالاتِ المُدن

فارسَ أَحلامِ الوحيدات

والشاعراتِ الهائماتْ

والسارداتِ الساحراتْ

والرساماتِ المجنوناتْ

*

وكذلكَ أَنا شفيعُ

النساءِ المُهَمَّشاتِ والمُهَشَّماتِ

والمُهاجراتِ والمُهَجَّراتِ

الهارباتِ من الحروبِ

وبيوتِ القسوةِ والدموعِ

والأَزمنةِ الرماديةِ المُرَّةِ

مثلِ شايٍ صينيٍّ مغشوشٍ

بنشارةِ الخشبِ والأَصباغِ المُسَرْطنةِ

وفايروساتِ " كوفيد " ومُشتقاتهِ الشيطانية

وأَنا أَيضاً حارسُ أَسرارِ الصديقاتِ والأَصدقاء

في ماوراءِ البحارِ والمحيطات

*

وأَنا الذي رآى...

رأَيتُ كلَّ شيءٍ

ماعَلَّمني أَحدٌ

ولكنّي إِكتشفتُ

لأَنني العارفُ والرائي

أَنا الذي رآكم

وليسَ "جلجامش" المشغول

بقواريرِ وعذارى بابلَ

وجبروت "خمبابا"

ووحشةِ غيابِ صاحبهِ وخلّهِ

الذي إِختطفتهُ مخالبُ الموتِ

فكانتِ المأساةُ السوداء

والحقيقةُ الوحيدةُ

في الكونِ والوجودْ

وتاهَ ثُمَّ شاخَ ثُمَّ غابَ

في رحلةِ البحثِ عن العُشبةِ

ولعبةِ الأفعى وحكمةِ الخلودْ

وكانتِ الحكايةُ

هيَ البدايةُ واللانهاية

وهيَ إِسطورتُهُ الباقية

وهيَ إِسطورتُنا الأَبدية

ولأَنني رأَيتُ مارأَيتْ

صرتُ نقياً وحُرّاً وثَرّاً وثرياً

في عزلتي ومنفاي

قوياً وسخياً بفراديسِ معرفتي

وبهياً برؤايَ واشراقاتِ قصيدتي

أزهو وأتجلّى بيواقيت حكمتي

أترفّعُ عن...

إِساءاتِ وإِشاعاتِ وحماقاتِ القطيع

ولاأَكترثُ

إذا لمْ تُغَنِّ بذكري بلادي

أَو يُنكرُني ويُهملُني وينساني أَهلي وأَصدقائي

فأنا " طفلُ الكلامِ " الأَبدي

وسعدائيل " موسيقى الكائن"

وناسكُ عُزلاتِ الزاهدين

ودرويشُ منافي الله

هكذا أَراني

لاأَخشى الحرائقَ

والثعالبَ والقتلةَ والافاعي

لأَنني منشغلٌ بالأَملِ

عشبةِ الخلاص

والعدم!

أُخلّص عنقاء الأيام

من شرنقة الرماد

فتكون حبيبتي الأبدية

منقذتي

من سَعِير الآخرين

ومن...

سطوة " الكورونا"

وأوجاع الغربةِ الفادحة.

***

................................

* هذا النص بدأَ الشاعرُ بكتابته في كندا بتاريخ 20-6-2020 وقد إنتهى من كتابته بتاريخ 1-1-2023

اُتْرُكِ الْهَمَّ يَا سَمِيرَ خَيَالِي

وَارْقُبَنِّي عَلَى رُبَى الْأَدْغَالِ

*

وَازْرَعِ الْحُبَّ بَلْسَماً وَعَبِيراً

وَانْسَ طَيْفَ الْأَوْغَادِ وَالْأَنْذَالِ

*

رُبَّمَا أَلْتَقِي وَهَمْسَةَ قَلْبِي

رُبَّمَا تَلْعَبُ الزُّهُورُ حِيَالِي

*

رُبَّمَا هَلَّتِ اللَّيَالِي بِوَعْدٍ

يَجْتَبِينِي عَلَى رِمَالِ التَّلَالِ

*

رُبَّمَا فَاضَ ثَغْرُهَا بِرَضَابٍ

أَوْدَعَتْنِي الْأَقْدَارُ سَهْلَ الْجَمَالِ

*

رُبَّمَا رُبَّمَا يَفِيضُ شُعُورِي

بِلُحُونِ تُودِي هُمُومَ اللَّيَالِي

*

رُبَّمَا  مَا كَابَدْتُهُ فِي زَمَانِي

يَصْطَفِي السَّعْدَ عِنْدَ رُوحِ الْجِبَالِ

*

رُبَّمَا تَسْتَرِيحُ نَفْسِي سَرِيعاً

فَوْقَ غُصْنٍ تَشْدُو لُحُوناً بِبَالِي

***

شعر. أ. د. محسن عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

يحبو على بحار الأمل يترجى

ولا تسعفه رجاحة عقله

ينهال يأسا ويبتسم عادةٌ

ويرقص خلسة في أمواج حاقدة

لانه يتحاشى غزو النفاق

ويتلذذ شجاعة في مواجهة الاقوياء

تلوح سفينة في الأفق

وهو يلج البحر متهالكا

ترقد فيها شهباء مخملية

بيدها كتاب ترميه له

لا يقرأ أثناء الغرق

هو بحاجة لثورة

وفي الكتاب ثقافةٌ هشة

يصرخ أعلى من غضب البحر

وتنتحر رجاحة العقل

ليبقى عاريا على رمال الشاطئ.

***

حسام عبد الحسين التميمي

قد كانَ للوطنِ نكهات أُخر

وللشمسِ دفء أوفر

وللقمرِ سطوع ساحر

وللصغارِ ضحكات كما الهدير

وللناس روح ونفس وضمير

ولليالي سحر آخر

وللهواءِ عطر وعبير

ورائحة الهيل تملأ الأزقة الطويلة

وتلك الاضواء المتقدة وقت الغروب

رائحة الشواء

زحام المارة

ورصيف الجسر الصغير

وانتشار الباعة المتجولين على طرفي الشارع

يحيون الحياة وكأنها مولد كبير

وللسوقِ المسقف وقفة واستذكار

بكلِ مايُعرض هناك من سمكٍ و فاكهةٍ وخضار

والاحاديث والاسعار كل له نغمة وانبهار

وبائع عرق السوس

تطرب لصوتِ أقداحه النفوس

وصوت السماء

صوت الاذان

وأجراس الكنائس لها عزف فريد

وصلاة العيد..

وللعيد..وقفات وأخرى

وأحاديث وروعات

من ملابسه التي باتت معنا ليلتها

الى صباحاته الملآى بوجوه الاهل و الاحباب

وكعكه اللذيذ والعيدية ومدينة الألعاب

واللعب بالأرجوحة والدولاب

بصحبة الوالد وروحه المرحة التي ترافقنا

صعودا ونزولا مع دوران الدولاب

وتجمع العربات لنقل الصغار

يزيدها إقبالا ربل الحكايات

بكل أنسه يملأ الاعياد

كأنه عرش من آلاف الليلات

نلعب ونلهو ونشتري الابتسامات بلاثمن

والفرح لايسع القلوب الصغيرة

وينتهي اليوم وليته لم ينتهِ

ويأتي يوما آخرا

يوم مدرسي

يبدأ بالذهاب إلى المدرسةِ

لقضاءِ الدروس واستعراض الطقوس

فللمواهبِ طقوس..وللحكايات طقوس

ولاستعراض الملابس طقوس

وللعب هوس ينسينا الدروس

ويجعلنا نفكر فقط بقدوم الفرص

وينتهي التفكير بدق الجرس

ففيها الطعام وفيها الكلام

وفيها الخلاص من القيود

وينتهي الدوام ويبدأ الخروج والتدافع

وكل واحد له ثأر ينتظر عند البوابة بجمع غفير

لنيل مالم ينله بوجود المعلم والمدير

ويزدحم الباعة المتجولين قرب المدرسة

فهذا يبيع الكعك والفطير

وذاك ينادي شعر بنات

أما عربة اللبلبي فكان لها وقع خاص

وتزاحم ليس له مثيل

وصوت الاواني والملاعق

والدخان المنبعث منه يعمل غيوما سابحات

تسافر بعيدا وتختفي بالضباب

وفي الطريق الى البيت

الكل يستعرض المهارات والعضلات

وتنتهي المغامرات بالدخول الى البيت

فالاسرة مكتملة تنتظر الغداء

وتتكور حول المدفأة النفطية بشوق كبير

فالبرد قارص وليس هناك أدنى احتمال

ألا يكون هناك غداء

نتناول الطعام ونأخذ دفئا مشحونا بالحب والاسترخاء

وإبريق الشاي على المدفأة يصفر ويصفر

ويخرج من فوهته دخانا كأنه قطارا بخاريا محملا بالاثقال

أثقال اليوم كله..

وبعد الغداء قد حانت القيلولة

وعليك أن تنام..شئت أم أبيت عليك أن تنام

تعد الخراف..تعد النجوم عليك أن تنام

وتنامُ صاغرا بعد جهد وعناء

ويأتي العصر ليستفيق الجميع لصوتٍ بعيد ينادي

أسكيمو..أسكيمو

هكذا كانوا يسمون المرطبات أيامها

هلموا..هلموا ياأولادي

فيركض الاطفال حيث بائع المرطبات

فهذا يريد طابوقة

وذاك يريد قمعا

وآخر يفضلها بالقدح

وبعد قليل تأتي بائعة اللبن

تضع صينية على رأسها

مملوءة بأوانٍ صغيرة  وتنادي

زبادي..زبادي

تتسارع الامهات نحوها لتشتري

وهذه فرصة لتبادل الاحاديث والسجال

كيف حالكِ وكيف حال الاولاد

وأيضا كيف حالك وحال الاولاد

فكل يعطي حديث وكل يعطي كلمة

والكل يضفي على التجمع بسمة

والصغار يلعبون بالمحلة بالعاب شتى

ففريق يلعب بالكرات البلورية

حيث تتبارى الكرات الملونة الى حتفها متسارعة

لحفرة صغيرة حيث الفوز بانتظار صاحبها

وبعضهم يلعب بالطائرات  الورقية

حيث تحلّق أحلامهم مع الطائرة بعيدا

ووسط الطريق ينقطع الخيط

ويبدأ الصراخ واللعنات

قد طارت هناك ..على هوائي ذلك البيت

أو ربما حملتها الرياح مع الامنيات

بينما ترسم الفتيات على الارض لعبة الحنجلة

بمربعاتها الاربعة أو التسعة

وتبدأ احداهن بالحنجلة على الخطوط

والاخريات يتمنين أن تدوس على الخطوط

فهذه المهارة قد تؤدي الى الخسارة

وتتفرق الحشود بقدوم سيارة الدخان

ترش السموم لقتل البعوض

فيتشبث بها الاولاد وكأنها ترش عليهم العطور

ويصيح عليهم عامل السيارة

اليكم عني أيها الاولاد

إذهبوا بعيدا فهذه ليست شطارة

إنه دواء يقتل الحشرة

اذهبوا بعيدا عليكم اللعنة

وشيئا فشيئا تختفي السيارة مع الضباب

ويتفرق الجميع فقد حل المساء..

وبدأت الامهات تنادي الاولاد للدخول الى البيت

فقد حان وقت العشاء

وقد حان وقت الصعود الى السطوح

وللسطوح حكايا وحكايا

مازالت محفورة بالروح

تبدأ من رش الماء على الارض

الى القفز والتنطيط على الاسرّة الباردة

ومباراة قذف الوسائد

والامهات تطارد الاولاد ليكفوا

وترتفع الضحكات والاصوات

ثم تبدأ حكايات الجدات

كان ياماكان في قديم الزمان

ويتسلل النعاس ليخطف الأجفان

ويعم الصمت بعد الهيجان

فقد استسلم الكل للنوم وانتهى اليوم

جميلة كانت الحياة لانها كانت حياة

وكنّا نظن إنها ستستمر هكذا

ببردها ودفئها وكل التفصيلات

وحتى الناس خلنا إنهم باقون الى الابد

فكل الحياة كانت تنبض بالحب

وكل الباعة كانوا يهبون الحب

وكل شئ  كان ينبض بالحياة..

***

مريم لطفي

....................

*هذا نزر يسير من أيام خلت كانت ومازالت تحتل ركنا نفيسا من الذاكرة..

* اللوحة بريشة الأديبة: مريم لطفي

1/5 ـ هل حقا ماتت ضحى؟..

هي لم تمت أبدا، فصورتها مكمولة هي أوج التجلي في عايدة ابنته، برموشها الوطفاء، بعينيها الناعستين بأنفها الخناسي، بغمازتها التي تضيئ خدها الأيمن سحرا، كلما تبسمت او تكلمت..

اليوم يراها في سلمى أختها، يراها بكل تلك العلامات والتجليات وقد اكتملت في فتاة بلغت أوج أنوثة، لايمكن لرجل ان يقاوم لها سحرا، سحر الاناقة فيما ترتدي وسحر الكلمات اذا حاورتك، وسحر الاشارات اذا ارادت ان توحي لك بشيء ولو كان لا يستحق الإشارة، نفس الذكاء الذي يخاطبك بالعين قبل اللسان، ونفس الحدس الذي يصيب ولا يخطئ في تقدير..

كل من رأى سلمى ينبهر لهذا التطابق في الشبه بينها وبين أختها ضحى، كانهما معا فلقتي فول، فيهلل، يسبح أو يكبر.. كلما ضمها سعد الى صدره اثر عودتها من رحلتها الدراسية التي استمرت خمس سنوات، استعاد ذكرى ضحى من خلال ضغطات أناملها على كتفه الايسر وطريقة حك وجهها بوجهه وهي تقبله..

فهل حقا ماتت ضحى؟

هاهي أختها التي كان عندها مثلا وقدوة صارت تحمل له حبا قد ترسخ، تشبثت به بعد حلم كانت قد راته، فتملكها، وصار لها دافعا قويا واملا يستحق التضحية بعد موت ضحى..

قالت له في احدى جلساتهما:

ـ كنت اذا سمعت اسمك احس الدبيب في ذاتي يسري.. وكلما كلمت عايدة عبر الهاتف او النت وسالتها عنك تقول:

ـ انه يتمطط بين تجارته وبين المنتديات العربية، يتسلى بالكتابة والدردشات...

ما كانت تحركني غيرة من بنات المنتديات العربية فقد كنت اعرف ان الشرقية لن تحرك سواكنك لما تتمسك به من تقاليد وعادات راسخات، وهي وفية لتلك الطقوس، سمكة في ماء، تموت لو تركته، وأنت من وسط متحرر وتربية تؤمن بالاختلاف، وما كانت لك ضحى بتحررها، بثقافتها ودراساتها القانونية كمحامية الا أنثى تبادلك الثقة والحب وسلوك الحرية والوعي، فكلاكما من نفس عجينة التربية والنشأة الحرة التي تؤمن بالاختلاف عكس أغلب الشرقيات اللواتي تربين على الخنوع والخوف والشك في الرجل، والغيرة من النسمة اذا مسحت وجهه بهبوب ...

كنت اعي أن ما تكتبه وما تستبطنه في مكتوبك من أفكار وفلسفة ونماذج حياة، بعيد عن فكر الانسان الشرقي المطبوع على القبلية والتشدد في الدين بلاوعي، وا لتعاليم الوراثية التي فرضت عليه ألا يتعلم حوارا أو يتنازل عن رأي، فقد رسخ لديه انه الوحيد من كرمه الله لانه من خير أمة أخرجت للناس وبهذا فهو وحده من يملك الحقيقة.والغريب أن سلوكه يناقض ما يستبطنه حفظا بلا وعي، لا يضيره ان يزني او يكذب أو ينافق أو يرد دينا عليه باليسر كما أخذه، ولكنه عند الحديث يجتر محفوظات كطحين الرحى الذي لا يتغير له حب أو كما يقول المثل الدارجي:"الرحى تدور والتشيشة هابطة"..

وقد تابعت الصدى الذي خلفته قصتك: اسألوا جانيت مربيتي بعد نشرها بالفرنسية وما حصدته من قراءات وتنويه وبين ما نالته من تقريع بعد ترجمتها الى العربية من عقول مازالت تحن للكهوف حنينها لموتاها باقتداء وتقليد، لاتميز بين حقيقة متخيلة وبين معلومة دينية من وحي منزل...

كنت دائما اتمثلهم بآيتين من القرآن الكريم حفظتهما من التعليم الابتدائي:

"يحسبون كل صيحة عليهم "

"وكالحمار يحمل اسفارا "

العربي حين تناقش معه سبب هذه الانطوائية يتحجج بالوسط والبيئة والتربية، كلهم تقريبا يدافعون بنفس الفكرة كأنها وحي ما نزل الا على عقولهم.. ولكن أية تربية هذه التي تبقي العقل الإنساني متحجرا فيما قاله السلف بلا إعادة نظر أو غربلة فرضتها علوم ومعارف جديدة مكنت العقل من أدوات جهنمية للتمييز بين أزمنة التاريخ، لكل زمن رجاله وقومه المتحكمون فيه بما توفر لهم من أفكار ومعارف وآراء ونظريات ومن حرية وديموقراطية وحق في التعبير.. كنت أعزو ذلك الى ان بعض العرب الذين كانوا يشاركونني الدراسة لم يكونوا غير أبناء حكام يريدون الوصول بأموال آبائهم لا بعقولهم وجهدهم ومعاناتهم الشخصية ؛ولكن بعد لقاءات متعددة مع غيرهم من العرب، كان الأمر لا يختلف كثيرا.. فهم كما يتفقون على النظرية التبريرية التي تتهم كل ماعداهم يتفقون في الوهم الذي يرين على عقولهم، ان كل أنثى هي للرجل ملك وحرمة لا تعصي له أمرا، لهذا كنت لا أخشي عليك من بنات العرب في المنتديات، فأنت لن ترضى بأنثى خانعة لا تعرف من الحياة الا ما قد تم طبخه في عقلها حول الرجل السيد المطاع، والذي يجب ان ترضيه جنسياـ ولا يهمه أن استطاع ترضيتها أو تركها نصف مذبوحة ـ أكثر مما ترضيه في مأكله ومشربه أوتشاركه الرأي والنقاش، فمنهن من لا تعرف حتى اعداد عشائها وتتكل على خادمة في كل شيء، كما لا أنثى منهن قد تقبلك بافكارك التحررية.. التي توحد الله من منطلق العلم والدليل بلاخرافة ولا أوهام ولا خوارق صنعتها الأجيال بالاحلام والازليات ؛ ربما تعجب بك ولكن لن تغامر معك ومن ورائها القبيلة بكل خلفياتها التقليدية وطائفيتها وتحيزاتها والتي تمنعها من مغادرة المدينة فأحرى ان تغادر الوطن من مشرقه الى مغربه، خصوصا اذا كانت من دول تسقط الجنسية على بناتها ان تزوجن برجل أجنبي من خارج الوطن. عقدة العظمة هي فلكهم المركوب، وفي قصورهم يراقص الشيطان الحريم وبهن يلهو..

كان يستمع لها بكل ما يملك من عقل وحواس، تبهره بما تقول، بصدقها بعفويتها وبقوة ثقة في نفسها راسخة.. هل حقا هي ذي سلمى الصغيرة التي كان يطويها الصمت، تستمع أكثر مما تتكلم؟.. !!..

حين حرك شفتيه ليعلن اعجابه وضعت يدها اليمنى على فمه وباليسرى ضغطت على خده، تنهدت وقالت:

ـ كان لظى الشوق اليك هو ما يحرقني.. احساسي بنار الوله كان كاويا بين ضلوعي وأنت لا تدري...

راي في عينيها بوادر مطر.. ضمها اليه.. قبَّل جيدها، ثم شرعت تتابع كلامها..

ـ لم تأكلني الغيرة الا يوم أخبروني انك خطبت عزيزة بنت عمك !!..

كدت أموت حسرة وحزنا، خوفا عليك من حياة قد تسكنك في جحور الخرافة والدس واللعب على الحبل، فبين حياتك مع أختي وبين بنت عمك، ما بين السماء والأرض، وعيا وثقافة ونمط تربية، وقد داهمتني من جراء ذلك حمى خشيت منها على نفسي..

طفرت من عينيها دمعات نزلت على الخدين ثم عادت تدفن وجهها في صدره..

شدها اليه بقوة، لعق دموع خدها، لثم يدها ثم وضعها على خده كما يحب ان يفعل دائما، وكما كان يفعل مع عايدة ابنته حين تبكي من مغص او صداع وكما يفعل مع سلمى الآن..

تنهد بعمق وقال:

ـ كيف لم انتبه لكل هذا الحب؟ ما أغباني !!..

تطلعت الى وجهه وقالت وهي تبتسم: الغباء ليس في عدم الانتباه.. لا تراوغني.. يابو عقل كبير.. الغباء في كل انسان يتشبث بنظرة أولى ولا يحاول تغييرها.. أو يخشى تغييرها ويطبق القاعدة العربية: كم حاجة قضيناها بتركها.. كنت معذورا.. فما كنت ُلديك الا الصغيرة التي عاشت معك.. تساعدها في دروسها وتأخذها الى المدرسة صباحا وبعد الزوال ثم تمر عليها عند رواحك لتعود معك الى البيت مساء. هذا من خلقك، أعيه واستوعبه، ومن عنادك الذي يرفض تصديق موت أنثى أحبها ولن يجود الزمان بمثلها..

تابعت وهي تحفر في محياه عن أثر رجع الصدى لكلماتها:

ـ مرة قرات في احدى الدراسات ان العربي هو الانسان الوحيد الذي يكره ان يكبر، يموت في تقديس الأجداد، ويمقت التغيير ويلتزم بماضيه حتى ولو كان كفرا...

تنهدت ثم استرسلت:

الزمن نهر دافق لا يتوقف له جريان ومن يعاند السير اتجاه الدفق تجرحه الاحجار ونتوءات الضفاف..

مدت لسانها لارنبة أنفه.. غافلته ثم عضته، ضحكت وقالت: ـ ـ هكذا

تألم ثم تلمس أنفه وقال:اول الاوسمة على وجهي..

تداعت صور ة ضحى في خياله يوم مسكت انفه بمقدم أسنانها، وصار يتوسلها من خياشيمه ان تترك أنفه..

اعادته سلمى اليها بسؤال فاجأه:كيف وجدت بنت العم؟ الم تخبرك من كان وراء طلبها شقة فوق مهرها؟

رد:

ـ لا.. فيكفي ان تقايضني أنثى لابتعد عنها، لان من تقايض لا يمكن ان تحب او تربي..

ضحكت وقالت:

ـ صحيح كلامك.. لكن اسمع مني الحقيقة:

قطب حاجبيه استغرابا:

ـ منك !!.. وما دخلك أنت؟وكيف وصلت اليك؟.. هل الحاجة كانت تخرج أسرار البيت دون علمي؟ أم هي عايدة كانت تصير راوية في حلقة حين تكون في ضيافتكم؟

ـ نظرت اليه نظرة لزم زو عتاب لكلمة حلقة.. وضعت يدها على فمه وقالت وهي تضحك:

ـ لانقيم حلقات نميمة في بيتنا، وأنت اول من يعرف هذا.. لا هذه ولا تلك يا خطيبي العزيز ان بعض الظن إثم.. هاتفت بنت عمك لابارك لها خطبتها منك..

ضحكت وكان فرحة انتصار تفاجئها اللحظة ثم تابعت:

بصراحة لم تكن تلك غايتي، فلا يربطني بها كبير علاقة فلم نلتق الا مرة أو مرتين في حياتنا.. هاتفتها لأقيس مقدار هذا الحب الذي استطاع أن يثيرك فيخطفك مني.رغم غير قليل من المشاكل التي سببتها اسرتها اليك. فما كنت اعرفه عن عزيزة من صغري انها أنثى لا مبالية، انتهازية، تعيش في قفطان أمها لا رأي فوق رايها، تتطلع لكل شيء بفكر استحواذي، ثم عرفت اباها يوم نازعك حق أبيك في ميراث جدك، أما أمها فكانت بينها وبين ضحى مسافة، لان ضحى قالت لامي مرة: "كلما صادفتها اصابني مكروه ".. وكان رد أمي:"كلكم معين الا من بورك.. فتجنبي اللقاء معها.. والأمر يقف هنا "..

من الغرابة اني حين كلمتها وجدتها كأنها في انتظاراحد من اسرتنا لتسأله عنك..

بعد التهنئة والعبارات العادية فاجأتني بالقول:

سلمى حبيبة قلبي ممكن تخدميني بإفادة حول سعد.. اريد أن أكون الزوجة المثالية له كما كانت ضحى..

يا بعدها عن ضحى وأخلاق ضحى.. !!!!...

كانت عبارة حبيبة قلبي منها طمعا، نفاقا، ووصولية، بل غباءا وقلة ثقة في النفس واهتزازا في الشخصية، فأنثى تسأل غيرها عن ابن عمها بدل ان تسال نفسها معناه تريد تحقيق مكاسب آنية بضربة قاضية بعيدا عن علم ممن يحيط بها من الأقربين..

بادرتها:

ـ من عيوني عزيزة... فكلنا نحب سعد، و نتمنى ان يعود الى حياته الطبيعية بعد أن عانى ما عاناه ولايزال..

ودون ان تسمع نهاية لعبارتي قالت:

أولا اسالك عن عايدة بحكم تواصلك الدائم معها، طبعها ما تحب وما تكره.. ثم عن طبيعة سعد فانت قد عشت معه كثيرا أيام المرحومة ضحى..

بسرعة أدركت ما تريد وميزت بين السؤالين:عارض عن عايدة ومتقصد عنك، وقارنت بينك وبينها:

بين رجل مثقف واع، من صغره وهو جوال بين بقاع العالم سيان كان مع ابويه او وحيدا وهو طالب يدرس في الخارج، او مع المرحومة زوجته.. ميسور الحال، متواضع يعيش حياته بلا خلفيات، حطام الدنيا لديه ليس كل شيء... وبين امرأة تسعى لارضاء أنانيتها قبل رضى من ستتزوجه، ويصير لها شريك حياة تتباهى به وهي لا تستحقه..

وساءلت نفسي: هل مثلك من تهدر أنثى وقتا في السؤال عنه حتى ولو كانت بعيدة عن محيط الاسرة، فأحرى أن تكون بنت العم؟...

بصراحة واتتني الضربة في غبية لا تستحقك، فقد تصونك الضربة مما قد يعكر هدوء نفسك وراحة اسرتك، لان مثل عزيزة لن يجلب معه الا المشاكل وصداع الراس، فأبوها لم يرحم مرضك ولا حالتك النفسية واصر ألا يقوم بتقسيم شركة جدك بعد موت الحاج، وما تحاول إدخاله من أفكار جديدة على التسيير والتوزيع، واهما ان ذلك سيخرب شركة الاسرة فهو كان مشدودا الى النماذج القديمة في الاقتصاد خوفا من الحسد والضرائب...

سرقتني صورتك عنها، حلمي بك، أملي الذي بنيته في أن أكون لك بدل المرحومة أختي، فباغتتني بنداء:

سلمى هل انت معي؟..

بادرتها بالقول: معك حبيبتي افكر في نصيحة اقولها لك، لكن قد يكشفني الزمان واصير في عرف سعد أنثى صغيرة بلا عقل، تتدخل فيما لا يعنيها.. قالت:

سلمى اقسم بالله ان هذا حديث لن يتجاوزنا معا، قولي حبيبتي.

كانت متلهفة على ان تسمع ما يوقعك في حبائلها المريضة..

تريث قبل أن أجيبها وأنا أتسمع أنفاسها صاعدة نازلة عبر الهاتف:

عزيزة !!.. لو كان سعد يريد الزواج لتزوج من مدة، لكن هو لازال يعاني من صدمته، ومن خوفه على عايدة بنته، ومن مشاكله حين أراد حق أبيه في ميراث جده لتأسيس شركة مستقلة.. كل هذا لم يكن سهلا بين افراد اسرة معروفة بتماسكها ومشهورة بعلو كعبها علما واصلا ونسبا، و أنا لا ادري شيئا عن طباعك حتى اعرف ما أقول بالضبط، وقد سمعت انه ارتبط بشرقية ثم افترقا.. والانثى منا لو بادرها الزمان بطلاق فربما تظل طيلة ما تبقى من حياتها تعاني من تقولات الناس وأطماع الرجال، فعلى الأقل يجب ان تفوز بشيء من رجل قد لا يرحم حتى حبها له، أو يراعي صلة الرحم...

كنت أتسمع أنفاس عزيزة تتعالى قوية من وراء سماعة الهاتف، معناه وجد كلامي في نفسها هوى.. وفجر ت لهفة الطمع حقيقة أعماقها..

قالت وفي صوتها رنة انبهار، فلهثت ككلب توقف عن ركض:

ـ انت ذكية سلمى.. رائعة، واشكر الصدفة التي جعلتني التقي بك، مارايك لو اطلب منه ان يكتب لي شقة في اسمي فوق مهري، فوالده عمي سليمان قد بنى عمارة من النوع الرفيع قبل وفاته مازالت بها شقق فارغة..

قلت لها فكرة مقبولة لن تكلفه شيئا بالنسبة لما يملك. لكن فكري جيدا قبل عرض رغبتك.. هذا يتعلق على مدى قدرتك السيطرة على مشاعره.. ووسائل الاغراء لديك.. أنت أنثى، هل تفهمين؟

كانت تريد ان تطرح علي أسئلة أخرى فاعتذرت ان لي موعدا مع طبيب الاسنان... ودعتها وانا أحس بفرحة الجشع في كلماتها يزفرها الصدر قوة أنفاس، وفي نفس الآن بالضربة القاضية منك لاني أعرفك وأعرف افكارك وقراءاتك للحروف والكلمات الا اذا كان ذكاؤك قد غيبته بعض بنات المنتديات العربية..

تنهدت بعمق.. ومطت شفتيها نحو فمه.. دلى لسانه اليهما..

رن هاتفها.كانت صورة أمها تظهر على الشاشة

سالتها أين أنت؟

قالت اختطفني هذا وادارت واجهة الكاميرا اليه:

حيته أمها بادب كما كانت دوما تفعل منذ ان تزوج ضحى

وقالت: ليتنا نجد دوما رجلا يختطفنا مثل سعد، سانتظركما على العشاء لا تنسوا الحاجة وعايدة

وأعاد السؤال نفسه وقد صب عيونه قلب عيونها:هل حقا ماتت ضحى؟

تذكر قولتها: لن أموت ياسعد سيظل كل ما بعدي اقوى من حضوري في حياتك.. حبي لك لن يموت حية وميتة وهو ما سيوجهك ويؤطر حياتك..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب 

الحلقة الأولى

ربما هناك خطأ ما.. موضوع غامض يصعب علي إدراكه. تساءلت أكثر من مرة لم حدث ذلك وبأية طريقة أقدر على كسب رضا كلب. ليس في الموضوع مبالغات لكن الحكاية الغريبة بدأت يوم سكن السيد مارتن البيت 2 المقابل لبيتي، كنت أسكن في المنزل السابع على وفق التصنيف البلدي، وبدت علاقتنا طيبة جدا. الجار الجديد هادئ لا علاقة له بالآخرين شأن معظم الإنكليز.

لا ينطفل

مع ذلك يبدو خلوقا ومتسامحا. كل يوم الساعة العاشرة صباحا تقريبا يقود كلبه إلى المنتزه القريب. في الشارع لا يتركه طليقا. وقد قابلته عرضا ذات يوم فزمجر الكلب بوجهي وكاد يداهمني لولا أن شدّه بالحبل إليه. كان يصيح:

That’s shy T

قلت أخفف عنه الإحراج

لا عليك لم يتعود علي بعد.

رد مذهولا: إنه لم يفعلها من قبل

اقتنعت أن السيد مارتن مايزال جديده في مسكنه وأن الكلب يحتاج بضعة أيام حتى يعتاد عليّ.

لعلني لست محظوظا مع الكلاب، ولدي عقدة منها منذ الطفولة. ثمّ أتجاهل االموضوع، ويزيدني التباسا أن الكلب حين يكون في الحديقة طليقا، ويحس بي أو يلمحني يظل يبنبح بطريقة شرسة، ويتتبع خطواتي محاذيا السياج الخشبي حتى أغيب عن عينيه الغاضبتين.

لم أعر الأمر قليلا من الاهتمام في الأيام الأوّل حتّى وجدته  لا يفعل المشأن نفسه مع غيري.

بل لا يعير اهتماما لمن يعبرون غلى بعد خطوات منه، ويرحّب بمن يمرون بمحاذاة السياج.

من المحتمل أن يكون هناك شئ ما خفي فقد مر عام أو أقل بقليل ومازال الكلب يزمجر بوجهي وهو مربوط في الحبل أو يكاد يقتحم السياج الخشبي حين يكون سائبا في حديقة البيت، زادني يقينا أنّي في عيد الميلاد وضعت من شق الباب السُّفليّ بطاقة المعايدة شأني كل عام فسمعت زمجرة منه ونباحا حتى خلت أنيابه تمتد من الشق الضيق لتنهش أطراف أناملي.

لا أريد أن أسبق الأحداث فقد جرت الأمور عكس ماكنت أتوقع. المفترض أن يعتاد الكلب علي بعدما طال الوقت، لكنّه بدا بشكل آخر..

ازداد ضراوة وشراسة

مصادفة ذات يوم ترجّل جارنا من السيارة كان الكلب في المقعد الخلفي، فتح الباب ليشد حبله، ويبدو أن مارتن لم يرني أجتازُ من خلف السيارة عبر الممر الضيق باتجاه موقف الحافلة في هذه اللحظة، نطّ الكلب برشاقة مذهلة، رأيته يزمجر يفلت من الحبال ثم يركض نحوي. راح ينبح كما لو أنه يطارد لصّا محترفا، تراجعت إلى الخلف فطار في الهواء وغرز أنيابه بذرعي.

كان ينظر إلي نظرات غريبة. فيها سخرية وتحدّ

اشمئزاز

انتقام

تشفٍّ

يشعرني أني هدفه الوحيد في هذا العالم

لا شئ في باله سواي

يكرهني وحدي في حين أجد الكلاب الأخرى لطيفة معي، بعضها ألتقيه في الشارع مع صاحبه أو صاحبته يتشمم حذائي وسروالي أمسح على رأسه.. هاي كلب لطيف سيدتي.. جميل.. سيدي كلبك الأنيق ذو لون رائع.. وربّما يقصني كلب تركه صاحبه طليقا في المنتز. وأتضايق قليلا بدافع من هاجس بعيد لكن الكلاب جميعها الكبيرة والصغيرة تبدي سلوكا لطيفا معي.. وأخرى تتجاهلني.

غير أن سلوك كلب الجار كان مثيرا للقلق..

ومن حسن حظي أن الوقت كان ضحى أحد أيام كانون الثاني القارس البرد، معطف ثخين يستر جسمي كله، هناك قرصة خفيفة في ذراعي وقد شعرت أن عضّته لم تتمكن مني بفضل سماكة المعطف. لحق السيد مارتن بالكلب سحبه من طرف الحبل وراح يزجره.. التفت إليّ:

Ok

نعم أنا بخير

عاود توبيخه:

T Shameful bad boy

والتفت إلي ثانية

Shure you are ok؟

لاشئ انظر (كشفت عن ذراعي) خدش بسيط المهم أن يكون قد طُعِّم من الأمراض

نعم نعم اطمئن

مع ذلك قصدت بعد ساعة قسم الطوارئ ليطمئن قلبي أكّد لي الطبيب أن لاشئ يدلّ على خطر أو مرض وماهو إلأ خدش خارجي من أنياب الكلب التي لم تصل إلى ساعدي بفعل المعطف الثخين، وحثّني فيما كنت أرغب في شكوى فيزودني بتقرير طبي.. شكرته واكتفيت أن لا شئ أصابني من سعار.

كان في بالي اعتبار آخر يمنعني من أن أثير أيّة قضية رسمية ابتزّ فيها جارا لم يقصد إساءتي بل كان لطيفا معي، تبادلت معه بطاقات الكرسمس، ورقمي هاتفينا.

في عصر اليوم نفسه تلقيت مكالمة هاتفية من السيد مارتن، سالني إن كنت متفرغا لاستقباله فرحّبت به، جاء بعدها بدقائق يحمل طاقة ورد زاهية الألوان، انحنى وكرر اعتذاره سألته إن كان يرغب في قهوة أم قدح شاي على اسم كلبه.

قال ضاحكا:

Capetal T

التبس عليّ الأمر.. ظننته الشاي Tea

لا، مجرد حرف هكذا اسمه في السجلّ الصِّحيّ أما أنا فلا أفضّل الشاي.

إذن قهوة بالحليب.

الحليب كلا منذ عشر سنوات انقطعت عن تناوله!

السكر أم ماذا؟

أفضل الطعام النباتي.

ليس مريضا ولم يكن تجاوز الستين. أعرف بعض الإنكليز الذين لا يأكلون اللحوم والأسماك، وكل مايخصّ ذا روح:

أنا أفضل القهوة من دون حليب أو سكر.

بعض الأحيان أضيف إليها حليب اللوز أو حليب جوز الهند (ارتشف من فنجانه وأردف) جربه له طعم

حليب البقر وفوائده أكثر.

ذهبت الى المطبخ وعدت أحمل طاقة الورد فوضعتها في الوعاء أمامنا على المنضدة وقلت:

عفوا أكرر شكري على هذا الورد الجميل.

لا شكر على واجب بالمناسبة أود أن اسألك عن علاقتك لو سمحت (بدا مترددا ثمّ استجمع فضوله)

ما يخص الكلاب أو البشر حدث لك في الماضي؟

لم أفهم ماتعنيه بالضبط سيد مارتن عن علاقتي بالكلاب فهل تعيد لي سؤالك بطريقة أكثر وضوحا؟

راح يسهب:

كلبي الذي داهمك يبدو هادئا مع الجميع أنت تراني أقوده كل يوم في رياضتي الصباحية نحن الاثنين نعيش معا منذ سبع سنوات قبل وفاة زوجتي بسنتين.

أنا استغرب سلوكه معي كأنه يستثنيني من دون الجميع.

ارتشف بعض القهوة وقال كأنه يتأمل لحظة ما بنبرة بطيئة أشبه بمن يصف حلما يخشى أن تضيع تفاصيله:

إنه ذكي ياصديقي وأظن أن ذاكرة بعض الحيوانات والناس أقول بعضهم وهذا نادر ترجع للماضي.. للحياة التي عاشوها من قبل.

زادني كلامه عن البشر والحيوانات شيئا من الاستغراب.

رجل في الستين من عمره لم يعان بعد من خرف الشيخوخة أم هي بوادر، وما علي إلا أن أجاريه وإن لم أكن لأفهم بالضبط ماقال:

أنا معك صحيح.

كأنه يحلم ثانية:

قلت من أي بلد أنت؟

من العراق.

كان قد أنهى القهوة، فصببت في كوبه مابقي من الوعاء، ورفعت كوبيي أجاريه:

تذكر هل تشاجرت قبل عشر سنوات مع أحد من البشر هل قتلت أحدا كلبا أو بشرا أو آذيت تذكر أن عمر كلبي سبع سنوات ولابدّ أن يكون الفعل قبل مولده.

راودني شئ من غضب كبتّه فقاطعت:

تذكر سيد مارتن أنت ضيفي وجاري ولا يحق لك أن تتهمني بهذه الصورة.

فضحك ضحكة بلهاء وعقب بأسف.

ياسيدي لا تسئ فهمي أنا لا أتهمك لكنّه احتمال دفعني إليه ديني. Iam sorry really sorry

أثارتني كلمته التي توقفت عندها:

أظنك مسيحيا وقد تبادلنا بطاقات التهنئة بعيد الميلاد والسنة الجدية.

مطّ شفته السفلى:

مجاملة مجرد تقليد لأصولنا البروتستانتية لا أكثر وفي الحقيقة أنا وزوجتي اعتنقنا البوذية وآمنا بتناسخ الأرواح منذ خمسة عشر عاما ولا علاقة لنا بالكنيسة.

فهززت رأسي متأملا، وقد وجدتها فرصة جديدة. للتسلية بوهم يصبح حقيقة أو حقيقة تنقلب إلى وهم:

وما المطلوب مني؟

الذي يهمني كلبي، إنه المخلوق الوحيد الذي أصادقه بعد زوجتي، أرجوك تذكر إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أدميته أو جرحته.

لا أنكر ذلك فكلنا مرّ بأحداث من الطفولة إلى وقت تال بخاصة فترة الشباب!

أنا سعيد جدا بذلك ومسرور لتفهّمك الموضوع من دون أيّة حسّاسيّة

وصافحني وغادر كأنّه ينتظر شيئا ما منيّ وهو يؤكّد: تذكّر حاول أن تتذكّر.. ربّما

***

قصة: قصي الشيخ عسكر

لم يبقَ في العُمْرِ ما يكفي من الأسفِ

غداً نموت.. غداً نمضي إلى (النجفِ)!!!

*

غداً يوارون من قد كان في عُمُرٍ

عاشَ المعافاةَ أو من عاش بالدَّنَفِ

*

غداً يشيلون تابوتاً به اختُصِرَتْ

كلُّ السِّنين.. وقد قال المنونُ قفي!

*

غداً يطمّون من قد كان منتصباً

تحت التُّراب.. فلم يعلُ ولم ينُفِ

*

غداً يمرّون.. لا يدرون قربَهمُ

من كان بالأمس مزهوّاً على تَرَفِ!!

*

هنا ينام بقايا الدَّهرِ منطرحاً

بين الرِّمال و لا يحيا.. فوا أسفي..

*

حتى القياماتِ.. آنَ الحشرِ توقِظُهُ

مطارقُ الصُّورِ.. ياأجداثُ فارتجفي

*

فكيف يُدلي بما تحوي صحيفتُهُ

من الذُّنوبِ ولا منجى لمُعتَرِفِ!!؟

*

فيفتحُ ﷲ في الفردوس منزلةً

للصَّالحين بها يحيَون في غُرَفِ

*

ومن يعادون رَبَّ الكون يُحرِقُهمْ

يقولُ : يا نارُ حانَ اليومَ أنْ تزفي!

***

رعد الدخيلي

إذا عَبَسَ الزمانُ وما رَعاها

وأشْقى أهْلها ونَعى ثَراها

*

سَتَبْقى شعلةً ذاتَ اقْتدارٍ

تُؤهِّلها لسامِقةٍ رُباها

*

بمُعتَصَمٍ إذا اعْتَضدَتْ تَسامَتْ

تُعَزِّزها مَواطنُ مُنتَخاها

*

إليها جَمْعُ أعْلامٍ تَنادَتْ

وأعْطتْ ما يُباركُ مُرْتَقاها

*

تَشامَخَ مَجْدُها وخَبى سَريعاً

وأضْحى ما يُميّزها شُكاها

*

تألّق جامعٌ وزَهى ضَريحٌ

وكونٌ في مَرابعها تَباهى

*

ومَأذنةٌ بدائرةِ انْطلاقٍ

إلى عَرْشٍ يُضاهي مُبْتَغاها

*

وأنْهارٌ تُساقيها اخْضِراراً

وتمْنَحُها مَعالمَ مُرْتَجاها

*

بواعِدةٍ سَتأتينا أصيْلا

تُتَرْجمُهُ بإخْلاصٍ كُماها

*

سَمِعْتُ نداءَها في بَحْرِ جَوْرٍ

كأنَّ أنينَها أشْقى مُناها

*

تَدورُ على مَواطِنها الرَزايا

وتَلعَنُها وإنْ عَبَقتْ شَذاها

*

نِظامُ الحُكْمِ دوّارٌ ظلومٌ

وما فَلحتْ بكُرْسيٍّ وَعاها

*

مُقدّسةٌ ولكنْ دنّسوها

فخرَّبَتِ النوازلُ مُحْتواها

*

جَهولٌ في مَرابعِها تَعدّى

فأرْدى مَعْلما حتّى طَماها

*

تَهاوَتْ مِنْ عَلاءٍ دونَ ذَنْبٍ

وأفْجَعَتِ الغوافلُ مُبتْناها

*

هيَ الدُنيا إذا نَطقتْ بصِدْقٍ

وأفْشَتْ ما تُكَتّمهُ سِماها

*

مَدينةُ أمّةٍّ في أرْضِ عِزٍّ

تُباغِتها العَواضلُ مِنْ عِداها

*

دَوائرُها بما كسَبَتْ تداعَتْ

لتلقِمُها جَوازعَ مُنتهاها

*

رَمَتْ حِمَماً وأشقتْ كلَّ حَيٍّ

وأفْنَتْ رسْمَ مُندَرسٍ رَواها

*

عُروبَتُها مُبارَكةٌ بديْنٍ

جَوامِعُها تكرِّمُ مَنْ بَناها

*

هنا بَدأتْ حَضاراتٌ البرايا

وفي تلٍّ إذا شِئتمْ جُناها

*

فهلْ سُرَّتْ بما كسَبتْ وعانَتْ

وما تَعِبَتْ تُطاولُ مَنْ طواها

*

وقالتْ قولةً كُبرى وأقْوى

وما جَزعَتْ بنازلَةٍ قِواها

*

ألا هُبّي ديارَ المَجْدِ هيّا

فإنَّ الأرضَ ما نكَرَتْ حُماها

*

قوانينٌ بها التأريْخُ أدْرى

فلا تَعْجَبْ إذا عَثرَتْ خُطاها

*

إذا طارتْ سَتَجْذبُها المَنايا

ويَأكلها ترابٌ إشْتَهاها

*

كما سُرّتْ سُرورٌ سوْفَ يَأتي

جَهابذةٌ وأفذاذٌ سُراها

*

بسامراءَ لوْ تدري كَبُرْنا

وكمْ نبَضَتْ قلوبٌ في هَواها

*

نَحِنُّ لكَهْفها والماءُ يَجْري

وأنغامٍ لبلاّمٍ شَداها

*

وليلٍ مِنْ تَراتيلِ ابْتهالٍ

مَنائرُها تَميسُ مِنْ صَداها

*

فنسْمو نحوَ خلاّقٍ عَظيمٍ

كأنَّ الروحَ ألهَبَها جَواها

*

بَلغنا جَوْهرَ البُرهانِ فيها

وجِزْنا في تواظُبِنا مَداها

*

إلى سامراءَ شاقتْ روحُ صَبٍّ

تَناسَتْ عُمْرها ورَنَتْ صِباها

*** 

د. صادق السامرائي

11\3\2023

كوني لوحدِكِ ساعةً لهناكِ

حتّى أُقبّل ثغرَها يُمناكِ

*

أنّى اتجهت بناظري وبخافقي

تَخفَى الوجوه جميعُها وأراكِ

*

كوني بقربي دون أيّ تردّدٍ

فالنّبض يَهوى أن يكونَ فِداكِ

*

علّي أعانقُ شوقَ قلبِكِ لحظةً

فيصير روضا ينتشي بسناكِ

*

إن الذي ملأ الوجودَ مَحبّةً

وهَبَ السعادةَ كلّها برِضاكِ

*

قولي لثغرك أن يُقبّل مَبسَمي

فالنّبض مني أشعلتهُ يداكِ

*

لأَلُفّ روحي حول روحك فُلّةً

تهوى التسلّقَ؛ كي تذوق لماكِ

*

ودعي لصدري أرض صدرك حرّةً

حتى يسير بأضلعي نهراكِ

*

فأضمُّ خِصرا أهيفا يا مُنيتي

وتفوز بي وبلذّتي شفتاكِ

*

عجبا لقلبي صار لي كمُنافسٍ

من قبل نطقي؛ قالها: "أهواكِ"

*

أدخَلتُ نبضي في أتونكِ مُحرقا

همّي بهِا؛ متشبّثا بِرُباكِ

*

وأعدتُ مدّي بعد جزرِيَ تاليا

قولي بفعلي -وارتخت جفناكِ-

*

فإذا بليلٍ حدّثتكِ قصيدتي

وأردتِني أشعلتُني بِنِداكِ

*

ليبوحَ كُلّي من جديدٍ بالهوى

وتبوح لي بشقاوةٍ عيناكِ

*

يا ليت قلبي كان طيراً حائماً

ليظلّ دوماً حالماً بسَماكِ

***

صلاح بن راشد الغريبي

القسم الثاني، الفصل (2) من رواية:

غابات الإسمنت

***

وجدتُ مديحة بانتظاري في باب العمارة.. شقّتها في الطابق الأسفل، هرعتْ إليّ حالما هبطتُ من السيارة، فعانقتني عناقا حارًا.

دخلنا الشقة، فضمّتني إلى صدرها وبدأت كلٌّ منا تنشج نشيجا صاخبا.. إنها دموع الفرح.. دموع الفرح عزيزتي.

وشربتُ قدح ماء، فقلت:

ـ أحيانا لا نقدر أن نعبّر عن فرحنا إلاّ بالدموع.

ـ الدموع غاية يا إنعام.

ـ إياكِ أن تتذكّري اسمي القديم.

ـ والله إنه أجمل على لساني؛ لكني سأنساه ما دمت تحبين ذلك.

ـ لا يا أختي.. إن الاسم القديم يذكّرني بالماضي الذي أريد أن أنساه، بالدم، بنذالة الرجال.. انسيه، انسيه يا صديقتي.

ومسحت دمعها بمنديل استلته من حافظة المناديل، فعقّبت بحسرة:

ـ هناك أشياء سيئة أو حزينة لا تُنسى، بسببها تبدو أعمارنا أكبر بكثير مما نتوقع، ننضج ونكبر بحجم أوجاعنا اليومية، وكل يوم وجعهُ يعادل عامًا كاملًا.

عدتُ لأمازحها:

ـ ياظالمة، سنة وبضعة أشهر ولا تفكرين بزيارتي؟ (وأكدّتُ بعتاب) والله اشتقت لك كثيرا.

ـ والله لقد هممتُ ولم يكن بمقدوري، لأن السيدة النقيب أمرتني بصفتي سيدة مجتمع ألا أزورك، ووعدتني أن تأتي إليّ حال إطلاق سراحكِ.

ـ أتدرين، بعض السجينات تساءلن أين صديقتك مديحة؟ لماذا لا تزروك هل نسيت أيامنا؟

ـ والله اشتقت لهن جميعا، والأكثر لك، أنا أختك؛ لكنها الأوامر.

ـ أفهم، دعينا من هذا الآن، ماذا تقولين عن هذه الضيافة المفروضة عليكِ؟

وضعتْ إبهاميها تحت عينيها واعترضتْ:

ـ سلمتِ لي.. بعيني، ليتك تبقين عندي بشكل دائم.

وتذكرت شيئا كأني أستبق الأحداث، أو كأن حواري معها يلتقط ما يخطر بذهني من خطرات الفرح والحزن؛ إذ راحت الذكريات تتسابق ويخطر بعضها قبل الآخر، كما لو لم أسمع الخبر من النقيب ابتسام:

ـ هل قابلتِ ولدّي كريمة وقبّلتهما عن المرحومة أمهما؟

فأطلقتْ حسرة طويلة:

ـ اسكتي؛ زرتُ المكان مرات عدّة، فعرفت أن أباهما هاجر وأخذهما معه، فاختفى هربا من فضيحة أمهما ليعيشا معه، بعيدين عن الأقاويل وألسنة الناس ولم يفكر بالعودة قط.

صدمني ما سمعت، فقد وضعت كريمة ثقتها فينا نحن الاثنتين، كنا على وفق أحلامها رسولي الحياة إليها، أو ملاكين يعاندان الزمن والموت، ليحطّا بعد سنوات بقبلة على خدّي ولديها، لقد سرحت فأطلقت حسرة طويلة:

- رحمها الله، كنا أملها الوحيد.

- ماذا تستطيعين أن تفعلي؟ لروحها الرحمة.

التفتُ بعد كل هذا إلى فخامة شقتها وذوقها الرفيع، فتمتمت:

ـ ما شاء الله.. رب زد وبارك.

ـ حبيبتي أنا الآن سيدة مجتمع.. أتصدقين؟

ـ وهل سيدات المجتمع أفضل منك؟

فمالت عليّ قائلة بهمس كأنها تخشى من الحيطان الساكنة:

ـ من قح.. إلى قوا...!

ـ لا تقولي هذا (انزعجتُ حقا وتململتُ) لمَ تقولين ذلك؟

ـ هذا هو الواقع، وإن اختلفت المسميات.

ـ هذه قسمتنا.. وهذا هو نصيبنا.. أفضل من أن نجد أنفسنا في الشارع، لا أحد يدفع عنا مكروها والجميع يستغلوننا، أسألكِ بالله: ما جدوى الرغيف حين يستبدّ الجوع بالأرواح؟

بعد صمت قصير خُيل إليّ أنها هاجرت طويلا معه إلى عوالم أخرى:

ـ لا عليكِ عزيزتي، لم أجد لأكثر من سنة مَنْ أفضي إليها ببعض خواطري، وها أنتِ أتيت.

ـ لا عليكِ، اتركي هذه الهواجس السوداء.

فابتسمتْ ابتسامة مبهمة وقالتْ:

ـ أظنّ أنه بعد أيام سيكون لك بيت مثل بيتي، ومحلّ عمل لك حصّة فيه، هل يرضيكِ هذا؟

ـ لا تنسي، كل هذا بفضل السيدة النقيب.

ـ فضحكتْ عميقًا: وبفضل جمالنا وحظّنا العاثر، أنتِ طيبة القلب تفكرين دائما بالآخرين.

كانت ليلة رائعة قضيناها معًا بالحكايات وفضفضة وجع لن يعرفه غيرنا، بكينا وضحكنا، وتصفحنا مجلات الجميلات، وكتالوجات آخر صيحات قصات الشعر، وألوان موضة مكياج الموسم.

أولّ ليلة بعد خروجي من السجن.. النور المنشود.

الأمل الموعود.

وسرّ السيدة النقيب في صدري.

لا أبوح به لأحد حتى إلى مديحة أقرب صديقاتي.

وقتها خُيل إليّ أن مديحة تحوّلت بعد أن أصبحت حرّة إلى امرأة مركّبة، سعيدة وتعيسة في الوقت نفسه، راضية ومتذمرة.. مجموعة متناقضات، تحب النقيب ابتسام وتسخط عليها، ربما تحاول من خلال هذه المتناقضات تجنب خسارة نفسها مرّة أخرى، وقد يكون بسبب هجران أهلها لها، فكلهم تبرؤوا منها.. أهلها وأهل زوجها؛ لكن على الرغم من ذلك لم تندم على منح أي شيء جميل للآخرين، حتى لو كانت مكافأتها الخذلان من قِبلهم.

قالت لي قبل أن نخلد إلى النوم، وكأنها امرأة حكيمة مهابة:

- بعد مُضيّ سنوات حبسي، ومن خبرة تواجدي فوق منصّة الحياة، اكتشفت أننا نعيش في مواجهة تسونامي الكذب الأكبر، رجل الدين المزيف يكذب.. والسياسي الموالي لغير بلده يكذب.. والمثقف الذي لا يحترم نفسه، وغير المثقف الذي يتخذ من الكذب باب سخرية.. والفقير والصغير والكبير، حتى أنا وأنتِ نكذب على بعضنا، في بعض التفاصيل الخاصة!

هيا، هيا لننم، فنحن لسنا ناعمات الكفّين أو من نؤومات الضُحى، ينتظرنا عملٌ كثير.

- تصبحين على خير.

لهذا السبب خمنت أن تحرري من السجن سيهوّن عليها كثيرًا.

في الصباح اقترحتُ عليها أن أذهب إلى الكوافيرة، صاحبة المحل التي عرفتني بها النقيب، فقالت إنها ستوصلني إلى هناك وتنتظرني ساعة أو أكثر، ثم تصحبني إلى معمل الخياطة.

نزلت من السيارة على بعد خطوات، فهي - وربما النقيب أيضا - لا ترغب أن تعرف صاحبة المحل أننا صديقتان أو تشاهدنا معا، لا شكّ ستزيدني التسريحة والملابس الجميلة الجديدة الأنيقة جمالا، فتتغير بعض ملامحي؛ في هذه المدينة لا أحد يعرفني، وما فعلته أصبح من الماضي لا أحد يذكره.

سأصبح سيدة أخرى ببهاء جديد..

قالت لي مديحة لا يهم أن تتأخر عن عملها من أجلي، فهي المديرة وستقوم مراقبة العاملات بدورها على أكمل وجه.

قصدت محل الكوافيرة، وقابلت السيدة التي ظنّتني في زيارة إلى قريبتي النقيب، ورأيت علامات تشير إلى أن هذا المحل كأنه معروض للبيع، لم أشغل نفسي بمثل هذه الأمور.. فأنا حديثة عهد بالحرية.. يوم واحد مرّ عليّ.

قالت لي مديحة ونحن في الطريق، إن هناك ست عاملات من مجموع 150 عاملة يشتغلن للأمن العام.

ربما يكون العدد أكثر؛

لكنها تعرف ستًا فقط، معظم العاملات جميلات.. وهذا هو ما تصرّح به أمامي بحكم الصداقة والخبز والملح.. وقد رأيت الفخامة بعينيّ.. معمل خياطة ينبض بالحياة ويصبّ في عصب البلد.. مديحة هي المديرة، وهي التي تروّض خياطات ومهندسات مكائن ليرافقن مسؤولين كبار ويدخلن البيوت بمهام أخرى، مربيات، سكرتيرات.

سيكون لي مكتب، أو إدارة تؤدي مهمة كبيرة مشابهة أيضا، لم أعرف مَنْ تلك الجاسوسات الست؛ لكنني رأيت في كل العاملات والموظفات تلك الخصلة!

كنت سعيدة بالزيارة، ومنبهرة بمعمل الخياطة الكبير.

والأهم أنني أشعر بطعم آخر للحياة مع رفيقتي التي كانت معي في السجن.

***

ذكرى لعيبي - ألمانيا

قفزَ اللاشيء في حضنِ الهاوية

على شفيرِ الفناءِ

سقطَ كلُ شيء..

الدُّموعُ تجلدُ ذاتها

بغصنِ رُمَّانة

أحلامٌ مؤجلةٌ تلحقُ

ريحِ الأملِ

*

أنا ابنةُ الوطن الذي لم يُولَد بعد

أحملُهُ جنيناً في أحشائي

*

شهقاتي صدى التُّراب

تتلولبُ أنفاسي ..

قلبي سقطَ  بين الحُفرات

*

أبحثُ عن كوخ ٍ سرمدي

كي ألِدَ فيه وطنَ البقاء

وأولدُ فيه عذراءُ  الخلود

*

أبحثُ عن فخَّارةٍ أُعتِّقُ فيها

دمي المُخَضّبْ

برقائقِ ياسمين الشَّام

من أثداءِ الضُّوءِ الأزلي

أقطرُ الصَّحوةَ بين شفتيه

*

إنه اليوم الثالث بعد الموت

إنها  الولادة الخضراء

لا للصَّلبِ .....ثانية

لا للموت .......ثانية

سيكونُ كلُّ شيء ....

قيامةَ وطنٍ لا يستبيحُ الصَّلب

لا ينتمي للدماء

لا ينتمي  للشهداء

*

وطني ليس بستانَ زيتون

ولا غابة َ صَنوبر

هــــــو نحـن.. ونحـــــن الحياة ..

نعــم للــحياة.

***

سلوى فرح - كندا

إنها الأيّامُ تَعْدو

غيرَ  إنّكْ

كُلّما زادَ بها العَدْوُ

أصابَ الخوفُ خَطْوَكْ

فتأخّرتَ قليلاً..

وتأخّرتَ كثيراً..

وتأخّرتَ..

تأخّرتَ..

فما عدتَ ترى

أينَ صارَ الرَّكْبُ

ماذا قد جرى

**

كنتَ تسألْ

أينَ أنتِ؟

وأنا أسألُ أينَكْ؟

أنتَ في الحَيْرةِ مثلي

وأنا في الهمِّ مثلَكْ

لَمْ يَعُدْ دربُكَ دربي

لَمْ يَعُدْ دربيَ دربَك

أنتَ مثلي

قَدْ أضاعوا لكَ سَيْرَكْ

دونَ ذنبٍ طعنوكْ

نازفَ الجُّرْحِ  وحيداً  تركوكْ

أنتَ لا تعرف ذنبي

وأنا أجهل ذنبكْ

فكلانا دونَ ذنبٍ

غير إنّا

سوف نبقى نتمنّى

أن نرى ورد المحبة

عابقاً يملأُ للعابرِ دربَهْ

***

شعر: خالد الحلِّي - ملبورن

بَيْنً يَدَيَّ أَرَى الْأَلْوَانَا

وَأُصَوِّرُ حُبَّكِ سُلْطَانَا

*

وَأَرَاكِ بِأَيَّامِي فَرَحًا

يُدْخِلُنِي فِي الْحُبِّ جِنَانَا

*

تَمْتَزِجُ أَحَاسِيسُ فُؤَادِي

فِي حُبِّكِ وَأَعِيشُ زَمَانَا

*

أَتَأَمَّلُ صُورَتَكِ بِقَلْبِي

أَتَخَيَّلُ صَوْتَكِ رَنَّانَا

*

أَرْسِمُ مِنْ إِبْدَاعِي قَلْبًا

يَتَاقَطَرُ حُبًّا وَحَنَانَا

*

حُبُّكِ يَا لُؤْلُؤَةَ زَمَانِي

يُبْدِعُ فِي قَلْبِي الْأَلْحَانَا

*

يَعْزِفُهَا صُبْحًا وَمَسَاءً

يُسْعِدُ بِصَدَاهَا الْإِنْسَانَا

***

شعر: أ. د. محسن  عبد المعطي - شاعر وروائي مصري

1-6- 2006

شهر جديد، لا علاقة له بأشهر العمر التي مرت وقطعت سنين عمري المثقل بالوجع والهم، فيه تكوَّنَ حزنُ الفرح، ومنه انبثقت دموع عذبة، خالصة الصفاء، وفيه توزعت نفسي على مرافئ الأحاسيس المجهولة المغلفة بوضوح الغموض، وصفاء المجهول.

10- 06- 2006

بدأت الأيام تنهب حواف الزمن، وميناءُ الساعةِ تَقَعَّر، والعقاربُ الْتَوَتْ، وثواني اللحظات اندفعت كدبابيس فولاذية في عمق روحي، ونواة قلبي، خلعت الساعة، طَوَّحَتْها بعيدا، وأمسكت بلولبة الزمن بيدين فولاذيتين، حاولت تسطيحه، لكنه مضى ينهب الأيام والساعات.

20- 06- 2006

بدأت ملامح البيت تتغير، تأخذ شكلا آخر، تزاحمت الأشياء واللحظات والوجوه والمجهول، في ذاكرتي حدث قريب، لم يتبق عليه سوى أيام قليلة، وتنقلب الأمور، ببساطة نحو مصب النهر المندفع في دوامة الزمن المتآكل، حدث قريب، يسير بنا نحو معلم جديد من معالم الكون، لم نَعْهَدْهُ من قبل، لم نعرفه من قبل، ترى، كيف ستكون الأيام التي تليه، وردية، أم كحلية؟ قال الناس: حدث ويمر، التعود نعمة من نعم الله على الإنسان، والسير المتلاحق المندفع نحو نهر الحياة الغامر كفيل بإعادة النفس إلى مسارها، والروح إلى مساربها.

كم تمنيت اليوم تحديدا، وفي لحظة انتظار الحدث القادم، لو نهض والدي من قبره، ليضمني إلى صدره الواسع، لأغسل دموعي بشعيرات صدره الأبيض، كم تمنيت لو زارني في الحلم ليقف بجانبي وأنا موزع بين حزن ممزوج بفرح غامر، وكم تمنيت أن أُقَبّلَ اليومَ يدَه الطاهرة الوَضّاءَةَ، لأسحب نسْغَها إلى روحي الراقصة على رؤوس الحيرة والتشتت.

25- 06- 2006

اندفعت أمي من قبرها، إلى ذاكرتي، كجدول عذب، وانتشرت في الأفق كشمس لا تخبو، تمددت على امتداد السماء، فأينما وليت وجهي وجدتها، تنثر حنانها وبسمتها المغلفة بمجهول الغابة، وغموض المحيط، مدت يديها الطاهرتين، وانتشلتني من بين جدران تغيرت ملامحُها، دفعتني إلى جوفها، بين الروح والقلب، ومنحتني منهما زادا لا يَنْضَبُ، وبلَمْحَةِ عينٍ تلاشت من الأفق، وعادت إلى قبرها الغارق بالظلمة.

29- 06- 2006

يوم مثقل، كغيمة حبلى بالغيث، تسير في الآفاق حيث لا تعلم، تجر نفسها، بقوة خفية، إلى مواطن مأهولة، وغير مأهولة، تفتح روحها النابضة، فتَهْمِي الحياة، حيث تَهْمِي، ويَنْبُزُ البُرْعُمُ، على استحياء وخجل، وتتفتح الأزهار، فتضج الأرض بالخضرة والحياة واللون، تخرج الأحياء من مكامنها، جَذِلَةً، مَزْهُوَّةً بالتشقق الأزلي لخصوبة الكون والحياة.

تتنفس الصحارى، وهي تستقبل الغيث، تلتقطه بعزم جبار، تدسه في مساماتها، تفوح رائحة الرمل بالرطوبة، تتوغل جذور النخيل بالعمق، تطارد قطرات الغيث المندسة، تمتصها، فيخرج البلح والرطب والتمر، يتزواج النخيل، يلمس أرض الصحراء العارية طَلْعٌ تتناقله الرياح، تهتز الصحارى بالخصوبة، فتورق أشواكها، وتخرج أحياءها لتبدأ مرحلة الحياة.

على بعد، أشاهد أختَيَّ وهما تَبْذُرانِ الأرض القاحلة بحنان إخوة، تبتسمان وهما تعالجان الموت بالحياة، أندفِعُ كسراب ظامئ إليهما، وأنا أرقب الغيمة وهي تغادر مكانها إلى موطن آخر، هو الرحيل إذن، رحيل الغمامة الحبلى بالخير والبركة.

صباح- 30- 06- 2006

الاستعداد للفراق، لخلع قلبي من مكانه، قلبي الذي عاش في كل سنين عمري، غرفة الجراحة جاهزة، وطبيب التخدير جاهز، والمباضع، والجراح، قالوا: الضرورة تقتضي خلع قلبك، لأن الحياة لا تسير على نسقها الصحيح، ولا تستقيم أمورها، إلا إذا استبدلنا قلبك الذي تعرف، والذي تحب، بقلب آخر، هي الحياة يا "مأمون"، الحياة التي لم تتعلم منها إلا ما قالته الكتب، وما قاله الشعراء.

قلت: وكيف تظنون أني سأسمح لكم بانتزاع قلبي، ألأنه متعب؟ أم لأنه أصبح لا يحتمل من آلام الحياة أكثر؟ وكيف تظنون بأني قادر على التنازل عن قلبي، قلبي الذي رافق رحلة حياتي، وعاش تقلباتها وتصارعاتها، قلبي الذي منحني الحياة، وتنسم من روحي ما تنسم، هَفِيفُهُ الطريُّ لا زال يدور بأعماقي، بوجودي، بكياني، بروحي، بنواتي، دورة حب وعشق لا تنتهي.

أنتم تملكون المبضع، وتملكون الخبرة في خلع القلوب من جذورها، وتملكون قدرة زرع قلب، قلب غريب بصدور الناس، لكنكم لا تملكون زرع شعور من فرح أو حزن، لا تملكون حتمية توافق القلب الجديد، مع الجسد المعجون بروائح الزمن وعبير الأيام.

أنا سأتحداكم جميعا، سأتحدى علمكم وتجربتكم وخبرتكم، وسأُبقي على قلبي مكانه، كما هو، متعب، مكلوم ومجروح، بل وسأقسمه إلى نصفين، نصف يبقى بداخلي، وقسم يشارك بالحدث القادم، وسترون، كيف سينتصر قلبي على كل علمكم وتجربتكم؟

ظُهْـر- 30- 06- 2006

بدأت نبضات قلبي تتسارع، وأنفاسي هبطت نحو قاع له مذاق البئر المهجور، وروحي توثبت، انتفضت، اهتزّت، ساعات قليلة، قليلة جدا، على موعد الحدث، طاقم المشفى لم يبتعد كثيرا، وغرفة الجراحة معقمة جاهزة، والمباضع الحادة، والكشاف الوقح، والتخدير، والناس من حولي تحدق بملامحي التي بدأت تحتقن، لترتسم على وجهي سوادا قاتما، الوجوه والعيون متأهبة مستنفرة، وأنا موزع بين شعور بالحياة، وشعور بالقلب المُعَنَّى.

30- 06- 2006 "السادسة مساء"

ساعتان فقط، ساعتان وتظهر النتيجة، تتعرى الأشياء من ملامحها، ويخلع الزمن رباطه المشدود على كَمٍّ من الانفعالات المُكَوَّمَةِ في النفس والقلب، الأرض والسماء، البحار والمحيطات، الصحارى والجبال، الجداول والشلالات، كل الأشياء والأشياء، بدأت تجتمع الآن في مجرى القلب الموصول بالروح، وكل النظرات، كل العيون، وكل الترقب والاستنفار، بدأ يعوم على مساحات الوقت المتبقَّى، ينتظر النتيجة.

30- 06- 2006- "السابعة والربع تماما"

دخلت البيت، أحسست برائحة المتوسط تغزوني، واقتحمتني رائحة الليمون والنرجس، وصلني صوت والديَّ وهما يناجيان قلبي، وفي لحظة اختُطِفَتْ من بُؤرة الزمن ونواتِه، غَطَّتِ الكونَ زغرودةُ أمّي الغنية بالعطف والحنان، زغرودة من قبر يَغُصُّ بالظلمة.

اجتاحتني راحة مفاجئة، وغمرتني سعادة غامرة، توسطت البيت، فوجدت قلبي يتنازع الطول والقصر، ناصع البياض، مُشْرَبٌ بحمرة دماء خَجْلَى، تتناوب عيونه الإغلاق والانفتاح، ينتصب، بشموخ اللحظة وهيبتها وسعادتها، يرمقني بنظرات مترعة بالحب والحنان، وعلى رأسه، وبين خصلات شعره، تتوزع ورود الأمل، ورياحين المستقبل، وعلى خديه، تتوزع ألوان الإيمان والوفاء، اقتربت منه، ضممته إلى صدري، ففاحت روائح الأرض والأهل والوطن والزمن والتاريخ، تطايرت الروائح كلها، لتخضب الأجواء وتحنيها.

تعالت الزغاريد، سحبتنا دوامة الفرحة، جرتنا إلى أعماقها، أمسكت بيده الصغيرة، وباليد الأخرى أمسك الأخ الأكبر، وانتصف الأخ الثاني الجمع، وانطلقنا نحو الباب الخارجي، الخطوات الأخيرة، للانتقال من حال إلى حال، رفعنا بدلة العرس الموشاة بالألوان البيضاء على أديم أشدَّ بياضا، تعالت الزغاريد من جديد، أحسست بيد أبي وهي تمتد نحو القلب الخارج من صحن الروح، يدٌ مُعَرَّقَةٌ، تشد على قلبي، فتعصر منه كل هموم العمر، وجراح الأيام، تقدمنا قليلا، كانت سيارتي مزينة، معطرة، تتماوج مع وهج الشمس، وذهب الكون، وعلى الباب، وقف العريس ينتظر، وحين وصلنا، ضممته إلى صدري، بحب لا ينضب، ضمني إلى صدره، بوفاء لا ينضب، وقَبَّلَ رأسي، فأحسستُ بالعذوبة، بالحب يَنْثالُ بأعماقي، كان يشكرني، وكنت أوصيه، قبّل رأسي مرة أخرى، وقال ما قال، قال: "لِينَا" في حبة العين، ووسط القلب، ومَرْبَعِ الروح، لينا هي كل ما أملك من أمل ورجاء، فلتكن مطمئنا، هادئ النفس، قرير العين.

وانطلقت بالسيارة إلى صالة الحفل، تَتَرَغْرَغُ الدموع بالعينين، لكنها تأبى السقوط، تأبى أن تهمي، تبقى معلقة على اتساع العينين، وعلى الكرسي الخلفي، العروس تهمس في أذن العريس، والعريس يهمس في أذنها، وزوجتي تجلس بجانبي، وهي تصارع الفرح والحزن.

استقبلت السيارة، بالحفاوة والزغاريد، أوصلتها وإخوتها إلى سدة اللوج، فبدت وهي تتوسط الكرسي، بحلتها البيضاء، كملاك يرفرف بأجنحته على كون مغمور بالسعادة والفرح، كانت بسمتها ضياءً سحريا، يقتحم أعماقي المهتزة، فيحولها إلى بسمات فياضة بأب يزف ابنته إلى بيت جديد، لينشق، بعد أشهر، عن أطفال يحملون ملامح جدهم الرابض على نار الانتظار، انتظار امتداده في جيل جديد.

30- 06- 2006 "الحادية عشر ليلا"

تحركتُ وزوجتي بسيارتنا، حملناهما، بأحضان القلب، إلى منزلهما، وعند الباب الخارجي، ضممتها، إلى صدري، قَبَّلْتُ جبهتَها، وقبْلَ أن تفيض الدموع، أدرت ظهري، وانطلقت، فانهال الدمع مطرا غزيرا، وقبل أن تغيب السيارة، أدرت رأسي، فوجدتها تنتظر غياب السيارة عن الشارع، وهي تودعني بنظرات الحب والرجاء.

31- 06- 2006

بقيت مستيقظا، وكأن بيني وبين النوم جفاءً وخصومةً، وما هي سوى لحظات، حتى رَنَّ جرس الهاتف، رفعت السماعة، جاءني صوت القلب منسابا أنشودة بَرْدِ سلام: "كيف حالك يابا"؟

أغلقت السماعة، وانطلقت نحو السرير، لأنام وأنا قرير العين، هادئ البال.

بارك الله فيك ولك يا ابنتي الغالية.

اليوم، واليوم فقط، عرفت كيف ينكسر حاجز الزمن.

***

"مُهْداة إلى ابنتي لينا"

مأمون أحمد مصطفى زيدان

فلسطين- مخيم طول كرم

كالعادةِ في ذاتِ مساءٍ

قدْ عُدْتُ لبيتي لأرتاحْ

لا شيءَ لديّ لأكلهُ

لا شيءَ بجيبى أحملهُ

إلّا المفتاحْ

فدخلتُ الغرفةَ مندفعاً

وضغطتُ على

زرِّ المصباحْ

فالكون تغير من حولي

وشعرتُ بشيءٍ يلْسعُني

مِثلَ الزُنْبورْ

شُلَّتْ أطرافي كاملةً

والظلمةُ عادتْ ثانيةً

وانْطَفَأَ النورْ

فظننتُ بأنّي في كهفٍ

سُكِنَ بأشباحْ

صرخاتٌ تعلو من حولي

وصليلُ سلاحْ

سَلّمْ

واسْتسلمْ ياهذا

فالقتلُ مُباحْ

لنْ تهربَ ابداً

لن تنجو

ما منْ أسبابْ

حاصرنا الحيَّ بأكلملهِ

أوْصَدْنا جميعَ الابوابْ

أخذوني من غيرِ

ملابسْ

كطعامٍ للبردِ القارسْ

يركلني الحارسُ

للحارسْ

فوصلتُ إلى رجلٍ

جالسْ

شرس وعقور

ناداني من خلفِ

منصةْ

ناداني

اسمعْ ياهذا

حقكَ مكفولٌ بالدستورْ

لكنَّ الدستورَ

مُعطلْ

ومِزاجي يعتبر

الفيصل

من بعد البحثِ

وبعد الدرسِ

وبعد سماعِ شهودِ الزورْ

قد بانَ بانّكَ متّهمٌ

وسنعلن حكمَكَ للجمهورْ

فصرختُ

بصوتٍ مرتفعٍ

مظلومٌ

أعطوني فرصةْ

لم افعلْ شيئاً ممنوعاً

ماالتهمةُ عندي

مالقصةْ

فأجابَ بضحكةِ منتصرٍ

قد تركتْ في صدري

غُصّةْ

التهمةُ واضحةٌ جداً

قدْ قُلتَ الشِعرَ

بلا رخصةْ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

سلام.. على حلم خانني

وانا في الطريق إليه

على حب.. أطلقني في فضاه

وعمدا.. أفلت أرجوحتي من يديه

بالأرض أرتطم....

كتلة هواجس.. ألملمني

على سرير الأرق.. أقلبني

حليب جزر.. يملأ جوارحي

زلال نأي.. يسمم أوردتي

*

حلق  الشوق بعيدا

عن شطآني

طارت خلفه البسمات

ساحبة -أحبك-

وظلت -أنا- وحدها

هائمة بين ذكريات

تنشرني شجى

في رحاب صمت

يضج به المكان

*

طائر الحسون

عند النافذة يطل نشوانا

حالت دونه القضبان

هو عارف بالنجوى

وما تحمل الروح من حنين

يمتد من عيوني

حتى اخر الشطان

*

سلاما ايها العصفور

سلاما ايها السجان

بلغ الحلم الآفل

ان  له في الروح بستان

وداعا.. يا شذا الريحان

قد تترفق الدنيا يوما

باحلامنا الثكلى

وقد القاك.. بغير مكان

***

مالكة حبرشيد - المغرب

حدّثنا ماجد بن وسام قال: نزلت في دائرة السور، في أرض قاع الهامور. لاستكمال المراجعات ولإتمام الجلسات، فقد غيّبني صاحب هذا الكلام، وانشغل عن قصتي بسرد الأوهام، وقد ضاع عافاه الله بالهيام، عندما صار قصخونًا للغرام. وإنّني لست بصدد ذكره وذكر مقاماته، ولست هنا لأذكّره بخيباته. فما فيه يكفيه، والله وحده القادر على أن يشفيه. وما هذا بحديث عن الأصلع التائه ولا عن همومه، وإنّما هو حديثي خططته بدمي، ورويته بفمي. ولم تكن كتابته في الحسبان، لأن صاحبنا اهتدى بأن لا يكتب في حزيران، ولكن ما جرى جرى وما صار صار، وها نحن نرويه في أواخر آيار. وقد دخلت مفتول العضلات واضح السمات، ناسيًا هموم ما فات، وما كانت لحظة إلا فات. غولٌ مفتول، ليس به طول، جسده مقوّسٌ كالهلال، ووجهه مدوّرٌ كالبرتقال، يمشي على عرج، ويخوض بانحنائته في اللجج، لا يفقه بالأمور، ولا يبالي بما يجري في دائرته ويدور، بجيبه ختم، وفي يده قلم، يوقّع به مستعجًلا بلا هدى، كالعاصي عندما يلاحقه الردى. وحوله تدور أشباه الجميلات وأبناء الأمهات. يطوفون في غرفته كالرقيق، حتّى توهّم أنّ مكتبه البيت العتيق. وقد كانت لي معه صولات وجولات، واتفاقات وخلافات، ولكنّ حقارته محت ما له من حسنات، فلمّا اهتديت إلى إدارته للإجارة، قابلت صنفًا من مطبّليه، وقد كانت خولة بنت وشاح الشهيرة بالبطّة منهم، قالت: يا ماجد العجل العجل، فلمديرنا أمراضٌ وعلل، قلت: عافاه الله من السقم، وأبعد عنه الوجع والألم، قالت: ألمه ألمي وسقمه سقمي فهلّا أثلجتنا بحلو كلامك، وألقيت علينا بعضًا من خواطرك وأوهامك، فهذا الوجه الحسن أولى بالغزل من غيره. قلت: عافانا الله من الغزل وشرّه، وأجارنا من وجهك وشرره. ومن تقلّبات ألوانه، ومن غموضه وبيانه، وأعاذنا من أنفكِ، من تعرجاته وتقوسّاته، ومن انحشاره في ما لا دخل له به، اعلمي يا خولة إنّ الغزل لغير شريكة الحياة رخص فلا يعوّل عليه. ولمّا استدارت خولة وذهبت مذعورة لمحني حكيم بن عاصم وقال حيّاك الله يا ماجد وأثلج قلبك المذعور الفاقد، هلّا رأفت بهذا المدير، فإنّه لرغباته أسير، وقد غلب على عقله سوء التقدير، وإنّه وإن كان بمقام أبيك، فتوسّل به لعلّه يستخطيك. فقلت: الشكوى لغير الله مذلّة، ومصيبتي معه لا تحتاج إلى أدلّة، فمزاجه متقلّب كالفصول، وطبعه على الدنائة مجبول. وأنت يا ابن عاصم ألم نربّك فينا وليدًا ولبثت في حمايتنا بضع سنين؟ فلمّا اشتد عودك وطال، وجرى في يديك مال، خفّ عقلك ومال، وذهب خيط الرجولة فيك وزال، وصرت منشغلًا بالقيل والقال. ولما اشتد بي الغضب جمعت الغول مع أتباعه المطبّلين، وانتقمت لما كان في يوم ثمانية وعشرين، وخطبت بالقوم بلسان عربي فصيح وقلت: لا تهرول لمن يشتري فيك ويبيع، ولا تكن للباطل عبده المطيع،

الطيبون باقون كملح الأرض، والأشواك زائلة، وحتّى حين جفافها لا ترتقي أن تكون حطبًا (لا تسمح لأودية الهموم والمطامع بأن تشتّت عليك قلبك، فليكن همّك واحدًا هذه قيمتك، والأرزاق على الله) ولا تسكت عن الحق وإن انغلب، ولا تصفّق للباطل وإن غلب، وكن خجولًا سوى في اثنتين الهوى والغضب.

فلما أتممت ما قلت جرّني المدير وقال: إخرس لعنك الله لقد فضحتنا. أنا صاحبك الذي فرقّتك عنه الأيام، أنا صاحب الطالع والأعجام، وأنا بائع الأكاذيب والأوهام، أنا شيخك المقدام علي بن أبي ناصر الرسّام.

قلت: ويحك هذا أنت يا خسيس، حسبتك قتلت شهيدًا في الأحداث، فأنت أحدوثة في كتب التاريخ والتراث. فقهقه واللعاب من فمه يسيل، وقال أجّل حديثنا في سيرتي فهو طويل، ولنا حديث في الليل. فتركته وأخذت إجازتي وخرجت.

***

أمين صباح كُبّة

- لنبدأ من البداية أو من ما بعد البداية بقليل.

يتمتم سعيد المعتوه / هكذا كان أهل المدينة ينادونه.. / وهو يحفر الأرض المتربة عند قدميه بغصن شجيرة رفيع، يشكّل في التراب، رموزاً ويمدّ خطوطاً متوازية ومتقاطعة بأشكال غريبة.. يبدو أنه التقط الغصن من الشارع في طريقه إلى مكانه المعتاد حيث يقضي الساعات الطوال، خاصة حين يكون الجو دافئا والشمس مشرقة، كما هذا الصباح من صباحات الربيع.

ـ البدايات ليست مهمّة حقا، كلها متشابهة، في زمان ما، ومكان ما، تشقّ سطح الوجود بذرة ما، وتنمو. الأمر غير مثير، حدث ملايين المرات ويحدث وسيحدث إلى أن ينقضي الوجود، الأهم هو الذي يأتي بعد ذلك.

يعتدل سعيد المعتوه في جلسته، يسند ظهره جيّدا للجدار. تسقط أشعة الشمس مباشرة على جسده النحيل، ووجهه المتغضّن. تبدو لحيته المهملة الشعثة كقطعة صوفٍ اجتثّت من ذقن معزاة.

كان على محيّاه ظلّ ابتسامة ساخرة.. تناقض لمحة الجدّية الممدّدة فوق جبهته.

ـ ركّز معي. لنفترض بأننا مثلا، أنت وأنا نقرأ رواية هذا الكائن الغريب الذي هو أنا. أليست الحياة رواية؟ أليس كل واحد منا رواية مصغّرة في رواية ضخمة هي الحياة؟ حسنا. لنفترض بأننا نقرّر إعادة كتابة روايتنا من جديد.. من نقطة فيها، من الصفحة الثلاثين مثلا أو الـخمسين. سنجعل لها نهاية مختلفة ومثيرة.. دعنا نعتبرها تسلية لي ولك، في هذه الصبيحة المشمسة المملّة.. لنقل أنها نوع من قتل الوقت، عوض الجلوس أمام التلفاز أو التسكّع في ممرات المدينة أو التفكير في أمور لا جدوى من التفكير فيها مثل: ماهية الحياة وحقيقة الموت. ألست مثلي تفكر أحيانا في جدلية الوجود والفناء؟

ـ أنا أفكر فيما تفكر فيه أنت.. ألستُ ظلّك؟

ـ نعم.. ظلّي، ولكني رجلٌ متفهّمٌ، واسع الرؤية.. يمكنك أن تتحرّر مني، وأن تفكّر كما تشاء وفيما تشاء..أمنحك حرية التفكير ولو أنّي لا أقدر أن أمنحك حرية الحركة.

ـ أخشى بأنني تعوّدت أن أكون ظلاّ، ولم تعد حريتي تعني لي الكثير خارج إطار حريّتك..ثم ما جدوى التفكير لمسمارٍ ثابتٍ في خشبة؟

ـ انس أنك ظلّي وشاركني الكتابة..لا يهم إن اختلفنا وأعدك.. جميع حقوقك ككاتب ستكون محفوظة وسيكون لك نصيبٌ من الجائزة.. اتّفقنا؟ اسمك أيضا سيظهر على الغلاف..تخيّل معي الغلاف الأنيق.. والكتابة بخط جميل كبير: رواية سعيد وظلّه.. أليس الأمر رائعا ومثيرا للحماس؟

ـ حسنا.. لنبدأ، لكنك سبق وأن قلت إنّ البدايات ليست مهمة بقدر النهايات.. هل معنى هذاإنّه يمكنني الحلم بنهاية مختلفة حتى ولو بدأتُ ظلا؟

ـ نعم.. سنكتب روايتنا دون اعتبار البدايات المألوفة، ولن نأخذ بالرأي القائل بضرورة تلاؤم البدايات مع النهايات.لا أذكر أين قرأت هذا. ذلك لا يحدث. هي لا تتلاءم دائما. هناك من يبدأ على اليابسة وينتهي في البحر، ومن يبدأ في القمة وينتهي في مستنقع، وهناك من يبدأ ولا ينتهي أو ينتهي قبل أن يبدأ !تعتقد بأنّي أهذي؟ لا عليك. ركّز معي..لنترك ما قبل البداية وما بعد النهاية للقرّاء.. لخيالهم لا يجب أن نفسّر كل شيء. على القرّاء أن يستعملوا مخيلاتهم وذكاءهم.

ـ قرّاء؟!

ـ طبعا.. سيكون لروايتنا قرّاء كثر، مميّزون، سيكونون من النخبة. سترشّح روايتنا لجوائز محلية وعالمية. و قد تفوز بالبوكر العربية، من يدري..

ـ بوكر؟؟

ـ نعم..

ـ تقصد " أبو كَرْ "؟

ـ لا.. لا.. بوكر.. بووووكر.. مسابقة عربية ولكنها ليست عربية.. لها قائمة قصيرة وأخرى طويلة.

ـ عربية وليست عربية، طويلة وقصيرة؟! بصراحة لا أفهمك.. لمَ لا تذهب وتجلس في الظل، يبدو أنّ الشمس أتلفت عصباً في دماغك.

ـ لو جلستُ في الظلّ سأكون بمفردي وتهرب أنت منّي كما كلّ مرّة..لماذا لا نكون معا دائما في الشمس وفي الظل؟ دعك من هذا.. أنا أصرّ بأن تشاركني كتابة هذه الرواية.. سيكون لها شأن كبير.. ولكن يشغلني أمر مهم.. هل ننهي روايتنا بموت البطل؟

ـ الذي هو أنت يا سعيد؟

ـ نعم.. ألا تراها فكرة جيّدة؟

ـ لا أعتقد.. سيصاب القراء بخيبة أمل.. الأبطال لا يجب أن يموتوا.. عليهم أن يبقوا أحياء لكي ينقذوا العالم من الخراب والشّرور.. سمعتك تقول هذا ذات يوم.

ـ غيّرتُ رأيي.. بالعكس.. لا يموت سوى الأبطال في عالم الجبناء.. لذلك الشرور لا تنتهي.. لا تتغابى يا هذا!.

ـ هناك مشكلة.. لو قتلتَ البطل، أقصد قتلتَ نفسك؛ فسأموت أنا أيضا، ولن أحقّق حلمي بأن أتحوّل من ظلّ إلى إنسان، كما فعل ظل هانز اندرسون.

ـ اصمت.. لا تذكّرني بذلك الظل من فضلك، ولا تقارن نفسك به.. أنت تعلم إنه تسبّب في موت صاحبه بعد أن أخذ مكانه.. أنت لن تصبح أنا، لن تفعل بي ذلك صحيح؟ وأنا لن أكون أنت.. ثم.. ثم.. أتوقّع بأنّك ستعيش بعدي لسنوات عديدة، وستحقق حلمك. الآن.. ركّز معي لنكتب الرواية. أين أنت؟ هل غادرت؟

كانت غيوم خفيفة بلون رمادي فاتح قد غطّت السماء فجأة.

و بدأ يتساقط المطر.. مطرٌ ربيعيٌ منعش.

يهرول سعيد المعتوه جيئة وذهابا وهو يتمتم:

ـ لم ننه روايتنا بعد.. بل لم نبدأها.. أين أنت؟ أين أنت؟

ومن طيات قميصه الرثّ انفلتت ورقة جريدة صفراء تكفّلت نسمة الربيع بحملها إلى كومة نفايات مركونة في إحدى الزوايا..

على الورقة التي بدأ البلل يفسّخ حروفها عنوانٌ بخط عريض:

" عبقري الفيزياء ؛ سعيد أحمد الناجي..من الذرّة إلى الإبداع الأدبي."

***

آسيا رحاحلية

من مجموعة تدق الساعة تمام الغياب 2016

أربع دقّاتٍ لا غير على حافة  قدر الرز بالملعقة، لم تزدها يوما، ولم تنقصها. الدقتان في البداية مرتفعتان بنغمة معينة، والثانيتان أقل ارتفاعا وبنغمة أخرى. هكذا اعتادت(سعاد) إيقاظي، وتنبيهي للإفطار.

من مكان وقوفها في المطبخ تصلني النغمة  إلى سريري في غرفة نومنا القريبة. أنا زوجها الذي اقترنت بها قبل شهر رمضان بأسبوع واحد فقط. فعلتُ ذلك بكتمان شديد وحرص على أن لا يعرف أحدا، لاسيما زوجتي الأولى وأبنائي الثلاث.

فاجأتني سهولة الأمر. حتى إني في لحظة ما لمتُ نفسي كثيرا كيف لم أتزوج، منذ ذلك الوقت الذى كففنا فيه أنا وزوجتي عن الضحك وتبادل الأحاديث، والتحايا في الصباح والمساء.

تلك الدقات أشبه بمعزوفة قصيرة. أهرع على أثرها من فراشي متلهفا لسكب الماء على وجهي، ثم التوجه للمطبخ. تغمرني بهجة كنت قد افتقدتها وأنا أشاهدها بثوبها الأنيق ذي الفتحة الواسعة من الظهر، وشعرها الفاحم المرفوع، وعنقها الرقيق، الذي تزينه قلادة ذهبية ناعمة اشتريتها لها مع بعض الحليّ بداية الزواج.

بمرح بالغ، أساعدها في وضع آخر اللمسات، على صحن السلطة، وصحن الفواكه التي تقوم بتقطيعها بشكلٍ فنيٍ حاذق، فيبدو الصحن كأنه لوحة مرسومة. تطلب مني وضع مكعبات الثلج في الأقداح، استعدادا لملئها باللبن والعصير. ثم بابتسامة كبيرة تناولني علبة السمسم وتخبرني أن أرش شيئا منها على التمر الذي قامت بترتيبه في طبق صغير.

‏نمارس يوميا كل تلك الطقوس، كما لو أننا معزولان عن العالم، حتى إني نسيت الإتصال بزوجتي التي قلت لها أني مضطر للسفر في عملٍ خارج البلاد. وكنت أتلقى اتصالاتها مساء، فأعتذر منها بطريقة ما. لم تعاتبني مرة، ربما وجدت في سفري فرصة أكبر لممارسة عبادتها، فهي امرأة متدينة تُكثِر من الصلاة والصيام والإستغفار. كلّما اتصلت بي، سارعت إلى طمأنتي أنها دعت الله لي بالمغفرة والرحمة.

‏بعد الإفطار آخذ بكف زوجتي التي تصغرني بخمسة عشر عاما بالتمام، حيث بلغتُ أنا الستين قبل زواجنا بيومين في حين أتمت هي الخامسة والأربعين في ذات الوقت، لكنها كانت تبدو في الثلاثين، بسبب بشرتها الصافية، وملامحها المنمنمة، وطولها المتوسط.

كنا نسير على غير هدىً، في شوارع لا نعرف لها أسماء.  أطلب منها أن تغني لي، حيث يأتيني صوتها ذي الطبقة المنخفضة، ناعما رخيما مشوبا بحزن شفيف، يدقّ على جدران قلبي، فيوقظ كل ما كان راكدا ومهملا من سنوات، فينبثق بداخلي خوف مجهول، كأنه صوت زوجتي التي تمقتُ الغناء، وتلومني على سماعه، ممّا جعلني أتجنب تشغيل الأغاني في المنزل لسنوات. أكاد أشعر بظل خفي من التأنيب ممتزجا بفرح طفولي غير مألوف.

لم يبق على نهاية إجازتي سوى بضعة أيام. سأعود ليلة العيد، إلى بيتي. سيصاحب ذلك صخب التهاني، والتحايا المملة، والقبلات الباردة من الأهل والأصدقاء، والحلويات ذات المذاقات الباهتة، وأفواج الضيوف، وضوضاء الأحفاد.

‏لن تكون سعاد هنا إلى جانبي، بضحكاتها الصغيرة، وهدوئها الحاني، وحركتها وهي تشبه فراشة من فراشات الربيع في أركان المنزل. لن يكون هنالك منزل من الأساس. كان يتوجبُ علينا ترك المنزل، ثم أخذها إلى بيت شقيقها حيث تقيم. كنا نعرف أن علينا الإنتظار وقتا آخر قبل أن نلتقي من جديد.

قبل أن تنزل من السيارة، قربت فمها من وجهي، وتركت قبلة لن أنساها، وهي تكابد دمعة لا تخفى عليّ.

‏إنها حركة العيد كما خطرتْ في ذهني، حتى طعم كعك التمر وجوز الهند، لم يكن مختلفا عن كلّ عيد آخر. لكن قلبي كان مثقلا بالأسى والحنين.

‏في تلك الليلة بدت زوجتي مستغرقة في نومها. ظهر عليها جليا إحساس الأمان. فقد مارست طقوسها التي تجنبها الخوف من عذاب جهنم الذي يؤرقها في كلّ حين. شاهدتها توغل في تقليب حبات المسبحة وهي تتمتم بالأذكار المحببة لديها، ثم تمعن في قراءة أدعيتها. ثم عندما تمددت على السرير بان الرضا على قسمات وجهها الآخذ بالذبول.

‏فكرت أن امرأة بهذه السكينة لن يزعجها خبر زواجي. قررتُ أن أصارحها، وأنا أستشعر ألما ما في صدري. في الحقيقة خفت أن أموت هنا بكلّ هذا البرود.

‏أنا لستُ في مأمن من سكتات القلب، فهذه الأوعية الدموية لم تعد تحتمل ضخ هذا الدم.

‏كنت أراقب تنفسها المنتظم، وأنا أرسم حواري معها. سأقول لها أنها ستظل حبيبتي الأولى. ربما قبل أعوام كانت لتجن، وتذكرني أن ثروتي لم تكن لولاها. وسوف تصرخ، وربما تكسر أثاث المنزل، هكذا تقذف بالكراسي في كلّ اتجاه، فتتهاوى الأشياء، كما يتهاوى قلبي الآن.

‏لطالما كانت تنسى فضائل الصبر التي تقرأ عنها في كتب الدين، عندما كنا نختلف، فتغدو امرأة أخرى. لكنها الآن أكثر سكينة.. أكثر دعة. وأنا أكثر وحدة وحزنا..حسنا لم يبق على موعد استيقاظها سوى ساعة أو ساعتين، حينها سوف أصارحها بكلّ شيء، وسنتكلم كما لو لم نتكلم من قبل. سأكون رفيقا بها كثيرا وأنا أخبرها عن حبيبتي سعاد.

***

تماضر كريم – العراق

الجزء (5) من: مناوشات عاطفية

الثلاثاء الساعة الواحدة فجراً استيقظت على إشعار البلاك بيري بصعوبة فتحت عيني لأرى من المرسل وجدت رسالة من صديقتي "تعالي بكرة الجامعة اركبي باص الساعة ٦:٣٠ وهاتي معاك عبايتين وحدة كشخة ووحدة معفنة" اختتمت الرسالة المبهمة بغمزة لم أفهم ماذا تنوي إليه ولماذا تريد مني الحضور وهي تعلم أن يوم الأربعاء هو يوم إجازتي الخاصة فقد تحملت حشر المواد والمحاضرات ببعضها حتى أحظى بنهاية أسبوع مطولة، عاودت النوم ثم نهضت الساعة الخامسة جهزت نفسي للخروج ووضعت العباية الفاخرة في الحقيبة كما طلبت مني، اتصلت بسائق الباص لأخبره أن يمر علي والذي أخذ يستجوبني حول أسباب التغيير المفاجيء في جدولي ولماذا لم أخبره منذ الليلة الماضية وكلما أجبته يتثائب ويطلب مني الإعادة ثم قال: "اليوم مفروض إني إجازة والمسؤول عن الرحلات هو وقاص وأعرف انه يكرهك لكن راح أداوم عشان خاطرك "

ركبت الباص في المقعد الأمامي خلف السائق والذي كان يفصلنا عنه ستائر رمادية سميكة مد يده وناولني سي دي لتشغيله على الشاشة الصغيرة، أطفأ التكييف للحظات حتى يصل صوته للجميع وقال:"عادي نشغل أغاني يا بنات؟" لم ينتظر الرد وقال لي شغليه لسبب غامض كان هذا الشخص يتعامل معي وكأني المتحدث الرسمي بإسمه، يستقبلني عند بداية موقف الباصات ويزفني مشياً حتى نصل للباص الأخير والذي أشعر أنه يتعمد إيقافه في هذا المكان يعرض علي كل مرة حمل حقيبتي وأرفض وأتحمل تعليقات البنات ومزحاتهن البغيضة !كان السي دي عبارة عن مجموعة من فيديوكليب نانسي عجرم وإليسا وأنغام وفضل شاكر وكان هو الوحيد الطربان عليها في هذا الصباح، شركة نقل الطالبات هذه كانت الوحيدة التي توفر خدمات جيده للطالبات منها توفير عصائر ومياه باردة لكل رحلة ووجبات خفيفة ووجبة بيتزا أو برجر مره واحده في الأسبوع بالإضافة إلى تشغيل الأغاني أو مسلسل أو فيلم من إختيار البنات، كثيراً ماكنت أتفاخر بمظاهر الترف عند صديقاتي وبخدمات شركتنا.

وصلت الجامعة بعد رحلة ساعة صعدت الطابق الثاني وتوجهت لنقطة تجمعنا "الفرشة" استقبلتني صديقتي مرتسمه على وجهها ضحكة غريبة سحبتني من يدي لأجلس كان في منتصف الفرشة جبل صغير من الماكياج وأقلام الحمرة المتناثرة بكل مكان وثمانية بنات يضعن مكياج على عجل كمن يستعد للخروج من منزله قبل مصيبة أو مداهمة قادمة لا محالة تمسك إحداهن بالمرآه تضع كحلاً لتسحبه أخرى من يدها تلفت عليها لتلطشها وتطلق الأخرى ضحكة نجحن بقية الشلة بإيقافها قبل أن نسحب جميعنا لمكتب شؤون الطالبات

فتحت صديقتي حقيبتي وأخرجت شنطة الماكياج ونثرتها فوق تلك الفوضى لم أرتاح للموقف لأنه يخالف قواعد النظافة والاتيكيت الخاصة بي والتي على مايبدو أني سأنساها مع تلك الشلة كنت قد اشتريت قلم حمرة وملمع شفاه جديد لفت نظر الجميع واقتتلن عليه جميعهن ثم بعد هذه المناوشات انتهينا أخيراً وخرجنا بنفس لون الحمرة نفس الملمع نفس رائحة العطر، كل ذلك وأنا لم أعلم إلى أين نتجه ولم كل ذلك؟ همست لي إحداهن في أذني:"خارجين كافيه شششش لاتقولي لأحد" نظرت إليها بحالة ذهول وهي ممسكة المسبحة بيدها وتستغفر .

قالت صديقتي: "لابد أن نفترق وكل إثنتين منا يخرجوا من بوابة ويركبوا تاكسي لاتنسو تغطوا وجوهكم وخذو العبايات الحلوة بالشنطة نلبسها بالكافيه" ضحكت ثم أضافت "حاولوا تكون أشكالكم تسد النفس وماتلفت نظر اي عفريت"

سألت أنا بكل عفوية لماذا علينا أن نقوم بكل هذه الإحترازات؟

قالت: "مجنونة انتِ؟ الهيئة لو مسكونا في الكافيه ياخذونا القسم وكل بنت يجي ابوها يستلمها بالإضافة الى ان إسمك راح يشرف في اللائحة السوداء في شؤون الطالبات"

شعرت بكمية رعب غير عادية لكن مسألة التراجع خاصة بعد التقسيمات العسكرية التي رتبنها البنات كانت شبه مستحيلة، خرجنا من البوابة بسلام وركبنا تاكسي وأوصلنا إلى الكافيه وهناك بدأ الرعب الحقيقي

يتبع

***

لمى ابوالنجا – السعودية

في نصوص اليوم